الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 7]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
افتتحت سورة «الفتح» بهذه البشارات السامية، والمدائح العالية للنبي صلى الله عليه وسلم افتتحت بقوله- تعالى-: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
والفتح في الأصل: إزالة الأغلاق عن الشيء.. وفتح البلد: المقصود به الظفر به، ووقوعه تحت سيطرة الفاتح.
والذي عليه المحققون من العلماء أن المراد بالفتح هنا: صلح الحديبية وما ترتب عليه من خيرات كثيرة، ومنافع جمة للمسلمين.
ويشهد لذلك أحاديث متعددة منها: ما أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود قال: أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد خرج إليها صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين هلال ذي القعدة، فأقام بها بضعة عشر يوما، ثم قفل راجعا إلى المدينة، فبينما نحن نسير إلى المدينة إذ أتاه الوحى- وكان إذا أتاه اشتد عليه- فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله، فأخبرنا أنه أنزل عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن مجمع بن جارية الأوسى قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند كراع الغميم- موضع بين مكة والمدينة- وقد جمع الناس وقرأ عليهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآيات.
فقال رجل: يا رسول الله، أو فتح هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أى والذي نفسي بيده إنه لفتح «1» .
ويرى بعضهم: أن المراد بالفتح هنا: فتح مكة، والتعبير عنه بالماضي في قوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لتحقق الوقوع، فهو من قبيل قوله- تعالى-: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
…
ويبدو لنا أن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية لوجود الآثار الصحيحة التي تشهد لذلك، ولأن هذا الصلح قد ترتب عليه من المنافع للدعوة الإسلامية ما يجعله من أعظم الفتوح، إن لم يكن أعظمها.
لقد ترتب عليه أن انتشر الأمان بين المسلمين والمشركين، فاستطاع المسلمون أن ينشروا دعوة الحق في مكة وفي غيرها، كما استطاعوا أن ينتقلوا من مكان إلى آخر للتبشير بدينهم، فترتب على ذلك أن دخل في الإسلام عدد كبير من الناس.
قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، وتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام.
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 207 وتفسير الآلوسى ج 26 ص 83.
قال ابن هشام: والدليل على صحة قول الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة من أصحابه ثم خرج إلى مكة في عام الفتح- بعد ذلك بسنتين- في عشرة آلاف من أصحابه.
وقد أكد- سبحانه- هذا الفتح بثلاثة أنواع من المؤكدات، وهي «إن» والمصدر «فتحا» والوصف «مبينا» وذلك للمسارعة إلى تبشير المؤمنين بتحقق هذا الفتح، ولإدخال السرور على قلوبهم، بعد تلك الشروط التي اشتمل عليها الصلح، والتي ظنها بعضهم أن فيها إجحافا بالمسلمين.
وأسند- سبحانه- الفعل إلى نون العظمة فَتَحْنا لتفخيم شأن المخبر- عز وجل وعلو شأن المخبر عنه وهو الفتح.
وقدم- سبحانه- الجار والمجرور لَكَ على المفعول المطلق فَتْحاً للاهتمام وللإشعار بأن ذلك الفتح كان من أجله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك ما فيه من تعظيم أمره صلى الله عليه وسلم ومن وجوب طاعته، والامتثال لأمره.
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك مظاهر فضله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً.
واللام في قوله لِيَغْفِرَ متعلقة بقوله: فَتَحْنا وهي للتعليل. والمراد بما تقدم من ذنبه صلى الله عليه وسلم ما كان قبل النبوة، وبما تأخر منه ما كان بعدها.
والمراد بالذنب هنا بالنسبة له صلى الله عليه وسلم ما كان خلاف الأولى، فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو المراد بالغفران: الحيلولة بينه وبين الذنوب كلها، فلا يصدر منه صلى الله عليه وسلم ذنب، لأن غفران الذنوب معناه: سترها وتغطيتها وإزالتها.
قال الشوكانى: وقوله- تعالى-: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ اللام: متعلقة بفتحنا وهي لام العلة، قال المبرد: هي لام كي ومعناها: إنا فتحنا لك فتحا مبينا- أى: ظاهرا واضحا مكشوفا- لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي.
وقال ابن عطية: المراد أن الله فتح لك لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك، فكأنها لام الصيرورة.. «1» .
(1) تفسير فتح القدير ج 5 ص 44 للشوكانى.
وقال بعض العلماء: وقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ هو كناية عن عدم المؤاخذة. أو المراد بالذنب ما فرط منه صلى الله عليه وسلم من خلاف الأولى بالنسبة لمقامه صلى الله عليه وسلم أو المراد بالغفران: الحيلولة بينه وبين الذنوب كلها، فلا يصدر منه ذنب. لأن الغفر هو الستر، والستر إما بين العبد والذنب، وهو اللائق بمقام النبوة، أو بين الذنب وعقوبته، وهو اللائق بغيره.
واللام في لِيَغْفِرَ للعلة الغائية. أى: أن مجموع المتعاطفات الأربعة غاية للفتح المبين، وسبب عنه لا كل واحد منها.
والمعنى: يسرنا لك هذا الفتح لإتمام النعمة عليك، وهدايتك إلى الصراط المستقيم، ولنصرك نصرا عزيزا.
ولما امتن الله عليه بهذه النعم، صدرها بما هو أعظم، وهو المغفرة الشاملة ليجمع له بين عزى الدنيا والآخرة. فليست المغفرة مسببة عن الفتح «1» .
ولقد كان صلى الله عليه وسلم مع هذه المغفرة من الله- تعالى- له، أعبد الناس لربه، وأشدهم خوفا منه، وأكثرهم صلة به.
قال ابن كثير: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى حتى ترم قدماه أى:
تتورم- فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» ..
وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه- أى: تتشقق- فقالت له عائشة: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟.
فقال: «يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا..» «2» .
وقوله- تعالى-: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ معطوف على ما قبله. أى: ويتم- سبحانه- نعمه عليك- أيها الرسول الكريم- بأن يظهر دعوتك، ويكتب لها النصر، والخلود، ويعطيك من الخصائص والمناقب ما لم يعطه لأحد من الأنبياء، فضلا عن غيرهم.
وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أى: ويهديك ويرشدك- سبحانه- بفضله وكرمه، إلى
(1) تفسير صفوة البيان ج 2 ص 333 لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.
(2)
تفسير ابن كثير ج 7 ص 309.
الطريق القويم، والدين الحق، والأقوال الطيبة، والأعمال الصالحة..
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ- تعالى- نَصْراً عَزِيزاً أى: نصرا قويا منيعا لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، لأنه من خالقك الذي لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه..
هذا، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة، يرى أن الله- تعالى- قد أكرم نبيه صلى الله عليه وسلم إكراما لا يدانيه إكرام، ومنحه من الخير والفضل ما لم يمنحه لأحد سواه.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين فقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ.. ..
والسكينة: من السكون، والمراد بها الثبات والطمأنينة التي أودعها- سبحانه- في قلوب المؤمنين، فترتب على ذلك أن أطاعوا الله ورسوله، بعد أن ظنوا أن في شروط صلح الحديبية ظلما لهم. وأن بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الموت بعد أن بلغهم أن عثمان- رضى الله عنه- قد قتله المشركون، وفي التعبير عن ذلك بالإنزال، إشعار بعلو شأنها، حتى لكأنها كانت مودعة في خزائن رحمة الله- تعالى-، ثم أنزلها بفضله في قلوبهم بعد ذلك..
أى: هو- سبحانه- بفضله ورحمته، الذي أنزل السكينة والطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين، فانشرحت صدورهم لهذا الصلح بعد أن ضاقت في أول الأمر.
وقوله: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ تعليل لهذا الإنزال للسكينة.
أى: أوجد السكينة وخلقها في قلوبهم، ليزدادوا يقينا على يقينهم، وتصديقا إلى تصديقهم وثباتا على ثباتهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وقوله- سبحانه-: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «1» .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها، أن الإيمان يزيد وينقص.
قال الآلوسى ما ملخصه: قال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.
واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل. أما العقل، فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسوق والمعاصي، مساويا لإيمان الأنبياء، واللازم باطل، فكذا الملزوم..
(1) سورة التوبة الآية 124.
وأما الثاني: فلكثرة النصوص في هذا المعنى، ومنها الآية التي معنا وأمثالها، ومنها وما روى عن ابن عمر قال: قلنا: يا رسول الله، إن الايمان يزيد وينقص، قال:«نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخله النار» .
وقال الإمام النووي وغيره: إن الايمان بمعنى التصديق القلبي، يزيد وينقص- أيضا بكثرة النظر، ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم.. «1» .
ثم بين- سبحانه- شمول ملكه وقدرته فقال: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. أى: ولله- تعالى- وحده جنود السموات والأرض من ملائكة وجن وإنس، إذ الكل تحت قهره وسلطانه، فهو- سبحانه- الذي يدبر أمرهم كيف شاء، ويدفع بعضهم ببعض كما تقتضي حكمته وإرادته، وهو- تعالى- العليم بكل شيء. الحكيم في جميع أفعاله
…
واللام في قوله- سبحانه-: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
…
متعلقة بمحذوف أو بقوله: فَتَحْنا..
أى: فعل- سبحانه- ما فعل من جعل جنود السموات والأرض تحت سيطرته وملكه، ومن دفع الناس بعضهم ببعض، ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار.
خالِدِينَ فِيها خلودا أبديا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي فعلوها في دنياهم، بأن يغفرها لهم، ويزيلها عنهم، بل ويحولها لمن شاء منهم بفضله وكرمه إلى حسنات.
وَكانَ ذلِكَ الإدخال للمؤمنين الجنة، وتكفير سيئاتهم..
عِنْدَ اللَّهِ- تعالى- فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره، لأنه نهاية آمال المؤمنين، وأقصى ما يتمناه العقلاء المخلصون.
وَيُعَذِّبَ- سبحانه- بعدله الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ، وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ....
أى: الظانين بالله- تعالى- وبرسوله وبالمؤمنين الظن السيئ بأن توهموا أن الدائرة ستدور على المؤمنين وأنهم هم الذين سينتصرون. أو أنهم هم على الحق. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه على الباطل.
فقوله: السَّوْءِ صفة لموصوف محذوف. أى: الظانين بالله ظن الأمر السوء.
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 26 ص 92. [.....]