الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكما قال- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ «1» .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لاستحالته، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم، وأنهم ما جاءوا قط بعبادة الأوثان، وإنما جاءوا بالأمر بعبادة الله- تعالى- وحده..
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الله له الأنبياء، في ليلة الإسراء في بيت المقدس، فصلى بهم إماما، وقيل له سلهم: فلم يتشكك ولم يسأل.
وقيل معناه، سل أمم من أرسلنا من قبلك، وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل فإذا سألهم فكأنما سأل- رسلهم- فالكلام على حذف مضاف «2» .
فالآية الكريمة تقرر على كل الوجوه بأبلغ أسلوب، أن جميع الرسل قد جاءوا بعقيدة واحدة، وبدين واحد، هو عبادة الله- تعالى- ونبذ كل معبود سواه.
ثم تمضى السورة الكريمة في تسليتها للرسول صلى الله عليه وسلم وفي تثبيتها للمؤمنين، فتذكر جانبا من قصة موسى- عليه السلام مع فرعون، وكيف أن فرعون سخر من دعوة موسى- عليه السلام وتباهي على قومه بذلك، وكيف أنه استخف بهم فأطاعوه، فكانت عاقبته وعاقبتهم أن أغرقهم الله جميعا. قال- تعالى-:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
(1) سورة الأنبياء الآية 25. [.....]
(2)
تفسير الكشاف ج 4 ص 254.
وقصة موسى- عليه السلام مع فرعون ومع بنى إسرائيل، على رأس القصص التي تكرر الحديث عنها في القرآن الكريم، في سور متعددة، وذلك لما فيها من مساجلات ومحاورات بين أهل الحق وأهل الباطل، ولما فيها من عبر وعظات لقوم يعقلون.
لقد وردت هذه القصة في سور: البقرة، والأعراف، ويونس، وهود، والإسراء، وطه، والقصص، والصافات، وغافر.. ولكن بأساليب متنوعة يكمل بعضها بعضا.
وهنا تبدأ هذه القصة بقوله- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ، فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ.
أى: والله لقد أرسلنا نبينا موسى- عليه السلام بِآياتِنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، والتي على رأسها اليد والعصا.. وأرسلناه بهذه الآيات إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أى:
أشراف قومه فقال لهم ناصحا ومرشدا: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ إليكم، لآمركم بعبادة الله- تعالى-: وحده، وأنهاكم عن عبادة غيره.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أى: فحين جاء موسى- عليه السلام-
إلى فرعون وملئه بآياتنا الدالة على قدرتنا، سارعوا إلى الضحك منها، والسخرية بها، بدون تأمل أو تدبر، شأن المغرورين الجهلاء.
فقوله- تعالى-: إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ جواب فَلَمَّا والتعبير يشير إلى مسارعتهم إلى السخرية والاستخفاف بالآيات التي جاء بها موسى- عليه السلام، مع أن هذه الآيات كانت تقتضي منهم التدبر والتفكر لو كانوا يعقلون.
وقوله- سبحانه-: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها
…
بيان لقسوة قلوبهم، وعدم تأثرها بالآيات والمعجزات.
أى: وما نريهم من آية دالة على صدق نبينا موسى، إلا وتكون هذه الآية أكبر من أختها السابقة عليها، في الدلالة على ذلك، مع كون الآية السابقة عظيمة وكبيرة في ذاتها.
والمقصود بالجملة الكريمة، بيان أن هؤلاء القوم لم يأتهم موسى- عليه السلام بآية واحدة تشهد بصدقه فيما جاءهم به من عند ربه، وإنما أتاهم بمعجزات متعددة، وكل معجزة أدل على صدقه مما قبلها.
ويصح أن يكون المراد وصف الجميع بالكبر، على معنى أن كل واحدة لكمالها في ذاتها، إذا نظر إليها الناظر، ظنها أكبر من البواقي لاستقلالها بإفادة الغرض الذي جاءت من أجله.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: والغرض بهذا الكلام، أنهن موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل. وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير، أن تختلف آراء الناس في تفضيلها، فيفضل بعضهم هذا، وبعضهم ذاك، فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها، فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك، ومنه بيت الحماسة:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسرى بها السارى «1» وقوله- تعالى-: وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بيان للمصير السيئ الذي آلوا إليه.
أى: وأخذناهم بسبب إصرارهم على الكفر والمعاصي، بالعذاب الدنيوي الشديد لكي يرجعوا عما هم عليه من كفر وفسوق، ولكنهم لم يرجعوا.
فالمراد بالعذاب هنا العذاب الدنيوي، الذي أشار إليه- سبحانه- بقوله:
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 255.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ، فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.. «1» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بعد أن نزل بهم العذاب، فقال: وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ.
وجمهور المفسرين على أن قولهم هذا، كان على سبيل التعظيم لموسى- عليه السلام لأنهم كانوا يوقرون السحرة، ويعتبرونهم العلماء.
قال ابن كثير: قوله يا أَيُّهَا السَّاحِرُ أى: العالم
…
وكان علماء زمانهم هم السحرة، ولم يكن السحر عندهم في زمانهم مذموما، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص، لأن الحال حال ضرورة منهم إليه، فهي تقتضي تعظيمهم لموسى- عليه السلام
…
«2» .
وما في قوله: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ مصدرية: أى: بعهده عندك، والمراد بهذا العهد: النبوة. وسميت عهدا، لأن الله- تعالى- عاهد نبيه أن يكرمه بها، أو لأن لها حقوقا تحفظ كما يحفظ العهد.
وقوله: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ مرتب على كلام محذوف.
أى: وحين أخذنا فرعون وقومه بالعذاب، قالوا لموسى- على سبيل التذلل والتعظيم من شأنه- يا أيها الساحر الذي غلبنا بسحره وعلمه، ادع لنا ربك بحق عهده إليك بالنبوة، لئن كشف عنا ربك هذا العذاب الذي نزل بنا إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أى إننا لمؤمنون ثابتون على ذلك، متبعون لك في كل ما تأمرنا به أو تنهانا عنه.
فدعا موسى- عليه السلام ربه أن يكشف عنهم العذاب، فأجاب الله دعوته بأن كشف عنهم، فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنهم نقضوا عهودهم، واستمروا على كفرهم، كما قال- تعالى-: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ أى: فحين كشفنا عنهم العذاب الذي حل بهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أى: إذا هم ينقضون عهدهم بالإيمان فلا يؤمنون. يقال: نكث فلان عهده ونقضه، إذا لم يف به.
ومن سوء أدبهم أنهم قالوا: ادع لنا ربك، فكأن الله- تعالى- رب موسى وحده، وليس ربا لهم.
وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى-: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا
(1) سورة الأعراف الآية 133.
(2)
تفسير ابن كثير ج 7 ص 207.
رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ «1» .
ثم حكى- سبحانه- جانبا من طغيان فرعون وفجوره، واستخفافه بعقول قومه فقال:
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ
…
أى: أن فرعون جمع زعماء قومه، وأخبرهم بما يريد أن يقول لهم.
أو أنه أمر مناديا ينادى في قومه جميعا، ليعلمهم بما يريد إعلامهم به، وأسند- سبحانه- النداء إلى فرعون، لأنه هو الآمر به.
والتعبير بقوله: فِي قَوْمِهِ يشعر بأن النداء قد وصل إليهم جميعا ودخل في قلوبهم.
وقوله- تعالى-: قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ
…
حكاية لما قاله فرعون لقومه.
أى: أن فرعون جمع عظماء قومه، وقال لهم- بعد أن خشي إيمانهم بموسى: يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ بحيث لا ينازعني في ذلك منازع، ولا يخالفني في ذلك مخالف، فالاستفهام للتقرير.
وفضلا عن ذلك فإن هذه الأنهار التي ترونها متفرعة من النيل تجرى تحت قدمي، أو من تحت قصرى.
أَفَلا تُبْصِرُونَ ذلك، وتستدلون به على قوة أمرى، وسعة ملكي، وعظم شأنى فمفعول تُبْصِرُونَ محذوف، أى: أفلا تبصرون عظمتي.
وأَمْ في قوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ هي المنقطعة المقدرة بمعنى بل التي هي للاضراب، والإشارة بهذا تعود لموسى- عليه السلام.
أى: بل أنا خير من هذا الذي هو فقير وليس صاحب ملك أو سطوة أو مال.. وفي الوقت نفسه لا يَكادُ يُبِينُ أى: لا يكاد يظهر كلامه لعقدة في لسانه.
ثم أضاف إلى ذلك قوله- كما حكى القرآن عنه: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ.
والأسورة: جمع سوار، وهو كناية عن تمليكه، وكانوا إذا ملكوا رجلا عليهم، جعلوا في يديه سوارين، وطوقوه بطوق من ذهب، علامة على أنه ملكهم.
(1) سورة الأعراف الآيتان 134، 135.
أى: فهلا لو كان موسى ملكا أو رسولا، أن يحلى نفسه بأساور من ذهب، أو جاء إلينا ومعه الملائكة محيطين به، ومتقارنين معه، لكي يعينوه ويشهدوا له بالنبوة.
ولا شك أن هذه الأقوال التي تفوه بها فرعون، تدل على شدة طغيانه، وعلى عظم غروره، وعلى استغلاله الضخم لغفلة قومه وسفاهتهم وضعفهم.
ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال ما ملخصه: وهذا الذي قاله فرعون- لعنه الله- كذب واختلاق، وإنما حملة على هذا الكفر والعناد، وهو ينظر إلى موسى- عليه السلام بعين كافرة شقية، وقد كان موسى من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوى الألباب.
وقوله: وَلا يَكادُ يُبِينُ افتراء- أيضا- فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة، فقد سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه، فاستجاب الله- تعالى- له وفرعون إنما أراد بهذا الكلام، أن يروج على رعيته، لأنهم كانوا جهلة أغبياء.. «1» .
وقوله- تعالى-: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ بيان لما كان عليه فرعون من لؤم وخداع، ولما كان عليه قومه من جبن وخروج على طاعة الله- تعالى-.
أى: وبعد أن قال فرعون لقومه ما قال من تطاول على موسى- عليه السلام طلب منهم الخفة والسرعة والمبادرة إلى الاستجابة لما قاله لهم، فأجابوه إلى طلبه منهم، لأنهم كانوا قوما خارجين على طاعتنا، مؤثرين الغي على الرشد، والضلالة على الهداية..
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبتهم فقال: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ.
وقوله: آسَفُونا أى: أغضبونا أشد الغضب، من أسف فلان أسفا، إذا اشتد غضبه وسَلَفاً أى: قدوة لمن بعدهم من الكفار في استحقاق مثل عقوبتهم. وهو مصدر وصف به على سبيل المبالغة، ولذا يطلق على القليل والكثير. يقال: سلفه الشيء سلفا، إذا تقدم ومضى. وفلان سلف له عمل صالح، أى: تقدم له عمل صالح ومنه: الأسلاف، أى:
المتقدمون على غيرهم.
أى: فلما أغضبنا فرعون وقومه أشد الغضب، بسبب إصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان، انتقمنا منهم انتقاما شديدا، حيث أغرقناهم أجمعين في اليم.
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 218.