المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ١٣

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثالث عشر]

- ‌تفسير سورة الشّورى

- ‌مقدّمة

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 12]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 16]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 24]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 25 الى 36]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 43]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 48]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 53]

- ‌تفسير سورة الزّخرف

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 25]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 66]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 80]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 89]

- ‌تفسير سورة الدّخان

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 8]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 9 الى 16]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 50]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]

- ‌تفسير سورة الجاثية

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 5]

- ‌[سورة الجاثية (45) : الآيات 6 الى 11]

- ‌[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15]

- ‌[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 20]

- ‌[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 الى 26]

- ‌[سورة الجاثية (45) : الآيات 27 الى 37]

- ‌تفسير سورة الأحقاف

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 10]

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 16]

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20]

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28]

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35]

- ‌تفسير سورة محمّد

- ‌مقدمة

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 7 الى 13]

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 14 الى 15]

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19]

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 24]

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 25 الى 31]

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 32 الى 38]

- ‌تفسير سورة الفتح

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 7]

- ‌[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 10]

- ‌[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 24]

- ‌[سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26]

- ‌[سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28]

- ‌[سورة الفتح (48) : آية 29]

- ‌تفسير سورة الحجرات

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5]

- ‌[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8]

- ‌[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]

- ‌[سورة الحجرات (49) : آية 11]

- ‌[سورة الحجرات (49) : آية 12]

- ‌[سورة الحجرات (49) : آية 13]

- ‌[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]

- ‌تفسير سورة ق

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 15]

- ‌[سورة ق (50) : الآيات 16 الى 22]

- ‌[سورة ق (50) : الآيات 23 الى 35]

- ‌[سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45]

- ‌فهرس المجلد الثالث عشر

الفصل: ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]

الوعد بالإيمان إذا انكشف عنهم العذاب، فلما انكشف عنهم، نقضوا عهودهم، واستمروا على كفرهم.

وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ «1» .

ثم هددهم- سبحانه- تهديدا ترتعد له القلوب فقال: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ.

وقوله يَوْمَ منصوب بفعل مقدر. وقوله نَبْطِشُ من البطش بمعنى الأخذ بقوة وعنف. يقال: بطش فلان بفلان يبطش به، إذا نكل به تنكيلا شديدا.

أى: اذكر- أيها العاقل- لتعتبر وتتعظ يوم أن نأخذ هؤلاء الكافرين أخذ عزيز مقتدر، حيث ننتقم انتقاما يذلهم ويخزيهم.

وهذا البطش الشديد منا لهم سيكون جزءا منه في الدنيا، كانتقامنا منهم يوم بدر وسيكون أشده وأعظمه وأدومه عليهم

يوم القيامة.

وبذلك نرى السورة الكريمة بعد أن مدحت القرآن الكريم مدحا عظيما، وبينت جانبا من مظاهر فضل الله- تعالى- على عباده، أخذت في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه، وهددت هؤلاء الأعداء بسوء المصير في الدنيا، وفي الآخرة.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة موسى- عليه السلام مع فرعون وملئه، وكيف أن الله- تعالى- أجاب دعاء نبيه موسى، فأهلك فرعون وقومه، ونجى موسى وبنى إسرائيل من شرورهم فقال- تعالى-:

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)

فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)

وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)

وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)

(1) سورة الزخرف الآية 49. 50.

ص: 122

واللام في قوله- تعالى-: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ.. موطئة للقسم. وقوله فَتَنَّا من الفتن بمعنى الاختبار والامتحان. يقال: فتنت الذهب بالنار، إذا أدخلته فيها لتعرف جودته من رداءته.

والمراد به هنا: إخبارهم وامتحانهم، بإرسال موسى- عليه السلام وبالتوسعة عليهم تارة، وبالتضييق عليهم تارة أخرى.

والمعنى: والله لقد اختبرنا فرعون وقومه من قبل أن نرسلك- أيها الرسول الكريم- إلى هؤلاء المشركين، وكان اختبارنا وامتحاننا لهم عن طريق إرسال نبينا موسى إليهم، وعن طريق ابتلائهم بالسراء والضراء لعلهم يرجعون إلى طاعتنا، ولكنهم لم يرجعوا فأهلكناهم.

فالآية الكريمة المقصود بها تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه، ببيان أن تكذيب الأقوام لرسلهم، حاصل من قبله، فعليه أن يتأسى بالرسل السابقين في صبرهم.

والمراد بالرسول الكريم في قوله: - تعالى-: وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ: موسى- عليه السلام، فقد أرسله- سبحانه- إلى فرعون وقومه، فبلغهم رسالة ربه، ولكنهم كذبوه وعصوه..

ووصف- سبحانه- نبيه موسى بالكرم، على سبيل التشريف له، والإعلاء من قدره، فقد كان- عليه السلام كليما لربه، ومطيعا لأمره، ومتحليا بأسمى الأخلاق وأفضلها.

ص: 123

وأَنْ في قوله- تعالى- أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ.. مفسرة لأن مجيء الرسول إليهم يتضمن معنى القول. وقوله: أَدُّوا إِلَيَّ بمعنى سلموا إلى، أو ضموا إلى

قوله: عِبادَ اللَّهِ مفعول به. والمراد بهم بنو إسرائيل.

والمعنى: جاء إلى فرعون وقومه رسول كريم، هو موسى- عليه السلام، فقال لهم:

سلموا إلى بنى إسرائيل، وأطلقوهم من الذل والهوان، واتركوهم يعيشون أحرارا في هذه الدنيا.

ويؤيد هذا المعنى قوله- تعالى- في موضع آخر: فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ.. «1» .

ويصح أن يكون المراد بقوله أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ.. بمعنى: أن استجيبوا لدعوتى، والمراد بالعباد: ما يشمل بنى إسرائيل وغيرهم، ويكون لفظ عِبادَ اللَّهِ منصوب بحرف نداء محذوف.

وعليه يكون المعنى: أرسلنا إلى فرعون وقومه رسولا كريما، فجاء إليهم وقال لهم على سبيل النصح والإرشاد: يا عباد الله، إنى رسول الله إليكم، فاستمعوا إلى قولي، واتبعوا ما أدعوكم إليه من عبادة الله- تعالى- وحده، وترك عبادة غيره.

قال الآلوسى: قوله: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ.. أى: أطلقوهم وسلموهم إلى، والمراد بهم بنو إسرائيل الذين كان فرعون يستعبدهم، والتعبير عنهم بعباد الله، للإشارة إلى أن استعباده إياهم ظلم منه لهم..

أو أدوا إلى حق الله- تعالى- من الإيمان وقبول الدعوة يا عباد الله، على أن مفعول أَدُّوا محذوف، وعباد منادى، وهو عام لبنى إسرائيل والقبط والأداء بمعنى الفعل للطاعة- وقبول الدعوة..» «2» .

وقوله- سبحانه-: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ تعليل لما تقدم. أى: استجيبوا لدعوتى، وأطيعوا أمرى، فإنى مرسل من الله- تعالى- إليكم، وأمين على الرسالة، لأنى لم أبدل شيئا مما كلفنى به ربي.

وقوله- سبحانه-: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ.. معطوف على قوله: أَنْ أَدُّوا..

وداخل في حيز القول.

(1) سورة طه الآية 47.

(2)

تفسير الآلوسى ج 25 ص 121.

ص: 124

أى: قال لهم: أرسلوا معى بنى إسرائيل، واستجيبوا لدعوتى، واحذروا أن تتجبروا أو تتكبروا على الله- تعالى-، بأن تستخفوا بوحيه أو تعرضوا عن رسوله

إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أى: إنى آتيكم من عنده- تعالى- بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها، وببرهان ساطع يشهد بصدقى وأمانتى..

وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أى: وإنى اعتصمت واستجرت بربي وربكم من أن ترجمونى بالحجارة، أو من أن تلحقوا بي ما يؤذيني، وهذا الاعتصام بالله- تعالى- يجعلني لا أبالى بكم، ولا أتراجع عن تبليغ دعوته- سبحانه- بحال من الأحوال.

وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أى: وقال لهم- أيضا- في ختام نصحه لهم: إنى لن أتراجع عن دعوتكم إلى الحق مهما وضعتم في طريقي من عقبات وعليكم أن تؤمنوا بي، فإن لم تؤمنوا بي. فكونوا بمعزل عنى بحيث تتركونى وشأنى حتى أبلغ رسالة ربي، فإنه لا موالاة ولا صلة بيني وبينكم، مادمتم مصرين على كفركم.

فأنت ترى أن موسى- عليه السلام قد طلب من فرعون وقومه الاستجابة لدعوته، ونهاهم عن التكبر والغرور، وبين لهم أنه رسول أمين على وحى الله- تعالى-، وأنه معتصم بربه من كيدهم، وأن عليهم إذا لم يؤمنوا به أن يتركوه وشأنه، لكي يبلغ رسالة ربه، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر.

ولكن الإرشادات الحكيمة من موسى لفرعون وقومه، لم تجد أذنا صاغية، فإن الطغيان في كل زمان ومكان، لا يعجبه منطق الحق والعدل والمسالمة، ولكن الذي يعجبه هو التكبر في الأرض بغير الحق، وإيثار الغي على الرشد..

ولذا نجد موسى- عليه السلام يلجأ إلى ربه يطلب منه العون والنصرة فيقول- كما حكى القرآن عنه-: فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ.

والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف، يفهم من السياق، والتقدير: وبعد أن أمر موسى فرعون وقومه بإخلاص العبادة لله- تعالى- ونهاهم عن الإشراك به.. بعد كل ذلك أصروا على تكذيبه، وأعرضوا عن دعوته، وآذوه بشتى ألوان الأذى فدعا ربه دعاء حارا قال فيه:

يا رب إن هؤلاء القوم- وهم فرعون وشيعته- قوم راسخون في الكفر والإجرام، فأنزل بهم عقابك الذي يستحقونه.

ثم حكت السورة الكريمة بعد ذلك ما يدل على أن الله- تعالى- قد أجاب دعاء موسى- عليه السلام، وأنه- سبحانه- قد أرشده إلى ما يفعله فقال: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ.

ص: 125

قال الجمل: «قوله: فَأَسْرِ قرأ الجمهور بقطع الهمزة وقرأ نافع وابن كثير بوصلها، وهما لغتان جيدتان: الأولى من أسريت والثانية من سريت. قال- تعالى- سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وقال: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ والإسراء السير ليلا، فذكر الليل- هنا- تأكيد له بغير اللفظ- إذ الإسراء والسرى: السير ليلا» «1» .

والكلام على تقدير القول، أى: فقال الله- تعالى- على سبيل التعليم والإرشاد: سر يا موسى ببني إسرائيل وبمن آمن معك من القبط من مصر، بقطع من الليل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ من جهة فرعون وملئه، متى علموا بخروجكم.

وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً

أى: ومتى وصلت إلى البحر- أى: البحر الأحمر- فاضربه بعصاك، ينفلق- بإذن الله- فسر فيه أنت ومن معك، واتركه ساكنا مفتوحا على حاله، فإذا ما سار خلفك فرعون وجنوده أغرقناهم فيه.

يقال: رها البحر يرهو، إذا سكن. وجاءت الخيل رهوا، أى: ساكنة، ويقال- أيضا-:

رها الرجل رهوا، إذا فتح بين رجليه وفرق بينهما، وهو حال من البحر.

قال الإمام الرازي: «وفي لفظ رَهْواً قولان:

أحدهما: أنه الساكن، يقال: عيش راه، إذا كان خافضا وادعا ساكنا

والثاني: أن الرهو هو الفرجة الواسعة، أى: ذا رهو، أى: ذا فرجة حتى يدخل فيها فرعون وقومه فيغرقوا.. وإنما أخبره- سبحانه- بذلك حتى يبقى فارغ القلب من شرهم وإيذائهم» «2» .

وقوله: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ تعليل للأمر بتركه رهوا، أى: اترك البحر على حاله، فإن أعداءك سيغرقون فيه إغراقا يدمرهم ويهلكهم.

ثم بين- سبحانه- سوء مآلهم فقال: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وكَمْ هنا خبرية للتكثير والتهويل، أى: ما أكثر ما ترك هؤلاء المغرقون خلفهم من بساتين ناضرة، وعيون يخرج منها الماء النمير..

وَزُرُوعٍ كثيرة متنوعة وَمَقامٍ كَرِيمٍ أى: ومحافل ومنازل كانت مزينة بألوان من الزينة والزخرفة..

وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أى: وتنعم وترفه كانوا فيه يتلذذون، بما بين أيديهم من رغد العيش. وكثرة الفاكهة..

(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 104.

(2)

تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 453.

ص: 126

والنعمة- بفتح النون- بمعنى التنعم والتلذذ، والنعمة- بالكسر- المنة والإنعام بالشيء وتطلق على الجنس الصادق بالقليل والكثير.

وقوله: كَذلِكَ في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، أى: الأمر كذلك.

قال الجمل ما ملخصه: «قوله: كَذلِكَ.. خبر مبتدأ محذوف. أى: الأمر كذلك.

فالوقف يكون على هذا اللفظ، وتكون الجملة اعتراضية لتقرير وتوكيد ما قبلها

ويبتدأ بقوله: وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ وهو معطوف على كَمْ تَرَكُوا.. أى: تركوا أمورا كثيرة وأورثناها قوما آخرين، وهم بنو إسرائيل» .

وقال الزمخشري: الكاف في محل نصب، على معنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم.

فعلى هذا يكون قوله وَأَوْرَثْناها معطوفا على تلك الجملة الناصبة للكاف، فلا يجوز الوقف على كَذلِكَ حينئذ «1» .

وقال الآلوسى: والمراد بالقوم الآخرين: بنو إسرائيل، وهم مغايرون للقبط جنسا ودينا. ويفسر ذلك قوله- تعالى- في سورة الشعراء: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وهو ظاهر في أن بنى إسرائيل رجعوا إلى مصر، بعد هلاك فرعون وملكوها.

وقيل: المراد بالقوم الآخرين غير بنى إسرائيل ممن ملك مصر بعد هلاك فرعون، لأنه لم يرد في مشهور التواريخ أن بنى إسرائيل رجعوا إلى مصر، ولا أنهم ملكوها قط.

وما في سورة الشعراء من باب قوله- تعالى-: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ أو من باب: عندي درهم ونصفه. فليس المراد خصوص ما تركوه، بل نوعه وما يشبهه.

وقيل: المراد من إيراثها إياهم: تمكينهم من التصرف فيها، ولا يتوقف ذلك على رجوعهم إلى مصر، كما كانوا فيها أولا «2» ..

والذي نراه- كما سبق أن قلنا عند تفسير سورة الشعراء «3» - أن الآية صريحة في توريث بنى إسرائيل للجنات والعيون.. التي خلفها فرعون وقومه بعد غرقهم، بمعنى أنهم عادوا إلى مصر بعد غرق فرعون ومن معه، ولكن عودتهم كانت لفترة معينة، خرجوا بعدها إلى الأرض المقدسة التي دعاهم موسى- عليه السلام لدخولها كما جاء في قوله- تعالى-: يا قَوْمِ

(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 105.

(2)

تفسير الآلوسى ج 25 ص 123.

(3)

راجع تفسيرنا لسورة الشعراء. ص 251- المجلد العاشر.

ص: 127

ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ

ثم بين- سبحانه- أن فرعون وقومه بعد أن غرقوا، لم يحزن لهلاكهم أحد، فقال:

فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ.

أى: أن هؤلاء المغرقين، الذين كانوا ملء السمع والبصر، وكانوا يذلون غيرهم، وكانوا يملكون الجنات والعيون

هؤلاء الطغاة، لم يحزن لهلاكهم أحد من أهل السموات أو أهل الأرض، ولم يؤخر عذابهم لوقت آخر في الدنيا أو في الآخرة، بل نزل بهم الغرق والدمار بدون تأخير أو تسويف..

فالمقصود من الآية الكريمة بيان هوان منزلة هؤلاء المغرقين، وتفاهة شأنهم، وعدم أسف أحد على غرقهم، لأنهم كانوا ممقوتين من كل عاقل..

قال صاحب الكشاف ما ملخصه: كان العرب إذا مات فيهم رجل خطير قالوا في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح، وأظلمت له الشمس..

قال جرير في رثاء عمر بن العزيز:

نعى النعاة أمير المؤمنين لنا

يا خير من حج بيت الله واعتمرا

حملت أمرا عظيما فاصطبرت له

وقمت فيه بأمر الله يا عمرا

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكى عليك نجوم الليل والقمرا

وقالت ليلى بنت طريف الخارجية، ترثى أخاها الوليد:

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وذلك على سبيل التمثيل والتخييل، مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه..

وفي الآية تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض. يعنى فما بكى عليهم أهل السماء والأرض، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.. «1» .

وقال الإمام أبن كثير: قوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ.. أى: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكى على فقدهم، ولا لهم بقاع في أرض عبدوا الله فيها ففقدتهم فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا..

ثم ساق- رحمه الله جملة من الأحاديث منها ما أخرجه ابن جرير عن شريح بن عبيد الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا، ألا

(1) تفسير الكشاف وحاشيته ج 4 ص 276.

ص: 128

لا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه. إلا بكت عليه السماء والأرض. ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية. ثم قال: إنهما لا يبكيان على كافر «1» .

ثم بين- سبحانه- جانبا من نعمه على بنى إسرائيل فقال: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ.

أى: والله لقد نجينا- بفضلنا ورحمتنا- بنى إسرائيل من العذاب المهين، الذي كان ينزله بهم أعداؤهم، كقتلهم للذكور، واستبقائهم للإناث..

وقوله: مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب على حذف المضاف، والتقدير: من عذاب فرعون.. أو على المبالغة كأن فرعون نفس العذاب، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم.

ثم بين- سبحانه- حال فرعون فقال: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ أى: نجيناهم من فرعون الذي كان متكبرا متجبرا، ومن المسرفين في فعل الشرور، وفي ارتكاب القبائح..

ثم بين- سبحانه- جانبا آخر من إكرامه لبنى إسرائيل فقال: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ.

والاختيار: الاصطفاء على سبيل التشريف والتكريم، أى: ولقد اصطفينا بنى إسرائيل على عالمي زمانهم، ونحن عالمون بذلك علما اقتضته حكمتنا ورحمتنا.

فقوله عَلى عِلْمٍ في موضع الحال من الفاعل، والمراد بالعالمين: أهل زمانهم المعاصرين لهم، بدليل قوله- تعالى- في الأمة الإسلامية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ

وهذا الاصطفاء والاختيار، إنما مرده إلى من يعمل منهم عملا صالحا، أما الذين لم يعملوا ذلك فلا مزية لهم ولا فضل، ولذا نجد كثيرا من الآيات تذم من يستحق الذم منهم.

ومن ذلك قوله- تعالى-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ «2» .

ثم بين- سبحانه- بعض المعجزات التي جاءتهم على أيدى رسلهم فقال: وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ.

أى: وأعطيناهم من المعجزات الدالة على صدق رسلهم كموسى وعيسى وغيرهما، ما فيه بلاء مبين.

(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 239.

(2)

سورة المائدة الآية 78. 79.

ص: 129