الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة من يسلك هذا الطريق القويم فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا
…
واسم الإشارة يعود إلى الإنسان باعتبار الجنس. أى: أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الجميلة، هم الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا من الأعمال الطيبة المتقبلة عندنا.. وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فلا نعاقبهم عليها، لكثرة توبتهم إلينا.. بل نجعلهم فِي عداد أَصْحابِ الْجَنَّةِ الخالدين فيها، والمتنعمين بخيراتها.
فالجار والمجرور في قوله أَصْحابِ الْجَنَّةِ في محل نصب على الحال، على سبيل التشريف والتكريم، كما تقول: أكرمنى الأمير في أصحابه، أى: حالة كوني معدودا من أصحابه.
وقوله- تعالى-: وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ تذييل مؤكد لما قبله. ولفظ وَعْدَ مصدر لفعل مقدر. أى: وعدهم الله- تعالى- وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به على ألسنة الرسل في الدنيا.
هذا، وقد ذكر بعض المفسرين أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، وقد استجاب الله دعاءه، فأسلم أبواه وأولاده جميعا.. «1» .
وبعد أن ساق- سبحانه- هذه الصورة الوضيئة لأصحاب الجنة، أتبع ذلك ببيان صورة سيئة لنوع آخر من الناس، فقال- تعالى-:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
(1) راجع تفسير القرطبي ج 16 ص 194.
والاسم الموصول في قوله- تعالى-: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما.. بمعنى الذين، وهو مبتدأ وخبره قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ.. وهذا صريح في أن المراد بقوله: وَالَّذِي العموم وليس الإفراد، وهذا يدل- أيضا- على فساد قول من قال إن الآية نزلت في شأن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق- رضى الله عنهما-، والصحيح أنها في حق كل كافر عاق لوالديه، منكر للبعث.
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: وهذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبى بكر، فقوله ضعيف، لأن عبد الرحمن أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه.
أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبى سفيان، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه.
فقال له عبد الرحمن بن أبى بكر شيئا.. فقال مروان: إن هذا الذي أنزل فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما
…
فقالت عائشة من وراء حجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري. وفي رواية للنسائى أنها قالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمى الذي نزلت فيه لسميته.. «1» .
ولفظ «أف» : اسم صوت ينبئ عن التضجر، أو اسم فعل مضارع هو أتضجر.
والمقصود به هنا: إظهار الملل والتأفف والكراهية لما يقوله أبواه من نصح له.
وقوله: أَتَعِدانِنِي فعل مضارع من وعد الماضي، وحذف واوه في المضارع مطرد.
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 266 والآلوسى ج 26 ص 20.
والنون الأولى نوع الرفع، والثانية نون الوقاية.
وقوله: أَنْ أُخْرَجَ: أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر هو المفعول الثاني لقوله:
أَتَعِدانِنِي. أى: والذي قال لوالديه- على سبيل الإنكار والإعراض عن نصحهما- أُفٍّ لَكُما أى: أقول بعدا وكرها لقولكما، أو إنى متضجر من قولكما.
أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أى: أتعداننى الخروج من قبري بعد أن أموت، لكي أبعث وأحاسب على عملي، والحال أنه قَدْ خَلَتِ أى: مضت الْقُرُونُ الكثيرة مِنْ قَبْلِي دون أن يخرج أحد منهم من قبره، ودون أن يرجع بعد أن مات.
فالآية الكريمة تصور بوضوح ما كان عليه هذا الإنسان، من سوء أدب مع أبويه، ومن إنكار صريح للبعث والحساب والجزاء.
ثم حكى- سبحانه- مارد به الأبوان فقال: وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ....
وقوله: يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أى: يلتمسان غوثه وعونه في هداية هذا الإنسان إلى الصراط المستقيم، والجملة في محل نصب على الحال.
ولفظ «ويلك» في الأصل، يقال في الدعاء على شخص بالهلاك والتهديد. والمراد به هنا:
حض المخاطب على الإيمان والطاعة لله رب العالمين.
أى: هذا هو حال الإنسان العاق الجاحد، أما حال أبواه، فإنهما يفزعان لما قاله وترتعش أفئدتهما لهذا التطاول والصدود عن الحق، فيلجئان إلى الله، ويلتمسان منه- سبحانه- الهداية لابنهما، ويحضان هذا الابن على الإيمان بوحدانية الله- تعالى-، وبالبعث والحساب والجزاء، فيقولان له: وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ولا خلف فيه، ولا راد له..
والمتأمل في هذه الجملة الكريمة يراها تصور لهفة الوالدين على إيمان ولدهما أكمل تصوير، فهما يلتمسان من الله له الهداية، ثم يهتفان بهذا الابن العاق بفزع أن يترك هذا الجحود، وأن يبادر إلى الإيمان بالحق..
ولكن الابن العاق يصر على كفره، ويلج في جحوده: فَيَقُولُ في الرد على أبويه ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. أى: ما هذا الذي تعدانني إياه من البعث والحساب والجزاء.. إلا أباطيل الأولين وخرافاتهم التي سطروها في كتبهم.
فالأساطير: جمع أسطورة، وهي ما سجله الأقدمون في كتبهم من خرافات وأكاذيب.
وقوله: أُولئِكَ.. اسم الإشارة هذا يعود إلى العاقين المكذبين بالبعث والجزاء المذكورين في قوله- تعالى- قبل ذلك: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما
…
أى: أولئك القائلون ذلك، هم الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أى: وجب عليهم العذاب الذي حكم به- سبحانه- على أمثالهم في قوله- تعالى- لإبليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ كما يفيده قوله- سبحانه- بعد ذلك. فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. أى: أولئك الذين وجب عليهم العذاب، حالة كونهم مندرجين في أمم قد مضت من قبلهم من طائفة الجن ومن طائفة الإنس إِنَّهُمْ جميعا كانُوا خاسِرِينَ لأنهم استحبوا الكفر على الإيمان.
ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر عدالته في حكمه بين عباده فقال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا. وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
والتنوين في قوله وَلِكُلٍّ عوض عن المضاف إليه المحذوف، والجار والجرور في قوله مِمَّا عَمِلُوا صفة لقوله دَرَجاتٌ، ومن بيانية، وما موصولة.
وقوله: وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ علة لمحذوف.. والمعنى: ولكل فريق من الفريقين: فريق المؤمنين المعبر عنهم بقوله: - تعالى-: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا
…
وفريق الكافرين المعبر عنهم بقوله- تعالى-: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ
…
لكل فريق من هؤلاء وهؤلاء دَرَجاتٌ حاصلة من الذي عملوه من الخير والشر، وقد فعل- سبحانه- ذلك معهم، ليوفيهم جزاء أعمالهم.
وَهُمْ جميعا لا يُظْلَمُونَ شيئا، بل كل فريق منهم يجازى على حسب عمله. كما قال- تعالى-: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
ثم بين- سبحانه- ما سيكون عليه الكافرون يوم القيامة من حال سيئة فقال: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا
…
والظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر. وقوله يُعْرَضُ من العرض بمعنى الوقوف على الشيء، وتلقى ما يترتب على هذا الوقوف على هذا الشيء من خير أو شر.
والمراد بالعرض على النار هنا: مباشرة عذابها، وإلقائهم فيها، ويشهد لهذا قوله- تعالى- بعد ذلك وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ، قالُوا: بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
قال الآلوسى: قوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ. أى: يعذبون بها، من قولهم: عرض بنو فلان على السيف، إذا قتلوا به، وهو مجاز شائع.. «1» .
وقوله: أَذْهَبْتُمْ.. إلخ مقول لقول محذوف. وهذا اللفظ قرأه ابن كثير وابن عامر أأذهبتم بهمزتين على الاستفهام الذي هو للتقريع والتوبيخ، وقرأه الجمهور أَذْهَبْتُمْ بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام.
أى: واذكر- أيها العاقل- لتعتبر وتتعظ، يوم يقف الذين كفروا على النار، فيرون سعيرها ثم يلقون فيها، ويقال لهم- على سبيل الزجر والتأنيب- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا أى: ضيعتم وأتلفتم الطيبات التي أنعم الله بها عليكم في حياتكم الدنيا، حيث اسْتَمْتَعْتُمْ بِها استمتاعا دنيويا دون أن تدخروا للآخرة منها شيئا..
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أى: تجزون عذاب الهون والخزي والذل.
بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أى: بسبب استكباركم في الأرض بغير الحق..
وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أى: وبسبب خروجكم في الدنيا عن طاعة الله- تعالى-، وعن هدى أنبيائه.
وقيد- سبحانه- استكبارهم في الأرض بكونه بغير الحق، ليسجل عليهم هذه الرذيلة، وليبين أنهم قوم دينهم التكبر والغرور وإيثار اتباع الباطل على الحق.
قال الجمل: والحاصل أنه- تعالى- علل ذلك العذاب بأمرين:
أحدهما: الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب.
والثاني: الفسق وهو ذنب الجوارح، وقدم الأول على الثاني، لأن أحوال القلب أعظم وقعا من أعمال الجوارح «2» .
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن مصارع الغابرين الذين كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من مشركي قريش، لكي يعتبروا بهم، ويقلعوا عن كفرهم، حتى لا يكون مصيرهم كمصير من سبقوهم في الكفر والطغيان، فقال- سبحانه-:
(1) تفسير الآلوسى ج 26 ص 22.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 132.