المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[قصص ومواعظ رائعة ومطالب عالية] - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٥

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌[قصص ومواعظ رائعة ومطالب عالية]

لَهُمْ خبر عجيب، وعندهم الخبر العجيب، بِهُمْ قام الْكِتَاب وبه قاموا، وبهم من نطق الْكِتَاب، وبه نطقوا، وبهم علم الْكِتَاب وبه علموا فلَيْسَ يرون نائلاًَ مَعَ ما نالوا ولا أمانَا دون ما يرجون ولا خوفًا دون ما يحذرون. رواه الإمام أَحَمَد.

[قصص ومواعظ رائعة ومطالب عالية]

عن عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وَهُوَ من أصحاب النَّبِيّ ? أن النَّبِيّ ? ابتاع فرسًا من أعرابي فاستتبعه النَّبِيّ ? ليقضيه ثمن فرسه.

فأسرع النَّبِيّ ? المشي وأبطأ الأعرابي. فطفق رِجَال يعترضون الأعرابي فيساومون بالفرس ولا يشعرون أن النَّبِيّ ? ابتاعه.

حتى زَادَ بَعْضهمْ الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الَّذِي ابتاعه النَّبِيّ ?.

فنادى الأعرابي النَّبِيّ ? فَقَالَ: إن كنت مبتاعًا هَذَا الفرس فابتعه وإِلا بعته.

فقام النَّبِيّ ? حين سمَعَ نداء الأعرابي فَقَالَ: «أو لَيْسَ قَدْ ابتعته منك» ؟ قال الأعرابي: لا وَاللهِ ما بعتك.

فَقَالَ النَّبِيّ ?: «بلى قَدْ ابتعته منك» فطفق النَّاس يلوذون بالنَّبِيّ ? والأعرابي وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يَقُولُ: هَلُمَّ شهيدًا يشهد أني بايعتك؟

فمن جَاءَ من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النَّبِيّ ? لم يكن ليَقُولُ إِلا حقًا.

حتى جَاءَ خزيمة فاستمَعَ لمراجعة النَّبِيّ ? ومراجعة الأعرابي وطَفِقَ الأعرابي يَقُولُ: هَلُمَّ شهيدًا أني بايعتك؟

ص: 624

فَقَالَ خزيمة: أَنَا أشهد أنك قَدْ بايعته؟ فأقبل النَّبِيّ ? على خزيمة فَقَالَ: «بم تشهد» ؟ قال: بتصَدِيقكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

فجعل النَّبِيّ ? شهادة خزيمة شهادة رجلين.

وقَدْ روى في بعض طرق هَذَا الْحَدِيث أن النَّبِيّ ? قال لخزيمة: «بم تشهد ولم تكن معنا» ؟ قال: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا أصدقك بخبر السماء أفلا أصدقك بما تَقُول؟

قال الخطابي: ووجه هَذَا الْحَدِيث أن النَّبِيّ ? حكم على الأعرابي بعلمه إذ كَانَ النَّبِيّ ? يَقُولُ صادقًا بارًا وجرت شهادة خزيمة في ذَلِكَ مجرى التوكيد لقوله له ? والاستظهار بها على خصمه.

فصَارَت في التقدير مَعَ قول رسول الله ? كشهادة رجلين في سائر القضايا. رحمه الله. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَمَ.

فَصْلٌ: قال الواقدي عن أشياخ له: إن شيبة بن عثمان كَانَ يحدث عن إسلامه فَيَقُولُ: ما رَأَيْت أعجب مِمَّا كانَا فيه من لزوم ما مضى عَلَيْهِ آباؤنا من الضلالات.

فَلَمَّا كَانَ عام الفتح ودخل النَّبِيّ ? عنوة قُلْتُ: أسير مَعَ قريش إلى هوزان بحنين فعَسَى إن اختلطوا أن أصيب من مُحَمَّد غرة فأثأر منه فأكون أَنَا الَّذِي قمت بثأر قريش كُلّهَا، وأَقُول: ولو لم يبق من الْعَرَب والعجم أحد إِلا اتبع محمدًا ما اتبعته أبدًا.

فَلَمَّا اختلط النَّاس اقتحم رسول الله ? عن بغلته وأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي، فرفع لي شواظ من نار كالبرق حتى كاد يمحشني فوضعت يدي على بصري خوفًا عَلَيْهِ، فالتفت إلى رسول الله ? وناداني يا شيب ادن مني.

فدنوت منه فمسح صدري وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أعذه من الشيطان

ص: 625

فوالله لهو كَانَ ساعتئذٍ أحب إلى من سمعي وبصري ونفسي وأذهب الله عز وجل ما كَانَ بي.

ثُمَّ قال: ادن فقاتل. فتقدمت أمامه اضرب بسيفي، الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كُلّ شَيْء، ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كَانَ حيًا لأوقعت به السيف.

فَلَمَّا تراجع المسلمون وكروا كرة رجل واحد قربت بغلة رسول الله ? فاستوى عَلَيْهَا فخَرَجَ في أثرهم حتى تفرقوا في كُلّ وجه، وَرَجَعَ إلى معسكره فدخل خباءه، فدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ:«يا شيب الَّذِي أراد الله بك خَيْر مِمَّا أردت بنفسك» .

ثُمَّ حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مِمَّا لم أكن أذكره لأحد قط. فقُلْتُ: فإني أشهد أن لا إله إِلا الله وأنك رسول الله. ثُمَّ قُلْتُ: أستغفر لي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «غفر الله لك» .

وعن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره مِنْهُمْ البراء بن مالك» .

وإن البراء لقي زحفًا من المشركين وقَدْ أوجع المشركون في المسلمين.

فَقَالُوا له: يا براء إن رسول الله ? قال: إنك لو أقسمت على الله لأبرك، فأقسم على الله فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم فمنحوا أكتافهم.

ثُمَّ التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا المسلمين فَقَالُوا: أقسم على ربك، فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبيك ? فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.

ص: 626

فَصْلٌ: أرسل عمر إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكَانَ النَّاس يثنون عَلَيْهِ خيرًا حتى سئل عَنْهُ رجل من بني عبس.

فَقَالَ: أما إذا أنشدتمونا عن سعد فإنه كَانَ لا يخَرَجَ في السرية ولا يعدل بالرعية ولا يقسم بالسوية.

فَقَالَ سعد: اللَّهُمَّ إن كَانَ كاذبًا قام رياءً وسمعةً فاطل فأطل عمره وعظم فقره وعرضه للفتن.

فكَانَ يرى وَهُوَ شيخ كبير قَدْ تدلى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات وَيَقُولُ: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.

وَكَذَا سعيد بن زيد كَانَ مجاب الدعوة فقَدْ روى أن أروى بنت أوس استعدت مروان على سعيد وقَالَتْ: سرق من أرضي وأدخله في أرضه.

فَقَالَ سعيد: اللَّهُمَّ إن كأَنْتَ كاذبة فأذهب بصرها وأقتلها في أرضها فذهب بصرها وماتت في أرضها.

قال إبراهيم بن آدهم: مرض بعض العباد فدخلنا عَلَيْهِ نعوده فجعل يتنفس ويتأسف فقُلْتُ له: على ماذا تتأسف؟ قال: على ليلة نمتها، ويوم أفطرته، وساعة غفلت فيه عن ذكر الله عز وجل.

وبكى بعض العباد عَنْدَ موته فقيل له: ما يبكيك؟ فَقَالَ: أن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ولست فيهم، ويصلى المصلون ولست فيهم. تأمل يا أخي هذه الأماني لله دره وَاللهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ: عن ابن أبي مليكة قال: لما كَانَ يوم الفتح ركب عكرمة بن

ص: 627

أبي جهل البحر هاربًا فخب بِهُمْ البحر فجعلت الصراري (أي الملاحون) يدعون الله ويوحدونه.

فَقَالَ: ما هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا مكَانَ لا ينفع فيه إِلا الله قال: هَذَا إله مُحَمَّد الَّذِي يدعونا إليه، فارجعوا بنا. فرجع فأسلم.

وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ? يَوْمَ جِئْتُهُ: «مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ، مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ» . قُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لا أَدَعُ نَفَقَةً أَنْفَقُتُهَا عَلَيْكَ إِلا أَنْفَقْتُ مِثْلَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ.

وعن عَبْد اللهِ بن أبي مليكة أن عكرمة بن أبي جهل كَانَ إذا اجتهد في اليمن قال: لا والَّذِي نجاني يوم بدر، وكَانَ يضع المصحف على وجهه وَيَقُولُ: كتاب رَبِّي، كتاب رَبِّي.

استشهد عكرمة يوم إليرموك في خلافة أبي بكر، فوجدوا فيه بضعًا وسبعين من بين ضربةٍ وطعنةٍ ورميةٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

فَصْلٌ: قال الزبير: وحدثني عمي مصعب بن عَبْد اللهِ قال: جَاءَ الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها بعد من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم.

فَقَالَ له عَبْد اللهِ بن الزبير: بعت مَكَّرمة قريش؟ فَقَالَ حكيم: ذهبت المكارم إِلا التقوى يا ابن أخي إني اشتريت بها دارًا في الْجَنَّة أشهدك أني قَدْ جعلتها في سبيل الله.

وعن أبي بكر بن سليمان قال: حج حكيم بن حزام معه مائة بدنة قَدْ أهدها وجللها الحبرة وكفها عن أعجازها ووقف مائة صيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة الفضة قَدْ نقش في رؤوسها:

ص: 628

(عتقاء الله [عز وجل] عن حكيم بن حزام) . وأعتقهم وأهدى ألف شاة.

وعن مُحَمَّد بن سعد يرفعه: أن حكيم بن حزام بكى يومًا، فَقَالَ له ابنه: ما يبكيك؟ قال: خصال كُلّهَا أبكاني: أما أولها فبطء إسلامي حتى سبقت في مواطن كُلّهَا صَالِحَة، ونجوت يوم بدر وأُحُدٍ فقُلْتُ: لا أخَرَجَ أبدًا من مَكَّة ولا أوضع مَعَ قريش ما بقيت.

فأقمت بمَكَّة ويأبى الله [عز وجل] أن يشرح صدري للإسلام وَذَلِكَ أني أنظر إلى بقايا من قريش لَهُمْ أسنان متمسكين بِمَا هُمْ عَلَيْهِ من أمر الجاهلية فأقتدي بِهُمْ، ويا ليت أني لم أقتد بِهُمْ فما أهلكنا إِلا الاقتداء بآبانَا وكبرائنا.

فَلَمَّا غزا النَّبِيّ ? مَكَّة جعلت أفكر، فخرجت أَنَا وأبو سفيان نستروح الخبر فلقي العباس أبا سفيان فذهب به إلى النَّبِيّ ? ورجعت فدخلت بيتي، فأغلقته علي ودخل النَّبِيّ ? مَكَّة فآمن النَّاس فجئته فأسلمت وخرجت معه إلى حنين.

وعن عروة أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة وفي الإسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير.

قال ابن سعد: قال مُحَمَّد بن عمر: قدم حكيم بن حزام الْمَدِينَة ونزلها وبنى بها دارًا، ومَاتَ بها سنة أربع وخمسون وَهُوَ ابن مائة وعشرين سنة رحمه الله. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.

فَصْلٌ: عن أبي برزة الأسلمي: أن جليبيبًا كَانَ امرأ من الأنصار، وكَانَ أصحاب النَّبِيّ ? إذا كَانَ لأحدهم أيم (أي لا زوج لها) لم يزوجها حتى يعلم النَّبِيّ ? هل له فيها حَاجَة أم لا؟

فَقَالَ رسول الله ? ذات يوم لرجل من الأنصار: «يا فلان

ص: 629

زوجني ابنتك» . قال: نعم ونعمة عين، قال:«إني لست لنفسي أريدها» . قال: لمن؟ ، قال:«لجليبيب» . قال: يا رسول الله حتى أستأمر (أي أشاور) وأمها. فأتاها فَقَالَ: إن رسول الله ? يخطب ابنتك. قَالَتْ: نعم ونعمة عين زوج رسول الله ?.

قال: إنه لَيْسَتْ لنفسه يريدها. قَالَتْ: فلمن؟ ، قال: لجليبيب، قَالَتْ: حلقى ألجليبيب؟ لا لعمر الله، لا أزوج جليبيبًا.

فَلَمَّا قام أبوها ليأتي النَّبِيّ ? قَالَتْ الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني إليكما قالا: رسول ?. قَالَتْ: أفتردون على رسول الله ? أمره؟ ادفعوني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني.

فذهب أبوها إلى النَّبِيّ ? فَقَالَ: شأنك بها، فزوجها جليبيبًا.

قال إسحاق بن عَبْد اللهِ بن أبي طلحة لثابت: أتدري ما دعا لها به النَّبِيّ ?؟ قال: وما دعا لها به النَّبِيّ عليه السلام؟ قال: «اللَّهُمَّ صب عَلَيْهَا الْخَيْر صبًّا، ولا تجعل عيشها كَدًّا كَدًا» .

قال ثابت: فزوجها إياه، فبينما رسول الله ? في مغزى له، قال:«تفقدون من أحد؟» ، قَالُوا: نفقَدْ فلانَا ونفقَدْ فلانَا ونفقَدْ فلانَا.

ثُمَّ قال: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: نفقَدْ فلانَا ونفقَدْ فلانَا.

ثُمَّ قال: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: لا.

قال: «لكني أفقَدْ جليبيبًا» . فطلبوه في القتلى.

ص: 630

فنظروا فوجدوه إلى جنب سبعةٍ، قَدْ قتلهم، ثُمَّ قتلوه.

فَقَالَ رسول الله ?: «هَذَا مني وانَا منه، أقتل سبعة ثُمَّ قتلوه هَذَا مني وانَا منه أقتل سبعة ثُمَّ قتلوه هَذَا مني وانَا منه» .

فوضعه رسول الله ? على ساعديه ثُمَّ حفروا له ما له سرير إِلا ساعدي رسول الله ? حتى وضعه في قبره.

لله در هذه الأنفس فما أعزها وهذه الهمم فغما أرفعها!

وَلَمَّا رَأَواَ بَعْضَ الْحَيَاةِ مَذَلَّةً

عَلَيْهِمْ وَعِزَّ الْمَوْتِ غَيْرَ مُحَرَّمِ

أَبَوْا أَنْ يَذُوقُوا الْعَيْشَ وَالذَمُّ وَاقِعٌ

عَلَيْهِ وَمَاتُوا مَيْتَةً لَمْ تُذَمَّمِ

وَلا عَجَبٌ لِلأُسْدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا

كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ

فَحَربَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمزَةَ الرَّدَى

وَحَتْفُ عَلِيٍّ في حُسَامِ ابْنِ مُلْجَمِ

رَوَى مُسْلِم في أفراده مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: انْطَلََقَ رَسُولُ اللهِ ? وأَصْحَابَهُ إلى بَدْر حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ» .

قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؟ ! قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: بَخٍ بَخٍ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ» . قَالَ: [لَا] وَاللهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَاّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» .

قال: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم.

فَصْلٌ: قال الواقدي: لما أراد عمرو بن الجموح الْخُرُوج إلى أحد، منعه بنوه، وقَالُوا: قَدْ عذرك الله. فَجَاءَ إلى النَّبِيّ ? فَقَالَ:

ص: 631

إن بني يريدون حبسي عن الْخُرُوج معك وإني لأرجو أن أطأ بعرجتي [هذه] في الْجَنَّة فَقَالَ: «أما أَنْتَ فقَدْ عذرك الله» . ثُمَّ قال لبنيه: «لا عليكم لا تمنعوه لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة» . فخلوا سبيله.

قَالَتْ امرأته هند بنت عمرو بن خزام: كأني أنظر إليه موليًا قَدْ أخذ درفته وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا تردني إلى خربى وهي منازل بني سلمة.

قال أبو طلحة: فمظرت إليه حين انكشف المسلمون ثُمَّ ثابوا وَهُوَ في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ظلع في رجله وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا وَاللهِ مشتاق إلى الْجَنَّة!

ثُمَّ أنظر إلى ابنه خلاد [وَهُوَ] يعدو [معه] في إثره حتى قتلا جميعًا.

وفي الْحَدِيث: أنه دفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمر وأبو جابر في قبر واحد، فخرب السيل قبورهم فحفر عنهم بعد ست وأربعين سنة فوجدوا لم يتغير كأنهم ماتوا بالأمس. وَاللهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ: عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا مَعَ رسول الله ? فَقَالَ: «يطلع الآن عليكم رجل من أَهْل الْجَنَّة» . فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه قَدْ عل نعَلَيْهِ بيده الشمال.

فَلَمَّا كَانَ الغد قال النَّبِيّ ? مثل ذَلِكَ، فطلع ذَلِكَ الرجل مثل المرة الأولى.

فَلَمَّا كَانَ اليوم الثالث قال النَّبِيّ ع مثل مقالته أيضًا فطلع ذَلِكَ الرجل على مثل حاله الأولى فَلَمَّا قام النَّبِيّ ع تبعه عَبْد اللهِ ابن عمرو فَقَالَ: إني لاحيت أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه

ص: 632

ثلاثًا فإن رَأَيْت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم.

قال أنس: فكَانَ عَبْد اللهِ يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليإلى فلم يره يقوم من الليل شَيْئًا غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر حتى لصلاة الفجر.

قال عَبْد اللهِ: غير أني لم أسمعه يَقُولُ إِلا خيرًا، فَلَمَّا مضت الثلاث الليإلى، وكدت أن أحتقر عمله.

قُلْتُ: يا عَبْد اللهِ لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ولكن سمعت رسول الله ع يَقُولُ لك ثلاث مرات: «يطلع عليكم الآن رجل من أَهْل الْجَنَّة» . فطلعت أَنْتَ الثلاث المرات، فأردت أن آوى إليك.

فَانْظُرْ ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الَّذِي بلغ بك ما قَالَ رَسُولُ اللهِ ?؟

قال: ما هُوَ إِلا ما رَأَيْت، فَلَمَّا وليت دعاني فَقَالَ: ما هُوَ إِلا ما رَأَيْت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدًا على خَيْر أعطاه الله إياه.

فَقَالَ عَبْد اللهِ: هذه التي بلغت بك. رواه أَحَمَد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.

فَصْلٌ: عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ? بعث جيشًا فيهم رجل يُقَالُ له حدير. وكأَنْتَ تلك السنة قَدْ أصابتهم سنة من قلة الطعام، فزودهم رسول الله ونسي أن يزود حديرًا.

فخَرَجَ حدير صابرًا محتسبًا وَهُوَ في أخر الركب يَقُولُ: لا إله إِلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. وَيَقُولُ: نعم الزَادَ هُوَ يا رب. فهو يرددها وَهُوَ في آخر الركب.

ص: 633

قال: فَجَاءَ جبريل إلى النَّبِيّ ? فَقَالَ له: إن رَبِّي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابك ونسيت أن تزود حديرًا، وَهُوَ في آخر الركب يَقُولُ: لا إله إِلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله.

فدعا النَّبِيّ ع رجلاً فدفع إليه زَادَ حدير وأمر إذا انتهى إليه حفظ عَلَيْهِ ما يَقُولُ: وإذا دفع إليه الزَادَ حفظ عَلَيْهِ ما يَقُولُ وَيَقُولُ له: إن رسول الله ع يقرئك السَّلام ورحمة الله ويخبرك أنه كَانَ نسي أن يزودك، وإن رَبِّي تبارك وتعالى أرسل إلى جبريل يذكرني بك فذكره جبريل وأعلمه مكانك.

فانتهى إليه وَهُوَ يَقُولُ: لا إله إِلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ، وَيَقُولُ: نعم الزَادَ هَذَا يا رب. قال: فدنا منه ثُمَّ قال له: إن رسول الله ع يقرئك السَّلام ورحمة الله وقَدْ أرسلني إليك بزَادَ معي، وَيَقُولُ: إني إنما نسيتك فأرسل إلى جبريل من السماء يذكرني بك. قال: فحمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ ع.

ثُمَّ قال: الحمد لله رب العالمين، ذكرني رَبِّي من فوق سبع سماوات، ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي، يا رب كما لم تنس حديرًا فاجعل حديرًا لا ينساك.

قال: فحفظ ما قال وَرَجَعَ إلى النَّبِيّ ? فأخبره بما سمَعَ منه حين أتاه، وبما قال حين أخبره، فَقَالَ رسول الله ?: «أما إنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرَأَيْت لكلامه ذَلِكَ نورًا ساطعًا ما بين السماء والأَرْض. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

فَصْلٌ: عن مُحَمَّد بن سعد قال: كَانَ ذو البجادين يتيمًا لا ما له. فمَاتَ أبوه ولم يورثه شَيْئًا، وكفله عمه حتى أيسر.

ص: 634

فَلَمَّا قدم النَّبِيّ الْمَدِينَة جعلت نَفْسهُ تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عَلَيْهِ من عمه حتى مضت السنون والمشاهد.

فَقَالَ لعمه: يا عم إني قَدْ انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدًا فأذن لي في الإسلام.

فَقَالَ: وَاللهِ لئن اتبعت مُحَمَّد لا أترك بيدك شَيْئًا كنت أعطيتكه إِلا نزعته منك حتى ثوبيك.

قال: فانَا وَاللهِ متبع محمدًا وتارك عبادة الحجر، وهَذَا ما بيدي فخذه، فأخذ ما أعطاه حتى جرده من إزاره.

فأتي أمه فقطعت بجادًا لها باثنين فأتزر بواحدٍ وارتدى بالآخِر ثُمَّ أقبل إلى الْمَدِينَة وكَانَ بورقان فاضطجع في المسجد في السحر.

وكَانَ رسول الله ? يتصفح النَّاس إذا انصرف من الصبح فنظر إليه فنظر إليه فَقَالَ: «من أَنْتَ» ؟ فانتسب له، وكَانَ اسمه عبد العزى. فَقَالَ:«أَنْتَ عَبْد اللهِ ذو البجادين» .

ثُمَّ قال: «انزل مني قريبًا» . فكَانَ يكون في أضيافه حتى قَرَأَ قرانَا كثيرًا.

فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيّ ? إلى تبوك قال: ادع لي بالشهادة فربط النَّبِيّ ? على عضده لحى سمرة وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إني أحرم دمه على الكفار» .

فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا أردت.

قال النَّبِيّ ? إنك إذا خرجت غازيًا فأخذتك الحمى فقتلتك فأَنْتَ شهيد، أو وقصتك دابتك فأَنْتَ شهيد» . فأقاموا بتبوك أيامًا ثُمَّ توفي.

ص: 635

قال بلال بن الحارث: حضرت رسول الله ? ومَعَ بلال المؤذن شعلة من نار عَنْدَ القبر واقفًا بها.

وإذا رسول الله ? وَهُوَ يَقُولُ: «أدينا إلى أخاكما» . فَلَمَّا هيأه لشقه في اللحد قال: «اللَّهُمَّ إني قَدْ أمسيت عَنْهُ راضيًا فارض عَنْهُ» .

فَقَالَ ابن مسعود: ليتني كنت صَاحِب اللحد.

وعن أبي وائل عن عَبْد اللهِ قال: وَاللهِ لكأني أرى رسول الله ?في غزوة تبوك وَهُوَ في قبر عَبْد اللهِ ذي البجادين وأبو بكر وعمر يَقُولُ: «أدنيا إلى أخاكما» .

وأخذه من القبلة حتى أسكنه في لحده ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيّ ? وولياهما الْعَمَل.

فَلَمَّا فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعًا يديه يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إني أمسيت عَنْهُ راضيًا فارض عَنْهُ» .

وكَانَ ذَلِكَ ليلاُ فوَاللهِ لوددت أني مكانه، ولَقَدْ أسلمت قبله بخمس عشر سنة. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

فَصْلٌ: عن مُحَمَّد بن سعد قال: أتى واثلة رسول الله ? فصلى معه الصبح. وكَانَ رسول الله ? إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه فَلَمَّا دنا من واثلة قال: «من أَنْتَ» ؟ فأخبره.

فَقَالَ: «ما جَاءَ بك» ؟ قال: جئت أبايع. فَقَالَ رسول الله ? «فيما أحببت وكرهت» ؟ قال نعم. قال: «فيما أطقت» ؟ قال: نعم. فأسلم وبايعه.

وكَانَ رسول الله ? يتجهز يومئذ إلى تبوك فخَرَجَ واثلة إلى أهله فلقي أبا الأسقع فَلَمَّا رأى حاله قال: قَدْ فعلتها؟ قال: نعم قال أبوه: وَاللهِ لا أكلمك أبدًا.

ص: 636

فأتى عمه فسلم عَلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ فعلتها؟ قال: نعم قال: فلامه أيسر من ملامة أبيه وَقَالَ: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر.

فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عَلَيْهِ بتحية الإسلام. فَقَالَ واثلة: أنى لك هَذَا يا أخية؟ قَالَتْ: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت.

فَقَالَ: جهزي أخاك جهاز غاز فإن رسول الله ? على جناح سفر. فجهزته فلحق برسول الله ? قَدْ تحمل إلى تبوك وبقي غبرات من النَّاس وهم على الشخوص.

فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وَكُنْت رجلاً لا رحلة بي.

قال: فدعاني كعب بن عجرة فَقَالَ: أَنَا أحَمَلَكَ عقبة بالليل وعقبة بالنَّهَارَ ويدك أسوة يدي وسهمك لي. قال واثلة: نعم.

قال واثلة: جزاه الله خيرًا لَقَدْ كَانَ يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي حتى إذا بعث رسول الله ? خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد المالك بدومة الجندل.

خَرَجَ كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقُلْتُ: اخَرَجَ رَحِمَكَ اللهُ فَانْظُرْ إلى قلائصك فاقبضها.

فخَرَجَ وَهُوَ يبتسم وَيَقُولُ: بارك الله لك فيها ما حملتك وانَا أريد أن آخد منك شَيْئًا.

ص: 637

عن بشر بن عَبْد اللهِ عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: كنَّا أصحاب الصفة في مسجد رسول الله ? وما فينا رجل له ثوب.

ولَقَدْ اتخذ العرق في جلودنا طرقًا من الغبار، إذ خَرَجَ عَلَيْنَا رسول الله ? فَقَالَ:«ليبشر فقراء المهاجرين» .؟ ثلاثًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ: عَنْ نَعِيم بن رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ قَالَ كُنْتُ أخدِمُ رَسُولَ اللهِ ?وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجه نِهَارِي أجمَعَ، حَتَّى يُصلى رسولُ الله ?العشاء الأخرة.

فأجلس على بابه إذا دخل بيته أَقُول: لعلها أن تحدث لِرَسُولِ اللهِ ? حَاجَة. فما أزال أسمعه سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتى أمل فأرجع أو تغلبني عيني فأرقَدْ.

فَقَالَ لي يومًا لما رأى من حفتي (أي العناية والخدمة) له وخدمتي إياه «يا ربيعة سَلْنِي أعطك» . قال: فقُلْتُ أنظر في أمري يَا رَسُولَ اللهِ ثم أعلمك ذَلِكَ.

فَقَالَ: ففكرت في نفسي فعلمت أن الدُّنْيَا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني، قال: فقُلْتُ أسأل رسول الله ? لآخرتي فإنه من الله عز وجل بالمنزل الَّذِي هُوَ به.

فجئته فَقَالَ: «ما فعلت يا ربيعة» ؟ أسألك يَا رَسُولَ اللهِ أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار.

فَقَالَ: «من أمرك بهَذَا يا ربيعة» ؟ فَقُلْتُ: ولا الَّذِي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قُلْتُ «سلني أعطك» . وَكُنْت من الله بالمنزل الَّذِي أَنْتَ به نظرت في أمري فعرفت أن الدُّنْيَا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني.

فقُلْتُ: أسأل رسول الله ? لآخرتي. قال: فصمت رسول

ص: 638