المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الرد على المقدمة الأولى وهي قوله لا بد من إمام معصوم] - منهاج السنة النبوية - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل كلام الرافضي على عمر رضي الله عنه]

- ‌[كلام عمر رضي الله عنه عند الاحتضار]

- ‌[فصل موقف عمر رضي الله عنه عند مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ووفاته]

- ‌[فصل كلام الرافضي على عمر رضي الله عنه والكلام على موقفه من فدك]

- ‌[قَوْلُ الرَّافِضِيِّ أن عمر عَطَّلَ حُدُودَ اللَّهِ فَلَمْ يُحِدَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على عطايا عمر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فصل الرد على قول الرافضي في عمر: وغيَّر حكم الله في المنفيين]

- ‌[فصل كلام الرافضي: أن عمر رضي الله عنه أمر برجم حامل]

- ‌[فصل كلام الرافضي: أن عمر رضي الله عنه أمر برجم مجنونة]

- ‌[كلام العلماء في مناقب عمر رضي الله عنه]

- ‌[رِسَالَةُ عُمَرَ فِي الْقَضَاءِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ]

- ‌[فصل كلام الرافضي أن عمر رضي الله عنه منع المغالاة في المهور]

- ‌[فصل كلام الرافضي أن عمر رضي الله عنه لم يحد قدامة في الخمر]

- ‌[فصل كلام الرافضي على عمر رضي الله عنه أنه أسقطت حامل خوفا منه]

- ‌[فصل كلام الرافضي أن عمر رضي الله عنه تنازعت عنده امرأتان في طفل وأفتاه علي رضي الله عنه]

- ‌[فصل كلام الرافضي أن عمر رضي الله عنه أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فرده علي]

- ‌[فصل كلام الرافضي أن عمر رضي الله عنه كان يضطرب في الأحكام]

- ‌[فصل كلام الرافضي أن عمر كان يفضل في الغنيمة والعطاء]

- ‌[فصل كلام الرافضي أن عمر كان يأخذ بالرأي والحدس والظن]

- ‌[فصل كلام الرافضي أن عمر رضي الله عنه جعل الأمر شورى بعده وخالف من تقدمه]

- ‌[الرد على قول الرافضي إن عمر جمع بين الفاضل والمفضول]

- ‌[الرد على قول الرافضي إن عمر رضي الله عنه طعن في كل واحد ممن اختاره]

- ‌[الرد على قول الرافضي في عمر ثم ناقص حتى جعل الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف]

- ‌[كلام الرافضي على ما تم في بيعة عثمان رضي الله عنه]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عمر رضي الله عنه أمر بقتل من خالف الأربعة ثم الثلاثة]

- ‌[فصل كلام الرافضي على عثمان رضي الله عنه]

- ‌[الأمور التي أنكرها الرافضي على عثمان رضي الله عنه]

- ‌[الرد على قولهم أن عليا رضي الله عنه فعل ذلك بالنص وبيان غلو الرافضة في علي والأئمة]

- ‌[الرد على دعوى الرافضة بالنص وعصمة الأئمة]

- ‌[فصل قاعدة كلية أن لا نعتقد بعصمة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[العقوبة عن الذنوب في الآخرة تندفع بنحو عشرة أسباب]

- ‌[السبب الأول التوبة]

- ‌[السبب الثاني الاستغفار]

- ‌[السبب الثالث الأعمال الصالحة]

- ‌[السبب الرابع الدعاء للمؤمنين]

- ‌[السبب الخامس دعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره في حياته وبعد مماته]

- ‌[السبب السادس ما يُفعل بعد الموت من عمل صالح يهدى له]

- ‌[السبب السابع المصائب الدنيوية التي يكفر الله بها الخطايا]

- ‌[السبب الثامن والتاسع والعاشر من بلاء القبر وأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ واقتصاصهم من بعض]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عثمان رضي الله عنه ولى من لا يصلح للولاية]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عثمان رضي الله عنه استعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عثمان رضي الله عنه استعمل سعيد بن العاص فظهر منه ما أدى إلى إخراج أهل الكوفة له]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عثمان رضي الله عنه ولى ابن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عثمان رضي الله عنه أمر بقتل محمد بن أبي بكر]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عثمان رضي الله عنه ولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث]

- ‌[الرد على قول الرافضي وولى عبد الله بن عامر البصرة فَفَعْلَ مِنَ الْمَنَاكِيرِ مَا فَعَلَ]

- ‌[الرد على قول الرافضي وولى مروان أمره وَأَلْقَى إِلَيْهِ مَقَالِيدَ أُمُورِهِ]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عثمان رضي الله عنه كان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن ابن مسعود كان يطعن على عثمان ويكفره رضي الله عنهما]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عثمان حكم بضرب ابن مسعود رضي الله عنهما حتى مات]

- ‌[الرد على حديث مكذوب يذكره الرافضي عن عمار رضي الله عنه]

- ‌[الرد على زعم الرافضي أن الرسول عليه السلام طرد الحكم وابنه عن المدينة وردهما عثمان وأكرمهما]

- ‌[الرد على زعم الرافضي أن عثمان نفى أبا ذر وضربه]

- ‌[الرد على زعم الرافضي أن عثمان ضيع حدود الله]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن عثمان زاد الأذان الثاني يوم الجمعة]

- ‌[الرد على زعم الرافضي أن المسلمين كلهم خالفوا عثمان رضي الله عنه حتى قتل]

- ‌[فصل نقل الرافضي عن الشهرستاني ما ذكره من التنازع الذي وقع بين الصحابة في مرض النبي عليه السلام]

- ‌[الرد على زعم الرافضي أن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية]

- ‌[الرد على زعم الرافضي عن الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الرد على زعم الرافضي عن الخلاف في تجهيز جيش أسامة]

- ‌[الرد على كلام الرافضي على ما كان من عمر عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[قال الرافضي الخلاف الرابع في الإمامة]

- ‌[قال الرافضي الخلاف الخامس في فدك والتوارث]

- ‌[قال الرافضي الخلاف السادس في قتال مانعي الزكاة]

- ‌[قال الرافضي الخلاف السابع في نص أبي بكر على عمر في الخلافة]

- ‌[قال الرافضي الخلاف الثامن في إمرة الشورى]

- ‌[الرد على مزاعم الرافضي عن اختلافات كثيرة وقعت من عثمان رضي الله عنه]

- ‌[الرد على زعم الرافضي أن عثمان رضي الله عنه زوج مروان بن الحكم وسلمه خمس غنائم إفريقية]

- ‌[الرد على زعم الرافضي أن عثمان آوى ابن أبي سرح وولاه مصر بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه]

- ‌[الرد على كلام الرافضي على عمال عثمان رضي الله عنه]

- ‌[كلام الرافضي على الخلاف التاسع الذي ذكره الشهرستاني]

- ‌[الفصل الثالث في الأدلة الدالة على إمامة علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[المنهج الأول في الأدلة العقلية]

- ‌[الأول يجب أن يكون الإمام معصوما]

- ‌[الرد على المقدمة الأولى وهي قوله لا بد من إمام معصوم]

- ‌[الرد على المقدمة الثانية من كلام الرافضي وهي قولهم إذا كان لا بد من معصوم فليس بمعصوم غير علي]

- ‌[فصل كلام الرافضي على الوجه الثاني من وجوه إمامة علي وهو وجوب النص على الإمام والرد عليه]

- ‌[فصل كلام الرافضي على الوجه الثالث من وجوه إمامة علي رضي الله عنه يجب أن يكون حافظا للشرع]

- ‌[فصل كلام الرافضي على الوجه الرابع من وجوه إمامة علي رضي الله عنه أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم]

- ‌[فصل كلام الرافضي على الوجه الخامس من وجوه إمامة علي رضي الله عنه أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته]

الفصل: ‌[الرد على المقدمة الأولى وهي قوله لا بد من إمام معصوم]

يَكُونُوا مَعْصُومِينَ اتِّفَاقًا، وَعَلِيٌّ مَعْصُومٌ فَيَكُونُ هُوَ الْإِمَامُ ".

[الرد على المقدمة الأولى وهي قوله لا بد من إمام معصوم]

وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنْ نَقُولَ (1) كِلْتَا الْمُقَدَّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ. أَمَّا الْأُولَى: فَقَوْلُهُ: " لَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ إِمَامٍ مَعْصُومٍ يَصُدُّهُمْ (2) عَنِ الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي، وَيَمْنَعُهُمْ عَنِ التَّغَالُبِ وَالْقَهْرِ، وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ، وَيُوَصِّلُ الْحَقَّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَلَا السَّهْوُ وَلَا الْمَعْصِيَةُ ".

فَيُقَالُ لَهُ: نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِ هَذَا الدَّلِيلِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمَعْصُومُ، وَطَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَعِلْمُ الْأُمَّةِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَتَمُّ مِنْ عِلْمِ آحَادِ الرَّعِيَّةِ بِأَمْرِ الْإِمَامِ الْغَائِبِ، كَالْمُنْتَظَرِ وَنَحْوِهِ، بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِمَامٌ مَعْصُومٌ، وَالْأُمَّةُ تَعْرِفُ (3) أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَمَعْصُومُهُمْ يَنْتَهِي إِلَى الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ، الَّذِي لَوْ كَانَ مَعْصُومًا لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ لَا أَمْرَهُ وَ [لَا] نَهْيَهُ (4) ، بَلْ وَلَا كَانَتْ رَعِيَّةُ عَلِيٍّ تَعْرِفُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، كَمَا تَعْرِفُ (5) الْأُمَّةُ أَمْرَ نَبِيَّهَا وَنَهْيَهُ، بَلْ عِنْدَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِلْمِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ [مَا أَغْنَاهُمْ عَنْ كُلِّ إِمَامٍ سِوَاهُ، بِحَيْثُ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ قَطُّ إِلَى الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِهِمْ، وَلَا يَحْتَاجُونَ فِي الْعَمَلِ إِلَى مَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى التَّعَاوُنِ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ](6) أَعْظَمَ مِنْ مَعْرِفَةِ آحَادِ رَعِيَّةِ الْمَعْصُومِ، وَلَوْ قُدِّرَ

(1) ن: وَالْجَوَابُ عَنِ الْأُولَتَانِ تَقُولُ كِلَا. . . .، م: وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنْ نَقُولَ: كُلُّ.

(2)

ن: وَيَصُدُّهُمْ.

(3)

ن، م: تَعْلَمُ.

(4)

ن: لَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.

(5)

ن، م: تَعْلَمُ.

(6)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (ب) ، وَأَثْبَتُّهُ مِنْ (م) .

ص: 384

وُجُودُهُ بِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَوَلَّ عَلَى النَّاسِ ظَاهِرًا مَنِ ادُّعِيَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ إِلَّا عَلِيٌّ.

وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ كَانَ فِي رَعِيَّتِهِ بِالْيَمَنِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمَا مَنْ لَا يَدْرِي بِمَاذَا أَمَرَ وَلَا عَمَّاذَا نَهَى، بَلْ نُوَّابُهُ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ هُوَ.

وَأَمَّا الْوَرَثَةُ الَّذِينَ وَرِثُوا عِلْمَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَهُمْ يَعْرِفُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَيَصْدُقُونَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ، أَعْظَمَ مِنْ عِلْمِ نُوَّابِ عَلِيٍّ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمِنْ صِدْقِهُمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ مَعْصُومٍ حَيٍّ.

فَنَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْمَوْصُوفَ لَمْ يُوجَدْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يُعْرَفُ إِمَامٌ مَعْرُوفٌ يُدَّعَى فِيهِ (1) هَذَا، وَلَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ، بَلْ مَفْقُودٌ غَائِبٌ عِنْدَ مُتَّبِعِيهِ، وَمَعْدُومٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِمَامَةِ أَصْلًا، بَلْ مَنْ وَلِيَ عَلَى النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ الْجَهْلِ وَبَعْضُ الظُّلْمِ، كَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ مِمَّنْ لَا يَنْفَعُهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

وَهَؤُلَاءِ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ لَا يُوجَدُونَ مُسْتَعِينِينَ فِي أُمُورِهِمْ إِلَّا بِغَيْرِهِ، بَلْ هُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الْمَعْصُومِ، وَإِنَّمَا يَسْتَعِينُونَ بِكَفُورٍ أَوْ ظَلُومٍ. فَإِذَا كَانَ الْمُصَدِّقُونَ لِهَذَا الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ

(1) نَ: فَلَا نَعْرِفُ إِمَامًا مَعْرُوفًا نَدَّعِي فِيهِ.

ص: 385

مِنْهُمْ لَا فِي دِينِهِ وَلَا فِي دُنْيَاهُ، لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ (1) بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِمَامَةِ (2) .

وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ، لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْوَسِيلَةِ ; لِأَنَّ الْوَسَائِلَ لَا تُرَادُ إِلَّا لِمَقَاصِدِهَا (3) . فَإِذَا جَزَمْنَا بِانْتِفَاءِ الْمَقَاصِدِ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْوَسِيلَةِ مِنَ السَّعْيِ الْفَاسِدِ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ صِفَتُهُ كَذَا وَالشَّرَابُ صِفَتُهُ كَذَا، وَهَذَا عِنْدَ الطَّائِفَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَتِلْكَ الطَّائِفَةُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ أَفْقَرِ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْإِفْلَاسِ.

وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي طَلَبِ مَا يُعْلَمُ عَدَمُهُ، وَاتِّبَاعِ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَصْلًا؟ وَالْإِمَامُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي شَيْئَيْنِ (4) . إِمَّا فِي الْعِلْمِ؛ لِتَبْلِيغِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَإِمَّا فِي الْعَمَلِ بِهِ؛ لِيُعِينَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ بِقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ.

وَهَذَا الْمُنْتَظَرُ لَا يَنْفَعُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا. بَلْ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُ، وَمِنَ الْعَمَلِ، إِنْ كَانَ مِمَّا يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ اسْتَعَانُوا بِهِمْ، وَإِلَّا اسْتَعَانُوا بِالْكُفَّارِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَنَحْوِهِمْ، فَهُمْ أَعْجَزُ النَّاسِ فِي الْعَمَلِ، وَأَجْهَلُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ، مَعَ دَعْوَاهُمُ ائْتِمَامَهُمْ بِالْمَعْصُومِ، الَّذِي مَقْصُودُهُ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ لَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، فَعُلِمَ انْتِفَاءُ هَذَا مِمَّا يَدَّعُونَهُ.

(1) لِأَحَدٍ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

(2)

ن، م: الْأُمَّةُ.

(3)

ن: بِمَقَاصِدِهَا.

(4)

ن: وَالْإِمَامُ يُحْتَجُ فِيهِ إِلَى شَيْئَيْنِ، م: وَالْإِمَامُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى شَيْئَيْنِ.

ص: 386

وَأَيْضًا فَالْأَئِمَّةُ الِاثْنَا عَشَرَ لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ جَمِيعُ مَقَاصِدِ الْإِمَامَةِ.

أَمَّا مَنْ دُونَ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ يَحْصُلُ لِلنَّاسِ (1) مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ نُظَرَائِهِ. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنُهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، كَمَا عَلَّمَهُ عُلَمَاءُ زَمَانِهِمْ، وَكَانَ فِي زَمَنِهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَأَنْفَعُ لِلْأُمَّةِ.

وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَدْيَنَ، فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا يَحْصُلُ (2) مِنْ ذَوِي الْوِلَايَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَإِلْزَامِ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَمَنْعِهِمْ بِالْيَدِ عَنِ الْبَاطِلِ.

وَأَمَّا مَنْ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ كَالْعَسْكَرِيِّينَ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ عِلْمٌ تَسْتَفِيدُهُ الْأُمَّةُ، وَلَا كَانَ لَهُمْ يَدٌ تَسْتَعِينُ بِهِ الْأُمَّةُ، بَلْ كَانُوا كَأَمْثَالِهِمْ (3) مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ لَهُمْ حُرْمَةٌ وَمَكَانَةٌ، وَفِيهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ مَا فِي أَمْثَالِهِمْ، وَهُوَ مَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ. وَلِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ عَنْهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، كَمَا أَخَذُوا عَنْ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ. وَلَوْ وَجَدُوا مَا يُسْتَفَادُ لَأَخَذُوا، وَلَكِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَعْرِفُ مَقْصُودَهُ.

وَإِذَا (4) كَانَ لِلْإِنْسَانِ نَسَبٌ شَرِيفٌ، كَانَ (5) ذَلِكَ مِمَّا يُعِينُهُ عَلَى قَبُولِ

(1) ب: لِنَاسٍ.

(2)

ن: فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا لَا يَحْصُلُ، م: فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَحْصُلُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا لَا يَحْصُلُ. . . . .

(3)

ن، م: كَأَمْثَالِهِمَا.

(4)

ب: وَإِنْ.

(5)

ن، ب: وَكَانَ.

ص: 387

النَّاسِ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا كَانَ كَثِيرَ الْعِلْمِ عَرَفَتِ (1) الْأُمَّةُ لَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَفَادَتْ مِنْهُ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ (2) ، عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ لَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَفَادُوا ذَلِكَ مِنْهُ، وَظَهَرَ ذِكْرُهُ بِالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ.

وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِنْسَانُ مَقْصُودَهُ فِي مَحَلٍّ لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ عَنْ أَحَدٍ: إِنَّهُ طَبِيبٌ أَوْ نَحْوِيٌّ، وَعَظُمَ حَتَّى جَاءَ إِلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ أَوِ النُّحَاةُ، فَوَجَدُوهُ لَا يَعْرِفُ مِنَ الطِّبِّ وَالنَّحْوِ مَا يَطْلُبُونَ، أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ مُجَرَّدُ دَعْوَى الْجُهَّالِ وَتَعْظِيمِهِمْ.

وَهَؤُلَاءِ الْإِمَامِيَّةُ أَخَذُوا عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْدَارُ وَالتَّمْكِينُ وَاللُّطْفُ، بِمَا يَكُونُ الْمُكَلَّفُ (3) عِنْدَهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الْفَسَادِ، مَعَ تَمَكُّنِهِ فِي الْحَالَيْنِ.

ثُمَّ قَالُوا: وَالْإِمَامَةُ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ أَوْجَبُ عِنْدَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ بِهَا لُطْفًا فِي التَّكَالِيفِ. قَالُوا: إِنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا بِالْعَادَاتِ (4) وَاسْتِمْرَارِ الْأَوْقَاتِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَتَى كَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ مَهِيبٌ مُطَاعٌ مُتَصَرِّفٌ مُنْبَسِطُ الْيَدِ كَانُوا بِوُجُودِهِ أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْفَسَادِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَئِيسٌ (5) وَقَعَ الْهَرْجُ وَالْمَرْجُ بَيْنَهُمْ، وَكَانُوا عَنِ الصَّلَاحِ أَبْعَدَ، وَمِنَ الْفَسَادِ أَقْرَبَ.

وَهَذِهِ الْحَالُ مُشْعِرَةٌ بِقَضِيَّةِ الْعَقْلِ مَعْلُومَةٌ لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مَنْ جَهِلَ

(1) م: كَيْفَ عَرَفَتِ.

(2)

ن، م: مَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ.

(3)

ب: الْمُمْكِنُ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(4)

ن: نَقْصًا بِالْعَادَاتِ، م: نَقْصًا بِالْعِبَادَاتِ.

(5)

سَاقِطٌ مِنْ (ب) فَقَطْ.

ص: 388

الْعَادَاتِ وَلَمْ يَعْلَمِ اسْتِمْرَارَ الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الْعَقْلِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ هَذَا لُطْفًا فِي التَّكْلِيفِ لَزِمَ وُجُوبُهُ. ثُمَّ ذَكَرُوا صِفَاتِهِ مِنَ الْعِصْمَةِ وَغَيْرِهَا.

ثُمَّ أَوْرَدَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ سُؤَالًا، فَقَالُوا: إِذَا قُلْتُمْ: إِنَّ الْإِمَامَ لُطْفٌ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْكُمْ فَأَيْنَ اللُّطْفُ الْحَاصِلُ مَعَ غَيْبَتِهِ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لُطْفُهُ حَاصِلًا مَعَ الْغَيْبَةِ وَجَازَ التَّكْلِيفُ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ لُطْفًا فِي الدِّينِ وَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْقَوْلُ بِإِمَامَةِ الْمَعْصُومِ.

وَقَالُوا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنَّا نَقُولُ: إِنَّ لُطْفَ الْإِمَامِ حَاصِلٌ فِي حَالَةِ الْغَيْبَةِ لِلْعَارِفِينَ بِهِ فِي حَالِ الظُّهُورِ وَإِنَّمَا فَاتَ اللُّطْفُ لِمَنْ لَمْ يَقُلْ بِإِمَامَتِهِ. كَمَا أَنَّ لُطْفَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى، وَحَصَلَ لِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِهِ. قَالُوا: وَهَذَا يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ، وَيُوجِبُ الْقَوْلَ بِإِمَامَةِ الْمَعْصُومِينَ.

فَقِيلَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ اللُّطْفُ حَاصِلًا فِي حَالِ الْغَيْبَةِ كَحَالِ الظُّهُورِ، لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَغْنُوا عَنْ ظُهُورِهِ، وَيَتَّبِعُوهُ (1) إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. وَهَذَا خِلَافُ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ.

فَأَجَابُوا بِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ اللُّطْفَ فِي غَيْبَتِهِ عِنْدَ الْعَارِفِ بِهِ مِنْ بَابِ التَّنْفِيرِ وَالتَّبْعِيدِ عَنِ الْقَبَائِحِ مِثْلُ حَالِ الظُّهُورِ، لَكِنْ نُوجِبُ ظُهُورَهُ لِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ رَفْعُ أَيْدِي الْمُتَغَلِّبِينَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْذُ الْأَمْوَالِ وَوَضْعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ، وَرَفْعُ مَمَالِكِ الظُّلْمِ (2) الَّتِي لَا يُمْكِنُنَا رَفْعُهَا إِلَّا بِطَرِيقِهِ (3) وَجِهَادُ الْكُفَّارِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إِلَّا مَعَ ظُهُورِهِ.

(1) ن، م: وَيَتَّبِعُونَهُ.

(2)

ن، م: الظَّالِمِ.

(3)

أَيْ: بِطَرِيقِ الْإِمَامِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ.

ص: 389

فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ لُطْفًا، هُوَ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْعُقُولُ وَالْعَادَاتُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ. قُلْتُمْ: إِنَّ الْجَمَاعَةَ مَتَى كَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ مَهِيبٌ مُطَاعٌ مُتَصَرِّفٌ مُنْبَسِطُ الْيَدِ، كَانُوا بِوُجُودِهِ أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْفَسَادِ، وَاشْتَرَطْتُمْ فِيهِ الْعِصْمَةَ. قُلْتُمْ لِأَنَّ مَقْصُودَ الِانْزِجَارِ (1) لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْمُنْتَظَرِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُنْبَسِطَ الْيَدِ وَلَا مُتَصَرِّفًا.

وَعَلِيٌّ رضي الله عنه تَوَلَّى الْخِلَافَةَ، وَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ وَانْبِسَاطُهُ تَصَرُّفَ مَنْ قَبْلَهُ وَانْبِسَاطَهُمْ وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَلَمْ تَكُنْ أَيْدِيهِمْ مُنْبَسِطَةً وَلَا مُتَصَرِّفُونَ بَلْ كَانَ يَحْصُلُ بِأَحَدِهِمْ مَا يَحْصُلُ بِنُظَرَائِهِ (2) .

وَأَمَّا الْغَائِبُ فَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّ الْمُعْتَرِفَ بِوُجُودِهِ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ غَابَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَأَنَّهُ خَائِفٌ لَا يُمْكِنُهُ الظُّهُورُ، فَضْلًا عَنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا وَلَا يَنْهَاهُ - لَمْ يَزَلْ (3) الْهَرْجُ وَالْفَسَادُ بِهَذَا.

وَلِهَذَا يُوجَدُ (4) طَوَائِفُ الرَّافِضَةِ أَكْثَرَ الطَّوَائِفِ هَرْجًا وَفَسَادًا، وَاخْتِلَافًا بِالْأَلْسُنِ وَالْأَيْدِي، وَيُوجَدُ مِنَ الِاقْتِتَالِ وَالِاخْتِلَافِ وَظُلْمِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مَا لَا يُوجَدُ فِيمَنْ لَهُمْ مُتَوَلٍّ كَافِرٍ، فَضْلًا عَنْ مُتَوَلٍّ مُسْلِمٍ، فَأَيُّ لُطْفٍ حَصَلَ لِمُتَّبِعِيهِ بِهِ؟ .

(1) ن: مَقْصُودُ الْأَمْرِ جَارٍ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(2)

ب: بِنَظَائِرِهِ.

(3)

ن، م: وَلَمْ يَزَلْ.

(4)

م: يُوجِبُ.

ص: 390

وَاعْتَبِرِ (1) الْمَدَائِنَ وَالْقُرَى الَّتِي يُقِرُّ أَهْلُهَا بِإِمَامَةِ الْمُنْتَظَرِ، مَعَ الْقُرَى الَّتِي لَا يُقِرُّونَ بِهِ. تَجِدْ حَالَ (2) هَؤُلَاءِ أَعْظَمَ انْتِظَامًا وَصَلَاحًا فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، حَتَّى أَنَّ الْخَبِيرَ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ يَجِدُ بِلَادَ الْكُفَّارِ، لِوُجُودِ رُؤَسَائِهِمْ يُقِيمُونَ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُمْ أَكْثَرَ انْتِظَامًا مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَرْضِ (3) الَّتِي يُنْسَبُونَ فِيهَا إِلَى مُتَابَعَةِ الْمُنْتَظَرِ، لَا يُقِيمُ لَهُمْ سَبَبًا مِنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِوُجُودِهِ يَخَافُونَ مَعَهُ أَنْ يَظْهَرَ فَيُعَاقِبَهُمْ عَلَى الذُّنُوبِ، كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ خَوْفَ النَّاسِ مِنْ وُلَاةِ أُمُورِهِمُ الْمَشْهُورِينَ أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ، أَعْظَمُ مِنْ خَوْفِ هَؤُلَاءِ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنْتَظَرِ لَهُمْ.

ثُمَّ الذُّنُوبُ قِسْمَانِ: مِنْهَا ذُنُوبٌ ظَاهِرَةٌ، كَظُلْمِ النَّاسِ وَالْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ، فَهَذِهِ تَخَافُ النَّاسُ (4) فِيهَا مِنْ عُقُوبَةِ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، أَعَظَمَ مِمَّا يَخَافُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنْتَظَرِ. فَعُلِمَ أَنَّ اللُّطْفَ الَّذِي أَوْجَبُوهُ لَا يَحْصُلُ بِالْمُنْتَظَرِ أَصْلًا لِلْعَارِفِ بِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ اللُّطْفَ بِهِ يَحْصُلُ لِلْعَارِفِينَ بِهِ، كَمَا يَحْصُلُ فِي حَالِ الظُّهُورِ، فَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّهُ إِذَا ظَهَرَ حَصَلَ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْوَعْظِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ لُطْفٌ لَا يَحْصُلُ مَعَ عَدَمِ الظُّهُورِ.

(1) ن: وَاعْتَدَّ، م: وَاعْتَدَّا.

(2)

حَالَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

(3)

تَكَرَّرَتْ فِي (ب) عِبَارَاتٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا هَكَذَا، أَكْثَرَ انْتِظَامًا وَصَلَاحًا فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ حَتَّى أَنَّ الْخَبِيرَ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ يَجِدُ بِلَادَ الْكُفَّارِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَرْضِ. . . . .

(4)

ن: النَّفْسُ.

ص: 391

وَتَشْبِيهُهُمْ مَعْرِفَتَهُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ فِي بَابِ اللُّطْفِ وَأَنَّ اللُّطْفَ بِهِ يَحْصُلُ لِلْعَارِفِ دُونَ غَيْرِهِ، قِيَاسٌ فَاسِدٌ. فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَيٌّ قَادِرٌ، يَأْمُرُ بِالطَّاعَةِ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، وَيَنْهَى عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَيُعَاقِبُ عَلَيْهَا، مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ مِنْهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ دَاعِيَةً إِلَى الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهِ، بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، وَالرَّهْبَةِ مِنْ عِقَابِهِ إِذَا عَصَى، لِعِلْمِ الْعَبْدِ بِأَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ، وَأَنَّهُ قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِإِثَابَةِ الْمُطِيعِينَ وَعُقُوبَةِ الْعَاصِينَ.

وَأَمَّا شَخْصٌ يَعْرِفُ النَّاسُ أَنَّهُ (1) مَفْقُودٌ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْ أَحَدًا، وَأَنَّهُ لَمْ يُثِبْ أَحَدًا بَلْ هُوَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا ظَهَرَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى، فَكَيْفَ تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ بِهِ (2) دَاعِيَةٌ إِلَى فِعْلِ مَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا حَظَرَ (3) ، بَلِ الْمَعْرِفَةُ بِعَجْزِهِ وَخَوْفِهِ تُوجِبُ الْإِقْدَامَ عَلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ، لَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ الزَّمَانِ وَتَوَالِي الْأَوْقَاتِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَهُوَ لَمْ يُعَاقِبْ أَحَدًا وَلَمْ يُثِبْ أَحَدًا.

بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي [كُلِّ](4) مِائَةِ سَنَةٍ مَرَّةً فَيُعَاقِبُ، لَمْ يَكُنْ مَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ اللُّطْفِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِآحَادِ وُلَاةِ الْأَمْرِ، بَلْ وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ يَظْهَرُ فِي كُلِّ عَشْرِ سِنِينَ، بَلْ وَلَوْ ظَهَرَ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، فَإِنَّهُ [لَا] تَكُونُ (5) مَنْفَعَتُهُ كَمَنْفَعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ الظَّاهِرِينَ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، بَلْ هَؤُلَاءِ - مَعَ

(1) ب: بِأَنَّهُ.

(2)

ن: بِهَا، وَهُوَ خَطَأٌ.

(3)

ن: مَا خَطَرَ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(4)

كُلِّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(5)

ن، م: فَإِنَّهُ يَكُونُ، وَهُوَ خَطَأٌ.

ص: 392

ذُنُوبِهِمْ وَظُلْمِهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ - شَرْعُ اللَّهِ بِهِمْ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، وَمَا يَبْذُلُونَهُ مِنَ الرَّغَبَاتِ فِي الطَّاعَاتِ، أَضْعَافُ مَا يُقَامُ بِمَنْ يَظْهَرُ بَعْدَ كُلِّ مُدَّةٍ، فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ مَفْقُودٌ، يَعْلَمُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ، وَالْمُقِرُّونَ بِهِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ عَاجِزٌ خَائِفٌ لَمْ يَفْعَلْ قَطُّ مَا يَفْعَلُهُ (1) آحَادُ النَّاسِ، فَضْلًا عَنْ وُلَاةِ أَمْرِهِمْ.

وَأَيُّ هَيْبَةٍ لِهَذَا؟ وَأَيُّ طَاعَةٍ، وَأَيُّ تَصَرُّفٍ، وَأَيُّ يَدٍ مُنْبَسِطَةٍ؟ حَتَّى إِذَا كَانَ لِلنَّاسِ رَئِيسٌ مَهِيبٌ مُطَاعٌ مُتَصَرِّفٌ مُنْبَسِطُ الْيَدِ، كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ بِوُجُودِهِ.

وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالسَّفْسَطَةِ، حَيْثُ جَعَلُوا اللُّطْفَ بِهِ فِي حَالِ عَجْزِهِ وَغَيْبَتِهِ، مِثْلَ اللُّطْفِ بِهِ فِي حَالِ ظُهُورِهِ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِهِ مَعَ عَجْزِهِ وَخَوْفِهِ وَفَقْدِهِ لُطْفٌ، كَمَا لَوْ كَانَ ظَاهِرًا قَادِرًا آمِنًا، وَأَنَّ مُجَرَّدَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ لُطْفٌ، كَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لُطْفٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: قَوْلُكُمْ: لَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ إِمَامٍ مَعْصُومٍ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ.

أَتُرِيدُونَ أَنَّهُ (2) لَا بُدَّ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ وَيُقِيمَ مَنْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُبَايِعُوا مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ؟ .

فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْأَوَّلَ، فَاللَّهُ لَمْ يَخْلُقْ أَحَدًا مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَكُمْ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ مَعْصُومًا لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمَكِّنْهُ وَلَمْ يُؤَيِّدْهُ،

(1) ن، م: مِمَّا يَفْعَلُهُ.

(2)

ن: أَيُرِيدُونَ أَنَّهُ، م: أَيُرِيدُونَ (غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ) أَنْ.

ص: 393

لَا بِنَفْسِهِ، وَلَا بِجُنْدٍ خَلَقَهُمْ لَهُ حَتَّى يَفْعَلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ.

بَلْ أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ كَانَ عَاجِزًا مَقْهُورًا مَظْلُومًا فِي زَمَنِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمَّا صَارَ لَهُ جُنْدٌ قَامَ لَهُ جُنْدٌ، آخَرُونَ قَاتَلُوهُ، حَتَّى لَمْ يَتَمَكَّنْ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ، الَّذِينَ هُمْ عِنْدَكُمْ ظَلَمَةٌ.

فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ أَيَّدَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ، حَتَّى تَمَكَّنُوا مِنْ فِعْلِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَلَمْ يُؤَيِّدْهُ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ.

وَحِينَئِذٍ فَمَا خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْمَعْصُومَ الْمُؤَيَّدَ الَّذِي اقْتَرَحْتُمُوهُ عَلَى اللَّهِ. وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ النَّاسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَايِعُوهُ وَيُعَاوِنُوهُ.

قُلْنَا: أَيْضًا فَالنَّاسُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانُوا مُطِيعِينَ أَوْ عُصَاةً.

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَمَا حَصَلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَعْصُومِينَ عِنْدَكُمْ تَأْيِيدٌ، لَا مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنَ النَّاسِ. وَهَذِهِ الْمَصَالِحُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَأْيِيدٍ (1) ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ مَا بِهِ تَحْصُلُ الْمَصَالِحُ، بَلْ حَصَلَ أَسْبَابُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ لَمْ يَحْصُلْ مَجْمُوعُ مَا بِهِ تَحْصُلُ هَذِهِ الْمَطَالِبُ، بَلْ فَاتَ كَثِيرٌ مِنْ شُرُوطِهَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَائِتُ هُوَ الْعِصْمَةَ؟ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ فَائِتًا: إِمَّا بِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَإِمَّا بِعَجْزِ الْمَعْصُومِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِهَا بِهَذَا أَوْ بِهَذَا، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَ إِمَامًا مَعْصُومًا؟ .

وَهُوَ إِنَّمَا يَخْلُقُهُ لِيَحْصُلَ بِهِ مَصَالِحُ عِبَادِهِ، وَقَدْ خَلَقَهُ عَاجِزًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تِلْكَ الْمَصَالِحِ، بَلْ حَصَلَ بِهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا بِوُجُودِهِ.

(1) ب: بِالتَّأْيِيدِ.

ص: 394

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ: بِالْوَجْهِ الرَّابِعِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخْلَقْ هَذَا الْمَعْصُومُ، لَمْ يَكُنْ يَجْرِي فِي الدُّنْيَا مِنَ الشَّرِّ أَكْثَرُ مِمَّا جَرَى، إِذْ كَانَ (1) وُجُودُهُ لَمْ يَدْفَعْ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ، حَتَّى يُقَالَ: وُجُودُهُ دَفَعَ كَذَا. بَلْ وُجُودُهُ أَوْجَبَ أَنْ كَذَّبَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَعَادَوْا شِيعَتَهُ، وَظَلَمُوهُ وَظَلَمُوا أَصْحَابَهُ، وَحَصَلَ مِنَ الشُّرُورِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا.

فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مَعْصُومًا، وَلَا بَقِيَّةُ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَنَحْوِهُمْ، لَا يَكُونُ مَا وَقَعَ مِنْ تَوْلِيَةِ الثَّلَاثَةِ، وَبَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي الْعَبَّاسِ، فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالشَّرِّ مَا فِيهِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِمْ أَئِمَّةً (2) مَعْصُومِينَ (* وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِمْ (3) مَعْصُومِينَ فَمَا أَزَالُوا مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَا يُزِيلُهُ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، فَصَارَ كَوْنُهُمْ مَعْصُومِينَ *) (4) إِنَّمَا حَصَلَ بِهِ الشَّرُّ لَا الْخَيْرُ.

فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى الْحَكِيمِ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لِيَحْصُلَ بِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ إِلَّا الشَّرُّ لَا الْخَيْرُ؟

وَإِذَا قِيلَ: هَذَا الشَّرُّ حَصَلَ مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ لَهُ.

قِيلَ: فَالْحَكِيمُ الَّذِي خَلَقَهُ إِذَا كَانَ خَلَقَهُ لِدَفْعِ ظُلْمِهِمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا خَلَقَهُ زَادَ ظُلْمُهُمْ، لَمْ يَكُنْ خَلْقُهُ حِكْمَةً بَلْ سَفَهًا، وَصَارَ هَذَا كَتَسْلِيمِ إِنْسَانٍ وَلَدَهُ إِلَى مَنْ يَأْمُرُهُ بِإِصْلَاحِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُطِيعُهُ بَلْ يُفْسِدُهُ، فَهَلْ يَفْعَلُ هَذَا حَكِيمٌ؟

وَمِثْلَ أَنْ يَبْنِيَ إِنْسَانٌ خَانًا فِي الطَّرِيقِ لِتَأْوِيَ إِلَيْهِ الْقَوَافِلُ، وَيَعْتَصِمُوا

(1) م، ب: إِذَا كَانَ.

(2)

أَئِمَّةٌ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

(3)

م: أَنَّهُمْ.

(4)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) فَقَطْ.

ص: 395

بِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا بَنَاهُ اتَّخَذَهُ الْكُفَّارُ حِصْنًا، وَالْقُطَّاعُ مَأْوًى لَهُمْ.

وَمِثْلَ مَنْ يُعْطِي رَجُلًا مَالًا يُنْفِقُهُ فِي الْغُزَاةِ وَالْمُجَاهِدِينَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ (1) إِنَّمَا يُنْفِقُهُ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُحَارِبِينَ أَعْدَاءِ الرَّسُولِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرَّافِضَةَ الْقَدَرِيَّةَ أَخَذُوا هَذِهِ الْحُجَجَ مِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ. فَلَمَّا كَانَ أُولَئِكَ يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ (* الصَّلَاحَ وَالْأَصْلَحَ (2) أَخَذَ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَأَصْلُ أُولَئِكَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ *) (3) أَنْ يَفْعَلَ بِكُلِّ مُكَلَّفٍ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، [وَهُوَ](4) أَصْلٌ فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّبُّ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ وَرَحِمَتِهِ يَفْعَلُ بِحِكْمَةٍ لِخَلْقِهِ مَا يُصْلِحُهُمْ (5) فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَالْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ - أَوِ الصَّلَاحِ - فِي كُلِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْوَاجِبَ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ. فَغَلِطُوا حَيْثُ شَبَّهُوا اللَّهَ بِالْوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ، فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَكَانُوا هُمْ مُشَبِّهَةَ الْأَفْعَالِ، فَغَلِطُوا (6) مِنْ حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ، وَبَيْنَ مَصْلَحَةِ آحَادِ النَّاسِ، الَّتِي قَدْ (7) تَكُونُ مُسْتَلْزِمَةً لِفَسَادٍ عَامٍّ، وَمُضَادَّةً لِصَلَاحٍ عَامٍّ.

(1) ب: أَنْ.

(2)

م: أَوِ الْأَصْلَحَ.

(3)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) فَقَطْ.

(4)

وَهُوَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(5)

م: يَفْعَلُ بِجُمْلَةِ مَا يُصْلِحُهُمْ.

(6)

ن، م: وَغَلِطُوا.

(7)

قَدْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

ص: 396

وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُجْبِرَةُ الْجَهْمِيَّةُ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حِكْمَةً وَلَا رَحْمَةً، بَلْ عِنْدَهُمْ يَفْعَلُ بِمَشِيئَةٍ مَحْضَةٍ، لَا لَهَا حِكْمَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ. وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ رَأْسُ هَؤُلَاءِ، كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْمُبْتَلِينَ مِنَ الْجَذْمَى وَغَيْرِهِمْ: فَيَقُولُ: أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ هَذَا؟ ! يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَحْمَةٌ.

فَهَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ فِي طَرَفَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ.

وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ، قَائِمٌ بِالْقِسْطِ. وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ (1) مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَمَا يَشْهَدُ بِهِ الِاعْتِبَارُ (2) حِسًّا وَعَقْلًا، وَذَلِكَ وَاقِعٌ مِنْهُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَبِحُكْمِ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، لَا بِأَنَّ الْخَلْقَ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ وَيُحَرِّمُونَ، وَلَا بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَ فِيمَا يَجِبُ وَيَحْرُمُ، بَلْ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، وَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ عَلَيْهِ حَقٌّ، إِلَّا مَا أَحَقَّهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ، كَقَوْلِهِ:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 54]، وَقَوْلُهُ:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ الرُّومِ: 47] وَذَلِكَ بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَصِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبِحُكْمِ كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهَذَا (3) فِيهِ تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ثُمَّ الْقَدَرِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِرِعَايَةِ الْأَصْلَحِ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا خَلَقَهُمْ لِتَعْرِيضَهُمْ لِلثَّوَابِ.

(1) ب: بِعِبَادِ.

(2)

ن، ب: وَكَمَا يَشْهَدُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الِاعْتِبَارَ. . . . .، وَهُوَ خَطَأٌ.

(3)

ب: وَذَلِكَ.

ص: 397

فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَهُوَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الَّذِي عَرَّضَهُ لَا يَنْتَفِعُ مِمَّا خَلَقَهُ لَهُ (1) ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَضُرُّهُ، فَكَانَ كَمَنْ يُعْطِي شَخْصًا مَالًا لِيُنْفِقَهُ (2) فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَسَيْفًا لِيُقَاتِلَ بِهِ الْكُفَّارَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُنْفِقُهُ فِي حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالِهِمْ.

قَالُوا: الْمُكَلَّفُ إِنَّمَا أُتِيَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَهُوَ الَّذِي فَرَّطَ بِتَرْكِ الطَّاعَةِ.

أَجَابَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَبْنِيٌّ عَلَى إِثْبَاتِ الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: مَبْنِيٌّ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.

فَقَالُوا: عَلَى الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَهُ بِالْفِعْلِ لَمْ (3) يَحْصُلْ، لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ حِكْمَةً، وَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطِ غَيْرِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ وَيَخْلُقُ مَا بِهِ يَكُونُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَطْلُوبِ، فَيَمْتَنِعُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ الْمَطْلُوبَ بِالْخَلْقِ. وَكُلُّ جَوَابٍ لِلْقَدَرِيَّةِ فَهُوَ جَوَابٌ لِلرَّافِضَةِ.

وَيُجَابُونَ بِأَجْوِبَةٍ أُخْرَى تُجِيبُهُمْ بِهَا الْقَدَرِيَّةُ، وَإِنْ وَافَقُوهُمْ عَلَى قَاعِدَةِ التَّعْلِيلِ وَالتَّجْوِيرِ (4)، فَيَقُولُونَ: إِنَّمَا يَجِبُ خَلْقُ إِمَامٍ مَعْصُومٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ خَلَقَ لَهُمْ مَا يُغْنِيهِمْ عَنْهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَنَّهَا اسْتِدْلَالٌ بِالْوَاجِبِ عَلَى الْوَاقِعِ،

(1) لَهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

(2)

ب: يُنْفِقُهُ.

(3)

ب: لَا.

(4)

ب، ن: وَالتَّجْوِيزِ، وَهُوَ خَطَأٌ.

ص: 398

فَيَقُولُونَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا، فَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ، وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا هَكَذَا.

وَالْعِلْمُ بِالْوَاقِعِ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ قَطْعِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ تُبَيِّنُ انْتِفَاءَ هَذَا الَّذِي ذَكَرُوا أَنَّهُ وَاقِعٌ. فَإِذَا عَلِمْنَا انْتِقَاءَ الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ قَطْعًا، لَمْ يُمْكِنْ إِثْبَاتُ لَازِمِهَا، وَهُوَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّا نَسْتَدِلُّ عَلَى إِثْبَاتِ اللَّازِمِ بِإِثْبَاتِ الْمَلْزُومِ، فَإِذَا كَانَ الْمَلْزُومُ قَدْ عَلِمْنَا انْتِفَاءَهُ قَطْعًا، لَمْ يُمْكِنْ إِثْبَاتُ لَازِمِهِ.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ آنَ أَنْ نَقْدَحَ فِي الْإِيجَابِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، أَوْ نَقُولَ (1) : الْوَاجِبُ مِنَ الْجُمْلَةِ (2) لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْمَعْصُومِ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي نُوَّابٍ (3) مُعَاوِيَةَ.

وَقَوْلُ الرَّافِضَةِ (4) مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى: إِنَّ الْإِلَهَ تَجَسَّدَ وَنَزَلَ، وَإِنَّهُ أَنْزَلَ ابْنَهُ لِيُصْلَبَ، وَيَكُونُ الصَّلْبُ مِغْفَرَةً لِذَنْبِ آدَمَ، لِيَدْفَعَ الشَّيْطَانَ بِذَلِكَ لَهُمْ.

فَقِيلَ لَهُمْ: إِذَا كَانَ قَتْلُهُ وَصَلْبُهُ وَتَكْذِيبُهُ مِنْ أَعْظَمِ الشَّرِّ وَالْمَعْصِيَةِ، فَيَكُونُ قَدْ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَ ذَنَبًا صَغِيرًا بِذَنْبٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُغَيِّرِ الشَّرَّ، بَلْ زَادَ عَلَى مَا كَانَ، فَكَيْفَ يَفْعَلُ شَيْئًا لِمَقْصُودٍ، وَالْحَاصِلُ إِنَّمَا هُوَ ضِدُّ الْمَقْصُودِ؟ ! .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مَدَنِيًّا بِالطَّبْعِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ نَصْبُ

(1) ن، م: أَنْ يُقْدَحَ فِي الْإِيجَابِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا أَوْ يَقُولُ.

(2)

م: الْحِكْمَةِ.

(3)

نُوَّابٍ: كَذَا فِي (ب)، وَفِي (ن) : ثَوَابٍ، وَالْكَلِمَةُ غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ فِي (م) .

(4)

ب: الرَّافِضِيُّ.

ص: 399

الْمَعْصُومِ لِيُزِيلَ الظُّلْمَ وَالشَّرَّ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَهَلْ تَقُولُونَ (1) ، إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَعْصُومٌ يَدْفَعُ ظُلْمَ النَّاسِ أَمْ لَا؟ .

فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ، كَانَ هَذَا مُكَابَرَةً ظَاهِرَةً. فَهَلْ فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مَعْصُومٌ؟ وَهَلْ كَانَ فِي الشَّامِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ مَعْصُومٌ؟ .

وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ نَقُولُ: هُوَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ وَاحِدٌ وَلَهُ نُوَّابٌ فِي سَائِرِ الْمَدَائِنِ.

قِيلَ: فَكُلُّ مَعْصُومٍ لَهُ نُوَّابٌ فِي جَمِيعِ مَدَائِنِ الْأَرْضِ أَمْ فِي بَعْضِهَا؟

فَإِنْ قُلْتُمْ: فِي الْجَمِيعِ كَانَ هَذَا مُكَابَرَةً، وَإِنْ قُلْتُمْ: فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ إِذَا كَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ، وَجَمِيعُ الْمَدَائِنِ حَاجَتُهُمْ إِلَى الْمَعْصُومِ وَاحِدَةً؟ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْمَعْصُومُ يَكُونُ وَحْدَهُ مَعْصُومًا؟ أَوْ كُلٌّ مِنْ نُوَّابِهِ مَعْصُومًا (2) ؟ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالثَّانِي، وَالْقَوْلُ بِهِ مُكَابَرَةٌ. فَإِنَّ نُوَّابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ، وَلَا نُوَّابَ عَلِيٍّ، بَلْ كَانَ فِي بَعْضِهِمْ مِنَ الشَّرِّ وَالْمَعْصِيَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي نُوَّابِ مُعَاوِيَةَ لِأَمِيرِهِمْ، فَأَيْنَ الْعِصْمَةُ؟

وَإِنْ قُلْتَ: يُشْتَرَطُ فِيهِ وَحْدَهُ.

قِيلَ: فَالْبِلَادُ الْغَائِبَةُ عَنِ الْإِمَامِ، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَعْصُومُ قَادِرًا عَلَى قَهْرِ نُوَّابِهِ بَلْ هُوَ عَاجِزٌ، مَاذَا يَنْتَفِعُونَ بِعِصْمَةِ الْإِمَامِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ

(1) ن: يَقُولُونَ، م: يَقُولُ (غَيْرَ مَنْقُوطَةٍ) .

(2)

ن، م: مَعْصُومٌ.

ص: 400

خَلْفَ غَيْرِ مَعْصُومٍ، وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَيُطِيعُونَ غَيْرَ مَعْصُومٍ (1) ، وَيَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ؟ .

فَإِنْ قِيلَ: الْأُمُورُ تَرْجِعُ إِلَى الْمَعْصُومِينَ.

قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمَعْصُومُ قَادِرًا ذَا سُلْطَانٍ، كَمَا كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ وَغَيْرُهُمْ، لَمْ يَتَمَكَّنْ أَنْ يُوصِلَ إِلَى كُلٍّ مِنْ رَعِيَّتِهِ (2) الْعَدْلَ الْوَاجِبَ الَّذِي يَعْلَمُهُ هُوَ. وَغَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَ أَفْضَلَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَجِدْ (3) إِلَّا عَاجِزًا أَوْ ظَالِمًا، كَيْفَ يُمْكِنُهُ تَوْلِيَةُ قَادِرٍ عَادِلٍ؟ (4) .

فَإِنْ قَالُوا: إِذَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ إِلَّا هَذَا سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ.

قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَ قَادِرًا عَادِلًا مُطْلَقًا، بَلْ أَوْجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا أَصْلَحَ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَقْصٌ: إِمَّا مِنْ قُدْرَتِهِ، وَإِمَّا مِنْ عَدْلِهِ.

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو جَلَدَ الْفَاجِرِ (5) وَعَجْزَ الثِّقَةِ "، وَمَا سَاسَ الْعَالَمَ أَحَدٌ مِثْلُ عُمَرَ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِغَيْرِهِ؟ .

هَذَا إِذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي نَفْسُهُ قَادِرًا عَادِلًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمَعْصُومُ عَاجِزًا؟ بَلْ كَيْفَ إِذَا كَانَ مَفْقُودًا؟ مَنِ الَّذِي يُوَصِّلُ الرَّعِيَّةَ إِلَيْهِ حَتَّى يُخْبِرُوهُ بِأَحْوَالِهِمْ؟ وَمَنِ الَّذِي يُلْزِمُهَا بِطَاعَتِهِ حَتَّى تُطِيعَهُ؟ وَإِذَا أَظْهَرَ بَعْضُ نُوَّابِهِ

(1) ن، م: وَيُطِيعُونَ غَيْرَ مَعْصُومٍ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ.

(2)

ن: رَعِيَّةٍ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(3)

ن: لَمْ يَجُزْ.

(4)

ب: قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(5)

ب: الْعَاجِزِ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَالْكَلِمَةُ غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ فِي (م) .

ص: 401

طَاعَتَهُ حَتَّى يُوَلِّيَهُ، ثُمَّ أَخَذَ مَا شَاءَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَسَكَنَ فِي مَدَائِنِ الْمُلُوكِ، فَأَيُّ حِيلَةٍ لِلْمَعْصُومِ فِيهِ؟

فَعُلِمَ أَنَّ الْمَعْصُومَ الْوَاحِدَ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، إِذَا كَانَ ذَا سُلْطَانٍ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ عَاجِزًا مَقْهُورًا؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَفْقُودًا غَائِبًا لَا يُمْكِنُهُ مُخَاطَبَةُ أَحَدٍ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَعْدُومًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؟

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: صَدُّ غَيْرِهِ عَنِ الظُّلْمِ، وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِ مِنْهُ، وَإِيصَالُ حَقِّ غَيْرِهِ إِلَيْهِ فَرْعٌ عَلَى مَنْعِ ظُلْمِهِ، وَاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ. فَإِذَا كَانَ عَاجِزًا مَقْهُورًا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ وِلَايَةٍ وَمَالٍ، لَا حَقَّ امْرَأَتِهِ مِنْ مِيرَاثِهَا، فَأَيُّ ظُلْمٍ يَدْفَعُ؟ وَأَيُّ حَقٍّ يُوَصِّلُ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَعْدُومًا أَوْ خَائِفًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَظْهَرَ فِي قَرْيَةٍ أَوْ مَدِينَةٍ خَوْفًا مِنَ الظَّالِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَهُوَ دَائِمًا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً (1) ، وَالْأَرْضُ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَ بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَدْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ الْخَلْقِ، أَوْ يُوَصِّلَ الْحَقَّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ؟ وَمَا أَخْلَقَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 44] .

الْوَجْهُ الثَّامِنِ (2) : أَنْ يُقَالَ: النَّاسُ فِي بَابِ مَا يُقَبَّحُ (3) مِنَ اللَّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.

مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الظُّلْمُ مُمْتَنِعٌ مِنْهُ، وَفِعْلُ الْقَبِيحِ مُسْتَحِيلٌ، وَمَهْمَا

(1) ن، م: سَنَةً عَلَى هَذِهِ الْحَالِ.

(2)

م: السَّابِعُ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(3)

ن، م: مَا يَقَعُ.

ص: 402

فَعَلَهُ كَانَ حَسَنًا. فَهَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُقَالَ: يَحْسُنُ مِنْهُ كَذَا، فَضْلًا عَنِ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 54] .

وَيَحْرُمُ الظُّلْمُ بِتَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ فِي الصَّحِيحِ:«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» (1)، وَيَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِالْعَقْلِ. وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ظُلْمٌ، وَلَمْ يُخِلَّ بِوَاجِبٍ، فَقَدْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لَمْ يَخْلُقْ مَا تَحْصُلُ بِهِ هَذِهِ الْمَصَالِحُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْمَعْصُومِ.

فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَصَالِحُ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ خَلْقِهِ، وَهِيَ لَمْ تَحْصُلْ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ خَلْقُهُ وَاجِبًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِهِ وَخَلْقِ أُمُورٍ أُخْرَى، حَتَّى يَحْصُلَ بِالْمَجْمُوعِ الْمَطْلُوبُ، فَهُوَ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ، سَوَاءٌ كَانَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَخْلُقْ بَعْضَهُ.

وَالْإِخْلَالُ بِالْوَاجِبِ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَلَزِمَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ خَلْقُ الْمُوجِبِ لِهَذِهِ الْمَطَالِبِ؛ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْلُقَ مَعْصُومًا لَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَخْلُقَهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا. فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ وُجُودِهِ بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.

وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْصُلُ بِخَلْقِهِ وَبِطَاعَةِ الْمُكَلَّفِينَ لَهُ.

(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/136

ص: 403

قِيلَ: إِنْ كَانَتْ طَاعَةُ الْمُكَلَّفِينَ مَقْدُورَةً لِلَّهِ، وَلَمْ يَخْلُقْهَا، فَلَمْ يَخْلُقِ الْمَصْلَحَةَ الْمَطْلُوبَةَ بِالْمَعْصُومِ، فَلَا تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْدُورَةً امْتَنَعَ الْوُجُوبُ بِدُونِهَا فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ، فَكَيْفَ فِي حَقِّ اللَّهِ؟

وَمَا لَا يَتِمُّ الْوُجُوبُ إِلَّا بِهِ [وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ] فَلَيْسَ [الْأَمْرُ حِينَئِذٍ] بِوَاجِبٍ (1) .

أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةٍ لَا تَحْصُلُ بِدُونِ فِعْلِ غَيْرِهِ، إِلَّا إِذَا أَعَانَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ؟ كَالْجُمْعَةِ الَّتِي لَا تَجِبُ إِلَّا خَلْفَ إِمَامٍ أَوْ مَعَ عَدَدٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْإِمَامُ وَسَائِرُ الْعَدَدِ. وَالْحَجُّ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السَّفَرُ إِلَيْهِ إِلَّا مَعَ رُفْقَةٍ يَأْمَنُ مَعَهُمْ، أَوْ مَعَ مَنْ يُكْرِيهِ دَابَّتَهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَنْ يَفْعَلُ (2) مَعَهُ ذَلِكَ.

وَدَفْعُ الظُّلْمِ عَنِ الْمَظْلُومِ، إِذَا لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا بِأَعْوَانٍ لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ لَا أَعْوَانَ لَهُ.

فَإِذَا قَالُوا: إِنَّ الرَّبَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ لِعِبَادِهِ، الْحَاصِلَةِ بِخَلْقِ الْمَعْصُومِ، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِوُجُودِ مَنْ يُطِيعُهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ يُطِيعُونَهُ، لَمْ يَكُنْ خَلْقُ الْمَعْصُومِ وَاجِبًا عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ وُجُوبِ مَا لَا يَحْصُلُ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَعَدَمِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ بِالْمَعْصُومِ وَحْدَهُ (3) .

وَإِنْ قِيلَ: يَخْلُقُهُ لَعَلَّ بَعْضَ النَّاسِ يُطِيعُهُ.

قِيلَ: أَوَّلًا: هَذَا مُمْتَنِعٌ مِمَّنْ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ.

(1) فِي جَمِيعِ النُّسَخِ: وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَعَلَّ مَا زِدْتُهُ بَيْنَ مَعْقُوفَتَيْنِ يُوَضِّحُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الَّذِي يَشْرَحُهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الْكَلَامِ التَّالِي بَعْدَ ذَلِكَ.

(2)

ب: مِنْ فِعْلِهِ.

(3)

وَحْدَهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

ص: 404

وَقِيلَ: ثَانِيًا: إِذَا كَانَ شَرْطُ الْمَطْلُوبِ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ، وَهُوَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَوْ غَالِبِهَا أَوْ جَمِيعِهَا لَا يَحْصُلُ، أَمْكَنَ أَنْ يَخْلُقَ غَيْرَ الْمَعْصُومِ، يَكُونُ عَادِلًا فِي كَثِيرٍ مِنَ (* الْأَوْقَاتِ أَوْ بَعْضِهَا، فَإِنَّ حُصُولَ الْمَقْصُودِ مِمَّنْ (1) يَعْدِلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ (2)(3) الْأُمُورِ، وَيَظْلِمُ فِي بَعْضِهَا إِذَا كَانَتْ مَصْلَحَةُ وُجُودِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَفْسَدَتِهِ، خَيْرٌ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَعْدِلَ بِحَالٍ، وَلَا يَدْفَعَ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ هَذَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ بِحَالٍ.

وَإِنْ قَالُوا: الرَّبُّ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِ الْمَعْصُومِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فَوَّتُوا الْمَصْلَحَةَ بِمَعْصِيَتِهِمْ لَهُ.

قِيلَ: أَوَّلًا: إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُعَاوِنُونَهُ حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصْلَحَةُ، بَلْ يَعْصُونَهُ فَيُعَذَّبُونَ، لَمْ يَكُنْ خَلْقُهُ وَاجِبًا، بَلْ وَلَا حِكْمَةَ عَلَى قَوْلِهِمْ.

وَيُقَالُ: ثَانِيًا: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ عَصَاهُ، بَلْ بَعْضُ النَّاسِ عَصَوْهُ وَمَنَعُوهُ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تُؤْثِرُ طَاعَتَهُ وَمَعْرِفَةَ مَا يَقُولُهُ. فَكَيْفَ لَا يُمَكَّنُ هَؤُلَاءِ مِنْ طَاعَتِهِ؟

فَإِذَا قِيلَ: أُولَئِكَ الظَّلَمَةُ مَنَعُوا هَؤُلَاءِ.

قِيلَ: فَإِنْ كَانَ الرَّبُّ قَادِرًا عَلَى مَنْعِ الظَّلَمَةِ، فَهَلَّا مَنَعَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ؟ .

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْدُورًا، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حُصُولَ الْمَصْلَحَةِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ فَلَا يَفْعَلُهُ، فَلِمَ قُلْتُمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: إِنَّهُ يُمْكِنُ خَلْقُ مَعْصُومٍ غَيْرِ نَبِيٍّ؟

(1) ن: بِمَنْ.

(2)

مِنْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م) . *)

(3)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) .

ص: 405

وَهَذَا لَازِمٌ لَهُمْ ; فَإِنَّهُمْ إِنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، أَمْكَنَهُ صَرْفُ دَوَاعِي الظُّلْمَةِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنْ طَاعَتِهِ.

وَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.

قِيلَ: فَالْعِصْمَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِأَنْ يُرِيدَ الْفَاعِلُ الْحَسَنَاتِ وَلَا يُرِيدُ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ إِرَادَةَ أَحَدٍ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى جَعْلِهِ مَعْصُومًا.

وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى إِبْطَالِ خَلْقِ أَحَدٍ مَعْصُومًا، عَلَى قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ ; فَإِنَّ الْعِصْمَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُرِيدًا لِلْحَسَنَاتِ، غَيْرَ مُرِيدٍ لِلسَّيِّئَاتِ. فَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِلْإِرَادَةِ (1) ، وَاللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْدَاثِ إِرَادَةِ أَحَدٍ، امْتَنَعَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدًا مَعْصُومًا.

وَإِذَا قَالُوا: يَخْلُقُ مَا تَمِيلُ بِهِ إِرَادَتُهُ إِلَى الْخَيْرِ.

قِيلَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُلْجِئًا، زَالَ التَّكْلِيفُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلْجِئًا لَمْ يَنْفَعْ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَقْدُورًا عِنْدَكُمْ، فَهَلَّا فَعَلَهُ بِجَمِيعِ الْعِبَادِ؟ فَإِنَّهُ أَصْلَحُ لَهُمْ، إِذَا أَوْجَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ الْأَصْلَحَ بِكُلِّ عَبْدٍ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الثَّوَابَ عِنْدَكُمْ، كَمَا لَا يَمْنَعُهُ فِي حَقِّ الْمَعْصُومِ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ (2) : أَنْ يُقَالَ: حَاجَةُ الْإِنْسَانِ إِلَى تَدْبِيرِ بَدَنِهِ بِنَفْسِهِ، أَعْظَمُ مِنْ حَاجَةِ الْمَدِينَةِ إِلَى رَئِيسِهَا. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ نَفْسَ الْإِنْسَانِ مَعْصُومَةً، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُقَ رَئِيسًا مَعْصُومًا؟

مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْفُرَ بِبَاطِنِهِ، وَيَعْصِيَ بِبَاطِنِهِ، وَيَنْفَرِدَ بِأُمُورٍ

(1) ن، م: الْمُحْدِثُ لِلْإِرَادَةِ بَيِّنٌ.

(2)

م: الثَّامِنُ.

ص: 406

كَثِيرَةٍ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَالْمَعْصُومُ لَا يَعْلَمُهَا، وَإِنْ عَلِمَهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَتِهَا، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ هَذَا (1) فَكَيْفَ يَجِبُ (2) ذَاكَ؟ .

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ (3) أَنْ يُقَالَ: الْمَطْلُوبُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَكُونَ الصَّلَاحُ بِهِمْ أَكْثَرَ مِنَ الْفَسَادِ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَعَهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْمَصْلَحَةِ وَأَبْعَدَ عَنِ الْمَفْسَدَةِ، مِمَّا لَوْ عُدِمُوا وَلَمْ يُقَمْ مَقَامُهُمْ؟ أَمِ الْمَقْصُودُ بِهِمْ وُجُودُ صَلَاحٍ لَا فَسَادَ مَعَهُ؟ أَمْ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الصَّلَاحِ؟ .

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ لِغَالِبِ وُلَاةِ الْأُمُورِ. وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، أَعْظَمَ مِمَّا حَصَلَ عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ. وَهُوَ حَاصِلٌ بِخُلَفَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ، أَعْظَمُ مِمَّا هُوَ حَاصِلٌ بِالِاثْنَيْ عَشَرَ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِمُلُوكِ التُّرْكِ وَالْهِنْدِ، أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ حَاصِلٌ بِالْمُنْتَظَرِ الْمُلَقَّبِ صَاحِبِ الزَّمَانِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَمِيرٍ يَتَوَلَّى ثُمَّ يُقَدَّرُ عَدَمُهُ بِلَا نَظِيرٍ، إِلَّا كَانَ الْفَسَادُ فِي عَدَمِهِ أَعْظَمَ مِنَ الْفَسَادِ فِي وُجُودِهِ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الصَّلَاحُ فِي غَيْرِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، كَمَا قَدْ قِيلَ: " سِتُّونَ سَنَةً مَعَ (4) إِمَامٍ جَائِرٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا إِمَامٍ.

وَإِنْ قِيلَ: بَلِ الْمَطْلُوبُ وُجُودُ صَلَاحٍ لَا فَسَادَ مَعَهُ.

قِيلَ: فَهَذَا لَمْ يَقَعْ، وَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ ذَلِكَ، وَلَا خَلَقَ أَسْبَابًا تُوجِبُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ. فَمَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ، وَأَوْجَبَ مَلْزُومَاتِهِ عَلَى اللَّهِ، كَانَ إِمَّا مُكَابِرًا لِعَقْلِهِ، وَإِمَّا ذَامًّا لِرَبِّهِ. وَخَلْقُ مَا يُمْكِنُ مَعَهُ وُجُودُ ذَلِكَ، لَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَخْلُقْ مَا يَكُونُ بِهِ ذَلِكَ.

(1) ب: فَلَمْ يَجِبْ هَذَا.

(2)

يَجِبُ: سَاقِطَةٌ مِنَ (م) .

(3)

م: التَّاسِعُ.

(4)

ن، م: مِنْ.

ص: 407

وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ، لَكِنَّ الْقَوْلَ فِي الْمَعْصُومِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابٍ خَارِجَةٍ عَنْ قُدْرَتِهِ، بَلْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مُعْتَزِلَةٌ رَافِضَةٌ، فَإِيجَابُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ أَفْسَدُ مِنْ إِيجَابِ خَلْقِ مَصْلَحَةِ كُلِّ عَبْدٍ لَهُ.

الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ (1) : أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: " لَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ مَعْصُومًا لَافْتَقَرَ إِلَى إِمَامٍ آخَرَ ; لَأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُحْوِجَةَ إِلَى الْإِمَامِ هِيَ جَوَازُ الْخَطَأِ عَلَى الْأُمَّةِ، فَلَوْ جَازَ الْخَطَأُ عَلَيْهِ لَاحْتَاجَ إِلَى إِمَامٍ آخَرَ ".

فَيُقَالُ لَهُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَخْطَأَ الْإِمَامُ كَانَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُنَبِّهُهُ عَلَى الْخَطَأِ، بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ اتِّفَاقُ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْخَطَأِ، لَكِنْ إِذَا أَخْطَأَ بَعْضُ الْأُمَّةِ، نَبَّهَهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ نَبَّهَهُ آخَرُ كَذَلِكَ، وَتَكُونُ الْعِصْمَةُ ثَابِتَةً لِلْمَجْمُوعِ، لَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ؟

وَهَذَا كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ خَبَرِ التَّوَاتُرِ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، وَرُبَّمَا جَازَ عَلَيْهِ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ (2) ، لَكِنَّ الْمَجْمُوعَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ. (* وَكَذَلِكَ النَّاظِرُونَ إِلَى الْهِلَالِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ، قَدْ يَجُوزُ الْغَلَطُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ *)(3) . وَكَذَلِكَ النَّاظِرُونَ فِي الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ، وَيَجُوزُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمُ الْغَلَطُ فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا كَثُرَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ امْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ غَلَطُهُمْ.

(1) م: الْوَجْهُ الْعَاشِرُ.

(2)

ب: الْخَطَأُ.

(3)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) .

ص: 408

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِصْمَةِ لِقَوْمٍ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالْوُجُودِ مِنْ ثُبُوتِهَا لِوَاحِدٍ. فَإِنْ كَانَتِ الْعِصْمَةُ لَا تُمْكِنُ لِلْعَدَدِ الْكَثِيرِ، فِي حَالِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ، فَأَنْ لَا تُمْكِنَ لِلْوَاحِدِ أَوْلَى وَإِنْ أَمْكَنَتْ لِلْوَاحِدِ مُفْرَدًا ; فَلَأَنْ تُمْكِنَ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مُجْتَمِعِينَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.

فَعُلِمَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْعِصْمَةِ لِلْمَجْمُوعِ أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِهَا لِلْوَاحِدِ، وَبِهَذِهِ الْعِصْمَةِ (1) يَحْصُلُ (2) الْمَقْصُودُ الْمَطْلُوبُ مِنْ عِصْمَةِ الْإِمَامِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ عِصْمَةُ الْإِمَامِ.

وَمَنْ جَهْلِ الرَّافِضَةِ إِنَّهُمْ يُوجِبُونَ عِصْمَةَ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُجَوِّزُونَ عَلَى مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ الْخَطَأَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَاحِدٌ مَعْصُومٌ. وَالْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ يَشْهَدُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْكَثِيرِينَ، مَعَ اخْتِلَافِ اجْتِهَادَاتِهِمْ، إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ كَانَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، فَحُصُولُهُ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَوْلَى.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ شَرِيكُ النَّاسِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، إِذْ كَانَ (3) هُوَ وَحْدَهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِكَ هُوَ وَهُمْ فِيهَا، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ، وَيَسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ، وَلَا يُوَفِّيهَا (4) ، وَلَا يُجَاهِدُ عَدُوًّا إِلَّا أَنْ يُعِينُوهُ، بَلْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً إِنْ لَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ، وَلَا يُمْكِنْ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ إِلَّا بِقُوَاهُمْ وَإِرَادَتِهِمْ. فَإِذَا كَانُوا مُشَارِكِينَ

(1) سَاقِطٌ مِنْ (ب) .

(2)

ن: يَجْعَلُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(3)

ن، م: إِذَا كَانَ.

(4)

م: وَيُوَفِّيهَا.

ص: 409

لَهُ فِي الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةِ، لَا يَنْفَرِدُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ (1) الْعِلْمُ وَالرَّأْيُ لَا يَجِبُ أَنْ [يَنْفَرِدَ بِهِ بَلْ] يُشَارِكُهُمْ فِيهِ (2) ، فَيُعَاوِنُهُمْ وَيُعَاوِنُونَهُ، وَكَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعْجَزُ إِلَّا بِمُعَاوَنَتِهِمْ (3) ، فَكَذَلِكَ عِلْمُهُ يَعْجَزُ إِلَّا بِمُعَاوَنَتِهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ (4) : أَنْ يُقَالَ: الْعِلْمُ الدِّينِيُّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَالْأُمَّةُ نَوْعَانِ: عِلْمٌ كُلِّيٌّ، كَإِيجَابِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعِلْمٌ جُزْئِيٌّ، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى هَذَا، وَوُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى هَذَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَالشَّرِيعَةُ مُسْتَقِلَّةٌ بِهِ، لَا تَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِمَامِ. فَإِنَّ (5) النَّبِيُّ (6) إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ عَلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، أَوْ تَرَكَ مِنْهَا (7) مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقِيَاسِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ثَبَتَ الْمَقْصُودُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَذَلِكَ الْقَدْرُ يَحْصُلُ بِالْقِيَاسِ.

وَإِنْ قِيلَ: بَلْ تَرَكَ فِيهَا مَا لَا يُعْلَمُ بِنَصِّهِ وَلَا بِالْقِيَاسِ، (8) بَلْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمَعْصُومِ، كَانَ هَذَا الْمَعْصُومُ شَرِيكًا فِي النُّبُوَّةِ لَمْ يَكُنْ نَائِبًا (9) ; فَإِنَّهُ إِذَا

(1) ن: وَكَذَلِكَ.

(2)

ن: وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالرَّأْيُ لَا يَجِبُ أَنْ يُشَارِكَهُمْ، ب: فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالرَّأْيُ يَجِبُ أَنْ يُشَارِكَهُمْ، وَالْمُثْبَتُ مِنْ (م) .

(3)

ن: بِمُعَاوَنَتِهِ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(4)

م: الْحَادِي عَشَرَ.

(5)

ن: فَأَمَّا.

(6)

م: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

(7)

ن، م: فِيهَا.

(8)

سَاقِطٌ مِنْ (ب) .

(9)

ن، ب: ثَابِتًا.

ص: 410

كَانَ يُوجِبُ وَيُحَرِّمُ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ إِلَى نُصُوصِ النَّبِيِّ، كَانَ مُسْتَقِلًّا، لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لَهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا نَبِيًّا، فَأَمَّا مَنْ لَا يَكُونُ إِلَّا خَلِيفَةً لِنَبِيٍّ، فَلَا يَسْتَقِلُّ دُونَهُ.

وَأَيْضًا فَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ حُجَّةً جَازَ إِحَالَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً وَجَبَ أَنْ يَنُصَّ النَّبِيُّ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ.

وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 3] .

وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الدِّينَ كَامِلٌ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ.

وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: النُّصُوصُ قَدِ انْتَظَمَتْ جَمِيعَ (1) كُلِّيَّاتٍ الشَّرِيعَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقِيَاسِ، بَلْ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْحَوَادِثِ لَا يَتَنَاوَلُهَا النُّصُوصُ، فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى الْقِيَاسِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَدْ يَدَّعِي أَنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ كَذَلِكَ، وَهَذَا سَرَفٌ مِنْهُمْ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلِ النُّصُوصُ تَنَاوَلَتِ الْحَوَادِثَ بِطُرُقٍ جَلِيَّةٍ أَوْ خَفِيَّةٍ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ (2) ، أَوْ لَا يَبْلُغُهُ النَّصُّ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَوَادِثُ قَدْ تَنَاوَلَهَا النَّصُّ. أَوْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ وَالْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ حُجَّةٌ وَطَرِيقٌ يَسْلُكُ السَّالِكُ

(1) م: انْتَظَمَتْ جَمْعَ، ب: انْتَظَمَتْ فِي جَمِيعٍ.

(2)

ن، م: الدَّلَالَةَ.

ص: 411

[إِلَيْهِ] مَا أَمْكَنَهُ (1) ، وَهُمَا مُتَّفِقَانِ لَا يَتَنَاقَضَانِ إِلَّا لِفَسَادِ أَحَدِهِمَا. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا الْجُزْئِيَّاتُ فَهَذِهِ لَا يُمْكِنُ النَّصُّ عَلَى أَعْيَانِهَا، بَلْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ الْمُسَمَّى بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، كَمَا أَنَّ الشَّارِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنُصَّ لِكُلِّ مُصَلٍّ عَلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي حَقِّهِ، وَلِكُلِّ حَاكِمٍ عَلَى عَدَالَةِ كُلِّ شَاهِدٍ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنِ ادَّعَوْا عِصْمَةَ الْإِمَامِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، فَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ، وَلَا يَدَّعِيهَا أَحَدٌ، فَإِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ يُوَلِّي مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ خِيَانَتُهُ وَعَجْزُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَطَعَ رَجُلًا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ قَالَا: أَخْطَأْنَا. فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا.

وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» (2) .

وَقَدِ ادَّعَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ عَلَى نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ، يُقَالُ لَهُمْ:

(1) ن: يَسَلُكُ السَّالِكُ أَيْنَمَا أَمْكَنَهُ ; م: سَلَكَ السَّالِكُ أَيَّهُمَا أَمْكَنَهُ.

(2)

الْحَدِيثُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فِي: الْبُخَارِيِّ 3/180 كِتَابُ الشَّهَادَاتِ، بَابُ مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ. 9/25 كِتَابُ تَرْكِ الْحِيَلِ، بَابُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، 9/69 كِتَابُ الْأَحْكَامِ، بَابُ مَوْعِظَةِ الْإِمَامِ لِلْخُصُومِ، مُسْلِمٍ 3/1337 - 1338 كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ، بَابُ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَاللَّحْنِ بِالْحُجَّةِ، سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 3/410 كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ، بَابٌ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي إِذَا أَخْطَأَ، الْمُسْنَدِ ط. الْحَلَبِيِّ 3/320 وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَه وَالْمُوَطَّأِ وَمَوَاضِعَ أُخْرَى فِي الْمُسْنَدِ.

ص: 412

بَنُو أُبَيْرِقٍ، أَنَّهُمْ سَرَقُوا لَهُمْ طَعَامًا وَدُرُوعًا، فَجَاءَ قَوْمٌ فَبَرَّأُوا أُولَئِكَ الْمُتَّهَمِينَ، فَظَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صِدْقَ أُولَئِكَ الْمُبَرِّئِينَ لَهُمْ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ (1) :{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} * {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} * {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} الْآيَاتِ [سُورَةُ النِّسَاءِ: 105 - 107](2) .

وَبِالْجُمْلَةِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ: كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ، وَجُزْئِيَّةٌ خَاصَّةٌ. فَأَمَّا الْجُزْئِيَّاتُ الْخَاصَّةُ، كَالْجُزْئِيِّ الَّذِي يَمْنَعُ تَصَوُّرَهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، مِثْلُ مِيرَاثِ هَذَا الْمَيِّتِ، وَعَدْلِ هَذَا الشَّاهِدِ، وَنَفَقَةِ هَذِهِ الزَّوْجَةِ، وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَذَا الزَّوْجِ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى هَذَا الْمُفْسِدِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

فَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ لَا نَبِيًّا وَلَا إِمَامًا وَلَا أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَنُصَّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ بَنِي آدَمَ وَأَعْيَانَهُمْ يَعْجَزُ عَنْ مَعْرِفَةِ أَعْيَانِهَا الْجُزْئِيَّةِ عِلْمُ وَاحِدٍ مِنَ الْبَشَرِ وَعِبَارَتِهِ، لَا يُمْكِنُ بَشَرٌ (3) أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِخِطَابِ اللَّهِ لَهُ، وَإِنَّمَا الْغَايَةُ الْمُمْكِنَةُ ذِكْرُ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ.

كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ» "(4) . فَالْإِمَامُ لَا

(1) عَلَيْهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

(2)

انْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ كَثِيرٍ لِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَانْظُرْ عُمْدَةَ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ 3/264 - 265.

(3)

ب: بَشَرًا.

(4)

الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي الْبُخَارِيِّ 4/54 كِتَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَنَصُّهُ: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا. وَالْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ فِي الْبُخَارِيِّ 9/36 - 37 كِتَابُ التَّعْبِيرِ بَابُ الْمَفَاتِيحِ فِي الْيَدِ، 9/91 - 92 كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، مُسْلِمٍ 1/371 - 372 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، أَوَّلُ الْكِتَابِ، سُنَنِ النَّسَائِيِّ 6/3 - 4 كِتَابُ الْجِهَادِ، أَوَّلُ الْكِتَابِ، الْمُسْنَدِ ط. الْمَعَارِفِ 14/20 - 53، وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا: أَيْ تَسْتَخْرِجُونَهَا، وَالضَّمِيرُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْأَمْوَالُ وَمَا فُتِحَ عَلَيْهِمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا.

ص: 413

يُمْكِنُهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِجَمِيعِ رَعِيَّتِهِ إِلَّا بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ (1) . وَكَذَلِكَ إِذَا وَلَّى نَائِبًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْهَدَ إِلَيْهِ إِلَّا بِقَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ عَامَّةٍ، ثُمَّ النَّظَرُ فِي دُخُولِ الْأَعْيَانِ تَحْتَ تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ، أَوْ دُخُولِ نَوْعٍ خَاصٍّ تَحْتَ أَعَمَّ مِنْهُ، لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَظَرِ الْمُتَوَلِّي وَاجْتِهَادِهِ، وَقَدْ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى.

فَإِنِ اشْتَرَطَ عِصْمَةَ (* كُلِّ وَاحِدٍ اشْتَرَطَ (2) عِصْمَةَ *) (3) النُّوَّابِ فِي تِلْكَ الْأَعْيَانِ، وَهَذَا (4) مُنْتَفٍ (5) بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ. وَإِنِ اكْتَفَى (6) بِالْكُلِّيَّاتِ، فَالنَّبِيُّ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنُصَّ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ، كَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم، إِذْ ذَكَرَ مَا يُحَرَّمُ مِنَ النِّسَاءِ وَمَا يَحِلُّ، فَجَمِيعُ أَقَارِبِ الرَّجُلِ مِنَ النِّسَاءِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، إِلَّا بَنَاتِ عَمِّهِ، وَبَنَاتِ عَمَّاتِهِ، وَبَنَاتِ خَالِهِ، وَبَنَاتِ خَالَاتِهِ، كَمَا ذُكِرَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعُ فِي " سُورَةِ الْأَحْزَابِ ".

وَكَذَلِكَ فِي الْأَشْرِبَةِ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ (7) دُونَ مَا لَا يُسْكِرُ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

بَلْ قَدْ حَصَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ

(1) ن، م: الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ.

(2)

م: يُشْتَرَطُ.

(3)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) .

(4)

ب: فَهَذَا.

(5)

م: مُتَّفَقٌ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(6)

ن، م: وَإِنَّ النَّفْيَ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(7)

ب: حَرَّمَ مَا يُسْكِرُ.

ص: 414

مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 33] . فَكُلُّ مَا حُرِّمَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا عَامًّا لَا يُبَاحُ فِي حَالٍ فَيُبَاحُ فِي أُخْرَى، كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.

وَجَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 29] الْآيَةَ، فَالْوَاجِبُ كُلُّهُ مَحْصُورٌ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ.

وَحَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحُقُوقُ عِبَادِهِ الْعَدْلُ. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ:«كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ، أَتُدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " حَقُّهُمْ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ» (1) .

ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَصَّلَ أَنْوَاعَ الْفَوَاحِشِ وَالْبَغْيَ، وَأَنْوَاعَ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ (2) . فَفَصَّلَ الْمَوَارِيثَ، وَبَيَّنَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَمَا يَسْتَحِقُّ الْوَارِثُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ. وَبَيَّنَ مَا يَحِلُّ مِنَ الْمَنَاكِحِ وَمَا يَحْرُمُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى نُصُوصٍ كُلِّيَّةٍ تَتَنَاوَلُ الْأَنْوَاعَ، فَالرَّسُولُ أَحَقُّ بِهَذَا مِنَ الْإِمَامِ. وَإِنْ قِيلَ: لَا يُمْكِنُ، فَالْإِمَامُ أَعْجَزُ عَنْ هَذَا مِنَ الرَّسُولِ.

(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 3/57 - 58

(2)

ن: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

ص: 415

وَالْمُحَرَّمَاتُ (1) الْمُعَيَّنَةُ لَا سَبِيلَ إِلَى النَّصِّ عَلَيْهَا، لَا لِرَسُولِ اللَّهِ وَلَا إِمَامٍ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدُ فِيهَا يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى.

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " (2) .

وَكَمَا قَالَ لِسَعْدِ (3) بْنِ مُعَاذٍ - وَكَانَ حَكَمًا فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يُؤْمَرُ فِيهَا الْحَاكِمُ أَنْ يَخْتَارَ الْأَصْلَحَ - فَلَمَّا حَكَمَ بِقَتْلِ الْمُقَاتِلَةِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» (4) .

وَكَمَا كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُرْسِلُهُ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ: «إِذَا حَاصَرَتْ أَهْلَ الْحِصْنِ فَسَأَلُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ وَحُكْمِ أَصْحَابِكَ» (5) . وَالْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ.

فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي عِصْمَةِ الْإِمَامِ إِلَّا وَهِيَ حَاصِلَةٌ بِعِصْمَةِ الرَّسُولِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَالْوَاقِعُ يُوَافِقُ هَذَا. وَإِنَّا رَأَيْنَا كُلَّ مَنْ كَانَ إِلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ أَقْرَبَ، كَانَتْ مَصْلَحَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ أَكْمَلَ، وَكُلَّ مَنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ بِالْعَكْسِ.

وَلَمَّا كَانَتِ الشِّيعَةُ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْمَعْصُومِ، الَّذِي لَا رَيْبَ فِي

(1) ن: وَالْحُرُمَاتُ.

(2)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/422

(3)

ن، ب: سَعْدُ

(4)

سَبَقَ الْحَدِيثُ 4/332

(5)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/423 - 424

ص: 416

عِصْمَتِهِ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الَّذِي أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، الَّذِي أَخْرَجَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَهَدَاهُمْ بِهِ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَجَعَلَهُ الْقَاسِمَ الَّذِي قَسَّمَ بِهِ عِبَادَهُ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، فَأَهْلُ السَّعَادَةِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَأَهْلُ الشَّقَاوَةِ مَنْ كَذَّبَ بِهِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَتِهِ.

فَالشِّيعَةُ الْقَائِلُونَ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَنَحْوُهُمْ، مِنْ أَبْعَدِ الطَّوَائِفِ عَنِ اتِّبَاعِ هَذَا الْمَعْصُومِ، فَلَا جَرَمَ تَجِدُهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، حَتَّى يُوجَدَ مِمَّنْ (1) هُوَ تَحْتَ سِيَاسَةِ أَظْلَمِ الْمُلُوكِ وَأَضَلِّهِمْ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْهُمْ، وَلَا يَكُونُونَ (2) فِي خَيْرٍ إِلَّا تَحْتَ سِيَاسَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ.

وَلِهَذَا كَانُوا يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا هَذَا: أَنَّهُ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ، فَلَا يَعِيشُونَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِأَنْ يَتَمَسَّكُوا بِحَبَلِ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ، الَّذِي لَيْسَ بِمَعْصُومٍ.

وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ نِسْبَةٍ إِلَى الْإِسْلَامِ يُظْهِرُونَ بِهَا خِلَافَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَشْهَدُ لَهُ مَا يُرِينَا اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِنَا. قَالَ تَعَالَى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [سُورَةُ فُصِّلَتْ: 53] .

(1) ن: حَتَّى يُوجَدَ مِنْ، م: حَتَّى لَوْ وَجَدَ مِنْ.

(2)

ن، ب: وَلَا يَكُونُ.

ص: 417

وَمِمَّا أَرَانَا أَنْ رَأَيْنَا (1) آثَارَ (2) سَبِيلِ الْمُتَّبِعِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَعْصُومِ، أَصْلَحَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ مِنْ سَبِيلِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ بِزَعْمِهِمْ. وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلرَّسُولِ، فَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ كُلُّ مَنِ اسْتَقْرَأَهُ فِي الْعَالَمِ وَجَدَهُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي الثِّقَاتُ الَّذِينَ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِالْبِلَادِ الَّذِينَ خَبَرُوا حَالَ أَهْلِهَا بِمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحِجَازِ وَسَوَاحِلِ الشَّامِ مِنَ الرَّافِضَةِ مَنْ يَنْتَحِلُونَ الْمَعْصُومَ. وَقَدْ رَأَيْنَا حَالَ مَنْ كَانَ بِسَوَاحِلِ الشَّامِ، مِثْلِ جَبَلِ كَسْرُوانَ وَغَيْرِهِ، وَبَلَغَنَا أَخْبَارُ غَيْرِهِمْ، فَمَا رَأَيْنَا فِي الْعَالَمِ طَائِفَةً أَسْوَأَ مِنْ حَالِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَرَأَيْنَا الَّذِينَ هُمْ تَحْتَ سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَيْرًا مِنْ حَالِهِمْ.

فَمَنْ كَانَ تَحْتَ سِيَاسَةِ مُلُوكِ الْكُفَّارِ حَالُهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَحْسَنُ مِنْ أَحْوَالِ مَلَاحِدَتِهِمْ، كَالنُّصَيْرِيَّةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْغُلَاةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِلَهِيَّةَ وَالنُّبُوَّةَ فِي غَيْرِ الرَّسُولِ، أَوْ يَتَخَلَّوْنَ (3) عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَيَعْتَقِدُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ، كَالْإِمَامِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ.

فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَحْتَ سِيَاسَةِ مُلُوكِ السُّنَّةِ، وَلَوْ أَنَّ الْمَلِكَ كَانَ أَظْلَمَ الْمُلُوكِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، حَالُهُ خَيْرٌ مِنْ حَالِهِمْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَشْتَرِكُ

(1) ن: وَمِمَّا رَآنَا أَنَّا رَأَيْنَا، وَمِمَّا أَرَانَا أَنْ أَرَانَا.

(2)

آثَارٌ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م) .

(3)

ب: أَوْ يَنْحَلُونَ، وَالْكَلِمَةُ غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ فِي (ن) ، (م) ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ مَا أَثْبَتُّهُ.

ص: 418

فِيهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَيَمْتَازُونَ بِهِ عَنِ (* الرَّافِضَةِ، تَقُومُ (1) بِهِ مَصَالِحُ الْمُدُنِ وَأَهْلِهَا عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الرَّافِضَةُ وَيَمْتَازُونَ بِهِ عَنْ *) (2) أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَا تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَةُ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا قَرْيَةٍ، وَلَا تَجِدُ (3) أَهْلَ مَدِينَةٍ وَلَا قَرْيَةٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الرَّفْضُ، إِلَّا وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِمْ: إِمَّا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِمَّا مِنَ الْكُفَّارِ.

وَإِلَّا فَالرَّافِضَةُ وَحْدَهُمْ لَا يَقُومُ أَمْرُهُمْ [قَطُّ](4) ، كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ (5) وَحْدَهُمْ لَا يَقُومُ أَمْرُهُمْ قَطُّ، بِخِلَافِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ مَدَائِنَ كَثِيرَةً مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُومُونَ بِدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لَا يُحْوِجُهُمُ اللَّهُ سبحانه وتعالى إِلَى كَافِرٍ وَلَا رَافِضِيٍّ.

وَالْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ فَتَحُوا الْأَمْصَارَ، وَأَظْهَرُوا الدِّينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ رَافِضِيٌّ.

بَلْ بَنُو أُمَيَّةَ بَعْدَهُمْ، مَعَ انْحِرَافِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنْ عَلِيٍّ وَسَبِّ بَعْضِهِمْ لَهُ، غَلَبُوا عَلَى مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، مِنْ مَشْرِقِ الْأَرْضِ إِلَى مَغْرِبِهَا، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي زَمَنِهِمْ أَعَزَّ مِنْهُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ بَعْدَ انْقِرَاضِ دَوْلَتِهِمُ الْعَامَّةِ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، صَارَ إِلَى الْغَرْبِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هِشَامٍ الدَّاخِلُ إِلَى الْمَغْرِبِ، الَّذِي يُسَمَّى صَقْرَ قُرَيْشٍ، وَاسْتَوْلَى هُوَ - وَمَنْ بَعْدَهُ - عَلَى بِلَادِ الْغَرْبِ، وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فِيهَا

(1) ن: وَتَقُومُ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(2)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) .

(3)

ب: وَلَا نَجِدُ، وَالْكَلِمَةُ غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ فِي (م) .

(4)

قَطُّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(5)

م: كَالْيَهُودِ.

ص: 419

وَأَقَامُوهُ وَقَمَعُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مِنَ السِّيَاسَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ.

وَكَانُوا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَضْلًا عَنْ أَقْوَالِ الشِّيعَةِ (1) ، وَإِنَّمَا كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيَنْصُرُهُ بَعْضُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَذْهَبِ الشِّيعَةِ، وَكَانَ فِيهِمْ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ الْحُسَيْنِيِّينَ (2) كَثِيرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَيُقَالُ: إِنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ يَسْكُتُ عَنْ عَلِيٍّ، فَلَا يُرَبِّعُ بِهِ (3) فِي الْخِلَافَةِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَجْتَمِعْ عَلَيْهِ، وَلَا يَسُبُّونَهُ كَمَا كَانَ بَعْضُ الشِّيعَةِ يَسُبُّهُ.

وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ كِتَابًا كَبِيرًا فِي الْفُتُوحِ فَذَكَرَ فُتُوحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفُتُوحَ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلِيًّا مَعَ حُبِّهِ لَهُ وَمُوَالَاتِهِ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ فُتُوحٌ.

وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ كُلُّهُمْ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يُحِبُّ الْخُلَفَاءَ وَيَتَوَلَّاهُمْ وَيَعْتَقِدُ إِمَامَتَهُمْ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَذْكُرُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِسُوءٍ، فَلَا يَسْتَجِيزُونَ ذِكْرَ عَلِيٍّ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا غَيْرِهِمَا بِمَا يَقُولُهُ الرَّافِضَةُ وَالْخَوَارِجُ.

(1) ب: عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الشِّيعَةِ.

(2)

ب: الْحُسْنَيِّينَ، ن: الْحَسَنِينَ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(3)

ب: وَلَا يَرْفَعُ بِهِ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

ص: 420

وَكَانَ صَارَ إِلَى الْمَغْرِبِ طَوَائِفُ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ، كَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي الْمَشْرِقِ، وَفِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَلَكِنَّ قَوَاعِدَ هَذِهِ الْمَدَائِنِ لَا تَسْتَمِرُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، بَلْ إِذَا ظَهَرَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُدَّةً أَقَامَ اللَّهُ مَا بَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الَّذِي يَظْهَرُ [عَلَى] بَاطِلِهِمْ (1) .

وَبَنُو عُبَيْدٍ يَتَظَاهَرُونَ بِالتَّشَيُّعِ، وَاسْتَوْلَوْا مِنَ الْمَغْرِبِ عَلَى مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ، وَبَنُوا الْمَهْدِيَّةِ. ثُمَّ جَاءُوا إِلَى مِصْرَ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْحِجَازِ وَالشَّامِ نَحْوَ مِائَةِ سَنَةٍ، وَمَلَكُوا بَغْدَادَ فِي فِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ (2) ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمُ الْمَلَاحِدَةُ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا، وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَكَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمُحْتَاجِينَ إِلَى مُصَانَعَتِهِمْ وَالتَّقِيَّةِ لَهُمْ.

وَلِهَذَا رَأْسُ مَالِ الرَّافِضَةِ التَّقِيَّةُ، وَهِيَ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُنَافِقُ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ، وَهُمْ يُظْهِرُونَ دِينَهُمْ لَا يَكْتُمُونَهُ.

وَالرَّافِضَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 28] وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كُفَّارٌ، مَعَ أَنَّ لَهُمْ فِي تَكْفِيرِ الْجُمْهُورِ قَوْلَيْنِ. لَكِنْ قَدْ رَأَيْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ يُصَرِّحُ فِي كُتُبِهِ

(1) ن، م: الَّذِي يُظْهِرُ بَاطِلُهُمْ.

(2)

سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الْبَسَاسِيرِيِّ وَفِتْنَتِهِ فِيمَا مَضَى 4/101

ص: 421

وَفَتَاوِيهِ بِكُفْرِ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ، وَدَارُهُمْ دَارُ رِدَّةٍ، يَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ مَائِعِهَا، وَأَنَّ مَنِ انْتَقَلَ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ الَّذِي يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ لَا يُقْبَلُ [مِنْهُ](1) الرُّجُوعُ إِلَى الْإِسْلَامِ.

وَهَذَا فِي الْمُرْتَدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ قَوْلٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالُوا: لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَنْ يُولَدُ مُسْلِمًا.

فَجَعَلَ هَؤُلَاءِ هَذَا فِي سَائِرِ الْأُمَّةِ، فَهُمْ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ، فَمَنْ صَارَ مِنْهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِمْ كَانَ مُرْتَدًّا.

وَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خُوطِبَ بِهَا أَوَّلًا مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 28] . وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ وَالنِّسَاءُ وَالْمَائِدَةُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَلَا يُظْهِرُ لِلْكُفَّارِ أَنَّهُ مِنْهُمْ، كَمَا يَفْعَلُهُ الرَّافِضَةُ مَعَ الْجُمْهُورِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ أَرَادَ إِظْهَارَ مَوَدَّةِ الْكُفَّارِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَهُمْ لَا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِلْجُمْهُورِ. وَفِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ كَانَ لَهُ حُلَفَاءُ مِنَ

(1) زِدْتُ مِنْهُ لِتَسْتَقِيمَ الْعِبَارَةُ.

ص: 422

الْيَهُودِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مَعِيَ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَسْتَظْهِرَ بِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ وَيَأْتُونَهُمْ بِالْأَخْبَارِ، يَرْجُونَ لَهُمُ الظَّفَرَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يُبَاطِنُونَ قَوْمًا مِنَ الْأَنْصَارِ، لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَنَهَاهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: اجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ. فَأَبَوْا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَغَيْرِهِ، كَانُوا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَالرَّافِضَةُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ إِظْهَارًا لِمَوَدَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا يُظْهِرُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَحْفَظُونَ مِنْ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، وَالْقَصَائِدِ الَّتِي فِي مَدْحِهِمْ، وَهِجَاءِ الرَّافِضَةِ مَا يَتَوَدَّدُونَ بِهِ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا يُظْهِرُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ، كَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُظْهِرُونَ دِينَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 28] قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا مُصَانَعَةً (1) .

وَالتُّقَاةُ لَيْسَتْ بِأَنْ أَكْذِبَ (2) وَأَقُولَ بِلِسَانِي مَا لَيْسَ فِي قَلْبِي، فَإِنَّ هَذَا نِفَاقٌ، وَلَكِنْ أَفْعَلُ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ.

(1) ب: لَا مُصَانَعَةٌ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ، وَالَّذِي فِي " زَادِ الْمَسِيرِ " لِابْنِ الْجَوْزِيِّ 1/372 قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا مُصَانَعَةً فِي الدُّنْيَا.

(2)

ن: بِأَنْ أَكْذِبَ مِنْهُمْ.

ص: 423

كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (1) .

فَالْمُؤْمِنُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِيَدِهِ مَعَ عَجْزِهِ، وَلَكِنْ إِنْ أَمْكَنَهُ بِلِسَانِهِ وَإِلَّا فَبِقَلْبِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ وَيَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، إِمَّا أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكْتُمَهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يُوَافِقُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ كُلِّهِ، بَلْ غَايَتُهُ (2) أَنْ يَكُونَ كَمُؤْمِنِ [آلِ](3) فِرْعَوْنَ - وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ - وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى جَمِيعِ دِينِهِمْ، وَلَا كَانَ يَكْذِبُ، وَلَا يَقُولُ (4) بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، بَلْ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ.

وَكِتْمَانُ الدِّينِ شَيْءٌ، وَإِظْهَارُ الدِّينِ الْبَاطِلِ شَيْءٌ آخَرُ. فَهَذَا لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ قَطُّ إِلَّا لِمَنْ أُكْرِهَ، بِحَيْثُ أُبِيحَ لَهُ النُّطْقُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُنَافِقِ وَالْمُكْرَهِ.

وَالرَّافِضَةُ حَالُهُمْ مِنْ جِنْسِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، لَا مِنْ جِنْسِ حَالِ الْمُكْرَهِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ هَذَا الْإِكْرَاهَ لَا يَكُونُ

(1) الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه فِي مُسْلِمٍ 1/69 كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ كَوْنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِيمَانِ، سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 1/406 كِتَابُ الصَّلَاةِ بَابُ خُطْبَةِ يَوْمِ الْعِيدِ 4/173 - 174، كِتَابُ الْمَلَاحِمِ، بَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 3/317 - 318 كِتَابُ الْفِتَنِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، سُنَنِ ابْنُ مَاجَهْ 1/406 كِتَابُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، 2/1330 كِتَابُ الْفِتَنِ بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، الْمُسْنَدِ ط. الْحَلَبِيِّ 3/30

(2)

ن، م: بَلْ غَايَتُهُمْ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(3)

آلِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .

(4)

م: وَيَقُولُ.

ص: 424

عَامًّا مِنْ جُمْهُورِ بَنِي آدَمَ، بَلِ الْمُسْلِمُ يَكُونُ أَسِيرًا أَوْ مُنْفَرِدًا (1) فِي بِلَادِ الْكُفْرِ، وَلَا أَحَدَ يُكْرِهُهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلَا يَقُولُهَا، وَلَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَلِينَ لِنَاسٍ مِنَ الْكُفَّارِ لِيَظُنُّوهُ مِنْهُمْ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، بَلْ يَكْتُمُ مَا فِي قَلْبِهِ.

وَفَرْقٌ بَيْنَ الْكَذِبِ وَبَيْنَ الْكِتْمَانِ. فَكِتْمَانُ مَا فِي النَّفْسِ يَسْتَعْمِلُهُ الْمُؤْمِنُ حَيْثُ يَعْذُرُهُ اللَّهُ فِي الْإِظْهَارِ، كَمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكُفْرِ، فَلَا يَعْذُرُهُ إِلَّا إِذَا أُكْرِهَ. وَالْمُنَافِقُ الْكَذَّابُ لَا يُعْذَرُ بِحَالٍ، وَلَكِنْ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ. ثُمَّ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَكْتُمُ إِيمَانَهُ يَكُونُ بَيْنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ دِينَهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا مُؤْمِنٌ عِنْدَهُمْ يُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ يُوجِبُ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالنُّصْحِ، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، كَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ يَسِيرُ فِي أَهْلِ مِصْرَ وَكَانُوا كُفَّارًا، وَكَمَا كَانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَمَعَ هَذَا كَانَ يُعَظِّمُ مُوسَى وَيَقُولُ:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 2] .

وَأَمَّا الرَّافِضِيُّ فَلَا يُعَاشِرُ أَحَدًا إِلَّا اسْتَعْمَلَ مَعَهُ النِّفَاقَ، فَإِنَّ دِينَهُ الَّذِي فِي قَلْبِهِ دِينٌ فَاسِدٌ، يَحْمِلُهُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَغِشِّ النَّاسِ، وَإِرَادَةِ السُّوءِ بِهِمْ، فَهُوَ لَا يَأْلُوهُمْ خَبَالًا، وَلَا يَتْرُكُ شَرًّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا فَعَلَهُ بِهِمْ، وَهُوَ مَمْقُوتٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ رَافِضِيٌّ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ سِيمَا النِّفَاقِ وَفِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَلِهَذَا تَجِدُهُ يُنَافِقُ ضُعَفَاءَ النَّاسِ وَمَنْ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ، لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ النِّفَاقِ الَّذِي يُضْعِفُ قَلْبَهُ.

(1) عِبَارَةُ " أَوْ مُنْفَرِدًا " سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

ص: 425

وَالْمُؤْمِنُ مَعَهُ عِزَّةُ الْإِيمَانِ (1) ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ هُمْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ دُونَ النَّاسِ، وَالذِّلَّةُ فِيهِمْ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 51] . وَهُمْ أَبْعَدُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَنِ النُّصْرَةِ، وَأَوْلَاهُمْ بِالْخِذْلَانِ. فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ (2) طَوَائِفُ [أَهْلِ](3) الْإِسْلَامِ إِلَى النِّفَاقِ، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ.

وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ حَقِيقَةً، الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ إِيمَانٌ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ، يَمِيلُونَ إِلَى الرَّافِضَةِ، وَالرَّافِضَةُ تَمِيلُ إِلَيْهِمْ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ.

وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» (4) . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخَدَانِهِمْ.

فَعُلِمَ أَنَّ بَيْنَ أَرْوَاحِ الرَّافِضَةِ وَأَرْوَاحِ الْمُنَافِقِينَ اتِّفَاقًا (5) مَحْضًا: قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَتَشَابُهًا، وَهَذَا لِمَا فِي الرَّافِضَةِ مِنَ النِّفَاقِ، فَإِنَّ النِّفَاقَ شُعَبٌ.

كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ

(1) ب: غَيْرَةُ الْإِيمَانِ.

(2)

ن: أَبْعَدُ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(3)

أَهْلِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(4)

الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما: فِي الْبُخَارِيِّ 4/133 - 134 كِتَابُ الْأَنْبِيَاءِ، بَابُ: الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، مُسْلِمٍ 4/2031 كِتَابُ الْبَرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/359 كِتَابُ الْأَدَبِ، بَابُ مَنْ يُؤْمَرُ أَنْ يُجَالِسَ، الْمُسْنَدِ ط. الْمَعَارِفِ 15/77 ط. الْحَلَبِيِّ 2/527، 539

(5)

م: نِفَاقًا، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

ص: 426

مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (1) . وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» (2) .

وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِالْكَذِبِ وَالْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَهَذِهِ الْخِصَالُ لَا تُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الرَّافِضَةِ، وَلَا أَبْعَدَ مِنْهَا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلصَّحَابَةِ، فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى النَّاسِ بِشُعَبِ الْإِيمَانِ وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ شُعَبِ النِّفَاقِ، وَالرَّافِضَةُ أَوْلَى النَّاسِ بِشُعَبِ (3) النِّفَاقِ وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ قُرْبُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَبُعْدُهُمْ عَنِ (4) النِّفَاقِ بِحَسَبِ سُنَّتِهِمْ وَبِدْعَتِهِمْ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْمَ أَبْعَدُ الطَّوَائِفِ عَنْ (5) اتِّبَاعِ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا شَكَّ فِي عِصْمَتِهِ، وَهُوَ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ. وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ خِلَافِ السُّنَّةِ فِي دَعْوَى الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنِ ابْتِدَاعِ مُنَافِقٍ زِنْدِيقٍ، كَمَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ.

(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 3/375

(2)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 2/82

(3)

سَاقِطٌ مِنْ (ب) .

(4)

ن: إِلَى، وَهُوَ خَطَأٌ.

(5)

ب، م: مِنِ.

ص: 427

ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ أَوَّلَ مَنِ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ وَالْقَوْلَ بِالنَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ وَعِصْمَتِهِ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا، أَرَادَ فَسَادَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ بِالْمُسْلِمِينَ مَا صَنَعَ بُولِصُ بِالنَّصَارَى، لَكِنْ لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ مَا تَأَتَّى لَبُولِصَ، لِضَعْفِ دِينِ النَّصَارَى وَعَقْلِهِمْ، فَإِنَّ الْمَسِيحَ صلى الله عليه وسلم رُفِعَ وَلَمْ يَتْبَعْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَعْلَمُونَ دِينَهُ، وَيَقُومُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا، فَلَمَّا ابْتَدَعَ بُولِصُ مَا ابْتَدَعَهُ مِنْ لَغْوٍ فِي الْمَسِيحِ، اتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَوَائِفُ وَأَحَبُّوا الْغُلُوَّ فِي الْمَسِيحِ، وَدَخَلَتْ مَعَهُمْ مُلُوكٌ، فَقَامَ أَهْلُ الْحَقِّ خَالَفُوهُمْ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَتِ الْمُلُوكُ بَعْضَهُمْ، وَدَاهَنَ الْمُلُوكُ بَعْضَهُمْ، وَبَعْضُهُمُ اعْتَزَلُوا (1) فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ.

وَهَذِهِ الْأُمَّةُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَا يَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مُلْحِدٌ وَلَا مُبْتَدِعٌ مِنْ إِفْسَادِهِ بِغُلُوٍّ أَوِ انْتِصَارٍ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ (2) ، وَلَكِنْ يَضِلُّ مَنْ يَتْبَعُهُ عَلَى ضَلَالِهِ.

وَأَيْضًا فَنُوَّابُ الْمَعْصُومِ الَّذِي يَدْعُونَهُ غَيْرُ مَعْصُومِينَ (3) فِي الْجُزْئِيَّاتِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُقَالُ: إِذَا كَانَتِ الْعِصْمَةُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ غَيْرَ وَاقِعَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُمْكِنُ الْعِصْمَةُ فِي الْكُلِّيَّاتِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يَنُصَّ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ، بِحَيْثُ لَا يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَلَا غَيْرِهِ، وَقَادِرٌ أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَ نَصَّ النَّبِيِّ أَكْمَلَ مِنْ نَصِّ الْإِمَامِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِصْمَةِ الْإِمَامِ، لَا فِي الْكُلِّيَّاتِ وَلَا فِي الْجُزْئِيَّاتِ.

(1) ن، م: اعْتَزَلُوهُمْ.

(2)

ن: مِنْ إِفْسَادِهِ وَيَعْلُو أَوِ انْتِصَارٍ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، م: مِنْ إِفْسَادِهِ وَيَعْلُو وَانْتِصَارٍ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ. وَكِلَاهُمَا فِيهِ تَحْرِيفٌ.

(3)

ن، م، ب: غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ مَا أَثْبَتُّهُ.

ص: 428

الْوَجْهُ الثَّالِثُ عَشَرَ (1) : أَنْ يُقَالَ: الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْإِمَامِ: أَهِيَ فِعْلُهُ لِلطَّاعَاتِ بِاخْتِيَارِهِ وَتَرْكُهُ لِلْمَعَاصِي بِاخْتِيَارِهِ، مَعَ (2) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَكُمْ لَا يَخْلُقُ اخْتِيَارَهُ؟ أَمْ هِيَ خَلْقُ الْإِرَادَةِ لَهُ؟ أَمْ (3) سَلْبُهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.

فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ، وَعِنْدَكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ اخْتِيَارَ الْفَاعِلِينَ، لَزِمَكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ مَعْصُومٍ.

وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي، بَطَلَ أَصْلُكُمُ الَّذِي ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ فِي الْقُدْرَةِ.

وَإِنْ قُلْتُمْ: سُلِبَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، كَانَ [الْمَعْصُومُ] عِنْدَكُمْ (4) هُوَ الْعَاجِزُ عَنِ الذَّنْبِ. كَمَا يَعْجَزُ الْأَعْمَى عَنْ نَقْطِ الْمَصَاحِفِ، وَالْمُقْعَدُ عَنِ الْمَشْيِ.

وَالْعَاجِزُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يُنْهَى عَنْهُ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُؤْمَرْ وَيُنْهَ لَمْ يَسْتَحِقَّ ثَوَابًا عَلَى الطَّاعَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْصُومُ عِنْدَكُمْ لَا ثَوَابَ لَهُ عَلَى تَرْكِ مَعْصِيَةٍ، بَلْ (5) وَلَا عَلَى فِعْلِ طَاعَةٍ. وَهَذَا غَايَةُ النَّقْصِ.

وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ مُسْلِمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْ هَذَا الْمَعْصُومِ، إِذَا أَذْنَبَ ثُمَّ تَابَ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّوْبَةِ مُحِيَتْ سَيِّئَاتُهُ، بَلْ بُدِّلَ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً مَعَ حَسَنَاتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَ ثَوَابُ الْمُكَلَّفِينَ خَيْرًا مِنَ الْمَعْصُومِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ غَايَةَ الْمُنَاقَضَةِ.

(1) ن، م: الثَّانِي عَشَرَ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(2)

ب: وَمَعَ.

(3)

ب: أَوْ.

(4)

ب: فَإِنَّهُ عِنْدَكُمْ، وَسَقَطَتْ كَلِمَةُ الْمَعْصُومِ مِنْ (ن) .

(5)

بَلْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

ص: 429