الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وقوله: داحِضَةٌ من الدحض بمعنى الزلل والزوال. وأصله: الطين الذي لا تستقر عليه الأقدام. يقال: دحضت رجل فلان، إذا زلت وزلقت.
أى: والذين يخاصمون في الله. أى: في دينه وشريعته، مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أى:
من بعد أن استجاب العقلاء من الناس لهذا الدين الحق، واتبعوا رسوله.
حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى: حجة هؤلاء المجادلين بالباطل، زائلة وزاهقة وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ لا يقادر قدره من ربهم وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يوم القيامة.
ثم بين- سبحانه- حال الكافرين والمؤمنين بالنسبة ليوم القيامة، كما بين جانبا من فضله على عباده، ومن رحمته بهم، فقال- تعالى-:
[سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
والمراد بالكتاب في قوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ جنسه أى: جميع الكتب السماوية التي أنزلها على أنبيائه.
والمراد بالميزان: العدل والقسط الذي تضمنته شريعته- عز وجل، وأمر الناس بإقامته بينهم في أمور معاشهم.
وتسمية العدل بالميزان من باب تسمية الشيء باسم آلته، لأن الميزان آلة الإنصاف والقسط بين الناس في معاملاتهم.
قال- تعالى-: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ «1» .
وقال- سبحانه-: الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ. وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ.
أى: الله- تعالى- هو وحده الذي أنزل جميع الكتب السماوية لهداية الناس ومنفعتهم، وقد أنزلها- سبحانه- ملتبسة بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، وأنزل كذلك شريعته العادلة ليتحاكم إليها الناس في قضاياهم ومعاملاتهم.
وقوله- تعالى-: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ إرشاد إلى أن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله- تعالى-:.
أى: إن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله- تعالى- وحده، وأى شيء يجعلك عالما بوقتها إذا كان مرد علمها إلى الله وحده، ومع ذلك لعل وقت قيامها قريب.
وقال: قَرِيبٌ ولم يقل قريبة، لأن تأنيث الساعة غير حقيقى، أو لأن لفظ فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث، كما في قوله- تعالى-: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «2» .
وقوله- تعالى-: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها.. بيان لموقف الكافرين والمؤمنين من الساعة.
أى: يستعجل الكافرون قيام الساعة، استعجال استهزاء واستخفاف لجهلهم وانطماس بصائرهم، أما الذين آمنوا بالله واليوم الآخر. فهم خائفون مشفقون من قيامها، لما فيها من أهوال وحساب وثواب وعقاب، ولأنهم لا يدرون ما الذي سيفعله الله- تعالى- بهم.
فقوله- تعالى- مُشْفِقُونَ من الإشفاق، وهو عناية مشوبة بخوف، لأن المشفق
(1) سورة الحديد الآية 25.
(2)
سورة الأحزاب: الآية 63.
يحب المشفق عليه، ويخاف ما يلحقه. فإذا عدى بحرف «من» فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدى بحرف «في» فمعنى العناية فيه أظهر.
وقوله- سبحانه- وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ تأكيد لإيمان المؤمنين بها، ومدح لهم على هذا الإيمان.
أى: أن المؤمنين وجلون من الساعة لما فيها من حساب.. ومع ذلك فهم لصدق يقينهم يعتقدون أنها آتية لا ريب فيها، ويستعدون لاستقبالها بالإيمان العميق، وبالعمل الصالح الذي يرضى الله- تعالى-.
ثم وبخ- سبحانه- الذين يشكون في البعث والنشور فقال: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ.
وقوله: يُمارُونَ من المماراة بمعنى المجادلة والمخاصمة. يقال: مارى فلان في الشيء يمارى مراء ومماراة، إذا خاصم وجادل.
أى: ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة خصام شك وريبة، لفي ضلال بعيد عن الحق، وفي ذهول شديد عن الصواب، لأن قدرة الله- تعالى- لا يعجزها شيء، ولأن حكمته قد اقتضت أن يجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
ثم بين- سبحانه- أنه رءوف رحيم بعباده فقال: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أى: حفى بهم، عطوف عليهم، يفيض عليهم جميعا من صنوف بره ما لا تحصيه العقول، ومن مظاهر ذلك أنه لا يعاجلهم بالعقوبة، مع مجاهرتهم بمعصيته، وأنه يرزقهم جميعا مع أن أكثرهم لا يشكرونه على نعمه.
وقوله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أى: يبسط رزقه ويوسعه لمن يشاء من خلقه وَهُوَ سبحانه الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أى: وهو العظيم القوة الغالب على كل من سواه.
ثم حكى- تعالى- سنته التي لا تتخلف فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ.
والحرث في الأصل: مصدر بمعنى إلقاء البذور في الأرض، لتنبت ما ينفع الناس من زرع.
والمراد به ثمرات الأعمال ونتائجها، تشبيها لها بثمرات البذور.
والمعنى: من كان يريد من الناس بأعماله ثواب الآخرة، ورضا الله- تعالى- ضاعف الله- عز وجل له الأجر والثواب والعطاء.
وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا أى: ومن كان يريد بعمله شهوات الدنيا نؤته منها،