الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. حَتَّامَ يَا ذَا النُّهَى لا تَرْعَوِي سَفَهًا
وَدَمْعَ عَيْنَيْكَ لا يَهْمِي وَيَنْبَجِسُ
…
>?
اللَّهُمَّ اهدنا بهداك إلى صراطك المستقيم ووفقنا للقيام بحقك على الوجه المطلوب يا كريم وَاجْعَلْنَا يا مولانَا ممن أتاك بقلب سليم واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلّى اللهُ على محمدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
و
مِمَّا يتأكد اجتنابه في رمضان وغيره
الشتم وَهُوَ رمي أعراض النَّاس بالمعائب القبيحة وذكرهم بقبيح القول حضرًا أو غيبًا. عن سهل بن سعد قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الْجَنَّة» . رواه البخاري. وعن عَبْد اللهِ بن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلِسَانه ولم يفض الإِيمَان إلى قَلْبهُ لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته» .
وفي حديث المعراج: «ومررت بقوم لَهُمْ أظفار من نحاسٍ يخمشون وجوههم وصدورهم، فقُلْتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الَّذِينَ يأكلون لحوم النَّاس ويقعون في أعراضهم» .
وَقَالَ سفيان بن حسين: ذكرت رجلاً بسوء عَنْدَ إياس بن معاوية فنظر في وجهي وَقَالَ: أغزوت الروم؟ قُلْتُ: لا، قال: أغزوت السند والهند والترك؟ قُلْتُ: لا، قال: أفسلم منك الروم والسند والهند
ولم يسلم منك أخوك المسلم؟ قال: فلم أعد بعدها، وقل: أن تجد مولعًا بلحوم الغوافل عيابًا للناس إِلا وفيه من العيوب ما لو اشتغل بإصلاح بعضها لكَانَ أولى به، وأحفظ لوقته، وأسلم لدينه، وأسلم لعرضه فإنه إذا عابهم عابوه وأكثروا فيه ويستمرون في البذاءة والوقاحة ولا يمل بل يفرح.
شِعْرًا:
…
إِذَا أَنْتَ عِبْتَ النَّاسَ عَابُوا وَأَكْثَرُوا
عَلَيْكَ وَأَبْدَوا فِيكَ مَا كَانَ يُسْتَرُ
وَإِمَّا ذَكَرَتْ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبَهم
وَلا عَيْبَ إِلا مِثْلَ مَا فِيكَ يُذْكَرُ
فَإِنْ عِبْتَ قَوْمًا بِالَّذِي فِيكَ مِثْلُهُ
فَكَيْفَ يَعِيبُ الْعُورَ مَنْ هُوَ أَعْوَرُ
وَإِنْ عِبْتَ قَوْمًا بِالَّذِي لَيْسَ فِيهِمْ
فَذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ وَاللهُ أَكْبَرُ
…
>?
آخر:
…
قَبِيحٌ مِن الإِنْسَانِ يَنْسَى عُيُوبَهُ
…
وَيَذْكُرْ عَيْبًا فِي أَخِيهِ قَدْ اخْتَفَى
وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لَمَا عَابَ غَيْرَهُ
…
وَفِيهِ عُيُوبٌ لَوْ رَآهَا بِهَا اكْتَفَى
آخر:
…
وَمَطْرُوفَةٍ عَيْنَاهُ عَنْ عَيْبِ نَفْسِهِ
…
وَإِنْ بَانَ عَيْبٌ مِنْ أَخِيهِ تَبَصَّرَا
آخر:
…
أَتَبُصْرُ فِي الْعَيْنِ مِنّيْ الْقَذَا
…
وَفِي عَيْنِكَ الْجِذْعُ لا تُبْصِرُ
وَلا أَحْسَنَ مِن الإِعْرَاضِ عَن السفيه والدني قال بَعْضهمْ:
إِذَا جَارَيْتَ فِي خُلُقِ دَنِيئًا
…
فَأَنْتَ وَمَنْ تُجَارِيهِ سَوَاء
آخر:
…
وَمَنْ رَدَّ الْكَلامَ عَلَى سَفِيهٍ
…
كَمَنْ دَفَعَ السِّلاحَ إِلَى عَدُوٍ
آخر:
…
لَوْ كُلُّ كَلْبٍ عَوَى أَلْقَمْتَهُ حَجَرًا
…
لأَصْبَحَ الصَّخْرُ مِثْقَالاً بِدِينَارِ
آخر:
…
أَوَكَلَّمَا طَنَّ الذُّبَابُ زَجَرْتُهُ
…
إِنَّ الذُّبَابَ إِذًا عليَّ كَرِيمُ
آخر:
…
فَمَا كُلُّ كَلْبٍ نَابِحٍ يَسْتَفِزَّنِي
…
وَلا كُلُّ مَا طَنَّ الذُّبَابُ أَرَوَّعُ
آخر:
…
وَلَوْ كُلَّمَا كَلْبُ عَوَى مِلْتُ نَحْوَهُ
…
أُجَاو ِبُهُ إِنَّ الْكِلابَ كَثِيرُ
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أخبرني بعمل يدخلني الْجَنَّة ويباعدني من النار. قال: «لَقَدْ سألت عن عَظِيم وإنه ليسير على من يسره الله عَلَيْهِ تعبد الله لا تشرك به شَيْئًا، وتقيم الصَّلاة وتؤتي الزَّكَاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» . ثُمَّ قال له: «ألا أدليك على أبواب الْخَيْر الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ثُمَّ تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ} .
ثُمَّ قال: «ألا أخبرك برأس الأَمْر وعموده وذروة سنامه» ؟ قُلْتُ: بلى يَا رَسُولَ اللهِ. قال: «رأس الأَمْر الإسلام، وعموده الصَّلاة وذروة سنامه الجهاد» . ثُمَّ قال: «قال: ألا أخبرك بملاك ذَلِكَ كله» ؟ قُلْتُ: بلى يَا رَسُولَ اللهِ. فأخذ بلِسَانه ثُمَّ قال: «كف عَلَيْكَ هَذَا» . قُلْتُ: يا نَبِيّ اللهِ وانَا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فَقَالَ: «ثكلتك أمك، وهل يكب النَّاس في
النار على مناخرهم» أو قال: «على وجوهم إِلا حصائد ألسنتهم» . رواه الترمذي.
شِعْرًا:
أَلا أحْفَظْ لِسَانَكَ إِنَّ اللِّسَا
…
نَ سَرِيعُ إِلَى الْمر فِي قَتْلِهِ
وَإِنَّ اللِّسَانَ دَلِيلُ الْفُؤَادِ
…
يَدُلُّ الرِّجَالَ عَلَى عَقْلِهِ
آخر:
…
اغْمِدْ لِسَانَكَ لا يَنْسَلَّ عَنْ فَمِّهِ
فَإِنَّهُ فِي عُيُوبِ الْخَلْقِ طَعَّانُ
لَوْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ يَأْجُوجَ اللِّسَانُ إذًا
لَمْ يُبْنَ مِنْ دُونِهِ كَالسَّدِ أَسْنَانُ
…
>?
آخر:
…
لِسَانُ الْمَرْءِ لَيْثُ فِي كَمِين
…
إِذَا خَلَى عَلَيْهِ لَهُ إِغَارَةْ
فَصُنْهُ عَنْ الْخَنَا بِلِجَام صَمْتٍ
…
يَكُنْ لَكَ مِنْ بَلِيَاتٍ سَتَارَةْ
آخر:
…
وَأحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ
فَالْمَرْءُ يَسْلَمُ بِاللِّسَانِ وَيَعْطَبُ
…
>?
آخر:
…
أحْفَظِ لِسَانَكَ لا تَقُولُ فَتُبْتَلَى
…
إِنَّ الْبَلاءَ مُوَكَّلُ بِالْمَنْطِقِ
آخر:
…
لِسَانَكَ لَكَ الْمَمْلُوكُ مَا دُمْتَ صَامِتًا
وَأَنْتَ لَهُ الْمَمْلُوكُ حِينَ تَكَلَّمُ
…
>?
آخر:
…
يَكُب الْفَتَى فِي النَّارِ حَصْدُ لِسَانِهِ
…
وَإِرْسَالُ طَرْفِ الْمَرْءِ أَنْكَى فَقَيّدِ
آخر:
…
مَا إِنْ نَدِمْتُ عَلَى سُكُوتِي مَرَّة
وَلَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى الْكَلامِ مِرَارًا
…
>?
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» . رَوَاهُ أَحَمْدُ والتِّرْمِذِي. وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ من حديث أَبِي بُسْر أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلْنِي الْجَنَّةِ قَالَ:«أَمْسِكْ هَذَا» . وَأَشَارَ إِلى لِسَانه فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ وقَالَ: «ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» . والمراد بحصائد الألسن جزاء الكلام المحرم وعقوباته، فإن الإِنْسَان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثُمَّ يحصد يوم القيامة ما زرع فمن زرع خيرًا من قول أو عمل حصد الكرامة ومن زرع شرًّا من قول أو عملٍ حصد الندامة وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفم والفرج» . رواه الإمام أَحَمَد والترمذي وخَرَجَ البخاري والترمذي عن سهل بن سعد قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الْجَنَّة» .
وفي الْحَدِيث الآخِر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس» ؟ قَالُوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فَقَالَ:«إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة ويأتي وقَدْ شتم هَذَا، وقذف هَذَا، وأكل مال هَذَا، وسفك دم هَذَا، وضرب هَذَا فيأخذ هَذَا من حسناته وهَذَا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عَلَيْهِ أخذ من خطاياهم فطرحت عَلَيْهِ ثُمَّ طرح في النار» . رواه مسلم والترمذي ومِمَّا يتأكد اجتنابه الفحش وَهُوَ كُلّ ما اشتد قبحه من الذُّنُوب والمعاصي وكَذَلِكَ الرياء نسأل الله السلامة مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوب.
شِعْرًا:
…
مَنْ شَاءَ عَيْشًا رَخيًا يَسْتَفِيدُ بِهِ
…
فِي دِينِهِ ثُمَّ فِي دُنْيَاهُ إِقْبَالا
فَلْيَنْظُرَنَّ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ بِتُقَى
…
والْيَنْظُرَنَّ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَالا
عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«من لم يدع قول الزور والْعَمَل به فلَيْسَ لله حَاجَة في أن يدع طعامه وشرابه» . رواه البخاري وَأَبُو دَاود واللفظ له.
ويسن لمن شتم وَهُوَ صائم أن يَقُولُ: «إني صائم» . سواء في رمضان أو غيره لما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كَانَ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم» . متفق عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
تَزَوَّدْ مَا اسْتَطَعْتَ لِدَارِ خُلْدٍ
فَخَيْرُ الزَّادِ زَادُ الْمُتَّقِينَا
وَلا يَغْرُرْكَ فِي الدُّنْيَا ثَرَاءٌ
هُنَاكَ تَرَى أُجُورُ الْعَامِلِينَا
تَبَصَّرْ يَا هَدَاكَ اللهُ إِنَّا
نَسِيرُ عَلَى طَرِيقِ السَّابِقِينَا
فَإِنَّ الْمَوْتَ غَايَةُ كُُلِّ حَيٍ
وَبَطْنُ الأَرْضِ مَثْوَى الْعَالَمِينَا
أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللاءَ كَانُوا
مُلُوكًا فِي الْقُرُونِ الْغَابِرِينَا
أَضَاعُوا الْعُمْرَ فِي لَهْوٍ وَظُلْمٍ
وَحَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُتَّقِينَا
وَلَمْ يَجِدُوا لِدَفْعِ الْمَوْتِ عَنْهُمْ
…
سَبِيالاً فَاسْتَكَانُوا صَاغِرِينَا
نَعِيمُ الْخُلْدِ لا يَفْنَى فَسَارِعْ
…
لأَعْمَالِ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَا
اللَّهُمَّ اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بِفَضْلِكَ آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جَمِيع الأَحْوَال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النَّعِيم واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلّى اللهُ على محمدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
قال ابن الجوزي رحمه الله: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذُّنُوب خصوصًا ذنوب الخلوات فإن المبارزة لله تَعَالَى تسقط الْعَبْد من عينه سُبْحَانَهُ ولا ينال لذة المعاصي إِلا دائم الغَفْلَة، فأما المُؤْمِن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عَنْدَ التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وَهُوَ الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كَانَ الْقَلْب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كَانَ الطبع في شهوته فما هِيَ إِلا لحظة ثُمَّ خزي دائم وندم ملازم وبُكَاء متواصل وأسف على ما كَانَ مَعَ طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء وأخبارها. انتهى.
شِعْرًا:
…
أَيَضْمَنُ لِي فَتَىً تَرْكَ الْمَعَاصِي
…
وَأَرْهَنُهُ الْكَفَالَةَ بِالْخَلاصِ
أَطَاعَ اللهَ قَوْمٌ فَاسْتَرَاحُوا
…
وَلَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ الْمَعَاصِي
آخر:
…
خَلِيلِي إِنِّي مَا غَبَطْتُ سِوَى الَّذِي
…
أَتَى مُخْلِصًا للهِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ
يَقُومُ طِوَالَ اللَّيْلِ تَجْرِي دُمُوعُهُ
…
عَلَى مَا مَضَى مِنْ مُوبِقَاتٍ وَزَلَّتِي
آخر:
…
مَنْ مِثْلُ رَبِّكَ تَعْصِيه وَتَهْجُرُهُ
…
وَيُسْبِلُ السِّتْرَ يَا ذَا الْغَدْرِ فَارْتَدعِ
يَا نَاقِضَ الْعَهْدِ يَا مَنْ حَاله قُبحتْ
…
مَعَ الإِلهِ بِلا خَوْفٍ وَلا جَزَعِ
ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ تَسْوِيفًا بِلا عَمَلٍ
…
تُمْسِي وَتُصْبِحُ بَيْنَ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ
وَتَسْمَعُ الْوَعْظَ لانْتِهَاكَ زَاجِرَةُ
…
بَلْ أَنْتَ فِي غَفْلَة عَنْ ذَاكَ فَاسْتَمِع
فَقُمْ لِتَقْرَعَ بَابًا لِلَّذِي كَثُرتْ
…
لِلسَّائِلِينَ عَطَايَاهُ وَأَنْتَ مَعِي
لَعَلَّهُ أَنْ يَرَانَا تَائِبِينَ لَهُ
…
يَمُنُّ بِالْعَفْوِ عَنْ عِصْيَانِنَا الشَّنِعِ
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فصل في (تحريم الظلم)
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته سيئة وَهُوَ منبع الرذائل ومصدر الشرور، وحد الظلم أنه وضع الشَيْء في غير موضعه وَهُوَ انحراف عن العدالة ومتى فشى وشاع في أمة أهلكها وإذا حل في قرية أو مدينة دمرها. وَهُوَ والفساد قرينان بهما تخرب الديار وتزول الأمصار وتقل البركات ويحل الفشل محلها وَهُوَ ظلمَاتَ تزل الأقدام في غياهبه وتضل به الأفهام ويظهر الفساد وينتشر بسببه وينتشر بسببه الفزع بين النَّاس.
وأعظم الظلم وأشده وأخبثه الشرك بِاللهِ قال الله تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} ، وَقَالَ:{أَنَا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ، وَقَالَ تَعَالَى:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الآيات. وَقَالَ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الآيَة.
هَذَا مِمَّا ورد في القرآن الكريم في حق الظالمين وأما السنة فمن ذَلِكَ ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمَاتَ يوم القيامة» . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمَاتَ يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كَانَ قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . رواه مسلم.
وعن أبي مُوَسى رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظَالِم فإذا أخذه لم يفلته - ثُمَّ قَرَأَ -: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي.
وَأَظْلِمْ أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ مُشْرِكًا
…
بِرَبِّ الْوَرَى فَافْهَمْهُ فَهْمَ مُوَحِّدِ
وظلم النَّاس أنواع يجمعها قوله: صلى الله عليه وسلم «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» .
وعن عَبْد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قَدْ يئس أن يعبد الأصنام في أرض الْعَرَب ولكنه سيرضى منكم بدون ذَلِكَ بالمحرمَاتَ وهي الموبقات يوم القيامة اتقوا الظلم ما استطعتم فإن الْعَبْد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجيه فما زال عبد يَقُولُ يا رب ظلمني عبدك فَيَقُولُ: امحوا من حسناته وما يزال كَذَلِكَ حتى ما يبقى له حسنة من الذُّنُوب» .
إِنْ تَمْطُلِ اليوم الْحُقُوقَ مَعَ الْغِنَى
…
فَغَدًا تُؤدِّيهَا مَعَ الإِفْلاسِ
وَإِذَا أَحَبَّ اللهُ يَوْمًا عَبْدَهُ
…
أَلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةً فِي النَّاسِ
«وإن مثل ذَلِكَ كسفر نزلوا بفلاة من الأَرْض لَيْسَ معهم حطب فتفرق القوم ليحبطوا فلم يلبثوا أن احتطبوا فأعظموا النار وطبخوا ما أرادوا وكَذَلِكَ الذُّنُوب» . رواه أبو يعلى من طَرِيق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود. ورواه أَحَمَد، والطبراني بإسناد حسن نحوه باختصار.
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شَيْء فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كَانَ له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عَلَيْهِ» . رواه البخاري، والترمذي.
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس» ؟ قَالُوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فَقَالَ: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقَدْ شئتم هَذَا وقذف هَذَا، وأكل مال هَذَا، وسفك دم هَذَا، وضرب هَذَا فيعطى هَذَا من حسناته وهَذَا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عَلَيْهِ أخذ من خطاياهم فطرحت عَلَيْهِ ثُمَّ طرح في النار» . رواه مسلم، الترمذي.
وعن ابن عثمان عن سلمان وسعد بن مالك وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود حتى عد ستة أو سبعة من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: إن الرجل لترفع له يوم القيامة صحيفة حتى يرى أنه ناج فما تزال مظَالِم بني دم تتبعه حتى ما يبقى له من حسنة ويحمل عَلَيْهِ من سيئاتهم. رواه البيهقي في الشعب بإسناد جيد.
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل. أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» . الْحَدِيث رواه مسلم والترمذي وابن ماجة.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النَّبِيّ ? قال: «لا تظلموا فتدعوا فلا يستجاب لكم، وتستسقوات فلا تسقوا، وتستنصروا فلا تنصروا» . رواه الطبراني.
اللَّهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللَّهُمَّ إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأَنْتَ تعلم صدقنا في رجَاءَ رفدك، وخالص ودك، اللَّهُمَّ أَنْتَ أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين، الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(موعظة)
عباد الله بما أن الله جَلَّ وَعَلا من عليكم بالإسلام فيجب عليكم أن تحبوه، فإنه الَّذِي بيده خَيْر الدُّنْيَا والآخِرَة، وأن تحبوا رسوله ? الَّذِي لولا الله ثُمَّ لولاه لكنتم من حطب جهنم تلتهب بكم أبد الآبدين، وأن تحبوا أحباب الله، وأحبابه هم الَّذِينَ لزموا طاعة مولاهم وتباعدوا عن معصيته كما يتباعد الإِنْسَان عما يقتله من سم ونحوه بل السم أَهْوَن وأخف من كثير المعاصي كيف لا والمعاصي لا تسلم فاعلها إِلا إلى الْعَذَاب الأليمِ إن لم يتجاوز عَنْهُ مولاه مضى في صدر هذه الأمة أناس قال الله فيهم:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وهم الَّذِينَ كَانُوا بأرواحهم في سبيل الله يجودون، وكَانُوا يرون السعادة كُلّ السعادة في ذَلِكَ الجود وإذا لم يستطيعوا
كَانُوا لذَلِكَ يحزنون وكَانَ هؤلاء النَّاس يحبون رسولهم فوق محبتهم لأموالهم وأنفسهم وكَانَ حب أحدهن لأخيه أعظم من حبه لأثاثه وماله يحب له ما يحب لنفسه ولذَلِكَ كَانُوا في كُلّ المنافع، لا يعرفون إِلا خلق الإيثار، كما حكى الله عنهم بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ سل التاريخ عَلَيْهمْ يخبر عنهم أخبارًا ما سمعت قط بمثلها يخبرك أنهم كَانُوا سادة الدُّنْيَا يعترف بذَلِكَ الْعَدُوّ قبل الصديق اعتراف إقرار وإذعان يخبرك أنهم كَانُوا إذا اتجهوا لغزو جهة ينهزم أهلها وبينهم وبينهم مسافة عظبمة وكيف لا يعزهم ربهم وقُلُوبهمْ كانت وقفًا على حبه وحب رسوله ? وحب كُلّ ما يرضيه من مبار، هؤلاء كَانُوا عبيد الله عبودية ما رأت الدُّنْيَا عبودية مثلها في سائر العبيد عدا الرسل الكرام لذَلِكَ كَانُوا يحنون لطاعته حنينًا لا ينقضي عجبه وَهُوَ مخلص وشديدٌ كَانُوا لا يشبعون من العبادة بالنَّهَارَ فيستقبلون الليل بعزائمهم بعثتها همم عاليةٌ، اتكل ولا تمل من العبادة، بل هِيَ في العبادة كالسمك في البحر، والليل على ذَلِكَ شهيد ومن الَّذِي يَقُولُ إن الدُّنْيَا والآخِرَة هؤلاء الَّذِينَ هم خَيْرةُ الله من خلقه هم سلفنا الصالح، فينبغي أن نقفوا آثارهم، ونكون على مثل ما كَانُوا عَلَيْهِ من المحبة الفائقة والطاعة الفريدة لمولانَا.
قال بَعْضهمْ يصف السَّلَف:
مُسْتَوْفِزِينَ عَلَى رَحْلٍ كَأَنَّهُمْ
…
رَكْبٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَمْضُوا وَيَنْتَقِلُوا
عَفَّتْ جَوَارِحُهُمْ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ
…
فَالصِّدْقُ مَذْهَبُهُمْ وَالْخَوْفُ وَالْوَجَلُ
آخر:
…
تَنَعَّمَ قَوْمٌ بِالْعِبَادَةِ وَالتُّقَى
…
أَلَذَّ النَّعِيمِ لا اللَّذَاذَةَ فِي الْخَمْرِ
فَقَرَّتْ بِهِ طُولَ الْحَيَاةِ عُيُونُهُمُ
…
وَكَانَتْ لَهُمْ زَادًا إِلَى الْقَبْرِ
آخر:
…
دَعِ التَّكَاسُل فِي الطَّاعَاتِ تَفْعَلُهَا
…
فلَيْسَ يَسْعَدُ بِالطَّاعَاتِ كَسْلانُ
وَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِمًا
…
فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ
مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللهِ فِي طَلَبٍ
…
فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزٌ وَخُذْلانُ
مَنْ يَزْرَعِ الشَّرِ يَحْصُدْ فِي عَوَاقِبِهِ
…
نَدَامَة وَلِحَصْدِ الزَّرْعِ إِبَّانُ
مَنِ اسْتَنَامَ إِلَى الأَشْرَارَ نَامَ وَفِي
…
قَمِيصِهِ مِنْهُمْ صِلٌ وَثُعْبَانُ
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ
…
وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ
آخر:
…
اعْلَمْ بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ مُنْفَرِدُ
…
وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ أَفْرَادُ
لا يَطْلُبُونَ وَلا تُطْلَبْ مَسَاعِيهِمْ
…
فَهُمْ عَلَى مَهَل يَمْشُونَ قُصَّادُ
وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّاله قَصَدُوا
…
فَجُلّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ رُقَّادُ
آخر:
…
يَا بَاغِي الإِحْسَانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ
…
لِيَفُوزَ مِنْهُ بِغَايَةِ الآمَالِ
انْظُرْ إِلَى هَدْيَ الصَّحَابَةِ وَالَّذِي
…
كَانُوا عَلَيْهِ فِي الزَّمَانِ الْخَالِ
وَاسْلُكْ طَرِيق الْقَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا
…
خُذْ يَمْنَةً فَالدَّرْبُ ذَاتُ شَمَالِ
تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ سِوَى
سُبُلَ الْهُدَى فِي الْقَوْلِ وَالأَفْعَالِ
دَرَجُوا عَلَى نَهْجِ الرَّسُولِ وَهَدْيِهِ
وَبِهِ اقْتَدَوْا فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ
نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِي الْهُدَى
فَمَاله فِي الْحَشْرِ خَيْرُ مَآلِ
الْقَانِتِينَ الْمُخْبِتِينَ لِرَبِّهِمْ
النَّاطِقِينَ بِأَصْدَقِ الأَقْوَالِ
…
>?
.. التَّارِكِينَ لِكُلِّ فِعْلٍ سَيءٍ
وَالْعَامِلِينَ بِأَحْسَنِ الأَعْمَالِ
أَهْوَاءُهُمْ تَبَعٌ لِدِينِ نَبِيِّهِمْ
وَسِوَاهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ ذِي الْحَالِ
مَا شَابَهُمْ فِي دِينِهِمْ نَقْصٌ وَلا
فِي قَوْلِهِمْ شَطْحُ الْجَهُولِ الْغَالِ
عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا
فَلِذَاكَ مَا شَابُوا الْهُدَى بِضَلالِ
وَسِوَاهُمُ بِالضِّدِ فِي أَحْوَالِهِمْ
تَرَكُوا الْهُدَى وَدَعَوا إِلَى الضَّلالِ
فَهُمْ الأَذِلَّةُ لِلْحَيَارَى مَن يَسِرْ
بِهُدَاهُمُ لَمْ يَخْشَ مِنْ إِضْلالِ
وَهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وَإِضَاءَةً
وَعُلُو مَنْزِلَةٍ وَبُعْدَ مَنَالِ
يَمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ هَوْنًا نُطْقُهُمْ
بِالْحَقِّ لا بِجَهَالَةِ الْجُهَّالِ
حَلِمًا وَعِلْمًا مَعَ تُقَىً وَتَوَاضِعِ
وَنَصِيحَةٍ مَعَ رُتْبَةِ الإِفْضَالِ
يُحْيُونَ لَيْلَهُمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ
بِتِلاوَةٍ وَتَضَرُّعٍ وَسُؤَالِ
وَعُيُونُهُمْ تَجْرِي بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ
مِثْلَ انْهِمَالِ الْوَابِلِ الْهَلالِ
…
>?
.. فِي اللَّيْلِ رُهْبَانٌ وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ
لِعَدُوِّهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأَبْطَالِ
وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرِّهَبَانِ رَأَيْتَهُمْ
يَتَسَابَقُونَ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبِّهِمْ
وَبِهَا أَشِعَةُ نُورِهِ الْمُتَلالِ
وَلَقَدْ أَبَانَ لَكَ الْكِتَابُ صِفَاتِهِمْ
فِي سُورَةِ الْفَتْحِ الْمُبِينِ الْعَالِ
وَبِرَابِعِ السَّبْعِ الطِّوَالِ صَفَاتُهُمْ
قَوْمٌ يُحِبُّهُمُ ذُووا أدْلالِ
وَبَرَاءَةٍ وَالْحَشْرِ فِيهَا وَصْفُهُمْ
وَبِهَلْ أَتَى وَبِسُورَةِ الأَنْفَالِ
…
>?
اللَّهُمَّ أذقنا عفوك وغفرانك واسلك بنا طَرِيق مرضاتك، وعاملنا بلطفك وإحسانك واقطع عنا ما يبعد عن طَاعَتكَ، اللَّهُمَّ وثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها ويسر لنا ما يسرته لأوليائك، واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليمَنِ فَقَالَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» . رواه أَحَمَد والترمذي وحسنه وابن ماجة، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبزار مختصرًا بلفظ:
«ثلاث حق على الله أن لا يرد لَهُمْ دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع» .
وفي رواية للترمذي: «ثلاث دعواتٍ لا شك في إجابتهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» . وروى أبو داود هذه بتقديم وتأخَيْر.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة» . رواه الحاكم وَقَالَ: رواته متفق على الاحتجاج بِهُمْ إِلا عاصم بن كليب فاحتج به مسلم وحده.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ» . رواه أَحَمَد بإسناد حسن. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما دعوتان لَيْسَ بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب. رواه الطبراني وله شواهد كثيرة.
وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يَقُولُ الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» . رواه الطبراني.
شِعْرًا:
…
وَمَا مِنْ يَدٍ إِلا يَدُ اللهِ فَوْقَهَا
…
وَلا ظَالِمٌ إِلا سَيُبْلَى بِظَالِمِ
آخر:
…
وأظلم أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ مُشْرِكًا
…
بِخَالِقِهِ فَاحْذَرْ هُدِيتَ عَنِ الشِّرْكِ
قال بَعْضهمْ يصف دعوة المظلوم وَهُوَ في الحَقِيقَة لغز.
وَسَائِرَةٍ لَمْ تَسْرِ فِي الأَرْضِ تَبْتَغِي
مَحَلاً وَلَمْ يَقْطَعْ بِهَا الْبِيْدَ قَاطِعُ
سَرَتْ حَيْثُ لَمْ تَحْدَ الرِّكَابُ وَلَمْ تُنَخْ
لِوَرْدٍ وَلَمْ يَقْصُرْ لَهَا الْقَيْدَ مَانِعُ
تَمُرُّ وَرَاءَ اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ ضَارِبٌ
بِجُثْمَانِهِ فِيهِ سَمِيرٌ وَهَاجِعُ
إِذَا وَفَدَتْ لَمْ يَرْدُدِ اللهُ وَفْدَهَا
عَلَى أَهْلِهَا وَاللهُ رَاءٍ وَسَامِعُ
تَفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ دُونَهَا
إِذَا قَرَعَ الأَبْوَابَ مِنْهُنَّ قَارِعٌ
وَإِنِّي لأَرْجُو اللهَ حَتَّى كَأَنَّمَا
أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
آخر:
…
أَلا رُبَّ ذِي ظُلْمٍ كَمَنْتُ لِحَرْبِهِ
فَأَوْقَعُهُ الْمَقْدُورُ أَيَّ وُقُوعٍ
وَمَا كَانَ لِي إِلا سِلاحُ تُركُّعٍ
وَأَدْعِيَةٌ لا تُتَّقَى بِدُرُوعِ
وَهَيْهَاتَ أَنْ يَنْجُو الظَّلُومُ وَخَلْفَهُ
سِهَامُ دُعَاءٍ مِن قِسِّيٍ رُكُوعِ
…
>?
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها
هنا التقوى ها هنا» . ويشير إلى صدره «بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كُلّ المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه» . رواه مسلم.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالاً كُلّهَا: أيها الملك المسلط المبتلي المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدُّنْيَا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت من كافر وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له ساعات فساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نَفْسهُ وساعة يتفكر فيها في صنع الله عز وجل وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.
وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنًا إِلا لثلاث تزودٍ لمعادٍ أو مرمةٍ لمعاش أو لذةٍ في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للِسَانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إِلا فيما يعنيه.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فما كانت صحف مُوَسى عليه السلام؟ قال: «كانت عبرًا كُلّهَا: عجبت لمن أيقن بالموت ثُمَّ يفرح، وعجبت لمن أيقن بالنار ثُمَّ هُوَ يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثُمَّ هُوَ ينصب، عجبت لمن رأى الدُّنْيَا وتقلبها بأهلها ثُمَّ اطمأن إليها عجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثُمَّ لا يعمل» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أوصني قال: «أوصيك بتقوى الله، فإنها رأس الأَمْر كله» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «عَلَيْكَ بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، فإنه نور لك في الأَرْض، وذخر لك في السماء» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «إياك وكثرة الضحك، فإنه
يميت الْقَلْب، ويذهب بنور الوجه» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «عَلَيْكَ بالجهاد فإنه رهبانية أمتي» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «أحب المساكين وجالسهم» .
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هُوَ فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدرى نعمة الله عندك» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «قل الحق وإن كَانَ مرًّا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «ليردك عن النَّاس ما تعلمه من نفسك ولا تجد فيما تأتي وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهله من نفسك وتجد عَلَيْهمْ فيما تأتي» . ثُمَّ ضرب بيده على صدري، فَقَالَ:«يا أبا ذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق» . رواه ابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم، وَقَالَ: صحيح الإسناد
اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(موعظة) : عباد الله ما للألسن عن شكر نعم الله المتتالية قاصرة، وما للعيون إلى زهرة الحياة الدُّنْيَا الفانية ناظرة، وما للأقدام عن طَرِيق الهداية الواضحة حائرة وما للعزائم والهمم عن الْعَمَل الصالح فاترة وما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة وما لها لا تتأهب وتستعد للنقلة إلى دار الآخِرَة، أركونًا إلى الدُّنْيَا وقَدْ فرقت الجموع وكسرت أعناق الأكاسرة وقصرت آمال القياصرة وأدارت على أهلها من تقلبها الدائرة أم
اغترارًا بالإقامة، ومطايا الأيام بكم في كُلّ لحظة سائرةٍ أم تسويفًا بالتوبة والأعمال فهذه وَاللهِ الفكرة والصفقة الخاسرة لَقَدْ رانت على القُلُوب قبائح الأعمال، وضربت عَلَيْهَا وعلى المسامَعَ من الذُّنُوب أقفالٌ فيا خجلة من سئل فعدم الجواب أو بجوابٍ يستحق عَلَيْهِ أليم الْعَذَاب ويا حَسْرَة من نوقش عن الدقيق والجليل في الآخِرَة الحساب، ويا ندامة من لم يحصل إِلا على الْغَضَب من الكريم الوهاب ويا خيبة من ماله إلى نار تلتهب إلى إحراقه التهابًا، فمتى تقبلون على الله بقُلُوب صادقة لا تنتهون من مفارقة الذُّنُوب بعزمة صادقة، لا في الصادقين تيقنون أنه ثابت لكم قدم، ولا في التائبين صحت لكم توبة وإقلاع وعزم وندم. ولا عَنْدَ تلاوة كتاب الله تقشعر منكم الجلود ولا عَنْدَ سماع المواعظ ترق منكم القُلُوب التي هِيَ أقسى من الجلمود فبماذا ترجون لحاق السعداء وكيف تطمعون في الفوز والنجاة معهم غدًا وأنتم تتبعون الخطايا بالخطايا وتبارزون.
الله بها في البكر والعشيا، فيا حَسْرَة نفوس أطمأَنْتَ إلى الدُّنْيَا دار الغرور، ويا خراب قُلُوب عمرت بأماني كُلّهَا باطل وزورٍ، ويا نفاذ أعمار ينقص منها كُلّ يوم وساعة ولا يزَادَ ويا خيبة مسافر يسير السير السريع وَهُوَ بلا زادٍ، فالبدار البدار عباد الله بالتوبة البدار والغنيمة الغنيمة قبل خروج وَقْت الاختيار، وإيتان وَقْت لا تقال فيه العثار:
…
نَسِيرُ إِلَى الأَجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ
…
وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
وَلَمْ نَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ
…
إِذَا مَا تَخَطَّتُهْ الأَمَانِي بَاطِلُ
تَرَحَّلْ مِن الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
…
فَعُمْرَكَ أَيَّامٌ تُعَدُّ قَلائِلُ
آخر:
…
هِيَ الدُّنْيَا حَقِيقَتُهَا مُحَالٌ
…
تَمُرُّ كَمَا يَمُرُّ بِكَ الْخَيَالُ
وَكَمْ قَدْ غَرَّ زُخْرُفُهَا رِجَالاً
…
غُرُورَ ذَوِي الظَّمَا بِالْقَاعِ آلُ
جج
آخر:
…
سَوَاءٌ مَنْ أَقَلَّ التُّرْبُ مِنَّا
…
وَمَنْ وَارَى مَعَالِمَهُ التُّرَابُ
وَإِنَّ مُزَايِل الْعَيْشِ اخْتِصَارًا
…
مُسَاوٍ لِلَّذِينَ بَقُوا فَشَابُوا
وَأَوَّلُنَا الْعَنَاءُ إِذَا طَلَعْنَا
…
إِلَى الدُّنْيَا وَآخِرُنَا الذَّهَابُ
آخر:
…
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا
…
لَوْ كَانَ فِي الْعَالَم مَنْ يَسْمَعُ
كَمْ آمِل خَيَّبْتُ آمَاله
…
وَجَامِعِ بَدّدْتُ مَا يَجْمَعُ
آخر:
…
خَرَجْتُ مِن الدُّنْيَا كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ
دَخَلْتُ إليها قَطُّ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ
تَبَلَّغْتُ فِيهَا بِاليسِيرِ وَقَدْ كَفَى
وَحَصَّلْتُ فِيهَا مَا عَمَرْتُ بِهِ قَبْرِي
يُؤَنِّسُنِي فِيهِ إِذَا مَا سَكَنْتُهُ
وَنِعْم رَفِيقٌ صَاحِبٌ لِي إِلَى الْحَشْرِ
فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا رُوَيْدَكَ فَاقْتَصِرْ
فَإِنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ تَأْتِي وَمَا تَدْرِي
وَإِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ فالْغَبْنُ كُلُّهُ
لِمَنْ مُنِحَ الدُّنْيَا وَرَاحَ بِلا أَجْرِ
…
>?
آخر:
…
عَلَى مِثْلِ هَذَا كُلُّ جَمْعٍ مَاله
…
وِصَالُ وَتَفْرِيقُ يسر وَيُؤْلمُ
وَإِنْ مُنِعَ الْغُيَّابُ أَنْ يَقْدَمُوا لَنَا
…
فَإِنَّا عَلَى غُيَّابِنَا سَوْفَ نَقْدَمُ
آخر:
…
يَا مُنْزِلاً لَعِبَ الزَّمَانُ بِأَهْلِهِ
…
فَأَبَادَهُمْ بِتَفَرُّق وَسَيجُمَعُوا
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ
…
وَبَقَى الَّذِينَ حَيَاتُهُمْ لا تَنْفَعُ
آخر:
…
وَعَضَتْكَ أَجْدَاثٌ وَهُنَّ صُمُوتُ
…
وَأَصْحَابُهَا تَحْتَ التُّرَابُ خُفُوتُ
أَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ
…
لِمَنْ تَجْمَعِ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَمُوتُ
آخر:
…
يَا نَفْسُ مَا هِيَ إِلا صَبْرُ أَيَّامِ
…
كَأَنَّ مُدَّتَهَا أَضْغَاثُ أَحْلامِ
يَا نَفْسُ جُوزِي عَنِ الدُّنْيَا مُبَادَرَةً
…
وَخَلِّ عَنْهَا فَإِنَّ الْعَيْشَ قُدَّامِ
آخر:
…
تَقْنَ اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَا لَذَّتَهَا
…
مِن الْحَرَامِ وَيَبْقَى الإثْمُ وَالْعَارُ
تَبْقَى مَغَبَّةُ وُسُوءٍ مِنْ تَطَلُّبِهَا
…
لا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ
آخر:
…
بَنِي الدُّنْيَا أَقِلُوا الْهَمَّ فِيهَا
…
فَمَا فِيهَا يَؤُولُ إِلَى الْفَوَاتِ
بِنَاءٌ لِلْخَرَابِ وَجَمْعُ مَالٍ
…
لِيَفْنَى وَالتَّؤالُدُ لِلْمَمَاتِ
اللَّهُمَّ وفقنا للإستعداد لما أمامنا واهدنا سبيل الرشاد ووفقنا للعمل الصالح ليوم المعاد واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وعن أنس رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» . فَقَالَ رجل: يَا رَسُولَ اللهِ أنصره إذا كَانَ مظلومًا؛ أفرَأَيْت إن كَانَ ظالمًا كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذَلِكَ نصره» . رواه البخاري.
فالمظلوم في حقه أو ماله يمنع عَنْهُ الظلم ويرفع عَنْهُ الحيف بكل ما يستطاع من الوسائل والقصد أن تَكُون ايد مَعَ يد المظلوم حتى يأخذ حقه وأما نصر الظَالِم فمنعه عن الظلم فإن أراد استلاب مال حلت بينه وبينه وأخذت بيده.
وإن أراد البطش ببريء ضربت على يده إن كانت يدك أقوى من يده وتراعي الحكمة لئلا ينقلب ظالمًا لك وإن كانت النَّصِيحَة رادعة
سلكتها وإِلا فتستعمل معه القوة حتى يرجع إلى الحق، وطرق الظلم كثيرةٌ جدًّا ووسائله جمةٌ وكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه.
ولا يختص الظلم بأرباب الوظائف والمناصب وأرباب الحكم والسُّلْطَان، حيث أن كلا ممن عدا هؤلاء رب بيت أو بيوتٍ، وزعيم أسرة وفي الأسرة الكبير والصغير والقوي والضعيف والخادم والأجير ولكل واحد من هؤلاء حقوق في أعناق المسؤلين وسيسألون عَنْهَا بل إنَّ الإِنْسَان ليعد ظالمًا إذا تعدى على حقوق نَفْسهُ الشخصية فقَدْ يكون مبذرًا وحالته تدعو إلى الاقتصاد وقَدْ يكون مقترًا وحالته تدعو إلى التيسير فمن ظلم الإِنْسَان لأهله سياستهم بالقَسْوَة كما يفعله بَعْضهمْ ظنًّا منه أنه مدعاة لاحترامهم له أو يبخل عَلَيْهمْ فلا ينفق النفقة الواجبة كأمثالهم أو لا يحسن معاشرتهم فقَدْ ذكر أن عمر رضي الله عنه كَانَ ذات يوم مستلقيًا على ظهره في بيته وصبيانه يلعبون حوله فدخل عَلَيْهمْ.
أحد عماله فانكر ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ له عمر: كيف أَنْتَ مَعَ أهلك؟ فَقَالَ: إذا دخلت سكت الناطق. فَقَالَ له عمر: اعتزل عملنا فإنك لا ترفق بأهلك وولدك فَكَيْفَ ترفق بأمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ومن ظلمه لأولاده أن يتركهم بلا أمرٍ ولا نهيٍ ولا توجيهٍ ومَعَ هَذَا فربما وجدته أمر النَّاس البعيدين عَنْهُ بالمعروف وينهاهم عن الْمُنْكَر وقَدْ صدق عَلَيْهِ المثل
شِعْرًا:
…
كَمُرْضِعَةٍ أَوْلادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ
…
بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلالُ عَنْ الْقَصْدِ
آخر:
…
كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالْعَرَاءِ
…
وَمُلْبِسَةٍ بَيْضَ أُخْرَى جَنَاحَا
ومن ظلمه لجيرانه أن لا يقوم بحق الجوار لَهُمْ، ولا يواسيهم بل ولا يكف شره وشر أولاده وأهله ولَقَدْ أوصى الله بالجار فقال (والجار ذي القربى، والجار الجنب) وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم به فَقَالَ: «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه» . وقيل: إن فلانة تصوم النَّهَارَ وتَقُوم الليل وهي سئية الخلق تؤذي جيرانها بلسانها.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا خَيْر فيها، هِيَ من أَهْل النار» .
شِعْرًا:
يَلُومُونَنِي إِنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي
…
وَلَمْ يَعْلَمُوا جَارًا هُنَاكَ يَنْغِصُ
فَقُلْتُ لَهُمْ كَفُوا الْمَلامَ فَإِنَّمَا
…
ف بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرَخُصُ
ومن ظلم القضاة الحيف مَعَ أحد الخصمين أو شهادة الشهود وشر أنواع الظلم ظلم ولاة الأمور لرعيتهم وإذا انتشر الظلم في أمة سلبت الأمن على الرواح والأموال والأعراض وانتشرت فيها المفاسد وسوء الأَخْلاق، وفشت فيها العداوة والبغضاء وأكل القوي الضعيف، وقُلْتُ فيها اليد العاملة، واتسع نطاق الجهل وتذهب من الأمة الشجاعة والحمية، ويحل محلها النفاق والملق، ويثمران النميمة ونقل الكلام والْغَضَب والسرقة والاختلاس ونهب أموال النَّاس والربا والتطفيف في المكاييل والموازين والتغرير بالعامل والغش والخيانة للوديع والأجير والجعيل والمقارض والشريك والوكيل وهَذَا كله من الظلم الَّذِي توعد الله أهله، وَقَالَ فيهم:{أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ولكنها درجات متفاوتة والجزاء على كُلّ شَيْء بحسبه ولَقَدْ وصل النَّاس اليوم في ظلم بَعْضهمْ بعضًا إلى حد تقصر عن شرحه العبارة وَذَلِكَ أنهم لا يتهيبون ظلمًا إِلا إذا رأوا بجانبه إقامة الحد الشرعي فإذا أمن أحدهم من العقوبة
الشرعية بطش بطش الجبارين، فإذا اشتهت نَفْسهُ قذف شخص قذفه مهما كَانَ نقي العرض وإذا اشتهت نَفْسهُ سب إنسان وشتمه سبه وشتمه بل ولعنه والعياذ بِاللهِ وإذا اشتهت نَفْسهُ غيبة غَافِل أو بهته إغتابه وبهته وإذا اشتهت نَفْسهُ ضربه مال عَلَيْهِ وضربه ضربًا لا رحمة معه وإذا همت بأكل ماله نفذ ذَلِكَ بغاية الجرأة والوقاحة وبطرق شتى مسلكها يهون وإن سولت له نَفْسهُ أن يطعن بنسب إنسان وحسبه طعن طعنًا تقشعر منه الأبدان وإذا زينت له نَفْسهُ أن يقتل إنسانَا أراق دمه في الحال غير مفكر وغير متندم وهكَذَا من توغل في الظلم وأمن العقوبة لا يقوم في نَفْسهُ لون من الظلم إِلا نفذه مسرعًا كأنه لا يؤمن بالبعث ولا بالموت ولا بأن الجزاء واقع على الأعمال ولذَلِكَ تَرَى نيران الظلم تلتهب في أنحاء الدُّنْيَا بحالة تزعج الناظرين ولَقَدْ غفل النَّاس عن عواقب الظلم دنيًا وأخرى ولو علموا أن شقاء الدُّنْيَا والآخِرَة وليد الظلم وأثر مِمَّا له من آثار ما دنا من الظلم أحد ولو لبهيم لا يحسب له أدنى حساب فالظلم يتغير منه قلب المظلوم ويتفاوت التغير بتفاوت ما للظلم من مقدار وعَلَى قَدْرِ ذَلِكَ الظلم يكون الْغَضَب والانتقام، خصوصًا إذا كَانَ المظلوم ضعيفًا لا ناصر له.
شعرًا:
خَفِ اللهَ فِي ظُلْمِ الْوَرَى وَاحْذَرَنَّهُ
…
وَخَفْ يَوْمَ عَضّ الظَّالِمِينَ عَلَى اليدِ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يُهْمِلُ خَلْقَهُ
…
وَلَكِنَّهُ يُمْلِي لِمَنْ شَاءَ إِلَى الْغَدِ
آخر:
…
إِذَا مَا الظَّلُومُ اسْتَحْسَنَ الظُّلْمَ مَذْهَبًا
…
وَلَجَّ عُتُوًا فِي قَبِيحِ اكْتِسَابِهِ
فَكِلْهُ إِلَى صِرْفِ إلَّيالي فَإِنَّهَا
…
سَيَبْدُوا لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا ظَالِمًا مُتَمَرِّدًا
…
يَرَى النَّجْمَ تِيهًا تَحْتَ ظِلِّ رِكَابِهِ
فَعَمَّا قَلِيلٍ وَهُوَ فِي غَفَلاتِهِ
…
أَنَاخَتْ صُرُوفُ الْحَادِثَاتِ بِبَابِهِ
فَأَصْبَحَ لا مَالٌ وَلا جَاهٌ يُرْتَجَى
…
وَلا حَسَنَاتٌ يَلْتَقِي فِي كِتَابِهِ
وَجُوزِي بِالأَمْرِ الَّذِي كَانَ فَاعِلاً
…
وَصَبَّ عَلَيْهِ اللهُ سَوْطَ عَذَابِهِ
شِعْرًا:
…
يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ
…
عَمَّا قَلِيل سَتُلقَى بَيْنَ أَمْوَاتِ
فَاذْكُرْ مَحَلَّكَ مِنْ قَبْلِ الْحُلُولِ بِهِ
…
وَتُبْ إِلَى اللهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ
إِنَّ الْحَمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ
…
فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ
لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا
…
قَدْ آن لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللبِّ أَنْ يَأْتِي
اللَّهُمَّ اجعلنا ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جنسه وأعد عدة تصلح لرمسه واستدراك في يومه ما ضيعه في أمسه واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين اللَّهُمَّ احفظنا من المخالفة والعصيان ولا تؤاخذنا بجرائمنا وما وقع منا من الخطأ والنسيان واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
عباد الله لَقَدْ امتلأت الأَرْض من الشر ووسائله. وضجت وما فيها مِمَّا وصل إليه من المعاصي الإِنْسَان وإن شئت فزر أي جهةٍ من جهات العَالِم وتَرَى ما يتقطع له قلبك حسرات افتتن النَّاس بزخارف الدُّنْيَا فاستولت على قُلُوبهمْ وملكتها فنسوا يوم الحساب وأصبحت المعاصي أمرًا مألوفًا عَنْدَ كثير من النَّاس وغلب المستقيمون على أمرهم فلم يستطيعوا إزالتها فتمادى المجرمون على انتهاك الآداب فتفاقم الخطب ثُمَّ تفاقم إلى أن التهبت الدُّنْيَا بالموبقات خف الزنى الَّذِي هُوَ من كبائر الذُّنُوب حتى صار الغيور الْمُنْكَر به المقبح يسمى رجعيًّا لا يعرف الحرية
مَعَ أن الزنى من بين المعاصي عار تسود له الوجوه، وتنتكس له الرؤوس وتنهدم به بيوت المجد العاية، وهان التعامل بالربا مَعَ أنه من بين سائر المعاصي قَدْ توعد الله فاعله المستمر على التعامل به بالحرب وقارف كثير من النَّاس المسكرات مَعَ أن الخمر أم الخبائث وهذه شهادة الزور قَدْ هأَنْتَ مَعَ أنها من عظائم الذُّنُوب وهذه فاحشة اللواط قَدْ انتشرت انتشار الوباء مَعَ أن القرآن يحكي عن أمة كانت تفعل ذَلِكَ أنها خسف بها، وأمطرت عَلَيْهَا حجارة من سجيل وأما الأَرْض فهان اغتصابها مَعَ أن المغتصب يكون طوقًا لمغتصبه في دار الانتقام، وأما الأموال والأعراض فحدث عن الاستخفاف بها وانتهاكها ولا حرج وهَذَا الغش قَدْ صار عادةً لا يكاد يسلم منه معامل مَعَ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:«من غشنا فلَيْسَ منا» . وهَذَا حلق اللحية قَدْ أصبح عَنْدَ كثير من النَّاس كأنه واجب مَعَ أمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بإعفائها هَذَا وأضعاف أضعافه حاصل في هَذَا العصر المظلم الحالك الَّذِي عادة فيه غربة الدين.
شِعْرًا:
…
سَمَّوْكَ يَا عَصْرَ الظَّلامِ سَفَاهَةً
عَصْرَ الضِّيَاءِ وَأَنْتَ شَرُّ الأَعْصُرِ
وَتَقَدَّمَتْ فِيكَ الْحَضَارَةُ حَسْبَمَا
قَالُوا فِيَا وَحْشِيَّةَ الْمُتَحَضِّرِ
وَالْعِلْمُ قَدْ يَأْتِي بِكُلِّ بَلِيَّةٍ
وَيَسِيرُ نَحْوَ الْمَوْتِ بِالْمُسْتَبْصِرِ
…
>?
آخر:
…
وَلا خَيْر فِي الدُّنْيَا وَلا فِي نَعِيمِهَا
…
إِذَا انْحَطَّتِ الْبَازَاتُ وَارْتَفَعَ الْبَطُّ
آخر:
…
لَقَدْ أُخِّرَ التَّصْدِيرُ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ
…
وَقُدِّمَ غَمْرٌ جَامِدُ الذُّهْنِ خَامِدُهُ
آخر:
…
إِذَا لَمْ يَكُنْ صَدْرُ الْمَجَالِسِ سَيِّدًا
…
فَلا خَيْرَ فِيمَنْ صَدَّرَتْهُ الْمَجَالِسُ
وَكَمْ قَائِلٍ مَا لي رَأَيْتُكَ رَاجِلاً
…
فَقُلْتُ لَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ فَارِسُ
آخر:
…
لا يَغُرَّنَكُمْ عُلُوُّ لَئِييْم
…
فَعُلُّوُه لا يَسْتَحِقُّ سِفَالٍ
فَارْتِفَاعُ الْغَرِيق فِيهِ فُضُوحِ
…
وَعُلُو الْمَصْلُوبِ فِيهِ نَكَالْ
آخر:
…
هَذَا الزَّمَان عَلَى مَا فِيهِ مِنْ عِوَجٍ
…
حَكَى انْقِلابَ لَيَإليه بِأَهْلِيهِ
غَدِيرَ مَاءٍ تَرَآ فِي جَوَانِبِهِ
…
خِيَالُ قَوْمٍ تَمَشَّوْا فِي نَوَاحِيهِ
فَالرَّأْسُ يُنْظَرُ مَنْكُوسًا أَسَافلُهُ
…
وَالرِّجْلُ تُنْظَرُ مَرْفُوعًا أَعَالِيهِ
آخر:
…
وَعَاشَ بِدَعْوَى الْعِلْمِ نَاسُ وَمَا لَهُمْ
…
مِن الْعِلْمِ حَظُّ لا بِعَقْل وَلا نَقْلِ
آخر:
…
وَقْتُ عَلا قَدْرُ الْوَضِيعِ بِهِ
…
وَغَدا الشَّرِيفُ يَحُطُّهُ شَرَفُهْ
كَالْبَحْرِ يَرْسُبُ فِيهِ لُؤْلُؤهُ
…
سِفْلاً وَيَطْفُو فَوْقَهُ جِيفُهْ
اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلى حبك وألهمنا ذكرك وشكك ووفقنا للقيام بحقك وخلصنا من حقوق خلقك ورضنا باليسير من رزقك يا خَيْر من دعاه داعٍ وأفضل من رجاه راج، يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين
أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والظلم لا يباح بحال حتى أن الله تَعَالَى قَدْ أوجب على الْمُؤْمِنِين أن يعدلوا على الكفار في قوله: {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} والْمُؤْمِنِين كَانُوا يعادون الكفار بأمر الله فَقَالَ تَعَالَى: {لا يحملنكم بغضكم للكفار على أن لا تعدلوا بل اعدلوا عَلَيْهمْ فإنه أقرب للتقوى} وحينئذ فهؤلاء المشركين لَيْسَ لبَعْضهمْ أن يفعل ما به يظلم غيره بل إما أن يؤدي قسطه فيكون محسنًا ولَيْسَ له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذَلِكَ الْمَال امتناعًا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء فيتضاعف الظلم عَلَيْهمْ.
فإن الْمَال إذا كَانَ يؤخذ لا محالة وامتنع بجاهٍ أو رشوةٍ أو غيرهما كَانَ قَدْ ظلم من يؤخذ منه القسط الَّذِي يخصه، ولَيْسَ هَذَا بمنزلة أن يدفع عن نَفْسهُ الظلم من غير ظلم لغيره فإن هَذَا جائز مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه، فلا يؤخذ ذَلِكَ منه ولا من غيره.
وهَذَا كالوظائف السلطانية التي توضع على القرى، مثل أن يوضع عَلَيْهمْ عشرة آلاف درهم فيطلب من له جاه بأمرةٍ أو مشيخةٍ أو رشوةٍ أو غير ذَلِكَ أن لا يخذ منه شيء وهم لا بد لهم من أخذ جميع المال وإذا فعل ذلك أخذ ما يخصه من الشركاء فيمتنع من أخذ ما ينوبه ويؤخذ من سائر الشركاء فإن هَذَا ظلم منه لشركائه لأن هَذَا لم يدفع الظلم عن نَفْسهُ إِلا بظلم شركائه وهَذَا لا يجوز.
ولَيْسَ له أن يَقُولُ: أَنَا لم أظلمهم، بل ظلمهم من أخذ مِنْهُمْ الحصتين لأنه يُقَالُ أولاً: هَذَا الطالب قَدْ يكون مأمورًا ممن فوقه أن يأخذ ذَلِكَ الْمَال فلا يسقط عن بَعْضهمْ نصيبه إِلا إذا أخذه من أخذه من نصيب الآخِر فيكون أمره بأن لا يأخذ أمرًا بالظلم.
الثاني: أنه لو فرض أنه الآمر الأعلى فعَلَيْهِ أن يعدل بينهم فيما يطلبه مِنْهُمْ وأن أصل الطلب ظلمًا فعَلَيْهِ أن يعدل في هَذَا الظلم ولا يظلم فيه ظلمًا ثانيًا فيبقى ظلمًا مكررًا فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين كان قد ظلم ظلمًا مكررًا بخلاف ما إذا أخذ من كُلّ قسطه، ولأن النُّفُوس ترضى بالعدل بينها بالحرمان وفيما يؤخذ منها ظلمًا ولا ترضى بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء.
الثالث: أنه إذا طلب من القاهر أن لا يأخذ منه وَهُوَ يعلم أنه يضع قسطه على غيره فقَدْ أمره بما يعلم أنه يظلم فيه غيره.
ولَيْسَ للإنسان أن يطلب من غيره ما يظلم فيه غيره وإن كَانَ هُوَ لم يأمره بالظلم كمن يولي شخصًا ويأمره أن لا يظلم وَهُوَ يعلم أنه يظلم فلَيْسَ له وكذلك من وكل وكيلاً وأمره أن لا يظلم وهو يعلم أنه يظلم فليس له أن يوليه ومن طلب من غيره أن يوفيه دينه من ماله الحلال وَهُوَ يعلم أنه لا يوفيه إِلا مِمَّا ظلمه من النَّاس وكَذَلِكَ إذا طلب منه أن يعفيه من الظلم وَهُوَ يعلم أنه لا يعفيه إِلا بظلم غيره فلَيْسَ له أن يطلب منه ذَلِكَ. أ. هـ.
وَقَالَ في تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لما عد بعض الكبائر قال: ومنها الدخول على الظلمة بغير قصد صحيح بل إعانة لَهُمْ وتوقيرًا
ومحبةً، قال الله تَعَالَى:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثُمَّ وَالْعُدْوَانِ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} وعن جابر رضي الله عنه: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ستَكُون أمراء، من دخل عَلَيْهمْ فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فلَيْسَ مني، ولست منه، ولن يرد على الحوض» . رواه أَحَمَد والبزار بإسناد رجاله رِجَال الصحيح وابن حبان في صحيحه وهَذَا لفظه وساق غير هَذَا الْحَدِيث حول هَذَا الموضوع ثُمَّ قال: قَدْ يَقُولُ من اعتاد الدخول على الملوك الظلمة والقضاة الخونة إنما قصدي بذَلِكَ نصر المظلوم أو مساعدة ضعيف أو دفع ظلامة أو التسبب في معروف ونحو ذَلِكَ وهَذَا لا يخلو إما أن يكون ممن يتناول من مآكلهم ومشاربهم، ويشاركهم في مقاصدهم ومآربهم، ويقبل من أموالهم التي اكتسبوها من الجهات المحرمَاتَ أو وجوه المظَالِم والمكوس والمصادرات، ويداهنهم فيما يراه عندهم من المنكرات، فهَذَا لا يحتاج النظر في سوء حاله إلى دَلِيل إذ يشهد كُلّ ذي بصيرة أنه ضال عن سواء السبيل وأنه من {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} ويزعمون أنهم {مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} ثُمَّ قال: ليت شعري كيف يمكن من يأكل من أموالهم، أن ينكر قبيح أفعالهم، وأنى يرجع الظَالِم مِنْهُمْ إليه وَهُوَ يرى منته في الصحبة واللقمة عَلَيْهِ، وكيف يقبل منه الكلام وباطنه قَدْ امتلأ من ماله الحرام. واختصار الكلام في مثل هَذَا أليق والسَّلام وإن كَانَ ممن يعف عن مآكلهم ومشاربهم ولا يقبل مِنْهُمْ إدرارًا ولا صلةً وينكر عَلَيْهمْ ما قَدْ يراه عندهم من المنكر
فهَذَا في محل اشتباه والحالة ميزان يعلم بها صحته من سقمه وَهُوَ أن يرى أنه كالمكره في دخوله عَلَيْهمْ وكلامه معهم ويود أن لو كفي بغيره ولو انتصر المظلوم بسواه ولا يتبجح بصحبتهم ولا بالاجتماع عَلَيْهمْ ولا في فلتات لِسَانه قُلْتُ للسلطان وَقَالَ لي السُّلْطَان وانتصر بي فلان فنصرته وطلب مني المساعدة فلان فساعدته ونحو ذَلِكَ ولو قدم السُّلْطَان المعروف لما شق عَلَيْهِ ذَلِكَ بل يجد عنده انشراحًا بذَلِكَ وفرحًا به إذا كفاه الله التعرض إلى هَذَا الخطر العَظِيم بما لا يثق بصحة قصده فيه، ولا يقطع بإخلاص نيته في القيام به. انتهى.
يَا طَالِبَ الْعِلْمِ مَهْلاً لا تُدَنِّسُهُ
…
بِالْمُوبِقَاتِ فَمَا لِلْعِلْمِ مِنْ خَلَفِ
الْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لا عِمَادَ لَهُ
…
وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ
آخر:
…
فَمَا لَكَ وَالْبَقَاءَ بِدَارِ ذُلٍّ
…
وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةُ الْفَضَاءِ
إِذَا خَانَ الأَمِيرُ وَكَاتِبَاهُ
…
وَقَاضِي الأَرْضِ دَاهَنَ فِي الْقَضَاءِ
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ
…
لِقَاضِي الأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ
آخر:
…
عَنَوا يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ
شَبَابًا فَلَمَّا حَصَّلُوهُ وَحَشَّرُوا
وَصَحَّ لَهُمْ إِسْنَادُهُ وَأُصُولُهُ
وَصَارُوا شُيُوخًا ضَيَّعُوهُ وَأَدْبَرُوا
وَمَالُوا عَلَى الدُّنْيَا فَهُمْ يَحْلُبُونَهَا
بِأَخْلافِهَا مَفْتُوحَةً لا تُصَرَّرُوا
…
>?
ج
…
فَيَا عُلَمَاءَ السُّوءِ أَيْنَ عُقُولُكُمْ
وَأَيْنَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ الْمُتَخَيِّرُ
…
>?
آخر:
…
رَأَيْتُ فَقِيهَ الشَّكْلِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ
…
وَيَقْنَعُ مِنْ حَالِ الْفَقَاهَةِ بِالاسمِ
آخر:
…
فَقُلْتُ وَقَدْ وَافَى بِتَضْلِيعِ عِمَّةٍ
…
تَضَلَّعَ جَهْلاً مَا تَضَلَّعَ بِالْعِلْمِ
عَجِبْتُ لأَهْلِ الْعِلْمِ كَيْفَ تَشَاغَلُوا
عَنِ الْعِلْمِ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَ الْمَمَالِكِ
يَطُوفُونَ حَوْلَ الظَّالِمِينَ كَأَنَّمَا
يَطُوفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَقْتَ الْمَنَاسِكِ
…
>?
آخر:
…
دَعِ الْمَنَاصِبْ لِنَاسٍ يُشْغَفُونَ بِهَا
…
وَاضْرِبْ عَلَى النَّفْسِ لا تَسْمَعْ دَعَاوِيهَا
لا يَعْرِفُ الزُّهْدَ إِلا كُلُّ مَنْ عَزَفَت
…
نَفْسٌ لَهُ عَنْ هَوَى الدُّنْيَا وَطَارِيهَا
وَاسْتَدْرَكَ الْعُمْرَ فِي الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ
…
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَعْ كُتبٍ تُدَانِيهَا
اللَّهُمَّ إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كُلّ بر والسلامة من كُلّ إثُمَّ ونسألك أن تغفر لنا.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان في قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانه وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا بِطَاعَتكَ وامتثال أمرك وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
إذا فهمت ما تقدم من شناعة الظلم وقبح عاقبته وما ورد من
الوعيد الشديد على مرتكبه وأن من مَاتَ قبل رد المظَالِم أحاط به يوم القيامة خصماؤه فهَذَا يأخذ بيده وهَذَا يقبض على ناصيته وهَذَا يمسك يده وهَذَا يتعلق بلببه وهَذَا يتعلق برقبته هَذَا يَقُولُ: ظلمني فغشني. وهَذَا يَقُولُ: ظلمني فبخسني. وهَذَا يَقُولُ: خدعني. وهَذَا يَقُولُ: قذفني. وهَذَا يَقُولُ: أكل مالي. وهَذَا يَقُولُ: شتمني. وهَذَا يَقُولُ: اغتابني. وهَذَا يَقُولُ: كذب علي. وهَذَا يَقُولُ: قطع رحمي.
وهَذَا يَقُولُ: جاورني فأساء مجاورتي. وهَذَا يَقُولُ: رآني مظلومًا فلم ينصرني. وهَذَا يَقُولُ: رآني على منكر فلم ينهني. وهَذَا يَقُولُ: جحد مالي. وهَذَا يَقُولُ: باعني وأخفى عني عيب السلعة. وهَذَا يَقُولُ: سرق مالي. وهَذَا يَقُولُ: قطع من ملكي.
وهَذَا يَقُولُ: شهد علي بالزور. وهَذَا يَقُولُ: سخر بي. وهذه زوجة تَقُول: لم يعدل بيني وبين زوجته الأخرى. وهذه تَقُول أكل صداقي. وهَذَا يَقُولُ: تعدى على محارمي. وهَذَا يَقُولُ: نشز زوجتي. وهذه تَقُول: نشز زوجي.
وهَذَا يَقُولُ: غدر بي. وهَذَا يَقُولُ: خانني. وهَذَا يَقُولُ: دلس علي. وهَذَا يَقُولُ: نجش علي في السلعة التي أريد شراءها. وهَذَا يَقُولُ: كادني. وهَذَا يَقُولُ: منعني النوم بملاهيه من مذياع وتلفزيونه وبكمه وسينمائه. فبينما أَنْتَ على تلك الحال المخيفة التي لا يرى فيها بغضك من كثرة من تعلق بك من الغرماء الَّذِينَ أنشبوا فيك مخالبهم وأحكموا في تلابيبك أيديهم وأَنْتَ مبهوت متحير مضطرب الفكر والعقل من كثرتهم ومطالبتهم حتى لم يبق أحد ممن جالستهم أو عاملتهم أو صاهرتهم أو شاركتهم ولو
مدة قليلة إِلا وقَدْ استحق عَلَيْكَ مظلمة وقَدْ ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجَاءَ إلى سيدك ومولاك لعله أن يخلصك من أيديهم.
إذا قرع سمعك نداء الجبار جَلَّ وَعَلا وتقدست أسماؤه: {اليوم تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ اليوم} فعَنْدَ ذَلِكَ ينخلع قلبك وتضطرب أعضاؤك من الهيبة وتوقن نفسك بالبوار وتذكر ما أنذرك الله تَعَالَى به على لسان رسله حيث قال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إليهمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} .
وقوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} الآيَة فيالها من مصيبة، وما أشدها من حَسْرَة في ذَلِكَ اليوم، إذا جَاءَ الرب جَلَّ وَعَلا للفصل بين عباده بحكمه العدل وشوفه الظَالِم بالخطاب وعلم أنه مفلس فقير عاجز مهين لا يقدر على أن يرد حقًّا أو يظهر عذرًا.
فعَنْدَ ذَلِكَ تؤخذ حسناته التي تعب عَلَيْهَا في عمره، ليلاً ونهارًا حضرًا وسفرًا وتنقل إلى الخصماء عوضًا عن حقوقهم وتقدم حديث أَبِي هُرَيْرَةِ في بيان المفلس من الأمة فلينظر العاقل إلى المصيبة في مثل ذَلِكَ اليوم الَّذِي ربما لا يسلم له فيه شَيْء من الحسنات فإن سلم شَيْء ابتدره الغرماء وأخذوه فَكَيْفَ تَكُون حال من رأى صحيفته خالية من حسناتٍ طالما تعب فيها، فإذا سأل عَنْهَا قيل له نقُلْتُ إلى صحيفة خصمائك الَّذِينَ ظلمتهم ويرى صحيفته مشحونة بسيئات لم يعملها،
فإذا سأل عَنْهَا ومن أين جاءت إليه؟ قيل: هذه سيئات القوم الَّذِينَ طالما تمضمضت بهتك أعراضهم وتناولت أموالهم وقذفتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسُّوء وخنتهم في المبايعة والمجاورة والمعاملة ونحو ذَلِكَ من أنواع الظلم اللَّهُمَّ قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره وثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شِعْرًا:
…
وَفِي النَّاسِ مِنْ ظُلْمُ الْوَرَى عَادَةً لَهُ
وَيَنْشُرُ أَعْذَارًا بِهَا يَتَأَوَّلُ
جَرِيءٌ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ وَيَدَّعِي
بِأَنَّ لَهُ فِي حِلِّ ذَلِكَ مَحْمَلُ
فَيَا آكِلَ الْمَالِ الْحَرَامِ ابن لَنَا
بِأَيِّ كِتَابٍ حَلَّ مَا أَنْتَ تَأْكُلُ
أَلَمْ تَدْرِ أَنَّ اللهَ يَدْرِي بِمَا جَرَى
وَبَيْنَ الْبَرَايَا فِي الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ
حَنَانِيكَ لا تَظْلِمْ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ
وَبِالْبَعْثِ عَمَّا قَدْ تَوَلَّيْتُ تُسْأَلُ
وَتَوَقَّفُ لِلْمَظْلُومِ يَأْخُذُ حَقَّهُ
فَيَأْخُذُ يَوْمَ الْعَرْضِ مَا كُنْتُ تَعْمَلُ
وَيَأْخَذُ مِنْ وِرْزٍ لِمَنْ قَدْ ظَلَمْتَه
فَيُوضَعُ فَوْقَ الظُّهْرِ مِنْكَ وَيَجْعَلُ
فَيَأْخُذْ مِنْكَ اللهَ مَظْلَمَةَ الَّذِي
ظَلَمْتَ سَرِيعًا عَاجِلاً لا يُؤَجَّلُ
…
>?
.. تَفِرُّ مِن الْخَصْمِ الَّذِي قَدْ ظَلَمْتَهُ
وَأَنْتَ مُخَوَّفٌ مُوجَفُ الْقَلْبِ مُوجَلُ
تَفِرُّ فَلا يُغْنِي الْفِرَارُ مِن الْقَضَا
وَإِنْ تَتَوَجَّلْ لا يُفِيدُ التَّوَجُّلُ
فَيَقْتَصُّ مِنْكَ الْحَقَّ مَنْ قَدْ ظَلَمْتَهُ
بَلا رَأْفَةٍ كَلا وَلا مِنْكَ يَخْجَلُ
…
>?
وحكي أن الرشيد حبس أبا العتاهية فكتب على جدار الحبس:
…
أَمَا وَاللهِ إِنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ
وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى الدَّيَّانَ يَوْمَ الدِّينِ نَمْضِي
وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا
غَدًا عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنْ الظَّلُومُ
تَنَامُ وَلَمْ تَنَمْ عَنْكَ الْمَنَايَا
تَنَبَهْ لِلْمَنِيَّةِ يَا نَؤُومُ
لَهَوْتَ عَن الْفَنَاءِ وَأَنْتَ تَفْنَى
وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا يَدُومُ
تَرُومُ الْخُلْدُ فِي دَارِ الْمَنَايَا
وَكَمْ قَدْ رَامَ غَيْرُكَ مَا تَرُومُ
سَلِ الأَيَّامَ عَنْ أُمَمٍ تَقَضَّتْ
سَتُخْبِرُكَ الْمَعَالِمُ وَالرُّسُومُ
…
>?
فأخبر الرشيد بذَلِكَ فَبَكَى بكاءً شديدًا ودعًا أبا العتاهية فأستحله ووهب له ألف دينارٍ لحبسه من غير موجبٍ شرعي.
آخر:
…
مَا دَارُ دُنْيَا لِلْمُقِيمِ بِدَارِ
…
وَبِهَا النُّفُوسُ فَرِيسَةُ الأَقْدَارِ
مَا بَيْنَ لَيْلٍ عَاكِفٍ وَنَهَارِهِ
…
نَفَسَانِ مُرْتَشِفَانِ لِلأَعْمَارِ
طُولُ الْحَيَاةِ إِذَا مَضَى كَقَصِيرِهَا
…
وَاليسْرُ لِلإِنْسَانِ كَالإِعْسَارِ
وَالْعَيْشُ يَعْقِبُ بِالْمَرَارَةِ حُلْوَهُ
…
وَالصَّفْوُ فِيهِ مُخَلَّفُ الأَكْدَارِ
وَكَأَنَّمَا تَقْضِي بُنِيَّاتُ الرِّدَى
…
لِفَنَائِنَا وَطْرًا مِن الأَوْطَارِ
وَالْمَرْءُ كَالطَّيْفِ الْمُطِيفِ وَعُمْرُهُ
…
كَالنَّوْمُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالأَسْحَارِ
خَطْبٌ تَضَاءَلَتَ الْخُطُوبُ لِهَوْلِهِ
…
أَخْطَارُهُ تَعْلُو عَلَى الأَخْطَارِ
نُلْقِي الصَّوَارِمَ وَالرِّمَاحَ لِهَوْلِهِ
…
وَنَلُوذُ مِنْ حَرْبٍ إِلَى اسْتِشْعَارِ
إِنَّ الَّذِينَ بَنُوا مَشِيدًا وَانْثَنَوْا
…
يَسْعُونَ سَعْي الْفَاتِكِ الْجَبَّارِ
سَلَبُوا النَّضَارَةَ وَالنَّعِيمَ فَأَصْبَحُوا
…
مُتَوَسِّدِينَ وَسَائِدَ الأَحْجَارِ
تَرَكُوا دِيَارَهُمُ عَلَى أَعْدَاهِم
…
وَتَوَسَّدُوا مَدَرًا بِغَيْرِ دِثَارِ
خَلَطَ الْحِمَامُ قَوِيَّهمُ بِضَعِيفِهِمْ
…
وَغَنِيَّهمُ سَاوَى بِذِي الأَقْتَارِ
وَالْخَوْفُ يُعْجِلُنا عَلَى آثَارِهِمْ
…
لا بُدَّ مِنْ صُبْحِ الْمُجِدِّ السَّارِي
وَتَعَاقُبُ الْمَلَوَيْنِ فِينَا نَاثِرٌ
…
بِأَكَرِّ مَا نَظَمَا مِن الأَعْمَارِ
اللَّهُمَّ يا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا حالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا راد لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك على كُلّ شَيْء قدير وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
موعظة
عباد الله لَقَدْ توعد الله الَّذِينَ يخالفون أمره ويتصرفون عن ذكره ويجترؤن على معاصيه بشديد غضبه وعَظِيم سخطه وحذرهم بأسه وانتقامه فما بال كثير من النَّاس بعد القرون الأولى عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها ومأموراته فاجتنبوها ثُمَّ عادوا بمر الشكوى من تغبر الأَحْوَال وانتزاع البركة من الأرزاق والأموال.
أحسبت أنك يا ابن آدم تهمل وتترك فلا تعاقب، وتظلم وتتقلب في النَّعِيم كيف شئت ولا تحاسب أنسيت قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«إن ليملي للظَالِم حتى إذا أخذه لم يفلته» . كُلّ هَذَا من جهالتك وانطماس بصيرتك ولكن اعمل ما شئت فسيرى الله عملك ثُمَّ ترد إليه ويجازيك بما تستحق جهلت في حال النَّعِيم وكَانَ الواجب عَلَيْكَ أن تتعرف إِلَى اللهِ في الرخاء ليعرفك في الشدة، ولكن لم تفعل وأصبحت بعد زوالها منك شكو لمن؟ تشكو لمن عصيته بالأمس تشكو لمن خالفت أوامره وفعلت نواهيه مَعَ علمك أنه المنتقم الجبار تشكو لمن حاربته بالمعاصي المتنوعة وقَدْ أسبغ عَلَيْكَ نعمه ظاهرة وباطنة ولو شَاءَ لمنعها عَنْكَ لأنه الفعال لما يريد تشكو لمن تأكل نعمه في أرضه مستعينًا بها على معاصيه أليس عملك هَذَا في منتهى اللآمة والخساسة يمدك بالنعم وتبارزه بالمعاصي ألك صبر على جهنم وزمهريرها ألك طاقة بالويل والغساق والزقوم والحميم والضريع، عباد الله هَذَا الَّذِي نَحْنُ فيه من الانهماك في الدُّنْيَا وقتل كُلّ الوَقْت في جمعها والابتعاد عن الآخِرَة وانتشار المعاصي بسرعة هائلة ما هُوَ والله
إِلا بما كسبت أيدينا قال تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآيَة. عباد الله إن غلاء الأسعار، وانتشار الأمراض، وما رأيتم من الفتن والتعقيد في الممتلكات والتقاطع والعقوق ما هُوَ وَاللهِ إِلا جزاء عملنا وما هُوَ إِلا قليل من كثير فقَدْ تمادينا في المعاصي والله يغار على أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب قال صلى الله عليه وسلم:«لا أحد أغير من الله» . الْحَدِيث.
تَيَقَنْتُ أَنِّي مُذْنِبٌ وَمُحَاسِبْ
وَلَمْ أَدْرِ هَلْ نَاجٍ أَنَا أَوْ مُعَاقَبُ
وَمَا أَنَا إِلا بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَاقِفٌ
فَإِمَّا سَعِيدٌ أَمْ بِذَنْبِي مُطَالَبُ
وَقَدْ سَبَقْتَ مِنِّي ذُنُوبٌ عَظِيمَةٌ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا تَكُونُ الْعَوَاقِبُ
فَيَا مُنْقِذِ الْغَرْقَى وَيَا كَاشِفَ الْبَلا
وَيَا مَنْ لَهُ عِنْدَ الْمَمَاتِ مَوَاهِبُ
أَغِثْنَا بِغُفْرَانٍ فَإِنَّكَ لَمْ تَزَلْ
مُجِيبًا لِمَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ
…
>?
اللَّهُمَّ أحينا في الدُّنْيَا مؤمنين طائعين وتوفنا مسلمين تائبين واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وعن عَبْد اللهِ بن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال الزبير
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أي رسول الله أيكرر عَلَيْنَا ما كَانَ بيننا في الدُّنْيَا مَعَ خواص الذُّنُوب؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم ليكررن عليكم حتى يؤدي إلى كُلّ ذي حق حقه» . قال الزبير: وَاللهِ إن الأَمْر لشديد. رواه الترمذي.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((والَّذِي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحا)) . تفرد به أَحَمَد رحمه الله. وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: رأى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم شاتين ينتطحان فَقَالَ: «أتدري فيما ينتطحان يا أبا ذر» ؟ قُلْتُ: لا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لكن الله يدري وسيحكم بينهما» .
فتفكر الآن في نفسك إن خلت صحيفتك عن المظَالِم وعفى الله عَنْكَ ورحمك فأيقنت بسعادة الأبد كيف يكون سرورك واغتباطك في منصرفك من فصل الِقَضَاءِ وقَدْ خلع عَلَيْكَ خلعة الرِّضَا وعدت بسعادة لَيْسَ بعدها شقاء ونعم بدنك بنعيم لا يدور بحواشيه الفناء وعَنْدَ ذَلِكَ طار قلبك سرورًا وأنسًا وابتهاجًا وفرحًا وصرت من الحزب الَّذِينَ ابيضت وجوههم واستنارت وأشرقت فتصور مشيك بين الخلائق رافعًا رأسك خَاليًا من الأوزار ظهرك، يعرف في وجهك نضرة النَّعِيم والخلق ينظرون إليك وإلى حالك ويغبطونك في حسنك وجمالك والملائكة يَمْشُونَ بين يديك يبشرونك بما يسرك.
وإن تكن الأخرى والعياذ بِاللهِ بأن خرجت الصحيفة مملؤة من المظَالِم ومقته الله ولعنه ونكس هَذَا المجرم رأسه الوجه أزرق
العينين وأخذته الزبانية بناصيته يسحبونه على وجهه على ملأ من الخلق وهم ينظرون إليه وَهُوَ ينادي بالويل والثبور له ولأمثاله {لَا تَدْعُوا اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} فما أعظم جرم من يستتر ويحترز عن ملاء من الخلق خشية الافتضاح عندهم في هذه الدُّنْيَا المضمحلة المنقرضة ثُمَّ لا يخشى من الافتضاح عَنْدَ علام الغيوب وفي ذَلِكَ الملاء العَظِيم مَعَ التعرض لسخط بديع السماوات والأَرْض فالق الحب والنوى.
شِعْرًا:
…
تَوَارَى بِجُدْرَانِ الْبُيُوتِ عَنِ الْوَرَى
وَأَنْتَ بِعَيْنِ اللهِ لَوْ كُنْتَ تُنْظُرُ
وَتَخْشَى عُيُونَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا بِهَا
وَلَمْ تَخْشَ عَيْنَ اللهِ وَاللهُ يَنْظُرُ
آخر:
…
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ الْبَعُوضِ جَنَاحَهَا
فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ الأَلِيلِ
وَيَرَى مَنَاطَ عُرُوقِهَا فِي نَحْرِهَا
وَالْمُخَّ فِي تِلْكَ الْعِظَامِ النُّحَلِ
وَيَرَى مَكَانَ الدَّمِ مِنْ أَعْضَائِهَا
مُتَنَقِّلاً مِنْ مَفْصِلٍ فِي مَفْصِلِ
وَيَرَى مَكَانَ الْمَشْيِ مِنْ أَقْدَامِهَا
وَخَطِيضَهَا فِي مَشْيِهَا الْمُسْتَعْجِلِ
وَيَرَى وَيَسْمَعُ حِسَّ مَا هُوَ صَوْتُهَا
فِي قَعْرِ بَحْرٍ غَامِضٍ مُتَجَدْوِلِ
…
>?
.. أَصْوَاتُهَا مَرْفُوعَةً عَِنْدَ النِّدَا
أَرْزَاقُهَا مَقْسُومَةٌ لِسُّؤَلِ
اغْفِرْ لِعَبْدٍ تَابَ مِنْ فَرَطَاتِهِ
مَا كََانَ مِنْهُ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ
آخر:
…
إِنَّ الْقُلُوبَ يَدُ الْبَارِي تُقَلِّبُهَا
فَاسْأَل مِن اللهِ تَوْفِيقًا وَتَثْبِيتًا
مَنْ يُضلِلِ اللهَ لا تَهْدِيهِ مَوْعِظَةُ
وَإِنْ هَدَاهُ فَلَوْ قَدْ كَانَ عِنْتِيْتَا
فَهَذِهِ غُرْبَةُ الإِسْلامِ أَنْتَ بِهَا
…
فَكُنْ صَبُورًا إِذَا فِي اللهِ أَوْذِيتَا
وَاسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِهِ خَيْرًا يَمُنَّ بِهِ
…
عَلَيْكَ وَاصْبِرْ وَلَوْ فِي الدِّينِ عُودِيتَا
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَخْلُوقٌ لِطَاعَتِهِ
…
فَإِنْ أَجَبْتَ فَلِلْخَيْرَاتِ أُوتِينَا
وَسَوْفَ تَرْضَى غَدًا إِنْ كُنْتَ مُعْتَصِمًا
…
بِالْوَاحِدِ الْفَرْدِ لا بِالشِّرْكِ إِنْ جِيتَا
اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وثَبِّتْ محبتك فيها وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حب أوليائك وبغض أعدائك وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(مَوْعِظَةٌ في الحَثِّ عَلى الإقْبَالِ عَلى الآخِرَةِ)
إخواني أين رفقاؤنا وإخواننا أين ذهب معارفنا وجيرانَا أين أصدقاؤنا أين زملاؤنا وأقراننا أين علماؤنا العاملون بعلمهم أين آباؤنا
وأجدادنا رحلوا وَاللهِ بعدهم بقاؤنا هذه مساكنهم فيها غيرهم قَدْ نسيناهم محبهم وجفاهم أين أصحاب القصور الحصينة، والأنساب العالية الرصينة والعقول الراجحة الرزينة قبضت عَلَيْهمْ يد الْمَنَايَا فظفرت ونقلوا إلى أجداثٍ ما مهدت إذ حفرت ورحلوا بذنوب لا يدرون هل غفرت أو بقيت فالصحيح مِنْهُمْ بالحزن قَدْ سقم والمدعو إلى دار البلى أسرع ولم يقم واْلكِتَاب قَدْ سطر بالذُّنُوب فرقم. ولذيذ عيشهم بالتنغيص قَدْ ختم وفراقهم لأحبابهم وأموالهم قَدْ حتم والولد قَدْ ذل ويتم فتفكروا في القوم كيف رحلوا وتذكروا ديارهم أين نزلوا، واسألوا منازلهم عنهم ماذا فعلوا فانتبه من رقادك قبل أن تصل ما وصلوا يا من غفل وسهى ولهى ونسي المقابر والبلى.
شِعْرًا:
…
إِنَّ الْحَبِيبَ مِن الأَحْبَابِ مُخْتَلَسُ
…
لا يَمْنَعُ الْمَوْتَ بَوَّابٌ وَلا حَرَسُ
فَكَيْفَ تَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا
…
يَا مَنْ يُعَدُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَالنَّفْسُ
أَصْبَحْتَ يَا غَافِلاً فِي النُّقْصِ مُنْغَمِسًا
…
وَأَنْتَ دَهْرَكَ فِي اللَّذَاتِ مُنْغَمِسُ
لا يَرْحَمُ الْمَوْتُ ذَا جَهْلٍ لِغَرَّتِهِ
…
وَلا الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْعِلْمُ يُقْتَبَسُ
كَمْ أَخْرَسَ الْمَوْتُ فِي قَبْرٍ وَقَفْتُ بِهِ
…
عَنِ الْجَوَابِ لِسَانَا مَا بِهِ خَرْسُ
قَدْ كَانَ قَصْرُكَ مَعْمُورُ لَهُ شَرَفُ
…
وَقَبْرُكَ اليوم فِي الأَجْدَاثِ مُنْدَرِسُ
آخر:
…
لَنا كُلّ يَومٍ رَنَّةٌ خَلفَ ذاهِبٍ
وَمُسْتَهْلَكٌ بينَ النَوى وَالنَوائِبِ
وَقَلعَةُ إِخْوَان كَانَا وَرَاءَهُمْ
نُرامِقُ أَعْجَازَ النُّجُومِ الغَوَارِبِ
…
>?
.. نُوادِعُ أَحداثَ اللَيالي عَلى شَفًا
نُوادِعُ أَحداثَ اللَيالي عَلى شَفًا
وَنَأمُلُ مِن وَعدِ المُنى غَيرَ صادِقٍ
وَنَأمَلُ مِن وَعدِ الرَدى غَيرَ كاذِبِ
إِلى كَم نُمَنّى بِالغُرورِ وَنَنثَني
بِأَعناقِنا لِلمُطمِعاتِ الكَواذِبِ
نُراعُ إِذا ما شيكَ أَخمَصُ بَعضِنا
وَأَقدامُنا ما بَينَ شَوكِ العَقارِبِ
وَنُمشي بِآمالٍ طِوالٍ كَأَنَّنا
أَمِنّا بَناتَ الخَطبِ دونَ المَطالِبِ
نَعَم إِنَّها الدُّنْيَا سِمومٌ لِطاعِمٍ
وَخَوفٌ لِمَطلوبٍ وَهَمٍّ لِطالِبِ
وَإنَا لَنَهواها عَلى الغَدرِ وَالقِلا
وَنَمدَحُها مَع عِلمِنا بِالمَعائِبِ
وَمَن كانت الأَيّامُ ظَهرًا لِرَحلِهِ
فَيا قُربَ ما بَينَ المَدى وَالرَكائِبِ
تَحِلُّ الرَزايا بِالرِجالِ وَتَنجَلي
وَرُبَّ مُصابٍ يمُقْلِعِ عَن مَصائِبِ
…
>?
آخر:
عَزّى بَعْضهمْ أخًا فَقَالَ:
…
تَصَبَّرْ فَإِنَّ الأَجْرَ أَسْنَى وَأَعْظَمُ
…
وَلازِمْ لِمَا يَهْدِي لِمَا هُوَ أَقْوَمُ
وَلَوْ جَازَ فَرْطُ الْحُزْنِ لِلْمَرْءِ لَمْ يُفِدْ
…
فَمَا بَالَنَا لا نَسْتَفِيدُو نَأْثَمُ ج
وَإِنِّي عَنْ نَدْبِ الأَحِبَّةِ سَاكِتُ
…
وَإِنْ كَانَ قَلْبِي بِالأَسَى يَتَكَلَّمُ
وَقَالَ آخر مَاتَ له طفل:
فَإِنْ كُنْتَ تَبْكِيهِ طَلابًا لِنَفْعِهِ
…
فَقَدْ نَالَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ مُسَارِعًا
وَإِنْ كُنْتَ تَبْكِي أَنَّهُ فَاتَ عَوْدُهُ
…
عَلَيْكَ بِنَفْعِ فَهُوَ قَدْ صَارَ شَافِعًا
آخر:
…
جَاوَرْتُ أَعْدَائِي وَجَاوَرَ رَبِّهُ
…
شَتَّانَ بَيْنَ جَوَارِهِ وَجِوَارِي
اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم يا ذا الجلال والإكرام يا واحد أحد يا فرد صمد يا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلى كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كُلّ من نصر الدين وأن تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وأن تلهمنا ذكرك وشكرك وأن تأخذ بنواصينا إلى ما ترضاه وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا وأن تهون أمر الدُّنْيَا عَلَيْنَا وأن تغفر لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) في تحريم القتل وإثُمَّ القاتل
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين أن القتل من أكبر الكبائر وأعظم الذُّنُوب وأشد الآثام بل هُوَ أغلظها جميعًا بعد الإشراك بِاللهِ وما زال النَّاس مُنْذُ تكونوا جماعات وظهر فيما بينهم تعارض الرغبات والشهوات وتمكنت بها في النُّفُوس بواعث التعدي يرون أن جريمة القتل من أكبر الجرائم وَذَلِكَ أنها سلب لحياة المجني عَلَيْهِ بغير حق وتيتيم لأولاده وترميل لنسائه وحرمان لأهله وأقاربه وإضاعةً لحقوقه،
وقطع لأعمال حَيَاتهُ، والحيلولة بينه وبين التوبة والوصايا وغير ذَلِكَ وإيصال النَّاس حقوقهم إن كَانَ عَلَيْهِ لَهُمْ شَيْء وأَنْتَ إذا تتبعت المعاصي معصية معصية لا تجد لواحدةٍ منها فسادًا يساوي فساد القتل لأن الإِنْسَان إذا مَاتَ ومحي من الوجود ذهب كله ولم يبق ناحية من نواحيه ولَيْسَ ذَلِكَ المعنى في أي معصية ولذَلِكَ كانت هذه الكبيرة تلي الشرك بِاللهِ وورد عن أبي مُوَسى رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أصبح إبلَيْسَ بث جنوده فَيَقُولُ: من أضل اليوم مسلما ألبسته التاج. قال: فيجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى طلق امرأته، فَيَقُولُ: يوشك أن يتزوج، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى عق والديه، فَيَقُولُ: يوشك أن يبرهما، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى أشرك فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى قتل فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ ويلبسه التاج» . رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه.
وأيضًا تحد لشعور الجماعة البشرية الَّذِي فطرت عَلَيْهِ من اعتقاد أن الحياة جعلها الله حقًّا لكل حيٍّ يمتع به ولا يجوز انتزاعه منه إِلا بحق شرعي.
وأيضًا جريمة القتل مزعزعة لما ترجو هذه الجماعة، من هدوء الحياة واستقرارها وأيضًا هدم لعمارة شادها الله تتَكُون منها ومن أمثالها العمارة لهَذَا الكون.
وهَذَا القرآن الكريم يحدثنا عن أول اعتداءٍ وقع من الإِنْسَان على أخيه ويصور لنا كيف كَانَ القاتل والمقتول كلاهما يعدان القتل جريمة آثمة تستوجب غضب الله وعقابه وأن القاتل لشعوره بهَذَا كَانَ يعالج في
نفسه الأقدام على هذه الجريمة علاج الكاره المتحرج حتى {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وَقَالَ بعض المفسرين علة قوله تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} من أجل الاعتداء الَّذِي لا موجب له ولا مبرر على المسالمين الوادعين الَّذِينَ لا يريدون شرًّا ولا مدافعة {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أن جريمة قتل نفس واحدة بلا مبرر من قصاص أو دفع لفساد عام كجريمة قتل النَّاس جميعًا وأن حماية نفس واحدة واستحياءها بهذه الحماية في أية صورة من صورها ومنها القصاص كأنها استحياء للناس جميعًا.
ذَلِكَ أن الاعتداء على نفس واحدة هُوَ اعتداء على حق الحياة الَّذِي يصون للناس جميعًا فالاستهتار بهَذَا الحق اعتداء على كُلّ من يدلي به ويتحصن به والمحافظة عَلَيْهِ محافظة على الحق الَّذِي تصان به دماء النَّاس وأرواحهم فلَيْسَتْ نفس مفردة هِيَ التي تقتل إنما هُوَ حقها في الحياة التي يشاركها فيها النَّاس، ولَيْسَتْ نفس مفردة هِيَ التي تصان إنما هِيَ كُلّ نفس مستحقة للصيانة بما استحقت به تلك النفس الواحدة. أ. هـ.
وقَدْ اختلف الْعُلَمَاء هل للقاتل من توبة أم ى فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف علماء الكوفة فيها فرحلت إلى ابن عباس رضي الله عنه فسألته فَقَالَ: نزلت هذه الآيَة: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} . الآيَة وهي من آخر ما نزل، وما نسخها شَيْء.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: كنا عَنْدَ ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا عَبْد اللهِ بن عباس ما تَرَى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فَقَالَ: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} قال: أفرَأَيْت إن {تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى والَّذِي نفسي بيده، لَقَدْ سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«ثكلته أمه، قاتل مُؤْمِن متعمدًا، جَاءَ يوم القيامة آخذ بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه في قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يَقُولُ: يا رب سل هَذَا فيما قتلني» ؟ وأيم الَّذِي نفس عَبْد اللهِ بيده لَقَدْ أنزلت هذه الآيَة فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم وما نزل بعدها من برهان.
وعن عَبْد اللهِ بن مسعود عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء المقتول متعلقًا بقاتله يوم القيامة آخذ رأسه بيده فَيَقُولُ: يا رب سل هَذَا فيم قتلني قال: فَيَقُولُ قتلته لتَكُون العزة لفلان قال: فإنها لَيْسَتْ له بؤ بإثمه قال: فيهوى في النار سبعين خريفًا» .
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلّ ذنب عَسَى الله أن يغفره إِلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا» . رواه أَحَمَد والنسائي، ولأبي داود من حديث أبي الدرداء كَذَلِكَ وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من أعان على قتل مُؤْمِن بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» .
اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدُّنْيَا والهوى ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تغفر وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
أخَرَجَ الطبراني في الكبير والضياء في المختَارَّة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أبى الله أن يجعل لقاتل المُؤْمِن توبة» .
وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن على الله من قتل مُؤْمِن بغير حق» . رواه ابن ماجة بإسناد حسن. ورواه البيهقي والأصبهاني، وزَادَ فيه:«ولو أن أَهْل سماواته وأَهْل أرضه اشتركوا في دم مُؤْمِن لأدخلهم الله النار» .
وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: لزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن عَنْدَ الله من قتل رجل مسلم» . رواه مسلم والنسائي والترمذي مرفوعًا وموقوفًا ورجح الموقوف.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاء» . رواه البخاري ومسلم وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المُؤْمِن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» . وَقَالَ ابن عمر رضي الله عنهما: إن من ورطات الأمور التي لا مخَرَجَ لمن أوقع نَفْسهُ فيها سفك الدم الحرام بغير حله. رواه البخاري والحاكم وَقَالَ: صحيح على شرطهما وروى ابن ماجة عن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: رَأَيْت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة وَيَقُولُ «ما أطيبك وما أطيب ريحك ما أعظمك وما أعظم حرمتك والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لحرمة المُؤْمِن عَنْدَ الله أعظم من حرمتك ماله ودمه» . وعن أبي سعيد وأَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنهما عن رسول الله
صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لو أن أَهْل السماء وأَهْل الأَرْض اشتركوا في دم مُؤْمِن لأكبهم الله في النار» . رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن غريب وروى الطبراني في الصغير من حديث أبي بكرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أَهْل السماوات والأَرْض اجتمعوا على قتل مسلم لكبهم الله جميعًا على وجوههم في النار» .
وعن جندب بن عَبْد اللهِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين الْجَنَّة ملء كف من دم امرئ مسلم أن يهريقه، كما يذبح به دجاجة كُلَّما تعرض لباب من أبواب الْجَنَّة حال الله بينه وبينه ومن استطاع منكم أن لا يجعل في بطنه إِلا طيبًا فليفعل فإن ما ينتن من الإِنْسَان بطنه» . رواه الطبراني ورواته ثقات.
وَقَالَ عبد الملك بن مروان كنت أجالس بريرة بالْمَدِينَة فكانت تَقُول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالاً، وإنك لخليق أن تلي الأَمْر فإن وليته فاحذر الدُّنْيَا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إن الرجل ليدفع عن باب الْجَنَّة بعد أن ينظر إليها، بملء محجمة من دم يهريقه من مسلم بغير حق» . انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض النَّاس إِلَى اللهِ ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» . رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام: أخبر صلى الله عليه وسلم أن أبغض النَّاس إِلَى اللهِ هؤلاء الثلاثة وَذَلِكَ لأن الفساد إما في الدين وإما في الدُّنْيَا فأعظم فساد الدُّنْيَا قتل النُّفُوس بغير حق، ولهَذَا كَانَ أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الَّذِي هُوَ الكفر.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلّ ذنب عَسَى الله أن يغفره إِلا لرجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمدًا» . رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد وعن أبي مُوَسى رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصبح إبلَيْسَ بث جنوده، فَيَقُولُ: من أضل اليوم مسلمًا ألبسته التاج. قال: فيجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى طلق امرأته فَيَقُولُ: يوشك أن يتزوج، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى عق والديه، فَيَقُولُ: يوشك أن يبرهما، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى أشرك فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويجيء، فَيَقُولُ: لم أزل به حتى قتل فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويلبسه التاج» . رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يخَرَجَ عنق من النار يتكلم فَيَقُولُ: وكلت اليوم بثلاثةٍ: بكل جبار عنيدٍ ومن جعل مَعَ الله إلهًا آخر ومن قتل نفسًا بغير حق فينطوي عَلَيْهمْ فيقذفهم في حمراء جهنم» . رواه أَحَمَد والبزار.
فَإِيَّاكَ قَتْلُ النَّفْسِ ظُلْمًا لِمُؤْمِنٍ
فَذَلِكَ بَعْدَ الشِّرْكِ كُبْرَى التَفَسُّدِ
كَفَى زَاجِرًا عَنْهُ توعُّدُ قَادِرٍ
بِنَارٍ وَلَعْنٍ ثُمَّ تَخْلِيدِ مُعْتَدِ
فَقَدْ قَالَ عَبْد اللهِ ذُو الْعِلْمِ وَالتُّقَى
بِنَفْيِ مَتَابِ الْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ
…
>?
اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وأمنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وممن يرى أنه لا توبة لقاتل المُؤْمِن عمدًا أَبُو هُرَيْرَةِ وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن والضحاك بن مزاحم نقله ابْن أَبِي حَاتِم عنهم وبالتالي فلو لم يرد في بيان ضخامة هَذَا الذنب ذنب القتل، وعظمه الَّذِي لا يتناهى إِلا قوله تَعَالَى:{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} .
لكَانَ فيها كفاية وموعظة وزجر، ففيها من الوعيد الشديد الَّذِي ترجف منه القُلُوب وتنصدع له الأفئدة وينزعج منه أولو العقول، فقرن سبحانه وتعالى القتل بالشرك، وبين أن جزاءه جهنم وأنه خالد فيها وأن مَعَ ذَلِكَ الْعَذَاب والخلود غضب الرب جَلَّ وَعَلا ولم تسكت الآيَة، بل أضافت إلى ذَلِكَ اللعن، وَهُوَ الطرد والإبعاد عن الرحمة ولم تنته الآيَة إلى هَذَا الحد من بيان عظم جزاء القاتل بل صرحت تصريحًا لا خفاء فيه بأن عذاب ذلك القاتل سيكون نوعًا وحده في الشدة لا يماثله عذاب أي معصية ما عدا الشرك، فذنبه أعظم الذُّنُوب وعقوبته أشد العقوبات هَذَا مِمَّا ورد في قتل الإِنْسَان غيره وأما قتل الإِنْسَان نَفْسهُ المعروف عندنا اليوم بالانتحار فهو نوع من قتل النفس التي حرم الله وَهُوَ جدير بأن يكون أفظع أنواع القتل لأن حرض الإِنْسَان على حَيَاتهُ أمر فطري يبعد
كل البعد أن تثور عَلَيْهِ عوامل الْغَضَب والانتقام.
ونفس الإِنْسَان لَيْسَتْ ملكًا له فهو لم يخلق نَفْسهُ ولا عضوا من أعضائه، بل ولا خلية من خلاياه، وإنما نَفْسهُ وديعة وأمانة عنده استودعه الله إياه، فلا يجوز له التفريط فيها ولا التصرف فيها إِلا على وفق الشرع فيكف بالاعتداء عَلَيْهَا بالتخلص منها قال تَعَالَى:{وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فالمسلم يراد منه أن يكون صلب العود قوي العزم في مواجهة الشدائد ولم يبح له أن يهرب من الحياة، ويخلع ثوبها لبَلاء نزل به، أو أملٍ كَانَ يحلم به فخاب أمله فإن المُؤْمِن خلق للجهاد لا للعقود وللكفاح لا للفرار، وإيمانه بِاللهِ وخلقه يأبيان عَلَيْهِ أن يفر من ميدان الحياة ومعه السِّلاح الَّذِي لا يفل، والذخيرة التي لا تنفد، سلاح الإِيمَان المكين، وذخيرة الخلق المتين الَّذِي استمده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تَعَالَى:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إليك إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وفقنا الله وَجَمِيع المسلمين إلى الإقتداء بهما والتمسك بهما علمًا وعملاً.
وإذا كَانَ جزاء من قاتل المُؤْمِن عمدًا ما سمعت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصور لنا جزاء قاتل نَفْسهُ من ذَلِكَ قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأَ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» . رواه البخاري ومسلم والترمذي وَأَبُو دَاود والنسائي، فهَذَا الْحَدِيث يصرح بالخلود المؤبد في حق قاتل نَفْسهُ ويفيد أن قاتل نَفْسهُ في أي آلة من
الآلات القاتلة يعذب نَفْسهُ بتلك الآلة في نار جهنم فيستعملها هناك كما استعملها هنا عِنْدَمَا قتل نَفْسهُ فيجتمَعَ عَلَيْهِ عذابان عذاب النار وعذاب الآلة المذكورة نسأل الله العافية في الدُّنْيَا والآخِرَة وعن وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعَنُ نَفْسَهُ يَطْعَنُ نَفْسَهُ فِي النَّارِ والَّذِي يَقْتَحِمُ يَقْتَحِمُ فِي النَّارِ» . رواه البخاري.
ومن ذَلِكَ ما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي قُلْتَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَدْ قَاتَلَ قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِلَى النَّارِ» . فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِين أَنْ يَرْتَابَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحة شَدِيدةٌ فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَأَخَذَ ذُبَابَ سَيْفِهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ «إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» . وعن جندب بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((كان ممن كان قيلكم رجل به جرح فجزع فاخذ سكينًا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات فقال الله بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة)) وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: أن رجلاً كانت به جراحة فأتى قرنًا له فأخذ مشقصًا فذبح به نَفْسهُ فلم
يصل عَلَيْهِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. رواه ابن حبان في صحيحه.
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رضي الله عنه أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا متعمدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْء لَا يَمْلِكُ وَلَعْنُ الْمُؤمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمْ.
وجَاءَ في ترويع المسلم عدة أحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كَانَ أخاه لأبيه وأمه» .
وَقَالَ ?: «من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة» .
وَقَالَ ?: «من أخاف مؤمنًا كَانَ حقًّا على الله ألا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة» .
شِعْرًا:
…
فَيَا عَجَبًا نَدْرِي بِنَارٍ وَجَنَّةٍ
…
وَلَيْسَ لِذِي نَشْتَاقُ أَوْ تِلْكَ نَحْذَرُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ وَشَوْقٌ وَلا حَيَا
…
فَمَاذَا بَقِي فِينَا مِنَ الْخَيْرِ يُذْكَرُ
وَلَيْسَ لِحَرٍّ صَابِرِينَ وَلا بَلَى
…
فَكَيْفَ عَلَى النِّيرَانِ يَا قَوْمُ نَصْبِرُ
وَفَوْتُ جِنَانِ الْخُلْدِ أَعْظَمُ حَسْرَةً
…
عَلَى تِلْكَ فَلَلْيَسْتَحْسِرِ الْمُتَحَسِّرِ
فَأُفٍّ لَنَا أُفٍّ كِلابُ مَزَابِلٍ
…
إِلَى بتْنِهَا نَغْدُوا وَلا نَتَذَبَّرُ
نَبِيعُ خَطِيرًا بِالْحَقِيرِ عِمَايَةً
…
وَلَيْسَ لَنَا عَقْلُ وَلُبٌّ مُنَوَّرُ
فَطُوبِي لِمَنْ يُؤْتَى الْقَنَاعَةَ وَالتُّقَى
…
وَأَوْقَاتُهُ فِي طَاعَةِ اللهِ يَعْمُرُ
آخر:
…
تَوَرَّعْ وَدَعْ مَا أَنْ يَرِيبُك كلّهُ
…
جَمِيعًا إِلَى مَا لا يَرِيبِكَ تَسْلَمِ
وَحَافظَ عَلَى أَعْضَائِكَ السَّبْعِ جُمْلَةً
…
وَرَاعِ حُقُوَق اللهِ فِي كُلُّ مُسْلِم
وَكُنْ رَاضِيًا بِاللهِ رَبًّا وَحَاكِمًا
…
وَفَوّضْ إليه فِي الأُمُورِ وَسَلّم
آخر:
…
لِكَسْرَةٌ مَنْ رَغِيفِ الْخُبْزِ تُشْبِعُنِي
…
وَشَرْبَةٌ مِنْ قَرَاحٍ الْمَاءِ تُرْوِينِي
وَخِرْقَةٍ مِنْ خَشِينِ الثَّوْبِ تَسْتُرُنيِ
…
حَيًّا وَإِنْ مِتُّ تَكْفِينِي لِتَكْفِينِي
لا أَبْتَغِي وَصْلَ مَنْ يَبْغِي مُفَارَقَتِي
…
وَلا ألينُ لِمَنْ يَبْتَغِي لِينِي
آخر:
…
قَنِعْتُ بِالْقُوتِ فِي زَمَانِي
…
وَصُنْتُ نَفْسِي عَنِ الْهَوَانِ
خَوْفًا مِن النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا
…
فَضْل فُلانٍ عَلَى فُلانِ
مَنْ كُنْتُ عَنْ مَاله غَنِيًّا
…
فَلا أُبَالي إِذَا جَفَانِي
وَمَنْ رَآنِي بِعَيْنِ نَقْصٍ
…
رَأَيْتُه بِالَّذِي رَآنِي
وَمَنْ رَآنِي بِعَيْنِ تَمٍّ
…
رَأَيْتُهُ كَامِلَ الْمَعَانِي
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وسلم.
موعظة
عباد الله طلب الرزق الحلال فريضة على كُلّ مسلم فالتمس الرزق أيها المسلم من حله وَإِيَّاكَ وما نهاك الله عَنْهُ وحرمه فمتاع الدُّنْيَا قليل؛ أيها المسلم إن جمعك للمال من حله عبادة إذا كنت تريد به إعفاف نفسك، والقيام بما أوجبه الله عَلَيْكَ من الحقوق، وَاحْذَر من
ترك الْعَمَل، وافعل الأسباب التي بها يحصل الرزق بإذن الله، واعْلَمْ أن من ترك الْعَمَل وغلب عَلَيْهِ الكسل حتى صار كلا على الخلق يعده أهله ثقلاً ويراه صاحبه بغيضًا، ولا يلقاه أحد إِلا وكره لقياه قال تَعَالَى حاثًا على طلب الرزق:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاة فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} والمُؤْمِن المحترف الكسوب الَّذِي يأكل من عمل يده مكرم محبوب محترم عَنْدَ أهله والأولاد وكَانَ نوح وداود يحترفان التجارة ومُحَمَّد صلى الله عليه وسلم رعى الغنم، ومُوَسى كَانَ أجيرًا عَنْدَ صَاحِب مدين وكَانَ إدريس خياطًا، وما أبعد هذه الأعمال الشريفة عن الكسل والبطالة وكَانَ السَّلَف رضي الله عنهم عمالاً مكتسبين فكلهم ما بين غني شريف وفقير شريف عفيفٍ، لا تشغلهم الدُّنْيَا عن الآخِرَة ولا يمنعهم الدين عن طلب الكسب والقيام بالواجبات، وهم مَعَ هذا من أقوى النَّاس توكلاً على الله ورضى بما قدّر وقضاه وهَذَا أمر الله به ورضيه.
شِعْرًا:
لِمَنْ تَطْلُبَ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ تَرِدْ بِهَا
…
رِضَى الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ
آخر:
…
وَكُنْ بِالَّذِي قَدْ خَطَّ بِاللَّوْحِ رَاضِيًا
فَلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وَخَطَّهُ
وَإِنَّ مَعَ الرِّزْقِ اشْتِرَاطُ الْتِمَاسِهِ
وَقَدْ يَتَعَدَّى إِنْ تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ
فَلَوْ شَاءَ أَلْقَى فِي فَمِّ الطَّيْرِ قُوتَهُ
وَلَكِنَّهُ أَوْحَى إِلَى الطَّيْرِ لَقْطَهُ
…
>?
آخر:
…
وَمَا طَلَبُ الْمَعِيشَةِ بِالتَّمَنِي
…
وَلِمَنْ أَلْقِ دَلْوَكَ بِالدَّلاءِ
تَجِيءُ يِمِلْئِهَا طَوْرًا وَطَورًا
…
وَتَجِيءُ بِحَمْأةٍ وَقَلِيلِ مَاءِ
آخر:
لا تَقْعُدَنَّ بِكَسْرِ الْبَيْتِ مُكْتَئِبًا
يَفْنَى زَمَانُكَ بَيْنَ اليأَسِ وَالأَمَلِ
وَاِحْتَلْ لِنَفْسِكَ فِي رِزْقٍ تَعِيشُ بِهِ
فَإِنَّ أَكْثَرَ عَيْشِ النَّاسِ بِالْحِيَلِ
وَلا تَقُلْ إِنَّ رِزْقِي سَوْفَ يُدْرِكُنِي
وَإِنْ قَعَدَتُ فَلَيْسَ الرِّزْقُ كَالأَجَلِ
…
>?
اللَّهُمَّ اغفر لنا ولا تعذبنا ووفقنا ولا تخذلنا ولا تسلب الإِيمَان منا لا ملجأ إِلا إليك ولا معول لنا إِلا عَلَيْكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل في التحذير من الزنا وآثاره في الدُّنْيَا والآخِرَة
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الله جَلَّ وَعَلا من حكمته ورحمته ركب في الإِنْسَان شهوة الفرج تركيبًا قويًّا وجعل لها عَلَيْهِ سلطة شديدةً فإذا هاجت كانت أشد الشهوات عصيانًا على العقل فلا تقبل منه صرفًا ولا عدلاً فمن لم يجعله الله قوي الإرادة شجاعًا انقاد لها صاغرًا وأطاعها ذليلاً ولولا قوة هذه الشهوة التي جعلها الله وشدة سلطانها على الإِنْسَان لأبى أن يحتمل ما يترتب عَلَيْهَا من
مشاق البيتوتة وتكاليف الزوجية وتربية الأولاد والكد والتعب من أجلهم والرضى بالآلام التي تنتابه إذا مرضوا أو أصيبوا بمكروهٍ.
فخلق الله هذه الشهوة من القوة من أوضح الدلالة على قدرة الخالق وكمال علمه وخبرته وجليل حكمته فإن الإِنْسَان مسوق إلى التناسل رغم أنفه ومسخر على احتمال كُلّ ما يترتب عَلَيْهِ من النصب ومَعَ ذَلِكَ فهو راضٍ كُلّ الرِّضَا.
وكَذَلِكَ المرأة لولا ما جعل الله فها من هذه الشهوة القوية ما كانت تستطيع حمل عبء الولادة والحمل ومشاق تربية الأولاد وهم صغار والسهر في الليالي والقيام على حراستهم ودفع الأضرار المكروهة عنهم وهم أطفال صغار واحتمال ما يعتريهم من الآلام وعدم الرَّاحَة وأيضًا فإن الله قَدْ خلق النساء على حالةٍ من الضعف لا يقدرن معها على احتمال تكاليف الحياة ومشاق الجهاد في معتركها.
فسخر الله لهن الرِّجَال يحملون عنهن كُلّ ما يعجزهن عن احتماله في سبيل حياتهن بدافع هذه الشهوة القوية التي أودعها العزيز الحكيم جَلَّ وَعَلا، ولولاها لما كَانَ للنساء هَذَا السُّلْطَان على النُّفُوس.
وإذا علمت ذَلِكَ من أن شهوة الفرج لها من القوة والتأثير هذه المكانة وأنها إنما خلقت لحكمة أرادها الله فاعْلَمْ أن العقل مسئول عن تصريف هذه الشهوة والوقوف معها عَنْدَ الحد الَّذِي خلقت من أجله ولا يتركها تهيج بالوسائل المختلفة بل يجب عَلَيْهِ أن يبعد عن كُلّ المناظر والأسباب التي تحركها وتبعثها إلى ما هُوَ ممنوع شرعًا. والأسباب التي
تثير هذه الشهوة وتهيجها منها: النظر، والخلوة بالأجنبية، وحديث النفس، وتقدم الكلام على النظر والخلوة.
وشر مضار شهوة الفرج الزنا واللواط فالزنا اكبر الكبائر بعد الشرك والقتل وَهُوَ فاحشة مهلكة وجريمة موبقة وفساد لا تقف جرائمه عَنْدَ حد ولا تنتهي آثاره ونتائجه إلى غاية وَهُوَ ضلال في الدين وفساد في الأَخْلاق وانتهاك للحرمَاتَ والأعراض واستهتار بالشرف والمروءة، وداعية للبغضاء والعداوة.
وإليك ما قال أحد المتكلمين عَنْهُ: عاره يهدم البيوت الرفيعة ويطأطئ الرؤس العالية ويسود الوجوه البيض ويصبغ بأسود من القار أنصع العمائم بياضًا ويخرس الألسنة البليغة ويبدل أشجع النَّاس من شجاعتهم جبنًا لا يدانيه جبن ويهوي بأطول النَّاس أعناقًا وأسماهم مقامًا وأعرقهم عزًّا إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة لَيْسَ لها من قرارٍ.
وَهُوَ أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما تسع ونباهة الذكر مهما بعدت وإلباس ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كَانَ في بيوتهم لفتة احترامٍ وَهُوَ أي الزنا لطخة سوداء إذا لحقت تاريخ أسرة غمرت كُلّ صحائفه البيض وتركت العيون لا تَرَى منها إِلا سوادًا حالكًا.
وَهُوَ الذنب الظلوم الَّذِي إن كَانَ في قوم لا يقتصر على شين من قارفته من نسائهم بل يمتد شينه إلى من سواها مِنْهُمْ فيشينهن جميعًا شينًا يترك لهن من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهن النسوي وَهُوَ العار الَّذِي يطول عمره طولاً فقاتله الله من ذنب وقاتل فاعَلَيْهِ. أ. هـ.
وَقَالَ آخر: إن الزنى يحط نَفْسهُ من سماء الفضيلة إلى حضيض الرذيلة ويصبح بمكَانَ من غضب الله ومقته عَظِيم ويكون عَنْدَ الخلق
ممقوتًا وفي دنياه مهين الجانب عديم الشرف منحط الكرامة ساقط العدالة تزدريه العامة من الفاسقين وإن كَانَ على أخلاقهم ويسير في ركابهم.
وتبعد عَنْهُ الخاصة من ذوي المروءة والكرامة والشرف، مخافة أن يلوثهم ويعديهم بجربه ولا تقبل روايته ولا تسمَعَ شهادته ولا يرغب في مجاورته بل يبتعد عَنْهُ كُلّ البعد ويكون متهمًا في حركاته وسكناته وَجَمِيع حالاته ولا يرغب في مصادقته ومخالطته ومعاملته.
إن سار قال النَّاس: أين يذهب هَذَا المجرم؟ وإن قعد قَالُوا: لم قعد هَذَا الفاسق في هَذَا المكَانَ وإن صاحبته أو عاملته أخذوك بذنبه ورموك بما رموه به غالبًا وإن جاورته فأعظم النَّاس إخلاصًا لك ومعرفةً بك شك في نزاهتك وأبعد عن زيارتك يخشى أن يظن أنه يريد بيت هَذَا الفاسق ولو جَاءَ إليه لأمر ضروري أكثر التلفت عَسَى أن لا يراه أحد وَهُوَ حول باب هَذَا الدنس النذل المجرم.
وإن مشت معه أنثى من أقاربه ظنوها أجنبية منه جريًا على ما اشتهر به وعلم عَنْهُ وإن جَاءَ إلى بيت إنسان شريف لأمر ضروري اشمأز منه وحرص على التخلص منه بسرعة لا يراه أحد وَهُوَ عَنْدَ بابه وإن مشى مَعَ شريف لحاجة في النَّهَارَ ود الشريف أنه كَانَ بالليل لئلا يراه أحد وَهُوَ يمشي مَعَ هَذَا الدنس العرض الساقط نسأل الله العافية.
اللَّهُمَّ اجعلنا لكتابك من التالين، ولك به من العاملين وبما صرفت فيه من الآيات منتفعين، وإلى لذيذ خطابه مستمتعين، ولأوامره ونواهيه خاضعين وبالأعمال مخلصين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
ج
شِعْرًا:
…
رَأَيتُكَ فَيْمَا يُخْطِئُ النَّاسُ تَنظُرُ
وَرَأسُكَ مِن مَاءِ الخَطيئةِ يَقْطُرُ
تَوَارَى بِجُدرانِ البُيوتِ عَنِ الوَرى
وَأَنْتَ بِعَينِ اللَهِ لَو كُنتَ تَشعُرُ
وَتَخشى عُيونَ الناسِ أَن يَنظُروا بِها
وَلَم تَخشَ عَينَ اللَهِ وَاللَهُ يَنظُرُ
وَكَمْ مِن قَبيحٍ قَد كَفى اللَهُ شَرَّهُ
أَلا إِنَّهُ يَعفو القَبيحَ وَيَستُرُ
إِلى كَم تَعامى عَن أُمورٍ مِنَ الهُدى
وَأَنْتَ إِذا مَرَّ الهَوى بِكَ تُبصِرُ
إِذا ما دَعاكَ الرُشدُ أَحجَمتَ دونَهُ
وَأَنْتَ إِلى ما قادَكَ الغَيُّ تَبدُرُ
وَلَيْسَ يَقومُ الشُكرُ مِنكَ بِنِعمَةٍ
وَلَكِن عَلَيكَ الشُكرُ إِن كُنتَ تَشكُرُ
وَما كُلُّ ما لَم تَأتِ إِلّا كَما مَضى
مِنَ اللَهوِ في اللَذاتِ إِن كُنتَ تَذكُرُ
وَما هِيَ إِلّا تَرحَةٌ بَعدَ فَرحَةٍ
كَذالِكَ شُربُ الدَهرِ يَصفو وَيَكدُرُ
كَأَنَّ الفَتى المُغتَرَّ لَم يَدرِ أَنَّهُ
تَروحُ عَلَيْهِ الحادِثاتُ وَتَبكُرُ
أَجَدَّكَ أَمّا كُنتَ وَاللَهوُ غالِبٌ
عَلَيكَ وَأَمّا السَهوُ مِنكا فَيَكثُرُ
…
>?
.. وَأَمّا بَنو الدُّنْيَا فَفي غَفَلاتِهِم
وَأَمّا يَدُ الدُّنْيَا فَتَفري وَتَجزُرُ
وَأَمّا جَميعُ الخَلقِ فيها فَمَيِّتٌ
وَلَكِنَّ آجالاً تَطولُ وَتَقصُرُ
لَهَوتَ وَكَمْ مِن عِبرَةٍ قَد حَضَرتَها
وَأَنْتَ تَرَى في ذَاك أَنَّكَ تَتْجُرُ
خُدِعتَ عَنِ الساعاتِ حَتّى غُبِنتَها
وَغَرَّتكَ أَيّامٌ قِصارٌ وَأَشهُرُ
فَيا بانِيَ الدُّنْيَا لِغَيرِكَ تَبتَني
وَيا عامِرَ الدُّنْيَا لِغَيرِكَ تَعمُرُ
وَمالَكَ إِلّا الصَبرُ وَالبِرُّ عُدَّةٌ
وَإِلا اعتِبارٌ ثاقِبٌ وَتَفَكُّرُ
…
>?
وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
عباد الله إن التوبة من الذُّنُوب مفتاح السعادة في هذه الدار وفي دار القرار، وإنما كانت التوبة كَذَلِكَ لأن بها يغفر الله الذُّنُوب جميعًا لا فرق بين صغارها والكبار ولأن التائب إذا صحت توبته بأن اجتمعت شروطها وانتفت الموانع يصبح التوبة أمينًا على دينه لا يخل بواجب من واجبات الإسلام فتوبوا عباد الله توبة نصوحًا لتستنير قلوبكم وأبدانكم بدل ظلمَاتَ كانت مخيمة عَلَيْهَا تثقلكم عن طاعة مولاكم وستجدون بإذن الله انشراحًا في صدوركم بدل انقباضها وضيقها فإن الذُّنُوب تؤثر على
القُلُوب والأبدان انقباضًا يشتد على المصر على الذُّنُوب حتى يضيق به فسيح الأرجَاءَ ولك أيها التائب العامل بالطاعات الأمل القوي بتوالي الطاعات لأن الخيرات تنتج بإذن الله بعضها بعضًا ولك الأمل القوي بأن تنقاد لك الأرزاق بعد أن كانت ممتنعة فتصبح في يسر بعد أن كنت في إعسارٍ ولك الأمل في أن العداوات التي كانت بينك وبين الخلق تصبح بإذن الله حبًّا يلفت الأنظار ذَلِكَ أن الذُّنُوب والمعاصي هِيَ أسباب الشرور والعقوبات المؤلمَاتَ وأن المرء بالتوبة منها يرضي بديع الأَرْض والسماوات فتأكد أيها الأخ أن التوبة هِيَ الينبوع الفياض لكل خَيْر في الدُّنْيَا والآخِرَة فلا تشك في أن الله تَعَالَى يفيض من فضله وجوده ما يفيض على من أخلص الْعَمَل لجلاله فتب أيها الأخ واصدق في التوبة واسأله أن يبلغك بها رضوانه وأن يجعلك من حزبه المفلحين الَّذِينَ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فتعيش وتموت وتبعث في رعاية ربك ولطفه وغيرك ممن لم يتوبوا في إهانته البالغة يتقلبون فعَلَيْكَ بالاعتماد على الله والتوكل عَلَيْهِ واللجَاءَ إليه دائمًا متضرعًا متملقًا خصوصًا في آخر الليل.
شِعْرًا:
…
إِذَا وَجَدَ الإِنْسَان لِلْخَيْرِ فُرْصَةً
…
وَلَمْ يَغْتَنِمْهَا فَهُوَ لا شَكَّ خَاسِرُ
وَهَلْ مِثْلَ تَالي اللَّيْلِ لِلْعَفْوِ مَوْسِمُ
…
وَلَكِنْ فَأَيْنَ الْعَامِلُ الْمُتَبَادِرُ
شِعْرًا:
…
لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجَا وَالنَّاسُ قَدْ رَقَدُوا
وَبِتُ أَشْكُو إِلَى مَوْلاي مَا أَجِدُ
فَقُلْتُ يَا أَمَلِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ
وَمَنْ عَلَيْهِ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَعْتَمِدُ
…
>?
.. أَشْكُو إليك أُمُورًا أَنْتَ تَعْلَمُهَا
مَالي إِلَى حَمْلِهَا صَبْرٌ وَلا جَلَدُ
وقَدْ مَدَدْتُ يَدِي بِالذُّلِّ مُبْتَهِلاً
إليك يَا خَيْرَ مَنْ مُدَّتْ إليه يَدُ
فَلا تَرُدَنَّهَا يَا رَبُّ خَائِبَةً
فَبَحْرُ جُودِكَ يُرْوِي كُلَّ مَنْ يَرِدُ
آخر:
…
عَطَاءُ ذِي الْعَرْشِ خَيْرٌ مِنْ عَطَائِكُمُ
وَسَيْبُهُ وَاسِعٌ يُرْجَى وَيَنْتَظَرُ
أَنْتُمْ يُكَدِّرُ مَا تُعْطُونَ مِنَّتُكُمْ
وَاللهُ يُعْطِي وَلا مَنٌّ وَلا كَدَرُ
لا حُكْمَ إِلا لِمَنْ تَمْضِي مَشِيئَتُهُ
لا حُكْمَ إِلا لِمَنْ تَمْضِي مَشِيئَتُهُ
آخر:
…
شَادَ الْمُلُوكَ قُصُورَهُمْ فَتَحَصَّنُوا
عَنْ كُلِّ طَالِبِ حَاجَةً أَوْ رَاغِبِ
غَالَوْا بِأَبْوَابِ الْحَدِيدِ لِعِزِّهَا
وَتَتَوَّقُوا فِي قُبْحِ وَجْهِ الْحَاجِبِ
فَإِذَا تَلَطَّفَ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ
رَاجٍ تَلَقَّوْهُ بِوَعْدٍ كَاذِبِ
فَاقْصِدْ إِلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ وَلا تَكُنْ
يَا ذَا الضَّرَاعَةِ طَالِبًا مِنْ طَالِبِ
…
>?
اللَّهُمَّ وفقنا للتوبة النصوح، وَاجْعَلْنَا ممن يغدو مشمرًا في طاعتك
ويروح وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ
(أدلة على تحريم الزنا)
قال الله تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} .
ومن السنة ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . الْحَدِيث رواه البخاري ومسلم.
عَنْ ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . رواه البخاري ومسلم.
وعن عَائِشَة رضي الله عنها أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يشهد أن لا إله إِلا الله، وأن محمدًا رسول الله إِلا في إحدى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ فإنه يرجم ورجل خَرَجَ محاربًا لله ولرسوله، فإنه يقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأَرْض أو يقتل نفسًا فيقتل بها» . رواه أبو دلود والنسائي.
عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنهما عن رسول الله
صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عَنْهُ، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إِلا استجاب الله عز وجل له، إِلا زانية تسعى بفرجها، أو عشارًا» . وفي رواية: «إن الله يدنو من خلقه فيغفر لمن يستغفر إِلا لبغي بفرجها أو عشار» . رواه أَحَمَد والطبراني.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ - حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلاعَنَةِ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْء وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إليه احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» . رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عَنْدَ الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وَهُوَ خلقك» . قُلْتُ: إن ذَلِكَ لعَظِيم، ثُمَّ أي؟ قال:«أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» . قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قال: «أَنْتَ تزاني حليلة جارك» . رواه البخاري ومسلم ورواه الترمذي والنسائي.
وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنا» ؟ قَالُوا: حرام حرمه الله عز وجل ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لأن يزني الرجل بعشر نسوةٍ، أيسر عَلَيْهِ من أن
يزني بامرأة جاره» . رواه أَحَمَد ورواته ثقات والطبراني في الكبير والأوسط.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ حَدِيثًا عَنْهُمَا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ أَكَثَرَ مِنْ ذَلِكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا فَلَمَّا أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا ارْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: لأنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجَةُ فَقَالَ: تَفْعَلِينَ أَنْتَ هَذَا مِنْ مَخَافَةِ اللهِ فَانَا أَحْرَى اذْهَبِي فََلِكَ مَا أَعْطَيْتُكَ وَوَاللَّهِ لَا أَعْصِيهِ بَعْدَهَا أَبَدًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ فَعَجَبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ» . رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن وابن حبان في صحيحه والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظهر الزنا والربا في قوم، فقَدْ أحلوا بأنفسهم عذابًا» . رواه الحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ إِلَّا وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ، حَتَّىَ يَرْضَى» . ثُمَّ الْتَفَتَ إلينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «فَمَا ظَنُّكُمْ» ؟ رواه مسلم وَأَبُو دَاود.
وروى أبو يعلى وأَحَمَد وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ من حديث: «وَمَنْ مَاتَ مُدْمِنُ خَمْرْ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ نَهْرِ الْغُوطَةِ» . قِيلَ: وَمَا نَهْرُ الْغُوطَةِ؟ قَالَ: «نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ الْمُومِسَاتِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِمْ» .
شِعْرًا:
…
تَبِيتُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمَسَاوِي
…
فَأَنْتَ بِغَفْلَةٍ وَاللهِ بِتَّا
يُدِيمُ عَلَيْكَ إِحْسَانًا وَفَضْلاً
…
وَأَنْتَ تُدِيمُ لُؤْمًا أَيْنَ كُنْتَا
وَبِالْعِصْيَانِ تَخْطُر بِاخْتِيَالٍ
…
سَكَرْتَ مِنَ الْغُرُور وَمَا صَحَوْتَا
أَفِقْ مِنْ غَفْلَةٍ وَأَنِبْ لِرَبَّ
…
تَنَلْ مِنْهُ السَّمَاحَ إِذَا أَنَبْتَا
وَتَظْفَرُ بِالْقُبُولِ وَبِالأَمَانِي
…
وَفِي الدَّارَيْنِ بِالإِسْعَادِ فُزْتَا
اللَّهُمَّ ارحم غربتنا في القبور وآمنا يوم البعث والنشور وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ
عباد الله كلنا يعلم أن الزنا من كبائر الذُّنُوب وأن فيه فسادًا للزاني والزانية أما فساده للزانية فهو واضح لأنها بذَلِكَ الجرم العَظِيم - جرم الزنا - تجد حلاوة فتفسد كُلّ من اتصل بها، فيصبحون في تعلقهم بالنساء كالكلب المسعور هَذَا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى تفسد فراش زوجها إن كَانَ ذات زوجٍ وَرُبَّمَا أدخلت عَلَيْهِ أولادًا من الزناة ينفق عَلَيْهمْ طول حَيَاتهُ ويرثون منه بعد وفاته، ويتفوظون حرم الزوج، وَرُبَّمَا تولوا عقَدْ نكاح لهن، أو صاروا محارم لهن في حج، أو نحو ذَلِكَ نسأل الله العافية ومن جهة فساد الزاني فإنه بالزنا ينكلب ويتولع فيه، وكل أنثى يتعدى عَلَيْهَا يحلو لها هَذَا السفاح فنفسد كالأولى كثيرين من الناس
تنبهوا بعد أن كَانُوا غافلين فيفسدون من النساء كثيرات وهكَذَا فالواني لص يسرق ثروة النَّاس في حياتهم وبعد الْمَمَات بما يدخله عَلَيْهمْ من أولاد يعولونهم وإن كانت المرأة التي تعدى عَلَيْهَا غير متزوجة فقَدْ أفسد حياتها بهتك عرضها وصرف أنظار راغبي الزواج عَنْهَا فتعيش بعد جرم الزنا عيشة ذل وهوان لا زوج يحصنها ولا عائل يعولها هَذَا مضافًا إلى سوء السمعة وإلى الجناية على شرفها وأهلها فيقفون منه موقف الانتقام غالبًا وَرُبَّمَا قضوا عَلَيْهِ أو على ابنتهم وإن لم يقضوا وثَبِّتْ ذَلِكَ بطرق الشرع فإما جلد مائة وإما رجم يؤدي بالنفسين، هَذَا عاقبة هذه الكبيرة عصمنا الله وإياكم منها ومِنْ جَمِيعِ المعاصي فعلى الإِنْسَان أن يفكر ويعرف عواقب الجنايات على الأعراض ليحذر ويحذر عَنْهَا أجنبية أو قريبة ولا ادري كيف يقدم الزاني على الزنا وَهُوَ يؤمن أن الله مطلع عَلَيْهِ لا تخفى عَلَيْهِ منه خافية وأن جزاءه إن لم يتب توبةً نصوحًا الهاوية نسال الله السلامة منها ولا أدري كيف يزني وَهُوَ لا يشك أنه سيجازى على فعله في الدُّنْيَا قبل الآخِرَة ومن كَانَ الزنا من أعماله فلا يؤمن حتى على محارمه ولا يرغب في مصاهرته ولا مجاورته ولا مشاركته ولا معاملته ولا الإجتماع معه في محل عمله قال الله تَعَالَى:{وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقَدْ أحلوا بأنفسهم عذاب الله» . رواه الحاكم اللَّهُمَّ احمنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
مُحَمَّد اللَّهُمَّ اكتب في قلوبنا الإِيمَان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأرض اللَّهُمَّ وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا وارحمنا
بِرَحْمَتِكَ الواسعة إنك أَنْتَ الغفور الرحيم وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
فَصْلٌ
ومن مضار الزنا وآثاره السيئة في المجتمَعَ الإنساني ضياع النسل والجناية عَلَيْهِ فالزاني والزانية لو أدركا متا قَدْ يترتب على زنيتهما التي تنقضي على الفور من الآثام والشرور لهان عَلَيْهِمَا أن ينفيا من الوجود ولا يرتكبا تك الجريمة الشنعاء فقَدْ يترتب على عملهما وجود ولدٍ قَدْ تخنقه تلك الفاسقة في مهده وتسقطه جنينًا.
وقَدْ تلده إنسانَا كاملاً ثُمَّ تطرحه في شارع أو مسجد أو نحو ذَلِكَ معرضًا لمحن الحياة ومصائب الليالي والأيام لا يعرف له أمًا تحنو عَلَيْهِ ولا أبًا يرحم طفولته، ويحفل بتربيته، وقَدْ يؤول إلى حضانة إنسان غير مستقيم فيربيه على غير دين الإسلام أو على أَخْلاق فاسدة فينشأ عضوًا ضارًا بالمجتمَعَ الإنساني وَذَلِكَ بَلاء عَظِيم وضرر مبين.
فإن كانت المزني بها ذات زوج كانت خيانتها أشد وجنايتها أعظم فإنها تدخل عنصرًا غريبًا بين أبنائها تغش به زوجها فيربى غير بنيه يكد يومه ويسهر ليله لينفق على من ظنه له ولدًا وَهُوَ في الحَقِيقَة لَيْسَ له أبًا وقد يكون هذا الولد الذي أدخل على هذا الإنسان نكبة على الأسرة بتمامها فإنه قَدْ ينزع إلى أبيه الحقيق ويتبعه في أخلاقه وفساده وإجرامه فيفسد على الإِنْسَان الأسرة بأكملها.
وإن كانت غير متزوجة فإن هَذَا الفاسق المتعدي تعدى على شرفها وعائلتها وأقاربها، فأفسد حياتهم، وأهان كرامتها، وأساء
سمعتها وسمعتهم وعرضها للقتل أو للعقوبة الشديدة أو عرض عرضها للسقوط في بوءةٍ لا ينقذها منها إِلا الموت فإن قتلت فهو السبب الأول في قتلها، وإن أسقطت فهو الجاني، والإثُمَّ أوله وآخره، قَدْ نال منه ذَلِكَ الغادر المعتدي الحظ الأوفر.
ولو قيل لهَذَا المجرم الفاسق هل ترضى عملك أن يعمل في بناتك وأخوتك لبطش بالقائل إن كَانَ ضعيفًا يقدر على الانتقام منه والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه» . رواه البخاري فما أبعد هَذَا المعتدي عن الْعَمَل بهَذَا الْحَدِيث.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ؟ فَقَالَ: «أدْنُهْ» . فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ: «اجْلِسْ» . فَجَلَسَ فَقَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ» . قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ» قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْء. وورد عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عَنْدَ الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له» .
ومن مضار الزنا أن هَذَا الولد المدخل على البريء منه يرث من ماله ويكون محرمًا لبناته وزوجاته ولا يحتجبن عَنْهُ.
ومن مضاره أنه إضاعة للمال الَّذِي نهي عن إضاعته.
ومن مضاره اختلاط الأنساب وإفساد الأَخْلاق وأنه يفضى إلى فناء الأمة وأنه يدعو إلى الشقاق والفساد وأنه يوقع في الأمراض وينشرها ومن آثاره السيئة على البدن السيلان والسل الرئوي، والزهري والتشويش والقروح الأكالة.
ومن آثاره السيئة أنه يصرف الْقَلْب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه.
ومن ذَلِكَ أنه يعمي الْقَلْب ويطمس نوره وأنه يحقر النفس ويقمعها وأنه يسقط كرامة الإِنْسَان عَنْدَ الله وعَنْدَ خلقه وأنه يؤثر في نقصان العقل وانه يمحق بركة العمر وأنه يضعف في الْقَلْب تعَظِيم الله ومثله سائر المعاصي نسأل الله العفو والمعافاة من ذَلِكَ كله.
وَالسِّرّ في كثرة الزنا إلى هَذَا الحد موت غيرة كثير من النَّاس على نسائهم لا يبالون بهن ولا تتحرك مِنْهُمْ شعرة غيرة وحمية، يدلك على ذَلِكَ أن الرجل يرى امرأته بعينيه تتزين وتخَرَجَ من بيته إلى حيث لا يعلم ليلاً ونهارًا وتركب مَعَ أي سائق شاءت، وتدخل على أي خياط أرادت وتذهب إلى أي دكتورٍ باسم الكشف والعلاج وزوجها مشغول بدنياه لا يهتم لها تَرَى في خروجها رجالاً أجمل منه وأقوى منه وأنظف منه.
وَمِنْهُمْ الأفصح الأحلى كلامًا منه وهَذَا يحادثها وذاك يسامرها وقل -
ولا تبال -: إن بَعْضهمْ يغازلها، وكثيرًا ما تمتد إليها الأيدي الخائنة فهل هِيَ حجر كلا إنها بشر وناقصة عقل ودين فقل من تقوى على الوقوف أمام شهواتها فلا تقف مخافة الله بينها وبين هيجانها الحيواني.
بل الرجل الَّذِي هُوَ أقوى منها عقلاً ودينًا لا يستطيع أن يقف أمام نَفْسهُ إذا هاجت وطلبت هَذَا الشَيْء وأصبحت تشعر بلذة لم تشعر بها في حياتها. أما البكر فواضح وأما المتزوجة فإن لذة الحلال عندها ناقصة لا تساوي لذة الحرام ولا تدانيها فإن الممنوع أحب وألذ كما قيل:
وَزَادَنِي كَلَفًا فِي الْحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ
أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الإِنْسَانِ مَا مُنِعَا
…
>?
لاسيما وإبلَيْسَ يساعد عَلَيْهِ والنفس الأمارة بالسُّوء والهوى. فإذا ذاقت هذه اللذة الجديدة اشتد حرصها عَلَيْهَا كُلّ وَقْت وحينئذ تَكُون هِيَ الطالبة لا المطلوبة فتصبح تفتك بالرِّجَال فتكًا وكل رجل يزني ينكلب فيفتك النساء.
وكل امرأة يفتك بها الرجل تنكلب فتفك بالرِّجَال ويكون في هَذَا من الفساد في الأَرْض ما لا يعلم مداه إِلا الله وفي هذه الجيوش الفاسدة الجرب من الأمراض المختلفة والأوباء الكثيرة ما لا يعلم له قدر ولا حصر وباختلاطهم والحال هذه تسري أمراضهم إلى الأصحاء نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها وأن يقمَعَ أهلها والراضين بها والقادرين على إزالتها ولم يزيلوها.
اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره اللَّهُمَّ وفقنا للهداية وجنبنا أسباب الجهالة والغواية اللَّهُمَّ ثبتنا على الإسلام والسنة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أَنْتَ الوهاب، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
إذا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن الزنا أعاذنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين منه تختلف درجاته في غلظه فلَيْسَ الزنا في امرأة الكافر المحارب مثله في امرأة المعاهد ولَيْسَ هُوَ في امرأة المعاهد مثله في امرأة المسلم ولَيْسَ هُوَ في امرأة المسلم الَّذِي لَيْسَ لك بجار مثله في امرأ الجارة ولَيْسَ هُوَ في امرأة الجار مثله في امرأة الجار القريب منك وامرأة الأقرب أشد من امرأة القريب وامرأة المجاهد أشد من امرأة غيره وغير ذات الزوج لَيْسَ الزنا بها كالزنا بذات الزوج وهكَذَا تتفاوت درجاته.
وَقَالَ ابن القيم رحمه الله: وأعظم أنواع الزنا أن يزني بحليلة جاره فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما ينتهكه من الحرمة، فالزنا بالمرأة التي لها زوج، أعظم إثمًا وعقوبة من التي لا زوج لها إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه وتعليق نسب غيره عَلَيْهِ وغير ذَلِكَ من أنواع أذاه فهو أعظم إثمًا وجرمًا من الزنا بغير ذات البعل، فإن كَانَ زوجها جارًا له إنضاف إلى ذَلِكَ سوء الجوار.
وقَدْ ثَبِّتْ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الْجَنَّة
من لا يأمن جاره بوائقه» . ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأته فالزنا بمائة امرأةٍ لا زوج لها أيسر عَنْدَ الله من الزنا بامرأة الجار فإن كَانَ الجار أخًا له أو قريبًا من أقاربه انضم إلى ذَلِكَ قطيعة الرحم فيتضاعف الإثُمَّ فإن كَانَ الجار غائبًا في طاعة الله كالصَّلاة وطلب العلم والجهاد تضاعف الإثُمَّ.
حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة ويُقَالُ خذ من حسناته ما شئت قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «فما ظنكم» ؟ أي ما ظنكم أن يترك له من حسنات قَدْ حكم في أن يأخذ منها ما شَاءَ على شدة الحاجة إلى حسنةٍ واحدةٍ حيث لا يترك الأب لابنه ولا الصديق لصديقه حقًّا يجب عَلَيْهِ.
فإن اتفق أن تَكُون المرأة رحمًا منه إنصاف إلى ذَلِكَ قطيعة رحمها فإن اتفق أن يكون الزاني محصنًا كَانَ الإثُمَّ أعظم فإن كَانَ شيخًا كَانَ أعظم إثمًا وَهُوَ أحد الثلاثة الَّذِينَ {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أََلِيمٌ} فإن اقترن بذَلِكَ وقوعه في شهرٍ حرامٍ، أو بلدٍ حرامٍ، أو وقتٍ معظمٌ عَنْدَ اللهِ كأوقات الصلواتِ وأوقات الإجابة تضاعف الإثُمَّ والعقوبة وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
وَقَالَ رحمه الله: ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العَالِم فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها زوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم بين النَّاس وإن حملت من الزنا، فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله
أجنبيًا لَيْسَ مِنْهُمْ فورثهم ولَيْسَ مِنْهُمْ ورآهم وخلا بِهُمْ وانتسب إليهم ولَيْسَ مِنْهُمْ وأما زنا الرجل فإنه يوَجَدَ اختلاط الأنساب أيضًا وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد ففي هذه الكبيرة خراب الدُّنْيَا والدين.
ومن خاصيته أنه يوجب الفقر ويقصر العمر ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين النَّاس.
ومن خاصيته أيضًا أنه يشتت الْقَلْب ويمرضه ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان فلَيْسَ بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته ولهَذَا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ولو بلغ الْعَبْد أن امرأته أو حرمته قتلت كَانَ أسهل عَلَيْهِ من أن يبلغه أنها زنت.
وفي الصحيحين من خطبة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال: «يا أمة مُحَمَّد، وَاللهِ إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمدٍ، وَاللهِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا» ثُمَّ رفع يديه فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هل بلغت» .
وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله فظهور الزنا من أمارات خراب العَالِم وَهُوَ من أشراط الساعة كما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: لأحدثكم حديثًا لا يحدثكموه أحد بعدي سمعته من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقل الرجل وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد وقَدْ جرت سنة الله سُبْحَانَهُ في خلقه أنه عَنْدَ ظهور الزنا يغضب
الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه فَلا بُدَّ أن يؤثر غضبه في الأَرْض عقوبة» .
وخص سُبْحَانَهُ حد الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص، أحدها القتل فإنه أبشع القتلات وحيث خففه فقَدْ جمَعَ فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى الْقَلْب بتغريبه عن وطنه سنة، الثاني أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم من إقامة الحد عَلَيْهمْ.
الثالث: أنه سُبْحَانَهُ أمر أن يكون حدهما بمشهد من الْمُؤْمِنِين فلا يكون في خلوة حيث لا يراهما أحد وَذَلِكَ أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر.
ومن الأسباب التي ربما تَكُون سببًا إلى الوقوع في هذه المعصية خروج النساء إلى الأسواق متبرجات لسان حالهن يدعو إليهن الفسقة فخروجهن في هَذَا الزمان إلى الأسواق خطر عليهن من أكبر الأخطار فقل أن تسلم المرأة من التعرض لها إذا خرجت قولاً أو فعلاً وقَدْ يكون معها أبوها أو أخوها ولا تسلم من الاعتداء.
ومن الأسباب دخول الجانب على المرأة فإن الأجنبي إذا وقعت عينه على المرأة فأعجبته أو أعجبها كَانَ وراء ذَلِكَ الأمور التي تخشى عواقبها وأخطر الأجانب على المرأة أقارب زوجها وأقارب أبويها فَإِنَّهُمْ يترددون غالبًا وَرُبَّمَا كَانَ يجمعهم بيت واحدٌ وتَارَّة تَكُون وحدها في البيت عَنْدَ دخول أحدهم.
وفي ظِلّ ذَلِكَ التردد والتزاور والاجتماع يكون ما يكون مَعَ الدوام
والاستمرار ومن الأسباب وجود الخدامين والخدامَاتَ والمربيات والسواقين والطباخين والخيطاطين والخياطات ونحو ذَلِكَ.
ومن الأسباب تأخَيْر من بلغ من الشابات والشبان فإنه بمجرد بلوغه تهيج عَلَيْهِ الشهوة هيجان النيران فإذا لم يكن بجانبه حلال يطفئ ذَلِكَ الهيجان رما أطفأه بما يعقب له العار في الدُّنْيَا ويعقبه في الآخِرَة إن لم يتب النار.
ومن تلك الأسباب اعوجاج الأزواج وخيانتهم بالاتصال بغيرهن على غير الوجه الشرعي فإن المرأة إذا علمت أن زوجها أصبح لغيرها أصبحت لغيره مقلدة له في ذَلِكَ ومتبعة لطريقته فسفلت فباعت عرضها تسفلاً منها وانتقامًا من زوجها الَّذِي فتح أمامها باب الإثُمَّ وسار أمامها في مهاوي الخطيئة والمرأة غالبًا على دين زوجها، أفلا يكون هَذَا الرجل هُوَ الفاسق الآثُمَّ لأنه الَّذِي سن لها هذه السنة السيئة ومن سن سنة سيئة فعَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وَرُبَّمَا كَانَ مثالاً سيئًا يقتدى به في ذَلِكَ وَرُبَّمَا قلدته بناته وأولاده وأخواته وقديمًا قيل في الزوجة.
…
لا تَطّلِعْ مِنْكَ عَلَى رَيْبَةٍ
فَيَتْبَعُ الْمَقْرُونُ حَبْلَ الْقَرِينِ
…
>?
آخر:
…
وَلا تَجْلِسْ إِلَى أَهْلِ الدَّنَايَا
…
فَإِنَّ خَلائِقَ الْفُسَّاقِ تُعْدِي
وروى القاسم بن بشير في أماليه وابن عدي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: عفوا تعف نساؤكم» . وروى ابن ماجة بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من ستر عورة أخيه ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة
أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها» . قال بَعْضهمْ:
يَا هَاتِكًا حَرَمَ الرِّجَالِ وَتَابِعًا
طُرُقَ الْفَنَادِ فَأَنْتَ غَيْرُ مُكَرَّمِ
مَنْ يَزْنِ فِي قَوْمٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمْ
فِي أَهْلِهِ يُزْنَى بِرُبْعِ الدِّرْهَمِ
إِنَّ الزِّنَا دِينٌ إِذَا اسْتَقْرَضْتَهُ
كَانَ الْوَفَاءُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَاعْلَمِ
…
>?
وإنه لينذر جدًا أن تَرَى فاجرًا من بيت عفيف أو عفيفًا من بيتٍ فاجر وإن وَجَدَ ذَلِكَ على ندرته فَلا بُدَّ وَاللهُ أَعْلَمُ أن يكون من تأثير بيئة أخرى غير بيئة المنزل التي هِيَ المزرعة الأولى لبذور الأَخْلاق.
شِعْرًا:
…
أَرَى صَاحِبَ النِّسْوَانِ يَحْسَبُ أَنَّهَا
…
سَوَاءٌ وَبُونٌ بَيْنَهُنَّ بَعِيدُ
فَمِنْهُنَّ جَنَّاتٌ يَفِيءُ ضَلالُهَا
…
وَمِنْهُنَّ نِيْرَاةٌ لَهُنَّ وَقُودُ
آخر:
…
بَعْضُ النِّسَاءِ وَإِنْ عُرِفْنَ بِعِفَّمةٍ
…
جِيَفٌ عَلَيْهِنَّ النُّسُورُ الْحُوَّمُ
اليوم عِنْدَكَ جِيدُهَا وَحَدِيثُهَا
…
وَغَدًا لِغَيْرِكَ عَطْفُهَا وَالْمُعْصَمُ
كَالْخَانِ تَنْزِلُهُ وَتَصْبِحُ رَاحِلاً
…
عَنْهُ وَيَنْزِلُ فِيهَا مَنْ لا يَعْلَمُ
وأولى النَّاس بالعفة والحرص على التحلي بفضيلتها والابتعاد عن مواقع الريب هم الْعُلَمَاء والعظماء لأنهم قدوة يقتدى بِهُمْ.
أقوالهم مأثورة، وأفعالهم منظورة، وهفواتهم عظائم، وزلاتهم من أكبر الجرائم فعَلَيْهمْ أن يعرفوا أقدار أنفسهم ويقدروا لها موضعها من الكرامة.
أَدْرِكُوا الْعِلْمَ وَصُونُوا أَهْلَهُ
…
عَنْ ظَلُومٍ حَادَ عَنْ تَبْجِيلِهِ
إِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ الْعِلْمِ مَنْ
…
سَهِرَتَ عَيْنَاهُ فِي تَحْصِيلِهِ
آخر:
…
يَا خَائِفَ الْمَوْتِ لَو أَمْسَيْتَ خائِفَهُ
كانت دُمُوعُكَ طُولَ الدَّهْرِ تَنْبَجِسُ
أَمَا يَهُولُكَ يَومٌ لا دِفَاعَ لَهُ
إِذْ أَنْتَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ مُنْغَمِسُ
أَمَا تَهُولُكَ كَأسٌ أَنْتَ شارِبُها
وَالْعَقْلُ مِنْكَ لِكُوبِ الْمَوْتِ مُلْتَبِسُ
لِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الأَقْوَامُ كُلُّهُمْ
وَلِلْبِلَى كُلُّ مَا بَنُوا وَمَا غَرَسُوا
إِيّاكَ إِيّاكَ وَالدُّنْيَا وَلَذَّتَها
فَالْمَوتُ فِيهَا لِخَلْقِ اللهِ مُفْتَرِسُ
إِنَّ الْخَلائِقَ فِي الدُّنْيَا لَوِ اجتَهَدوا
أَنْ يَحبِسُوا عَنْكَ هَذَا الْمَوْتَ ما حَبَسُوا
إِنَّ الْمَنِيَّةَ حَوْضٌ أَنْتَ تَكرَهُهُ
وَأَنْتَ عَمّا قَليلِ سَوْفَ تَنغَمِسُ
ما لي رَأَيتُ بَني الدُّنْيَا قَدِ اِفتَتَنوا
كَأَنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا لَهُمْ عُرُسُ
إِذَا وَصَفْتُ لَهُم دُنْيَاهُمُ ضَحِكوا
وَإِن وَصَفْتُ لَهُمْ أُخْرَاهُمُ عَبَسُوا
مَا لِي رَأَيْتُ بَنِي الدُّنْيَا وَإِخْوَتِهَا
كَأَنَّهُم لِكِتَابِ اللهِ مَا دَرَسُوا
…
>?
اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك مناهج المتقين وخصنا بالتَّوْفِيق المبين وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ من المخلصين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون.
اللَّهُمَّ وفقنا للعمل بما يرضيك وجنبنا أسباب سخطك ومعاصيك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فصل في إثُمَّ فاحشة اللواط
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ لما يحبه ويرضاه وجنبنا وَإِيَّاكَ ما يكرهه ولا يرضاه أن اللواط رذيلة من أسوء الرذائل وخصلة من شر الخصال التي لا تليق بالإِنْسَان فإن الله خلق الإِنْسَان من ذكر وأنثى وجعل الأنثى محلاً لِقَضَاءِ الشهوة ومَكَانًا لذَلِكَ الْعَمَل الْخَاص فهو مسوق بفطرته إلى ذَلِكَ المعنى.
واللواط - أعاذنا الله وَإِيَّاكَ منه - خروج عن ذَلِكَ، واعتداءٌ صريح على الطبيعة التي ركبها الله وَذَلِكَ شر وبيل وفساد كبير وفيه عار الزنا وإثمه وعقابه بل هُوَ أشد عارًا أعظم إجرامًا ونَحْنُ بالبداهة ندرك أن عار امرأة يزنى بها لَيْسَ كعار رجل يلاط به كما أن احتقارنا وبغضنا إياها مهما كَانَ شديدًا أخف على كُلّ حال من نفرتنا من اللوطي ومقتنا له.
والسبب في هَذَا أن الزنا وإن خالف مقتضى الشرعة لم يخالف مقتضى الطبيعة التي ركبها الله في الإِنْسَان بخلاف اللواط فقَدْ خالف مقتضى الشريعة والطبيعة معًا. وقَدْ أجمَعَ أَهْل العلم على تحريم اللواط وقَدْ ذمه الله تَعَالَى في كتابه وعاب من فعله وذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي قصة قوم لوط يبدو انحراف الفطرة واضحًا حتى لأن لوطًا ليجيبهم بأنهم بدع دون خلق الله فيها وأنهم في هَذَا الانحراف الشنيع غير مسبوقين.
قال عمرو بن دينار في قوله تَعَالَى: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} قال: ما نزل ذكر على ذكر حتى كَانَ قوم لوط. وَقَالَ الوليد ابن عبد الملك لولا أن الله عز وجل قص عَلَيْنَا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا.
وعجب أن نرى تلك العادة الشائنة القبيحة تنتقل من أولئك الأَشْرَار الَّذِينَ خسف الله بِهُمْ إلى غيرهم من النوع الإنساني مَعَ إنها لم تكد توَجَدَ في الحيوانات الأخرى فإنك لا تكاد تجد حيوانَا من الذكور يأتي ذكرًا مثله اللَّهُمَّ إِلا قليلاً نادرًا كبعض الحمر الأهلية وإلى ذَلِكَ تشير الآيَة الكريمة فإنه تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: إن تلك الفاحشة لم يسبقكم بها أحد من العالمين والعَالِم كُلّ ما سِوَى الله فيشمل الإِنْسَان والْحَيَوَان قال في كتاب الأَخْلاق الدينية.
وإذا كَانَ الإِنْسَان تسوقه شهوته إلى أن يفعل ما تأباه نفوس الحيوانات العجماء فماذا يكون حاله أليس من أكبر المصائب أن تنحط درجة الإِنْسَان في شهوة الفرج عن درجة الْحَيَوَان.
اللَّهُمَّ إن في ذَلِكَ من الخزي والعار ما لا تطيقه النُّفُوس الكريمة ولا تحتمله الطباع السليمة فلو لم يكن في رذيلة اللواط سِوَى ذَلِكَ لكفى بها ذمًا يصرف النَّاس عَنْهَا ويزهدهم فيها ولكنها فوق ذَلِكَ يترتب عَلَيْهَا من المضار والمفاسد ما يؤذي المجتمَعَ الإنساني.
وإليك البيان. أولاً: إذا فشت تلك العادة في أمة من الأمم وأصبحت
داء خلقيًّا فيها لا تلبث أن تتعرض للفناء بانقراض نسلها ولو بعد حين لأن الرِّجَال فيها تنصرف عن النساء، فيقل النسل تدريجيًا وتنقرض الأمة فِي وَقْت ما.
ثانيًا: أنم اللائط يستغني بالذكر عن المرأة فإن كَانَ متزوجًا يهمل زوجته، فيعرضها للخنا والفساد، وإن كَانَ أعزب، لم يفكر في الحصول على زواج وإذا عمت اللواطية أمة استغنت رجالها عن نسائها وأصبحت النساء ضائعات لا يجدن موئلاً ولا يظفرن بمعين يرحم ضعفهن وفي ذَلِكَ من الخطر الاجتماعي والعمراني ما فيه.
وَقَالَ: فداء اللواطية ماله الانصراف عن النساء ومَعَ ذَلِكَ فإن إتيان النساء في غير محل الولادة عادة مرذولة يترتب عَلَيْهَا ضياع النسل كما قدمنا.
ثالثًا: أن اللائط لا يبالي أن يستهوي الأحداث الَّذِينَ لا يدركون العار ولا يعرفون الفضيحة فيمرنهم على فساد الأَخْلاق ويولد عندهم ذَلِكَ الداء فإذا ما بلغوا حد الرجولة وجدوا أنفسهم منغمسين في الرذيلة فيضيع الحياء من وجوههم ولا يبالون بارتكاب الجرائم الأخلاقية، ولا يتعففون عن المحرمَاتَ الدنيئة ويكون ذَلِكَ الوزر في عنق اللائط الَّذِي عمل على إفساد أخلاقهم وكَانَ سببًا في انتزاع ماء الحياء من وجوههم وَذَلِكَ عَظِيم عَنْدَ الله تَعَالَى ومن يفعله يضاعف له الْعَذَاب يوم القيامة لأن عَلَيْهِ ورزين وزر ذَلِكَ الْعَمَل الشائن ووزر إفساد الغلام الَّذِي لم يكلف لتلك الشهوة الفاسدة التي تخلف وراءها ذَلِكَ البَلاء المبين. أ. هـ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى.
اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وأمنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا
وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ: والدَلِيل من السنة على تحريم اللواط وعظم جرمه وعقوبة فاعله قوله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي.
عَنْ جَابِرِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ» . رواه ابن ماجة والترمذي وَقَالَ: حديث حسن غريب والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط» . رواه النسائي وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً، أو امرأة في دبرها» . رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه، ومِمَّا جَاءَ في إتيان النساء في أدبارهن ما يلي.
وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «هِيَ اللوطية الصغرى يعني الرجل يأتي امرأته في دبرها. وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْتَحْيُوا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» . رواه أَحَمَد والبزار ورجالهما رِجَال الصحيح.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: عشر خصال من أعمال قوم لوط: تصفيف الشعر، وحل الإزار، ورمي البندق، والخذف بالحصا، واللعب بالحمام الطيارة، والصفير بالأصابع، وفرقعة الأكعب، وإسبال الإزار، وحل أزر الأقبية، وإدمان شرب الخمر، وإتيان الذكور وستزيد
عَلَيْهَا هذه الأمة مساحقة النساء في أدبارهن» . رواه أبو يعلى بإسناد جيد وروي عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تقبل لَهُمْ شهادة أن لا إله إِلا الله: الراكب والمركوب، والراكبة والمركوبة، والإمام الجائر» . حديث غريب جدًا رواه الطبراني في الأوسط. وعن جابر رض الله عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن محاش النساء. رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات. وروى ابن ماجة والبيهقي كلاهما عن الحارث بن مخلدة عن أَبِي هُرَيْرَةِ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله إلى رجل جامَعَ امرأة في دبرها» . وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» . رواه أَحَمَد وَأَبُو دَاود وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه كفر بما أنزل على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم» . وعن مجاهد عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: من أتى صبيًا فقَدْ كفر.
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من مَاتَ من أمتي يعمل عمل قوم لوط نقله الله تَعَالَى إليهم حتى يحشره معهم» . وخَرَجَ الطبراني من حديث جابر رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال فيه: «وإذا كثر اللواطية رفع الله يده عن الخلق، فلا يبالي في أي وادٍ هلكوا» . وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
ولما كانت فاحشة اللواط شأنها في القبح كما ذكر اختلف أئمة الإسلام في عقوبتها لمن ثبتت عَلَيْهِ فَقَالَ قوم: إنها كالزنا تمامًا أي يرجم فيها المحصن، ويجلد غيره مائة جلدةٍ ويغرب. وَقَالَ آخرون: يرجم
الفاعل والمفعول به على أي حال كَانُوا عملاً بالْحَدِيث المتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .
قال ابن القيم رحمه الله وقَدْ أطبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتله لم يختلف فيه مِنْهُمْ رجلان وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله.
ومن تأمل قوله سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} ، وقوله في اللواط:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} تبين له تفاوت ما بينهما فإنه سُبْحَانَهُ نكر الفاحشة في الزنا أي هُوَ فاحشة من الفواحش وعرفها في اللواط، وَذَلِكَ يفيد انه جامَعَ لمعاني اسم الفاحشة كما تَقُول: زيد الرجل، ونعم الرجل زيد، أي: أتأتون الخصلة التي استقر فحشها عَنْدَ كُلّ أحد فهي لظهور فحشها وكماله غنية عن ذكرها بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها، ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ شأن فحشها بأنها لم يعملها أحد من العالمين قبلهم {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} .
ثُمَّ زَادَ في التأكيد بأن صرح بما تشمئز منه القُلُوب وتنبو عَنْهُ الأسماع وتنفر منه أشد النفور وَهُوَ إتيان الرجل رجلاً مثله ينكحه كما ينكح الأنثى فَقَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال} ثُمَّ نبه على استغنائهم عن ذَلِكَ.
وأن الحامل لَهُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ إِلا مجرد الشهوة لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى من قضاء الوطر ولذة الاستمتاع وحصول الْمَوَدَّة والرحمة التي تنسى المرأة لها أبويها وتذكر بعلها، وحصول النسل الَّذِي هُوَ حفظ هَذَا النوع الَّذِي هُوَ أشرف المخلوقات وتحصين المرأة.
وقضاء الوطر وحصول علاقة المصاهرة التي هِيَ أخت النسب وقيام الرجل على النساء وخروج أحب الخلق إِلَى اللهِ من جماعهن
كالأنبياء والأَوْلِيَاء والْمُؤْمِنِين ومكاثرة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الأنبياء بأمته إلى غير ذَلِكَ من مصالح النكاح.
والمفسدة التي في اللواط تقاوم ذَلِكَ كله وترَبِّي عَلَيْهِ بما لا يمكن حصر فساده ولا يعلم تفصيله إِلا الله عز وجل ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ قبح ذَلِكَ بأن اللواطية عكسوا فطرة الله التي فطر الله عَلَيْهَا الرِّجَال وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور وهي شهوة النساء دون الذكور فقلبوا الأَمْر وعكسوا الفطرة والطبيعة فأتوا الرِّجَال شهوة من دون النساء.
ولهَذَا قلب الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ ديارهم فجعل عإليها سافلها، وكَذَلِكَ قلبوا هم ونكسوا في الْعَذَاب على رؤوسهم ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ قبح ذَلِكَ بأن حكم عَلَيْهمْ بالإسراف وَهُوَ مجاوزة الحد فَقَالَ:{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} فتأمل هل جَاءَ مثل ذَلِكَ أو قريب منه في الزنا؟ .
وأكد سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ الذم بوصفين في غاية القبح فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} وسماهم مفسدين في قول نبيهم: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} وسماهم ظالمين في قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام: {أَنَا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} فتأمل من عوقب بمثل هذه العقوبات ومن ذمه الله بمثل هذه المذمَاتَ ولما جادل فيهم خليله إبراهيم الملائكة وقَدْ أخبروه بإهلاكهم قيل له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} .
شِعْرًا:
…
وَكُن ناصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ
بِإِرْشَادِهِمْ لَلْحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ
وَمُرْهُم بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَاِنْهِهِمْ
عَنِ السُّوءِ وَاِزْجُر ذَا الْخَنَا عَن خَنائِهِ
وَعِظْهُمْ بِآيَاتِ الإِلَهِ بِحِكْمَةٍ
لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمُ بِدَوَائِهِ
فَإِنْ يَهْدِي مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا
تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرِ عَطَائِهِ
وَإِلا فَقَدْ أَدَّيْتُ مَا كَانَ وَاجِبًا
عَلَيْكَ وَمَا مَلَكْتَ أَمْرَ اِهْتِدَائِهِ
…
>?
اللَّهُمَّ اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الَّذِينَ أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعماله يارب العالمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
عباد الله ذنب اللواط من أعظم الذُّنُوب يغضب رب العباد إنها لفاحشة يضيق بها الفضا وتعج لها السماء ويحل بها البَلاء فكشف حال، وسوء مآل، وداء عضال، وقبح أفعال وعيب دونه سائر العيوب، عيب تموت به الفضيلة وتحيا به الرذيلة وتتفتت على أهلها الأكباد، وتذوب من أجلها حياة القُلُوب، فعمل مسبوب، ووضع مقُلُوب، وفاعل ملعون، ومفعول به عَلَيْهِ مغضوب، وخلق فاسد، وشرف مسلوب، وعرض ممزق، وكرامة معدومة، وزهري، وجرب ذو ألوان، وقذر وأنتان، ووساخة دونها كُلّ وساخة، اللَّهُمَّ إن في هذه
الفعلة الشنيعة من الخزي والعار ما لا تطيقه الطباع السليمة، كانت أمة قديم عصرها، باق ذكرها، كثير شرها تسكن بين الحجاز والشام، ترتكب هذه الفاحشة الشنيعة والجريمة الفظيعة علنًا في نواديهم ويذرون ما خلق الله من أزواج، ولا يبالون بمن يعتب عَلَيْهمْ ويشنع عَلَيْهمْ ولا يخافون لومة اللوام، فبعث الله إليهم لوطًا عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام فدعاهم إلى التَّوْحِيد، وترك عبادة الأصنام وحذرهم من فعل فاحشة اللواط وبالغ في إنذارهم وتحذيرهم، وكَانَ الجزاء والجواب مِنْهُمْ على هذه النَّصِيحَة أن قَالُوا:{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ومقصود هؤلاء الأشقياء بهَذَا الوصف السخرية والتهكم بلوط ومن معه، وهَذَا كما يقوله الفساق والمرجة المعاصرون لبعض الصلحاء إذا أنكروا عَلَيْهمْ ووعظوهم، أخرجوا عنا هذا المتدين، أو هَذَا المتزهد، وهَذَا برهان واضح على أن قُلُوبهمْ ممتلئة من الحقَدْ والحسد والغيظ على الْمُؤْمِنِين فليموتوا بغيظهم ولله در القائل:
…
إِذَا بَعُدَ الْعُنْقُودُ عَنْهُ وَلَمْ يَصِلْ
…
إليه بِوَجْهٍ قَالَ مُرٌّ وَحَامِضُ
وَيَقُولُ الآخر:
دَعِ الْحَسُودَ وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ كَمَدٍ
…
كَفَاكَ مِنْهُ لَهِيبُ النَّارِ فِي كَبِدِهْ
إِنْ لُمْتَ ذَا حَسَدِ نَفَّسْتَ كُرْبَتَهُ
…
وَإِنْ سَكَتَّ فَقَدْ عَذَّبْتَهُ بِيَدِهْ
آخر:
…
ضَارِي الطِّبَاعِ سُرُورُ النَّاسِ يُحْزِنُهُ
…
وَلا انْشِرَاحَ لَهُ إِلا إِذَا آذَى
آخر:
…
فَدْمٌ يَذُمُّ فُنُونَ الْعِلْمِ مُحْتَقِرًا
…
بِهَا وَمِنْ جَهْلِ الأَشْيَاءِ عَادَاهَا
آخر:
…
أَصَمَّكَ سُوءُ فَهْمِكَ عَنْ خِطَابِي
…
وَأَعْمَاكَ الضَّلالُ عَنْ اهْتِدَائِي
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .
وَقَالَ آخر:
وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
…
>?
فقلبت مدينتهم أي قوم لوط واتبعوا بحجارة من سجيل مسومة عَنْدَ الله للمسرفين أيها المسلم أتدري لماذا ذكر الله أخبارهم في كتابه العَظِيم وعلى لسان نبيه الكريم إنه وَاللهُ أَعْلَمُ لنعتبر بما أصابهم، ونحذر كُلّ الحذر ما كَانُوا عَلَيْهِ من سوء الحال، وقبح الفعال، قال الله تَعَالَى:{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} سبحان الله كيف يقع ذكر على ذكر وَهُوَ يعلم أن الله جَلَّ وَعَلا يراه وقَدْ نهاه ويعلم ما في ذَلِكَ من مخالفة العقل والدين، وما فيه من مرض خطير، وشر مستطير، وخزي وعار، هَذَا بالحَقِيقَة فعل تترفع عَنْهُ طباع الكلاب. والبغال والحمير، بل والقردة والخنازير، وما ظهر اللواط في أمة إِلا أذلت وأخزيت، وسلب عزها، وإذا أرادها الله عز وجل إهلاك قرية فسق فيها المترفون فاستحقت الخراب والدمار، قال الله تَعَالَى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} فانتبهوا أيها الإِخْوَان وتناصحوا واحفظوا أولادكم واعلموا أنكم مسئولون عنهم وعن همالكم لَهُمْ احرصوا عَلَيْهمْ فوق حرصكم على أموالكم لعلكم تنجوا من التبعات وتسلموا من العقوبات جعلنا الله وإياكم ممن إذا خوف بِاللهِ ندم وخاف
ورزقنا وإياكم من الإنابة والإنصاف ما يلحقنا بصالح الأسلاف وغفر لَنَا وَلَكُمْ وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وتأمل خبث اللواطية وفرط تمردهم على الله حيث جاءوا نبيهم لوطًا لما سمعوا بأنه قَدْ طرقه أضياف هم من حسن البشر صوروا فأقبل اللواطية إليه يهرعون، فلم رآهم قال لَهُمْ:{يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ففدى أضيافه ببناته يزوجهم بهنَّ خوفًا على نَفْسهُ وعلى أضيافه من العار الشديد.
فَقَالَ: {يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أليس مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} فردوا عَلَيْهِ ولكن رد جبار عنيد {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} فنفث نَبِيّ اللهِ نفثة مصدور خرجت من قلب مكروب، فَقَالَ:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .
فكشف له رسل الله عن حَقِيقَة الحال وأعلموه أنهم ممن لَيْسَ يوصل إليهم ولا إليه بسببهم فلا تخف مِنْهُمْ ولا تعبأ بِهُمْ وهون عَلَيْكَ، فَقَالُوا:{يَا لُوطُ أَنَا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إليك} وبشروه بما جاءوا به من الوعد له، ومن الوعد المصيب لقومه فَقَالُوا:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَاّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} فاستبطأ نَبِيّ اللهِ عليه السلام موعد هلاكهم، وَقَالَ: أريد أعجل من هَذَا فقَالَتْ الملائكة: {أليس الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} .
فوَاللهِ ما كَانَ بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إِلا ما بين السحر وطلوع الفجر وإذا بديارهم قَدْ اقتلعت من أصولها ورفعت نحو السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الَّذِي لا يرد، من عَنْدَ الرب الجليل، على يدي عبده ورسوله جبريل بأن يقلبها عَلَيْهمْ، كما أخبر به في محكم التنزيل.
فَقَالَ عز وجل من قائل: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَإليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} فجعلهم آية للعالمين وموعظة للمتقين ونكالاً وسلفًا لمن شاركها في أعمالهم من المجرمين وجعل ديارهم بطَرِيق السالكين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} أخذوا على غرة وهم نائمون، وجاءهم بأسه وهم في سكرتهم يعمهون فما أغنى عنهم ما كَانُوا يكسبون تقلبوا على تلك اللذات طويلاً فأصبحوا بها يعذبون.
…
مَآرِبَ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لأَهْلِهَا
مَآرِبَ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لأَهْلِهَا
…
>?
ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات تمتعوا قليلاً وعذبوا طويلاً رتعوا مرتعًا وخيمًا فأعقبهم عذابًا أليمًا أسكرتهم خمرة تلك الشهوات فما استفاقوا منها إِلا وَهُوَ في منازل الهالكين فندموا وَاللهِ أشد الندامة حين لا ينفع الندم وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم فلو رَأَيْت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة والنار تخَرَجَ من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم، ويُقَالُ لَهُمْ وهم على وجوههم يسحبون {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ولَقَدْ قرب سبحانه
مسافة الْعَذَاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في الْعَمَل، فَقَالَ مخوفًا لَهُمْ {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} . انتهى.
ومن الأسباب التي ربما تَكُون سببًا إلى هذه المعصية النظر إلى الأمرد، فعلى الإِنْسَان أن يمنع نَفْسهُ من ذَلِكَ، فقَدْ صح عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«زنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا اليد لبطش، وزنا الرجل الخطا، وزنا الأذن الاستماع، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِكَ أو يكذبه» . ولأجل ذَلِكَ بالغ الصالحون في الأعراض عن المردان وعن النظر إليهم وعن مخاطبتهم وعن مجالستهم قال الحسن بن ذكوان: لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لَهُمْ صورًا كصور العذارى فهم أشد فتنة من النساء. وَقَالَ بعض التابعين: ما أَنَا بأخوف على الشاب الناسك مَعَ سبعٍ ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه وكَانَ يقال: لا يبيتن رجل مَعَ أمرد في مكَانَ واحد وحرم قياسًا على المرأة لأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما خلا رجل بامرأة إِلا كَانَ الشيطان ثالثهما» . وفي المردان من يفوق النساء بحسنه فالفتنة به أعظم وانه يمكن في حقه من الشر ما لا يمكن في حق النساء ويسهل في حقه من طَرِيق الريبة والشر ما لا يتسهل في حق المرأة، فهو بالتحريم أولى، وأقوال السَّلَف في التنفير مِنْهُمْ والتحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر.
شِعْرًا:
…
صُنِ الْحُسْنَ بِالتَّقْوَى وَإِلا فَيَذْهَبُ
فَنُورُ التُّقَى يَكْسُو جَمَالاً وَيَكْسِبُ
وَمَا يَنْفَعُ الْوَجْهَ الْجَمِيلَ جَمَاله
وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ مُهَذَّبُ
…
>?
.. فَيَا حَسَنَ الْوَجْهِ اتَّقِ اللهَ إِنْ تُرِدْ
دَوَامَ جَمَالٍ لَيْسَ يَفْنَى وَيَذْهَبُ
يَزِيدُ التُّقَى ذَا الْحُسْنِ حُسْنًا وَبَهْجَة
وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَهِيَ لِلْحُسْنِ تَسْلِبُ
وَتَكْسِفُ نُورَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ
وَتَكْسُوهُ قُبْحًا ثُمَّ لِلْقَلْبِ تَقْلِبُ
فَسَارِعْ إِلَى التَّقْوَى هُنَا تَجِدِ الْهَنَا
غَدًا فِي صَفَا عَيْشٍ يَدُومُ وَيَعْذُبُ
فَمَا بَعْدَ ذِي الدُّنْيَا سِوَى جَثَّةٍ بِهَا
نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَوْ لَظَى تَتَلَهَّبُ
…
>?
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
موعظة روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تفرغوا من الدُّنْيَا، فإنه من كانت الدُّنْيَا أكبر همه، فرق الله عَلَيْهِ أمره وجعل فقره بين عينيه ومن كانت الآخِرَة أكبر همه جمَعَ الله له أموره وجعل غناه في قَلْبهُ وما أقبل عبد بقَلْبهُ إِلَى اللهِ عز وجل إِلا جعل الله قُلُوب الْمُؤْمِنِين تفد إليه بالود والرحمة وكَانَ الله عز وجل إليه بكل خَيْر أسرع» . ولما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أَهْل الشام اسمعوا قول أخٍ ناصحٍ فاجتمعوا إليه فَقَالَ: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون إن الَّذِينَ كَانُوا قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا عتيدًا فأصبح أملهم غرورًا ومساكنهم قبورًا. وَقَالَ بَعْضهمْ:
…
أَجِدّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا نَعِيمُهَا
…
وَهَلْ هِيَ إِلا جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ
لَعمرِي لَقَدْ شَاهَدْتُ فِيهَا عَجَائِبًا
…
وَصَاحِبْنِي فِيهَا مَسْودٌ وَسَيِّدُ
رَأَيْتُ بِهَا أَهْلُ الْمَوَاهِبِ مَرَّةً
…
وَقَدْ طَابَ عَيْشٌ وَالسُّرُورُ يُجَدَّدُ
فَمَا رَاعَهمُ إِلا الرَّزَايَا ثَوَابِتٌ
…
عَلَيْهِمْ وَقَامَتْ فِي أَذَاهُمْ تُحَشِّدُ
وَأَسْقَتْهُمُوا كَأْسًا مِن الذُّلِ مُتْرَعًا
…
وَكَانَ لَهُمْ فَوْقَ السَّمَاكِينِ مَقْعَدُ
وَدَانَتْ لِمَنْ نَاوَاهُمُ بَعْضَ بُرْهَةٍ
…
عَلَى نَكَدٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُجَدَّدُ
آخر:
…
أَأمل أن أخلد والْمَنَايَا
…
تدور علي من كُلّ النواحي
وما أدري وإن أمسيت يومًا
…
لعلي لا أعيش إلى الصباح
إن كُلّ يوم يمر بكم يحمل ما ثَبِّتْ فيه من خَيْر أو شر يمضي فلا يعود أبدًا فإن قدرتم أن تحظوا كُلّ يوم بمكرمةٍ وتثبتوا فيه حسنةً فلا تؤخروا فإن الأيام صحائف فخلدوا فيها الجميل فقَدْ رأيتم حفظها لما استودعت من المحامد والمحاسن والمكارم في قديم الدهر وحديثه.
شِعْرًا:
لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليمَنِ
إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ
تَمُرُّ ساعاتُ أَيَّامي بِلا نَدَمٍ
ولا بُكاءٍ وَلا خَوْفٍ ولا حَزَنِ
سَفَري بَعيدٌ وَزادي لا يُبَلِّغَني
سَفَري بَعيدٌ وَزادي لا يُبَلِّغَني
مَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني
وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي
أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً
عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُني
يَا زَلَّةً كُتِبَتْ يَا غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ
يَا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تَقْتُلْنِي
…
>?
ج
…
دَعْ عَنْكَ عَذْلِي يا مَنْ كَانَ يَعْذِلُنِي
لَوْ كُنْتَ تَعْلَمْ مَا بِي كُنْتُ تَعْذُرُنِي
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها
دَعْنِي أَسِحُّ دُمُوعًا لا انقطاع لَهَا
فَهَلْ عَسَى عَبْرَةٌ مِنْهَا تُخَلِّصُنْي
كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحًا
عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني
وَقَدْ أَتَوْا بِطَبيبٍ كَيْ يُعالِجَني
وَلَمْ أَرَ مِنْ طَبِيبِ اليوم يَنْفَعُني
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها
مِن كُلّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها
وصَارَ في الحَلْقَ مُرًا حِينَ غَرْغَرَني
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا
بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا كَفَنِي
وَقامَ مَنْ كانَ أَوْلَى النّاسِ في عَجَلٍ
وَقامَ مَنْ كانَ أَوْلَى النّاسِ في عَجَلٍ
وَقالَ يا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقًا
حُرًا أَدِيْبًا أَرِيبًا عَارِفًا فَطِنِي
فَجاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني
مِنَ الثِّيابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني
.. واطَّرَّحُونِي عَلى الأَلْواحِ مُنْفَرِدًا
وَصَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَنْظِفُني
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني
غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ
وَأَلْبَسُوني ثِيابًا لا كِمومَ لها
وَصارَ زَادي حَنُوطًِا حينَ حَنَّطَني
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا
خَلْفَ الإِمَامِ فَصَلَّى ثُمَّ وَدَّعَني
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها
ولا سُجودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني
وَأَنْزَلوني في قَبري على مَهَلٍ
وَأَنْزَلُوا واحِدًا مِنْهُمْ يُلَحِّدُني
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني
وَأَسْبلَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِمًا بِالعَزمِ مُشْتَمِلاً
وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عَلَيْهِ التُّرْبَ واغْتَنِموا
حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا
أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
وَأَوْدَعُونِي وَلَجُوا في سُؤ الهِمُوا
مَا لِي سِوَاكَ إِلَهِي مَنْ يُخَلِّصْنِ
.. وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ
مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كَانَ أَدهَشَني
مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ ما أَقولُ لَهُمْ
إذْ هَالَني مِنْهُمَا مَا كَانَ فَأَفْزَعَني
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يَا أَمَلي
فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهَنِ
تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا
وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا وَزِينَتُها
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا وَزِينَتُها
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيَا بِأَجْمَعِها
هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الزَّادِ والكَفَنِ
…
>?
…
خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها
…
لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
يَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي
…
فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني
اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بِفَضْلِكَ وإحسانك وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك وألحقنا بالَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ في دار رضوانك وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فصل في التحذير عن تعاطي المسكرات والمخدرات
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من أشرف هبات الله للإنسان عقله وقَدْ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قول الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} أي في العقل، وورد عن المصطفى ? أنه قال:«ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى - أو يرده عن ردى، ولا استقام دينه حتى يستقيم عقله» .
فالعقل جعله الله للإنسان ليميز به النافع من الضار ويفهم عن الله شرعه لماذا حسن الحسن وقبح القبيح ويفهم ما لله من الحقوق وما لرسله وما ينبغي نحو عباد الله.
فهو الجوهرة التي دون قدرها الأثمان وما يقدر بالأثمان بل الدُّنْيَا بأسرها لا قيمة لها بجانب هَذَا العقل العَظِيم الشأن الَّذِي رفع الله درجة بني آدم إلى أن أخاطبهم جَلَّ وَعَلا وَهُوَ الَّذِي صلح لأن يكون من خدمه تَعَالَى يؤدي ما له من واجباتٍ.
وَهُوَ الَّذِي به يكون أهلاً لأن يكون من ضيوفه تَعَالَى في دار الكرامَاتَ، بل هُوَ الَّذِي سما به إلى أن يرى ربه تَعَالَى في دار الرضوان، إن قيمة كُلّ شَيْء إنما تقدر بقدر ما له من آثار العقل، لا يدانيه فيها غيره، مهما كَانَ لذَلِكَ الغير من مقدار، إذ هُوَ أجل محنة منحها الله ابن آدم في هذه الدار بل لا تَكُون الْجَنَّة جنة إذا سلب العقل فيها من الإِنْسَان.
إذا علمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن النَّاس يتفاوتون في الدرجات بتفاوت ما لَهُمْ من عقول فكُلَّما كَانَ العقل أقوى كَانَ أقدر على دفع النفس عما لها من فضول ومن هَذَا نستطيع أن نقول إن أعقل الْمُؤْمِنِين أتقاهم لله أما ضعيف العقل فيضعف دفعه للنفس عن ما لها من شهوات.
هُوَ من الأَشْيَاءِ التي تشير أسماؤها إلى معناها سمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه غالبًا عما لا ينبغي ولذَلِكَ إذا جن الإِنْسَان رأيته كالوحش الضاري يبطش بكل ما قابله.
مَا وَهَبَ اللهُ لامْرِئٍ هِبَهْ
…
أَشْرَفَ مِنْ عَقْلِهِ وَمِنْ أَدَبِهْ
هُمَا حَيَاةُ الْفَتَى فَإِنْ فُقِدَا
…
فَإِنَّ فَقْدَ الْحَيَاةِ أَجْمَلُ بِهْ
آخر:
…
يَزينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ
…
وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُهْ
ج
وَيُرزِي بِهِ فِي النَّاسِ قِلَّةُ عَقْلِهِ
…
وَإِنْ كَرُمَتْ أَعْرَاقُه وَمَنَاسِبُهُ
وَأَفْضَل قَسْمِ الله لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ
…
ولَيْسَ مِن الْخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُهُ
إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ
…
فَقَدْ كَملَتْ أَخْلاقُهُ وَضَرَائِبَهُ
آخر:
…
إِذَا كُنْتَ ذَا عِلْمَ وَلَمْ تَكُ عَاقِلاً
…
فَأَنْتَ كَذِي نَعْلٍ وَلَيْسَ لَهُ رِجْلُ
أَلا إِنَّمَا الإِنْسَانُ عُمْدٌ لِعَقْلِهِ
…
وَلا خَيْرَ كَذِي نَعْلٍ وَلَيْسَ لَهُ رِجْلُ
أَلا إِنَّمَا الإِنْسَانُ عُمْدٌ لِعَقْلِهِ
…
وَلا خَيْرَ فِي غِمْدٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَصْلُ
والمقصود من سياق هذه المقدمة حول العقل، هُوَ أنه يوَجَدَ قسم من النَّاس قَدْ عميت بصائرهم وأسقطوا أنفسهم من درجة الكمال الَّذِي أعدهم الله له، وأنزلوا أنفسهم إلى مرتبة الْحَيَوَان أو أنزل، ورضوا بأن يكونوا معاول لهدم الفضيلة ويدًا عاملة لنشر الرذيلة وهؤلاء قَدْ استحوذ عَلَيْهمْ الشيطان ولعب بِهُمْ وزين لَهُمْ أن يفارقوا عقولهم زمنًا بتناول المخدرات وتعاطي المسكرات ولَيْسَ هَذَا الاعتداء على العقل الَّذِي شرفهم الله به في العمر مرة بل ولا في السنة مرة لكنه عندهم دوامًا نسأل الله العافية أما علم أولئك التعساء أن الخمر أم الخبائث ورأس الْمُنْكَر كله وطَرِيق الفساد العام.
فساد الدين وفساد الأَخْلاق وفساد العقل وفساد الجسم وفساد الْمَال وفساد الذرية ولهَذَا قال صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كُلّ الشر» . رواه الحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد، فالخمر محرمة باْلكِتَاب والسنة والإجماع.
أما اْلكِتَاب فقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} .
اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين
اللَّهُمَّ يا ملقب القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وأما السنة فقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» . رواه أبو داود والإمام أَحَمَد وروى عَبْدُ اللهِ بنَ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إليه» . رواه أبو داود.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر في الدُّنْيَا، ومَاتَ ولم يتب منها، وَهُوَ مدمن لها، لم يشربها في الآخِرَة» . رواه مسلم وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن على الله عهدًا لمن شرب المسكر، أن يسقيه الله من طينة الخبال» . قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أَهْل النار» .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر في الدُّنْيَا، يحرمها في الآخِرَة» . وورد أن مدمن الخمر كعابد وثن وروى النسائي من حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الْجَنَّة عاق، ولا مدمن خمر» . وفي رواية: «ثلاثة لا يدخلون الْجَنَّة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث، وَهُوَ الَّذِي يقر السُّوء في أهله» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ والتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ» . رواه البخاري،
وفي الْحَدِيث: «من زنى أو شرب الخمر، نزع الله منه الإِيمَان كما يخلع الإِنْسَان القميص من رأسه» . وفيه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ان رائحة الْجَنَّة لتوَجَدَ من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا عابد وثن» .
وروى الإمام أَحَمَد من حديث أبي مُوَسى الأشعري رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الْجَنَّة مدمن خمر ولا مُؤْمِن بسحر ولا قاطع رحم ومن مَاتَ وَهُوَ يشرب الخمر سقاه الله من نهر الغوطة وَهُوَ ماء يجري من فروج المومسات - أي الزانيات - يؤذي أَهْل النار ريح فروجهن» .
وَقَالَ ابن عمر: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فاتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثُمَّ أعطانيها وَقَالَ: «اغد علي بها» . ففعلت فخَرَجَ بأصحابه إلى أسواق الْمَدِينَة، وفيها زقاق الخمر قَدْ جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كَانَ من تلك الزقاق بحضرته ثُمَّ أعطانيها وأمر أصحابه الَّذِينَ كَانُوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كُلّهَا فلا أجد فيها زق خمر إِلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواها زقًا إِلا شققته.
وعن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: إن هذه الآيَة التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال: هِيَ في التوراة إن الله أنزل الحق ليذهب به الْبَاطِل ويبطل به اللعب والمزامير والزفن، والكبارات يعني البرابط، والزمارات، يعني به الدف والطنابير والشعر، والخمر مرة لمن طعمها أقسم الله بيمينه وعزته من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس.
اللَّهُمَّ اغفر لنا ذنوبنا حالت بيننا وبين ذكرك شكرك واعف عن تقصيرنا فِي طَاعَتكَ ووفقنا للزوم الطَرِيق الموصلة إليك وثبتنا عَلَيْهَا حتى الْمَمَات اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعلمنا من الرياء وطهر مكسبنا من الربا وألسننا من الكذب ووفقنا لمصالحنا واعصمنا عن ذنوبنا وقبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
قصيدة تحتوي على حكم ومواعظ
تَأوَّيني هَمُّ كَثِيرٌ بِلابِلُهْ
…
طَرُوقًا فَغَالَ النَّوْم عَنِّي غَوَائِلُهْ
فَوَيْحِي مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ وَاقِعٌ
…
وَلِلْمَوْتِ بَابٌ أَنْتَ لا بُدَّ دَاخِلُهْ
أَيَأْمَنُ رَيْبِ الدَّهْرِ يَا نَفْسُ وَاهِنٌ
…
تَجِيشُ لَهُ بِالْمُفْظَعَاتِ مَرَاجِلُهْ
فَلَمْ أَرَ فِي الدُّنْيَا وَذُو الْجَهْلِ غَافِلٌ
…
أَسِيرًا يَخَافُ الْقَتْلَ وَاللَّهْوُ شَاغِلُهْ
فَمَا بَاله يَفْدِي مِن الْمَوْتِ نَفْسَهُ
…
وَيَأْمَنُ سَيْفَ الدَّهْرِ وَالدَّهْرُ قَاتِلُهْ
وَلا يَفْتَدِي مِن مَوْقِفٍ لَوْ رَمَى الرَّدَى
…
بِهِ جَبَلاً أَضْحَتْ سَرَابَا جَنَادِلُهْ
وَبَعْدَ دُخُولِ الْقَبْرِ يَا نَفْسُ كُرْبَةٌ
…
وَهَوْلٌ تُشِيبُ الْمُرْضِعِينَ زَلازِلُهْ
إِذَا الأَرْضُ خَفَّتَ بَعْدَ نَقْلٍ جِبَالِهَا
…
وَخَلَّى سَبِيلَ الْبَحْرِ يَا نَفْسُ سَاحِلُهْ
فَلا يَرْتَجِي عَوْنًا عَلَى حَمْلِ وِزْرِهِ
…
مُسِيءٌ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْوِزْرِ حَامِلُهْ
إِذَا الْجَسَدُ الْمَعْمُورُ زَايَل رُوحَه
…
خَوَى وَجَمَالُ الْبَيْتِ يَا نَفْسُ آهِلُهْ
وَقَدْ كَانَ فِيهِ الرُّوحُ حِينًا يَزِينُهُ
…
وَمَا الْغِمْدُ لَوْلا نَصْلُهُ وَحَمَائِلُهْ
يُزَايلُنِي مَالي إِذَا النَّفْسُ حَشْرَجَتْ
…
وَأَهْلِي وَكَدْحِي لازِمِي لا أَزَايلُهْ
إِذَا كَلَّ عِنْدَ الْجُهْدِ يَا نَفْسُ مُنْطِقِي
…
وَعَايَنْتُ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا لا أُحَاوِلُهْ
وَيَغْسِلُ مَا بِالْجِلْدِ مِنْ ظَاهِرِ الأَذَى
…
وَلا يَغْسِلُ الذَّنْبَ الْمُخَالِفَ غَاسِلُهْ
وَمَنْ تُفْلِتِ الأَمْرَاضُ يَوْمًا فَإِنَّهُ
…
سَيُوشِكُ يَوْمًا أَنْ تُصَابَ مَقَاتِلُهْ
وَقَدْ تُفْلِتُ الْوَحْشَ الْجِبَالُ وَرُبَّمَا
…
تَقَبَّضَتِ الْوَحْشِيَّ يَوْمًا حَبَائِلُهْ
إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعْمَلْ بِهِ صَارَ حُجَّةً
…
عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ جَاهِلُهْ
وَقَدْ يُنْعِشُ الذِّكْرُ الْقُلُوبَ، وَإِنَّمَا
…
تَكُونُ حَيَاةُ الْعُودِ فِي الْمَاءِ وَابِلُهْ
أَرَى الْغُصْنَ لا يَنْمِي إِذَا جَفَّ أَصْلُهُ
…
وَلَيْسَ بِبَاقٍ مَنْ أُبِيحَتْ أَوَائِلُهْ
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْصَرْتَ هَذَا فَإِنَّمَا
…
يُصَدَّقُ قَوْلَ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاغِلُهْ
وَلا يَسْتَقِيمُ الدَّهْرَ سَهْمٌ لِوَجْهِهِ
…
بِهِ مَيْلٌ حَتَّى يُقَوَّمَ مَائِلُهْ
وَفِيكَ إِلَى الدُّنْيَا اعْتِرَاضٌ وَإِنَّمَا
…
تُكَالُ لَدَى الْمِيزَانِ مَا أَنْتَ كَائِلُهْ
فَلا تَنْتَكِثْ بَعْدَ الْهَوَى عَنْ بَصِيرَةٍ
…
كَمَا نَكَثَ الْحَبْلَ الْمُضَاعَفَ فَاتِلُهْ
وَتَطْلُبُ فِي الدُّنْيَا الْمَنَازِلَ وَالْعُلا
…
وَتَنْسَى نَعِيمًا دَائِمًا لا تُزَايلُهْ
كَمَنْ غَرَّهُ لَمعُ السَّرَابِ بَقِيعَةٍ
…
فَقَصَّرَ عَنْ وِرْدٍ تَجِيشُ مَنَاهِلُهْ
وَقَدْ خَانَتْ الدُّنْيَا قُرونًا تَتَابَعُوا
…
كَمَا خَانَ أَعْلَى الْبَيْتَ يَوْمًا أَسَافِلُهْ
وَتُصْبِحُ فِيهَا آمِنًا ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
…
لِتَأْمنَ فِي وَادٍ بِهِ الْخَوْفُ نَازِلُهْ
وَقَدْ خَتَلَتْنَا بِاللَّطِيفِ مِهَ الْهَوَى
…
كَمَا يَخْتِلُ الْوَحْشِيَّ بِالشَيْءِ خَاتِلُهْ
رَضِينَا بِمَا فِيهَا سَفَاهًا وَلَمْ يَكُنْ
…
يَبِيعُ سَمِينَ اللَّحْمِ بِالْغَيْثِ آكِلُهْ
وَعَاقِبَةُ اللَّذَاتِ تَخْشَى وَإِنَّمَا
…
يُكَدِّرُ يَوْمًا عَاجِلَ الأَمْرِ آجِلُهْ
وَإِنْ فَرَحَتْ بِالْمَرْءِ يَوْمًا حَلائِلٌ
…
فَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرِنَّ حَلائِلُهْ
فَكَمْ مِنْ فَتَى قَدْ كَانَ فِي شِرِّةِ الصِّبَا
…
فَأَقْصَرَ بَعْدَ الْعَذْلِ عَنْهُ عَوَاذِلُهْ
إِذَا مَا سَمَا حَقٌّ إليك وَبَاطِلٌ
…
عَلَيْكَ فَلا يَذْهَبْ بِحَقَّكَ بَاطِلُهْ
وَقَدْ يَأْمَلُ الرَّاجِي فَيُكْذِبُ ظَنَّهُ
…
أُمُورٌ وَيَلْقَى الشَّيْءَ مَا كَانَ يَأْمَلُهْ
اللَّهُمَّ انظمنا في سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ في دار أمانك وعافنا يا مولانَا في الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ
الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وأجمعت الأمة على تحريم الخمر، وقليل الخمر وكثيره كله حرام لما أخرجه ابن حبان والطحاوي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره» .
وروى أَحَمَد وابن ماجة والدارقطني وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما أسكر كثيره فقليله» .
وروى أَحَمَد في مسنده وَأَبُو دَاود في سننه بسندٍ صحيح عن أم سلمة رضي الله عنها قَالَتْ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كُلّ مسكر ومفتر ولم يكتف الشارع بتحريم شرب قليلها وكثيرها، بل حرم الاتجار بها ولو مَعَ غير المسلمين فلا يحل لمسلم يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر أن يعمل مستوردًا أو مصدَّرًا أو صَاحِب محل لبيع الخمر أو عاملاً في هَذَا المحل كيف وقَدْ لعن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له.
وَكَذَا يحرم إهداؤها فقَدْ روي عن جابر بن عَبْد اللهِ قال: كَانَ رجل يحمل الخمر من خيبر إلى الْمَدِينَة فيبيعها من المسلمين فحمل منها بمالٍ فقدم بها الْمَدِينَة فلقيه رجل من المسلمين فَقَالَ: يا فلان إن الخمرة قَدْ حرمت فوضعها حيث انتهى على تل وسجى عَلَيْهَا بأكسية ثُمَّ أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بلغني أن الخمر قَدْ حرمت قال: «أجل» . قال: لي أن أردها على من ابتعتها منه؟ قال: «لا يصح ردها» . قال: لي أن
أهديها إلى من يكافيني منها؟ قال: «لا» قال: فإن فيها مالاً ليتامى في حجري. قال: «إذا أتانَا مال البحرين فانَا نعوض أيتامك من مالهم» . ثُمَّ نادى بالْمَدِينَة فَقَالَ رجل: يَا رَسُولَ اللهِ الأوعية ينتفع بها؟ قال: «فحلوا أوكيتها» . فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي.
ويجب مقاطعة مجالس الخمر وشاربيها فعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فلا يقعد على مائدة تدار عَلَيْهَا الخمر» . رواه أَحَمَد ومعناه عَنْدَ الترمذي. وروي عن عمر بن عَبْد الْعَزِيز أنه كَانَ يجلد شارَبِّي الخمر، ومن شهد مجلسهم، وإن لم يشرب، ورووا عَنْهُ أنه رفع إليه قوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم فقيل إن فيهم فلانَا، وقَدْ كَانَ صائمًا، فَقَالَ: به ابدؤوا أما سمعتم قول الله تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} .
وروى عن عثمان بن عفان أنه كَانَ يَقُولُ: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كَانَ رجل فيمن كَانَ قبلكم يتعبد ويعتز النَّاس فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جارتها أن تدعوه لشهادةٍ فدخل معها فطفقت كُلَّما دخل بابًا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئةٍ عندها غلام وباطية خمر فقَالَتْ: إني وَاللهِ ما دعوتك لشهادةٍ ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هَذَا الغلام أو تشرب هَذَا الخمر فسقته كأسًا فَقَالَ: زيدوني فلم يزل حتى وقع عَلَيْهَا وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمَعَ هِيَ والإِيمَان أبدًا أوشك أحدهما أن يخَرَجَ صاحبه. رواه البيهقي.
وروى الطبراني بسند صحيح والحاكم وَقَالَ: صحيح على شرط مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن أبا بكرٍ وعمر وناسًا جلسوا بعد
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم فأرسلوني إلى عَبْد اللهِ بن عمرو أسأله فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذَلِكَ ووثبوا إليه جميعًا حتى أتوه في داره فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسًا أو يزني أو يأكل لحم الخنزير أو يقتلوه فاختار الخمر وأنه لما شربها لم يمتنع من شَيْء أرادوه منه» .
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا يموت وفي مثانته منها شَيْء إِلا حرمت عَلَيْهِ بها الْجَنَّة، فإذا مَاتَ في أربعين ليلة مَاتَ ميتة جاهلية» .
وفي تصوير إثُمَّ الخمر يَقُولُ أمير الْمُؤْمِنِين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت عَلَيْهِ منارة لم أؤذن عَلَيْهَا ولو وقعت في بحر فجف فنبت الكلأ لم أرعه.
وَقَالَ ابن عمر رضي الله عنهما لو دخلت أصبعي فيها لم تتبعني. قال بَعْضهمْ محذرًا عن الخمر:
إِلامَ وَأَنْتَ فِي زَهْوٍ وَلَهْوٍ
…
وَإِنَّ الْعُمْرَ مُعْظَمُهُ تَقَلَّصْ
تُعَاقِرُ خَنْدَرِيسَ السُّوءِ دَوْمًا
…
نَدِيمُكَ مَنْ إِلَى الْفَحْشَا تَرَبَّصْ
وَتَهْجُرُ كُلَّ ذِي هَدْيٍ قَوِيمٍ
…
وَتُوصِلُ كُلَّ سِكِّيرٍ تَمَلَّصْ
بِذَا أَطْفَأْتَ نُورَ الْعَقْلِ حَتَّى
…
ضَللْتَ عَنِ الْهِدَايَةِ يَا مُنْغَّصْ
أَنِرْ بِإِنَابَةِ للهِ عَقْلاً
…
لَهُ نُورُ الْهُدَى بِالْحَقِّ حَصْحَصْ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ لنا قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة: عباد الله إنما حرم الله عليكم الخمر لما فيه من الأضرار والأخطار، وما منعكم من شربها إِلا لما ينشأ عن ذَلِكَ من المفاسد
والشرور والأضرار، فشارب الخمر ملعون على لسان نبيكم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وبائعها، وشاريها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، ومدمن شربها لا يدخل الْجَنَّة، بل يدخل النار ويسقى من طينة الخبال، عرق أَهْل النار وورد أن مدمن الخمر كعابد وثن فشارب الخمر مفسد لدينه، ومفسد لجسمه، وصحته وجان على نَفْسهُ، وعلى أولاده، وأقاربه، وأهله وجيرانه ومفرط في ماله ومسرف فيه وعابث بكرامته، وساع إلى الشر والفساد بيده، ورجله، ولِسَانه، وصائل، خبيث على الخلاق والأديان شارب الخمر عضو مسموم في جسم مواطنيه إذا لم يبادروه بالعلاج أو يقطعوه أصابهم ضرره، شارب الخمر يزين الشر ويحسنه، لبنيه، وبناته، وأصدقائه ويدعوهم بلسان حاله ومقاله، وأنتم تعلمون أن داعي الفساد مجاب قي كُلّ زمان ومكَانَ وأنصاره بلا عدٍّ ولا حسبان، وإذا دبت الخمر في رأس شاربها فقَدْ شعوره، وزنى، ولاط، أو ليط به، وجَاءَ بأنواع الفحش، والفجور، وسب وشتم، وقذف، ولعن، وطلق وسب الدين والمسلمين بل ربما وقع على أمه، أو بنته أو أخته أو على نساء جيرانه أو على بهائمه، وَرُبَّمَا كفر بِاللهِ وارتد عن الإسلام، وترك الصَّلاة، وأفطر في رمضان، وسب القرآن، وبالجملة أن من تعاطى الخمر سقط من شاهق مجده إلى مستوى الخنازير، والقردة يصدق بهَذَا من عاين شارب الخمر وقَدْ استولى عَلَيْهِ الشراب وغطى عقله فتَرَى من يقوده متعب، يجره كما يجر الدابة الحرون بل الدابة تمشي احيانَا هادئة إذا جرت لا تتعب القائد دائمًا، وأما السكران فيميل بقائده هكَذَا وهكَذَا حتى يكلفه متاعب عظيمة، والدابة إذا رأت حفرة امتنعت عَنْهَا وتباعدت عَنْهَا، أما شارب الخمر فتَكُون الحفرة أمامه، ويسقط فيها، والدابة ربما دافعت عن طعامها وشارب الخمر تسلب منه النقود، ولا
يحصل منه أدنى ممانعة، ومعنى هَذَا أن البهيمة أرجح وأحسن حالاً منه وقَدْ قال الخبير بأحوال شراب الخمر: من أراد أن يعرف قدر السكير فلينظر إلى قهقهته، وضحكه، والخمار يوالي الصفعات على قفاه، ولينظر رقصه أمام البزور، كأنه قرد يرقصه صاحبه، ليضحك من يراه، ولينظره وَهُوَ يجري وراء أمه، أو بنته، ليقضي منها حاجته ومناه، ولينظر وامرأته تكنس ملابسه وتمسحها من الأوساخ التي يقذفها على ثيابه، والقاذورات، هَذَا قدر شارب الخمر عندنا، أما عَنْدَ الله عز وجل فهو كعابد وثن ملعون نسأل الله جَلَّ وَعَلا أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها ومن سائر المعاصي وأن يلطف بنا ويوفقنا.
شِعْرًا:
…
أَتَعْصِي اللهَ وَهُوَ يَرَاكَ جَهْرًا
…
وَتَنْسَى فِي غَدٍ حَقًا لِقَاهُ
وَتَخْلُوا بِالْمَعَاصِي وَهُوَ دَانٍ
…
إليك وَلَسْتَ تَخْشَى مِنْ سُطَاهُ
وَتُنْكُرُ فِعْلَهَا وَلَهُ شُهُودٌ
…
عَلَى الإِنْسَانِ تُكْتُبُ مَا حَوَاهُ
فَوَيْلُ الْعَبْدِ مِنْ صُحْف وَفِيهَا
…
مَسَاوِيهِ إِذَا وَافَى مَسَاهُ
وَيَا حُزْنَ الْمُسِيءِ لِشُؤْمِ ذَنْبٍ
…
وَبَعْدَ الْحُزْنِ يَكْفِيهِ جَوَاهُ
وَيَنْدَمُ حَسْرَةً مِنْ بَعْدِ فَوْتٍ
…
وَيَبْكِي حَيْثُ لا يُجْدِي بُكَاهُ
يَعَضُّ يَدَيْهِ مِنْ أَسَفٍ وَحُزْنٍ
…
وَيَنْدَمُ حَسْرَةً مِمَّا دَهَاهُ
فَكُنْ بِاللهِ ذَا ثِقَةٍ وَحَاذِرٍ
…
هُجُومَ الْمَوْتِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَرَاهُ
وَبَادِرْ بِالْمَتَابِ وَأَنْتَ حَيٌّ
…
لَعَلَّكَ أَنْ تَنَالَ بِهِ رِضَاهُ
وَتَقْفُ الْمُصْطَفَى خَيْرَ الْبَرَايَا
…
رَسُولاً قَدْ حَبَاهُ وَاجْتَبَاهُ
عَلَيْهِ مِنْ الْمُهَيْمِنِ كُلِّ وَقْتٍ
…
سَلامٌ عَطَّرَ الدُّنْيَا شَذَاهُ
اللَّهُمَّ يا عَظِيم العفو يا واسع المغفرة يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام اللَّهُمَّ أذقنا عفوك وغفرانك واسلك بنا طَرِيق مرضاتك. وعاملنا بلطفك وإحسانك واقطع عنا ما يبعد عن طَاعَتكَ اللَّهُمَّ وثَبِّتْ محبتك في
قلوبنا وقوها ويسر لنا ما يسرته لأوليائك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ: واعْلَمْ أن الخمر نجسة يغسل ما أصابته من بدن أو ثوب أو إناء ويصب على ما أصابته من الأَرْض ماء كنجاسة البول لما في حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا بأرض قوم أَهْل كتاب يأكلون الخنزير ويشربون الخمر أفنأكل في آنيتهم قال: «لا، إِلا أن تجدوا غيرها، فاغسلوها ثُمَّ كلوا فيها» .
ولا يجوز التداوي بالخمر لما في صحيح مسلم عن طارق بن سويد الجعفي انه سال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فَقَالَ: أصنعها للدواء فَقَالَ: «إنه لَيْسَ بدواءٍ ولكنه داء» . وروى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الله انزل الداء والدواء وجعل لكل داءٍ دواء، فتداووا ولا تتداووا بالمحرم» .
وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم وفي السُّنَن عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث. وفي السُّنَن انه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يجعل في الدواء؟ فَقَالَ: «إنها داء ولَيْسَ بالدواء» . رواه أبو داود والترمذي، ويذكر عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من تداوى بالخمر فلا شفاه الله» .
وقَدْ نبه ابن القيم رجمه الله على جانب نفسي هام فَقَالَ: وها هنا سر لطيف في كون المحرمَاتَ لا يستشفى بها فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء فإن
النافع وهو المبارك وأنفع الأَشْيَاءِ أبركها والمبارك من النَّاس هُوَ الَّذِي ينتفع به حيث حل ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مِمَّا يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها وتلقي طبعه لها بالقبول بل كُلَّما كَانَ الْعَبْد أعظم إيمانَا كَانَ أكره لها وأسوأ اعتقادًا فيها وطبعه أكره شَيْء لها فإذا تناولها في هذه الحال كانت داءٌ لا دواءً إِلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة بالمحبة وهَذَا ينافي الإِيمَان فلا يتناولها المُؤْمِن قط إِلا على وجه أنها داء. انتهى.
ومن ذَلِكَ تلك المواد التي تعرف باسم المخدرات مثل الحشيش، والكوكايين، والأفيون ونحوها مِمَّا عرف أثرها عَنْدَ متعاطيها أنها تؤثر في العقل فيرى الْبَعِيد قريبًا وبالعكس القريب بعيدًا ويذهل عن الواقع ويتخيل ما لَيْسَ بواقع ويسبح في بحر من الأوهام والأحلام وهَذَا ما يريد متعاطيها لأجل أن يذهلوا أنفسهم وينسوا دينهم ودنياهم ويهيموا في أودية الخيال.
وهَذَا غير ما تحدثه من فتور في الجسم وخدر في الأعصاب وهبوط في الصحة وفوق ذَلِكَ ما تحدثه من خور في النفس وتحلل الإرادة وتمييع للخلق وتضعيف للشعور بالواجب مِمَّا يجعل هؤلاء التعساء المدمنين لها أعضاء مضرة بالمجتمَعَ فضلاً عما وراء ذَلِكَ من إتلاف الأموال وخراب البيوت.
وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه ما خلاصته: إن هذه الحشيشة الملعونة هِيَ وآكلوها ومستحلوها الموجبة لسخط الله ورسوله وسخط عباده الْمُؤْمِنِين المعرضة صاحبها لعقوبة الله تشتمل على ضررٍ في دين
المرء وعقله وخلقه وطبعه وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين، وتورث من مهانة آكلها ودناءة نَفْسهُ وغير ذَلِكَ.
فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر ولهَذَا قال الْفُقَهَاء: إنه يجب فيها الحد كما يجب في الخمر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين.
ومن استحل ذَلِكَ وزعم أنه حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإِلا قتل مرتدًا لا يصلى عَلَيْهِ ولا يدفن في مقابر المسلمين.
إِلَى كَمْ ذَا التَّمَادِي بِالدَّسَائِسْ
…
وَأَنْتَ بِحَمْأَةِ الْبُهْتَانِ غَاطِسْ
تُسَاعِدُ كُلَّ نَمَّامٍ بِإِفْكٍ
…
وَتَغْتَالُ الأَكَارِمَ وَالأَوَانِسْ
تُسَابِقُ كُلَّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ
…
بِمَا تُبْدِيهِ مِنْ فِتَنِ الْوَسَاوِسْ
أَضَعْتَ الْعُمْرَ فِي زُورٍ وَوِزْرٍ
…
وَلَهْوٍ مَعَ ذَوِي الْغَدْرِ الأَبَالِسْ
فَعَجِّلْ بِالْمَتَابِ لِنَيْلِ عَفْوٍ
…
لِتُحْبَى مِنْ جَنَا مَا أَنْتَ غَارِسْ
وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل في بعض مضار الخمر
ونسوق إليك نموذجًا من مضار الخمر مِمَّا ذكره الْعُلَمَاء والأطباء:
1-
أنها فساد في الدين.
2-
أنها فساد في الأَخْلاق.
3-
أنها فساد في العقل.
4-
أنها فساد في الجسم تحطم قوته وتهدم بنيته وتسقم الجسد.
5-
أنها فساد في الذرية.
6-
أنها جناية على الشرف.
7-
أن الخمر رجس من عمل الشيطان.
8-
أنها نجسة، تنجس ما اتصلت به.
9-
أنها تورث الذل والمهانة.
10-
أن ضررها متعدٍ.
11-
أنها تضر اقتصاديًا.
12-
ما فيها من الضَّرَر الاجتماعي.
13-
أن الجهاز الهضمي يصاب بالنزلة المعوية الحادة فيحصل فساد في الهضم وخمود في المعدة والتهاب في الأمعاء واستحالة في منسوج الكبد وتيبس والتهاب وتغير فيه وأخيرًا تفتت الكبد وتتلف وتنتهي حَيَاتهُ.
14-
أن الجهاز البولي والتناسلي يحصل فيه تنبه، ينشأ عَنْهُ التهاب الكلى وفساد منسوجها وضعف الانعاظ وضياع محصل النسل.
15-
الجهاز العصبي يصاب المخ باضطراب يكون منه الجنون السكري والخوف والخيالات المختلفة كرؤية الهيئات الشنيعة والارتعاش وفقَدْ الإحساس والشلل المحدود الَّذِي يؤول إلى شللٍ عمومي وقَدْ تؤدي الخمر إلى الصراع والتشنج واستحالة المراكز العصبية المخية الشوكية وعلى العموم يحصل في البنية اضطراب تضعف أمامه عن مقاومة المؤثرات الخارجية.
16-
أنه يعتري الْقَلْب ضمور والاستحالة الشحمية فينشأ عن ذَلِكَ إبطاء في الدورة الدموية بالرئة تحدث عَنْهُ النزل الشعبية وموت الفجأة.
17-
أنه يسبب انسداد في بعض أوعية الرئة وَذَلِكَ ما تعرف أعراضه بالسعال.
18-
أنها تعرقل هضم الطعام فينشأ عن ذَلِكَ التخم والحموضة في المعدة والقيء.
19-
تضعف المناعة وتخدر الكرات الدموية البيضاء التي يجعلها الله حارسة لجسم الإِنْسَان.
20-
التعريض لفجأة ذهاب البصر.
21-
مبادرة انقطاع شهوة الجماع وسرعة وقوف النسل.
22-
أن أكثر حوادث السيارات من شراب الخمر والمخدرات وبالحَقِيقَة أن الشيطان يصد الشارب عن ذكر الله وعن الصَّلاة ويوقعه في معصية الله وسخطه ويعرضه لخزي الدُّنْيَا وعذاب الآخِرَة يرتكب الكبائر ويقترف الجرائم والآثام ويخبط في الحرام، ويتجنب ما وجب عَلَيْهِ من الأحكام، فيفعل نكرًا وينطق بالعظائم من القول والزور ويسب ربه وأمه وأباه ويطلق ويزني ويلوط ويعبث بالأعراض والكرامَاتَ ويتلف أثاثه وأمواله ويوسخ ثيابه ويبول على نَفْسهُ ويبكي بلا سبب ويضحك من غير عجب فتهزأ به الصبيان ويعبث به الفساق ويسخر به السفهاء ويمقته العقلاء ويبغضه أهله للخطر المتوقع منه في سكره ليلاً ونهارً ويمقته
جيرانه ولا يأمنون من وثباته إذا سكر ولا شك إن فتك أن الخبائث الخمر أشد من فتك الطاعون والحرب والمجاعات والعاهات لإن ضرر الخمر اقتصادي وصحي ونفسي واجتماعي وأخلاقي.
فشاربها عضو مسموم في جسم أمته ومواطنيه إن لم يعالج أو يسِوَى له عملية ويقطع سرى سمه وداؤه الفتاك إلى سائر الأعضاء وأثر على الجسم كله.
وقيل لعدي بن حَاتِم: مالك لا تشرب الخمر؟ فَقَالَ: ما أحب أن أصبح حكيم قومي وأمسي سفيههم وكَانَ بعض الملوك يجمَعَ أفاضل دولته ويلقي عَلَيْهمْ أسئلة علمية يتعرف بها فضلهم فيومًا حضر هَذَا المجلس رجل رث الهيئة فكَانَ إذا انتهى الْعُلَمَاء من إجابتهم تكلم بما لم يحم حوله واحد مِنْهُمْ وكَانَ ذَلِكَ حاله في كُلّ سؤال ولما انصرف الْعُلَمَاء أراد أن ينصرف هُوَ أيضًا فأشار إليه الملك أن لا ينصرف فَلَمَّا خليا أدناه الملك ثُمَّ أدناه حتى أجلسه إلى جنبه ثُمَّ عرض عَلَيْهِ كأسًا من الخمر فاستعفى فألح عَلَيْهِ أن يشربها فاستعفى وأخبره أنه لا يريدها ثُمَّ قال للملك: إني الآن في مجلس يحسدني عَلَيْهِ النَّاس جميعًا وَهُوَ إحسان ومكَانَ عَظِيم لم يوصلني إليه إِلا عقلي فلا أسيء إلى عقلي أبدًا باحتساء كأس من الخمر يقضي عَلَيْهِ فازداد إعجاب الملك به وازداد فضلاً عنده على فضله ولعله كَانَ يختبره بذَلِكَ.
وختامًا فإن الفلاح مرجو حصوله باجتنابها قال عز من قائل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
نسأل الله أن يوقظ ولاتنا فيأخذوا على أيدي السفهاء منا ويزيل ما حدث من هذه المنكرات، وأن يوقفنا وَجَمِيع المسلمين لطاعته، ويتوفانا
مسلمين، ويلحقنا بعباده الصالحين، وَيَغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ وَيَرْحَمْنَا بِرَحْمَتِهِ أنَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فصل في التحذير عن المسكرات)
وَإِيَّاكَ شُرْبًا لِلْخُمُورِ فَإِنَّهَا
تُسَوَّدُ وَجْهَ الْعَبْدِ فِي اليوْمِ مَعْ غَدِ
أَلا إِنْ شُرْبَ الْخَمْرِ ذَنْبٌ مُعَظَّمٌ
يُزِيلُ صِفَاتِ الآدَمِي الْمُسَدَّدِ
فَيَلْحَقُ بِالأَنْعَامِ بَلْ هُوَ دُونَهَا
يُخَلِّطُ فِي أَفْعَاله غَيْرَ مُهَْدِ
وَيَسْخَرُ مِنْهُ كُلُّ رَاءٍ لِسُوءِ مَا
يُعَايِنُ مِنْ تَخْلِيطِهِ وَالتَّبَدُدِ
يُزِيلُ الْحَيَا عَنْهُ وَيَذْهَبُ بِالْغِنَا
وَيُوقِعُ فِي الْفَحْشَا وَقَتْلِ الْمُعَرْبَدِ
وَكُلُّ صِفَاتِ الذَّمِ فِيهَا تَجَمَّعَتْ
كَذَا سُمِّيتَ أُمَّ الْفُجُورِ فَاسْنِدِ
فَكَمْ آيَةٍ تُنْبِي بِتَحْرِيمِهَا لِمَنْ
فَكَمْ آيَةٍ تُنْبِي بِتَحْرِيمِهَا لِمَنْ
وَقَدْ لَعَنَ الْمُخْتَارُ فِي الْخَمْرِ تِسْعَةً
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ خَيْرِ مُرْشِدِ
وَأَقْسَمَ رَبُّ الْعَرْشِ أَنْ لَيُعَذِّبَنْ
عَلَيْهَا رَوَاهُ أَحْمَدٌ عَنْ مُحَمَّدِ
وَمَا قَدْ أَتَى فِي حَظْرِهَا بَالِغٌ إِذَا
تَأَمَلْتَهُ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَاهْتَدِ
…
>?
.. وَاجْمَعْ عَلَى تَحْرِيمِهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ
فَكَفِرْ مُبِيحِيهَا وَفِي النَّارِ خَلِّدِ
وَإِدْمَانِهَا إِحْدَى الْكَبَائِرِ فَاجْتَنِبْ
لَعَلَّكَ تُحْظَى بِالْفَلاحِ وَتَهْتَدِي
وَيَحْرُمُ مِنْهَا النَّزْرُ مِثْلَ كَثِيرِهَا
ولَيْسَتْ دَاوَءً بِلْ هِيَ الدَّاءُ فَابْعِدِ
فَمَا جَعَلَ اللهُ الْعَظِيمَ دَوَاءَنَا
بِمَا هُوَ مَحْظُورٌ بِمِلَّةِ أَحْمَدِ
وَكُلُّ شَرَابٍ إِنْ تَكَاثَرَ مُسْكِرٌ
يُحَرَّمُ مِنْهُ النَّزْرُ بِالْخَمْرِ فَاعْدِدِ
وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَحْرُمُ مُطْلَقًا
وَلَوْ كَانَ مَطْبُوخًا بِغَيْرِ تَقَيُّدِ
فَسِيَّانَ مِنْ بُرٍّ وَمِنْ ذُرَةٍ وَمِنْ
شَعِيرٍ وَتَمْرٍ أَيْ وَكُلِّ مُعَوَّدِ
سِوَى لِظَمَا الْمُضْطَّرِ إِنْ مُزِجَتْ بِمَا
يُرَوِّي وَلِلْمُغْتَصِّ إجْمَاعًا ازْرُدِ
ثَمَانِينَ فَاجْلِدْ مُسْلِمًا شَارِبًا رِضَى
عَلَيْهَا بِاسْكَارِ الْكَثِيرِ الْمُزَبِّدِ
وَمَنْ مَاتَ فِي حَدٍّ بِغَيْرِ تَزَيُّدٍ
فَلا غُرْمَ فِيهِ وَلْيُغَسَّلْ وَيُلْحَدِ
…
>?
موعظة
عباد الله إن مفتاح سعادة المرء في دنياه وأخراه أن يراقب مولاه
بحيث يكون في كُلّ حال من أحواله مستحضرًا عظمة ربه وجلاله ولا ينساه مؤمنًا بأنه تَعَالَى يراه أينما كَانَ ويعلم سره ونجواه فمن كَانَ هكَذَا أورثه ذَلِكَ خشية ربه في سره وعلانيته، فإذا خاف الإِنْسَان ربه خوفًا صحيحًا وقف ولا بد عِنْدَمَا حد له من حدود يفعل أوامره ويجتنب نواهيه لا يحمله على ذَلِكَ إِلا إجلاله لربه، ومن أبعد الْعَبْد أن يقرب المعصية من كَانَ هكَذَا، لأنه يستحضر أن الله تَعَالَى يراه، ويوقن أن الله تَعَالَى يجازيه على كُلّ ما قدم من طاعة أو معصية فإذا وصل الْعَبْد إلى هذه الحالة كَانَ مَعَ توفيق الله له من صفوة خلق الله المتقين الَّذِينَ لله تَعَالَى بِهُمْ عناية فوق ما يتصوره المتصورون هُوَ أنه تَعَالَى أخبره عن مبلغ هذه العناية في اْلكِتَاب المبين أخبر تَعَالَى أنه معهم لما هم عَلَيْهِ مِمَّا وفقهم له من تقوى وإحسان، وإذا كَانَ الأَمْر هكَذَا. فمن يغلب التقي ومعه القاهر الغلاب ومن يذله ومعه من بيده ناصية كل مخلوق ومن يحوجه ومعه من كُلّ العوالم تتقلب في بحبوحة جوده وكرمه الباهر، ومن يشقيه ومعه من لا سعادة إِلا وهي من فيض كرمه وإحسانه. فعَلَيْكَ بلزوم تقوى الله وطاعته تنل السعادة في الدُّنْيَا والآخِرَة، قال صل الله عَلَيْهِ وسلم:«أفضل الإِيمَان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» . رواه الطبراني وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شِعْرًا: قصيدة وعظية زهدية ألق لها سمعك
…
أَعَارَتْكَ دُنْيًا مُسْتَرَدٌّ مُعَارُهَا
…
غَضَارَةَ عَيْشٍ سَوْفَ يَذْوِي اخْضِرَارُهَا
وَهَلْ يَتَمَنَّى الْمُحْكَمُ الرَّأْي عِيشَةً
…
وَقَدْ حَانَ مِنْ دُهْمِ الْمَنَايَا مَزَارُهَا
وَكَيْفَ تَلَذُّ الْعَيْنُ هَجْعَةَ سَاعَةٍ
…
وَقَدْ طَالَ فِيمَا عَايَنَتْهُ اعْتِبَارُهَا
وَكَيْفَ تَقِرُّ النَّفْسُ فِي دَارِ نُقْلَةٍ
…
قَدْ اسْتَيْقَنَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهَا قَرَارُهَا
وَإِنِّي لَهَا فِي الأَرْضِ خَاطِرُ فِكْرَةٌ
…
وَلَمْ تَدْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْنَ مَحَارُهَا
أليس لَهَا فِي السَّعْيِ لِلْفَوْزِ شَاغِلٌ
…
أَمَا فِي تَوَقِّيهَا الْعَذَابَ ازْدِجَارُهَا
فَخَابَتْ نُفُوسُ قَادَهَا لَهْو سَاعَةٍ
…
إِلَى حَرِّ نَارٍ لَيْسَ يَطْفَى أَوَارُهَا
لَهَا سَائِقٌ حَادِ حَثِيثٌ مُبَادِرٌ
…
إِلَى غَيْرِ مَا أَضْحَى إليه مَدَارُهَا
تُرَادُ لأَمْرٍ وَهِيَ تَطْلُبُ غَيْرَهُ
…
وَتَقْصِدْ وَجْهًا فِي سِوَاهُ سِفَارُهَا
أَمُسْرِعَةٌ فِيمَا يَسُوءُ قِيَامُهَا
…
وَقَدْ أَيْقَنَتْ أَنَّ الْعَذَابَ قُصَارُهَا
تُعَطَّلُ مَفْرُوضًا وَتَعْنَى بِفَضْلَةٍ
…
لَقَدْ شَفَّهَا طُغْيَانُهَا وَاغْتِرَارُهَا
إِلَى مَا لَهَا مِنْهُ الْبَلاءَ سُكُونُهَا
…
وَعَمَّا لَهَا مِنْهُ النَّجَاحُ نِفَارُهَا
وَتُعْرِضُ عَنْ رَبٍّ دَعَاهَا لِرُشْدِهَا
…
وَتَتَبعُ دُنْيًا جَدَّ عَنْهَا فِرَارُهَا
فَيَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ بَادِرْ بِرَجْعَةٍ
…
فَلِلَّهِ دَارٌ لَيْسَ تَخْمُدُ نَارُهَا
وَلا تَتَخَيَّرْ فَانِيًا دُونَ خَالِدٍ
…
دَلِيلٌ عَلَى مَحْضِ الْعُقُولِ اخْتِيَارُهَا
أَتَعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا تَرَكْتَهُ
…
وَتَسْلُكُ سُبْلاً لَيْسَ يَخْفَى عَوَارُهَا
وَتَتْرُكَ بَيْضَاءَ الْمَنَاهِجَ ضِلَّةً
…
لِبَهْمَاءَ يُؤْذِي الرِّجْلَ فِيهَا عُثَارُهَا
تُسَرُّ بِلَهْوٍ مُعْقِبٍ بِنَدَامَةٍ
…
إِذَا مَا انْقَضَى لا يَنْقَضِي مُسْتَثَارُهَا
وَتَفْنَى اللَّيَالي وَالْمَسَرَّاتُ كُلَّهَا
…
وَتَبْقَى تِبَاعَاتُ الذُّنُوبِ وَعَارُهَا
فَهَلْ أَنْتَ يَا مَغْبُونُ مُسْتَيْقِظٌ فَقَدْ
…
تَبَيَّنَ مِن سِرِّ الْخُطُوبَ اسْتِتَارُهَا
فَعَجِّلْ إِلَى رِضْوَانِ رَبِّكَ وَاجْتَنِبْ
…
نَوَاهِيَهُ إِذْ قَدْ تَجَلَّى مَنَارُهَا
تَجِدُّ مُرُورُ الدَّهْرِ عَنْكَ بِلاعِبِ
…
وَتُغْرِي بِدُنْيَا سَاءَ فِيكَ سَرَارُهَا
فَكَمْ أُمَّةٍ قَدْ غَرَّهَا الدَّهْرُ قَبْلَنَا
…
وَهَاتِيكَ مِنْهَا مُقْفِرَاتٌ دِيَارُهَا
تَذَكَّرْ عَلَى مَا قَدْ مَضَى وَاعْتَبِرْ بِهِ
…
فَإِنَّ الْمُذَكِّي لِلْعُقُولِ اعْتِبَارُهَا
تَحَامَى ذُرَاهَا كُلَّ بَاغٍ وَطَالِبٍ
…
وَكَانَ ضَمَانًا فِي الأَعَادِي انْتِصَارُهَا
تَوَافَتْ بِبَطْنِ الأَرْضِ وَأَنْشَتَّ شَمْلُهَا
…
وَعَادَ إِلَى ذِي مُلكةِ مُسْتَعَارُهَا
وَكَمْ رَاقِدٍ فِي غَفْلَةٍ عَنْ مَنِيَّةٍ
…
مُشَمِّرَةٍ فِي الْقَصْدِ وَهُوَ سِعَارُهَا
وَمَظْلَمَةٍ قَدْ نَالَهَا مُتَسَلِّطٌ
…
مُذِّلٌ بِأَيْدٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ثَأْرُهَا
أَرَاكَ إِذَا حَاوَلْتَ دُنْيَاكَ سَاعِيًا
…
عَلَى أَنَّهَا بَادٍ إليك أَزْوُرَارُهَا
وَفِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ يُقْعِدُكَ الْوَنَى
…
وَتُبْدِي أَنَاةً لا يَصِحُّ اعْتِذَارُهَا
تُحَاذِرُ إِخْوَانًا سَتَفْنَى وَتَنْقَضِي
…
وَتَنْسَى الَّتِي فَرْضٌ عَلَيْكَ حِذَارُهَا
كَأَنِّي أَرَى مِنْكَ التَّبَرَّمَ ظَاهِرًا
…
مُبِينًا إِذَا الأَقْدَارِ حُلَّ اضْطِرَارُهَا
هُنَاكَ يَقُولُ الْمَرْءُ مَنْ لِي بِأَعْصُرٍ
…
مَضَتْ كَانَ مِلْكًا فِي يَدَيَّ خِيَارُهَا
تَنَبَّهْ لِيَوْمٍ قَدْ أَظَلَّكَ وِرْدُهُ
…
عَصِيبٍ يُوَافِي النَّفْسَ فِيهِ احْتِضَارُهَا
تَبَرّأ فِيهِ مِنْكَ كُلُّ مُخَالِطٍ
…
وَأَنَّ مِن الآمَالِ فِيهِ انْهِيَارُهَا
فَأَوْدَعْتُ فِي ظَلْمَا ضَنْكٍ مَقَرُّهَا
…
يَلُوحُ عَلَيْهَا لِلْعُيُونِ اغْبِرَارُهَا
تُنَادِي فَلا تَدْرِي الْمُنَادِي مُفْرَدًا
…
وَقَدْ حُطَّ عَنْ وَجْهِ الْحَيَاةِ خِمَارُهَا
تُنَادَى إِلَى يَوْمٍ شَدِيدٍ مُفَزِّعٍ
…
وَسَاعَةِ حَشْرٍ لَيْسَ يَخْفَى اشْتِهَارُهَا
إِذَا حُشرتْ فِيهِ الْوُحُوشُ وَجُمِّعَتْ
…
صَحَائِفُنَا وَانْثَالَ فِينَا انْتِثَارُهَا
وَزُيَّنَتِ الْجَنَّاتِ فِيهِ وَأَزْلَفَتْ
…
وَأُذِكيَ مِنْ نَارِ الْجَحِيمِ اسْتِعَارُهَا
وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةِ بِالضُّحَى
…
وَأُسْرِعَ مِنْ زَهْرِ النُّجُومِ انْكِدَارُهَا
لَقَدْ جَلَّ أَمْرٌ كَانَ مِنْهُ انْتِظَامُهَا
…
وَقَدْ عُطِّلَتْ مِنْ مَالِكيْهَا عِشَارُهَا
فَإِمَّا لِدَارٍ لَيْسَ يَفْنَى نَعِيمُهَا
…
وَأَمَّا لِدَارٍ لا يُفَكُّ إِسَارُهَا
بِحَضْرَةِ جَبَّارٍ رَفِيقٍ مُعَاقِبٍ
…
فَتُحْصَى الْمَعَاصِي كُبْرُهَا وَصِغَارُهَا
وَيَنْدَمُ يَوْمَ الْبَعْثِ جَانِي صِغَارِهَا
…
وَتُهْلِكَ أَهْلِيهَا هُنَاكَ كِبَارُهَا
سَتُغْبَطُ أَجْسَادٌ وَتَحْيَا نُفُوسُهَا
…
إِذَا مَا اسْتَوى أَسْرَارُهَا وَجِهَارُهَا
إِذَا حَفُّهُمْ عَفْوُ الإِلَهِ وَفَضْلُهُ
…
وَأسْكَنَهُمْ دَارًا حَلالاً عِقَارُهَا
يَفزُّ بَنُو الدُّنْيَا بِدُنْيَاهُمْ الَّتِي
…
يَظُنُّ عَلَى أَهْلِ الْحُظُوظِ اقْتِصَارُهَا
هَيِ الأُمُّ خَيْرُ الْبَرِّ فِيهَا عُقُوقُهَا
…
وَلَيْسَ بِغَيْرِ الْبَذْلِ يُحْمَى ذِمَارُهَا
ج
فَمَا نَالَ مِنْهَا الْحَظَّ إِلا مُهِينُهَا
…
وَمَا الْهُلْكُ إِلا قُرْبُهَا وَاعْتِمَارُهَا
تَهَافَتَ فِيهَا طَامِعٌ بَعْدَ طَامِعٍ
…
وَقَدْ بَانَ لِلُّبِ الذَّكِيّ اخْتِبَارُهَا
تَطَامَنْ لِغَمْرِ الْحَادِثَاتِ وَلا تَكُنْ
…
لَهَا ذَا اعْتِمَارٍ يَجْتَنِبْكَ غِمَارُهَا
وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ مِنْهَا بِمَا تَرَى
…
فَقَدْ صَحَّ فِي الْعَقْلِ الْجَلِيِّ عِيَارُهَا
رَأَيْت مُلُوكَ الأَرْضِ يَبْغُونَ عُدَّةً
…
وَلَذَّةِ نَفْسٍ يُسْتَطَابُ اجْتِرَارُهَا
وَخَلُّوا طَرِيقَ الْقَصْدِ فِي مُبْتَغَاهُمُ
…
لِمُتْبِعَةِ الصِّفَارُ جَمٌّ صِغَارُهَا
وَإِنَّ الَّتِي يَبْغُونَ نَهْجَ بَقِيَّةٍ
…
مَكِين لِطُلابِ الْخَلاصِ اخْتِصَارُهَا
هَلْ الْعِزُّ إِلا هِمَّةٌ صَحَّ صَوْنُهَا
…
إِذَا صَانَ هَمَّاتُ الرِّجَالِ انْكِسَارُهَا
وَهَلْ رَابِحٌ إِلا امْرُؤٌ مُتَوَكِّلٌ
…
قُنُوعٌ غَنِيُّ النَّفْسِ بَادٍ وَقَارُهَا
وَيَلْقَى وُلاةُ الْمُلْكِ خَوْفًا وَفِكْرَةً
…
تَضِيقُ بِهَا ذَرْعًا وَيَفْنَى اصْطِبَارُهَا
عَيَانًا نَرَى هَذَا وَلَكِنْ سَكْرَةً
…
أَحَاطَتْ بِنَا مَا أَنْ يَفِيقُ خُمَارُهَا
تَدَبَّرْ مَن الْبَانِي عَلَى الأَرْضِ سَقْفَهَا
…
وَفِي عَلْمِهِ مَعْمُورُهَا وَقِفَارُهَا
وَمَنْ يُمْسِكُ الإِجْرَامَ وَالأَرْضَ أَمْرُهُ
…
بِلا عَمَدٍ يُبْنَى عَلَيْهِ قَرَارُهَا
وَمَنْ قَدَّرَ التَّدْبِيرَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ
…
فَصَحَّ لَدَيْهَا لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا
وَمن فَتقَ الأَمْوَاهَ فِي صَفْحِ وَجْهِهَا
…
فَمِنْهَا يُغَذَّى حَبُّهَا وَثِمَارُهَا
وَمَنْ صَيَّرَ الأَلْوَانَ فِي نُورِ نَبْتِهَا
…
فَأَشْرَقَ فِيهَا وَرْدُهَا وَبَهَارُهَا
فَمِنْهُنَّ مُخْضَرٌّ يَرُوقُ بِصَيْصُهُ
…
وَمِنْهُنَّ مَا يَغْشَى اللِّحَاظَ احْمِرَارُهَا
وَمَنْ حَفَرَ الأَنْهَارَ دُونَ تَكلُّفٍ
…
فَثَارَ مِنَ الصُّمِّ الصِّلابِ انْفِجَارُهَا
وَمَنْ رَتَّبَ الشَّمْسَ الْمُنِيرَ ابْيِضَاضُهَا
…
غُدوًّا وَيَبْدُو بِالْعَشِيّ اصْفِرَارُهَا
وَمَنْ خَلَقَ الأَفَلاكَ فَامْتَدَّ جَرْيُهَا
…
وَأَحْكَمَهَا حَتَّى اسْتَقَامَ مَدَارُهَا
وَمَنْ إِنْ أَلمتْ بِالْعُقُولِ رَزِيَّةٌ
…
فَلَيْسَ إِلَى حَيٍّ سِوَاهُ افْتِقَارُهَا
تَجِدْ كُلَّ هَذَا رَاجِعٌ نَحْوَ خَالِقٍ
…
لَهُ مُلْكُهَا مُنْقَادَةً وَائْتِمَارُهَا
أَبَانَ لَنَا الآيَاتِ فِي أَنْبِيَائِهِ
…
فَأَمْكَنَ بَعْدَ الْعَجْزِ فِيهَا اقْتِدَارُهَا
فَأَنْطَقَ أَفْوَاهًا بِأَلْفَاظِ حِكْمَةٍٍ
…
وَمَا حَلَّهَا إِثْغَارُهَا وَاتِّغَارُهَا
وَأَبْرِزَ مِنْ صُمٍّ الْحِجَارَةِ نَاقَةً
…
وَأَسْمَعُهُمْ فِي الْحِينِ مِنْهَا حُوَارُهَا
لِيُوقِنَ أَقْوَامٌ وَتَكَفُّرِ عُصْبَةً
…
أَتَاهَا بِأَسْبَابِ الْهَلاكِ قدَارُهَا
وَشَقَّ لِمُوَسَى الْبَحْرَ دُونَ تَكَلُّفُ
…
وَبَانَ مِنَ الأَمْوَاجِ فِيهِ انْحِسَارُهَا
وَسَلَّمَ مِنْ نَارِ الأَنُوقَ خَلِيلَهُ
…
فَلَمْ يُؤْذِهِ إِحْرَاقُهَا وَاعْتِرَارُهَا
وَنَجَى مِن الطُّوفَانِ نُوحًا وَقَدْ هَدَّتْ
…
بِهِ أُمَّةٌ أَبدَى الْفُسُوقَ شِرَارُهَا
وَمَكَّنَ دَاوُدًا بِأَيْدٍ وَابْنَهُ
…
فَتَعْسِيرُهَا مُلْقَىً لَهُ وَبِدَارِهَا
وَذِلَّلِ جَبَّارَ الْبِلادِ بِأَمْرِهِ
…
وَعَلَّمَ طَيْرًا فِي السَّمَاءِ حِوَارُهَا
وَفَضَّلَ بِالْقُرْآنِ أُمَّةَ أَحْمَدٍ
…
وَمَكَّنَ فِي أَقْصَى الْبِلادِ مُغَارُهَا
وَشَقَّ لَهُ بَدْرَ السَّمَاءِ وَخَصَّهُ
…
بِآيَاتٍ حَقٍّ لا يُخَلُّ مُعَارُهَا
وَأَنْقَذَنَا مِنْ كُفْرٍ أَرْبَابِنَا بِهِ
…
وَقَدْ كَانَ عَلَى قُطْبِ الْهَلاكِ مَنَارُهَا
فَمَا بَالُنَا لا نَتْرُكُ الْجَهْلَ وَيْحَنَا
…
لِنُسْلَمُ مِنْ نَارٍ تَرَامَى شَرَارُهَا
اللَّهُمَّ تب عَلَيْنَا قبل أن تشهد عَلَيْنَا الجوارح ونبهنا من رقدات الغفلات وسامحنا فأَنْتَ الحليم المسامح وانفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا فمنك الفضل والمنائح وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ في تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ
ومِمَّا يتأكد اجتنابه والبعد عَنْهُ، والتحذير منه في رمضان وفي غيره حلق اللحية وقصها ونتفها لما يأتي من الآيات وَالأَحَادِيث.
.. قال الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} قال البغوي رحمه الله قيل: الرِّجَال باللحى، والنساء بالذوائب، وَقَالَ الله تَعَالَى:{وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} ، وَقَالَ:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ، وَقَالَ:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} وقَدْ رأى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم على عَبْد اللهِ بن عمرو ثوبين معصفرين فَقَالَ له: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» . رواه مسلم ، فالعاقل المتدين البصير الورع يبعد كُلّ البعد عن تقليدهم والتشبه بِهُمْ، والدنو إلى مستواهم المنحط الشاذ وإليك ما ورد في التحذير عن التشبه بِهُمْ، والأَمْر بمخالفتهم لتَكُون على بصيرة من ذَلِكَ وتفهم الأدلة وتنصح من رأيته يقلدهم ويتشبه بِهُمْ وتبين له أنه قَدْ أمر صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية ومخالفة المشركين فعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس» . رواه أَحَمَد ومسلم.
وعن ابن عمر عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب» . متفق عَلَيْهِ. وروى الإمام أَحَمَد عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أعفوا اللحى وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنَّصَارَى» . وللبزار: «لا تشبهوا بالأعاجم، أعفوا اللحى» .
وروى عن ابن عمر قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو مِنْهُمْ» . رواه أَحَمَد وَأَبُو دَاود.
وَقَالَ أيضًا: «إن اليهود والنَّصَارَى لا يصبغون فخالفوهم» . رواه البخاري ومسلم.
وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا النَّصَارَى» . وروي عن ابن عمر: «من تشبه بِهُمْ حتى يموت حشر معهم» .
وفي كتاب عُمَر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقَدْ: وَإِيَّاكَ وزي أَهْل الشرك. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن عقيل رحمه الله: النهي عن التشبه بالعجم للتحريم.
وَقَالَ شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله:
التشبه بالكفار منهي عَنْهُ بالإجماع. وَقَالَ على حديث ابن عمر: من تشبه بقوم فهو مِنْهُمْ. وقَدْ احتج الإمام أَحَمَد وغيره بهَذَا الْحَدِيث قال: وهَذَا أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بِهُمْ، وإن كَانَ ظاهره يقتضي كفر المتشبه بِهُمْ كما في قوله تَعَالَى:{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . انتهى.
وقَدْ جَاءَ في حديث رواه ابن إسحاق وابن جرير أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أمرني بإعفاء لحيتي وقص شارَبِّي» .
ومن الأدلة على تحريم حلق اللحية قوله صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فلَيْسَ مني» . ومن سنته صلى الله عَلَيْهِ وسلم
إعفاء اللحية. وروى الإمام أَحَمَد في زوائد المسند بأسانيد جيدة عن علي رضي الله عنه قال: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَظِيم اللحية، وهَذَا يدل على أنه كَانَ يعفيها، ولا يأخذ منها شَيْئًا. وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير اللحية وعن أنس رضي الله عنه قال: لحيته قَدْ ملأت من ها هنا وأمر يده على عارضه.
وعن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كث اللحية، تملأ عارضيه. وقال أبو معمر: قلنا لخباب ابن الأرت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، فقلنا له: بم كنتم تعرفون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته. رواه البخاري. وسئل ابن عمر رضي الله عنهما: كيف كنتم تعرفون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرية؟ قال: باضطراب لحيته.
وعن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته. رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، فهذا يدل على عظمها وطولها وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفًا من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال:«هكذا أمرني ربي» . رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة ورفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة» . رواه أحمد وأبو داود.
وَالذي يَحْلِقُها قََدْ كَرهَ الشَّعْرَ الأسْوَدَ، فَضْلاً عنْ الأَبيضِ الذِي هُوَ نورُ المَسلِم، وقد أخْرَجَ مُسْلِمُ في الصَّحيْحِ مِن حَديْثِ قتادة عن أنسِ بن مالكٍ قالَ: كنّا نكرَهُ أنْ يَنِتفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ البَيْضاءَ مِن رأسِه ولِحْيَتِه.
وكانَ أبُو بكرٍ رضي الله عنه كَثَّ اللحْيَةِ، وكَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه رَقيْقَ اللَّحْيةِ، وَكانَ عليُّ عَرْيضَ اللحية، وَقَدْ مَلأتْ مَا بَيْنْ مَنْكِبَيْهِ رضي الله عنه، وَقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم:«عَلْيكُم بسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيَّينَ منْ بَعْدِيْ، عضُّوا عَليْهَا بالنَّواجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدثَاتُ الأمُورِ، فَإنَّ كُلَّ مُحْدَثةٍ بَدْعة» . الخ ومن الأدلة على تحريم حلق اللحية - مع ما تقدم، وأنه تشبه بأعداء الله اليهود والنصارى - أنه أيضًا تشبه بالنساء.
وبالأمرد في عدم الشعر بالوجه، وقد ورد اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، في عدة أحاديث تقدمت في فصل مفرد لها.
وأيضًا فحلق اللحية تغيير لخلق الله وتمثيل بالشعر، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاق» . رواه الطبراني. قال أهل اللغة: مثل بالشعر: صيرة مُثْلَه، بأن حلقه من الخدود أو نتفه، أو غيره بالسواد.
وقد عمت هذه البدعة في زمننا، وانتشرت انتشارًا يؤلم قلب كل
مؤمن، فإنه إذا التفت إلى وجوه من حوله من الرجال وجد الأكثر منهم مغيرًا لما جمله الله به، وجعله - لو أبقاه - داعيًا إلى وقاره واحترامه وهيبته، ويندر جدًا أن ترى وجه المتأدب بآداب الشريعة، الذي لا يتعرض للحيته بحلق ولا قص ولا نتف، ولا تسويد الشعر الأبيض، عليه ما زينه الله به من سيما الرجولة والوقار حيث أبقاها، إذ هو بحلقها يزيل جماله الشاهد في بقائها وينفق ماله في حلقها وسيسأل عنه يوم القيامة ويهدم رجولته، ويعدم هيبته ووقاره، ويرضى لنفسه أن يعيش طول حياته متشبهًا بأعداء الإسلام الإفرنج، فإن حلقها علامتهم جميعًا في هذا الزمان كما نشاهد وأما إعفاء اللحية فعلامة المرسلين وأتباعهم وأحبائهم السائرين علي منهاجهم عباد الله الصالحين. نسأل الله أن يوفقنا لسلوك منهاجهم إنه القادر على ذلك.
قال ابن القيم: ثم تأمل لم صارت المرأة والرجل إذا أدركا اشتركا في نبات العانة ثم ينفرد الرجل عن المرأة باللحية، فإن الله عز وجل لما جعل الرجل قَيِّمًا على المرأة، وجعلها كالخول والعاني في يديه، ميزة عليها بما فيه له المهابة والعز والوقار والجلالة، لكماله وحاجته إلى ذلك، ومنعتها المرأة، لكمال الاستمتاع بها والتلذذ، لتبقى نضارة وجهها وحسنه لا يَشِينُهُ الشعر. انتهى.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل: وقال في الدر المختار وأما الأخذ منها وهي دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد اهـ ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته والحلق أعظم بكثير، لأنه لا يبقي شيئًا منها
وقال أبو شامة وقد حدث قوم يحلقون لحالهم وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها وقال في التمهيد: ويحرم حلق اللحية ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال. أ. هـ.
قال بعضهم:
أَلا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي جَرِ ثَوْبِهِ
…
وَجَزٍّ لِبَعْضٍ الرَّأْسِ فِعْلَ الأَسَافِلِ
فَمَا الْعِزُّ فِي حَلْقِ اللِّحَا أَوْ خَنَافِسٍ
…
وَلا شُرْبِ دَخَّانٍ هَوَتْهُ الأَسَافِلِ
وَلَكِنَّهُ بِالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالتُّقَى
…
وَجُودٍ وَحِلْمٍ وَاقْتِنَاءِ الْفَضَائِلِ
آخر:
…
لَيْسَ السِّيَادَةُ أَشْنَابًا مُفَتَّلَةً
…
وَلا لِحًا أَنْهِكَتْ بِالْمُوسِ وَالنِّيَرِ
لَكِنَّهَا بِالتُّقَى وَالزُّهْدِ يَعْرِفُهَا
…
مَنْ بِالْفَضَائِلِ مَشْهُورًا لَدَى الْبَشَرِ
آخر:
…
لَعَمْرُكَ مَا الإِنْسَانُ إِلا ابْنُ دِينِهِ
…
فَلا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالاً عَلَى النَّسَبْ
فَقَدْ رَفَعَ الإِسْلامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ
…
وَقَدْ وَضَعَ الشَّرْكُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبْ
آخر:
…
لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةٌ فِي الْوَرَى
…
وَزِينَةُ الْمَرْءِ بِتَوْحِيدِهِ
قَدْ يُرْفَعُ الْمَرْءُ بِتَوْحِيدِهِ
…
فِينَا وَإِنْ كَانَ وَضِيعَ النَّسَبْ
…
وفي اللحية خصال نافعة: أولاً: مخالفة المشركين.
ثانيًا: تمييز الرجل عن المرأة. ثالثًا: تمييز الرجل عن الصبي وتغطية ما في منبتها من تشوية أو تثن لاسيما في الكبر. رابعًا: تعظيم الرجل الذي يعفيها وتوقيره. خامسًا: أن إعفاءها من سنن المرسلين. سادسًا: أنه ينظر إلى معفيها بعين التعظيم والإجلال والتقدير. سابعًا:
تقديم من يعفيها على الجماعة وتعقيله والسلامة من تضييع قطعة من العمر في حلقها أو قصها ثامنًا: صحة إمامته بالجماعة. تاسعًا إبعاده عن مشابهه النساء والصبيان، واليهود والنصارى والمجوس والمخنثين.
ووصف بعض بني تميم من رهط الأحنف بن قيس، قال: وددت أنا اشترينا للأحنف لحية بعشرين ألفًا، فلم يذكر حنفه ولا عوره، وذكر كراهية عدم اللحية، لإن من لا لحية له يرى عند العقلاء ناقصًا، وكان الأحنف عاقلاً حليمًا، يضرب به المثل في الحلم، وذكر عن شريح القاضي، قال: وددت أن لي لحية بعشرة آلاف درهم وأهل زمننا بعضهم يود لو عدمها وساق آلافًا من الورق ولا تفيد معه النصائح مهما أيدت بالآيات والأحاديث، وذكر العلماء أن في اللحية إذا أزيلت بالكلية ولم تعد الدية كاملة، وهؤلاء المجاهرون بهذه المعصية العظيمة، المعاكسون لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في إبقائها وإكرامها، والمتشبهون باليهود والنصارى في حلقها، يرون الجمال والتمدن بالقضاء على أعظم الفوارق بين الذكر والأنثى وهو اللحية عكس رأي أهل الدين والصلاح، قال الله تعالى:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} وأكثر حالقي لحاهم وصل بهم التشبه إلى حد إن أبقوا شواربهم واقفة ليس فيها قصير، وكأنهم بفعلهم هذا يعاندون المصطفى صلى الله عليه وسلم ويعاكسونه، حيث أنه يأمر بإبقاء اللحى وإحفاء الشوارب، وزيادة على هذا يجعلون ما يسمى بالتواليت ويفرقونه ويكدونه، وبعضهم يزيد ويخنفس، فهل هذا التشبه والتتبع لسفاسف الأخلاق إلا من الانتكاس وعمى البصيرة والتقليد الأعمى ولا يفهم أن هذا إزالة
للجمال والرجولة والهيبة والوقار والكمال، نعوذ بالله من الانتكاس وهذا من نتيجة تقليد الأجانب، ولهذا ترى كثيرًا من الناس أهملوا أمر الدين واستهانوا بحقوقه، وعبثوا بواجباته وانتهكوا حرمات الله، ولم يبالوا بارتكاب ما لا يرضاه الله من الشرور والمنكرات والقبائح، سائر كل منهم وراء شهوته وهواه، ونفسه الأمارة بالسوء.
قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ويا ليت أنهم قلدوا الأجانب فيما يفيد وينفع من الصناعات.
وكل ما يرقي شؤونهم، من الفنون التي تعود إلى مصلحة الإسلام والمسلمين، لكن قلدوهم فيما يضر ولا ينفع، في حلق اللحى وشرب الدخان، ولعب القمار والمسكرات، والربا في البنوك وغيرها، وفي التأمينات، وفي الملاهي بأنواعها، وفي التصوير والتبرج والتهتك واللعب بالكرة، وضياع العمر عند المذياع والتلفزيون والسينماء، وسائر أنواع المحرمات التي قضت على العمر والوقت والمال والأخلاق، فيا للأسف على ذهاب العمر النفيس الذي لا قيمة له ولا خطر، ولا يعادلة جوهر ولا ذهب ولا فضة ولا در ولا مرجان، ولا لؤلؤ ولا عقيان عند الملاهي والمنكرات التي سوف يعضون أيديهم على ضياع الوقت عندها إذا نودوا للوقوف بين يدي العزيز الجبار.
اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر هادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الرحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
ج
شِعْرًا:
…
أَعُوذُ بِرَبِّ الْعَرْشِ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ
…
وَأَسْأَلُهُ عَفْوًا لِكُلِّ خَطِيئَةٍ
وَحِفْظًا لِدِينِي ثُمَّ دُنْيَايَ ثُمَّ مَا
أُكِنُّ وَمَا أَبْدِيهِ مَعْ حُسْنِ نِيَّةِ
فَأَحْيَا مُحِبًّا لِلنَّبِي وآله
وَأَصْحَابِهِ فِي خَيْرِ هَدْيٍ وَسُنَّةِ
فَمِنْ هَدْيِ خَيْرِ الْخَلْقِ إِعْفَاءٌ لِحْيَةٍ
وَمِنْ هَدْيِهِ يَا صَاحِ لُبْسٌ لِعَمَّةِ
وَقَدْ جَاءَ أَقْوَامٌ عَتَاةٌ تَجَاسَرُوا
عَلَى هَدْمِ أَعْلامِ الْهُدَى بِوَقَاحَةِ
وَيَا لَيْتَهُمْ لمَّا عَنْ الْحَقِّ أُعْرِضُوا
بِأَفْعَالِهِمْ مَا عَارَضُوا بِصَرَاحَةِ
هُمُ مَثَّلُوا مِنْ جَهْلِهِمْ بِوُجُوهِهِمْ
لَقَدْ بَلَغُوا فِي ذَاكَ حَدَّ الشَّنَاعَةِ
أَقُولُ لِمَنْ أَمْسَى عَن الدِّينِ نَاكِبًا
مُعَانِدًا أَعْلامَ الْهُدَى لِلشَّرِيعَةِ
يُجَاهِرُ فِي نُكْرٍ وَيُبْدِي تَشَبُّهًا
بِأَعْدَاءِ دِينٍ يَا لَهَا مِنْ خَسَارَةِ
يُمَثِّلُ فِي وَجْهٍ بِحَلْقٍ لِلحْيَةِ
لَعَمْرِي لَقَدْ سَاوَى لِوَجْهٍ بِعَانَةِ
فَأَصْبَحَ مِنْهُ الْوَجْهُ أُسْتًا مَشَوَّهًا
لَدَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ بِأَقْبَحِ صُورَةِ
تَعَوَّدَ هَذَا الْخُلْقَ طَبْعًا لأَنَّهُ
يُلائِمُ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ خَلاعَةِ
…
>?
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار واسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
…
أَخِي اسْتَمِعْ مِنِّي هُدِيتَ نَصِيحَةٍ
…
بِقَوْلٍ حَرِيٌّ بِالصَّوَابِ وَنَافِعِ
أَتَتْ مِنْ أَخِي وِدٍّ شَفِيقٍ عَلَى الَّذِي
…
عَن الْكِبْرِ نَاءٍ مَائِلٍ لِلتَّوَاضِعِ
إِذَا أَبْصَرْتَ عَيْنَاكَ مَخْلُوقَ لِحْيَةٍ
…
مُقَلِّدَ أَهْلِ الْغَرْبِ صُهْبَ الْمَفَارِعِ
فَلِلَّهِ فَالْجَأْ حَامِدًا مُتَضَرِّعًا
…
وَقُلْ مَا أَتَى عَمَّنْ أَتَى بِالشَّرَائِعِ
لَعَلَّكَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مُنَابِذًا
…
لأَخْلاقِهِمْ تُحْضَى بِأَعْلَى الْمَوَاضِعِ
وَتَعْنَى بِأَخْلاقِ النَّبِي وَصَحْبِهِ
…
مُعَفِّي اللَّحَا أَهْلِ الْعُلُومِ الْجَوَامِعِ
فَكَمْ بَيْنَ مَنْ قَدْ شَابَهوا خَيْرَ مُرْسَلٍ
…
بِإِعْفَائِهِمْ أَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ مُتَابِعِ
وَمَنْ رَدَّ أَمْرَ الْمُصْطَفَى فَاغْتَدَى لَهَا
…
بِحَلْقِ لَهَا أَوْ نَتْفِهَا بِالأَصَابِعِ
أَوْ الْقَصِّ أَوْ تَحْرِيقَهَا أَوْ بَكِيِّهَا
…
يَرَى تَرْكَهَا مِنْ مُعْظَمَاتِ الْفَضَائِعِ
يُغَيِّرُ عَلَيْهَا كُلَّ صُبْحٍ بِمَا حَقٍ
…
إِذَا مَا بَدَا شَعْرٌ عَلاهُ بِقَاطِعِ
كَأَنَّ لَهُ ثَأْرًا عَلَيْهَا مُضَاعَفًا
…
فَمَا نَاصِحٍ مُغْنٍ وَلا شَفْعُ شَافِعِ
مُهَدَّةْ فِي كُلِّ صُبْحٍ وَرَوْحَةٍ
…
فَمَا أَمْنُهَا إِلا بِجِلْدٍ مُمَانِعِ
إِذَا قُلْتُ لَمْ تَعْصِ النَّبِي مُحَمَّدًا
…
فَتَحْلِقُهَا حَلْقَ الْعَنِيدِ الْمُدَافِعِ
أَمَا أَوْجَبَ الرَّحْمَنُ طَاعَةَ أَحْمَدٍ
…
عَلَيْنَا وَعِصْيَانَ الْعَدُوِّ الْمُقَاطِعِ
أَمَا قَالَ أَرْخُوا لِلِّحَاءِ وَوَفِّرُوا
…
فَوَفَّرْ تَكُنْ لِلْمُصْطَفَى بِمُتَابِعِ
فَاطْرَقَ حَتَّى أَنْ ظَنَنْتَ بِأَنَّهُ
…
سَيَرْجِعُ عَنْ إِتْلافِهَا بِمُسَارِعِ
وَيَنْدَمُ عَمَّا قَدْ مَضَى مِنْهُ أَوَّلاً
…
وَيَعْزِمُ فِي جِدَّ مِنَ الْجَزْمِ قَاطِعِ
فَقَالَ بِمَا قَالَ الْكَثِيرُ مُعَانِدًا
…
أَلَسْتَ تَرَى غَيْرِي فَلَسْتَ بِسَامِعِ
فَقُلْتُ أليس الأَكْثَرُونَ عَن الْهُدَى
…
تَوَلَّوْا فَضَلُّوا فِي وَخِيمِ الْبَلاقِعِ
وَفِي تَافِهَةَ الأَشْيَاءِ لِلضِّدِّ قَلَّدُوا
…
وَفِي الدِّينِ وَالأَخْلاقِ صُفْرُ الْبَضَائِعِ
فَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَمَا
…
تُقَارِنُ فِي عَدْلٍ عَن الْجُورِ شَاسِعِ
وَأَخْتمُ قَوْلِي حَوْلَ مَا قُلْتُ أَوَّلاً
…
فَمَا فِي يَدِي حَوْلٌ وَلَسْتُ بِدَافِعِ
سَلامٌ عَلَى مُعْفِي اللِّحَا كُلَّ مَا بَدَا
…
لَنَا شَعْرُهَا مَا بَيْنَ سُودِ وَنَاصِعِ
وَصلى إِلَهِي كُلَّ مَا ذَرَّ شَارِقٌ
…
عَلَى أَحْمَدِ الْمُخْتَار جَمِّ الْمَنَافِعِ
وبالتالي فلو لم يكن في حلقها إلا أنه اعتراض على حكمة الله حيث جعلها ميزة للرجل عن الأنثى ثانيًا: أن من نواقض الإسلام كراهة ما جاء عن الله أو عن رسوله ويخشى على حالقها من ذلك. ثالثًا: أن حلقها معصية لله ولرسوله لقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} وقد أمر الرسول بإعفائها. رابعًا: أن حلقها تمثيل بالشعر وتقدم حديث من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاقٌ. خامسًا: أنه تشبه باليهود. سادسًا: أنه تشبه بالنصارى. سابعًا: أنه تشبه بالمجوس. ثامنًا: أنه تشبه بالنساء. تاسعًا: أنه تشبه بالمرد. عاشرًا: أنه دليل على أن حالقها يميل إلى غير أمته. الحادي عشر: أن من حلقها أو قص منها لرضاء الزوجة أو الزملاء ملتمس رضا الناس بسخط الله لأن من عصى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله.
اللهم ثبت وقوِّ محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة: عباد الله ما بال الكثير اليوم لا يسمعون، وإذا سمعوا لا ينتفعون، أفي آذانهم صمم، أم هم في الأمر متهاونون، ولأي شيء يجتمعون، ويقوم فيهم الخطباء المجيدون، والوعاظ المبلغون، ويذكرونهم أيام
الله فلا يخشع الوعاظ ولا الموعوظون، ويرغبونهم في الخير فلا يسارعون، وينذرونهم عواقب السوء فلا يتأثرون {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لقد كان السلف الصالح إذا وعظوا تأثر المستمع لهم تأثرًا عظيمًا، وفارق ما عنده من المنكرات والمحرمات، وفارق من أصر عليها من أقاربه، وأولاده، وإخوانه، وآبائه، وجدد توبة نصوحًا، عما سلف له من الأعمال، التي لا يرتضيها الدين الإسلامي، فأين أولئك من هؤلاء الخلف، الذين ضيعوا تعاليم الدين الإسلامي، وضيعوا العمل به، وتركوا الانقياد لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تأمل كيف ترى أكثرهم أضاعوا الصلاة، وعطلوا الأحكام، وتساهلوا بأمر الحرام، يمرون بالمساجد، وقت الصلاة، فلا يعيرونها أي اهتمام أما الملاهي والمنكرات فإليها يسرعون وعليها يعكفون وإلى ما فيها من الأغاني والمجون والسخف يتسابقون فإنا لله وإنا إليه راجعون، أين الخوف من الجبار، أين الحياء من فاطر الأرض والسماوات، أين المروءة والاعتصام بالقرآن، وما كان عليه آباؤكم وأجدادكم العباد الكرام، الذين كانت المساجد تغص بهم شيوخًا وشبانًا، وكانت تعج بأصواتهم تسبيحًا، وتحميدًا وتهليلاً، وتكبيرًا، واستغفارًا، وقرآنًا، وكانوا يؤمون المساجد قبل الآذان زرافات ووحدانا، ولا يتخلف منهم إلا معذور، إما مريض أو غائب، أو نحو ذلك، وكان المار ببيوتهم ليلاً يسمع زجل التسبيح، والتهليل والبكاء والأنين والتضرع إلى بديع السماوات والأرض، والإلحاح بدعائه، والالتجاء إليه والإنابة، عكس ما عليه هؤلاء الخلف، الذين صدق عليهم قول الله تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} الذين بحثت عنهم في الليل، وجدتهم حول الملاهي والمنكرات، متربعين أمام التلفزيون، وغناء المطربين، وإن بحثت عنهم في صلاة الفجر وجدتهم في فرشهم، إثر سهرهم حول تلك المنكرات، وإن بحثت عنهم وقت صلاة الظهر ففي شؤون الدنيا، وما يتعلق بها، وإن أردتهم في صلاة العصر، وجدت بعضهم عند الكورة، والبعض عند التلفزيون، والبعض عند المذياع، وأغانيه وملاهيه، وإن سألت عنهم وقت صلاة المغرب، وجدت بعضهم يمشي مترددًا، والبعض في الملعب، والبعض عند التلفزيون، أو المذياع، وأما العشاء الآخرة فتلك هم فيها أقسام أكثرهم حول التلفزيون أو في الأسواق، أو يلعبون ورقة، أو نحو ذلك من المنكرات وهكذا قتلوا أوقاتهم الثمينة، وضيعوها، وقضوا على مستقبلهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أعلم بما أراده بعباده، قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} والحالة هذه مخيفة لذوي العقول، والفهوم، لاسيما وقد توالت أسباب الهناء والراحة، والسرور، والاطمئنان، وقد قيل إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبدٍ وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} » . وقال قتادة: ما أخذ الله قومًا إلا عند سكرتهم وغرتهم، ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
شِعْرًا:
…
كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى
…
فَتَهُونُ غَيْرَ مُصِيبَةٍ فِي الدِّينِ
وقال ابن الجوزي رحمه الله: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة.
فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين عمله قرب الناهي وهو الله) .
تَوَارَى بِجِدْرَانِ الْبُيُوتِ عَنِ الْوَرَى
…
وَأَنْتَ بِعَيْنِ اللهِ لاشَكَّ تَنْظُرُ
فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان.
حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأفٍ للذنوب ما أقبح آثارهًا وأسوء أخبارها انتهى كلامه.
أَمَا آنَ الرُّجُوعُ إِلَى الصَّفُوحِ
…
عَن الزَّلاتِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ
تُبَادِرُهُ بِقُبْحِ الْفِعْلِ سِرًّا
…
وَلا تَخْشَاهُ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ
هَدَاكَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
…
وَأَنْتَ ضَلَلْتَ عَنْ هَذَا الصَّحِيحِ
وَفِي دُنْيَاكَ تُؤثرُ كُلَّ فَانٍ
…
عَنِ الْبَاقِي الْمُعَزَّزِ وَالْمَلِيحِ
آخر:
…
يَا طَالِبَ الطِّبِّ مِنْ دَاءِ تَخَوَّفَهُ
…
إِنَّ الطَّبيبَ الَّذِي أَبْلاكَ بِالدَّاءِ
هُوَ الطَّبِيبُ الَّذِي يُرْجَى لِعَافِيَةٍ
…
لا مَنْ يُذِيبُ لَكَ التِّرْيَاقَ بِالْمَاءِ
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنًا لإغتنام أوقات المهلة ووفقنًا لصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح.
والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
فَصْلٌ في الحَثِّ عَلَى صِيَانَةِ الوَقْتِ
وصرفه فيما فيه النفع من صلاة وزكاة وصيام وحج وتسبيح وتهليل وتكبير، وسائر أنواع القربات لله، التي هي عمارة بيته الذي سيسكنه طويلا.
ومما يتأكد إجتنابه والتحذير منه في رمضان وغيره الجلوس في المجالس التي هي كفيلة بالخسران والندامة، كمجالس آلات اللهو من الاسطوانات والمذياع وأعظم من ذلك السينما والتلفزيون والفديو والكرة.
أما المذياع فلأنه آلة لهو محرم، لدخوله في قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية وقد فسر لهو الحديث، كثير من السلف - من الصحابة والتابعين - بالغناء والمزامير، وفسره بعضهم بالأساطير والقصص من أخبار ملوك الأعاجم والروم، وبعضهم فسر لهو الحديث بكل باطل يلهي ويشغل عن الخير، فإن فسرت هذه الآية بالغناء والمزامير فهو رأس الملاهي كلها، وإن فسرت بما يجمع ذلك من كل باطل يلهي ويشغل عن الخير فهو الجامع لذلك، وفوق ذلك الوصف، ومن المعلوم لدى كل ذي عقل سليم منصف أن الراديو المقصود الأصلي منه اللهو والغناء، والاشغال عن طاعة الله.
وفي المذياع يجمع بين كلام الله والغناء، وهذا من أعظم التنقص والامتهان لكتاب الله، ومن جهة أخرى فهو استهزاء واستخفاف بكتاب الله وقد قال جل وعلا وتقدس:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} وعدم
تنزيه كتاب الله عن مزامير الشيطان من أعظم الظلم وأقبحه، وأجور الجور وأشنعه وربما أغلق المذاع كراهة للقرآن وهذا ردة قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان: وأما سماعه أي الغناء، من المرأة الأجنبية أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادًا للدين.
قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعهم فهو سفيه، ترد شهادته، وغلظ القول فيه، وقال: هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثًا. قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيهًا لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا. قلت: فكيف لو رأى الراديو، وما يأتي من الخلاعة والغناء، والمنكرات العظيمة، التي أنبتت النفاق، ومكنته من قلوب الأولاد والشباب والكهول والشيوخ، إلا من عصمه الله، وكذلك لو رأى التلفزيون أو السينما أو المجلات الخليعة، وما في ذلك من المفاسد والصور والمنكرات والشرور والخلاعات فيالله للمسلمين.
وقال: كان الشافعي يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن. قال: وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق.
قال ابن القيم: وأما تسميته رُقَيَّةَ الزنا: أي الغناء فهو اسم موافق لمسماه ولفظ مطابق فليس في رُقْيه الزنا أنجع منه، وهذه التسميه معروفة عن الفضيل بن عياض، قال إبراهيم بن محمد المروزي، عن
أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وأنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم ولا بد فاعلون فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا. قال: وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال: نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته مليكة، فلما جن الليل سمع غناء فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني. فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه، يعني ابنته فإن كففته وإلا خرجت عنك، ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن، قال: كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناء من الليل، فأرسل إليهم بكرة، فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستخرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم قال: اخصوهم. فقال عمر بن عبد العزيز: هذا مثلة فلا يحل فخلى سبيلهم.
فإذا كان الشاعر المفتوق اللسان، الذي هابت العرب هجاءه، خاف عاقبة الغناء، وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره، ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب.
ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنا فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه، ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًا، فإذا كان الصوت بالغناء كان انفعالها من وجهين، من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال
النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة حاديه: «يا أنجشة رويدك رفقًا بالقوارير» . يعني النساء، فإذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابه والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء حبلت من هذا الغناء، فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيور تبدل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من ذي غنىً وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا، وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد وحلت به أنواع البلايا، وكم أهدى للمشغوف من أشجانٍ وأحزانٍ، فلم يجد بدًا من قبول تلك الهدايا، وكم جرع من غصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا، وكم خبأ لأهله من الآم منتظره، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة.
قال: وأما تسميته منبت النفاق فعن ابن مسعود قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع، والذكر ينبت الأيمان في القلب، كما ينبت الماء الزرع، فإن قيل: فما وجه انباته للنفاق من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوي مادة
المرض فاشتد البلاء، وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرق والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطب الناس.
وقال: فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلوب بالنفاق ونباته كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا، لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعَا لبان وفي تهييجها علي القبائح كفرسَى رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه، ونائبه وحليفه، وحديثه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ.
وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخييل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة، فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل، وبهجة الأيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا سمع الغناء ومال إليه، نقص عقله، وقل حياؤه وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلبا سليمًا ولسانًا صادقًا ونسألك من خير ما
تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب. ولله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من النونية في سماع أهل الجنة.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيُرْسَلُ رَبُّنَا
…
????
…
رِيحًا تَهُزُّ ذَوَائِبَ الأَغْصَانِ
…
????
…
فَتَثِيرُ أَصْوَاتًا تَلَذُّ لِمَسْمَعِ الْـ
…
????
…
إِنْسَانِ كَالنَّغَمَاتِ بِالأَوْزَانِ
…
????
…
يَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ لا تَتَعَوَّضِي
بِلَذَاذَةِ الأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ
…
????
…
أَوَ مَا سَمِعْتَ سَمَاعَهُمْ فِيهَا غِنَا
…
????
…
ءَ الْحُورِ بِالأَصْوَاتِ وَالأَلْحَانِ
…
????
…
وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَإِنَّهُ
…
????
…
مُلِئَتْ بِهِ الأَذَانِ بِالإِحْسَانِ
…
????
…
وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَطِيبِهِ
…
????
…
مِنْ مِثْلِ أَقْمَارٍ عَلَى أَغْصَانِ
…
????
…
وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَكَمْ بِهِ
…
????
…
لِلْقَلْبِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَشْجَانِ
…
????
…
وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَلَمْ أَقُلْ
…
????
…
ذَيَّاكَ تَصْغِيرًا لَهُ بِلِسَانِ
…
????
…
مَا ظَنَّ سَامِعَهُ بِصَوْتٍ أَطْيَبَ الْـ
…
????
…
أَصْوَاتِ مِنْ حُورِ الْجِنَانِ حِسَانِ
…
????
…
نَحْنُ النَّوَاعِمُ وَالْخَوَالِدُ خَيِّرَا
…
????
…
تٌ كَامِلاتٌ الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ
…
>?
…
????ج
جج
…
لَسْنَا نَمُوتُ وَلا نَخَافُ وَمَالَنَا
…
????
…
سَخَطٌ وَلا ضَعَنٌ مِنَ الأَضْعَانِ
…
????
…
طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَذَاكَ طُو
…
????
…
بَى لِلَّذِي هُوَ حَظُنَا لَفْظَانِ
…
????
…
نَزِهْ سَمَاعَكَ إِنْ أَرَدْتَ سَمَاعَ
…
????
…
ذَيَّاكَ الْغِنَا عَنْ هَذِهِ الأَلْحَانِ
…
????
…
لا تُؤْثِر الأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَتُحْـ
…
????
…
رَمَ ذَا وَذَا يَا ذِلَّةَ الْحِرْمَانِ
…
????
…
إِنَّ اخْتِيَارَكَ لِلسَّمَاعِ النَّازِلِ الْـ
…
????
…
أَدْنَى عَلَى الأَعْلَى مِن النُّقْصَانِ
…
????
…
وَاللهِ إِنَّ سَمَاعَهم فِي الْقَلْبِ وَالْـ
…
????
…
إِيمَانِ مِثْلُ السُّمِّ فِي الأَبْدَانِ
…
????
…
وَاللهِ مَا أَنْفَكَ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ
…
????
…
أَبَدًا مِن الإِشْرَاكِ بِالرَّحْمَنِ
…
????
…
فَالْقَلْبُ بَيْتُ اللهِ جل جلاله
…
????
…
حُبًّا وَإِخْلاصًا مَعَ الإِحْسَانِ
…
????
…
فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالسَّمَاعِ أَصَارَهُ
…
????
…
عَبْدًا لِكُلِّ فُلانَةٍ وَفُلانِ
…
????
…
حُبُّ الْكِتَابِ وَحُبُّ أَلْحَانِ الْغِنَا
…
????
…
فِي قَلْبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ
…
????
…
ثَقُلُ الْكِتَابُ عَلَيْهِمُوا لَمَّا رَأَوْا
…
????
…
تَقْيِيدَهُ بِشَرَائِعِ الإِيمَانِ
…
>?
…
????
.. وَاللَّهُوُ خَفَّ عَلَيْهِمْ لَمَّا رَأَوْا
…
????
…
مَا فِيهِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَلْحَانِ
…
????
…
قُوتُ النُّفُوسِ وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ قُوتُ
…
????
…
الْقَلْبِ أَنَّى يَسْتَوِي الْقُوتَانِ
…
????
…
وَلِذَا تَرَاهُ حَظُّ ذِي النُّقْصَانِ كَالْـ
…
????
…
جُهَّالِ وَالصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ
…
????
…
وَأَلذُهُمْ فِيهِ أَقَلُّهُمْ مِنْ الْـ
…
????
…
مَقْلِ الصَّحِيحِ فَسَلْ أَخَا الْعُرْفَانِ
…
????
…
يَا لَذَّةَ الْفُسَّاقِ لَسْتَ كَلَذَّةِ الْـ
…
أَبْرَارِ فِي عَقْلٍ وَلا قُرْآنِ
نسأل الله أن يلهمنَا رشدنَا ويبصرنَا بعيوب أنفسنَا ويشغلنا بإصلاحها ويوفقنا لقبول نصح الناصح وإرشاد المرشد. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
موعظة
عباد الله اعتاد الناس أن من طلب شيئًا من نفائس الدنيا لا يهدأ ولا ينام، بل يسعى للوصول إليه، ليله، ونهاره، سعي النشيط الهمام، وكلما سد في وجهة باب، قرع بابًا آخر، وإن تعدد الأبواب، كما هو دأب الحريص المقدام، وكلما نظر إلى قدر ما يطلب هان عليه السعي، وما يلقاه من مصاعب والآم والعجيب أنه لا يمل ولا يسأم، وإن واصل السعي سنين، وأعجب من ذا أنه لا ينثني عن مطلوبه، وإن مس شرفه وأهين، وإن استصعب عليه الوصول استعان بذوي الوجاهة المحترمين، ولا يزال هذا يواصل السعي حتى يصل مبتهجًا إلى ماله من مرام أنت تطلب الجنة يا هذا ولا نفيس أنفس منها لإنها لا تفنى ولا تبيد، ولأن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك
دون أي تقييد، ولأنك خالد فيها أبدًا دون أن يكدر، بأي مكدر، ذلك العيش الرغيد فهل شمرت عن ساق وسعيت للوصول إليها، كما تسعي فقط لذلك الفاني من الحطام، المشاهد أنك لا تسعي لتلك الجنة ولا يخطر لك السعي إليها علي بال، ولو أنك ساويتها في السعي إليها بأي مطلوب دنيوي لكنت من عظماء الرجال، ولكن يا للأسف لم يكن من ذلك شيء، والسعي للجنة لا يكون بالكلام، ولا بالأماني والأحلام، ولكن بصالحات الأعمال، وهل تزهدت أنت في شيء كما تزهدت في تلك الأعمال الفخام، ولذلك أجري الله العادة أن من خاف شيئا من مؤلمات الدنيا يبعد عنه ويفر، وكل الفرار، ويذهب هدوئه وطمأنينته، وربما ذهب نومه اضطرارا لا اختيارا ولا يطمئن بعض الاطمئنان إلا إذا احترس منه بكل ما يقدر عليه من أعوان، وأنصار، يفعل كل ذلك لئلا يصل إليه من الأذى ما يكدر عليه حياته وصفوها جهنم يا هذا اعظم مخوف فهل عملت الاحتياط لها كما تحتاط لمخوفات هذه الدار.
الذي يتبادر منك ويظهر أن إيمانك بها ضعيف وأنك لم تعمل أي احتياط لها، فلو كان إيمانك قوي في قوله تعالى:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} لسعيت جهدك في الأعمال الصالحات، التي تحول بينك وبينها ولأزعجك وأقلقك ولم تهنأ بنوم ولا طعام وشراب، وأمامك تلك العقبات،
شِعْرًا:
…
وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيرَةٌ
…
وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيِّ الْمَكَانِينِ تَنْزِلُ
آخر:
…
تَذَكَّرْتُ أَيَّامِي وَمَا كَانَ فِي الصَّبَا
…
مِنْ الذَّنْبِ وَالْعِصْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْجَفَا
وَكَيْفَ قَطَعْتُ الْعُمْرَ سَهْوًا وَغَفْلَةً
…
فَأَسْكَبْتُ دَمْعِي حَسْرَةً وَتَلَهُّفَا
وَنَادَيْتُ مَنْ لا يَعْلَمُ السِّرَّ غَيْرُهُ
…
وَمِنْ وَعْدِ الْغُفْرَانِ مَنْ كَانَ قَدْ جَفَا
وَتَابَ إليه مِنْ
…
كِبَارِ
…
ذُنُوبِهِ
…
فَجَادَ
…
عَلَيْهِ
…
بِالْجَمِيلِ تَعَطُّفَا
أَغِثْنِي إِلَهِي وَاعْفُ عَنِّي فَإِنَّنِي
…
أَتَيْتُ كَئِيبًا نَادِمًا مُتَلَهِّفَا
وَخُذْ بِيَدِي مِنْ ظُلْمَةِ الذَّنْبِ سَيِّدِي
…
وَجُدْ لِي بِمَا أَرْجُوهُ مِنْكَ تَلَطُّفَا
اللهم وفقنا لاتباع الهدى وجنبنا أسباب الهلاك والشقا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والتكذيب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم، واكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصة، وإن لم يكن هذا نفاقًا فما للنفاق حقيقة، وسر المسألة أنه قرآن الشيطان كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا، وأيضًا فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرًا، أو يظهر النسك فيكون منافقًا، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك مغمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر وهذا محض النفاق.
وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل، قول الحق وعمل بالطاعة وهذا ينبت علي الذكر وتلاوة القرآن، والنفاق قول الباطل وعمل الغي، وهذا ينبت على الغناء، وأيضًا فمن علامات النفاق قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، وقل أن تجد مفتونًا بالغناء إلا وهذا وصفه، وأيضًا فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه
يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق وأيضًا فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك، وأيضًا فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله، من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات قال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني، واللهج بها، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء، فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
قال: وأما تسميته قرآن الشيطان. فمأثور عن التابعين. وعن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيمًا، فاجعل لي بيتًا، قال: الحمام. قال: فاجعل لي مجلسًا. قال: الأسواق ومجامع الطرق. قال: فاجعل لي طعامًا. قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فاجعل لي شرابًا. قال: كل مسكرٍ. قال: اجعل لي مؤذنًا. قال: المزمار. قال: اجعل لي قرآنًا. قال: الشعر. قال: فاجعل لي كتابًا. قال: الوشم. قال: اجعل لي حديثًا. قال: الكذب. قال: اجعل لي رسلاً. قال: الكهنة. قال: اجعل لي مصائد، قال: النساء» .
اللهم خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأبرار واصرف عنا شر الأشرار وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يا عزيز يا غفار ويا كريم ويا ستار
ويا حليم ويا جبار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
شِعْرًا:
…
قَدْ أَشْرَقَتْ (رَايَةُ الإِسْلامِ) وَالأَدَبِ
…
فَحَيِّهَا مُعْلِنًا بِالشِّعْرِ وَالْخَطَبِ
وَاهْجُرْ سَبِيلَ الأوُلَى جَادُوا بِشِعْرِهِمْ
…
لِمَنْزِلٍ دَارَسِ الإطلالِ مِنُ نُوَبِ
يُشْجِيهِمْ ذِكْرُ آرَام نَعِمْنَ بِهِ
…
تَسُومُ بِنْتُ الرُّبَى فِي مَأْمَنَ خَصَبِ
وَذِكْرُ عَيْنٍ لَهَا فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَةُ
…
تَلْقَى قُلُوب أُولِي الأَحْلامِ فِي كُرَبِ
كَمِثْلِ رِيمِ يَمِينِ الرَّنْدِ قَدْ عَرَضَتْ
…
أَلْقَتَ إِليَّ سِهَامَ الْحُزْنِ وَالشَّجَبِ
عِينُ الْمَهَاةِ رَمَتنِي وَهِيَ مُعْرِضَةُ
…
فَصِرْتُ ذَا حَيْرَةِ فِي كَفِّ مُسْتَلِبِ
لَمَّا تَوَلَّتْ بِقَلْبِي قُلْتَ وَآسَفِي
…
هَلْ مِنْ جَنَاحٍ فَأقْفُو مُنْتَهَى طَلَبِي؟
لَوْلا التَّجَلُّدُ مَا أَمْسَيْتُ فِي سَكَنٍ
…
وَكُنْتُ فِي الْبَيْدِ بَيْنَ الْوَحْشِ لَمْ أَثْبِ
لَعَلَّ رِيحُ الصِّبَا تَأْتِي بِرَائِحَةِ
…
مِنْ نَفْجِ عَنْبَرِهَا يَشْفِي لِذِي الْوَصَبِ
مَا كُنْتُ أَعْرِفُ قَبْلَ إليوْمِ مَا وَصَفَتْ
…
أَهْلُ النَّسِيبِ مِنَ الأَشْجَانِ وَالْكَأَبِ
لَمَا بُلِيتُ أَقَمْتُ الْعُذْرَ دُونَهُمْ
…
عُذْرَ الْخَبِيرِ بِسَهْمِ الْفَاتِكِ الأَرَبِ
فَلَيْتَ ذَا الْعَقْلِ يَرْثِي لِي وَيَعْذُرُنِي
…
وَلَيْتَ أَهْلُ النُّهَى وَالدِّينِ وَالأَدَبِ
إِذْ يَعْذِلُونُ لِصَبٍ يَأْتِ مُكْتَئِبًا
…
يَلْقَوْنَ مِثْلَ الَّذِي أَلْقَى مِن النَّصَبِ
أَوْ يَرْجِعُونَ إِلَى نُصْحٍ وَمَوْعِظَةٍ
…
مِنَ الْكِتَابِ وَتَذْكِيرٍ بِهَدْي نَبِي
كَيْمَا يَكُونُ مَرِيضٌ الْقَلْبِ مِنْ سَفَهٍ
…
أَوْ غَفْلَةٍ بَيْنَ خَوْفِ اللهِ وَالرَّغَبِ
نِعْمَ الشِّفَاءُ كِتَابُ اللهِ مَعَ سُنَنِ
…
كَمْ أَبْرَءَآ دَنِفِ التَّشْكِيكِ وَالرِّيبِ
فَأَدْمِنَ الْوَعْظَ وَالإِرْشَادِ مُجْتَهِدًا
…
وَانْشُرْ مَحَاسِنِ هَذَا الدِّينِ فِي دَأَبِ
أَمَا تَرَى النَّشْءَ قَدْ حَادَتْ رَكَائِبَهُمْ
…
عَنِ التَّقَدُّمِ لِلْعَالي مِنَ الرُّتَبِ؟
وَغَرَّهُمْ صَوْتُ مِذْيَاعٍ قَدْ امْتَلأَتْ
…
مِنْهُ الْمَسَامِعُ فِي تَمْجِيدِ كُلَّ غَبِي؟
بَثُوا الدِّعَايَةَ لِلدُّنْيَا وَزُخْرَفِهَا
…
وَلِلتَّنَافُس بِالأَمْوَالِ وَالنَّشَبِ
وَضَلَّلُوا النَّشْء بِالآرَاءِ خَادِعَةٌ
…
وَضَيَّعُوا الْوَقْتَ فِي مَلْهَى وَفِي طَرَبِ
وَلَقَّبُوا الْحَقَّ الْقَابًا مُشَوَّهَةً
…
لِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ باللَّقَبِ
وَحَارَبُوا الدِّينَ وَالأَخْلاقَ جُهْدَهُمُ
…
يَا بِئْسَ مَا وُعِدُوا فِي شَرِ مُنْقَلَبِ
وَحَسَّنُو السُّبُلَ اللآتِي يَهِيمُ بِهَا
…
قَوْمُ يَرَوْنَ الْعُلَى بِالْمِقْول الذَّرِبِ
مَا الْعِلْمُ سَبْكٌ وَتَنْمِيقٌ وَشَقْشَقَةُ
…
مِنْ دُونِ نُورٍ مِنَ الْوَحْيَيْن مُصْطَحِبِ
أَغَايَةَ الْعِزِّ أَنْ تَقْلُوا مَبَادِئَكَمْ؟
…
وَتَتْرُكُوا مَجْدَكُمْ نَهْبًا لِمُنْتَهَبِ؟
وَهَلْ يُعدُ عَزِيزًا مِنْ نِهَايَتُهُ؟
…
قَعْرُ الْجَحِيمِ مَعَ الطَّاغِي أَبِي لَهَبِ؟
وَكَمْ غَبِيٍ يَرَى الإِسْلامَ أَخَرَّنَا!
…
وَالْكَفَرَ قَدّمِ أَهْلَ الْغَرْبِ وَالْعَجَمِي
يَرَى التَّقَدمُ فِي تَرْكِ التَّدَيُّنَ لَمْ
…
يَنْظُرْ لِصَفْوَتِنَا فِي سَالِف الْحُقُبِ
لِذَاكَ عَابَ عَلَى الإِسْلامِ يَهْدِمُهُ
…
بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالتَّعْظِيمِ لِلصُّلْبِ
مِثْلُ الْغُرَابِ الَّذِي يَهْوَى وَيَعْجُبُه
…
مَشْيُ الْحَمَامَةِ فِي حُسْنٍ وَفِي خَبَبِ
فَحَاوِلْ الْغُمْرُ أَنْ يَحْكِي لِمَشْيَتِهَا
…
فَضَلّ مِشْيَتَهُ الأُولَى وَلَمْ يُصِبِ
(لا تَظْلِمُوا الدِّينَ إِذْ كَلَّتْ عَزَائِمِكم)
…
وَتَلَصَّقُوا كُلَّ عَيْبٍ فِيهِ بِالْكَذِبِ!
تَعَلُّمُ الطِّبِ لَيْسَ الشَّرْعَ يَمْنَعُهُ
…
وَلا الصَّنَائِعُ فِي نَفْعٍ لِمُكْتَسِبِ
وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّرْعُ الأُمُورَ إِذَا
…
أَدَّتْ لِمَعْصِيَةِ تُلْقِيكَ فِي الْعَطَبِ
بَلْ جَاءَنَا النَّصُّ فِي إِعْدَادِ قُوتِنَا
…
كَيْمَا يَكُونُ عَدُو الدِّينِ فِي رَهَبِ!
وَمَنْ أَرَادَ رُقِيًّا أَوْ مُغَالَبَةً
…
مِن دُونِ دِينٍ فَمَا أَوْهَاهُ مِنْ سَبَبِ
مَهْلاً بَنِي يَعْربٍ لا تَخْلدُوا كَسَلاً
…
وَشَجِّعُوا النَّشْءَ مِنْ أَبْنَائِنَا النُّجُبِ
عَلَى اقْتِحَامِ الْعُلَى فِي كُلِّ آوِنَةٍ
…
وَحَاذِرُوا سَكْرَةَ اللَّذَاتِ وَاللَّعِبِ
كَيْمَا تَعُودُ إِلَى الإِسْلامِ عِزَّتُهُ!
…
وَيَصْبَحُ الْجَهْلُ وَالْكُفْرَانُ فِي نَصَبِ
أَفِتْيَةُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ لَكُمْ
…
مَنَاهِلُ عَذُبَتْ أَحْلَى مِن الضَّرْبِ
وَطَالِبُ الْعِلْمِ مَأْمُولٌ لَهُ أَبَدًا
…
مُسْتَقْبَلٌ شَامِخٌ أَعْلَى مِن الشُّهُبِ
وَالْمَجْدُ وَالْعِلْمُ مَقْرُونَانِ فِي قَرَنٍ
…
لَكِنَّمَا الْعِلْمُ لا يُجْنَى بِلا تَعَبِ
يَا فِتْيَةِ الضَّادِ إِنَّ الْعِزَّ أَجْمَعُهُ
…
فِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ الْمَمْدُوحِ فِي الْكُتُبِِ
مَا بَارَزَ الْمُصْطَفَى قَوْمًا بِعِدَّتِهِ
…
وَلا الْعَدِيدِ وَلَكِنْ صِدْقُ مُحْتَسَبِ
وَلا الصَّحَابَةُ مَنْ خَافَتْ جُمُوعُهُمُ
…
أَهْلُ الْبَسِيطَةِ مِنْ نَاءٍ وَمُقْتَرِبِ
هُمْ دَوَّخُوا كُلَّ جَبَّارٍ وَذِي أَشَرَ
…
بِعَزمَةِ الصِّدْقِ ثُمَّ الْعَزْمُ بِالْقُضُبِ
تِلْكَ الْغَطَارِفَةُ الأَمْجَادِ لَمْ يَهِنُوا
…
يَوْمًا عَلَى شِدَّةِ الضَّرَاءِ وَالسَّغَبِ
حَدَاهُمْ الشَّوْقُ لِلْمَوْعُودِ فِي زَبُرُ
…
حَتَّى اسْتَوَوْا فَوْقَ مَتْنِ الْعِزِّ بِالْغَلَبِ
وَأَنْزَلُوا الْفُرْسَ عَنْ دِيوَانِ مَمْلَكَةٍ
…
مَنِيعَةٍ شَمَخَتِ عَنْ كُلَّ مُغْتَصِبِ
وَلَمْ يَعُدْ مَجْدُهَا مِن بَعْدِهِمْ أَبَدَا
…
وَكَانَتْ الْفُرْسُ تَحْتَ الذُّلِّ لِلْعَرَبِ
وَقَيْصَرُ قَصَّرَتْ أَيَّامَهُ وَغَدَا
…
تَحْتَ السَّنَابِكِ فِي وَيْلٍ وَفِي حَرَبِ
أَمَا سَمِعْتَ بِجُنْدِ اللهِ كَمْ نَصَرُوا؟
…
وَمَزَّقُوا الرُّومَ بِالْحَمَلاتَ وَالرُّعُبِ؟
وَفِي (الأَبِلَّةِ) وَ (الْيَرْمُوكَ) مَا فَعَلُوا
…
وَ (الْقَادِسِيَّةِ) يَوْمَ الْجَحْفَل اللَّجِبِ
وَكَمْ بِأَنْدَلسٍ مِنْ وَقْعَةٍ عَظُمَتْ
…
فَنَالَتِ الْعُرْبُ فِيهَا مُنْتَهَى الأَرَبِ
وَأَصْبَحَ الْحَقُّ فِي الآفَاقِ مُنْبَعِثًا!
…
كَالشَّمْسِ لَكِنَّهُ أَبْهَى وَلَمْ يَغِبِ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى أَزْكَى الْوَرَى شَرَفًا
…
أَكْرِمْ بِهِ خَيْرَ مَبْعُوثٍ وَمُنْتَخَبِ!
عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَصْلٌ: وأما تسميته بالصوت الأحمق والصوت الفاجر، فهي تسمية الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، فروى الترمذي من حديث ابن أبي ليلى، عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخل، فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فوضعه في حجره ففاضت عيناه، فقال
عبد الرحمن: أتبكي وأنت تنهى الناس؟ قال: «إني لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، وخمش وجوه،
وشق جيوب، ورنة، وهذه رحمة، ومن لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. فانظر إلى هذا النهي المؤكد بتسميته صوت الغناء صوتًا أحمق، ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان، وأما تسميته صوت الشيطان فقد قال تعالى للشيطان وجز به {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} عن ابن عباس {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} كل داع إلى معصية، ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية، ولهذا فسر صوت الشيطان به انتهى بتصرف يسير) إنتبه وألق سمعك وحضر قلبك لكلام شيخ الإسلام.
وقال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروى مرفوعا:«إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وأن مأدبة الله هي القرآن» . ومن شأن الجسد إذا كان جائعًا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله - إن أكل منه - إلا بكراهة وتجشم، وربما ضره أكله، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قَلَّتْ رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع، فإنه تعظم محبته له ومنفعته به، ويتم دينه به، ويكمل إسلامه.
ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها، لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم، لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ونظائر هذه كثيرة.
ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها، لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافًا لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفًا، بل لا بد أن توجب له فسادًا في قلبه ودينه، ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه، إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين الجاهليين:«إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرًا منهما» . فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة مانعًا من الاغتذاء، أو من كمال الاغتذاء بتلك الأعمال النافعة الشرعية، فتفسد عليه حاله من حيث لا يعلم كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا يشعر، وبهذا يتبين لك بعض ضرر البدع. أ. هـ. قلت: لله دره من إمام ما أعمله وأبصره بأمراض القلوب وعلاجها فتدبر كلامه رحمه الله بحضور قلب لعل الله ينفعك به. والله أعلم.
اللهم ثبت قلوبنا على الإيمان ووفقنا لصالح الأعمال، اللهم تفضل علينا بالقبول والإجابة وارزقنا صدق التوبة وحسن الإنابة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من شر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ومن الأدلة على تحريم الغناء ما روى سعيد بن أبي زيد عن أخيه عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن باسط عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم المغنية وبيعها، وثمنها وتعليمها والاستماع إليها» .
وروى لاحق بن حسين بن عمر أن ابن أبي الورد المقدسي قال: حدثنا أبو المرجي ضرار بن علي بن عمير القاضي الجيلاني حدثنا أحمد بن سعيد عن محمد بن كثير الحمصي حدثنا فرج ابن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن الحنفية عن علي ابن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا علمت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، إذا كان المال دولاً، والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، ولبس الحرير، واتخذت القينات، والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليتوقعوا عند ذلك ريحًا حمراء ومسخًا وخفسًا وعن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن، ألا إن منهن الغناء والنوح والتصاوير» . الحديث. وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل تعليم
المغنيات، ولا شراؤهن ولا يبعهن، ولا اتخاذهن، وثمنهن حرام، وقد أنزل الله ذلك في كتابه {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية والذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما صدره وظهره حتى يسكت» .
وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم تعليم المغنيات، وشراءهن وبيعهن، وأكل أثمانهن» . وذكر البخاري عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» . وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس إلى قينة، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة» . وعن ابن عباس في قول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قال: الغناء. وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تضرب على رؤوسهم المعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض» .
قال حذيفة بن إليمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب، كعرض، الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين أسود مربدًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض» . قال ابن
القيم: فشبه عرض الفتن على ما القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدان الحصير وهي طاقاتها شيئًا فشيئًا، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها، نكتت فيه نكتة سوداء، كما يشرب الأسفنج الماء، فتنكتت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه، حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله:«كالكوز مجخيا» . أي منكوسا.
فإذا اسود وانتكس، عرض له من هذين الآفتين خطران متراميان به إلى الهلاك، أحدهما اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا وربما استحكم عليه هذا المرض، حتى يعتقد المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والحق باطلاً، والباطل حقًا.
الثاني تحكيمه هواه على ما جاءه به الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له.
وقلب أبيض، قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر مصابحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته، والفتنة التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد. أ. هـ. والله أعلم. وصلى على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
فالقلوب نوعان قلب إذا عرضت عليه الفتنة أشربها وأحبها ومال
إليها وأيدها، وقلب ينكرها وينفر منها ويحذر عنها، فذلك القلب الأبيض الذي أشرق بنور الإيمان، وهو معنى ما تقدم في حديث حذيفة، وقال أيضًا: ومن حيل الشيطان ومكائده الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي تقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، وقد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وقد اتخذ لذلك القرآن مهجورًا.
ومما ورد في النهي عما يلهو به الرجل إلا ما استثنِيَ ما ورد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميه بقوسه وتأدبيه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق» . ففي الحديث دليل على أن كل ما يلهو به الإنسان فهو باطل، أي محرم ممنوع ما عدا هذه الثلاث التي استثناها رسول صلى الله عليه وسلم، فإنهن من الحق أو وسيلة إلى الحق.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الكلام علي حديث عقبة: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل» . الحديث ما معناه: الباطل ضد الحق فكل ما لم يكن حقًا، أو وسيلة إليه، ولم يكن نافعًا فإنه باطل مشغل للوقت، مفوت على الإنسان ما ينفعه في دينه ودنياه، فيستحيل على الشرع إباحة مثل هذا. أ. هـ.
اللهم اكتب في قلوبنا الإيمان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأرض اللهم وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا وارحمنا
برحمتك الواسعة إنك أنت الغفور الرحيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل: وقال ابن القيم رحمه الله: إذا أشكل حكم شيء هل هو للإباحة أو للتحريم؟ فلينظر إلى مفسدته، وثمرته وغايته، فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي ولاسيما إذا كان مفضيًا إلى ما يغضب الله ورسوله وقال إلى شيخ الإسلام: لا يجوز اللعب بالطاب والمنقلة، وكل ما أفضى كثيره إلى حرمه، وإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، لأنه يكون سببًا للشر والفساد، وما ألهى أو شغل عن ما أمر الله به فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة، وسائر ما يلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به على حق شرعي، فكل ذلك حرام. أ. هـ.
وكذا ينبغي أن يحذر مما يعوق سيره إلى الله والدار الآخرة، كالمطالعة في المجلات والصحف، والكتب التي لا يعود على صاحبها منها إلا الضرر، وضياع عمره الذي هو رأس ماله فيها قال بعضهم:
آخر:
…
إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ
…
عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ
آخر:
…
وَأَسْوَأَ النَّاسِ تَدْبِيرًا لِعَاقِبَةٍ
…
مَنْ أَنْفَقَ الْعُمْرَ فِيمَا لَيْسَ يَنْفَعُهُ
وسوف يسأل الإنسان عما أفناه فيه. فقد قال رسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدمَا ابن ادم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل بما علم» .
فالعاقل من كان ملء قلبه، ومالك لبه قوله تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} فسارع في الخيرات وبادر بالأعمال الصالحات، عاملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال سبعًا هل تنتظرن إلا فقرًا منسيًا أو غنىً مطغيًا،
أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» . رواه الترمذي.
شِعْرًا:
…
نَخْطُوا وَمَا خَطْوُنَا إِلا إِلَى الأَجَلِ
وَنَنْقَضِي وَكَأنَّ الْعُمْرَ لَمْ يَطُلِ
وَالْعَيْشُ يُؤْذِنُنَا بِالْمَوْتِ أَوَّلُهُ
وَنَحْنُ نَرْغَبُ فِي الأَيَّامِ وَالدُّوَلِ
يَأْتِي الْحِمَامُ فَيُنْسِي الْمَرْءَ مُنْيَتَهُ
وَأَعْضَلُ الدَّاءِ مَا يُلْهِي عَنْ الأَمَلِ
…
>?
آخر:
…
تُرْخِي النَّوَائِبُ عَنْ أَعْمَرِنَا طَرَفًا
…
وَنَسْتَقِرُّ وَقَدْ أَمَسْكَنَ بِالطُّولِ
لا تَحْسَبِ الْعَيْشَ ذَا طُولٍ فَتَتْبَعُهُ
…
يَا قُرْبَ مَا بَيْنَ عُنْقِ الْمَرْءِ وَالْكَفَلِ
سَلَّى عَنْ الْعَيْشِ أَنَّا لا نَدُومُ لَهُ
…
وَهَوَّنَ الْمَوْتَ مَا نَلْقَى مِنْ الْعَلَلِ
لَنَا بِمَا يَنْقَضِي مِنْ عُمْرِنَا شُغُلٌ
…
وَكُلُّنَا عَلِقُ الأَحْشَاءِ بِالْغَزَلِ
وَنَسْتَلِذُّ الأَمَانِي وَهِيَ مُرْدِيَةٌ
…
كَشَارِبِ السُّمّ مَمْزُوجًا مَعَ الْعَسَلِ
مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ مَسَرَّةٍ
…
فَتَخَوَّفوا مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا
بَيْنَا الْفَتَى فِيهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ
…
وَبِمَاله يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْتَاعَا
حَتَّى سَقَتْهُ مِنْ الْمَنِيَّةِ شَرْبَةً
…
وَحَمَتْهُ فِيهِ بَعْدَ ذَاكَ رِضَاعَا
فَغَدَا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ رَهِينَةً
…
لا يَسْتَطِيعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا
لَوْ كَان يَنْطِقُ قَالَ مِنْ تَحْتَ الثَّرَى
…
فَلْيُحْسِنِ الْعَمَلَ الْفَتَى مَا اسْتَطَاعَا
آخر:
…
يُسِيءُ امْرُؤُ مِنَّا فَيُبْغَضُ دَائمَا
…
وَدُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسِيءُ وَتُومَقُ
أَسَرَّ هَوَاهَا الشَّيْخُ وَالْكَهْلُ وَالْفَتَى
…
بِجَهْلٍ فَمِنْ كُلِّ النَّوَاظِرِ تُرْمَقُ
ج
…
وَمَا هِيَ أَهْلُ أَنْ يُؤهَّلَ مِثْلُهَا
…
لِوُدٍّ وَلَكِنَّ ابْنَ آدَمَ أَحْمَقُ
اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكلفت لنا به، ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك، ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا، واغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة
قال بعض العلماء بعد سياقه لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أيها الناس لقد كانت الأمة الإسلامية فيما مضى متمسكة بكتاب الله، عاملة بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، صحيحة في عقائدها، صالحة في أعمالها حسنة في معاملاتها وعاداتها، كريمة في أخلاقها بصيرة في دينها راقية في آدابها وعلومها فكانت عزيزة الجانب، قوية الشوكة، جليلة مهيبة، صاحبة السلطان والصولة على من عداها، واليوم تغير أمرها، وتبدل حالها، اختلت عقائدها وفسدت أعمالها، وساءت معاملاتها وعادتها، وتدهورت أخلاقها وجهلت أمر دينها ودنياها وتأخرت علومها وصنائعها فصارت ذليلة الجانب، ضعيفة الشوكة، ساقطة الكرامة، فاقدة الهيبة مغلوبة على أمرها، متأخرة في مرافق حياتها تتخبط في ظلمات الجهل، وتنقاد للخرافات والأوهام، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وما ذلك إلا لأنها خالفت كتاب ربها، وانحرفت عن طريق الهادي نبيها، وسارت وراء هواها، وفتنت بزخارف الحضارة المزيفة، والمدنية الكاذبة وظنت الإباحية حرية والخلاعة رُقِيًّا، فتعدت حدود الدين والعقل.
وأغضبت خالق الأرض والسماء فساءت حالها، وسلط عليها عدوها، قال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أيها الناس لقد ذاقت الأمة وبال أمرها، وعوقبت بشر أمالها، وتجرعت مرارة الذل والهوان، والتفرق والإنحلال، كل ذلك نتيجة لازمة لعدم استقامة الأمة، وانحرافها عن الصراط المستقيم، {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} كل ذلك نازل بنا وواقع علينا، ونحن لا نفيق من سكرتنا، ولا ننتبه من غفلتنا، ولا ننزجر بالمحن والبلايا، ولا نعتبر بحوادث الأيام فلو كانت لنا نفوس حية وقلوب يقظة وشعور حي وإحساس قوي، لنبهتنا البلايا، وأيقظنا المؤلمات، أيها المسلم: الدين عقيدة صحيحة، وعبادة قوية، ومعاملات حسنة عادلة، وأخلاق كريمة، فانظروا وفكروا، وفتشوا علي أنفسكم، هل أنتم سائرون في أعمالكم وأحوالكم علي منهج الصراط المستقيم، أم أنتم منحرفون عنها، فألزموها السير على الطريق القويم، وفقنا الله وإياكم للأستقامة، وأمننا وإياكم من أهوال يوم القيامة، ووقانا وإياكم شر الحسرة والندامة، وغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، برحمته إنه أرحم الراحمين، صلى الله علي محمد وعلي آله وصحبه أجمعين.
فصل في تحريم الدخان وذكر مفاسده
ومما يتأكد اجتنابه والتحذير عنه الدخان، لدخوله في قسم المحرمات، ومن الأدلة على تحريمه قوله تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} ولا
يمتري عاقل في دخوله في الخبائث وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر.
وفي الحديث الآخر: «ما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام» . فهذه الأدلة تدل على حرمته، فإنه تارة يسكر، وتارة يفتر، ومن الأدلة المؤيدة لما سبق، أنه ثبت طبيًا أن التبغ يفتر ومن الأدلة المؤيدة لما سبق، أنه ثبت أن التبغ يحتوي على كمية كبيرة من مادة النيكوتين السامة، وأن شاربه يتعرض لأمراض خطرة في بدنه أولاً، ثم تدريجيًا فيضطرب الغشاء المخاطي ويهيج ويسيل منه اللعاب بكثرة، ويتغير، ويتعسر عليه هضم الطعام، وأيضًا يحدث التهابًا في الرئتين، ينشأ عنه سعال، ويتسبب عن ذلك تعطيل للشرايين الصدرية، وعروض أمراض، ربما يتعذر البرء منها وما يجتمع على باطن القصبة من آثار التدخين، يجتمع مثله على عروق القلب، والقلب يضغط على فتحاته فيحصل عسر في التنفس، ويؤثر على القلب بتشويش انتظام دقاته، وربما أدى بشاربه إلى الموت، فيكون شاربه قد تسبب لقتل نفسه وقتل النفس محرم من الكبائر قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} وقال ع: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدَا» .
ومن الأدلة على تحريمه أنه إسراف، وليس فيه مباح، بل هو محض ضرر، بإخبار أهل الخبرة من شاربيه وغيرهم، وقد حرم الله الإسراف، وأخبر جل وعلا أنه لا يحب المسرفين قال تعالى: {وَلَا
تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} .
والتبذير هو الذي ينفقه الإنسان في غير طاعة وفيما لا منفعة فيه وقال مجاهد: لو أنفق ماله في الحق ما كان تبذيرَا وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه. وقال ابن عباس: إنفاق المال في غير منفعة. وقال بعضهم: الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى وإن قَلَّتْ. فيتبين لك مما مضى ومما يأتي أن هذا الدخان الخبيث المحرم عين الإسراف والتبذير وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» . وهذا في الجار الذي بينك وبينه جدار وقال فيه أيضًا: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» . فكيف بالجيران الطيبين الكرام الكاتبين الذين عن اليمين وعن الشمال قعيد وهم الذين يكتبون الحسنات والسيات فالمدخن يؤذيهم نعوذ بالله من حاله والمفروض أنه يستعمل المسواك طيب الرائحة بدلاً من هذه الشجرة الخبيثة ومن خصائص هذا الدخان أنه ينفر عن الطاعة وعن قراءة القران والمكث في المساجد ومحبة أهل الدين والصلاح الخ.
ونهى الشرع عن إضاعة المال، وكم من حريق التهم نفوسًا وأموالاً، سببه الدخان، وكم من بريء اتصل بشاربه فصار مثله، وكم من ملايين من الأثمان يوميًا تحرق وتتلف في هذا الدخان الخبيث الكريه فنضرب لذلك مثلاً لما يتلف يوميًا من الفلوس بسبب شرب الدخان، فإذا كانت الدولة عشرين مليونًا، وثلاثة أرباعهم يشربونه، أي
خمسة وسبعون في المائة، وقلنا أدنى مصرف للواحد يوميًا في الدخان ريال، فمعناه أن الذي يتلف على الجميع يوميًا خمسة عشر مليونًا من الريالات وفي الشهر يكون الذي يتلف في سبيل هذا الدخان الخبيث أربعمائة وخمسين مليونًا، وفي السنة خمسة آلاف مليون وأربع مائة مليون من الريالات. نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منه ومن سائر المعاصي اللهم صل على محمد وآله وسلم ومن الأدلة على تحريم الدخان كون رائحته كريهة، تؤذي الناس الذين لا يستعملونه، وتؤذي الكرام الكاتبين، وتؤذي المعقبات، وبالخصوص أذيته في مجامع الناس، كاجتماعهم لصلاة الجماعة، ولصلاة التراويح، إن وجد من شاربيه أحد يصلي التراويح، وكذا يؤذي زملاءه، إن كان أستاذًا أو كان تلميذَا، ويؤذي زوجته، ويسري إلى أولاده، لأنه إذا شربه عنده صار تعليمًا فعليًا لهم، وما نالهم من الضرر الناشئ عن الدخان الذي صار هو السبب في شربهم له فلا يسلم والله أعلم من الإثم، وكذلك يسري لقرابته وأصدقائه، وجيرانه وزملائه أحيانًا، وإيصال الضرر إلى المسلم حرام، وأذيته حرام وقد ورد عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته» . وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس» . وفي الحديث الآخر: «من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله» . وأذية المسلم محرمة، ومن المعلوم عند كل عاقل منصف، أن رائحة الدخان، لا تقل كراهتها وأذيتها عن كراهية رائحة الثوم والبصل والكراث» . بل هي عند بعضهم أعظم كراهة وهذا الدخان من العادات القبيحة، المضرة بالشارب وغيره فترى الشاب تميل نفسه إليه، ويميل به هواه إلى مشابهة غيره في تعاطيه، وربما عدة تظرفًا، وظنه مدنية وترفًا، فإذا قدم له أحد
زملائه أو أترابه أو غيرهم هذا الدخان لأول مره، وبدأ يستنشق دخانه السام، ولا يلبث إلا قليلاً حتى يأخذ في الإكثار من تناول هذا السم الناقع، فيصبح له عادة لا يستطيع إلى تركها سبيلا، وإذا طال الزمن، ومكث على ذلك مدة: استحكمت في نفسه هذه العادة القبيحة السيئة، وبدأت صحته تضعف، وقوته تنقص، وشهيته للطعام تقل، ورغبته في المشي وما يقوي البدن تضعف، وإذا ذلك الوجه الناظر الحسن المشرق، وذلك الجسم الممتلئ عافية، والشباب الغض قد تغير وعراه الذبول، وتمكن منه النحول، فترى جلده يسترخي، وبصره يضعف، وسمعه كذلك يضعف، وقوة الشهوة تضعف جدًا، وعقله يضعف بإذن الله تبعًا للجسم، ويصبح بعد غضارته ونضارته ذابلاً، وجسمًا ناحلاً، يأخذه سعال مؤلم، ويحس بخفقان قلبه، ودقه وفتور جسمه، ويتمنى بعد ذلك لو يقاسمه إنسان ماله، ويتسبب له في منعه من هذه العادة السيئة الخبيثة، ولكن أنى له بذلك، هيهات إلا أن يشاء الله جل وعلا، فالله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ثم هذا الشارب للدخان يفقد بشاشته ويحرم صفاء نفسه، وقوة فكره، فتتغير أخلاقه وتتبدل صفاته، وتراه إذا أعوزه الدخان أحيانًا، يذهل نفسه وينكس رأسه كأنما هو في هم ناصب، وعناء وتعب، وقد تتغير سجاياه، فإذا ذلك الحليم الهادئ الأعصاب، غضوب جموح، وإذا ذلك الساكن هائج وثائر، يظهر منه فلتات كلام، يتعجب منها من يعرفه أولاً، وتراه يلجأ إلى تناول الدخان، لتسكين غضبه، وتهدئة ثائرة نفسه. فعلى العاقل أن يبتعد عن هذا وأمثاله من الفسقة قال بعضهم:
تَبَاعَدْ عَن الْفُسَّاقِ لا تَقْرَبَنَّهُمْ
…
فَقُرْبُهُمُ يُعْدِي الصَّحِيحْ وَيُعْطِبُ
فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ صَارَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمُوا
…
أَخَا عِلَلٍ مِمَّا بِهِمْ فَهُوَ أَجْرَبُ
آخر:
…
صَاحِبُ أَخَا الدِّينِ كَيْ تَحْظَى بِصُحْبَتِهِ
…
فَالطَّبْعُ مُكْتَسَبٌ مِنْ كُلِّ مَصْحُوبِ
كَالرِّيحِ آخِذَةٌ مِمَّا تَمُرُّ بِهِ
…
نَتْنًا مِنَ النَّتْنِ أَوْ طِيبًا مِنَ الطِّيبِ
وختامًا فعلى الإنسان أن يتعاهد أبناءه، وكذلك على المعلم أن بتعاهد الطلاب بالنصح والتحذير من هذا الوباء الفتاك، وعليه أن يراقبهم في كل وقت، وبالأخص في أوقات الفراغ، وأن يحرص كل الحرص على أنهم لا يتصلون بمن يشرب الدخان ليحفظ عليهم صحتهم وراحتهم، ويدفع عنهم شر هذا المرض ويصون أموالهم عن الضياع حتى إذا عقلوا عرفوا لوليهم ذلك الجميل الذي أسداه إليهم.
تُعَالِجُ بِالتَّطَبُّبِ كُلِّ دَاءٍ
…
وَلَيْسَ لِدَاءِ ذَنْبِكَ مِنْ عِلاجِ
سِوَى ضَرَعٍ إِلَى الرَّحْمَن ِمَحْضٍ
…
بِنِيَّةِ خَائِفٍ وَيَقِينِ رَاجِ
وَطُولِ تَهَجُّدٍ بِطُلابٍ عَفْوٍ
…
بِلَيْلٍٍ مُدْلِّهِمِ السِّتْرِ دَاجِ
وَإِظْهَارِ النَّدَامَةِ كُلَّ وَقْتٍ
…
عَلَى مَا كُنْتُ فِيهِ مِن اعْوِجَاجِ
لَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ غَدًا عَظِيمًا
…
بِبُلْغَةِ فَائِزٍ مَسْرُورِ نَاجِ
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
سئل الشيخ عبد الله بن محمد رحمه الله عن التنباك الذي اعتاد شربه كثير من الناس؟ فأجاب رحمه الله: لا ريب أن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وهي من خصائصه التي خصه الله بها من بين الأنبياء، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذكر خصائصه:«وأوتيت جوامع الكلم» . وهي أن يقول الكلمات اليسيرة، الجامعة لأحكام كثيرة، لا تعد ولا تحصى، ومن
ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» . فدخل في هذه الكلمة جميع المسكرات، التي وتزيل العقل، من الأطعمة والأشربة الموجودة في زمانه والحادثة بعده صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المسكر وهو الخمر الذي يغطي العقل ويزيله، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» . ولفظ مسلم: «وكل مسكر حرام» . وعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع؟ فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» . وفي رواية لمسلم: «كل شراب مسكر حرام» . ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته وأنه أثبت شيء في تحريم المسكر، وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، إذا تقرر هذا. فاعلم أن المسكر الذي يزيل العقل نوعان (أحدهما) ما كان فيه لذة وطرب. قال العلماء: وسواء كان من حب أو من تمر أو لبن أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق العنب أو غيرها، مما يؤكل لأجل لذته وسكره (والثاني) ما يزيل العقل ويسكر، ولا لذة فيه ولا طرب، كالبنج ونحوه، وأكثر العلماء الذين يرون تحريم ما أسكر كثيره، يرون حد من شرب ما يسكر كثيره، وإن اعتقد حله متأولاً، وهو قول الشافعي وأحمد.
قال: وبما ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم يتبين لك بيان تحريم التَّتِنِ الذي كثر في هذا الزمان استعامله وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة أسكاره في بعض الأوقات، خصوصًا إذا أكثر منه، أو تركه يومًا أو يومين لا يشربه ثم
شربه فإنه يسكر ويزيل العقل، حتى إن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك، نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس، فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس إذا تبين له كلام الله، وكلام رسوله في مثله من المسائل، وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله تقتضي طاعته وأن لا يعبد الله إلا بما شرع وأن يقدم أمره على قول كل أحد من الناس.
وقال رحمه الله: والذي يشرب التنباك إن كان شربه له بعد ما عرف أنه حرام فيضرب ثمانين جلدة، ضربًا خفيفًا ما يضره، فإن كان شربه وهو جاهل فلا حد عليه، ويؤمر بالتوبة والاستغفار، والذي يقول لكم من علماء تهامة إن التِّتِنَ ليس حرامًا ولا حلالاً فهذا جاهل ما يعرف ما يقول، ولا يلتفت لقوله وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«كل مسكر حرام» . «وما أسكر كثيره حرم قليله» .
وأجاب أيضًا: إذا شهد اثنان على ريح التِّتِنِ من فم رجل جلد ثمانين جلدة.
وأجاب أيضًا: وأمَّا شارب التِّتِنَ إذا شهد عليه شاهدان أنهم رأوه يشربه فيجلد أربعين جلدة.
وأجاب أيضًا: وأما شارب التِّتِنِ فيؤدب بأربعين جلدة، فإن لم ينته بذلك أدب بثمانين.
وأجاب أيضًا: والذي زرع التنباك يؤدب، أو يوجد في بيته أو متاعه أو يشربه يؤدب.
وأجاب أيضًا: إذا شهد اثنان على ريح التتن من فم رجل يحد، لأن الصحابة رضي الله عنهم حدوا على ريح الخمر، وهذا خمر، لأنه مسكر خمر وكل مسكر خمر.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن التِّتِنِ؟ فأجاب: هو حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر» . وفي لفظ: «حرام» . وفي لفظ: «ما أسكر كثيره، فملء الكف منه حرام وهذا عام في كل مسكر» . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وقد نص العلماء على ذلك.
وسئل عن شارب التنباك؟ فأجاب: وأما شارب التنباك فيجلد أربعين جلدة.
وقد سئل الشيخ عبد الله أبا بطين عن التنباك؟ فأجاب بقوله: الذي نرى فيه التحريم، لعلتين (أحدهما) حصول الأسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه، أو أكثر منه، وإن لم يحصل إسكار حصل تخدير وتفتير، وروى الإمام أحمد حديثًا مرفوعًا أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن كل مسكر ومفتر (والعلة الثانية) أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده.
واحتج العلماء بقوله تعالى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه، كالجعل لا يستخبث العذرة وكالخنزير يترك الطيبات ويأكل النجاسات وكالهدهد يأكل العذرة.
وأجاب الشيخ خالد بن أحمد بن أحمد من فقهاء المالكية بقوله: لا تجوز إمامة شارب التنباك، ولا يجوز الاتجار به ولا بما يسكر.
وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر الشيخ أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي، وشيخ المالكية اللقاني، ومن علماء دمشق النجم الغزي العامري الشافعي، ومن علماء اليمن الشيخ إبراهيم بن جمعان، وكثير من العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، كالشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، وعلماء كثيرون يطول علينا تعدادهم، فنكتفي بمن ذكرنا، ومن أراد زيادة على هؤلاء فليسأل، ولا أظن يفتي بحله عالم عاقل، يعلم مضاره دِينِيًّا واقتصاديًا واجتماعيًا وخلقيًا وصحيًا، بل ولا أظن عالمًا يتوقف بالقول بتحريمه، حتى ولو أنه ممن ابتُلِيَ بشربه لوضوح مضاره، وبالأخص لشرابه، وان شككت فاسأل منصفيهم يخبرونك ويحذرونك، اللهم اعصمنا من جميع المعاصي، وامنن علينا يا مولانا وجميع المسلمين بالتوفيق للعمل الصالح، والاستقامة على الطريق، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يأرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وقال في تيصرة الإخوان: وقد أشغل جهايذة الأطباء قوة أفكارهم، ودققوا النظر غاية في اكتشاف أضرار التبغ بنوعيه المعلومين، وشحذوا أقلامهم في بيان ما ظهر لهم فيه، بعد التحقيق والتدقيق التَّامَّيْنِ، فذكروا (أولاً) أنه من الفصيلة الباذنجانية التي تشتمل على أكثر النباتات السامة، كالبلادوتا والبرش والبنج، قالوا: وهو
نوعان، توتون وتنباك، ولا يختلف أحدهما عن الآخر في تركيبه الكيماوي إلا قليلا، فانهما مركبان من أملاح البوتاس والنوشادر، ومن مادة صمغية، ومادة أخرى مرة حريقة، تسمى نيكوتين. قالوا: وهي سم من أشد السموم فعلاً، بحيث أنه لو وضعت نقطة منها على لسان كلب لمات في أقرب زمن، مع أن الكلب أقوى تحملاً للسموم من الإنسان، ومن سائر أنواع الحيوان، وذكروا أن الدخان الذي يتصاعد عن أوراق التبغ المحترقة، يحوي كمية وافرة من المادة السامة هي النيكوتين، فإذا دخل الفم والرئتين أثر فيهما تأثيرًا موضعيًا وعموميًا لأنه عند دخوله الفم توتر المادة الحريقة السامة التي فيه - وهي النيكوتين - في الغشاء المخاطي فتهيجه تهيجًا قويًا، وتسيل منه كمية زائدة من الطعام وتغير تركيبة الكيماوي، بحيث، تقلل فعله في هضم الطعام وكذلك تفعل في مفرز المعدة، مثل ما فعلت في مفرز الفم، فيحصل حينئذ عسر في مفرز الهضم، وعند وصول الدخان إلى الرئتين على طريق الحنجرة، تؤثر فيها التهابًا قويًّا مزمنًا، فتهيج السعال حينئذ، لإخراج ذلك المفرز الغزير، الذي هو البلغم المعروف ويتسبب عن ذلك تعطيل الشرايين الصدرية وعروض أمراض صدرية يتعذر البرء منها.
وبالجملة فقد تحقق عن عامة المحققين، من أئمة الطب، أن مضار الدخان - أعم من أن يكون توتونًا أو تنباكًا - كثيرة، قالوا: ويشعر بأعراضها الجزئية كل من يباشر استعماله قبل الاعتماد عليه، وهي دوران وغثيان، وقيء وصداع، وارتخاء العضلات أي الأعصاب، ثم سبات أي راحة وهو كناية عن حاله التخدير الذي هو من لوازم التبغ، وما ذكر
من الأعراض الناشئة عنه، في بدء استعماله قبل الأعتماد عليه، لما يحويه من المادة السامة التي هي النيكوتين، ويجد فساد الذوق وعسر الهضم، وقلة القابلية للطعام وهذه الأشياء كلها تحدث من تخلل الدخان في اللعاب، فيسبب اضطرابًا معديًّا، وكثيرًا ما يحدث المرض المعروف بالبيروسس، وهو الحرقة المعدية، وهذا كله في استعماله على سبيل القلة والإعتدال، وأما الإكثار منه فهو مفض إلى عطب ليس له زوال، ومن المعلوم الثابت شرعًا أن كل ما أضر بالصحة يحرم تعاطيه قطعًا، ولذلك حرم الأكل فوق الشبع، وأكل الطين، لما فيهما من الأضرار بالصحة، قال عليه الصلاة والسلام:«من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه» . وفي رواية: «فإنما أعان على قتل نفسه» . وليس التدخين أقل ضررًا من أكل الطين، بل هو أشد ضررًا منه بكثير، قال: وقد سألت عدة من الأطباء الموثوقين بهم عن تفاوتهما في الضرر؟ فأجابوا: بأنه لا نسبة بينهما في الضرر تفاوتًا كليًا، حيث أن الجزء الفعال، الذي ينشأ عن التدخين وهو النيكوتين، لا يعادله شيء في الأضرار، كما هو ظاهر لدى الامتحان، فيكون نهي الشارع صلى الله عليه وسلم عن أكل الطين، لما فيه من الضرر، شاملاً لفعل التدخين بالأولوية حيث كان الضرر فيه أشد وأعظم، كما علمته، قال: وقد ذكر جمع من أكابر العلماء وجهابذة الأطباء: أن من العقل - فضلاً عن الشرع - وجوب اجتناب التدخين، حفظًا للصحة التي هي من الله تعالى منة ومنحة، ودفعا لدواعي الضعف الذي هو من مقدمات الهلاك والدمار، كما هو معلوم لذوي الأستبصار كيف وقد قال الله تعالى:{وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} على أنه لا يقتصر ضرر التدخين على المدخن وحده، بل يعم حلساءه في المكان، لأنه يفسد الهواء، فيتعين الفرار حينئذ من الجلوس في أماكن التدخين، ولاسيما إذا كانت مغلقة
الأبواب. قالوا: ويسري الضرر أيضًا إلى نسله، فيجعله ضعيف البنية، شاحب اللون، فاسد المزاج، لتمكن سم التبغ في جسم الوالد أما سريان الضرر قبل الولادة، فيما إذا كانت الأم تشرب أيضًا كالأب، فمن تغذيته حال كونه جنينًا، من دم أمه الفاسد بسم التبغ، الذي هو النيكوتين، حيث أنه يفعل على الحويصلات العصبية فعلاً مؤثرًا، يتصل بالجنين.
وأما سريان الضرر عليه بعد الولادة، فمن ثلاث جهات (أحدهما) تَغَذِيهِ من اللبن المتحمل سموم التبغ، المفسدة للمواد الغذائية، (ثانيها) استنشاقه الهواء الفاسد بتدخين الأبوين أو أحدهما، (ثالثهما) صيرورة الأبوين سببًا حاملاً للولد على سلوك تلك العادة الوخيمة، وذلك لأن الطفل من طبعه التقليد والتشبه بمن يراه، فإذا نظر أبويه يدخنان، وعلى فرض أنهما ينهيانه عن ذلك فنظر لكونه لا يفهم سر النهي لا ينتهي من غير مبالاة، إلى أن يصير التدخين عادة لازمة، فإذا اعتاد هذا المسكين التدخين من مبدأ نشأته، فهناك الطامة الكبرى، والبلية العظمى، لأنه لا يلبث قليلاً إلا ويشكو من قلة القابلية ووجع الصدر، ويصحبه أيضًا سعال قوي، مزعج للصدر، ولا يزال يزداد ضعفًا على ضعف، وسقمًا على سقم إلى أن يمضي عمره في الأسقام والآلام. والله أعلم.
اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر هادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عَادَةَ التَّدْخِينِ مِنْ أَقْبَحِ العَوْائِدِ، لأنَّهَا تَسْتَبْعِدُ مُتَّبِعِيهَا، وَتُقَيِّدُهُمْ بِسَلاسِلَ وَأَغْلالٍ، بِحَيْثُ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّخَلُّصَ لا يَجْدُونَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا، وَهِيَ عَادَةٌ لَوْ لَمْ يَتَّبِعْهَا الإِنْسَانُ في زَمَنِِ صِبَاهُ - الذِي هُوَ زَمَنُ جَهْلِهِ، وَعَدْمِ تَبَصُّرِهِ بِالعَوَاقِبِ -، لَكَانَتْ قَلِيَلةً جِدًا بَيْنَ أَفْرَادِ النُّوعِ الإِنْسَانِي وَالبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَرَاهُ مِنْ غَيْرِ المُدَخِّنِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَبَّ وَصَارَ بِتَمَامِ التَّمْيِيزْ، وَتَحَقَّقَ مَضَارَّ الدُّخَانِ الصِّحِّيَّةِ وَالمَاليةِ، وَالأَخْلاقِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، عَنْ طَرِيقِ الاسْتِقْصَاءِ وَالنَّظَرِ أَوْ عَنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَالخَبَرِ، حَمِدَ اللهَ تَعَالَى حَمْدًا كَثِيرًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ تِلْكَ العَادَةِ الوَخِيمَةِ، وَمَنْ تَكُنْ هَذِهِ حَالَتُهُ فَإِنَّهُ يَتَبَاعَدُ بِلا شَكِّ عَنِ السُّلُوكِ فِي هَذَا الطَّرِيق، الذِي يوصِّلُهُ إِلَى فِرَاشِ التَّمْرِيضِ، بِسَلْبِ الصِّحَّةِ التي يُقَدَّرُ قَدْرُهَا.
قَالَ: هَذَا وَإِنَّ التَّعَوُّدَ عَلَى التَّدْخِينِ لا يَحْصَلُ غَالبًِا إِلا فِي أَيَّامِ الصِّبَا، كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفَا، حَيْثُ يَكُونُ الإِنْسَانُ حِينَئِذٍ بِتَمَامِ الاسْتِعْدَادِ لِلتَّقْلِيدِ فِيمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ سِوَاهُ، فَتَرَى الصَّبِيَّ يُدَخِّنُ تَشَبُهًا بِغَيْرِهِ، رَغْمًا عَنِ اسْتِكْرَاهِهِ لِرَائِحَةِ الدُّخَانِ، وَمَرَارَةِ طَعْمِهِ مُتَكَلِّفًا تَحَمُّلَ أَثْقَالِ أَعْرَاضِهِ المُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ، مِنْ دَوَرَانِ الرَّأْسِ وَصُدَاعِهِ، وَغثَيَانِ الصَّدْرِ وَأَوْجَاعِهِ فَإِذَا تَعَوَّدَهُ بَعْدَ طُولِ المُكَابَدَةِ، وَتَحَمُّلِ المَشَاقِ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ لا يَجِدُ لَهُ غِنَىً عَنْ تَعَاطِيهِ، لَكِنَّهُ كُلَّمَا كَبُرَ سِنُّهُ وَزَادَ لا يَقْرِنُ القَوْلَ بِالفِعْلِ، إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ الدَّاءُ، وَيَصِلُ إِلَى حَالَةٍ لا يَنْفَعُهُ الدَّوَاءُ فَيْبَقَى هَذَا المِسْكِينُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فِي مُقَاسَاتِ الآلامِ وَشِدَّةِ الأَسْقَامِ، يَغْبِطُ
الأَصِّحَّاءِ عَلَى التَّوَسّدِ فَي الفِرَاشِ، وَطِيبِ المَنَامِ وَيُكْثِرُ مِنَ التَّأَوُّهُ وَالأَنِينِ، وَيَتَأَسَّفُ عَلَى فَقْدِ الصِّحَّةِ التِي بَاعَهَا بِلَذَّةِ التَّدْخِينِ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ، وَالفِرَارَ الفِرَارَ مِنْ لَذَّةٍ تُوجِبُ البَوَارَ وَالدَّمَارَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الدِّرَايَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ مِنْ أَطِبَّاءِ الزَّمَان، مَا نَصُّهُ: أَمَّا التَّدْخِينُ بِالتُوتُن والتِّنْبَاكِ فَإِنَّهُمَا مُحْتَوِيَانِ عَلَى مَادَّةٍ سُمِّيَّةٍ عَظِيمَةِ التَّأْثِيرِ، تُسَمَّى نِيكُوتِينْ، فَلَوْ استُخْلِصَتْ وَحْدَهَا، وَجُرِّبَ فِعْلُهَا، بِوَضْعٍ جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْهَا عَلَى لِسَانِ كَلْبٍ لَقَتَلَتْهُ حَالاً بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ، وَهَذَا السُّمُّ تَحْتَ رِدَاءٍ رَقِيقٍ، بِوَاسِطَةِ التَّدْخِينِ المُسْتَعْمَلِ عُمُومًا، وَقَدْ قِيلَ:
تَرُومُ الشَّهْدَ مِنْ أَنْيَابِ أَفْعَى
…
وَطَعْمَ الدِّبْسِ مِنْ مُرٍّ غَرِيزِي
كِلا الأَمْرَيْنِ لَمْ يَطْلُبْهُ إِلا
…
جَهُولُ جَهْلُه المُرْدِي غَرِيَزِي
لِذَاكَ سَرَيْت بِالإِفْسَادِ تَرْجُو
…
صَلاحَ الحَالِ مِنْ مَلِكٍ عَزِيزِ
رُوَيْدَكَ غَرَّكَ الشَّيْطَانُ حَتَّى
…
ضَلَلْتَ عَنِ الحَقِيقَةِ يَا عَزِيزِي
إِذَا رُمْتَ الصَّلاحَ أَنِبْ لِرَبٍّ
…
تَفُزْ بِالخَيْرِ وَالحِرْزِ الحَرِيزِ
آخر:
…
إِنَّ الأَفَاعِي وَإِنْ لانَتْ مَلامِسُهَا
عِنْدَ التَّقَلُّبِ فِي أَنْيَابِهَا العَطَبُ
…
>?
فَمِنْ مَضَرَّاتِهِ الكُلِّيَّةِ: تَخْرِيبُ كُرَيَّاتِ الدَّمِ، وَمِنْهَا التَّأْثِيرُ عَلَى القَلْبِ، وَمِنْهَا مُعَارَضَتُهُ لِشَهْوَةِ الطَّعَامِ، وَمِنْهَا انْحِطَاطُ القُوَى العَصَبِيَّةِ عَامَّةً، وَيَظْهَرُ هَذَا بِالخُدُورِ وَالدَّوَرَانِ الذِي يَحْصُلُ حُدُوثُهُ عَقِبَ اسْتِعْمَالِ التَّدْخِينِ لِمَنْ لَمْ يَأْتَلِفَهُ، وَلِمَنْ كَانَ مُؤْتَلِفًا وَانْقَطَعَ عَنْهُ مُدَّةَ عَشْرِ سَاعَاتٍ تَقْرِيبًا، وَمِنْ مَضَرَّاتِهِ إِحْدَاثِهِ لِلْجُنُونِ التُّوتُونِيّ.
قَالَ: وَقَدْ اطَّلَعْتُ عَلَى رِسَالَةٍ لِلْمُحَقِّقِ مُحَمَّد فِقْهِي العَيْنِيَ نَزْيلُ
الأسِتَانَة العَلِيَّةْ، وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الحَنَفِيَّةِ، ذَكَرِ فِيهَا تَحْرِيمُ الدُّخَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ (أَحَدُه) : كَوْنُهُ مُضِرًا بِالصِّحَّةِ بِأَخْبَارِ الأَطِبَّاءِ المُعْتَبَريْنَ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذِلَكَ يَحْرُمُ اسْتِعْمَاله اتِّفَاقًا. (ثَانِيهَا) : كَوْنُهُ مِنَ المُخَدِّرَاتِ المُتَّفَقُ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ، المَنْهِيّ عَنِ اسْتِعْمَالِهَا شَرْعًا، لِحَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ مُسْكِر وَمُفَتِّرٍ، وَهُوَ مُفَتِّرٌ بِاتِّفَاقِ الأَطِبَّاءِ، وَكَلامُهُمْ حٌجَة فِي ذَلِكَ وَأَمْثَاله، سَلَفًا وَخَلَفًا. (ثَالِثُهُمَا) : كَوْنُ رَائِحَتِهِ الكَرِيهَةِ تُؤذِي النَّاسَ الذِينَ لا يَسْتَعْمِلُونَهُ، وَعَلَى الخُصُوصِ في مَجَامِعِ الصَّلاةِ وَنَحْوِهَا بَلْ وَتُؤْذِي المَلائِكَةَ المُكَرَّمِينَ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانُ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ جَابِرِ بِن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه مَرْفوعًا:«مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدنَا، وَلْيَقْعُد في بَيْتِهِ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَائِحَة التَّدْخِينِ لَيْسَتْ أَقَلَّ كَرَاهَةً مِنْ رَائِحَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الثُّومِ وَالبَصَلِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: (إَنَّ المَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ)، وفي الحَدِيثُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَنِي، وَمَنْ آذَنِي فَقَدْ آذَى اللهَ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه. (رَابِعُهَا) : كَوْنُه سَرَفًا إِذْ لَيْسَ فِيهِ نَفَعٌ مُبَاحٌ، بَلْ فِيهِ الضَّرَرُ المُحَقَّقُ، بِإِخْبَارِ أَهْلِ الخِبْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحُرْمَةَ مَا فِيهِ السَّرَفُ وَالضَّرَرُ، ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلاً.
قَالَ: وَقَدْ نَصَّ فِي (نِصَابُ الاحْتِسَابَ) وَغَيْرِهِ مِنَ المُعْتَبَرَاتِ الفِقْهِيَّةِ عَلَى: أَنَّ اسْتِعْمالَ المُضِرِّ حَرامٌ اتفاقًا.
قَالَ: وَقَالَ العَلامَةُ أَحْمَدُ العَبجِيّ الحَلَبِيَ في كِتَابِ الأَشْرِبَةِ مِنْ
شَرْحِهِ عَلَى (الدُّرِّ المُخْتَارِ، شَرْحُ تَنْوِيرِ الأَبْصَارِ) بَعْدَ نَقْلِ الشَّارِحِ تَحْرِيمُ الدُّخَانِ عَنْ شَيْخِهِ النَّجْمُ الغَزِّيْ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَحْرِِيمِه في رِسَالَةٍ لَمْ تُسْبَقْ بنَظِير، أَدْخَلْنَا تَحْرِيمَهُ فِيهَا تَحْتَ الأُصُولِ الأَرْبَعَةِ، وَرَدَدْنَا كُلَّ مَا نَافَاهُ مِنْ كَلامِ الغَيْرِ رَادًّا جَامِعًا مَانِعًا، مُؤيَّدًا بالحُجَجِ.
اللَّهُمَّ الْهِمْنَا ذِكْرِكَ وشُكْركَ وَوَفِقْنَا لِطَاعَتِكَ وامْتِثَالِ أَمْرِكْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا:
…
يَا مَنْ يَرُومُ التُّقَى مِنْ كُلِّ مَأْثَمَةٍ
اسْلكْ سَبِيلَ الهُدَى وَامْشِ عَلَى السُّنَنِ
وَلا تَحُدْ أَبَدًا عَنْ ذِي الطَّرِيقِ تَفُزْ
وَخَالِفَ النَّفْسَ وَاقْهَرْهَا عَنِ المِحَنِ
إِيَّاكَ مِنْ مِحْنَةٍ تُلْقِيكَ فِي عَطَبٍ
لاسِيَّمَا مَا فَشَى فِي النَّاسِ مِنْ تُتُنِ
مُخَدرٌ الجِسْمِ لا نَفَعٌ بِهِ أَبَدَا
بَلْ مُورِثُ الضُّرِّ وَالأَسْقَامِ فِي البَدَنِ
وَحَيْثُ قَدْ ثَبَتَتْ هِذِي الصِّفَاتُ لَهُ
فَاجْزِمْ بِتَحْرِيمِهِ إِنْ كُنْتَ ذَا فِطَنْ
وَإِنْ تُرِدْ ثِقَةً فِيمَا أَقُولُ فَسَلْ
بِهِ الخَبِيرَ تَنَلْ مِنْ عِلْمِهِ الحَسَن
…
>?
وقال آخر:
…
كَمْ في الدُّخَانِ مَعَائِبٌ وَمَكَارِهٌ
دَلَّتْ رَذَائِلُهُ عَلَى إِنْكَارِهِ
…
>?
.. سَأُرِيكَ بَعْضًا مِنْ مَعَائِبِ شُرْبِهِ
يَا صَاحِبي أَحْبَبَتْنِي أَمْ كَارِهِ
يُؤْذِي الكِرَامَ الكَاتِبِينَ بَنَتْنِهِ
وَأَمَاَم وَجْهِكَ شُعْلَةٌ مِنْ نَارِهِ
كَمْ مِنْ نُقُودٍ يَا فَتَى وَملابِسٍ
أَتْلَفْتَهَا بِشَرَائِهِ وَشَرَارِهِ
وَبِهِ الثَّاَنيَا اللؤْلُؤِيَّةِ أُفْسِدَتْ
بِقَبِيحِ لَوْنِ سَوَادِهِ وَصَفَارِهِ
كَانَتْ كَمِثْلِ الدُّرِ حُسْنًا شَانَهَا
مِنْ نَفْخِهَا الشِّدْقَيْنِ فِي مِزْمَارِهِ
وَتَرَا الصَّفَارَ عَلَى شَوَارِبِهِ بَدَا
مِنْ جَذْبِهِ الدُخَانَ مِنْ مِنْخَارِهِ
وَتَرَى الذِي فِي شُرْبِهِ مُتَوِلِهًا
يَلْتَذُّ فِي الصُّهْرُوجِ بِاسْتِكْثَارِهِ
وَتَرَا الهَوَامَ إِذَا أَحَسَّ بِرِيحِهِ
تَرَكَ المَكَانَ وَفَرَّ مِنْ أَوْكَارِهِ
وَالنَّحْلُ لا تَلْوِي إليه لِخُبْثِهِ
أَبَدًا وَلا تَدْنُو إِلَى أَزْهَارِهِ
وَلِنَتْنِهِ وَلِقُبِحِهِ فِي طَعْمِهِ
لَمْ تَدْنُ سَائِمَةٌ إِلَى أَشْجَارِهِ
إِنْ خَالَطَ المَأْكُولُ مِنْهُ دُرَيْهِمٌ
غَلَبَتْ خَبَائِثُه عَلَى قِنْطَارِهِ
…
>?
.. وَإِذَا تَنَاوَلَ سَاخِنًا مِنْ مَأْكَلٍ
سَالَ أَنْفُهُ وَأَنِفْتَ مِنْ أَقْذَارِهِ
فَإِنْ انْتَهَيْتَ وَمَا أَظُنَّكَ تَنْتَهِي
وَرَغِبْتَ عَنْهُ نَجْوَتَ مِنْ أَوْعَارِهِ
وَأَرَحْتَ نَفْسَكَ مِنْ عَنَا تَحْصِيلِهِ
وَحَفِظتَ مَالَكَ مِنْ مُصَابِ خَسَارِهِ
…
>?
وقال آخر:
…
يَا شَارِبَ التِّنْبَاكِ مَا أَجَرَاكَا
مَن ذَا الذِي فِي شُرْبِهِ أَفْتَاكَ
أَتَظُنَّ أَنَّ شَرَابَهُ مُسْتَعْذَبٌ
أَمْ هَلْ تَظُنَّ بَأَنَّ فِيِه غِذَاكَا
هَلْ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لَكَ يَا فَتَى
كَلا فَلا فِيهِ سِوَى إِيَذَاكَا
وَمَضرَّةٌ تَبْدُو وَخُبْثُ رَوَائِحٍ
مَكْرُوهَةٍ تُؤذِي بِهَا جُلَسَاكَا
وَفُتُورُ جُسْمٍ وَارْتُخَاءُ مَفَاصِلٍ
مَعَ ضِيقِ أَنْفَاسٍ وَضُعْفِ قُوَاكَا
وَتَلافُ مَالٍ لا تَجِدْ عِوَضًا لَهُ
إَلا دُخَانًا قَدْ حَشَى أَحْشَاكَا
وَرَضَيْتَ فِيهِ بَأَنْ تَكُونَ مُبَذِّرًا
وَأَخُو المُبَذِّرِ لَمْ يَكُنْ يَخْفَاكَا
…
>?
.. فَإِذَا حَضَرْتَ بِمَجْلِسٍ وَاسْتَنْشَقُوا
مِنْ فِيكِ رِيحًا يَكْرَهُونَ لِقَاكَا
يَكْفِيكَ ذَمًّا فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ مَن
قَدْ كَانَ يَشْرَبُهُ يَوَدُّ فِكَاكَا
فَارْفُقْ بِنَفْسِكَ وَاتَّبِعْ آثَارَ مَنْ
أَهْدَاكَ لا مَنْ فِيهِ قَدْ أَغْوَاكَا
إِنْ كُنْتَ شَهْمًا فَاجْتَنِبْهِ وَلا تَكُنْ
فِي شُرْبِهِ مُسْتَتْبِعًا لِهَوَاكَا
إِنَّي نَصَحْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِنَصِيحتى
وَنَهَيْتُ فَاتْبَعْ قَولَ مَنْ يَنْهَاكَا
وَبَذْلَتُ قَوْلِي نَاصِحًا لَكَ يَا فَتَى
فَعَسَاكَ تَقْبَلُ مَا أَقُولَ عَسَاكَا
…
>?
وَقَالَ الشَّيْخُ العَلامَةُ الفَقِيهُ مُحَمَّدُ الطَرَابِيشِي الحَلَبِيّ المَالِكِيّ بَعْدَ كَلامٍ لَهُ طَوِيلٍ عَلَى الدُّخَانِ مَا لَفْظُهُ: وَبِالجُمْلَةِ فَقْدَ تَحَرَّرَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَرَّر الحُكْمُ عَلَى الدُّخَانِ المَشْهُورِ بِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ المُخَدَّرَاتِ التِي يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا، وَأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالصِّحَّةِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ بِالاتِّفَاقِ، وَلِذَلِكَ - أَيْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ مَضَرَّاتِهِ الوَخِيمَةِ - حَرُمَ شُرْبُهُ دِينًا - أَيْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ - عِنْدَ الأَئِمَّةِ المحَققينَ، كَمَا حُرِّمَ طِبًّا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالنَّصُّ عَلَى المَنْعِ مِنْ شُرْبِهِ وَبَيْعِهِ يَقْتَضِي تَحْرِيمهما، إِذْ مُفَاُد الْمَنْعِ التَّحْرِيمُ، وَحَيْثُ حَرُمَ بَيْعُهُ لِحُرْمَةِ شُرْبِهِ، حَرُمَ شِرَاؤُهُ أَيْضًا لأنَّ كُلَّ مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ يَحْرُمُ شِرَاؤُهُ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. فَقِفْ عِنْدَ هَذِه الفُتْيَا لِهَذا المَالِكِيّ، وَعِنْدَ فُتْيَا الحَنَفِيّ التي قَبْلَهَا تَعْرِفُ كَلامَ المُحَقِّقِينَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَى أَهْلِ العِلْمِ.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا حَمْدَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: في بَيَانِ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَاسْتِعْمَاله وَاتِّخَاذِهِ
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لَمَا يُحِبّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ وَجَنِّبْنَا وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مَا يَكْرَهُهُ وَلا يَرْضَاهُ، أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهُ وَالتَّحْذِيرُ عَنْهُ - فِي رَمَضَانَ وَغَيْرُهُ - التَّصْوِيرُ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ مُجَسَّدَةً أَوْ غَيْرُ مُجَسَّدَةٍ، وَقَدْ كَانَ بِسَبَبِهِ حَدَثَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ فِي بَنِي آدَمَ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِير: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا مِهْرَانُ عَنْ مُوسَى عَنْ مُحَمَّدِ بن قَيْسٍ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمْ الذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَق لَنَا إِلَى العِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ.
فَلَمَّا مَاتُوا جَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إليهم إِبْلِيسُ، فَقَالَ: إَنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ المَطَرَ، فَعَبَدُوهُم، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما – فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَلَمَا هَلَكُوا صَوَّرَ قَوْمُهُمْ صُوَرَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَليهِم الأمدُ فَعَبَدُوهُمْ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِم بِسَنَدِهِ عَنْ أبِي المُطَهَّرِ قَالَ: ذَكَرُوا عَنْدَ أَبِي جَعْفر - وَهُوَ قَائِمٌ يُصلي - يَزِيدَ بنَ المهَلبِ، قَالَ: فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ،
قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بنَ المُهَلَّبِ أَمَّا إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللهِ، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرُوا رَجُلاً مُسْلِمًا، وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي قَوْمِهِ، فَلَمَّا مَاتَ اعْتَكَفُوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ، وَجَزِعُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُم عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ أُصَوِّرَ لَكُمِ مِثْلَهُ فَيكونُ في نَادِيكُم فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَوَّرَ لَهُم مِثْلَهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهْ.
فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ، قَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَجْعَلَ فِي مَنْزِلِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تِمْثَالاً فَيَكُونَ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَثِّل لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالاً مِثْلهْ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ، فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ، قَالَ: وَتَنَاسَلُوا وَدَرَسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهْ، حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَأْولادُهُمْ، كَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ وُدّ الصَّنَمُ الذِي سَمُّوهُ وَدَّا. أ. هـ.
وَعَنْ هَذَا انْتَشَرَتْ الوَثَنِيَّة، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهَا فِي كُلِّ زَمَانِ وَمَكَانْ، وَفِي هَذَا التَّصْويرِ مَعْنَىً فِي غَايَةِ القُبْحِ وَالبَشَاعَةْ، وَهُوَ التَّشَبُّهِ بِالخَالِقِ الحَكِيمِ، فَإِنَّ المُصَوِّرَ بِيَدِهِ أَوْ بِآلَة يَرْسِمُ الصُّورَةَ رَسْمًا يُشْبِهُ الحَقِيقَةَ وَلِذَا يُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ القِيَامَةْ:«أَحْيُوا مَا خَلَقْتُم» ، وَيُكَلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّورَةِ الرُّوحِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ أَبَدًا، فَيْسَتَمِرُّ العَذَابْ نَسْأَلُ اللهَ العافية.
فَصْلٌ: وَإليك الأَدِلَّةُ الدَّالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَمَشْرُوعِيَّةِ طَمْسِ الصُّوَرِ، سَوَاءً كَانَ مُجَسَّدَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّدَةْ وَفِي عَمَلِهَا الوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْمُصَوِّرِينَ، وَالإِخْبَارُ بِأنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةَ.
وَأَنَّ التَّصْوِيرُ مِنْ سُنَنِ النَّصَارَى.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} ، قَالَ عِكْرِمَة: هُمِ الذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَرْ.
وَعَنْ أَبِي هَرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مَمَّنَ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً» . أَخْرَجَاهُ.
وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارْ، يُجْعَلُ لَهُ بَكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ فَيُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمْ» .
وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ بِنَافِخْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُسْتَتِرَةُ بِقَرامٍ فِيهِ صُورَةٌ، فَتَلَّوَنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثٌمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمِ القِيَامَةِ الذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِي، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمْ.
وَعَنْهَا رضي الله عنها أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نَمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرِ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى البَابِ،
فَلَمْ يَدْخُلَ، فَعَرِفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَة، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُوبُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ قَالَ:«مَا بَالُ النَّمْرُقَةْ» ؟ فَقَالَتْ: اشْتَرْيتُهُا لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوُرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَة، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» .
وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الذِي فِيهَ الصُّوَر لا تَدْخُلُهُ المَلائِكَةْ» . رَوَاهُ مَالِك، وَالشَّيْخَانْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى التَّمَاثِيلَ قَامَ بَيْنَ البَابَيْنِ وَجَعَلَ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهْ.
وَلِمُسْلِمِ عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ قاَل: قَالَ لِي عَلِيَّ: أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثنَِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَنْ لا تَدَعْ صُورَةً إِلا طَمَسْتَهَا، وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهْ.
وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَة» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَأُذُنَانِ يَسْمَعَانْ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، يَقُولُ: إِنَِّي وُكَِّلْتُ بِثَلاثَةٍ: بِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إلِهًا آخَرْ، وَبِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِالمُصَوِّرْ» . وَفِي البُخَارِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الكَلْبِ، وَكَسْبِ البَغْيِ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَالوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ، وَالمُصَوِّرَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَلْمٍ لا يَنْفَعْ وَعَمَلٍ لا يُرْفَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ المُصَوِّرِينَ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ كَنِيسَةً يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةً، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَيَا أَرْضَ الحَبَشَة، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِير فَيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:«أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنُوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَر، أُولَئِكَ شِرُارُ خَلْقِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمِ القَيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيّ، أَوْ قَتَلَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ، وَالمُصَوِّرُونَ، وَعَالِمٌ لا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيّ فِي شُعَبِ الإِيمَان.
وَعَنْ عَلِيّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ فَقَالَ: «أَيّكُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى المَدِينَةِ فَلا يَدَعُ بِهَا وَثَنًا إِلا كَسَرَهُ، وَلا قَبْرًا إِلا سَوَّاهُ، وَلا صُورَةً إِلا لَطَّخَهَا» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَانْطَلَقَ فَهَابَ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرَجَعْ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَنَا أَنْطَلِقُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَانْطَلَقَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَدَعْ بِهَا وَثَنًا إِلا كَسَرْتُهُ، وَلا قَبْرًا إِلا سَوَّيْتَه، وَلا صُورَةً إِلا لَطَّخْتُهُا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَادَ لِصَنْعَةِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللهِ فِي زَوَائِدِ المُسْنَد، وَأَبُو دَاود الطَّيَالِسي في مُسْنَدِهِ.
وَعَنْ أُسَامَةَ بنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الكَعْبَةِ وَرَأَى صُوَرًا، قَالَ: فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَيَقُولُ:«قَاتَلَ اللهُ قَوْمًا يُصَوِّرُونَ مَا لا يَخْلُقُونَ» رَوَاهُ أَبُو دَاودَ الطَّيَالِسي في مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدْ.
…
وَأَصْلُ الحَزْمِ أَنْ تُضْحِي وَتُمْسِي
…
وَرَبُّكَ عَنْكَ فِي الحَالاتِ رَاضِ
وَأَنْ تَعْتَاضَ بِالتَّخْلِيطِ رُشْدًا
…
فَإِنَّ الرُّشْدَ مِنْ خَيْرِ اعْتَيَاضِ
وَدَعْ عَنْكَ الذِي يُغْوِي وَيُرْدِي
…
وَيُورِثُ طُولَ حُزْنٍ وَارْتِمَاضِ
وَخُذْ بِاللَّيْلِ حَظَّ النفسِ وَاطْرُدْ
…
عَنِ العَيْنَيْنِ مَحْبُوبَ الغِمَاضِ
فَإِنَّ الغَافِلِينَ ذَوِي التَّوَانِي
…
نَظَائِرٌ لِلْبَهَائِمِ فِي الغياضِ
اللَّهُمَّ وَفِّقَنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالَ، وَنَجِّنَا مِن جَمِيعِ الأهْوَالِ، وَأَمِّنَا مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الرجْفِ وَالزِلْزَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ فِيمَا فِي الأَحَادِيثِ المُتَقَدِّمَةِ مِنَ الفَوَائِدْ)
فَفِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ مِنَ الفَوَائِدِ (أَوَّلاً) : تَحْرِيمُ التَّصْوِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ المُضَاهَاةِ بِخَلْقِ اللهِ. (ثَانِيًا) : أَنَّهُ لا أَحَدَ أَلأمَ مِنَ المُصَوِّرْ. (ثَالِثًا) : التَّحْذِيرُ وَالتَّنْفِيرُ عَنِ التَّصْوِيرِ. (رَابِعًا) : أَنَّ المُصَوِّرِينَ عِنْدَهُمْ مِنْ قِلَّةِ الحَيِاءِ، وَسَخَافَةِ العُقُولِ مَا لا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ حَيْثُ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ يُضَاهِئُونَ بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. (خَامِسًا) : تَحَدِّيهِم فِي أَنْ يَخْلُقُوا ذَرَّة أَوْ حَبَّة، وَبَيَانِ عَجْزِهْم وَحَقَارَتِهِمْ. (سَادِسًا) : أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَةِ المُجَسَّدَةَ وَغَيْرُ المُجَسَّدَةَ وَهْيِ التِي لا ظِلَّ لَهَا.
(وَالعِلَّّّةُ) فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ هِيَ المُضَاهَاةُ بَخَلْقِ اللهِ تَعَالَى
وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، (وَالعِلَّةُ الثَّانِيَةُ) لِلتَّحْرِيمِ هِيَ: أَنْ التَّصْوِيرَ وَسِيلَةٌ إِلَى عِبَادَةِ الصُّوَرِ، كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ نُوحٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى، وَالوَسَائِلَ لَهَا أَحْكَامُ المَقَاصِدِ، وَلَهُ (عِلَّةٌ ثَالِثَةٌ) وَهِيَ: التَّشَبُّهِ بِالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَكُلُّ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ العِلَلِ الثَّلاثَ تَكْفِي فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ.
وَحَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مَنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِلْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ عَامْ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، وَأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ نَفْسٌ فَيُعَذّبُهُ فِي جَهَنَّمَ، وَفِي الحَدِيثِ إِثْبَاتُ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلِى الأَعْمَالِ، وَفِي الحَدِيثِ التَّحْذِيرِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ التَّصْوِيرِ.
وَالحَدِيثِ الذِي بَعْدَهُ فِيهَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنَ الكَبَائِرِ وَأَنَّ المُصَوّرَ فِي الدُّنْيَا يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّوَرِ التِي صَوَّرَهَا الرُّوحَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَذَا الأمْرُ يُرَادُ بِهِ إِهَانَتَهُمْ، وَتَعْجِيزَهُمْ، وَتَحْقِيرَهُمْ، وَفِي الحَدِيثِ إِثْبَاتُ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ.
وَحَدِيثُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيهَ دَلِيلٌ أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ، وَدَلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَأَنَّهُ مِنَ الكَبَائِرِ، وَإِثْبَاتِ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ.
وَحَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنَ الكَبِائِرِ، وَعَلَى اسْتِمْرَارِ تَعْذِيبِ المُصَوِّرِينَ، لأَنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ عَلَى إِحْيَاءِ
الصَّوَرِ المَطْلُوبِ مَنْهُمْ إِحْيَاؤُهَا، وَإِثْبَاتُ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ.
وَحَدِيثُ عَائِشَة (أَوَّلاً) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، يُسْتَفَادُ مِنْ إِنْكَارِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِنَصْبِ السِّتْرِ، وَتَلَوُّنِ وَجْهِهِ وَهَتْكِهِ لَهُ، وَمِنْ الوعِيدِ الشَّدِيدِ لِلْمُصَوِّرِينَ.
(ثَانِيًا) : أَنَّهُ مِنَ الكَبَائِر، لِمَا جَاءِ فَيهِ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ.
(ثَالِثًا) : أَنَّ المُصَوِّرِينَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ.
(رَابِعًا) : أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ هِي المُضَاهَاةُ بِخَلْقِ اللهِ.
(خَامِسًا) : أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ مُجَسَّدَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّدَةْ، لأَنَّ التِي أَنْكَرَهَا النَّبِيَُّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ مُجَسَّدَةْ.
(سَادِسًا) : الغَضَبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ المُنْكَرِ وَتَمَعُّرِ الوَجْهِ.
(سَابِعًا) : كَرَاهَةُ دُخُولِ البَيْتِ الذِّي فِيهِ صُورَةً.
(ثَامِنًا) : إِنْكَارً المُنْكَرِ بَحَسَبِ الاسْتِطَاعَةِ وَالقُدْرَةِ، فَمَنْ قَدِرَ بِيَدِهِ فَهُوَ الوَاجِبُ عَلَيْهِ، كَمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم فَِي هَتْكِ السِّتْرِ بِيَدِهِ الكَرِيمَةِ، فَإِنَّ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ.
(تَاسِعًا) : أَنَّهُ يُكَلِّفُ أَنْ يَنْفُخَ الرُّوحَ فِيهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَتِهِ.
(عَاشِرًا) : دَلِيلٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ عَذَابِ المُصَوِّرِ، وَإِثْبَاتِ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ.
اللَّهُمَّ اخْتِمْ لَنَا بِخَاتِمَةِ السَّعَادَةِ وَاجْعَلْنَا مَمَّنْ كُتِبَتْ لَهُمْ الحُسْنَى وَزِيَادَة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(حَادِي عَشَرْ) : أَنَّ البَيْتَ الذِي فِيهِ صُورَةٌ لا تَدْخُلُهْ المَلائِكَةُ.
وَحَدِيثُ أَبِي الهيَّاجِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَمْسِ الصُّوَرِ، وَهَدْمِ القُبُورِ المُشَرَّفَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ المُجَسَّدَةِ وَغَيْرَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِنْكَارِ المُنْكَرِ، وَالرَّدِ عَلِى مَنْ زَعَمَ أَنَّ المَنْعَ خَاصٌ بِالصُّوَرِ المُجَسَّدَةِ فَإِنَّ الصُورَةَ التِي أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَحْوِهَا غَيْرُ مُجَسَّدَةٍ.
وَحَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلا كَلْبٌ، وَالمُرَادُ المَلائِكَة الذِينَ يَنْزِلُونَ بِالرَّحْمَةِ وَالبَرَكَةِ المُسْتَغْفِرُونَ لِلْعَبْدِ، المُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلا فَوَاتِ هَذِهِ الغَنَائِمْ لَكَانَ العَاقِلُ يَحْزَنُ لِذَلِكَ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ آثَامٌ، وَسَبَبٌ امْتِنَاعِ دُخُولِ المَلائِكَةَ الْبَيْتَ الذِي فِيهِ صُورَةٌ، كَوْنُهَا مَعْصِيَةً فَاحِشَةً، وَفِيهَا مُضَاهَاةً بِخَلْقِ اللهِ، وَأَمَّا الكَلْبُ فَلِكَوْنِهِ نَجِسًا، وَلِكَثْرَةِ أَكْلِهِ النَّجَاسَةَ، وَلِقُبْحِ رَائِحَتِهِ، وَلأنَّهُ مَنْهِيَّ عَنِ اتِّخَاذِهَا إِلا لِحَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «يَخْرُجُ عُنْقٌ مِنَ النَّارِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنْ كَبِائِرِ الذُّنُوبِ لِشِدَّةِ الوَعِيدِ، وَإِنْ مَصِيرَ المُصَوِّرِينَ إِلَى النَّارِ، مَعَ الجَبَابِرَةِ وَالمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لا ظِلَّ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا الجُزء الخَارِجَ مِنَ النَّارِ المُوَكَّلِ بِالمُصَوِّرِ وَالمُشْرِكِينَ وَالجَبَّارِ لَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ، وَأَنَّهُ يَنْطِقُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ، وَعَلَى البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ، وَإِثْبَاتِ النَّارِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ وَاسْأَلْ رَبَّكَ العَافِيَةَ كَيْفَ قَرَنَ المُصَوِّرَ بِالجَبَّارِ العَنِيدِ، وَبِمَنْ جَعْلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، تَفْهَمُ كَيْفَ قَدْرِ المُصَوِّرِ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَذَابُهُ، وَالحَدِيثُ
الذِي سَبَقَ تُؤَكِّد عِبَارَتُهُ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ» ، وَالحَدِيثُ السَّابِقُ أَيْضًا يُفْهِمْكَ أَنَّ الذنبَ كَبِيرٌ جِدًا، وَلِذَلِكَ يُكَلَّفُ فَاعِلُهُ وَهُوَ فِي النَّارِ أَنْ يَنْفُخَ فِيمَا صَوَّرَ الرُّوحَ وَلَيْسَ فِي إِمْكَانِهِ، فَيَسْتَمِرُّ التَّبْكِيتُ وَالتَّعْذِيبُ. كَمَا وَرَدَ فِي خَائِنِ الأَمَانَةِ وَالمُتَحَلِّمِ بِمَا لَمْ يَرَ مِنْ أَنَّهُ يكلف إخراجها بعد سقوطها في النار.
والحَدِيثُ الذي بَعْدَهُ فِيهِ لَعْنُ آكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَالوَاشِمَةِ وَالمُسْتَوْشِمَةِ، وَالمُصَوِّرِ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنْ الكَبِائِر، لأنَّ اللَّعْنَ لا يَكُونُ إِلا عَلَى كَبِيرَةٍ، وَفِيهِ شِدَّةُ الوَعِيدِ لِلْمُصَوِّرِينَ، لأنَّ اللَّعْنَ هُوَ الطَّرْدُ وَالإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَفِيهِ أَنَّ التَّحْرِيمَ عَامٌ لِمَا لَهُ ظِلٌ وَلِمَا لا ظِلَّ لَهُ مِنْ صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ.
وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ فِيهِ لَعْنُ المُصَوِّرِ، وَإِنَّ التَّصْوِيرِ مِنَ الكَبَائِرِ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ.
وَحَدِيثُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ وَمَا بَعْدَهُ وَاضِحُ المَعْنَى.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِي رحمه الله: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ العُلَمَاء: تَصْوِيرُ صُورَةِ الحَيَوَانِ حَرَامٌ، شَدِيدُ الحُرْمَةِ وَهُوَ مِنَ الكَبَائِرِ، لأنَّهُ مُتَوَعِّدٌ عَلَيْهِ بِهَذَا الوَعِيدِ الشَّدِيدِ، المَذْكُورِ فِي الأَحَادِيثِ، وَسَوَاءٌ صَنَعَهُ بِمَا يُمْتَهَنُ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالِّ، لأنَّ فِيهِ مُضَاهَاةٌ بِخَلْقِ اللهِ، وَسَوَاءٌ مَا كَانَ فِي ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ، أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ، أَوْ فِلْسٍ أَوْ إِنَاءٍ، أَوْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ: وَلا فَرْقَ فِي هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌ وَمَا لا ظِلَّ لَهُ، هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِنَا فِي المَسْأَلَةِ، وَبِمَعْنَاهَا قَالَ جَمَاهِيرُ العُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمِنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِي، وَمَالِكٍ، وَأِبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.
شِعْرًا:
…
فَلا تَرْجُ إِلا اللهِ فِي كُلِّ حَادِثٍ
فَأَلْقِ إليه بَثَّ شَكْوَاكَ تُحْمَدُ
لَهُ المَلْكُ بِالأَكْوَانِ لا بِمُؤازِرِنْ
وَلا بَنَصِيرٍ فِي الدِّفَاعِ لِمُعْتَدِ
قَرِيبُ وَلَكِنَ بِالذُّنُوبَ تَبَاعَدَتْ
مَسَائِلُنَا عَنْ رَوْضِ إِحْسَانِهِ النَّدِي
فَقُمْ قَارِعًا لِلْبَابِ وَالنَّابِ نَادِمًا
عَلَى مَا جَرَى وَارْفَعْ دُعَاءَكَ يَصْعَدِ
وَقُمْ سَائِلاً وَالدَّمْعُ فِي الخَدِّ سَائِلٌ
تَجِدْ مَا تَشَا مِنْ لُطْفِهِ وَكَأنْ قَدِ
وَقُمْ زُلَفًا فِي اللَّيْلِ إِنْ نَشَرَ الدُّجَى
جَنَاحَ غُدَافٍ يُلْبِسُ الكَوْنَ عَنْ يَدِ
وَرُدَّ ظَلامَ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ مُشْرِقًا
فَقَدْ فَازَ مَنْ بِالذِّكْرِ يَهْدِي وَيَهْتَدِي
وَأَمَّا بَنُو الدُّنْيَا فَلا تَرْجُ نَفْعَهُمْ
فَلا مُنْجِدٌ فِيهِمْ يُرَجَّى لِمُجْتَدِ
فَإِنِّي تَتَبَّعْتُ الأَنَاَم فَلَمْ أَجِدْ
سِوَى شَامِتٍ أَوْ حَاسِدٍ أو مُفَنِّدِ
وَقَدْ رَضَعُوا ثَدْيَ المَهَابَةِ كُلُّهُمْ
وَكُلٌ بِذَيْلِ الذُّلِّ أَصْبِحَ مُرْتَدِ
فلم أَرَ أَرْمَى إَلا بِالسِّهَامِ مِن الدُّعَا
إَلَى مَقْتَلِ الأَعْدَاءِ مِنْ قَوْسِ مِذْوَد
…
>?
.. وَعَنْ مَا قَلِيلٍ يُدْرِكُ السَّهْمُ صَيْدَهُ
فَكَمْ صَادَ سَهْمُ اللَّيْلِ مُهْجَةَ أَصْيَدِ
وَأُوصِيكَ بِالتَّقْوَى لِرَبِّكِ إِنَّهُ
سَيَحْمِدُ تَقْوَاهُ المُوَفَّقُ فِي غَدِ
وَخُذْ لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ زَادًا فَإِنَّمَا
أَقَامَكَ فِي الدُّنْيَا لأَخْذِ التَّزَوُّدِ
وَعَنْ مَا قَلِيلٍ قَدْ أَنَاحَ رِكَابُنَا
بِقَصْرِ خَلِيٍّ مُظْلِمِ الجَوِّ فَدْفَدِ
فَإِنَّ اللَّيَالي كَالمَرَاكِبِ تَحْتَنَا
تَرُوحُ بِنَا فِي كُلِّ حِينٍ وَتَغْتَدِي
فَيَا حَبَّذَا جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا
تَحُطُّ رِحَالَ القَادِمِ المُتَزَوُّدِ
وَلَيْسَ لَنَا إِلا الرَّجَاءُ فَإِنَّهُ
يُبْلِغُنَا مِنْ فَضْلِهِ خَيْرَ مَقْعَدِ
…
>?
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا مَنَاهِجَ السَّلامَةِ وَعَافِنَا مِنْ مُوجِبَاتِ الحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ وَوَفِّقْنَا لِلاسْتِعْدَادِ لِمَا وَعَدْتَنَا وَأَدِمْ لَنَا إِحْسَانِكَ وَلُطْفَكَ كَمَا عَوَّدْتَنَا وَأَتْمِمْ عَلَيْنَا مَا بِهِ أَكْرَمْتَنَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةْ
خَطَبَ عَلَيٌّ رضي الله عنه عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: اتَّقُوا اللهِ عِبَادَ اللهِ، وَبَادِرُوا آجَالِكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ - أَيْ اشْتَرُوا مَا يَبْقَى مِنَ النَّعِيمِ الأَبَدِي، مِمَّا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا
أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرْ، بِمَا يَفْنِي مِنْ لَذَّة الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَشَهَوَاتِهَا الزَّائِلَةْ، وَتَرْحًلُوا فَقَدْ جَدَّ لَكُمُ الانْتِقَالْ - أَيْ حُثِثْتُمْ وَأُزْعِجْتُمْ إِلَى الرَّحِيلِ - وَاسْتَعِدُّوا فَانْتَبِهُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ إِقَامَةٍ، فَاسْتَبْدِلُوهَا بِدَارِ الآخِرَةِ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثًا، وَلَمْ يَتْرُكُكُمْ سُدَى - أَيْ مُهْمَلِين، بِلا رَاعٍ يَزْجُرُكُمْ عَمَّا يَضُرُّكُمْ، وَيَسُوقَكُمُ إِلَى مَا يَنْفَعُكُمْ - وَمَا بَيْنِ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ إِلا المَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ، وَإِنَّ غَايةً هِيَ الأَجَلُ، تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ المُدَّةِ، وَإِنَّ غَائِبًا يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ اللَّّّيْلِ وَالنَّهَارِ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الأَوْبَةِ، وَإِنَّ قَادِمًا يَقْدُمُ بِالفَوْزِ أَوْ الشَّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لأَفْضَلِ العُدَّةْ فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تُحْرَزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُم غَدًا، فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ، نَصَحَ نَفْسَهُ، قَدَّم تَوْبَتَهُ وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ، وَالشَّيْطَانُ مُوَكّلٌ بِهِ، يُزَيِّنُ لَهُ المَعْصِيْةَ لِيَرْكَبَهَا وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لَيُسَوِفِهَا حَتَّى تَهْجُمَ مَنِّيَتِهِ عَلَيْهِ، أَغْفَل مَا يَكُونَ عَنْهَا.
…
قَلَبَ الزَّمَانُ سَوَادَ رَأْسِكَ أَبْيَضَا
…
وَنَعَاكَ شَيْبُكَ كُلُّه فَتَيقَضَا
وَعَرَفْتَ نَفْسَكَ فِي سُكُونِكَ قَاعِدًا
…
وَعَرَفْتَ نَفْسَكَ إِذْ هَمَمْتَ لِتَنْهَضَا
فَلَئِنْ عَجِبْتُ لأَعْجَبَنَّ لِغَافِل
…
يُمْسِي وَيُصْبِحُ لِلْحَوَادِثِ مُعْرِضًا
آخر:
…
جَهُولٌ لَيْسَ تَنْهَاهُ النَّوَاهِي
…
وَلا تَلْقَاهُ إِلا وَهُوَ سَاهِي
يُسَرُّ بِيَوْمِهِ لَعِبًا وَلَهْوًا
…
وَلا يَدْرِي وَفي َغِده الدَّوَاهِي
مَرَرْتُ بِقَصْرِهِ فَقُلْتُ مَنْ ذَا
…
عَجِِيبًا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَنَاهِي
رَأَيْتٌ بِبَابِهِ سُودَ الجَوَارِي
…
فَقَالُوا ذَلِكَ المَلِكُ المُبَاهِي
تَبَيَّنْ أَيَّ دَارٍ أَنْتَ فِيهَا
…
وَلا تَسْكُنْ إليها وَادْرِ مَا هِي
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنِ المَعَاصِي وَالزَّلاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الرِّشْوَةْ
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، أَنَّ الرِّشْوَةَ دَاءٌ مِنْ أَخْطَرَ الأَدْوَاءِ فَتْكًا بِالمُجْتَمَعَاتِ، ذَلِكَ أَنَّهَا لا تَشِيعُ فِي مُجْتَمَعٍ إِلا تَدَاعَتْ أَرْكَانُهْ، وَهَبَطَ فِي مُسْتَوَاهُ الخُلُقِي إِلَى الحَضِيضِ، وَسَيْطَرَتْ فَيهِ المَادَّةُ الجَشِعَةُ عَلَى الحُكَّامِ وَالمَحْكُومِينَ، فَيُصْبِحُ صَاحِبُ الحَقِّ فِي قَلَقٍ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنَهُ الحُصُولُ عَلَى حَقِّهِ إِلا إِذَا قَدَّمَ جُعْلاً لَمْنَ عِنْدَهُ وَسِيلَةٌ لِلْحُصُولِ عَلَيْهِ.
وَلا تَرَى صَاحِبُ ظَلامَةً يَطْمَعُ فَي رَفْعِ ظَلامَتِهِ عَنْهُ، إَلا أَنْ يَرْشِي مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى رَفْعِهَا، وَقَدْ يَبْلُغُ الأَمْرُ بَالمُرْتَشِي إَلَى أَنْ يُمَاكِسَ الرَّاشِي فِي مِقْدَارِ الرِّشْوَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذِلَكَ جَهْرًا، بَلا حَيِاءٍ وَلا خَجَلْ.
وَلا تَسْأَلْ عَنْ مَا يَنْتُجُ عَْنَها مِنَ الأَضْرَارِ التي لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى مِنْ ضَيَاعِ الكَرَامَةِ، وَهَضْمِ الحُقُوقِ، وَقَبْر النُّبُوغْ وَتَلاشِى الْجِدِّ فِي العَمَلِ، وَاضْمِحْلالُ الغِيَرِة عَلِى أَدَاءِ الوَاجِبِ، وَتَرْكَ العَامِلِينَ كُلُّ ذَلِكَ يَذْهَبُ وَلا تَجِدْ لَهُ أَثَرَا، وَيَحِلُّ مَكَانَهُ الخُمُولُ وَالضَّعْفُ، وَالغِشُّ وَالخِيَانَةْ، وَمَا إِلَى ذَلِكْ.
إِذَا رُشْوَة مِنْ سُورِ بَيْتٍ تَقَحَّمَتْ
…
????
…
لِتَسْكُنَ فِيهِ وَالأَمَانَةُ فِيهِ
…
????
…
سَعَتْ هَرَبًا مِنْهُ وَوَلَّتْ كَأَنَّهَا
…
????
…
حَلِيمٌ تَوَلَّى عَنْ جَوَابِ سَفِيهِ
…
>?
…
???? وَتُصَابُ مَصَالِحُ الأُمَّةِِ بِالشَّلَلْ، وَعُقُولِ النَّابِغِينَ بِالعُقْمِ، وَمَوَاهِِبُ المُفَكِّرِينَ بِالجُمُودِ، وَعَزَائِمُ المُجِدِّينَ وَهِمَمِهُمْ بِالخُورِ وَالفُتُورِ، وَأَيُّ خَيْرٍ
يُرْجَى مَنْ يَوْمٍ يَكُونُ مِقْيَاسُ الكَفَاءَة فِيهم مَا يَتَقَّرَبُ المَرْؤُوسُ بِهِ مَن قُرَابِين، وَأَيُّ ثَمَرةٍ مِنْ عَمَلٍ لا يُوصَلَ إليه إِلا بِالرُّشَا وَالمَطَامِعِ.
وَقَدْ تُلْبَسُ الرِّشْوَةُ ثَوْبًا مُسْتَعَارًا وَلَكِنْ يَشِفُّ عَنْ حَقِيقَتِهَا كَمَا قِيل:
…
ثَوْبُ الرِّيَاءِ يَشِّفُ عَمَّا تَحْتَهُ
…
????
…
فَإِذَا التَحَفْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَارِي
…
>?
…
???? فَقَدْ تَكُونُ الرِّشْوَةُ فِي صُورَةِ تُحْفَةٍ أَوْ هَدِيَّة، أَوْ مُحَابَاةٍ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاء، أَوْ إِبْرَاءٌ مِنْ دِين، أَوْ يُشْرِكهُ في أَرْض أَوْ يَتَوَسَّطُ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكْ، وَنَحْوِ ذَلِكِ وَكُلُّ هَذِهِ الحِيَلِ لا تُزْيلُ الحَقَائِقَ.
وَهْي فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ رُشْوَةٌ بَشِعَةُ المَنْظَرُ، سَيِّئَةُ الْمَخْبَرْ كَرِيهَةُ الرَّائِحَةِ، مُلَوَّثَةٌ لِلشَّرَفِ، مُضَيِّعَةٌ لَلْعِفَّةِ وَالكَرَامَةِ وَالمَهَابَةِ وَلِذَا كَانَ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي مَلْعُونِين، لأَنَّ الرَّاشِي يُسَاعِدُ المُرْتَشِي عَلَى تَضْيِيعِ الحُقُوقِ، وَيُسَهِّلَ لَهُ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَيُنَمِّي فِيهِ الخُلُقَ الذَّمِيمْ، وَيُيَسِّرُ لَهُ التَّحَكُمَ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِغَيْرِهِ، فَيَسْتَمْرِئُ هَذَا الْمَرْعَى الْوَخِيم، وَالمُرْتَشِي قَدْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ، وَمَنَعَ الحَقَّ عَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَأْخُذُ الرُّشْوَة مِنْهُ.
وَالرُّشْوَةُ الْمُحَرَّمَةُ هِيَ مَا تُوصِلُ بِهِ إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ تَمْشِيَةِ بَاطِلْ، أَمَّا مَا وَقَعَ لَلتَّوَصُّلِ لَحِقٍ، أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ، فَلَيْسَ بِرُشْوَةٍ مَنْهِيَّةٍ، قَالَ فِي المُغْنِي: فَأَمَّا الرُّشْوَةُ فِي الحُكْمِ، وِرُشْوَةُ الْعَامِلِ، فَحَرَامٌ بِلا خَلافْ.
قَالَ تَعَالَى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قَالَ الحَسَنُ، وَسَعِيدُ بنُ جُبَيْر في تَفْسِيره: هُوَ الرِّشْوَة. وَقَالَ: فَأَمَّا الرَّاشِي، فَإِنْ رَشَاهُ لِيَحْكُمَ لَهُ
بِبَاطِلْ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ حَقًا فَهُوَ مَلْعُونْ، وَإِنْ رَشَاهُ لِيَدْفَع ظُلْمَهُ، وَيَجْزِيَهُ عَلَى وَاجِبَه، فَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بنُ زَيْدٍ، وَالحَسَنْ: لا بَأَسْ أَنْ يُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: وَلأَنَّهُ يَسْتَنْقِذُ مَاله، كَمَا يَسْتَنْقِذُ الرَّجُلِ أَسِيرَه. انتهى.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي فِي الحُكْم» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. أَمَّا الحَدِيثِ فَوْجُهُ الاسْتِدْلالُ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الرَّشْوَةِ وَاضِحْ، إِذْ لا يَسْتَحِقُ لَعْنَةَ اللهِ إِلا فَاسِقٌ أَوْ كَافِرْ، وَأَمَّا الآيةُ فَقِيلَ: إَنَّ مَعْنَاهَا: لا تُدْلُوا بِأَمْوَالِكُمْ إِلَى الْحُكَّامْ، أَيْ لا تُصَانِعُوهُم بِهَا، وَلا تَرْشُوهُمْ لِيَقْطَعُوا لَكُمْ حَقًا لِغَيْرَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لا يَحِلُّ لَكُمْ، فَالآيةُ تَنْهِي المُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَأَكْلُوا أَمْوَالَهُمْ بَيْنَهُمْ بِالبَاطِلْ، وَالرُّشْوَةُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ هَذَا الأَكْل الْمَنْهِيّ عَنْهُ. قَالَ بَعْضُهم يَصِف المُحَابِينَ لأَصْدِقَائِهم:
قَالَ الشَّاعِر:
…
إِذا حَاوَلُوا أَمْرًا لِشَخْصٍ يَهُمُّهُمْ
…
تَنَاسُوا أُمُورَ الشَّرْعَ فِيهِ وَلَفَّقُوا
وَإِلا رَمُوا أَوْرَاقِهِ عِنْدَ وَجْهِهِ
…
وَقَالُوا لَهُ خُذْ مَا تَرَاهُ وَأَطْرَقُوا
آخر:
…
وَإلى اليقِينَ وَعَادِ الشَّكَ أَجْمَعَهُ
وَإلى اليقِينَ وَعَادِ الشَّكَ أَجْمَعَهُ
فَالخَطْبُ عَمَّ وَصَارَ النَّاسُ كُلُّهُم
مُعَظِّمِينَ لِبِدْعِيٍّ وَمَرْدُودِ
هَذَا الزَّمَانُ الذي كُنَّا نُحَاذِرُهُ
فِي قَوْلِ كَعبٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودِ
…
>?
.. فَصَاحِبُ الدِّينِ مَمْقُوتٌ وَمُنْكَتِمٌ
وَصَاحِبُ الفِسْقِ فِيهِمِ غَيْرُ مَظْهُودِ
كُلٌّ يُقَلِّدُ فِي الأَهْوَاءِ صَاحِبَهُ
حَتَّى البِلادَ لَهَا شَأنٌ بِتَقْلِيدِ
وَالأَمْرُ بِالعُرْفِ ثُمَّ النَّهْيُ عَنِ نُكُرٍ
صَارَا لَدَيْنَا بِلا شَكٍ كَمَفْقُودِ
إِذَا نَصَحْتَ لِشَخْصٍ قَالَ أَنْتَ كَذَا
فِيكَ العُيوبُ لَدَيْنَا غَيْرَ مَحْمُودِ
إِذَا رَأَوا صَالِحًا يَدْعو لِنَهْجِ هُدَىً
تَأنَّبُوهُ بِإِيذَاءٍ وَتَبْعِيدِ
حُكْمُ القَوَانِينِ قُالُوا فِيهِ مَصْلَحَةٌ
وَفِي الرِّبَا سَاعَدْتَ شِيبٌ لِمَوْلُودٌ
أَهْلُ الهَوَى وَالرَّدَى مَالُوا لِمُحْدَثَةٍ
قَالُوا الشَّرِيعَةَ لا تَكْفِي لِمَقْصْودِ
قُولُوا لَهُمْ قُوْلَ نُصْحٍ مَا بِهِ شَطَطٌ
مَقَالَةً صَاغَهَا حَبْرٌ بِتَسْدِيدِ
مُخَالِفُ الشَّرْعِ لَمْ يَظْفُرْ بِحَاجَتِهِ
لَوْ نَالِ خَيْرًا قُصَارَاهُ لِتَبْدِيدِ
إِنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ غِيَر
لَمْ يُبْكَ مَيْتٍ وَلَمْ يُفْرَحْ بِمَوْلُودِ
…
>?
اللَّهُمَّ إِنَّا نسألكَ العافية في الدُّنيا والآخرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَو والْعَافيةَ في دِيننَا ودُنيانَا وآخِرتنَا وَأَهْلِنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُر عَوراتِنا وَأَمنِ روعاتِنا واحْفَظنا مِن بين أيدينا ومنِ خَلفنا وَعن أيمانِنَا وعن شَمائِلنا ومن
فَوقِنا ونَعُوذ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ من تَحْتِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا ما به أكرمتنا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
قَالَ العُلَمَاءُ: الرَّاشِي هُوَ الذِي يُعْطِي الرِّشْوَةُ، وَالمُرْتَشِي هُوَ الذِي يَأْخُذُ الرِّشْوَة، قَالُوا: وَإِنَّمَا سُمِّي مِنْحَةُ الحُكَّامِ رِشْوة لأَنّها وُصْلَةٌ إِلَى المَقْصُودْ، بَنَوْعٍ مِنَ التَّصْنِيع، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّشَاءِ، وَهُوَ الحَبْلُ الذِي يُتَوَّصل بِهِ إِلَى نَزْحِ المَاءِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
…
وَلَيْتَ الحُكْمَ خَمْسًا بَعْدَ عَشْرٍ
…
????
…
لَعَمْرِي وَالصِّبَا فِي العُنْفُوِانِ
…
????
…
فَلَمْ تَضِعِ الأَعَادِي قَدْرَ شَانِي
…
????
…
وَلا قَالُوا فُلانٌ قَدْ رَشَانِي
…
>?
…
???? وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخر: أَنَّ اللَّعْنَة عَلَى الرَّائِشَ أَيْضًا، وَهُوَ السَّاعِي بَيْنَهُمَا، وَهُوَ تَابِعٌ لِلرَّاشِي فِي قَصْدِهِ، إِنْ قَصَدَ خَيْرًا لَمْ تَلْحَقُهُ اللَّعْنَةِ، إِلا لَحِقْتَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أِبِي أُمَامَةَ البَاهِلِي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةْ، فَقَدْ أَتِى بِابًا مِنْ أَبْوِابِ الرِّبَا» ، وَعَنِ ابِنِ مَسْعُودٍ قَال: السَّحُتْ: أَنْ تَطْلُبَ لأَخِيكَ الْحَاجَةَ، فَتَقْضِي فَيُهْدِي إليك هَدِيَّةً فَتَقَبَلُهَا مِنْهُ.
وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَلَّمِ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلَمَةٍ فَرَدَّهَا، فَأَهْدَى إليه
صَاحِبُ المَظْلَمَةِ وَصِيفًا، فَرَدَّهَا وَلَمْ يَقْبَلُهَا، وَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُول: مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلَمَةٍ فَأَعْطَاهُ عَلَيْهَا قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا فَهْوَ سَحُتْ، فَقَالَ الرَّجُلْ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَظُنُّ أَنْ السُّحْتَ إِلا الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ، فَقَالَ: ذَلِكَ كُفْرٌ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهُ.
قَالَ العُلَمَاءُ: وَيَحْرُمُ عَلَى القَاضِي قُبُولُ هَدِيَّة إِلا مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلايَتِهْ، إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةْ، لِمَا رَوَىَ أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِي إلي، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيِجِيءُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهِدِيَ إلي، أَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أُيُهْدَى إليه أَمْ لا، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا نَبْعَثُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَيَأخُذَ شَيْئًا إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءْ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرْ» ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْتُ عُقْدَةَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» ثلاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
…
لا يَأْمَِنِ الوَقْتَ إِلا الخَائِنُ البَطِرُ
مَنْ لَيْسَ يَعْقِلُ مَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ
مَا يَجْهَلُ الرُّشْدَ مَنْ خَافَ الإِلَه وَمَن
أَمْسَى وَهِمَّتُهُ فِي دِينِهِ الفْكَرُ
فِيمَا مَضَى فِكْرَةٌ فِيهَا لِصَاحِبِهَا
إِنْ كَانَ ذَا بَصَرٍ بِالرَّأْيِ مُعْتَبِرُ
أَيْنَ القُرُونُ وَأَيْنَ المُبْتَنُونَ لَنَا
هَذِي المَدائِنُ فِيهَا المَاءُ وَالشَّجَرُ
…
>?
.. وَأَيْنَ كِسْرَى أَنُو شُرْوانَ مَالَ بِهِ
صَرَفُ الزَّمَانِ وَأَفْنَى مُلْكَهُ الغِيَرُ
بَلْ أَيْنَ أَهْلُ التُّقَى بَعْدَ النَّبِيّ وَمَنْ
جَاءَتْ بِفَضْلِهُم الآيَاتُ وَالسُّوَرُ
أُعْدُدْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِيقَ أَوَّلَهُمْ
وَنَادِ مِنْ بَعْدِهِ فِي الفَضْلِ يَا عُمَرُ
وَعُدَّ مِنْ بَعْدِ عُثْمَانٍ أَبَا حَسَنٍ
فَإِنَّ فَضْلَهُمَا يُرْوَى وَيُذَّكَرُ
لَمْ يَبْقَ أَهْلُ التُّقَى فِيهَا لِبِرِّهُمُ
وَلا الجَبَابِرَةُ الأَمْلاكُ مَا عَمَرُوا
فَاْعَملْ لِنَفْسِكَ وَاحْذَرْ أَنْ تُوَرِّطَهَا
فِي هُوَّةِ مَالَهَا وِرْدٌ وَلا صَدَرُ
مَا يَحْذَرُ اللهَ إِلا الرَّاشِدُونَ وَقَدْ
يُنْجِي الرَّشِيدَ مِنَ المَحْذُورَةِ الحَذَرُ
وَالصَّبْرُ يُعْقِبُ رِضْوَانًا وَمَغْفِرِةً
مَعَ النَّجَاحِ وَخِيْرُ الصُّحْبَةِ الصَّبْرُ
النَّاسُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَفَرٍ
وَعَنْ قَرِيبٍ بِهِمْ مَا يَنْقَضِي السَّفَرُ
فَمِنْهُمْ قَانِعٌ رَاضٍ بِعَيْشَتِهِ
وَمِنْهُمْ مُوسِرٌ وَالقَلْبُ مُفْتَقِرُ
مَا يُشْبِعُ النَّفْسَ إِنْ لَمْ تُمْسِ قَانِعَةً
شَيْءٌ وَلَوْ كَثُرَتْ فَي مِلْكِهَا البَدْرُ
…
>?
.. والنَّفْسُ تَشْبَعُ أَحْيَانًا فَيُرْجِعُهَا
نَحْوَ المَجَاعَةِ حُبُّ العَيْشِ وَالبَطَرُ
وَالمَرْءُ مَا عَاشَ فِي الدُّنْيَا لَهُ أَثَرٌ
فَمَا يَمُوتُ وَفِي الدُّنْيَا لَهُ أَثَرُ
…
>?
اللَّهُمَّ مَكِّنْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بَنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَزَحْزِحْنَا عَنِ النَّار وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ دَارَ القَرارِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَة
عِبَادَ اللهْ: لَقْدَ نَهَانَا رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَاسْتِحْلالِهَا بِدُونِ حَقٍّ، وَأَخْذِهَا بِوَجْهٍ لَمْ يُبِحْهُ الدِّينْ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ، يَنْهَانَا عَنْ رَفْعَ الدَّعَاوِي الكَاذِبَةِ، وَالإِدْلاءِ بِالقَضَايَا المُخْتَلِقَةِ المُلَفَّقَةِ، وَتَقْدِيمِ صَفَحَاتِهَا إِلَى القُضَاةِ، رَجَاءِ الفَصْلٌ فِيهَا بِالبَاطِلِ، اسْتِنَادًا إِلَى اليمِينِ الغَمُوسِ الْكَاذِبَةِ، وَارْتِكَانًا عَلَى شَهَادَةِ الزُّوْرِ الفَاجِرَةِ، أَوْ اعْتِمَادًا عَلَى الشَّفَاعَاتِ وَالوَسَائِطِ، وَاسْتِظْهَارًا بِتِلْكَ الرَّشَاوِي التِي تُقَدَّمُ بِاسْمِ الهَدَايَا إِلَى مَنْ لا خَلاقَ لَهُمْ، فَيَتَخَّطُونَ العَدَالَةَ لِقَاءَ هَذَا، وَيَجُورُونَ فِي الحُكُومَةِ وَالقَضَاءِ.
إِنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ التِي تُؤْكَلُ بِالبَاطِلِ قَبْسٌ مِنْ نَارْ، وَأُتُونُ مُسْتَعِرَةٌ بِاللَّظَى، وَتَنُّورٌ مَسْجُورٌ، مُوقِد إِنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ التي تُؤْكَلُ بِالبَاطِلِ، جَذْوَةٌ مِنْ لَهِيبٍ، وَشُعْلَةٌ مُتَوَهِّجَةٌ، إِنَّ أَمْوالَ النَّاسِ التِي تُؤْكَلُ بِالبَاطِلِ آفةٌ مُهْلِكَةٌ، تَأْكُلُ الأَخْضَرِ وَاليابِسْ وَتَأْتِي عَلَى الغَضِّ وَالهَشِيمِ، هَذَا إِذَا فَنِيَتْ وَزَالَتْ، وَأَمَّا إِذَا بَقِيَتْ وَدَامَتْ، وَرَبَتْ وَنَمَتْ، وَزَادَتْ وَكَثُرَتَ،
وَشَبَّ عَلَيْهَا جِسْمُهُ، وَنَمَا عَلَيْهَا عَظْمُهُ وَلَحْمُهُ، فَالْوَيْلُ ثُمَّ الوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ لآكِلِ الحَرَامِ، الْتَفِتُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ يَمِينًا وَشِمَالاً تَرَوْا إِنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ التِي أُكِلَتْ حَرَامًا مَا أَغْنَتْ آكِلِيهَا، وَمَا أَجْدَتْ عَلَى غَاصِبِيهَا وَنَاهِبِيهَا، بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، أَتَتْ عَلَى بُيُوتِهِمْ فَخَرَّبَتْهَا، وَدَكَّتْ صُرُوحَ عِزِّهِمْ وَمَجْدِهِمْ فَهَدَّمَتْهَا، فَلَيْتِ شِعْرِي بِمَاذَا يَكُونُ الجَوَابُ إِذَا وَقَفُوا غَدًا بَيِنَ يَدِيْ أَحْكَمِ الحَاكِمِينَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ هِذِهِ الأَمْوَالْ بِأَيِّ وَجِهٍ أَخَذُوهَا، وَعَلَى أَيّ دِينٍ اسْتَبَاحُوهَا، وَبِأَيّ شَيْءٍ يَنْطِقُونَ إَذَا شَهَدَتْ عَلَيْهُمْ الْجَوَارِحُ وَوَاجَهَتْهُمُ الأَعْضَاءُ بِالحَقَائِقِ، فَقَالَ اللِّسَانُ: بِي نَطَقَ كِذْبًا وَبُهْتَانًا، وَقَالَتِ اليدَانِ: بِي أَخَذَ المَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَقَالَتْ الرِّجْلانْ: بِي سَعِى الأَثِيمُ إِلَى دَارِ القَضَاءِ يَطْلُبُ الإِنْصَافَ، كَأَنَّهُ مَغْبُونٌ وَمَظْلُومٌ، وَقَالَتِ الرِّجْلانِ أَيْضًا بِي مَشَى إِلَى الزِّنَا أَوْ اللِّواطْ، أَوْ السَّرِقَةِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الجَرَائِمْ.
آكِلُ الحَرَامِ فَتِّشْ حَوَاليك تَجِدُ الْحَرَامَ لا يَنْفَعْ، قَلِّبْ النَّظَرَ مَلِيًّا تَرَى المُبْطِلُ لا يَتَقَدَّمْ، تَأَمَّلْ قَلِيلاً وَفَكِّرْ فِي الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ العَافِيَةَ تَزُولُ، ارْجِعْ النَّظَرَ كُرَّاتٍ وَرَدِّدِ الْبَصَرِ مَرَّاتٍ، تُجبْكَ الحَوَادِثُ بِلَهْجَةِ الخَبِيرِ، بِأَنَّ العُمُرَ وَإْنْ طَالَ قَصِيرْ، وَإِنَّ الحِسَابِ عَسِيرُ وَشَدِيدٌ، وَأَنَّ المَوْقِفَ رَهِيبٌ وَشَاقٌ، وَأَنَّ الْمَصِيرَ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ أَيْقِنُوا بِأَنَّ الأَحْكَامِ التِي تُؤْخَذُ فِي الدُّنْيَا بِالسَّفْسَطَةِ وَالتَّدْلِيسِ لا تَرْفَعُ الإثْمَ، وَلا تَرُدُّ العِقَابْ، لأنَّ الحُكُومَةْ سَتُعَادُ، وَالشُّهُودَ عِيَانٌ، وَالْقَضَاءُ بِالْقِسْطَاسِ، وَالقَاضِي الحَكَمْ الْعَدْلُ، قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} . وَقَالَ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الحَاجِيَّاتِ التِي تُؤْخَذُ خِلْسَةً وَتُخْتَطَفُ فِي غَفْوَةٍ، أَوْ تُؤْخَذُ رَغْمًا وَكُرْهًا فِي صَحْوٍ وَيَقَظَةٍ، بَاقِيَةٌ لأَصْحَابِهَا سَتَقْضُونَهَا مِنْ حَسَنَاتِكِمْ، وَتُؤَدُّونَهَا مِنْ مُبَرَّاتِكُمْ، إِنْ كَانَتْ لَكُمْ حَسَنَاتٌ وَمَبَرَّاتٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ مِنَ خَطَايَا أَصْحَابِهَا فَطُرِحَتْ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ تُلْقَوْنَ بِهَا فِي النَّارِ، فَاتَّقُوا اللهَ، وَتَحَرُّوا الكَسْبِ الطَّيِّبْ، فَقْدَ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَتْدَرُونَ مَنِ المُفْلِسْ» ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعٌ، فَقَالَ:«إِنَّ المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مِنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَّ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» .
شِعْرًا:
…
خَفِ اللهَ وَانْظْرِ فِي صَحِيفَتِكَ التِي
حَوَتْ كُلَّمَا قَدَّمْتَهُ مِنْ فِعَالِكَا
فَقَدْ خَطَّ فِيهَا الكَاتِبَانِ فَأَكْثَرَا
وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ يَقُولا فَذَالِكَا
وَوَاللهِ مَا تَدْرِي إِذَا مَا لَقِيتَهَا
أَتُوضَعُ فِي يُمْنَاكَ أَوْ فِي شَمِالِكَا
وَلا تَحْسَبَنَّ المَرْءَ يَبْقَى مُخَلَّدًا
فَمَا النَّاسُ إِلا هَالِكٌ فَابْكِ هِالِكَا
آخر:
…
إِذَا انْقَطَعْتْ أَعْمَالُ عَبْدٍ عَنِ الوَرِى
تَعَلَّقَ بِالرَّبِ الكَرِيمِ رَجَاؤُهُ
…
>?
جج
…
فَأَصْبحَ حُرًا عِزَّةً وَقَنَاعَةً
عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهُ وَضِيَاؤُهُ
وَإِنْ عَلِقَتْ بِالْخَلْقِ أَطْمَاعُ نَفْسِهِ
تَبَاعَدَ مَا يَرْجُو وَطَالَ عَنَاؤُهُ
فَلا تَرْجُ إِلا اللهَ لِلْخَطْبِ وَحْدَهُ
وَلَوْ صَحَّ فِي خِلِّ الصَّفَاءِ صَفَاؤُهُ
…
>?
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُوءَةً بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتَنَا رَطِبَةً بِذْكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةً لأَمْرِكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ العَافِيةَ فِي دِينِنَا ودُنْيَانَا وَأُخْرَانَا وَأَهْلِنَا وَمَا لَنَا اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَأَمِّنْ رَوْعَاتِنَا وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنَ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفَنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلِنَا وَمِنْ فَوقِنَا ونَعُوذُ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ من تَحْتِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ في حكم التأمين)
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَجَنَّبَنَا وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِِ المُسْلِمِينَ مَا يَكْرَهُهُ وَلا يَرْضَاهُ أَنَّ مَمَّا حَدَثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَانْتَشَرَ فِي الأَرْضِ انْتِشَارَ الْوَبَاءِ الفَتَّاكْ، مَا يُسَمَّى بِالتَّأْمِين عَلَى الحَيَاةِ وَعَلَى الأَمْوَالِ، وَهُوَ عَقْدٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مُؤَمِّنٌ، وَالآخَرُ مٌؤَمَّنٌ، يَلْتَزِمُ فِيهِ المُؤْمِنُ أَنْ يُؤَدِّي إِلَى المُؤْمِّن مَبْلَغًا مِنَ المَالِ، أَوْ شَيْئًا مُرَتَّبًا عَنِدَمَا يَحْصُل ضَرَرٌ أَوْ حَادِثْ، وَذَلِكَ فِي مُقَابِلِ قِسْطٌ أَوْ أَيَّةِ دُفْعَةٍ مَاليةٍ أُخْرَى يُؤَدِّيهَا المُؤْمِّنُ إِلَى المُؤَمَّنِ.
وَفِي الغَالِبِ أَنَّ الذِي يَقُومُ بِالتَّأْمِينِ شَرِكَاتٌ مُسَاهِمَةٌ كَبِيرَةٌ مٌهِمَّتُهَا
التِي مِنْ أَجْلِهَا أُنْشِئَتْ: التَّأْمِينُ عَلَى الحَيِاةِ فِيمَا زَعَمُوا، وَعَلَى الأَمْوَالِ أَيْ ضَمَانِهَا، وَدَفْع ثَمَنَهَا إَذَا تَلَفَتْ، فَانْكَبَّ النَّاسُ عَلَيْهَا انْكِبَابًا عَظِيمًا، وَلَمْ يُفَكِّرُوا وَلَمْ يَفْحَصُوا، وَلِمْ يَسْأَلُوا عَنْ حِلَّهَا وَحُرْمَتِهَا وَضَرَرِِهَا، عَاجِلاً وَآجِلاً.
فَأَمَّا التَّأْمِينُ عَلَى الحَيَاةِ فَطَرِيقَتُهُمْ فِيهَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أَنْ يُؤَمِّنَ عَلَى حَيَاتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَرْكَزِ شَرِكَةِ التَّأْمِينْ وَيُفْهِمُهَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ مِنَ الأَمْوَالِ كَذِا لِتَضْمَنَ لَهُ حَيَاتَهُ كَذِا مِنَ السِّنِينِ، وَإِذَنْ هِيَ تُحْضِرُ حُكَمَاءَهَا البَارِعِينَ فِيمَا زَعَمَتْ وَيَبْحَثُونَ جِسْمَهُ بِحْثًا دَقِيقًا، ثُمَّ يُعْطُونَ الشَّرِكَةِ رَأْيَهُمْ فِي مَبْلَغِ صِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ، وَفِي سَنِّهِ التِي هُوَ فِيهَا إِذْ ذَاكَ، فَإِذَا أَحَاطَ رِجَالُ الشِّرْكَةِ العَامِلُونَ بِمِقْدَارِهِ أَصْدَرُوا أَمْرَهُمْ بِضَمَانِ حَيِاتِهِ عَشْرَ سِنِين، أَوْ عِشْرِين، أَوْ ثَلاثِين، أَوْ أَرْبَعِين، أَوْ خَمْسِين. وَلَيْسَ كُلُّ شَخْصٍ بَلِ المُرَادُ عِنْدَهُم الصَّحِيحُ، أَمَّا المَرِيضِ أَوْ مِنْ يَتَعَاطَى الأَشْيَاءِ التي تَجْلِبُ الأَمْرَاضْ فَيُقَدَّرُ لَهُ عَلَى قَدْرِ حَاله فِيمَا يَرَوْنَ، فَإِذَا انْتَهَى تَسَلَّمُوا أَوَّلَ قِسْطٍ مِنَ الأَقْسَاطِ التِي اتَّفَقُوا عَلَيْهَا مَعَ المُتَعَاقِدْ.
وَهَذِهِ الأَقْسَاط مَعَ المُدَّةِ المَعْلُومَةْ تَكُونث مَكْتُوبَةً فِي وَثِيقَةً يَمِضِي عَلَيْهَا مُمَثِّلُ الشِّرْكَةِ وَالمُتَعَاقِدْ، وَبِيَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا نُسْخَةً مِنْهَا، تَكُونُ سَنَدًا لَهُ عَلَى الآخَرِ عِنْدَ اللّزُوم، وَتَلْتَزِمُ الشَّرِكَةُ فِي هَذِهِ الوَثِيقَة: إِنَّ المُتَعَاقِدْ مَعَهَا لَوْ مَاتَ فِي اليوم الذِي حَصَلَ فِيهِ الْعَقْدِ تَدْفَعُ لِوَرِثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ لِمَنْ يُعَيِّنَهُ فِي الوَثِيقَةِ - وَإِنَ كَانَ لا يَقْرَبُ لَهُ، وَلا لَهُ بِهِ صِلةْ، وَلَوْ أَنَّهُ خَادِمٌ عِنْدَهُ، أَوْ عِنْدَ غِيْرِهِ - تَدْفَعُ مَبْلَغًا يُوَازِنُ أَوْ يَزْيدُ عَنِ المَبْلَغِ الذِي ذَكِرَ المُتَعَاقِدْ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ لِلشَّرِكَةِ فِي المُدَّةِ الْمُتَّفِق عَلَيْهَا، لَكِنْ يَشْتَرِطُ
هَؤُلاءِ الْوَضِيعُونْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ عَادِيَّا، لَيْسَ بِجِنَايَةٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا: الشِّرْكَة لا تَدْفَعُ المَبْلَغَ بِمُجَرَّدِ أَنْ يُقَالُ لَهَا: إِنَّهُ مَاتَ، بَلْ لَهَا أَبْحَاثٌ وَمُنَاقَشَاتٌ تَطُولُ وَتَدُق، يَكْتَشِفُونَ بِهَا كَيْفَ مَات، رُبَّمَا يَنْشَأ عَنْ هَذِهِ الفُحُوصِ سَبُّ المَيِّتِ وَلَعْنَهُ وَأَعْمَاله وَمَا أَرَّثَ وَإِنْ قِيلَ لَهُمْ، أَوْ ظَنُّوا أَنَّ الْمَوْتَ يُرَادُ بِهِ الوُصُولُ إِلَى الْمَبْلَغِ الْمَعْلُومِ، فَانْظُرْ كَيْفَ يَعْمَلُونْ. عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
وَعِنْدَ هَؤُلاءِ الْوَضعِيّينَ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ بَعْضُ الأَقْسَاطِ ثُمَّ عَجِزِ عَنِ البَاقِي ذَهَبَ عَلَيْهِ كُلُّ الذِي دَفَعَهُ، وِفِيهِ شُرُوطٌ أُخْرَى، مِنْهَا كَوْنُ الشِّرْكَة تَشْتَرِطُ عَلَى نَفْسِهَا أَنْ تَدْفَعَ رِبْحًا خَمْسَةِ فِي الْمِائَةِ فِي حَالِةِ اسْتِمْرَارُ عَقْدِ التَّأْمِين، وَهَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ بِلا شَكْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تَسْلِيمُ دَرَاهِمُ مُقَسَّطَةٌ فِي دَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا مُؤَجَّلَةً، قًدْ يَتَحَصَّلُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَفُوتُ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنْ بَعْضِ الأَقْسَاطِ، فَحِقِيقَتُهَا شِرَاءُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ مَمْنُوع، وَشِرَاءُ دَرَاهِمٍ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مَنْهَا وَهُوَ مَمْنُوع.
وَمِنْ جِهَةٍ فَهِيَ تُشْبِهُ بَيْعَ الآبِقِ الذِي لا يَصِحُّ بَيْعُه، فِي حَالَةِ جَهَالَةِ الحُصُولِ عَلِى العِوَضِ المَشْرُوطِ، وَقَدْ يَفُوتُ عَلَيْهِ مَعَ رَأْسِ مَاله، وِمَعَ مَا فِيهِ مِنَ الرِّبَا.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنْ أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّأْمِينِ عَلَى الحَيِاةِ هِيَ مِنَ المُعَامَلاتِ الفِاسِدَةْ، وَلِمُشَابَهَتِهَا لِعَقْدِ الْمَيْسِرِ حَقِيقَةٌ وَمَعْنَى، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
اللَّهُمَّ اجْمَعْ قُُلُوبِ المُؤْمِنِينَ عَلِى مَحَبَّتِكَ وَطَاعَتِكَ، وَأَزِلْ عَنْهُمَ مَا حَدَثَ مِنَ المنُكْرَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا التَّأْمِينُ عَلَى الأَمْوَالِ فَأَنَا أُوَضِّحُ لَكَ خَطَرَهُ وَضَرَرَهُ، وَأُمَثِّلُ لَهُ، وَأَذْكُرُ مَا تَيَسَّرِ مِنَ الأَدِلَّةِ عَلِى تَحْرِيمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِنْسَانٌ إِلَى شَرِكَةِ التَّأْمِينِ مَثَلاً: عَشْرَةِ آلافِ رِيَالٍ، لِتَأْمِينِ بِضَاعَتِهِ التِي قَيمَتُهَا نِصْفُ مُلْيُونٍ، أَوْ لِتَأْمِين مَكْتَبَتِهِ أَوْ مَطْبَعَتِهِ التِي تُسَاوِي نِصْفَ مَلْيُونٍ مَثَلاً، ثُمَّ تَلِفَتْ، فَالزَّائِدَةُ عَلِى مَا دَفَعَهُ لِلشَّرِكَةِ عَلِى أَيّ وَجْهٍ تُحِلُّ لَهُ، أليس يَقُولُ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جِائِحَةٌ، فَلا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذُ مِنْهُ شِيْئًا، بِمَ يَأْخُذُ أُحَدَكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» . رَوَاهُ مْسْلِمْ.
وَإِذَا سَلِمَتْ الْبِضَاعَةُ الْمُؤَمَّنَةُ، أَوْ الْمَطْبَعَةْ أَوْ الْمَكْتَبَةُ أَوْ الْبَيْتُ، فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَحِلُّ لِلشَّرِكَةِ أَكْلَ مَا دَفَعَهُ لَهَا مُقَسِّطًا أَوْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لا هِبَةً وَلا مِيرَاثًا وِلا وِقْفًا، أليس بِدُونِ مُقَابِلْ، أليس اللهُ جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: وُهْوَ أَصْدَقُ قَائِلْ: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} مَعَ الحَدِيثِ المُتَقَدِّمْ: «بِمَ يَأْخُذُ أُحَدَكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» أليس هَذَا العَمَلُ فِيهِ مِنَ الغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ مَا لا يَخْفَى.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْي عَنِ الْغَرَرِ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ، وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُل ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلْ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبهُ أَوْ يَنْظُرُ إليه.
وَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ المُلامَسَةِ، وَهِيَ لَمْسَ الرَّجَلِ الثَّوْبَ لا يَنْظُرُ إليه، وَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
ج
شِعْرًا:
…
لَيْسَ الظَّرِيفُ بِكَامِلٍ فِي ظَرْفِهِ
…
حَتَّى يَكُونَ عَنِ الحَرَامِ عَفِيفَا
فَإِذَا تَوَرَّعَ عَنْ مَحَارِمِ رَبِّهِ
…
فَهُنَاكَ يُدْىَ فِي الأَنِامِ ظَرِيفَا
وَقَالَ: «لا تَشْتَرُوا السَّمَك فِي المَاءِ فَإِنَّهُ غَرَرٌ» وَنَهَى عَنْ بَيْعِ حَبْلِ الحَبْلَةِ.
وَنَهَى عَنْ ضَرْبَةِ الغَائِص، وَهُوَ مَا سَيُخْرِجُهُ الغَائِصُ، وَنَهَى عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضُ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ المَغَانِمِ حَتَّى تُقَسَّم، وَنَهَى عَنْ بَيْعُ المَضَامِينَ، وَهُوَ مَا يَنْتُجُ مِنْ أَصَلابِ فُحُولِ الإِبِلِ الأَصْلِيَّةِ مِنْ نِتَاجٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الغَرَرِ وَالجَهَالَةِ.
وَقَالَ العُلَمَاءُ: وَلا يَجُوزُ بَيْعُ الآبِقِ وَالشَّارِدِ، وَلا الطَّيْرِ فِي الهَوَاءِ لأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الحُصُولِ وَعَدَمِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ النَّوَاحِي تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْمِينِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى دَاخِلٌ فِي القَرْضِ الذِي يَجُرُّ نَفْعًا وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَهُوَ قِمَارٌ، لأنَّ المُتَقَامِرَيْنِ الأَصليَيْنِ حِينَ المُقَامَرَةِ لا يَدْرِي كُلٌّ مِنْهُمَا لِمَنْ تُكُونَ الغَلَبَةُ، حَتَّى يَكُونُ المَالُ الذِي اتَّفَقَا أَنْ يَدْفَعَهُ الْمَقْمُورُ وَهَكَذَا الحَالُ هُنَا وَمَا يُرَى مِن أَخْذِ الشَّرِكَةِ مَالَ المُتَعَاقِدِ أَوَّلاً لا عِبْرَةً بِهِ، فَقْدَ يَنْقَلِبُ الأمْرُ، وَتَكُونُ هِيَ الدَّافِعَةُ، وَكَمَا أَنَّ المُقُامِرَ يَعْتَمِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حَظِّهِ، وَيَنْتَظِرُ مَا يَنْكَشِفُ مِمَّا غُيِّبَ لَهُ أَوْ لِصَاحِبِهِ، فَكَذَلِكِ الأَمْرُ هُنَا، لا مُرَجِّحَ لأَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ فِي الأَخْذِ أَوْ الدَّفْعِ، وَمَا تَرِاهُ مِنَ الرُّجْحَانِ فِي جَانِبِ الشَّرِكَةِ قَدْ يَنْقَلِبُ مَرْجُوحًا.
وَكَمَا أَنَّ المُشْتَغِلينَ بِاللَّعِبِ بِالقُمَارِ لم يَعْمَلْ أَحَدُهُمَا عَمْلاً يُفِيدُ صَاحِبَهُ أَي فَائِدَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا المََبْلَغُ الذِي يَأْخُذُهُ مِنْهُ لَوْ غَلَبَهُ، فَالأمْرُ فِي هَذِهِ الشَّرِكَاتِ وَمَنْ يَتَعَاقَدُ مَعَهَا كَذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الدَّفْعَ فِي القِمَارِ يَكُونُ مِنْ جَاِنبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الجَانِبُ المَغْلُوبُ فَالأمرُ هُنَا كَذِلَكَ.
وَكَمَا أَنَّ المُشْتَغِلِينَ بِلِعْبِِ القُمَارِ، لَمْ يَعْمَلْ أَحَدُهُمَا عَمَلاً يُفِيدُ مِنْهُمَا، وَبِنَاءٌ عَلَيْهِ يَدْفَعُ المَالَ الْمَشْرُوطَ، فَكَذَلِكَ هُنَا، تَقُولُ الشِّرِكَة لَهُ: إِنْ احْتَرَقَ الْبَيْتُ، أَوْ المُسْتَوْدَعُ، أَوْ الْمَكْتَبَةُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَخَذْتُ مِنِي قَيمَتُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَرِقُ، أَسْتَمِرُّ أَنَا آخُذُهَا مَا تَدْفَعُهُ لِي، إِنْ كَانَ مُقَسَّطًا، فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ الضَّمَانِ.
وَكَمَا أَنَّ الْمُتَقَامِرِينِ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي وَجَلِ مِنْ ظُهُورِ الغَلَبَةِ فِي جَانِبِ صَاحِبِهِ وَيُسَرُّ كُلَّ السُّرُورِ، وَإِذَا ظَهَرْتَ نَتِيجَةُ اللَّعِبِ فِي نَاحِيَتِهِ كَذَلِكَ الحَالُ هُنَا، فَالشَّرِكَةُ مَا دَامَ هَذَا الْمَغْرُورُ - الذِي هُوَ صَاحِبُهَا – يَدْفَعُ، وَفِي جَانِبِهَا الاطمِئْنَانُ عَلَى الْمَنْزِلِ فِي سُرُورٍ، إِلا أَنَّهَا مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى مَمْلُوءَةً رُعْبًا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَطْرَأ الطَّارِئُ المَخُوفُ الذِي بِهِ تُصْبِحُ مُكُلَّفَةً بِدَفْعِ الضَّمَانِ، وَالمُتَعَاقِدُ دَائِمًا فِي أَلَمٍ وَهَمٍّ، مِنْ دَفْعِهِ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ نَفْسَهُ بِهِ، لأَنَّهُ فِي هَذِهِ الحَالَةِ فِي مَظْهَرِ الْمَغْلُوبِ، لَكِنْ لَوْ حَدَثَ بِالمَنْزِلِ حَرِيقٌ يُفْزِعُهُ لَوْ حَصَلَ وَلا ضَمَانٌ – تَرَاهُ فِي مُنْتَهَى الفَرَحِ وَالسُّرُورِ، لأَنَّهُ فِي اطْمِئْنَانٍ عَلَى قِيمَةِ الْمَنْزِلِ، كَأَنَّهَا فِي جَيْبِهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَإِنْ غُلِبَتْ الشَّرِكَةُ فَهِي تَغْلِبُ مَرَّاتٍ لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَالشَّرِكَةُ غَالِبًا تُعَامِلُ بِالرِّبَا، لأنَّهَا تُعْطِي الأَمْوَالَ بِفَوْائِدَ، فَالمَالُ بِاخْتِلاطِهِ بِالأَمْوَالِ الرَّبَوِّيَةِ، وَبِاسْتِعْمَاله فِي الرِّبَا أَصْبَحَ خَبِيثًا مُلَوَّثًا، ثُمَّ بِرَدِ مَبْلَغٍ مِنَ الرِّبَا مِنَ الْمَبْلَغِ الأَصلي، يَزِيدُ خُبْثًا عَلَى خُبْثِهِ، فَيَكُون الدَّافِعُ لِلشَّرِكَةِ - الذِي هُوَ المُؤَمِّنُ - قَدْ أَعَانَ عَلَى فُشُوِّ الرِّبَا، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ:{وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} .
شِعْرًا:
…
زِيَادَةُ المَالِ مِنْ رِبْحِ البُنُوكِ وِمَا
…
ضَاهَى البُنُوكَ مِنَ الأَرْبَاحِ خُسْرَانِ
فَاْحَذْر مَكَاسِبِهَا إِنْ كُنْتَ ذَا وَرِعِ
…
فَفِي الحَلالِ لأَهْلِ الدِّين غُنْيَانُ