المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من علامات الساعة العظمى خروج يأجوج ومأجوج - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٥

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌من علامات الساعة العظمى خروج يأجوج ومأجوج

الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيدعو الناس إلى الإسلام، ويُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إلَاّ الإِسْلامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، ثُمَّ تَقَعُ الأَماَنَةُ على الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الأُسُودُ مَعَ الإِبِل، وَالنِّمارُ مَعَ البَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لا تَضُرُّهُمْ» الحَدِيث.

وَ‌

‌مِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى خُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

وَهُوَ ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثُ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُوحَي إِلَى عِيسَى بنِ مَرْيَمَ عليه السلام بَعْدَ قَتْلِهِ لِلدَجَّال: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لا يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَاءٌ، وَيَحْصُرونَُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ» .

وَقَال صلى الله عليه وسلم: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مَنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَةُ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَنُزُولُ عِيسَى بنِ مَرْيَمَ، وَثَلاثَةُ خُسُوفَاتٍ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ» الحَدِيث، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بنِ أُسَيْدٍ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ وَذَكَرَ فِيهِ:«خَسْفٌ بِالمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ العَرَبِ» .

ص: 339

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيُحَجَّنَّ هَذَا البَيْتَ وَليُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجٌ» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيّ.

وَمِنَ العَلامَاتِ العُظْمَى هَدْمُ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ. أَخْرَجَ البُخَارِيّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ» ، وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما نَحْوَهُ وَزَادَ:«وَيَسْلِبُهَا حُلِيَّهَا، وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كِسْوَتِهَا، فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أُصَيْلِعَ أُفَيْدِعَ يَضْرِبُ عَلَيْهَا بِمِسْحَاتِهِ أَوْ مِعْوَلِهِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَأَنِّي أَنْظُرُ إليه - يَعْنِي ذَا السُّوَيْقَتَيْنِ - أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَنْقُضُهَا حَجَرًا حَجَرًا» يَعْنِي الكَعْبَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْرُجُ ذُو السَّوَيْقَتَيْنِ عَلَى الكَعْبَةِ» ، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «فَيَهْدِمُهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَرَوَى البَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُحَجَّ البَيْتُ» .

وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى: الدُّخَانُ، قَالَ العُلَمَاءُ: آيَةُ الدُّخَانُ ثَابِتَةٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالحَسَنُ وَزَيْدُ بنُ عَلِيّ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى: هُوَ دُخَانٌ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ يَدْخُلُ فِي أَسْمَاعِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَيَعْتَرِي المُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، وَتَكُونُ الأَرْضُ كُلُّهَا كَبَيْتٍ

ص: 340

أَوْقِدَ فِيهِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ:«مَا تَذَاكَرُونَ» ؟ قَالُوا: السَّاعَة يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا فِيهَا آيَاتٍ» فَذَكَرَ مِنْهَا الدُّخَانُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْنُ مَاجَة، وَأَنَّهُ يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وِفِي حِدِيثِ حُذَيْفَةَ بنِ إليمَانِ رضي الله عنه:«إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ دُخَانَا يَمْلأ مَا بَيْنَ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبِ، يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأَمَّا المُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ شِبْهُ الزّكَامِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ السَّكْرَانِ يَخْرُجُ الدُّخَانُ مِنْ فِيهِ وَمِنْخَرِيهِ، وَعَيْنَيْهِ وَأُذَنَيْهِ وَدُبُرِهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي.

وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى رَفْعُ القُرْآنِ العَظِيمُ مِنَ الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ مُعْضِلاتِ الأُمُورِ، فَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا:«يُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ لَيْلاً فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ مَنْهُ آيَةٌ وَلا حَرْفٌ فِي جُوْفٍ إِلا نُسِخَتْ» ، وَعِنْدَ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما:«لا تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْجِعَ القُرْآنُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، لَهُ دَوِيٌّ حَوْلَ العَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: مَا لكَ؟ فَيَقُولُ: مِنْكَ خَرَجْتُ وَإليك أَعُودُ، أُتْلَى فَلا يُعْمَلُ بِي» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَة مِنْ َحَدِيثِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه مرفوعًا:«يَدْرَسُ الإِسْلامُ حَتَّى لا يَدْرُونَ مَا صِيَامٌ وَلا صَلاةٌ وَلا نُسُكٌ وَلا صَدَقَةٌ، وَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ فِي لَيْلَةٍ فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ» .

فَعَلَيْكَ يَا أَخِي بِالإكثار مِنْ تَلاوَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَع.

شِعْرًا:

أَعَزُّ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا بَيْتُ ربِّنَا

وَخَيْرُ جَلِيسٍ فِي الزَّمَانِ كِتَابُهُ

آخر:

عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ

فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنْ يَذْكُر

ص: 341

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ اليوم الذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِإحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَاجْعَلْ رَغْبَتَنَا فِيمَا لَدَيْكَ وَلا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلا تَطْرُدْنَا بِعُيوبِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطُهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. قَالَ العُلَمَاءُ رحمهم الله: طُلُوع الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} .

إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلَمٌ فِي صَحِيحِه عَنْ عَبْدُ اللهِ بنِ عَمْرُو بنِ العَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ الدَّابَةِ عَلَى النَّاسِ ضُحَى، وَأَيَّتُهُمَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالأُخْرَى عَلَى أَثَرِهُا قَرِيبًا مِنْهَا» ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرِّ الغَفَارِيّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا:«أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ» ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ العَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا تَجْرِي لا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَلِكَ تَحْتَ العَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي

ص: 342

ارْتَفِعِي، أصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا» ، فَقَالَ عليه السلام: «أَتَدْرُونَ مَتَى ذَلِكُمْ؟ حِينَ {لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} الآيَة.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلَعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا جَمِيعًا، فَذَلِكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيّ.

وَعَنْ صَفْوَانَ بنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ قِبَلِ مَغْرِبَ الشَّمْسِ بَابًا مَفْتُوحًا عَرْضُهُ سَبْعُونَ سَنَةً، فَلا يَزَالُ ذَلِكَ مَفتُوحًا لِلتَّوْبَةِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ نَحْوِهِ {لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَة.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعِينَ، فَذَلِكَ حِينَ {لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} » فَقَرَأَ الآيةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَالمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْتِي بَعْضُ الآيَاتِ لا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ إِنْ آمَنَ بَعْدَ إِتْيَانِهَا، وَلا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ المُقَصِّرِ أَنْ يُزَادَ خَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يَنْفَعُه مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الإيمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الخَيْرِ المَوْجُودِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِي بَعْضُ الآيَاتِ وَالحِكْمَةُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ الإيمَانُ يَنْفَعُ إِذَا كَانَ بِالْغَيْبِ وَكَانَ اخْتِيَارًا مِنَ العَبْدِ، فَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِ الآيَاتِ فَيَصِيرُ الأمْرُ شَهَادَةً، وَلَمْ يَبْقَ لِلإيْمَانِ فَائِدَةٌ لأَنَّهُ يُشْبِهُ الإيمَانَ الضَّرُورَيّ وَلِهَذَا لَمَّا أَدْرَكَ فِرْعَوْنَ الغَرَقُ، وَجَزَمَ بِالهَلاكِ،

ص: 343

{قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلَاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، قَالَ اللهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّ هَذَا الإيمَانَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ غَيْرُ ناَفِع {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَمْثَالِ فِرْعَوْنِ مِمَّنْ عَايَنُوا بِأسَ اللهِ وَأَدْرَكُوا الغُرُورَ وَاعْتَرَفُوا بِمَا كَانُوا يُْنِكرُونَ، وَأَقَّرُوا بِوْحَدَانِيَّةِ اللهِ، وَكَفَرُوا بِشُرَكَائِهِم مِنْ دُونِهِ، وَلَكِن الأَوَانَ كَانَ قَدْ فَاتَ:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} ذَلِكَ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ قَدْ جَرَتْ عَلَى أَنْ لا تُقْبَلَ التَّوْبَةُ بَعْدَ ظُهُورِ بَأْسِ اللهِ فَهِيَ تَوْبَةُ فَزَعٍ وَخَوْفٍ، لا تَوْبَةُ إِيمَانٍ صَحِيحٍ.

شِعْرًا:

وَلَمَّا دَنَى مِنِّي السِّيَاقُ تَعَطَّفَتْ

عَلَيَّ وَعِنْدِي عَنْ تَعَطُّفِهَا شُغْلُ

أَتَتْ وَحِيَاضُ المَوْتِ بَيْنِي وَبَيْنِهَا

وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لا يَنْفَعُ الوَصْلُ

>?

وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الكُفَّارِ، إِذَا وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الحَالَةِ الاضْطِرَارِيَّةِ أَنَّهُ لا يَنْفَعُهُمْ الإيمَانُ، لأَنَّ إِيمَانَهُم صَارَ مُشَاهِدًا كَإِيمَانِ الوَارِدِينَ عَلَى القِيَامَةِ، وَالذِي يَنْفَعُ الإيمَانُ بِالغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فَالشَّأْنُ فِي الإيمَانُ بِالغَيْبِ الذِي لَمْ يُرَ وَلَمْ يُشَاهَدْ وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِهِ لِخَبَرِ اللهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

فَعَنْ أَبِي العَإليةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، قَالَ: يُؤْمِنُونُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخِرِ، وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، وَلِقَائِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ، وَبِالبَعْثِ فَهَذَا غَيْبٌ كُلُّهُ. أ. هـ. قَالَ فِي لَوَائِحَ الأَنَوْارَ: فَيَتَخَلَّصُ مِنْ مَجْمُوعِ الأَحَادِيثِ المَذْكُورَةِ وَمَا

ص: 344

فِي مَعْنَاهَا مِمَّا هُوَ مُسَطَّرٌ فِي الدُّرِّ المَنْثُورِ لِلسُّيُوطِي: أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا لا يَنْفَعُ الإيمَانُ المُحْدَثُ فِي ذَلِكَ اليوم لِمَنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُشْرِكًا، وَلا التَّوْبَةِ المُحْدَثَةُ فِيهِ لِمَنْ كَانَ مُخَلِّطًا، وَلا أَعْمَالُ البِرِّ المُحْدَثَةِ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْمَلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ اليوم، وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا فَإِنَّ الإِيمَانَ المُجَرَّدَ عَنِ الأَعْمَالِ السَّابِقَةِ عَلَى ذَلِكَ اليوم يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، لأجْلِ نَجَاتِهِ وَإيمَانِهِ المُتَجَدِّدِ يَوْمَئِذٍ يَنْفَعُهُ أَيْضًا لأَنَّهُ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ عَنْ سَيَّئَاتِهِ، وَأَنَّ الإيمَانَ السَّابِقَ مَعَ التَّخْلِيطِ يَنْفَعُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي كَانَ يَعْمَلُهَا، وَإِنَّمَا المَمْنُوعُ قُبُولُ تَوْبَتِهِ عَنْ تَخْلِيطِهِ، وَقَبُولُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهِ مِنَ الإيمَانِ وَأَعْمَالِ البَرِّ قَبْلَ ذَلِكَ اليوم، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلّ بِرٍّ مُحْدَثٍ يَكُونُ السَّبَبُ فِي إِحْدَاثِهِ رُؤْيَةَ الآيَةِ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلُهُ، لا يَنْفَعُ سَوَاءً كَانَ مِنَ الأُصُولِ أَوْ الفُرُوعِ، وَكُلُّ بِرٍّ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِكَوْنِ صَاحِبِهِ كَانَ عَامِلاً بِهِ قَبْلَ رُؤْيَةَ الآيَةِ يَنْفَعُ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ نَبَّهَ عَلَى مِثْلِهِ الإِمَامُ المُحَقِّقُ العَلامَةُ ابْنُ مُفْلِح فِي الآدَابِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا طَبَعَ اللهُ عز وجل عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكَفَى النَّاسُ العَمَلُ» : ليْسَ المُرَادُ بِهَذَا الخَبَرِ تَرْكُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الفَرِائِضِ – أَيْ وَكَذَا مِنَ النَّوَافِلِ – قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ، فَيَجِبُ الإِتْيَانِ بِمَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الفَرَائِض قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَنْفَعُهُ مَا يَأتيْ بهِ مِنْ الإيْمَانِ الذِيْ كَانَ َيأتيْ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَفَى النَّاسَ العَمَلُ، أَيْ: عَمَلاً لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَهُ. وَحَكَى ابْنُ الجَوْزِي عَنِ الضَّحَاكِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ بَعْضُ الآيَاتِ وَهُوَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ مَعَ إِيمَانِهِ قُبِلَ مِنْهُ كَمَا يُقْبَلُ مِنْهُ قَبْلَ الآيَةِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: فَالعَمَلُ الصَّالِحُ الذِي سَبَبَهُ ظُهُورُ الآيِةِ اضْطَرَّتْهُ إليه، وَأَمَّا مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فَظُهُورُ الآيَةِ لا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِ، فَبَقِيَ الحُكْمُ كَمَا قَبْلَ الآيَةِ.

ص: 345

اللَّهُمَّ قَوِ إِيمانَنَا بِكَ وبملائكتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وباليوم الآخر وبالقدرِ خيرِه وشرِّهِ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلى قَولِكَ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا:

كُلٌّ يَزُولُ وَكُلٌّ هَالِكٌ فَان

إِلا الإِلهُ وَمَا للهِ مِنْ ثانِ

قَضَى وَقَدَّرَ تَقْدِيرًا فَأَتْقَنَهُ

سُبْحَانَهُ هُوَ ذُو عِزٍّ وَسُلْطَانِ

فَارْضُوا بِمَا قَدَّرَ الجَبَّارُ وَاحْتَسِبُوا

إِنَّ الرِضَا بِالقَضَا حَقٌّ لِدَيَّانِ

وَبَادِرُوا بِثَنَاءِ اللهِ وَارْتَجِعُوا

عِنْدَ المَصَائِبِ فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ

لا تَأْسَفَنَّ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عَرَضٍ

فَالرَّبُ يَخْلِفُهُ فَضْلاً بِإِحْسَانِ

هَذِي الحَيَاةُ وَرَبِي صَفْوُهَا كَدَرٌ

لا بُدَّ زَائِلَةٌ عَنْ كُلِّ إِنْسَانِ

يَشْقَى اللَّبِيبُ وَيُمْسِي فِيهَا ذَا عَطَبٍ

تَبًا لَهَا دَارُ أَكْدَارٍ وَأَحْزَانِ

إِنَّ المُصَابَ الذِي يَأْتِي بِلا عَمْلِ

يَوْمَ المَعَادِ وَمَنْ يُجْزَى بِحِرْمَانِ

وَمَا أَصَابَ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ ضَرِرٍ

إِلا بِظُلِمِهُمُوا شُؤْمٍ وَعِصْيَانِ

>?

ص: 346

.. نَسْتَغْفِرُ اللهَ قَدْ بَانَتْ جَرَاءَتُنَا

عَلَى إلا إلَهَ وَلَمْ نَسْخَطْ لِشْيَطَانِ

نَحُنُ المُسِيئوُنَ نَحْنُ التَّابِعُونَ هَوَى

نَحْنُ الأُلَى خَلَطُوا ذَنْبًا بِعِصْيَانِ

وَنَحْنُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا أُرِيدَ بِنَا

وَالكُلُّ فِي سَكْرَةٍ وَيْحًا لِسَكْرَانِ

وَلَمْ نُرَاقِبْ إِلَهَ العَرْشِ فِي عَمَلِ

وَذَا وَرَبَّكَ مِنَّا ضُعْفُ إِيمَانِ

>?

اللَّهُمَّ ثَبَّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَوَفَّقْنَا لِشُكْرَكَ وَذِكْرَكَ وَارْزُقْنَا التَّأَهُبَ وَالاسْتِعْدَادِ لِلقَائِكَ وَاجْعَلْ خَتَامَ صَحَائِفِنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدَ وَاغْفِرْ لَنَا.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ وَمَحَبَّةِ كُتُبِكَ وَمَلائِكَتِكَ وَرُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ فِي قُلُوبِنَا ثُُبُوتِ الجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا خُرُوجُ الدَّابَّةِ مِنَ الأَرْضِ، وَخُرُوجُهَا ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} وَهَذِهِ الدَّابَّة تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ، وَتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللهِ، وَتَبْدِيلِهِمْ الدِّينَ الحَقَّ وَتُكَلِّمَهُمْ، وَالدَّلِيلِ مَنَ السُّنَّةِ مَا وَرَدَ عَنْ حُذَيْفَةِ بنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ» فَذَكَرَ مِنْهَا الدَّابَّةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمُ.

ص: 347

وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا» فَذَكَرَ: «وَدَابَّةَ الأَرْضِ» . رَوَاهُ ابنُ مَاجَة، وَعَنْ طَلْحَةَ بنِ عُمَرَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ جَاءَ فِيهِ: قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّابَّةَ فَقَالَ: «لَهَا ثَلاثٌ خَرَجَاتٍ فِي الدَّهْرِ، فَتَخْرُجُ خَرْجَةً مِنْ أَقْصَى البَادِيَةِ، وَلا يَدْخُلُ ذِكْرُهَا القَرْيَةَ، أَعْنِي مَكَةَ، ثُمَّ تَكْمُنُ زَمَنًا طَوِيلاً، ثُمَّ تَخْرُجُ خَرْجَةً أُخْرَى دُونَ تِلْكَ، فَيَعْلُوا ذِكْرُهَا فِي أَهْلِ البَادِيَةِ، وَيَدْخُلُ ذِكْرُهَا القَرْيَةَ» ، يَعْنِي مَكَة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«ثُمَّ بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَعْظَمِ المَسَاجِدِ وَأَكْرَمِهَا المَسْجِدِ الحَرَامِ، لَمْ يَرُعْهُم إِلا وَهِي تَرْغُوا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالمَقَامِ، تَنْفُضُ عَنْ رَأْسِهَا التُّرَابَ فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا شَتَّى وَمَعَا، وَتَثْبُتُ عِصَابَةٌ مِنْ المُؤْمِنِينَ وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللهَ، فَبَدَأَتْ بِهِمْ فَجَلَتْ وُجُوهَهُم حَتَّى جَعَلَتْهَا كَالْكَوْبِ الدُّرِيّ، وَوَلَّتْ فِي الأَرْضِ لا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ، وَلا يَنْجُو مِنْهَا هَارَبٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَعَوَّذُ مِنْهَا فِي الصَّلاةِ، فَتَأْتِيهُ مِنْ خَلْفِهِ فَتَقُولُ: يَا فُلانُ الآنَ تُصلى، فَيُقْبلُ عَلَيْهَا فَتَسِمُه فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ تَنْطَلِقُ، وَيَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي الأَمْوَالِ وَيَصْطَحِبُونَ فِي الأَمْصَارِ، يُعْرَفُ المُؤْمِنُ مِنَ الكَافِرِ، حَتَّى إِنَّ المُؤْمِنَ لِيَقُولَ: يَا كَافِرُ اقْضِنِي حَقِّي، وَحَتَّى إِنَّ الكَافِرَ يَقُولُ: يَا مُؤْمِنُ اقْضِنِي حَقِّي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانُ، وَعَصَا مُوسَى بنِ عُمْرَانَ عليهما السلام، فَتَجْلُو وَجْهَ المُؤْمِنُ بِالعَصَا، وَتَخْطِمُ أَنْفَ الكَافِر بِالخَاتَمِ، حَتَّى إَنَّ أَهْلَ الخِوَانِ لَيْجَتَمِعُونَ، فَيَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذَا: يَا كَافِرُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة، وَأَحْمَدُ.

ص: 348

وَمِن عَلامَاتَ السَّاعَةِ خَرُوجُ النَّارِ التِي تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدْنِ تَحْشُرُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِم، تَبِيتُ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ حَيْثُ قَالُوا، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُحَشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلاثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ وَرَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلاثَةٌ عَلَى بَعِيرِ، وَعَشْرَةٌ عَلَى بَعِير، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بنِ أُسَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ» ، وَمِنْهَا:«نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ إليمَنِ تَطْرُدُ النَّاسُ إِلَى مَحْشَرِهِمْ» . رَوَاهُ السِّتَّةُ إِلا البُخَارِيّ، وَعَنْ أَنْسٍ رضي الله عنه أََنَّ عَبْدَ اللهِ بنِ سَلامَ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. فَقَالَ:«نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إِلَى المَغْرِبِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، أَوْ مِنْ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ تَحْشُرُ النَّاسَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا تَأْمُرنَا؟ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيّ.

تَنْبِيهٌ:

وَرَدَ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ إِلا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَجِيءُ بَعْدَ عِيسَى عليه السلام رِيحٌ بَارِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلا تُبْقِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الإِيمَانِ إلا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ

ص: 349

فِي كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلامِ السِّبَاعِ، لا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُونَ مَا تَأْمُرَنَا؟ فَيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ فَيَعْبُدُونَهَا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهم، حَسَنٌ عَيْشُهُم، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» . وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا، وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ:«فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُ تَحْتَ آبَاطِهِم، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِن وَكُلَّ مُسْلِم، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ تَهَارُجَ الحُمُرِ» - أَيْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدَ الحُمُرِ جَمْعُ حِمَار -: «فَعَلَيْهِم تَقُومُ السَّاعَةُ» .

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الحَاكِمْ: «أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ إليمَنِ ألينُ مِنَ الحرير فَلا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلا قَبَضَتْهُ» .

وَقَالَ السَّفَارِينِي نَاظِمًا لِلْعَلامَاتِ العِظَامِ، وَالأَشْرَاطِ الجِسَامِ التِي تَعْقِبُهَا السَّاعَةُ:

وَمَا أَتَى بِالنَّصِ مِنْ أَشْرَاطَ

فَكُلُّهُ حَقٌّ بِلا شِطَاط

مِنْهَا الإِمَامُ الخَاتِمُ الفَصِيحُ

مُحَمَّدُ المَهْدِيُّ وَالمَسِيحُ

وَأَنَّهُ يَقْتُلُ لِلْدَّجَّالِ

بِبَابِ لِدُّخَلِّ عَنْ جِدَالِ

وَأَمْرَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَثْبتِ

فَإِنَّهُ حَقٌّ كَهَدْمِ الكَعْبَةِ

>?

ص: 350

.. وَأَنَّ مِنْهَا آيَةُ الدُّخَانِ

وَأَنَّهُ يُذْهَبُ بِالقُرْآنِ

طُلُوعُ شَمْسِ الأُفْقِ مِنْ دَبُورِ

كَذَاتِ أَجْيَادٍ عَلَى المَشْهُورِ

وَآخِرُ الآيَاتِ حَشْرُ النَّارِ

كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الأَخْبَارِ

فَكُلُّهَا صَحَّتْ بِهَا الأَخْبَارُ

وَسَطَّرَتْ آثَارَهَا الأَخْيَارُ

>?

وَقَالَ القَحْطَانِي:

أَيقِن بِأَشرَاطِ القِيَامَةِ كُلَِّهَا

واسْمَعُ هُدِيتَ نَصيحتى وَبَيَانِي

كَالشَّمْسِ تَطلُعُ مِنْ مَكانِ غُرُوبِهَا

وَخُرُوجِ دَجَّالٍ وَهَوْلِ دُخَانِ

وَخُرُوجِ يَأْجُوجٍ وَمأَجُوجٍ مَعًا

مِنْ كُلِّ صَقْعٍ شَاسِعٍ وَمَكَانِ

(وَنُزُولِ عِيسَى قَاتِلاً دَجَّالَهُمْ

يَقْضِي بِحُكْمِ العَدْلِ وَالإِحْسَانِ)

>?

اللَّهُمَّ يَا مُصْلِحَ الصَّالِحِينَ أَصْلِحْ فَسَادَ قُلُوبِنَا واسْتُرْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عُيُوبَنَا وَاغْفِرْ بِعَفْوكَ وَرَحْمَتِكَ ذُنُوبَنَا وَهَبْ لَنَا مُوبِقَاتِ الْجَرَائِر واسترْ عَلَيْنَا فَاضِحَاتِ السَّرَائِر ولا تُخلِنَا في مَوْقَفِ الْقِيَامَةِ مِنْ بَرْدِ عَفْوِكَ وَغُفْرانِكَ وَلا تَتْرُكْنَا مِنْ جَمِيلِ صَفْحِكَ وَإحْسَانِكَ، وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخَرِةَ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 351

(فَصْلٌ)

اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ المُسْلِمِينَ أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى خَلَقَ الخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ، وَيَعْرِفُوهُ وَيَخْشَوْهُ وَيَخَافُوهُ، وَنَصَبَ لَهُمْ الأَدِلّةَ الدَّالَةَ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ لِيَهَابُوهُ، وَيَخَافُوهُ خَوْفَ إِجْلالٍ، وَوَصَفَ لَهُمْ شِدَّةَ عَذَابِهِ، وَدَارَ عِقَابِهِ التِي أَعَدَّهَا لِمَنْ عَصَاهُ لِيَتَّقُوهُ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ سبحانه وتعالى فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ النَّارِ وَمَا أَعَدَّهُ فِيهَا لأَعْدَائِهِ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالأَغْلالِ، وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُومِ واَلحَمِيمِ وَالسَّلاسِلِ وَالغَسَّاقِ وَالغِسْلِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهَا مِنَ الأَهْوَالِ وَالفَضَائِع وَالعَظَائِم، وَدَعَا عِبَادَهُ بِذَلِكَ إِلَى خَشْيَتِهِ وَتَقْوَاهُ، وَالمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِ مَا يَأْمُر بِهِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَاجْتِنَابِ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَكْرَهُه وَيَأْبَاهُ، وَأَخْبَرَ جَلَّ وَعَلا بِأَنَّ الخَلْقَ وَارِدُوهَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} فَأَنْتَ مِنَ الوُرُودِ عَلَى يَقِينٍ، وَمِنَ النَّجَاةِ عَلَى شَكٍّ، فَيَا أَيُّهَا الغَافِلُ السَّاهِي عَنْ نَفْسِهِ، المَغْرُورُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الاشْتِغَالِ بِعَمَائِرِهِ وَأَرَاضِيهِ وَسَيَّارَاتِهِ، وَشَرِكَاتِهِ وَمُقَاوَلاتِهِ وَزَوْجَاتِهِ وَأَوْلادِهِ، وَكُلِّ مَا يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَالالْتِفَاتِ إِلَى دَارِ القَرَارِ، دَعْ التَّفَكُّرَ وَقَتْلَ الوَقْتِ فِيمَا أَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُ، وَجَادٌّ فِي السَّيْرِ عَنْهُ، وَاصْرِفْ فِكْرَكَ فِيمَا أَمَامَكْ فَاسْتَشْعِرْ فِي قَلْبِكَ هَوْلَ ذَلِكَ المَوْرِدِ لَعَلَّكَ تَسْتَعِدّ لِلنَّجَاةِ مِنْهُ وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ الخَلْقِ وَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} تَفَكَّرْ فِي ازْدِحَامِ الخَلائِقِ وَقَدْ صَهَرَتْهُم الشَّمْسُ، إِلا مَنْ أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ، وَاشْتَدَّ الكَرْبُ وَالغَمُّ مِنَ الوَهَجِ، وَتَدَافَعَتْ الخَلائِقُ لِشِدَّةِ

ص: 352

الزِّحَامِ، وَاخْتِلافِ الأقْدَامِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شِدَّةُ الخَجَلِ وَالحَيَاءِ، وَالخَوْفِ مِنَ الفَضَائِحِ وَالاخْتِزَاءِ عِنْدَ العَرْضِ عَلَى الجَبَّارِ، وَقُرْبُ الشَّمْسُ مِنَ الخَلْقِ فَيَبْلُغُ عَرَقُهم فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ:

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُم فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا» .

شِعْرًا:

يَضْحَكُ المَرْءُ وَالبُكَاءُ أَمَامَهُ

وَيَرْومُ البَقَاءِ وَالمَوْتُ رَامَهْ

وَيَمْشِي الحَدِيثُ فِي كُلِّ لَغْوٍ

وَيُخْلَى حَدِيثُ يَوْمَ القِيَامَةِ

وَلأمْرٌ بَكَاهُ كُلُّ لَبِيبٍ

وَنَفَى فِي الضَّلامِ عَنْهُ مَنَامَهْ

صَاحِ حَدِّثْ حَدِيثَهُ وَاخْتَصرْهْ

فَمُحَالٌ بِأَنْ تُطِيقُ تَمَامَهْ

عَجَزَ الوَاصِفُونَ عَنْهُ فَقَالُوا

لَمْ نَجِي مِنْ بِحَارِهِ بِكُضَامَهْ

فَلْتُحَدِّثْهُ جُمْلَةً وَشَتَاتًا

وَدَعْ الآنَ شَرْحَهُ وَنِظَامَهْ

آخر:

وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ

بِمَوْقِف عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

كَأَنَّا نَرَى أَنْ لا نَشُورَ وَأَنَّنَا

سُدَى مَا لَنَا بَعْدَ المَمَاتِ مَصَادِرُ

أَلا لا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا

وَتَشْغَلُنَا اللذَّاتِ عَمَّا نُحَاذِرُ

فَصْلٌ: وَتَأَمَّلْ صِفَةَ يَوْمِ القِيَامَةِ وَدَوَاهِيهِ، لَعَلَّكَ أَنْ تَسْتِعِدَّ لَهُ قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَ الرُّوحُ البَدَنَ، وَيُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَتَنْدَم حِينَ لا يَنْفَعُكَ النَّدَمُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ اليوم الرَّهِيبُ تَنْفَطِرُ السَّماَءُ وَالكَوَاكِبُ تَنْتَثِرُ، وَالبِحَارُ تُفَجَّرُ وَالنُّجُومُ تَنْكَدِرُ، وَالشَّمْسُ تُكَوَّرُ وَالجِبَالُ تُسَيَّرُ، وَالعِشَارُ

ص: 353

تُعَطَّلُ، وَالوُحُوشُ تُحْشَرُ، وَالنُّفُوسُ تُزَوَّجُ، وَالجَحِيمُ تُسَعَّرُ وَالجَنَّةْ تُقَرَّبُ، وَالأَرْضُ تُمَدُّ يَوْمَ تَرَى الأَرْضَ قَدْ زُلْزِلَتْ، وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يَوْمَ تُحْمَلُ {الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً} ، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} ، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ، يَوْمَ تُرَجُّ الأَرْضُ رَجَّا، وَتُبَسُّ الجِبَالُ بِسَّا، يَوْمَ {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} يَوْمَ يَنْسِفُ اللهُ الجِبَالَ {نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} يَوْمَ {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يَوْمَ تَنْشَقُّ فِيهِ السَّمَاءُ فَتَكُونُ {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ، {َيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} ، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .

شِعْرًا:

وَبَعدَ دُخُولِ القَبْرِ يَا نَفْسُ كُرْبَةٌ

وَهَوْلٌ تُشِيبُ المُرْضِعِينَ زَلازِلُهْ

إِذَا الأَرْضُ خَفَّتْ بَعْدَ ثَقْلِ جِبَالِهَا

وَخَلَّى سَبِيلَ البَحْرِ يَا نَفْسُ سِاحِلُهْ

فلا يَرْتَجِي عَوْنًا عَلَى حَمْلِ وِزْرِهِ

مُسِيءٌ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالوِزْرِ حَاِمِلُهْ

إِذَا الجَسَدُ المَعْمُورُ زَايلَ رُوحَهُ

خَوَى وجَمَالُ البَيْتِ يَا نَفْسُ آهِلُهْ

ص: 354

وَقَدْ كَانِ فِيهِ الرُّوحُ حَيًّا يَزِينُهُ

وَمَا الغِمْدُ لَولا نَصْلُهُ وَحَمَائِلُهُ

يُزَايلُُنِي مَالِي إَذِا النَّفْسُ حَشْرَجَت

وَأَهْلِي وَكَدْحِي لازِمِي لا أُزَايِلُهْ

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} ، وَقَالَ:{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} ، وَقَالَ:{وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً} الآيَة. {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، {يَوْمَ تَبْلُوا كُل نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} ، يَوْمَ تَعْلَمُ فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْ وَتَشْهَدُ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ، يَوْمَ تَخْرُسُ فِيهِ الأَلْسُنُ، وِتَنْطِقُ فِيهِ الجَوَارِحُ، يَوْمٌ شَيَّبَ ذِكْرُهُ سَيَّدَ المُرْسَلِينَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإَذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيَ وَحَسَّنَهُ.

شِعْرًا:

لأَمْرِ مَا تَصَّدُعَتِ القُلُوبُ

وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيبُ

وَبَاتَتْ فِي الجَوَانِحِ نَارُ ذِكْرَى

لَهَا مِنْ خَارِج أَثَرٌ عَجِيبُ

وَمَا خَفَّ اللَّبِيبُ لِغَيْرِ شَيْءٍ

وَلا أَعْيَا بِمَنطِقِهِ الأَرِيبُ

ذَرَاهُ لائِمَاُه فَلا تُلُومَا

فَرُبَّتَ لائِمٍ فِيهِ يَحُوبُ

رَأَى الأَيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهِ

مُرُورَ الرِّيحِ يَدْفَعُهَا الهُبُوبُ

وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ إِلا

وَمِنْ جُثْمَانِهِ فِيهِ نَصِيبُ

وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ

بِهِ الولْدَانُ مِنْ رَوْعٍ تَشِيبُ

وَهَذَا المَوْتُ يُدْنِيهِ إليه

كَمَا يُدْنِي إِلَى الهَرَمِ المَشِيبُ

مَقَامٌ تٌسْتَلَذُّ بِهِ المَنَايَا

وَتُدْعَى فِيهِ لَوْ كَانَتْ تُجِيبُ

وَمَاذَا الوَصْفُ بِالِغُهُ وَلَكِنْ

هِيَ الأَمْثَالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيبُ

ص: 355

اللَّهُمَّ اقْبَلْ تَوْبَتَنَا وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا وَأَجِبْ دَعْوَتَنَا وَثَبِّتْ حُجَّتَنَا وَاهْدِ قُلُوبَنَا وَسَدّدْ أَلْسِنَتَنَا وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قُلُوبِنَا وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {اليوم نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وَقَالَ:{بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} قَالَ المُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونُ الشِّرْكَ وَتَكْذِيبَ الرُّسُلِ، فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ خَتْمًا لا يَقْدِرُونَ مَعَهُ عَلَى الكَلامِ، وَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلهُمْ عَلَيْهم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ، بَعْدَ إِقْدَارِ اللهِ تَعَالَى لَهَا عَلَى الكَلامِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنِّسَائِيّ، وَالبَزَّارُ وَغَيْرُهُم عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{اليوم نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الآيَة. قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَضَحَكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ:«أَتَدْرُونَ مَمَّ أَضْحَكْ» ؟ قُلْنَا: لا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «مِنْ مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: إِنِّي لا أُجِيزُ عَلَيَّ إِلا شَاهِدًا مِنِّي، فَيَقُولُ: {كَفَى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} وَبِالكَرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقُالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِأَعْمَاله، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَلامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلْ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَلْقَى العَبْدَ رَبَّهُ، فَيَقُولُ اللهُ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الإِبلَ، وَأَذَرُكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ.

ص: 356

فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لا، فَيُقَالُ: إِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِي فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثُ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَرَسُولِكَ، وَصليتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنَي بَخَيْرِ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: أَلا نَبْعَثُ شِاهِدًا عَلَيْكَ؟ فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ، مَنْ الذِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخْذِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَفَمُهُ وَعِظَامُه بِعَمَلِهِ مَا كَانَ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ المُنَافِقُ وَذَلِكَ الذِي يُسْخَطُ عَلَيْهِ» .

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله فِي ذِكْرِ بَعْضِ أَهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ:

وَتحَدِّثُ الأَرْضَ التِي كُنَّا بِهَا

أَخْبَارَهَا فِي الحَشْرِ لِلرَّحْمَانِ

وَتَظَلُّ تَشْهَدُ وَهِي عَدْلٌ بِالذَي

مِنْ فَوْقِهَا قَدْ أَحْدَثَ الثَّقَلانِ

وَتُمَدُّ أَيْضًا مِثْلَ مَدِّ أَدِيمِنَا

مِنْ غَيْرِ أَوْدِيَةٍ وَلا كُثْبَانِ

وَتَقِيءُ يَوْمَ العَرْضِ مِنْ أَكَبْادِهَا

كَالأَصْطِوَانِ نَفَائِسُ الأَثْمَانِ

كُلٌّ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ وَعِيَانِهِ

مَا لامْرِئٍ بِالأَخْذِ مِنْهُ يَدَانِ

وَكَذَا الجِبَالُ تُفَتُّ فَتًّا مُحْكَمًا

فَتَعُودُ مِثْلُ الرَّمْلِ ذِي الكُثْبَانِ

وَتَكُونُ كَالعِهْنِ الذِي أَلْوَانُهُ

وَصِبَاغُه مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ

>?

ص: 357

.. وَتُبَسُّ بَسًا مِثْلَ ذَاكَ فَتَنْثَنِي

مِثْلَ الهَبَاءِ لِنَاظِرِ الإِنْسَانِ

وَكَذَا البِحَارُ فَإِنَّهَا مَسْجُورَةٌ

قَدْ فُجِّرَتْ تَفْجِيرِ ذِي السُّلْطَانِ

وَكَذَالَكِ القَمَرَانِ يَأْذَنُ رَبُّنَا

لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ يَلْتَقِيَانِ

هَذِي مُكَوَّرةٌ وَهَذَا خَاسِفٌ

وَكِلاهُمَا فِي النَّارِ مَطْرُوحَانِ

وَكَوَاكِبُ الأَفْلاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا

كَلآلِئٍ نُثِرَتْ عَلَى مِيدَانِ

وَكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُّ شِقًا ظَاهِرًا

وَتَمُورُ أَيْضًا أَيَمَا مَوَرَانِ

>?

وَتَصِيرُ بَعْدَ الانْشِقَاقِ كَمِثل هَذَا المُهْلِ أَوْ تَكُ وَرْدَة كَدِهَانِ.

وَقاَلَ القَحْطَانِي رحمه الله:

يَوْمُ القِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ

لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ

يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ

وَتَشِيبُ فِيهِ مَفَارِقُ الوِلْدَانِ

يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرَيرٌ شَرُّهُ

فِي الخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّأنِ

يَوْمٌ يَجِيءُ المُتَّقُونَ لِرَبِّهِم

وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنَ العِقْيانِ

>?

ص: 358

.. وَيَجِيءُ فِيهِ المُجْرِمُونَ إِلَى لَظَى

يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُّظَ العَطْشَانِ

>?

مَوْعِظَةٌ

فَيَا أَيُّهَا المُهْمِلُونَ الغَافِلُونَ تَيَقَّظُوا فَإليكُم يُوَجَّهُ الخِطَابُ وَيَا أَيُّهَا النَائِمُونَ انْتَبِهُوا قَبْلَ أَنْ تُنَاخَ لِلرَّحِيلِ الركابْ، قَبْلَ هُجُومِ هَادِمِ اللَّذَاتِ وَمُفَرِّقَ الجَمَاعَاتِ وَمُذِلِّ الرِّقَابِ وَمُشَتِّتِ الأَحْبَابِ فَيَا لَهُ مِنْ زَائِر لا يَعُوقُهُ عَائِق وَلا يُضْرَبُ دُونَهُ حِجَاب، وَيَا لَهُ مِنْ نَازِلٍ لا يَسْتَأْذِنُ عَلَى المُلُوكِ وَلا يلِحُ مِنَ الأَبْوَابِ، وَلا يَرْحَمُ صَغِيرًا وَلا يُوَقِّر كَبِيرًا وَلا يَخَافُ عَظِيمًا وَلا يَهَابُ ألا وَأنَّ بَعْدُهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ السُّؤَالِ وَالجَوَابِ، وَوَرَاءهِ هَوْلُ البَعْثِ وَالحَشْرِ وَأَحْواله الصِّعَابِ مِنْ طُولِ المَقَامِ وَالازْدِحَامِ فِي الأَجْسَامِ وَالمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَالحِسَابِ.

نظم في البعث بعد الموت والجزاء

وَإِنَّ نَفْخَةَ إِسْرَافِيلَ ثَانِية

فِي الصُّوَرِ حَقًا فَيَحْيَى كَلُّ مَنْ قُبِرا

كَمَا بَدَا خَلْقَهُم رَبِّي يُعِيدُهُمُ

سُبْحَانَ مَنْ أَنْشَأَ الأَرْوَاحَ وَالصُّوَرا

حَتَّى إِذَا مَا دَعَا لِلْجَمْعِ صَارِخُهُ

وَكُلُّ مَيْتٍ مِنْ الأَمْوَاتِ قَدْ نُشِرَا

قَالَ الإِلَهُ قِفُوهُم لِلسُؤَال لِكَيْ

يَقْتَصُّ مَظْلُومُهُم مِمَّنْ لَهُ قَهَرَا

فَيُوقَفُونَ أُلُوفًا مِنْ سِنِينِهِم

وَالشَّمْسُ دَانيةَ وَالرَّشحُ قَدْ كَثُرَا

وَجَاءَ رَبُّك وَالأملاكُ قَاطِبةٌ

لَهُمْ صُفُوفٌ أَحَاطَتْ بِالوَرَى رُمَرَا

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِالنَّارِ تَسْحَبُهَا

خُزَّانُهَا فَأَهَللتْ كُلَّ مَنْ نَظَرَا

لَهَا زَفِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ تَغَيُّظِهَا

عَلَى العُصَاةِ وَتَرْمِي نَحْوَهُم شَرَرَا

وَيُرْسِلُ اللهُ صُحْفَ الخَلْقِ حَاوِيَةً

أَعْمَالُهم كُلُّ شَيْءٍ جَلَّ أَوْ صَغُرَا

فَمَنْ تَلقْتُه بِإليمْنَى صَحِيفَتُهُ

فَهُوَ السَّعِيدُ الذِي بِالفَوْزِ ظَفِرَا

وَمَنْ يَكُنْ بِاليدِ اليسْرَى تَنَاوَلَهَا

دَعَا ثُبُورًا وَللنِّيرَانِ قَدْ حُشِرَا

ص: 359

وَوَزْنُ أَعْمَالِهِم حَقًّا فَإِنْ ثَقُلَتْ

بِالخَيْرِ فَازَ وَإِنْ خَفّتَت فَقَدْ حُشِرَا

وَإِنْ بالمثل تُجْزَى السَّيِئَات كَمَا

يَكُونُ فِي الحَسَنَاتِ الضِّعْفِ قَدْ وَفَرَا

وَكُلُّ ذَنْبٍ سِوَى الإِشْرَاكِ يَغْفِرُهُ

رَبِّي لِمْنَ شَاءَ وَلَيْسَ الشِّرْكُ مُغْتَفَرَا

وَجَنَّةُ الخُلْدِ لا تَفْنَى وَسَاكِنُهَا

مُخَلَّدَ لَيْسَ يَخْضَى المَوْتَ وَالكِبَرَا

أَعَدَّهَا اللهُ دَارًا لِلْخُلُودِ لِمَنْ

يَخْشَى الإِلَهَ وَللنَّعْمَاءَ قَدْ شَكَرَا

وَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ الإِلَهِ بِهَا

كَمَا يَرَى النَّاسُ شَمْسَ الظُّهْرِ وَالقَمَرَا

كَذَلِكَ النَّارُ لا تَفْنَى وَسَاكِنُهَا

أَعَدَّهَا اللهُ مَوْلانَا لِمَنْ كَفَرَا

وَلا يُخَلَّدُ فِيهَا مَنْ يُوَحِّدُهُ

وَلَوْ بِسَفْكِ دَمِ المَعْصُومِ قَدْ فَجَرَا

وَكَمْ يُنَجِّي إِلَهِي بِالشَّفَاعَةِ مِنْ

خَيْرِ البَرِيَّةِ مِنْ عَاص بَهَا سُجِرَا

اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِن نَوْم الغَفْلَةِ ونَبِّهْنَا لاِغْتِنَامِ أَوقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا وَذُنُوبِنَا ولا تُوآخِذْنَا بِمَا انْطَوتْ عليه ضَمَائِرُنُا.

اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنْ الْمُخَالَفةِ والعصيانِ وألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كرِيمُ يَا مَنَّان، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ) : ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي المِيزَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَيزَانٌ حَقِيقِيّ لَهُ كفَّتَانِ وَلِسَانٌ، تُوزُنُ بِهِ أَعْمَالُ العِبَادِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{َمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى

ص: 360

الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» . الأَكثرُ عَلَى أَنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ الأُمَمِ وَلِجَمِيعَ الأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارَ تَعَدُّدِ الأَعْمَالِ المَوْزُونَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الأَشْخَاصِ، أَوْ لِلتَّفْخِيمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِل إليهمْ إِلا وَاحِدٌ، وَقِيلَ: لأَنَّ المِيزَانَ يَحْتَوِي عَلَى لِسَانٍ وَكَفَّتَيْنِ وَشَاهِينَ، وَلا يَتِمُّ الوَزْنُ إِلا بِاجْتِمَاعِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ عليه السلام: سَأَلَ رَبَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُرِيَهُ المِيزَانَ، فَأَرَاهُ كُلَّ كِفَّةٍ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَغُشِي عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: يَا إِلَهِي مَنِ الذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْلأ كِفَّتَهُ حَسَنَاتٍ؟ فَقَالَ: يَا دَاوُدَ إِنِّي إِذَا رَضِيتُ عَنْ عَبْدِي مَلأتُها بِتَمْرَةٍ.

وَأَخْرَجَ البَزَّارُ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي البَعْثِ عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيْ المِيزَانَ، وَيُوكُلُ بِهِ مَلَكٌ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ: سَعُدَ فُلانُ بنُ فُلانٍ سَعَادَةً لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ: أَلا شَقِيَ فُلانٌ شَقَاوَةً لا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا» ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارُ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا يُبْكِيكِ» ؟ قُلْتُ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُم يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ:«أَمَّا فِي ثَلاثِ مَوَاطِنَ فَلا يَذْكُرُ أَحَدًا أحَدًا: عِنْدَ المِيزَانِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَقَعُ كِتَابَهُ فِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَاله أَمْ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَعِنْد الصِّرَاطِ إَذَا وَضَعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ حَتَّى يَجُوزَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

فَلا تَغْفَلْ عَنِ المِيزَانِ بِلْ فَكِّرْ فِيهِ وَخَطَرِهِ، وَأَنَّ الأَعْيُنَ شَاخِصَةٌ إِلَى لِسَانِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لا يَنْجُو مِنْ خَطَرِهِ إِلا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا،

ص: 361

وَوَزْنَ أَعْمَاله فِيهَا بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وَتَتَبَّعَ أَقْواله وَخَطَرَاتِهِ وَلَحَظَاتِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يِجِبُ الإِيمَانُ بِهِ كَالمِيزَانِ الصُّحُفِ، وَهِيَ صُحُفُ الأَعْمَال، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} فَيُجْمَعُ لَهُ عَمَلُهُ كُلُّهُ فِي كِتَابٍ يُعْطَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ البَعْثِ وَالحِسَابِ، يَلْقَاُه مَفْتُوحًا غَيْرَ مَطْوِيّ يَقْرَؤُهُ، فِيهِ جَمِيعُ عَمَلِهِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ تَعَالَى:{يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، وَقَالَ:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ، وَقَالَ:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} .

فَلَيْسَ بِمُهْمَلٍ بَلْ لَهُ مَلائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، حَرَسٌ بِاللَّيْلِ وَحَرَسٌ بِالنَّهَارِ، وَيَحْفَظُونَهُ مِنَ الأَسْوَاءِ وَالحَادِثَاتِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ مَلائِكَة آخَرُونَ لِحِفْظِ الأَعْمَالِ مَنْ خَيْرٍ أَوْ شَرِّ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، فَاثْنَانِ عَنِ اليمين وَالشَّمِالِ يَكْتُبَانِ الأَعْمَالَ، صَاحِبُ اليمين يَكْتُبُ الحَسَنَاتِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَمَلَكَانِ آخِرَانِ يَحْفَظَانِهِ وَيَحْرُسَانِهِ، وَاحِدٌ مِنْ وَرَائِهِ، وَآخَرُ مِنْ قُدَّامِهِ، فَهُوَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَمْلاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ بِاللَّيْلِ بَدَلاً، حَافِظَانِ وَكَاتِبَانِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونِ فِي

ص: 362

صَلاةِ الصُّبْحِ، وَصَلاةِ العَصْرِ، فَيَصْعَدُ إليه الذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُم وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُم يُصَلُّونَ، وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» ، وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ:«إِنَّ مَعَكُم مَنْ لا يُفُارقُكُم إِلا عِنْدَ الخَلاءِ وَعِنْدَ الجِمَاعِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ» .

شِعْرًا:

إِنْ سَرَّكَ الشَّرَفُ العَظِيمُ مَعَ الغِنَى

وَيَكُونُ يَوْمَ أَشَدِّ خَوْفٍ وَابِلا

يَوْمَ الحِسَابِ إَذَا النُّفُوسِ تَثَاقَلَتْ

فِي الوَزْنِ إِذْ غَبَطَ الأَخَفُّ الأَثْقَلا

فَاعْمَلْ لِمَا بَعْدَ المَمَاتِ وَلا تَكُنْ

عَنْ حَظِّ نَفْسِكَ فِي حَيَاتِكَ غَافَلا

>?

اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِينَ وأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ واليقين وَخُصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وإتَّبَاعِهِ وَخَلَّصْنَا مِنْ الْبَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكَنْ لَنَا مَؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ وَأَنَّكَ غَيْرَ مَتْرُوكٍ سُدَى، فَالوَاجِبُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ عَاقِلاً تُرِيدُ نَجَاةَ نَفْسِكَ أَنْ لا تَغْفَلَ وَلا سَاعَةً، وَأَنْ تَكُونَ دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ، وَتَفَكَّرْ فِيمَا أَمَامَكْ مِنْ العَقَبَاتِ وَالأَهْوَالِ المُزْعِجَاتِ، وَاذْكُرْ

ص: 363

تَطَايُرَ الصُّحُفِ إِلَى الأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، قَالَ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} الآيَاتِ وَقَالَ عَزَّ مِنْ قائِل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} .

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُؤْتَى بِالعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَوْ الأَمَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ: هَذَا فُلانُ بنُ فَلانٍ مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَليَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، فَتَفْرَحُ المَرْأَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا الحَقُّ عَلَى أَبِيهَا أَوْ أُمِّهَا أَوْ أَخِيهَا أَوْ زَوْجِهَا ثُمَّ قَرَأَ:{فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} فَيَغْفِرُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ مَا يَشَاءُ، وَلا يَغْفِرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ شِيْئًا فَيُنْصَبُ لِلنَّاسِ، فَيَقُولُ: ائْتُوا إِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُم، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ فَنِيْتْ الدُّنْيَا، مِنْ أَيْنَ أُوتِيهُمْ حُقُوقَهُمْ؟ فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ أَعْمَاله الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا للهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ضَاعَفَهَا اللهُ لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا قَالَ المَلِكَ: رَبِّ فَنِيَتْ حَسَنَاتُه وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ سَيَّئَاتِهِم فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ.

وَعَنْ أَنْسٍ أَنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهِ لا

ص: 364

يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةً» .

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وَالحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَاكُ فِي قَوْلِهِ:{وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً} ، يَعْنِي: الجَنَّةَ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسْكِنَنَا وَإِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ الجَنَّةَ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرُو بنِ العَاصِ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ لَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ. فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ تعالى: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليوم فَيُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاتِ؟ فَقَالَ: فإِنَّكَ لا تُظْلَمُ فَتُوضَعُ السِّجِلاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلاتُ، وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ، ولا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ.

وَخُصّ مِمَّنْ يُحَاسَبُ وَتُوزَنُ أَعْمَالُهْم طَائِفَتَانِ، فَمِنِ الكُفَّارِ مِنْ لَيْسَ لَهُمْ حَسَنَةٌ، فَهُؤلاءِ يَقَعُونَ فِي النَّارِ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ وَلا مِيزَانٍ، وَمِنَ المُؤْمِنِينَ مِنْ لا سَيِّئَةَ لَهُ وَلَهُ حَسَنَاتٌ كَثِيرَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَحْضِ الإِيمَانِ، فَهَذَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْبِ حِسَابٍ، كَمَا فِي قِصَّةِ السَّبْعِينَ أَلْفًا، وَمَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُلْحِقَهُ بِهم، وَهُمْ الذِينَ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ كَلَمْحِ

ص: 365

البَصَرِ، وَكَالبَرْقِ الخَاطِفِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأْجَاوِدْ الخَيْلِ، وَمَنْ عَدَا هَذَيْنِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالكُفَّارِ يُحَاسَبُونَ، وَتُعْرَضُ أَعْمَالُهم عَلَى المَوَازِينِ.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} : إِنَّهُ يَحْشُرُ الخَلائِقَ كُلَّهُم يَوْمَ القِيَامَةِ، البَهَائِمِ وَالدَّوَابِ وَالطَّيْرِ وَكُلِّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللهَ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْخُذُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ القَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا، فلذلِكَ {يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} فَتَفَكَّرْ فِي صَحِيفَتِكَ، وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ خَشْيَةَ أَنْ تَخْرُجَ مَمْلُوَءةً بِالسَّيِّئَاتِ. وَاللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

عَلامَةُ صِحَّةٍ لِلْقَلْبِ ذِكرٌ

لِذِي العَرْشِ المُقَدَّسِ ذِي الجَلالِ

وَخِدْمَةُ رَبِّنَا فِي كُلِّ حَالِ

بِلا عَجْزٍ هُنَالِكَ أَوْ كَلالِ

وَلا يَأْنَسْ بِغَيْرِ اللهِ طُرًا

سِوَى مَنْ قَدْ يَدُلُّ إِلَى المَعَالي

وَيَذْكُرُ رَبَّهُ سِرًا وَجَهْرًا

وَيُدْمِنُ ذِكْرَهُ فِي كُلِّ حَالِ

وَفِيهَا وَهُوَ ثَانِيها إِذَا مَا

يَفُوتُ الوِرْدُ يَوْمًا لاشْتِغَالِ

فَيَأْلَمُ لِلْفَوَاتِ أَشَّدَ مِمَّا

يَفُوتُ عَلَى الحَرِيصِ مِنَ الفِضَالِ

>?

ص: 366

.. وَمِنْهَا شُحُّهُ بِالوَقْتِ يَمْضِي

ضَيَاعًا كَالشَّحِيحِ بِبَذْلِ مَالِ

وَأَيْضًا مِنْ عَلامَتِهِ اهْتِمَامٌ

بِهَمٍ وَاحِدٍ غَيْرَ انْتِحَالِ

فَيَصْرَفُ هَمَّهُ للهِ صِرْفًا

وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُ مِنَ المَوَالِ

وَأَيْضًا مِنْ عَلامَتِهِ إِذَا مَا

دَنَا وَقْتُ الصَّلاةِ لِذِي الجَلالِ

وَأَحْرَمَ دَاخِلاً فِيهَا بِقَلْبٍ

مُنِيبٍ خَاضِعٍ فِي كُلِّ حَالِ

تَنَاءَى هَمُّهُ وَالغَمُّ عَنْهُ

بِدُنْيَا تَضْمَحِلُّ إِلَى زَوَالِ

وَوَافَى رَاحَةٌ وَسُرُورَ قَلْبٍ

وَقُرَّةَ عَيْنِهِ وَنَعِيمَ بَالِ

وَيَشْتَدُّ الخُرُوجُ عَلَيْهِ فِيهَا

فَيَرْغَبُ جَاهِدًا فِي الابْتِهَالِ

وَأَيْضًا مِنْ عَلامَتِهِ اهْتِمَامٌ

بِتَصْحِيحِ المَقَالَةِ وَالفِعَالِ

وَأَعْمَالٍ وَنِيَّاتٍ وَقَصْدٍ

عَلَى الإِخْلاصِ يَحرصُ بِالكَمَالِ

أَشَدَّ تَحَرُّصًا وَأَشَدَّ هَمًا

مِنَ الأَعْمَالِ تَمَّتْ لا يُبالي

>?

ص: 367

.. بِتَفْرِيطِ المُقَصِّرِ ثُمَّ فِيهَا

وَإِفْرَاطٍ وَتَشْدِيدِ لِغَالي

وَتَصْحِيحِ النَّصِيحَةِ غَيْرَ غِشٍّ

يُمَازِجُ صَفْوَهَا يَوْمًا بِحَالِ

وَيَحْرِصُ فِي إتِّبَاعُ النَّصُ جَهْدًا

مَعَ الإِحْسَانِ فِي كُلَّ الفِعَالِ

وَلا يُصْغِي لِغَيْرِ النَّصِ طُرًا

وَلا يَعْبَأَ بِآرَاءِ الرِّجَالِ

فَسِتُّ مَشَاهِدٍ لِلْقَلْبِ فِيهَا

عَلامَاتٌ عَنِ الدَّاءِ العُضَالِ

وَيَشْهَدُ مِنْهُ لِلرَّحْمَنِ يَوْمًا

بِمَا أَسْدَى عَلَيْهِ مِنَ الفِضَالِ

وَيَشْهَدُ مِنْهُ تَقْصِيرًا وَعَجْزًا

بِحَقِّ اللهِ فِي كُلِّ الخِلالِ

فَقَلْبٌ لَيْسَ يَشْهَدُهَا سَقِيمٌ

وَمَنْكُوسٌ لِفِعْلِ الخَيْرِ قَالي

فَإِنْ رُمْتَ النَّجَاةَ غَدًا وَتَرْجُوا

نَعِيمًا لا يَصِيرُ إِلَى زَوَالِ

نَعِيمٌ لا يُبِيدُ وَلَيْسَ يَفْنَى

بِدَارِ الخُلْدِ فِي غُرَفٍ عَوَالِ

فَلا تُشْرِكْ بِرَبِّكَ قَطُّ شَيْئًا

فَإِنَّ اللهَ جَلَّ عَنِ المِثَالِ

>?

ص: 368

.. عَلا بِالذَّاتِ فَوْقَ العَرْشِ حَقًّا

بِلا كَيْفٍ وَلا تَأْوِيلِ غَالِ

عُلُوُّ القَدْرِ وَالقَهْرِ اللَّذَانِ

هُمَا للهِ مِنْ صِفَةِ الكَمَالِ

بِهَذَا جَاءَنَا فِي كُلِّ نَصٍّ

عَنِ المَعْصُومِ فِي صَحْبٍ وَآلِ

وَيَنْزِلُ رَبُّنَا فِي كُلِّ لَيْلٍ

إِلَى أَدْنَى السَّمَاوَاتِ العَوَالي

لِثُلْثِ اللَّيْلِ يَنْزِلُ حَِينَ يَبْقَى

بِلا كَيْفٍ عَلَى مَرِّ اللَّيَالي

يُنَادِي خَلْقَهُ هَلْ مِنْ مُنِيبٍ

وَهَلْ مِنْ تَائِبٍ فِي كُلِّ حَالِ

وَهَلْ مِنْ سَائِلٍ يَدْعُو بِقَلْبٍ

فَيُعْطَى سُؤْلَهُ عِنْدَ السُّؤَالِ

وَهَلْ مُسْتَغْفِرٍ مِمَّا جَنَاهُ

مِنَ الأَعْمَالِ أَوْ سُوءِ المَقَالِ

وَيَشْهَدُ أَنَّمَا القُرْآنُ حَقًّا

كَلامُ اللهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِلالِ

وَلا تَمْوِيهِ مُبْتَدِعٍ جَهُولٍ

بَخَلْقِ القَوْلِ عَنْ أَهْلِ الضَّلالِ

وَآيَاتُ الصِّفَاتِ تُمَرُّ مَرًا

كَمَا جَاءَتْ عَلَى وَجْهِ الكَمَالَ

>?

ص: 369

.. إَلَهٌ وَاحِدٌ أَحَدٌ عَظِيمٌ

عَلِيمٌ عَادِلٌ حَكَمُ الفِعَالِ

رَحِيمٌ بِالعِبَادِ إِذَا أَنَابُوا

وَتَابُوا عَنْ مُتَابَعَةِ الضَّلالِ

شَدِيدُ الانْتِقَامِ لِمَنْ عَصَاهُ

وَيُصليهِ الجَحِيمَ وَلا يُبَالي

فَبَادِرْ بِالذِي يَرْضَاهُ تَحْظَى

بِخَيْرٍ فِي الحَيَاةِ وَفِي المَآلِ

وَلازِمْ ذِكْرَهُ فِي كُلِّ وْقْتٍ

وَلا تَرْكَنْ إِلَى قِيلٍ وَقَالِ

وَأَهْلِ العِلْمِ نَافِسْهُمْ وَسِائِلْ

وَلا يَذْهَبْ زَمَانُكَ فِي اغْتِفَالِ

وَأَحْسَنَ وَانْبَسِطْ وَارْفُقْ وَنَافِسْ

لأَهْلِ الخَيْرِ فِي رُتَبَ المَعَالي

فَحُسْنُ البِشْرِ مَنْدُوبٌ إليه

وَيَكْسُوا أَهْلَهُ ثَوْبَ الجَمَالِ

وَأَحْبِبْ فِي الإِلَهِ وَعَادِ فِيهِ

وَأَبْغِضْ جَاهِدًا مِنْهُ وَوَالِ

وَأَهْلَ الشِّرْكِ بَايِنْهُم وَفَارِقْ

وَلا تَرْكَنْ إِلَى أَهْلِ الضَّلالِ

وَتَشْهَدُ قَاطِعًا مِنْ غَيْرِ شكٍّ

بِأَنَّّّّّ اللهَ جَلَّ عَنِ المِثَالِ

>?

ص: 370

.. وَرُؤْيَا المُؤْمِنِينَ لَهُ تَعَالَى

عِيَانًا فِي القِيَامَةِ ذِي الجَلالِ

يَرَى كَالبَدْرِ أَوْ كَالشَّمْسِ صَحوًا

بِلا غَيْمٍ وَلا وَهْمٍ خِيَالِ

وَمِيزَانُ الحِسَابِ كَذَاكَ حَقًّا

مَعَ الحَوْضِ المُطَهَّرِ كَالزِلالِ

وَمِعْرَاجُ الرَّسُولِ إليه حَقًّا

بِنَصِّ وَارِدِ لِلشَّكِ جَالي

كَذَاكَ الجَسْرُ يُنْصَبُ لِلبرَايَا

عَلَى مَتْنِ السَّعِيرِ بِلا مُحَالِ

فَنَاجٍ سَالِمٍ مِنْ كُلِّ شَرٍّ

وَهَا هُوَ هَالِكٍ لِلنَّارِ صَالي

وَتُؤْمِنُ بِالقَضَا خَيْرًا وَشَرًّا

وَبِالمَقْدُورِ فِي كُلِّ الفِعَالِ

وَأَنَّ النَّارَ حَقٌ قَدْ أَعِدَتْ

لأَعْدَاءِ الرُّسُولِ ذَوِي الضَّلالِ

بِحِكْمَةِ رَبِّنَا عَدْلاً وَعِلْمًا

بِأَحْوَال الخَلائِقِ فِي المَالِ

وَأَنَّ الجَنَّةَ الفِرْدَوْسَ حَقٌّ

أُعِدَّتْ لِلْهُدَاةِ أُوُلِي المَعَالِ

بِفَضْلٍ مِنْهُ إِحْسَانًا وَجُودًا

بِلا شَكٍّ هُنَالِكَ لِلسُّؤَالِ

ص: 371

.. وَكُلٌّ فِي المَقَابِرِ سَوْفَ يُلْقَى

وَتَكْرِيمًا لَهُمْ بَعْدَ الوِصَالِ

نَكِيرًا مُنْكَرًا حَقًّا بِهَذَا

أَتَانَا النَّقْلُ عَنْ صَحْبٍٍ وَآلِ

وَأَعْمَالاً تُقَارِنُهُ فَإِمَّا

بِخَيْرٍ قَارَنْتَ أَوْ سُوءِ حَالِ

>?

(مَوْعِظَةٌ)

اسْتَلِبْ زَمَانِكَ يَا مَسْلُوبْ! وَغَالِبِ الهَوَى يَا مَغْلُوبْ! وَحَاسِبْ نَفْسَكَ فَالعُمْرُ مَحْسُوبْ، وَامْحِ قَبِيحَكَ فَالقَبِيحُ مَكْتُوبْ، وَاعَجِبًا لِنَائِمٍ وَهُوَ مَطْلُوبْ، وَلِضَاحِكٍ وَعَلَيْهِ ذُنُوبْ.

أَلا ذَكِّرَانِي قَبْلَ أنْ يَأْتِي المَوْتُ

وَيُبْنَى لِجُثْمَانِي بِدَارِ البَلَى بَيْتُ

وَعَرَّفَنِي رَبِّي طَرِيقَ سَلامَتِي

وَبَصَّرَنِي لَكِنَّنِي قَدْ تَعَامَيْتُ

وَقَالُوا مَشِيبُ الرَّأْسِ يَحْدُو إِلَى البِلا

فَقُلْتُ: أَرَانِي قَدْ قَرُبَتُ فَأَدْنِيتُ

أَيْنَ الدُّموعُ السَّوَاجِمْ؟ قَبْلَ المَنَايَا الهَوَاجِمْ، أَيْنَ القَلَقُ الدَّائِم؟ لِلذُّنُوبِ القَدَايم، أَتَرَى أَثَّرتِ المَلاوِمْ؟ فِي هَذِهِ الأَقَاوِمْ، أَيُّهَا الْقَاعِدُ وَالْمَوْتُ قَائِمٌ أَنَائِمٌ أَنْتَ عَنْ حَدِيثِنَا أَمْ مُتَنَاوِمْ؟ لا بُدَّ وَالله مِنْ ضَرْبَةِ لازِمْ تَقْرُعُ لَهَا نَادِمْ، لا بُدَّ مِنْ مَوْجِ هَوْلٍ مُتَلاطِمْ، يُنَادِي فِيهِ نُوحُ الأَسَى لا عَاصِمْ، لا بُدَّ مِنْ سَقَمِ السَّالِمْ يَنْسَى فِيهِ يَا أَمَّ سَالِمْ.

يَا مَنْ سَيَنْأى عَنْ بَنِيهْ

كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهْ

مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُمْ

جَاءَ اليقين فَوَجِّهُوهْ

وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِه

قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهُ

اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، نَسْأَلُكَ أَنْ تَكْفِينَا مَا أَهَمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُّ بِهِ وَأَنْ تَرْزُقَنَا الاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

ص: 372

(فَصْلٌ)

وَمِمَّا يَنْبَغِِي إِيرَادُه في هَذَا المَقَامِ بَعْضُ المَعَاصِي التِي قَدْ تَلَبَّس بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيَبْتَعِدَ عَنْهَا، وَعَنْ مَنْ يُقَارِفُهَا، وَيَنْصَحُ عَنْهَا، وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا أَمْرَاضٌ فَتَّاكَةٌ أَعْظَمُ وَأَخْطَرُ مِنْ أَمْرَاضِ الأَبْدَانِ، لأَنَّهَا تُذْهِبُ الحَسَنَاتِ، وَرُبَّمَا أَدَّتْ بِالإِنْسَانِ إِلَى الهَلاكِ الأَبَدَيّ، وَالعَذَابُ السَّرْمَدِيّ، مِنْ ذَلِكَ: أَكْلُ الحَرَامِ، أَوْ رِيَاءَ، أَوْ رِبَا، أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى مَنْعِ زَكَاةٍ، أَوْ عَدَمُ تَنَزُّهٍ مِنْ بَوْلٍ، أَوْ تَرْكُ حُضُورِ جُمْعَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، أَوْ غِيبَةٌ، أَوْ نَمِيمَةٌ، أَوْ حَسَدٌ، أَوْ مَنْعِ حُقُوقٍ وَاجِبَاتٍ، أَوْ كَذِبٌ عَلَى اللهِ، أَوْ أَذِّيَةُ جَارٍ، أَوْ قَرِيبٍ، أَوْ كَثْرَةُ أَيْمَانٍ لِتَرْوِيجِ سِلعٍ، أَوْ غِشٌّ فِي بَيْعٍِ أَوْ شِرَاءٍ، أَوْ تَدْلِيسٌ، أَوْ اقْتِطَاعُ شَيْءٍ مِنْ أَرَاضِي المُسْلِمِينَ، أَوْ اسْتِعْمَالِ آلاتِ اللَّهْوِ وَالطَّرَبِ، كَالعُودِ وَالبَكمِ وَالتِّلِفِزْيُونِ وَالمِذْيَاعِ وَالفيديو، أَوْ تَغِييرُ مَنَارِ الأَرْضِ، أَوْ لُبْسُ الرِّجَالِ لِلْحَرِيرِ، أَوْ الذَّهَبِ، أَوْ تَشَبُّهٍ بِنَسَاءٍ، أَوْ نَظَرٌ إِلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ إِعَانَةُ ظَالِمٍ، أَوْ تَرُك نَصْرِ مَظْلُومٍ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ، أَوْ شِهَادَةٌ بِزُورٍ، أَوْ نَجْشٌ لإِيذَاءِ مُؤْمِنْ، أَوْ تَرْكِ الْوَلاءِ وَالْبَرَاءِ بِمُجَالَسَةِ الْعُصَاةِ، وَمُوَاكلتُهم، وَتَرْكُ هَجْرِهِم، أَوْ تَدْلِيسٌ، أَوْ غِشٌ أَوْ مُجَاهَرَةٌ بِالْمَعَاصِي، كَحَلْقِ اللِّحْيَةِ، وَشُرْبِ الدُّخَانِ، وَتَشَبُهٍ بَأَعْدَاءِ الإِسْلامِ، بِجَعْلِ خَنَافِسَ وَتَوَإليتٍ، وَكَخُلْوَةٍ بِامْرَأَةٍ لا تُحِلُّ لَهُ، أَوْ يُرْكِبُهَا مَعَهُ، وَلا مَحْرَمَ مَعَهَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، أَوْ تَصْوِيرُ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ أَوْ شِرَائِهَا، أَوْ الرِّضَى بِهَا وَعَدَمُ إتْلافِهَا، أَوْ مَيْلٌ مَعَ بَعْضِ مَنْ يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ، أَوْ تَنْشِيزُ زَوْجَةٍ عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ بِالْعَكْسِ، بَأَنْ يُنَشِّزَ الزَّوْجَ عَنْهَا، أَوْ إضْرَارٌ لِتَفْتَدِي مِنْهُ، أَوْ جَعْلُ يَدٍ عَلَى قَرِيبَةً لَهُ وَمَنْعِهَا مِنْ الزَّوَاجِ إِلا لَهُ أَوْ لِمَنْ يُرِيدُهَا لَهُ، أَوْ مُسَاعَدَةٌ لِصَاحِبِ مَعْصِيَةٍ، أَوْ يُؤْوِي مُحْدِثًا، أَوْ عُقُوقٌ لِوَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ، أَوْ قَطِيعَةُ رَحِمٍ، أَوْ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ

ص: 373

زِنَى أَوْ لِوَاطٍ، أَوْ إِتْيَانُ مَنْ حَاضَتْ، أَوْ إِتْيَانُهَا فِي الدُّبُرِ، أَوْ إِتْيَانُ بَهِيمَةٍ، أَوْ دِيَاثَةٌ، أَوْ كَتْمُ شَهَادَةٍ، أَوْ خِيَانَةٌ، أَوْ تَكْذِيبٌ بِالمَلائِكَةِ، أَوْ بِالجِنِّ، أَوْ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ، وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللهِ، أَوْ قَذْفُ مُحْصَنٍ، أَوْ شُرْبُ مُسْكِر، أَوْ سُجُودٌ لِغَيْرِ اللهِ، أَوْ أَنْ تُلْحَقَ المَرْأَةُ أَوْلادًا بِزَوْجِهَا، وَكَذَا الزَّانِي إِذَا أَدْخَلَ أَوْلادًا عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ أَخْذُ مَكْسٍ أَوْ إِعَانَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ وَشْمٌ، أَوْ نَمْصٌ، أَوْ مَحَبَّةُ قِيَامٍ لَهُ، أَوْ مُخَاصَمَةٌ بِبَاطِلٍ، أَوْ جُورٍ فِي وَصِيَّةٍ، أَوْ اتِّخَاذُ مَسَاجِدَ عَلَى القُبُورِ أَوْ إِسْرَاجُهَا، أَوْ سَرِقَةٌ، أَوْ جَحْدُ عَارِيَّةً، أَوْ كَذِبُ عَلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ غَصْبٌ مَالِ مُسْلِمٍ، أَوْ أَكْلُ مَالِ يَتِيمٍ، أَوْ فِطْرٌ فِي رَمَضَانَ، أَوْ خِيَانَةٌ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ، أَوْ تَقْدِيمُ الصَّلاةِ عَلَى وَقْتِهَا، أَوْ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ ضَرْبُ مُسْلِمٍ بِلا حَقٍّ، أَوْ تَرْوِيعُهُ، أَوْ سَبٌّ لِلصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، أَوْ رِشْوَةٌ فِي الحُكْمِ، أَوْ قِيَادَةٌ، أَوْ نِسْيَانٌ لِلْقُرْآنِ، أَوْ تَحْرِيقُ حَيَوانٍ بِالنَّارِ، أَوْ تَرْكُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، أَوْ أَمْنٌ مِنْ مِكْرِ اللهِ، أَوْ وَقِيعَةٌ فِي أَهْلِ العِلْمِ وَالقُرْآنِ، أَوْ سِحْر، أَوْ بَهْتُ مُسْلِم، أَوْ تَهَاوُنُ القَادِرِ بِالحَجِّ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، أَوْ تَكْذِيبٍ بِالقَدَرِ، أَوْ هَجْرُ مُسْلِمٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إِلا لِعُذْرٍ فِي المَهْجُورِ كَتَظَاهُرِهِ بِالفِسْقِ، أَوْ يَكُونَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ بَيْعُ حُرٍّ وَأَكْلُ ثَمَنِهِ، أَوْ مَنْعِ أَجِيرٍ أُجْرَتَهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ العَمَلِ مِنْهُ، أَوْإِتْيَانُ كَاهِنٍ، أَوْ اتِّخَاذ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا، أَوْ لَعْنُ مُسْلِم، أَوْ التَّسَبُّبُ فِي لَعْنِ الوَالِدَيْنِ، أَوْ يَقُولُ فِي يَمِينِهِ: وَإِلا كُنْتُ يَهُودِيًا أَوْ نَصْرَانِيًا، أَوْ كَافِرًا وَنَحْوَ هَذَا وَالعِيَاذُ بِاللهِ، أَوْ يَتَتَبَّعُ عَوْرَاتِ المُسْلِمِينَ، أَوْ يُنَابِزَ بِالأَلْقَابِ المَكْرُوهَةِ عِنْدَ مَنْ لُقِّبَ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ يَنْتَسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يَطْعَن فِي الأَنْسَابِ الثَّابِتَةِ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ، أَوْ نِيَاحَةٍ عَلَى مَيِّتٍ، أَوْ امْتِنَاعِ المَرْأَةِ مِنْ فِرَاشِ زَوْجِهَا بِلا

ص: 374

عُذْرٍ، أَوْ يَقُولُ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ، أَوْ يَا عَدُوَّ اللهِ، أَوْ يَسُبُّ الدَّهْرَ، أَوْ يَعْصِرُ العِنَبَ لِلْخَمْرِ، أَوْ يَزْرَعُ الدُّخَانَ، أَوْ يَبِيعُه أَوْ يُوَرِّدُهُ، أَوْ يَحْلِقُ لِحَى المُسْلِمِينَ، أَوْ يُسَاعِدُهُم عَلَى التَّشَبُّهِ بِأَعْدَاءِ اللهِ بِتَصليحِ خَنَافِسِهِم وَجُعْلانِهِم وَتَوَإلياتِهم، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُقَامِرُ، أَوْ يَشْهَدُ بِالرِّبَا أَوْ يُوَكِّلُهُ أَوْ يَكْتُبُهُ، أَوْ يَمْنَعُ ابْنَ السَّبِيلِ عَنْ فَضْلٍ مَا، أَوْ يَمُنُّ بِالعَطَاءِ، أَوْ يُسْبِلُ وَيَجُرُّ ثِيَابَهُ خُيَلاءً، أَوْ يَجُورُ في الحُكْمِ، أَوْ يُحْدِثُ فِي الدِّينِ، أَوْ يُؤْوِي مُحْدِثًا، أَوْ يَتَكَبَّرُ، أَوْ يَخْتَالُ فِي مَشْيَتِهِ، أَوْ يَعْتَادُ الكَذِبَ، أَوْ يَكْذِبُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ يَسْتَمِعُ لِمَنْ يَكْرَهُونَ سَمَاعَهُ، أَوْ يَكُونُ ذَا وَجْهَيْنِ، أَوْ يَغُلُّ مِنَ الغَنِيمَةِ، أَوْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، أَوْ يَقْتُلُ ذِمِيًّا، أَوْ يَأْكُلُ الحَرَامَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ سُخْرِيَةٌ وَاسْتِهْزَاءٌ بِمُسْلِمٍ، أَوْ تَعَلُّمُ العِلْمَ لِغَيْرِ وَجَهِ اللهِ، أَوْ يُفَسِّرُ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ، أَوْ يَكْتُمُ عِلْمًا شَرْعِيًا مَعَ تَعَيُّنِ الجَوَابِ عَلَيْهِ، أَوْ مِرَاءٌ فِي القُرْآنِ، أَوْ مُرُورٌ بَيْنَ يَدَيْ مُصَلِّ، أَوْ يَسْتَدِينَ وَلا يُرِيدُ الوَفَاءَ، أَوْ يُحَلِّلَ المَرْأَةَ لِغَيْرِهِ، أَوْ تُحَلَّلَ لَهُ، أَوْ إِفْشَاءُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ السِّرِّ الذِي بَيْنَهُمَا، أَوْ يَجْعَلُ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ كُفَارًا لِخَدَّامِينَ وَمُرَبِّينَ وَسَوَّاقِينَ وَطَبَّاخِينَ وَخَيَّاطِينَ رِجَالاً وَنِسَاءً أَوْ يَتَسَّبَبْ لإِتْيَانِهم لِبَلادِ المُسْلِمِين.

وذُقْتُ مَرَارَتَ الأَشَيَاطُرًا

فَمَا طَعْمٌ أَمَرَّ مِنَ المَعَاصِي

وَنَحُْ هَذِهِ المَعَاصِي، وَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ صَحِيفَةِ الإِنْسَانِ مَعْصِيَة يَظُنُّهَا سَهْلَةٌ وَهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيمَةٌ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ العَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ» وَرُبَّمَا عَمَلَ أَعْمَالاً ظَنَّهَا حَسَنَاتٍ فَتَبْدُوا يَوْمَ القِيَامَةِ سِيِّئَاتٍ بِسَبَبِ رِيَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ.

وَمَا أَدْرِي وَإِنْ أَمَّلْتُ عُمْرًا

لَعَلِّي حَينَ أُصْبِحُ لَسْتُ أُمْسِي

وَلِلدُّنْيَا وَسَاكِنهَا سُيُولٌ

وَأَنْتَ عَلَى مَدَارِجِهنَّ مُرْسِيْ

ص: 375

كَأَنَّكَ لا تَرَى بِالخَلْقِ نَقْصًا

وَأَنْتَ تَرَاهُ كُلَّ شُرُوقِ شَمْسِ

أَلَمْ تَرَ أَنَّ كُلَّ صَبَاحِ يَوْمٍ

واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ

(فَصْلٌ)

ثُمَّ تَفَكَّرْ - بَعْدَ تَفَكُّرِ فِيمَا سَبِقَ - فِي الصِّرَاطِ الذِي هُوَ الجِسْرُ المَنْصُوبِ عَلَى متْنِ جَهَنَّمَ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، خَرَجَ البَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ زِيَادٍ النُمَيْرِيّ عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الصِّرَاطُ كَحَدِّ الشَّفْرَةِ، أَوْ كَحَدِّ السَّيْفِ، وَإِنَّ المَلائِكَةَ يُنْجُّونَ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ جِبْرَيلَ لآخِذٌ بِحُجْزَتِي، وَإِنِّي لأَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّمْ سلِّمْ، فَالزَّالُّونَ وَالزَّالاتُ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ» ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيّ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلاً قَالَ فِيهِ:«ثُمَّ يُضْرَبُ الجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سلِّمْ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الجِسْرُ؟ قَالَ: «دَحْضُ مَزَلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفٌ وَكَلاليبٌ، وَحَسَكَةٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ المُؤْمِنُ كَطَرْفِ العَيْنِ، وَكَالبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمُكَرْدَسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ» . خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

خَطَبَ أَحَدُ العُلَمَاءِ خُطْبَةً بِلِيغَةً فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّكْمْ مَيَّتُون وَمَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ المَوْتِ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .

وَتُوقَفُونَ عَلَى أعمالكم وَتُجْزَوْنَ بها فلا تَغُرَّنكم الحياة الدنيا فإنها بِالبَلاءِ وَالمَصَائِبِ مَحْفُوفَة، وَبِالفَنَاءِ مَعْرُوفَة، وَبِالغَدْرِ مَوْصُوفَة، وَكُلُّ مَا فِيهَا إِلَى زَوَالٍ وَهِيَ بَيْنَ أَهْلِهَا دُوَلٌ وَسِجَال.

شِعْرًا:

مَا أَفْضَحَ المَوْتَ لِلدُّنْيَا وَزِينتِهَا

جِدًّا وَمَا أَفْضَحَ الدُّنْيَا لأَهْلِيهَا

لا تَرْجِعَنَّ عَلَى الدُّنْيَا بِلائِمَةٍ

فَعُذْرُهَا لَكَ بَادٍ فِي مَسَاوِيهَا

ص: 376

لَمْ تُبْقَ في غَيْبِهَا شَيْئًا لِصَاحِبَهَا

إِلا وَقَدْ بَيَّنَتْهُ في مَعَانِيهَا

تُفْنِي البَنِينَ وَتُفْنِي الأَهْلَ دَائِبَةً

وَنَسْتَنِيمُ إليها لا نُعَادِيهَا

فَمَا يَزِيدُكُمْ قَتْلُ الذِي قَتَلَتْ

وَلا العَدَاوَةُ إِلا رَغْبَةً فِيهَا

لا تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلا تَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا نُزَّالُهَا، بَيْنَا أَهْلُهَا فِي صَفِاءٍ وَرَخَاءِ وَسُرُورٍ وَنَعِيمٍ وَخَبُور إِذَا هُمْ مِنْهَا فِي بَلاءٍ وَغُرُور، العَيْشُ فِيهَا مَذْمُوم وَالرَّخَاءُ فِيهَا لا يَدُوم وَإِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَعْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَة تَرْمِيهَا بِسِهَامِهَا وَتَقْصِمُهُمْ بِحِمَامِهَا، وَكُلٌّ حَتْفُهُ فِيهَا مَقْدُور وَحَظُّهُ فِيهَا مَوْفُور.

وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّكَمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيل مَنْ قَدْ أَمْضَى مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَل مِنْكُمْ أَعْمَارًا وَأَشَدَّ مِنْكُمْ بَطْشًا وَأَعْمَرِ دِيَارًا وَأَبْعَدَ آثَارًا فَأَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُم هَامِدَةً خَامِدَةً مِنْ بَعْدِ طُولِ تَقَلُّبِهَا وَأَصْبَحَتْ أَجْسَادُهُم بَإلية وَدَيَارُهُم عَلَى عُرُوشِهَا خَاوِيَة وآثارهم عافية.

وَاسْتَبْدَلُوا القُصُورَ المُشَيَّدَةِ وَالسُّرُرِ وَالنَّمَارِقِ المُمَهَّدَةِ بِالتُّرَابِ وَالصُّخُورِ وَالأَحْجَارِ المُسَنَّدَةِ فِي القُبور اللاطِئَة المُلَحَّدَةِ فَمَحَلُّهَا مُقْتَرَب وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِب بَيْنَ أَهْلِ مَحِلَّةٍ مُوحِشِينِ.

لا يَسْتَأْنِسُونَ بِالعُمْرَانِ وَلا يَتَوَاصُلُونَ تَوَاصُل الجِيران على ما بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ المَكَانِ وَالجَوِارِ وَدُنُوِّ الدارِ وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَوَاصُلٍ وَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الجنَاَدِلُ وَالثَّرى وَأَصْبَحُوا بَعْدَ الحَيَاةِ أَمْوَاتًا وَبَعْدَ نَضَارَةِ العَيْشِ رُفَاتًا.

فَجَعَ بِهِمُ الأَحْبَابِ وَسَكَنُوا تَحْتَ التُّرَابِ ظَعَنُوا فَلَيْسَ لَهُمْ إِيَاب فَكَأَّنْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إليه مِنَ البَلاءِ وَالوِحْدَة فِي دَارِ المَثْوَى وَارْتُهِنْتُمْ فِي ذَلِكَ المَضْجَعِ وَضَمَّكُمْ ذَلِكَ المُسْتَوْدَع.

فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا عَايَنْتُمُ الأُموُرَ بُعْثِرَتِ القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ وَوُقِّفْتُمْ لِلتَّحْصِيلِ بَيْنَ يَدَيْ المَلِك الجَلِيلِ فَطَارَتْ القُلُوبُ لإِشْفَاقِهَا مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ وَهُتِكَتِ الحُجُبُ وَالأَسْتَار وَظَهَرتْ مِنْكُم العُيُوبُ وَالأَسْرَار.

ص: 377

هُنَالِكَ تُجْزَى كل نَفْس بِمَا كَسَبتْ قَالَ اللهُ جل جلاله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الآيَة.

قَالَ بَعْضُ الحُكَمَاء:

تَبًا لِطَالِبِ دُنْيًا لا بَقَاءَ لَهَا

كَأَنَّمَا هِيَ فِي تَعْرِيفِهَا حُلُمُ

صَفَاؤُهَا كَدَرٌ سُرُورُهَا ضَرَرٌ

أَمَانُهَا غَرَرٌ أَنْوَارُهَا ظُلَمُ

شَبَابُهَا هَرَمٌ رَاحَاتُهَا سَقَمٌ

لَذَّاتِها نَدَمٌ وُجْدَانُهَا عَدَمُ

لا يَسْتَفِيقُ مِنَ الأَنْكَادِ صَاحِبُهَا

لَوْ كَانَ يَمْلِكُ مَا قَدْ ضُمِّنَتْ أَرَمُ

فَخَلِّ عَنْهَا وَلا تَرْكَنْ لِزَهْرَتِهَا

فَإِنَّهَا نِعَمٌ فِي طَيِّهَا نَقِمُ

وَاعْمَلْ لِدَارِ نعَِيمٍ لا نَفَادَ لَهَا

وَلا يُخَافُ بِهَا مَوْتٌ وَلا هَرَمُ

آخر:

يَا آمِنَ السَّاحَةِ لا يُذْعَرُ

بَيْنَ يَدَيْكَ الفَزَعُ الأَكْبَرُ

وَإِنَّمَا أَنْتَ كَمَحْبُوسَةٍ

حُمَّ رَداَهَا وَهِيَ لا تَشْعُرُ

وَالمَرْءُ مَنْصُوبٌ لَهُ حَتْفُهُ

لَوْ أَنَّهُ مِنْ عَمَهٍ يُبْصِرُ

وَهَذِهِ النَّفْسُ لَهَا حَاجَةٌ

وَالعُمْرُ عَنْ تَحْصِيلِهَا يَقْصُرُ

وَكُلَّمَا تُزْجَرُ عَنْ مَطْلَبٍ

كَانَتْ بِهِ أَكْلَفَ إِذْ تُزْجَرُ

وَإِنَّمَا تَقْصُرُ مَغْلُوبَةً

كَالمَاءِ عَنْ عُنْصُرِهِ يَقْصُرُ

وَرُبَّمَا أَلْقَتْ مَعَاذِيرَهَا

لَوْ أَنَّهَا وَيْحَهَا تُعْذَرُ

وَنَاظِرُ المَوْتِ لَهَا نَاظِرٌ

لَوْ أَنَّهَا تَنْظُرْ إِذْ يُنْظَرُ

وَزَائِرُ المَوْتِ لَهُ طَلْعَةٌ

يُبْصِرُهَا الأَكْمَهُ وَالمُبْصِرُ

وَرَوْعَةُ المَوْتِ لَهَا سَكْرَةٌ

مَا مِثْلُهَا مِنْ رَوْعَةٍ تُسْكِرُ

وَبَيْنَ أَطْبَاق الثَّرى مَنْزلٌ

يَنْزِلُهُ الأَعْظَمُ وَالأَحْقَرُ

يَتْرُك ذُو الفَخْرِ بِهِ فَخُرَهُ

وَصَاحِبُ الكِبْرِ بِهِ يِصْغُرُ

ص: 378

.. قَدْ مَلأتْ أَرْجَاءَهُ رَوْعَةٌ

نَكِيرُهَا المَعْرُوفُ وَالمُنْكَرُ

وَبَعْدُ مَا بَعْدُ وَأَعْظِمْ بِهِ

مِنْ مَشْهَدٍ مَا قَدْرُهُ يُقْدَرُ

يُرْجَفُ مِنْهُ الوَرَى رَجْفَةً

يَنْهَدُّ مِنْهَا المَلأ الأَكْبَرُ

وَلَيْسَ هَذَا الوَصْفُ مُسْتَوْفِيًا

كُلَّ الذِي مِنْ وَصْفِهِ يُذْكَرُ

وَإِنَّمَا ذَا قَطْرَةُ أَرْسَلَتْ

مِنْ أَبْحُرٍ تَتْبَعُهَا أَبْحُرُ

وَقَدْ أَتَاكَ الثَّبْتُ عَنْهُ بِمَا

أَخْبَرَكَ الصَّادِقُ إِذْ يُخْبِرُ

فَاعْمَلْ لَهُ وَيْكَ وِإِلا فَلا

عُذْرَ وَمَا مِثْلُكَ مَنْ يُعْذَرُ

اللَّهُمَّ في سِلْكِ الْفَائِزِنَ بِرِضْوانِكَ، واجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وعافنا يا مَوْلانا في الدُّنْيَا والآخِرةِ مِن جَمِيعِ الْبَلايَا وأجْزِلْ لِنَا مِنْ مَوَاهِب فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتَّعْنَا بالنَّظَر إلى وَجْهِكَ الْكَريمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

مَوْعِظَةٌ

قَالَ أَحَدُ العُلَمَاءِ رحمه الله فِي مَوْعِظَةٌ وَعَظَهَا أَلا أَنَّ الدُّنْيَا بَقَاؤُهَا قَلِيلٌ، وَعَزِيزُهَا ذَلِيل، وَغَنِّيها فَقِير، شَابُّهَا يَهْرَمْ، وَحَيُّهَا يَمُوت، وَلا يَغُرُّكمْ إِقْبَالُهَا مَعَ مَعْرِفَتِكُم بِسُرْعَةِ إِدْبَارِهَا وَالمَغْرُورُ مِنِ اغْتَرَّ بِهَا.

أَيْنَ سُكَّانُهَا الذِينَ بَنُوا مَرَابِعَهَا وَشَقَّقُوا أَنْهَارَهَا وَغَرَسُوا أَشْجَارِهَا وَأَقَامُوا فِيهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً وَغَرَّتْهُمْ بِصُحْبَتِهم وَغُرُّوا بِنَشَاطِهِمْ فَرَكِبُوا المَعَاصِي إِنَّهُمْ كَانُوا وَاللهِ بِالدُّنْيَا مَغْبُوطِينَ بِالمَالِ عَلَى كثرة المَنْعِ عَلَيْهِ مَحْسُودِينَ عَلَى جَمْعِهِ.

مَا صَنَعَ التُّرَابُ بِأَبْدَانِهِمْ وَالرَّمْلُ بِأَجْسَامِهِم وَالدِّيدَانُ بِأَوْصَالِهِم وَلُحُومِهِم وِعِظَامِهِم وَإِذَا مَرَرْتَ فَنَادِهِمْ إِنْ كُنْتَ مُنَادِيًا وَادْعُهُمْ إِنْ كُنْتَ لا بُدَّ دَاعِيًا.

وَمُرَّ بِعَسْكَرِهِم وِانْظُرْ إِلَى تَقَارُبِ مَنَازِلِهِمْ وَسَلْ غَنِيَّهُمْ مَا بَقَى مِنْ غِنَاهُ وَسَلْ فَقِيرِهُمْ مَا بَقَى مِنْ فَقْرِهِ، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الأَلْسُنِ الَّتِي كَانُوا بِهَا يَتَكَلَّمُونَ

ص: 379

وعن الأعين التي كَانُوا بها ينظرون وسلهم عن الأعضاء الرقيقة.

والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان.

محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانْتِ الأعضاء، ومزقت الأشلاء قَدْ حيل بينهم وبين الْعَمَل وفارقوا الأحبة.

فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بإلية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، وقَدْ سألت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديدًا، ودبت دواب الأَرْض في أجسامهم، وتفرقت أعضاؤهم.

ثُمَّ لم يلبثوا إِلا يسيرًا حتى عادت العظام رميمًا قَدْ فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضائق قَدْ تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم.

فمِنْهُمْ والله الموسع له في قبره الغض الناعم فيه المتنعم بلذاته، فيا ساكن القبر ما الَّذِي غرك في الدُّنْيَا هل تظن أنك تبقى أو تبقى لك أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضر ينعها وأين رقاق ثيابك وأين كسوتك لصيفك وشتائك هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ وغاسلةً وحاملةً يا مدليه في قبره وراحل عَنْهُ، ليت شعري كبف نمت على خشونة الثرى، وبأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكى صرت في محله الموت، ليت شعري ما الَّذِي يلقاني به ملك الموت عَنْدَ خروج روحي من الدُّنْيَا.

شِعْرًا:

انْتَبِهْ مِنْ كُلِّ نَوْمٍ أَغْفَلَكْ

وَاخْشَ رَبًّا بِالْعَطَايَا جَمَّلَكْ

تَابِعِ الْمُخْتَارَ وَاسْلُكْ نَهْجَهُ

فَهُوَ نُورٌ مَنْ مَشَى فِيهِ سَلَكْ

ثِقْ بِمَوْلاكَ وَكُنْ عَبْدًا لَهُ

إِنَّ عَبْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا مَلِكْ

جَدِّدِ التَّوْبَ عَلَى مَا قَدْ مَضَى

مِنْ زَمَانٍ بِالْمَعَاصِي أَشْغَلَكْ

ص: 380

حَاسِبْ النَّفْسَ وَعَلِّمْهَا الرِّضَى

بِالْقَضَا وَاعْصِ هَوَاها تَرْضَ لَكْ

خُذْ مِنَ التَّقْوَى لِبَاسًا طَاهِرًا

فَالتُّقَى خَيْرُ لِبَاسٍ يَمْتَلَكْ

دَاوِم الذِّكْرِ لِخَلاقِ الْوَرَى

وَاتْرُكِ الأَمْرِ لِمَنْ أَجْرَى الْفَلَكْ

ذُلَّ وَاخْضَعْ وَاسْتَقِمْ وَاعْبُدْ لَهُ

مُخْلِصًا يَفْتَحُ بَابَ الْخَيْرِ لَكْ

رَوِّحِ الْقَلْبَ لَهُ وَاعْكِفْ عَلَى

بَابِهِ فَهُوَ الَّذِي قَدْ فَضَّلَكْ

زَيِّن الْبَاطِنَ بِالتَّقْوَى تَفُزْ

حَسِّنِ الظَّاهِرَ تُعْطَى أَمَلَكْ

سَلِّمَ الأَمْرَ لَهُ تَسْلَمْ فَكَمْ

مِن فَتَى إِذْ سَلَّمَ الأَمْرَ سَلَكْ

شُقَّ حُجْبَ الْكَوْنِ لِلْمَعْبُودِ لا

تَلْتَفِتْ إِلا إليه يَقْبَلَكْ

صُنْ عَنْ الدُّنْيَا لِسَانًا وَيَدًا

وَفُؤَادًا وَلَهُ اخْلِصْ عَمَلَكْ

ضُمَّ أَحْشَاكَ عَلَى تَوْحِيدِهِ

فَهُوَ نُورٌ يُذْهِبُ الدَّاجِي الْحَلِكْ

طِبْ لَهُ وَاقْنَعْ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ

فَهُوَ كَافٍ فَضْلَهُ قَدْ شَمَلَكْ

ظَنَّ خَيْرًا تَلْقَ مَا قَدْ تَرْتَجِي

مِنْ جَمِيعِ الْخَيْرِ حَتَّى يَقْبَلَكْ

عُدْ إليه كُلَّمَا حَلَّ الْبَلا

عَلَّ تَسْلَمْ مِنْ رَجِيمٍ سَوَّلَكْ

خُضْ بِحَارَ الْعُذْرِ فِي جَنْحِ الدُّجَى

لِكَرِيمٍ بِالْعَطَايَا خَوَّلَكْ

فَاتْرُكِ التَّدْبِيرَ وَالْعِلْمَ لَهُ

اسْأَلِ الْمَوْلَى يُصَفِّي مَنْهَلَكْ

قُلْ بِذُلِّ: يَا رَحِيمُ الرُّحَمَا

يَا مُنْجِي بِالْعَطَايَا مَنْ هَلَكْ

كُنْ مُجِيرًا وَنَصِيرًا وَحِمَىً

لِعُبَيْدٍ مُذْنِبٍ قَدْ سَأَلَكْ

لُذْتَ بِالْبَابِ فَحَاشَا أَنْ أُرَى

تَعِبًا وَالأَمْرُ وَالتَّدْبِيرُ لَكْ

مَرَّ عَيْشِي وَالْخَطَا أَبْعَدَنِي

وَاعْتِقَادِي الصَّفْحُ عَمَّا كَانَ لَكْ

نَجِّنَا مِنْ كُلِّ كَرْبٍ وَبَلا

يَوْمَ يَلْقَى الْعَبْدُ مَكْتُوبَ الْمَلَكْ

هَبْ لَنَا السِّتْرَ وَلا تَفْضَحْ لَنَا

يَا إِلَهِي وَاعْفُ عَمَّنْ سَاءَ لَكْ

يَا مُحِبَّ الْعَفْوِ يَسِّرْ أَمْرَنَا

وَاقْضِ عَنَّا مَا لِمَخْلُوقٍ وَلَكْ

ص: 381

.. وَتَحَنَّنْ بِالْعَطَايَا كَرَمًا

أَنْتَ مَوْلانَا وَأَوْلَى مَنْ مَلَكْ

انتهى.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعَدُوّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

اللَّهُمَّ أَنَا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانَا وأهلنا وأموالنا ونسألك أن تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ) : ذكر الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? قال: «يجَاءَ بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيوقف بين يدي الله عز وجل فَيَقُولُ: الله له: أعطيتك وخولتك وأنعمت عَلَيْكَ فماذا صنعت؟ فَيَقُولُ: جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كَانَ فارجعني آتيك به، فَيَقُولُ له: أرني ما قدمت، فَيَقُولُ: يا رب جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كَانَ فارجعني آتك به، فإذا عبد لم يقدم خيرًا فيمضى به إلى النار» .

فتفكر يا مسكين في نفسك ما دمت في قيد الحياة وأَنْتَ تحكم في مالك ولا لك معارض وتتصرف فيه كيف شئت واجعل يوم تبلى السرائر نصب عينيك بين ما أَنْتَ في هَذَا اليوم العَظِيم الَّذِي قَدْ امتلئت فيه القُلُوب من الخوف والقلق والرعب والذعر والانزعاج وقَدْ بلغت القُلُوب الحناجر.

قال تَعَالَى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوب لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} فبينما النَّاس في هذه الحال التي حدثت عَنْهَا إذا جيء بجنهم تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمان سبعون ألف ملك يجرونها حتى تَكُون بمرأى من الخلق ومسمَعَ يرون لهيبها ويسمعون زفيرها فبينما أَنْتَ في تلك الحال إذا أخذ بضبعك وقبض على عضديك وجيء بك تتخطى الرقاب وتخترق الصفوف

ص: 382

والخلائق ينظرون إليك حتى إذا وقفت بين يدي الله تَعَالَى فسئلت عن القليل والكثير والدقيق والجليل والقطمير والنقير ولا تجد أحدًا يجاوب عَنْكَ بلفظة ولا يعينك بكلمة ولا يرد عَنْكَ جوابًا في مسألة.

وأَنْتَ شاهدت من عظم الأَمْر وجلالة القدر وهيبة الحظرة ما أذهب بيانك وأخرس لسانك وأذهل جنانك.

ونظرت يمينًا وشمالاً وبين يديك فلم تر إِلا النار وعملك الَّذِي كنت تعمل وكلمك رب العزة جل جلاله بغير حجاب يحجبك ولا ترجمان يترجم لك.

وكيف تَكُون حيرتك ودهشتك إذا قيل: عاملت فلانَا يوم كَذَا وَكَذَا في كَذَا وَكَذَا وغبنته في كَذَا وَكَذَا وغششته في السلعة الفلانية.

وتركت نصيحته في كَذَا وَكَذَا وبعته السلعة المعيوبة ولم تبين له العيب أو غصبت فلانَا أو ظلمت فلانَا أو قتلت فلانَا أو أعنت فلانَا أو أعنت على قتله أو نحو ذَلِكَ.

وقيل: ما حجتك أقم بينة ائت ببرهان فأردت الكلام فلم تبين وجئت بعذر فلم يستبن هيهات أنى لك الكلام ولم تنقحه وأنى لك بالعذر في الدُّنْيَا لم تصححه قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} .

وَقَالَ تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} الآيات، وَقَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} الآيتين.

فَانْظُرْ في هَذَا الموقف عَنْدَ السؤال بأي بدن تقف بين يدي الله وبأي لسان تجيبه فأعد للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا فما شئت من قلب يخلع ومن كبد تصدع ومن لسان يتلجج ومن أحشاء تتموج ومن نفس تريد أن تخَرَجَ.

ص: 383

شِعْرًا:

سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ أَيَّةُ لَيْلَةٍ

مَخَضَتْ صَبِيحَتُهَا بِيَوْمِ الْمَوْقِفِ

لَوْ أَنَّ عَيْنًا أَوْهَمَتْهَا نَفْسُهَا

يَوْمَ الْحِسَابِ تَمَثُّلاً لَم تَطْرُفِ

وانظر ما أشأم تلك الأرباح التي ربحتها وأخسر تلك المعاملات التي ألهتك عن ما خلقت له انظر كيف ذهبت عَنْكَ مسراتها وبقيت حسراتها والشهوات التي في ظلم العباد انْفَذْتَهَا كيف ذهب عَنْكَ الفرح بها وبقيت التبعة.

وانظر هل يقبل منك فدا في ذَلِكَ الموقف الرهيب وما الَّذِي يخلصك من ذَلِكَ السؤال قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} .

وفي بعض الأخبار يتمنى رِجَال أن يبعث بِهُمْ إلى النار ولا تعرض قبائحهم على الله تَعَالَى ولا تكشف مساوئهم على رؤوس الخلائق، فما ظنك بهَذَا المقام وبهَذَا السؤال وبهَذَا النكال والوبال.

وما ظنك بنفسك وقَدْ جيء بجهنم على الوصف الَّذِي تقدم وقَدْ دنت من الخلائق، وشهقت وزفرت، وثارت وفارت.

ونهض خزانها والموكلون بها، والمعدون لتعذيب أهلها متسارعين إلى أخذ من أمروا بأخذه، ساحبين له على بطنه وحرِّوََجْهِهِ سامعين مطيعين لله {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .

فتصور حالك وكيف وقَدْ امتلأت القُلُوب خوفًأ ورعبًا وذعرًا وفزعًا، وارتعدت الفرائص، وبلغت القُلُوب الحناجر، واصطفت الأحشا، وتقطعت الأمعاء، وطلبوا الفرار وطاروا لو يحصل لَهُمْ مطار.

وجئت الأمم على الركب وأيقن المذنوبون بالهلاك والعطب وسوؤ المنقلب، ونادى الأنبياء والصديقون والأَوْلِيَاء: نفسي نفسي.

كُلّ نفس قَدْ أفردت لشأنها وتركت لما بها قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس:

ص: 384

{يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، ،قال تبارك وتعالى:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وظن كُلّ إنسان أنه هُوَ المأخوذ وأنه هُوَ المقصود والمطلوب، وذهلت العقول وطاشت الألباب، وتحيرت الأذهان، وفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.

واشتغل بشأنه الَّذِي يهمه ويعنيه، وسئل عن جَمِيع أمره سره وجهره، دقيقه وجليله كثيره وقليله، وسئل عن أعضائه عضوًا عضوًا وجارحة، وعن شكره عَلَيْهَا، وعن أداء حق الله فيها.

وظهرت القبائح وكثرت الفضائح، وبدت المخازي واشتهرت المساوي، وتركك الأَهْل والأقربون، ولم ينفعك مال ولا بنون، وأقبلت تجادل عن نفسك وتخاصم عَنْهَا وتطلب المعاذير لها قال الله جَلَّ وَعَلا:{يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} .

وقَدْ أسلمت وأفردت واشتغل كُلّ إنسان عَنْكَ بنفسه قال الله جَلَّ وَعَلا: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، وَقَالَ عز من قائل:{وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} الآيَة.

وأنشدوا:

خَلِيلِي مَا أَقْضِي وَمَا أَنَا قَائِلٌ

إِذَا جِئْتُ عَنْ نَفْسِي بِنَفْسِي أُجَادِلُ

وَقَدْ وَضَعَ الرَّحْمَنُ فِي الْخَلْقِ عَدْلَهُ

وَسِيقَ جَمِيعُ النَّاسِ واليوم بَاسِلُ

وَجِيءَ بِجُرْم النَّارِ خَاضِعَة لَهُ

وَثُلَّثْ عُرُوشٌ عِنْدَهَا وَمَجَادِلُ

فَيَا لَيْتَ شِعْرِي ذَلِكَ اليوم هَلْ أَنَا

أَأَغْفَر أَمْ أُجْزَى بِمَا أَنَا فَاعِلُ

فَإِنْ أَكُ مُجْزِيًا فَعَدْلٌ وَحُجَّةٌ

وَإِنْ يَكُ غُفْرَانٌ فَفَضْلَ وَنَائِلُ

آخر:

أَلَمْ تَسْمَعْ عَن النَّبَأَ الْعَظِيمِ

وَعَنْ خَطْبِ خُلِّقَتَ لَهُ جَسِيم

ص: 385

وَزِلْزَالٍ يَهُدُّ الأَرْضَ هَدًّا

وَيَرْمِي فِي الْحَضِيضَةٍ بِالنُّجُومِ

وَأَهْوَالٍ كَأَطْوَادٍ رَوَاسِي

تَلاطَمُ فِي ظُلُوعِ كَالْهَشِيمِ

فَمِنْ رَاسٍ يَشِيبُ وَمِنْ فُؤَادٍ

يَذُوبُ وَمِن هُمُومٍ فِي هُمُومِ

وَسَكْرَانٍ وَلَمْ يَشْرَبْ لِسُكْرٍ

وَهَيْمَانٍ وَلَمْ يَعْلقْ بِرِيمِ

وَمُرْضِعَةٍ قَدْ أَذْهَلَهَا أَسَاهَا

فَمَا تَدْرِي الرَّضِيعَ مِن الْفَطِيمِ

وَمُؤْتَمَةٍ تَوَلَّتْ عَنْ بَنِيهَا

وَأَلْقَتْ بِإليتِيمَةِ وَاليتِيمِ

وَحُبْلَى أَسْقَطَتْ ذُعْرًا وَخَوْفًا

فَيَاللهِ لِلْيَوْمِ الْعَقِيمِ

وَهَذَا مَشْهَدٌ لا بُدَّ مِنْهُ

وَجَمْعٌ لِلْحَدِيثِ وَلِلْقَدِيمِ

وَمَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ وَالنَّجَاشِي

وَتُبَّعُ وَالْقُرُومُ بَنُوا الْقُرُومِ

بِذَاكَ اليوم إِلا فِي مَقَامٍ

أَذَلَّ مِن التُّرَابِ لِذِي السَّلِيمِ

وَمَا لِلْمَرْءِ إِلا مَا سَعَاهُ

لِدَارِ الْبُوْسِ أَوْ دَارِ النَّعِيمِ

وَأَنْتَ كَمَا عَلِّمْتَ وَرَبَّ أَمْرٍ

يَكُونُ أَذَاهُ أَوْقَعُ بِالْعَلِيمِ

فَدَعْ عَيْنَيْكَ تَسْبَحْ فِي مَعِينٍ

وَقَلْبَكَ ذَرْهُ يَقْلُبُ فِي جَحِيمِ

وَشُقَّ جُيُوبَ صَبْرِكَ شَقَّ ثُكْلَى

تَعَلَّقَتِ ابْنَهَا رَجُلاً سَهُومِ

وَمَاذَا الأَمْرُ ذَلِكُمُ وَلَكِنْ

تُشَبَّهُ بِالْبِحَارِ يَدُ الْكَرِيمِ

اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

خطبة في أشراط الساعة لأحد الْعُلَمَاء رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى

الحمد لله الَّذِي جعل الليل والنَّهَارَ خلقة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً

ص: 386

الَّذِي اعترفت بوحدانيته جَمِيع مخلوقاته فارجع البصر إلى السماء هل تَرَى من فطور أحمده سبحانه وتعالى حمد عبد معترف بصدق اليقين وأشكره شكرًا دائمًا في كُلّ حين.

وأشهد أن لا إله وحده لا شريكه له الملك الحق المبين وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين اللَّهُمَّ صلِّ وسلم على عبدك ورسولك مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وصلاة وسلامًا يمتدان إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها النَّاس اتقوا الله تَعَالَى فإن تقواه من النار حصن حصين وتنزهوا عن حب الدُّنْيَا كي تفوزوا مَعَ الزاهدين عباد الله انتبهوا من رقادكم فإن الأجل إلى القبور يسير ولم يبق من دنياكم إِلا إليسير اقتربت الساعة فالدُّنْيَا على شرف هار وظهرت علامتها ظهور الشمس في رابعة النَّهَارَ.

ألا إن الدُّنْيَا قَدْ أدبرت وولت حذاء ولم يبق منها إِلا كصبابة عيش يتصابها أهلها وإن الآخِرَة قَدْ أقبلت فكونوا من أبناء الآخِرَة ولا تكونوا من أبناء الدُّنْيَا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل، أما ترون الأمانة قَدْ ضيعت والزمان تغير بظهور الفواحش في كُلّ مكَانَ وتتابع الفتن ودخولها من كُلّ باب ووقوف الأعراب على أفواه الشعاب وتطاول الحفاة العراة في البنيان.

وفشو الحسد والظلم والجور وقتل النفس بغير حق ونزع الإِيمَان والرحمة من القُلُوب وجور الحكام وفتك الأعراض وموت الْعُلَمَاء العاملين واحدًا بعد واحد كأنهم للمنية أغراض.

وفشو الزنا والربا وهما سبب الفقر والأمراض وساد القبيلة منافقوها وعلا فجارها صالحيها وصار زعيم القوم أرذلهم وارتفعت الأصوات في المساجد وأكرم الرجل مخافة شره فصار العاصي عَنْدَ النَّاس قريبًا والمطيع بين أظهرهم غريبًا.

ص: 387

ألا هل معين على غربة الإسلام ألا هل معين على غربة الإسلام فقَدْ بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فعَنْدَ ظهور هذه العظائم يؤخذ بالجرائم أما كَانَ المغنم دولاً والأمانة مغنمًا والزَّكَاة مغرمًا أما تعلم العلم لغير الدين أما أطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه.

أما شربت المسكرات ولبس الحرير واتخذت القينات والمعازف ألا فإن المصطفى عَلَيْهِ أفضل الصَّلاة والسَّلام قال: «إذا ظهرت هذه فارتقبوا عَنْدَ ذَلِكَ ريحًا حمرًا ومسخًا وخسفًا» . وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة مرفوعًا: «لن أن تَقُوم الساعة حتى تروا عشر آيات فذكر الدخان وخروج يأجوج ومأجوج وتخريب الكعبة ورفع القرآن من صدور حامليه وخروج الدابة ومحمدًا المهدي وطلوع الشمس من مغربها.

فإذا طلعت ورآها النَّاس آمنوا أجمعون فذَلِكَ حين لا ينفع نفسًا إيمانه لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا وآخر الآيات نار تخَرَجَ من إليمن تطرد النَّاس إلى محشرهم تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معه حيث قَالُوا» .

فانتبهوا لهذه الأهوال بما يؤمنكم بالتوبة النصوح والزموا باب مولاكم واقرعوه فإنه مفتوح {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

أجارني الله وإياكم من عذاب النار وأصلح لي ولكم الْعَمَل لدار القرار.

إن أحسن المواعظ للمتدبرين كلام الله الملك الحق المبين والله يَقُولُ وبقوله يهتدي المؤمنون: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . أعوذ بِاللهِ من الشيطان الرجيم: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} .

بارك الله لي ولكم في القرآن العَظِيم. ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر

ص: 388

الحكيم أَقُول قولي هَذَا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كُلّ ذنب فاستغفروه إنه هُوَ الغفور الرحيم.

(فَصْلٌ)

وخَرجَ مسلم من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أَبِي هُرَيْرَةِ وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة كلاهما عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث الشفاعة، وفيه قال:«فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَيَقُومُ وَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ معه الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ» ، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْء كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَأَشَدِّ الرِّجَال تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَحَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلا زَحْفًا» . قَالَ: «وَفِي حَافَتَيْ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ» . وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعِينَ خَرِيفًا.

وروى أبو الزعراء عن ابن مسعود قال: (يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم فيمر النَّاس عَلَى قَدْرِ أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثُمَّ كمر الريح، ثُمَّ كمر الطير، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، حتى يجيء آخرهم يتلبط على بطنه، فَيَقُولُ: يا رب لم بطأت بي؟ فَيَقُولُ: إني لم أبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك) ، وَذَلِكَ أن الإِيمَان والْعَمَل الصالح في الدُّنْيَا هو

ص: 389

الصراط المستقيم في الدُّنْيَا الَّذِي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عَلَيْهِ وأمرهم بسؤال الهداية إليه، فمن استقام سيره على هَذَا الصراط المستقيم في الدُّنْيَا، ولم ينحرف عَنْهُ يمنةً ولا يسرةً استقام سيره على الصراط المنصوب على متن جهنم ومن لم يستقم سيره على الصراط المستقيم في الدُّنْيَا بل انحرف عَنْهُ إمّا إلى فتنة الشبهات، أو إلى فتنة الشهوات كَانَ اختطاف الكلاليب له على صراط جهنم، بحسب اختطاف الشبهات والشهوات له عن هَذَا الصراط المستقيم.

شِعْرًا:

أَمَامِي مَوْقِفٌ قُدَّامُ رَبِّي

يُسَائِلْنِي وَيَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ

وَحَسْبِي أَن أَمُرَّ عَلَى صِرَاطٍ

كَحَدِّ السَّيْفِ أَسْفَلُهُ لَظَاءُ

>?

ففكر في أهوال الصراط وعظائمه، وما يحل بالإِنْسَان من الذعر والخوف عَنْدَ رؤيته، ووقوع بصرك على جهنم من تحته، وسماعك شهيقها وتغيظها على الكفرة، وقَدْ اضطرت إلى أن تمشي على الصراط الَّذِي مرت صفته وصفة المُرُور عَلَيْهِ مَعَ ضعف حالك، وكونك حافيًا عاريًا، وثقل الظهر بالأوزار المانعة عن المشي في الأَرْض المستوية فضلاً عن المشي على حد الصراط، فتصور وضعك رجلك عَلَيْهِ وإحساسك بحدته وأَنْتَ مضطر إلى أن ترفع رجلاً وتضع الأخرى، وأَنْتَ مندهش مِمَّا تحتك وأمامك ممن يئنون، وآخرون يزلون، وآخرون يخطفون بالخطاطيف وبالكلاليب، والعويل والبُكَاء تسمَعَ له تتابعًا وَدَوِيًّا، وتنظر الَّذِينَ ينتكسون على رؤوسهم، وآخرون على

ص: 390

وجوههم، فتعلوا الأرجل، فيا له من منظر فظيع، ومرتقًى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه، ومكَانَ ما أهوله، وموقف ما أشقه، وكأني بك مملوء من الرعب والذعر، تلفت يمينًا وشمالاً إلى من حولك من الخلق، وتجيل فيهم بصرك، وهم يتهافتون قدامك في جهنم، والزعقات بالويل والثبور قَدْ ارتفعت من قعر جهنم، لكثرة من يزل عن الصراط، والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«رب سلم سَلم» . فتصور لو زلت قدمك فهل ينفعك ندمك، وتحسرك في ذَلِكَ الوَقْت كلا {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} .

اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن تكفينا ما أهمنا وما لا نهتم به وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

رحلة ومصير:

يَا مَنْ يُتَابِعُ سَيَّدَ الثَّقَلانِ

كُنْ لِلْمُهَيْمِنِ صَادِقَ الإِيمَانِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُكَ الَّذِي

سَوَّاكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِنْسَانِ

خَلَقَ الْبَرِيَّةَ كُلَّهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ

تَدْعُوهُ بِالإِخْلاصِ وَالإذْعَانِ

قَدْ أَرْسَلَ الآيَاتِ مِنْهُ مُخَوِّفًا

لِعِبَادِهِ كَيْ يُخْلِصَ الثَّقَلانِ

وَأَبَانَ لِلإِنْسَانِ كُلَّ طَرِيقَةٍ

كَيْ لا يَكُونَ لَهُ اعْتِذَارٌ ثَانِي

>?

ص: 391

.. ثُمَّ اقْتَضَى أَمْرًا وَنَهْيًا عَلَّهَا

تَتَمَيَّزُ التَّقْوَى عَنِ الْعِصْيَانِ

وَوُلِدْتَ مَفْطُورًا بِفِطْرَتِكَ الَّتِي

لَيْسَتْ سِوَى التَّصْدِيقِ وَالإيمَانِ

وَبُلِيتَ بِالتَّكْلِيفِ أَنْتَ مُخَيَّرٌ

وَأَمَامَكَ النَّجْدَانِ مُفْتَتَحَانِ

فَعَمِلْتَ مَا تَهْوَى وَأَنْتَ مُرَاقَبٌ

مَا كُنْتَ مَحْجُوبًا عَنِ الدَّيَّانِ

ثُمَّ انْقَضَى الْعُمْرُ الَّذِي تَهْنَا بِهِ

وَبَدَأْتَ فِي ضَعْفٍ وَفِي نُقْصَانِ

وَدَنَا الْفِرَاقُ وَلاتَ حِينَ تَهَرُّبٌ

أَيْنَ الْمَفَرُّ مِن الْقَضَاءِ الدَّانِي

وَالْتَفَّ صَحْبُكَ يَرْقُبُونَ بِحَسْرَةٍ

مَاذَا تَكُونُ عَوَاقِبُ الْحَدَثَانِ

وَاسْتَلَّ رُوحَكَ وَالْقُلُوبُ تَقَطَّعَتْ

حَزَنًا وَأَلْقَتْ دَمْعَهَا الْعَيْنَانِ

فَاجْتَاحَ أَهْلَ الدَّارِ حُزْنٌ بَالِغٌ

وَاجْتَاحَ مَنْ حَضَرُوا مِنَ الْجِيرَانِ

فَالْبِنْتُ عَبْرَى لِلْفِرَاقِ كَئِيبَةً

وَالدَّمْعُ يَمْلأ سَاحَةَ الأَجْفَانِ

وَالزَّوْجَ ثَكْلَى وَالصِّغَارُ تَجَمَّعُوا

يَتَطَّلَعُونَ تَطَلُّعَ الْحَيْرَانِ

>?

ص: 392

.. وَالابْنُ يَدْأَبُ فِي جِهَازِكَ كَاتِمًا

شَيْئًا مِنَ الأَحْزَانِ وَالأَشْجَانِ

وَسَرَى الْحَدِيث وَقَدْ تَسَائَلَ بَعْضُهُمْ

أَوْ مَا سَمِعْتُمْ عَنْ وَفَاةِ فُلانِ

قَالُوا سَمِعْنَا وَالْوَفَاةُ سَبِيلُنَا

غَيْرَ الْمُهَيْمِنِ كُلُّ شَيْءٍ فَانِي

وَأَتَى الْحَدِيث لِوَارِثِيكَ فَأَسْرَعُوا

مِنْ كُلِّ صَوْبٍ لِلْحُطَامِ الْفَانِي

وَأَتَى الْمُغَسِّلُ وَالْمُكَفِّنُ قَدْ أَتَى

لِيُجَلِّلُوكَ بِحُلِّةِ الأَكْفَانِ

وَيُجَرِّدُوكَ مِنَ الثِّيَابِ وَيَنْزَعُوا

عَنْكَ الْحَرِيرَ وَحُلَّةَ الْكَتَّانِ

وَتَعُودُ فَرْدًا لَسْتَ حَامِلَ حَاجَةٍ

مِن هَذِهِ الدُّنْيَا سِوَى الأَكْفَانِ

وَأَتَى الْحَدِيث لِوَارِثِيكَ فَأَسْرَعُوا

فَأَتُوا بِنَعْشٍ وَاهِنَ الْعِيدَانِ

صَلُّوا عَلَيْكَ وَأَرْكَبُوكَ بِمَرْكَبٍ

فَوْقَ الظُّهُورِ يُحَفُّ بِالأَحْزَانِ

حَتَّى إِلَى الْقَبْرِ الَّذِي لَكَ جَهَّزُوا

وَضَعُوكَ عِنْدَ شَفِيرِهِ بِحَنَانِ

وَدَنَا الأَقَارِبُ يَرْفَعُونَكَ بَيْنَهُمْ

لِلْحَدِّ كَيْ تُمْسِي مَعَ الدِّيدَانِ

>?

ص: 393

.. وَسَكَنْتَ لَحْدًا قَدْ يَضِيقُ لِضَيْقِهِ

صَدْرَ الْحَلِيمِ وَصَابِرُ الْحَيَوَانِ

وَسَمِعْتَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا

وَضَعُوكَ فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ الثَّانِي

فِيهِ الظَّلامُ كَذَا السُّكُونُ مُخَيَّمٌ

وَالرُّوحُ رَدَّ وَجَاءَكَ الْمَلَكَانِ

وَهُنَا الْحَقِيقَةُ وَالْمُحَقِّقُ قَدْ أَتَى

هَذَا مَقَامُ النَّصْرِ وَالْخُذْلانِ

إِنْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا لِرَبِّكَ مُخْلِصًا

تَدْعُوهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ

فَتَظَلُّ تَرْفُلُ فِي النَّعِيمِ مُرَفَهًا

بِفَسِيحِ قَبْرٍ طَاهِرِ الأَرْكَانِ

وَلَكَ الرَّفِيقُ عَنِ الْفِرَاقَ مُسَلِّيًا

يُغْنِي عَنِ الأَحْبَابِ وَالأَخْدَانِ

فُتِحَتْ عَلَيْكَ مِنَ الْجِنَانِ نَوَافِذٌ

تَأْتِيكَ بِالأَنْوَارِ وَالرَّيْحَانِ

وَتَظَلُّ مُنْشَرِحَ الْفُؤَادِ مُنْعَمًا

حَتَّى يَقُومَ إِلَى الْقَضَا الثَّقَلانِ

تَأْتِي الْحِسَابَ وَقَدْ فَتَحَتَ صَحِيفَةً

بِالنُّورِ قَدْ كُتِبَتْ وَبِالرِّضْوَانِ

وَتَرَى الْخَلائِقَ خَائِفِينَ لِذَنْبِهِمْ

وَتَسِيرُ أَنْتَ بِعِزَّةٍ وَأَمَانِ

>?

ص: 394

.. وَيُظِلُّكَ اللهُ الْكَرِيمُ بِظِلِّهِ

وَالنَّاسُ فِي عَرَقٍ إِلَى الآذَانِ

وَتَرَى الصِّرَاطَ وَلَيْسَ فِي صُعُوبَةٌ

كَالْبَرَقِ تَعْبُرُ فِيهِ نَحْوَ جِنَانِ

فتَرَى الْجِنَانَ بِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا

وَتَرَى الْقُصُورَ رَفِيعَةَ الْبُنْيَانِ

طِبْ فِي رَغِيدِ الْعَيْشِ دُونَ مَشَقَّةٍ

تَكْفِي مَشَقَّةٌ سَالِفِ الأَزْمَانِ

وَالبَسْ ثِيَابَ الْخُلْدِ وَاشْرَبْ وَاغْتَسِلْ

وَابْعِدْ عَنِ الأَكْدَارِ وَالأَحْزَانِ

سِرْ وَانْظُرْ الأَنْهَارَ وَاشْرَبْ مَاءَهَا

مِنْ فَوْقِهَا الأَثْمَارُ فِي الأَفْنَانِ

وَالشَّهْدُ جَارٍ فِي الْعُيُونِ مُطَهَرٌ

مَعَ خَمْرَةِ الْفِرْدَوْسِ وَالأَلْبَانِ

وَالزَّوْجُ حُورٌ فِي الْبُيُوتِ كَوَاعِبٌ

بِيضُ الْوُجُوهِ خَوَامِصُ الأَبْدَانِ

>?

أَبْكَار شِبْهِ الدَّارِ فِي أَصْدَافِهِ

وَاللُّؤلُو الْمَكْنُونِ وَالْمُرْجَانِ

وَهُنَا مَقَرٌّ لا تَحُولَ بَعْدَهُ

فِيهِ السُّرُورِ بِرُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ

أَمَّا إِذَا مَا كُنْتَ فِيهَا مُجْرِمًا

مُتَتَبِّعًا لِطَرَائِقِ الشَّيْطَانِ

ثَكِلْتَكَ أُمُّكَ كَيْفَ تَحْتَمِلُ الأَذَى

أَمْ كَيْفَ تَصْبِرُ فِي لَظَى النِّيَرانِ

فَإِذَا تَفَرَّقَ عَنْكَ صَحْبُكَ وَانْثَنَى

حُمَّالُ نَعْشِكَ جَاءَكَ الْمَلَكَانِ

جَاءآلآ مَرْهُوبِينَ منِ ْعيَنْيِهِمَا

تُرْمَى بِأَشْوَاظٍ مِنَ النِّيرَانِ

ص: 395