المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ رسالة الإمام مالك لهارون الرشيد) - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٥

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌ رسالة الإمام مالك لهارون الرشيد)

وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كُلّ سوء يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.

اللَّهُمَّ يا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إِلا أَنْتَ إليك المصير.

نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويا أرأف الرائفين وأكرم الأكرمين، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

(فَصْلٌ)

(من‌

‌ رسالة الإمام مالك لهارون الرشيد)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)

الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك فيه رشدًا، ولم أدخرك فيه نصحًا، تحميدًا لله، وأدبًا عن رسول الله - ? - فتدبره بعقلك، وردد فيه بصرك، وأرعه سمعك، ثُمَّ اعقله بقلبك، وأحضره فهمك، ولا تغيبن عَنْهُ ذهنك.

فإن فيه الفضل في الدُّنْيَا، وحسن ثواب الله تَعَالَى في الآخِرَة، اذكر نفسك في غمرات الموت وكربه، وما هُوَ نازل به منك، وما أَنْتَ

ص: 399

موقوف عَلَيْهِ بعد الموت من العرض على الله سُبْحَانَهُ، ثُمَّ الحساب ثُمَّ الخلود بعد الحساب.

وأعد الله عز وجل ما يسهل به عَلَيْكَ أهوال تلك المشاهد وكربها فإنك لو رَأَيْت أَهْل سخط الله تَعَالَى وما صاروا إليه من ألوان الْعَذَاب وشدة نقمته عَلَيْهمْ، وسمعت زفيرهم في النار وشهيقهم مَعَ كلوح وجوههم وطول غمهم، وتقلبهم في دركاتها على وجوههم لا يسمعون ولا يبصرون، ويدعون بالويل والثبور

وأعظم من ذَلِكَ حَسْرَة إعراض الله تَعَالَى عنهم، وانقطاع رجائهم وإجابته إياهم بعد طول الغم بقوله:{اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .

لم يتعاظمك شَيْء من الدُّنْيَا إن أردت النجاة من ذَلِكَ ولا أمتلك من هوله، ولو قدمت في طلب النجاة منه جَمِيع ما ملك أَهْل الدُّنْيَا - كَانَ في معاينتك ذَلِكَ صغيرًا.

ولو رَأَيْت أَهْل طاعة الله تَعَالَى وما صاروا إليه من كرم الله عز وجل ومنزلتهم مَعَ قربهم من الله عز وجل ونضرة وجوههم، ونور ألوانهم، وسرورهم بالنَّعِيم الْمُقِيم، والنظر إليه والمكانة منه.

لتقلل في عينك عَظِيم ما طلبت به صغير ما عِنْد الله، ولصغر في عينك جسيم ما طلبت به صغير ذَلِكَ من الدُّنْيَا.

فاحذر على نفسك حذرًا غير تغرير، وبادره بنفسك قبل أن تسبق إليها، وما تخاف الحَسْرَة منه عِنْد نزول الموت، وخاصم نفسك على مهل وأَنْتَ تقدر بإذن الله على جر المنفعة إليها، وصرف الحجة عَنْهَا قبل أن يتولى الله حسابها.

ص: 400

ثُمَّ لا تقدر على صرف المكروه عَنْهَا واجعل من نفسك لنفسك نصيبًا بالليل والنَّهَارَ، وصل من النَّهَارَ اثنتي عشرة ركعة، واقَرَأَ فيهن ما أحببت، إن شئت صلهن جميعًا، وإن شئت متفرقات، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من صلى من النَّهَارَ اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتًا في الْجَنَّة» .

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك وبملائكتك وكتبك ورسلك واليوم الآخِر والقدر خيره وشره، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

وَقَالَ رحمه الله: وصل من الليل ثمان ركعات بجزء من القرآن، وأعط كُلّ ركعة حقها، والَّذِي ينبغي فيها من تمام الركوع والسجود، وصلهن مثنى مثنَى، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? -: أنه كَانَ يصلي من الليل ثمان ركعات، والوتر ثلاث ركعات سِوَى ذَلِكَ يسلم من كُلّ اثنتين.

وصم ثلاثة أيام من كُلّ شهر: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? أنه قال:«ذَلِكَ صيام الدهر» .

وأعط زكاة مالك طيبة بها نفسك حين يحول عَلَيْهِ الحول ولا تؤخرها بعد حلها، وضعها فيمن أمر الله تَعَالَى، ولا تضعها إِلا في أَهْل ملتك من المسلمين، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن الله تَعَالَى لم يرض من الصدقة بحكم نبي ولا غيره حتى حدها هُوَ على ثمانية أجزاء. قال عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} .

ص: 401

واحجج حجة الإسلام من أطيب مالك، وأزكاه عندك، فإن الله تَعَالَى لا يقبل إِلا طيبًا، وبلغني أن قوله تَعَالَى:{فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثُمَّ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثُمَّ عَلَيْهِ} غفر له.

مر بطاعة الله وأحبب عَلَيْهَا، وانه عن معاصي الله تَعَالَى، وأبغض عَلَيْهَا، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«مروا بالمعروف، وانهوا عن الْمُنْكَر، فإنما هلك من كَانَ قبلكم بتركهم نهيهم عن المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار» .

فمروا بالمعروف وانهوا عن الْمُنْكَر من قبل أن ينزل بكم الَّذِي نزل بِهُمْ، فإن الأَمْر بالمعروف والنهي عن الْمُنْكَر لا يقدم أجلاً، ولا يقطع رزقًا.

أحسن إلى من خولك الله تَعَالَى، واشكر تفضيله إياك عَلَيْهمْ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يصلى فانصرف، وَقَالَ:«أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إِلا عَلَيْهِ جبهة ملك ساجد، فمن كَانَ له خول فليحسن إليه، ومن كره فليستبدل، ولا تعذبوا خلق الله» .

الزم الأَدَب من وليت أمره وأدبه، ومن يجب عَلَيْكَ النظر في أمره، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال للفضل بن العباس:«لا ترفع عصاك على أهلك، وأخفهم في الله» .

لا تستلم إلى النَّاس واستجرهم في طاعة الله، لا تغمص النَّاس واخفض لَهُمْ جناحك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:

ص: 402

«ألا أحدثكم بوصية نوح ابنه. قال: آمرك باثنين، وأنهاك عن اثنين: أمرك بقول لا إله إِلا الله، فإنها لو كانَتْ في كفة والسماوات والأَرْض في كفة وزنتها، ولو وضعتها على حلقة قصمتها.

وقل: سبحان الله وبحمده فإنها عبادة الخلق، وبها تقطع أرزاقهم، فإنهما يكثران لمن قالها الولوج على الله عز وجل، وأنهاك عن الشرك والكبر، فإن الله محتجب عنهما فَقَالَ له بعض أصحابه: أمن الكبر أن يكون لي الدابة النجيبة؟ قال: لا. قال: أمن الكبر أن يكون لي الثوب الحسن؟ قال: لا. قال: أفمن الكبر أن يكون لي الطعام أجمَعَ عَلَيْهِ النَّاس؟ قال: لا.

إنما الكبر أن تسفه الحق، وتغمص الخلق، وَإِيَّاكَ والكبر والزهو، فإن الله عز وجل لا يحبهما، وبلغني عن بعض الْعُلَمَاء أنه قال:«يحشر المتكبرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم النَّاس بتكبرهم على الله عز وجل» .

وَسَلْ الْعِيَاذَ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْهَوَى

فَهُمَا لِكُلِّ الشَّرِ جَامِعَتَانِ

وَهُمَا يَصُدَّانِ الْفَتَى عَنْ كُلِّ طُرْ

قِ الْخَيْرِ إِذْ فِي قَلْبِهِ يَلْجَانِ

فَتَرَاهُ يَمْنَعُهُ هَوَاهُ تَارَةً

وَالْكِبْرُ أُخْرَى ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ

وَالله مَا فِي النَّارَ إِلا تَابِعٌ

هَاذَيْنِ فَاسْئَلْ سَاكِنِ النِّيرَانِ

آخر:

قُلْ لِلْوَضِيعِ إِذَا تَكَبَّرَ لا تُبَلْ

تِهْ كُلَّ تِيْهِكَ بالْوِلاية والْعَمَلْ

مَا ازْدَدْتَ حِينَ وَلَيْتَ إِلا خِسَّةً

كَالْكَلْبِ أَنْجَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اغْتَسَلْ

اللَّهُمَّ يا من بيده خزائن السماوات والأَرْض، عافنا من محن الزمان، وعوارض الفتن، فإنا ضعفاء عن حملها، وإن كنا من أهلها، اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم

ص: 403

الرجف والزلزال، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَقَالَ رحمه الله:

لا تأمن على شَيْء من أمرك من لا يخاف الله، فإنه بلغني عن عُمَر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه أنه قال: شاور في أمرك الَّذِينَ يخافون الله، احذر بطانة السُّوء، وأَهْل الرَّدَى على نفسك.

فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ما من نبي ولا خليفة إِلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن الْمُنْكَر، وبطانة لا تألوه خبالاً، وَهُوَ مَعَ الَّذِي استولت عَلَيْهِ، ومن وقي بطانة السُّوء فقَدْ وُقِيَ» .

واستنبطن أَهْل التقوى من النَّاس، وأكرم ضيفك فإنه يحق عَلَيْكَ إكرامه، وارع حق جارك ببذل المعروف، وكف الأَذَى عَنْهُ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فليكرم ضيفه» .

وتكلم بخَيْر أو اسكت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فليقل خيرًا أو ليمسك» .

واتق فصول المنطق، فإنه بلغني عن ابن مسعود أنه قال: أنذركم فضول المنطق، وأكرم من وادك وكافئه بمودته، وَإِيَّاكَ والْغَضَب في غير الله، لا تأمر بخَيْر إِلا بدأت بفعله، ولا تنه عن سوء إِلا بدأت بتركه، دع من الأَمْر ما لا يعنيك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .

صل من قطعك، واعف عمن ظلمك، واعط من حرمك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«إنها أفضل أَخْلاق الدُّنْيَا والآخِرَة» .

ص: 404

اتق كثرة الضحك، فإنه يدعو إلى السفه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? -: أن ضحكه كَانَ تبسمًا.

لا تمزح فتدم نفسك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«إني لأمزح ولا أَقُول إِلا حقًا» .

لا تخالف إلى ما نهيت عَنْهُ، وإذا نطقت فأوجز، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«وهل يكب النَّاس في نار جهنم إِلا هَذَا» يعني: لِسَانه.

لا تصغر خدك للناس، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«إن أَهْل الْجَنَّة كُلّ هين لين سهل طلق» .

اترك من عمال السِّرّ ما لا يحسن بك أن تعمله في العلانية: اتق كُلّ شَيْء تخاف فيه تهمة في دينك ودنياك، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فلا يقف مواقف التهم» .

أقلل طلب الحوائج من النَّاس، فإن في ذَلِكَ غضاضة، وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال لرجل:«لا تسأل النَّاس، وليكن مجلسك بيتك أو مسجدك» . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «المساجد بيوت المتقين» .

لا تكثر الشخوص من بيتك إِلا في أمر لا بد منه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«ستة مجالس المسلم ضامن على الله ما كَانَ في شَيْء منهن: في سبيل الله، أو في بيت الله، أو في عيادة مريض، أو شهود جنازة، أو جمعة، أو عِنْد إمام مقسط يعزره ويوقره» .

ص: 405

أحسن خلقك مَعَ أهلك، ومن اعتز بك، فإن ذَلِكَ رضًا لربك، ومحبة في أهلك، ومثراة في مالك، ومنسأة في أجلك.

فإنه بلغني عن بعض الْعُلَمَاء من الصحابة أنه قال ذَلِكَ.

أحسن البشر إلى عامة النَّاس، واتق شتمهم وغيبتهم فإن الله تَعَالَى قال:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا تشتم النَّاس» وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآله وَسَلَمَ.

(فَصْلٌ)

وَقَالَ رحمه الله:

اتق أَهْل الفحش، ومُجَالَسَة أَهْل الرَّدى، ومحادثة الضعفة (أي ضعفاء العقول) من النَّاس، فإنه بلغني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: اعتبر النَّاس بأخدانهم فإنما يخادن الرجل الرجل مثله.

أكرم اليتيم، وارحمه، واعطف عَلَيْهِ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من كفل يتيمًا له أو لغيره كنت أَنَا وَهُوَ في الْجَنَّة كهاتين» ، وأشار بأصبعيه فضمهما.

أعرف لابن السبيل حقه، واحفظ وصية الله تَعَالَى فيه فإنه بلغني أن أول من ضاف الضيف إبراهيم الخليل عليه السلام.

أعن المظلوم، وانصره ما استطعت، وخذ على يد الظَالِم، وادفعه عن ظلمه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من مشي مَعَ مظلوم حتى يثَبِّتْ له حقه، ثَبِّتْ الله قدمه يوم تزول الأقدام» .

اتق إتباع الهوى في ترك الحق، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«إني أخاف عليكم اثنتين: إتباع الهوى، وطول الأمل» . فإن إتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخِرَة.

ص: 406

انصف النَّاس من نفسك ولا تستطل عَلَيْهمْ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«أشرف الأعمال ثلاثة: ذكر الله على كُلّ حال، ومواساة الأخ من الْمَال، وإنصاف النَّاس من نفسك» .

اغضض بصرك عن محارم الله، فإنه بلغني عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال: لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك النظرة الأولى، ولَيْسَتْ لك الأخرى.

اتق المطعم الوبيّ، والمشرب الوبيّ، والملبس الوبيّ، فإن ذَلِكَ تذهب أنفته، وتبقى عاقبته، وإن الله سُبْحَانَهُ أدب رسله، فَقَالَ:{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} .

وَقَالَ النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام: «من أكل بأخيه المسلم أكلة أطعمه الله مكانها أكلة من نار، ومن سمعَ بأخيه المسلم سمعَ الله به يوم القيامة، ومن لبس بأخيه المسلم ثوبًا ألبسه الله مكانه ثوبًا من نار» .

اقبل عذر من اعتذر إليك، وارجع عما كرهت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يعذره كَانَ عَلَيْهِ مثل وزر صَاحِب مكس» .

لتكن يدك العليا على كُلّ من خالطت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«اليد العليا خَيْر من اليد السفلى» .

اصحب الأخيار فَإِنَّهُمْ يعينونك على أمر الله عز وجل، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«ما تحاب رجلان في الله إِلا كَانَ أفضلهما أشدهما حبًا لصاحبه» .

صل رحمك وإن قطعك، ولا تكافئه بمثل ما أتى إليك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أن رجلاً قال له: إن لي أقرباء، أعفوا ويظلموني، وأصل ويقطعوني، وأحسن ويسيئوني، أفأكافئهم؟ فَقَالَ ?: «إذن

ص: 407

تتركوا جميعًا، ولكن إذا أساءوا فأحسن، فإنه لن يزال لك عَلَيْهمْ من الله ظهير» . اللَّهُمَّ يا من فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين ألهمنا ما ألهمت عبادك الصالحين وأيقظنا من رقدة الغافلين إنك أكرم منعم وأعز معين، واغفر لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَقَالَ رحمه الله: ارحم المسكين المضطر، والغريب المحتاج، وأعنه على ما استطعت من أمره، فإنه بلغني عن ابن عباس: أنه قال: (كُلّ معروف صدقة) .

ارحم السائل واردده من بابك بفضل معروفك بالبذل منك، أو قول معروف تقوله له، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«رد عَنْكَ مذمة السائل بمثل رأس الطير من الطعام» .

لا تزهد في المعروف عِنْد من تعرفه وعِنْد من لا تعرفه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«لا تزهد في المعروف ولو أن تصب من دلوك في إناء المستقي» .

أرد بكل ما يكون منك من خَيْر إلى أحد الله، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أن قوله عز وجل:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ}

الآيَة قال: المنافق الَّذِي إن صلّى رآءى، وإن فاتته لم يبلغ إليها {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قال: الماعون: الزَّكَاة التي فرضها الله عز وجل.

إياك والرياء، فإنه بلغني أنه لا يصعد عمل المرائي إِلَى اللهِ عز وجل، ولا يزكيه عنده. إن استطعت أن تعمل بعمل ما عملت فيما بينك

ص: 408

وبين الله فافعل، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«نضر الله امرءًا سمَعَ مقالتي فوعاها حتى يبلغها غيره، فرب غائب أحفظ من شاهد ورب حامل فقه غير فقيه» .

لا يغفل قلب امرئٍ مسلم عن ثلاث خصال: إخلاص الْعَمَل لله، والنَّصِيحَة للإمام العادل، والنَّصِيحَة لعامة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم.

إياك وسوء الخلق، فإنه يدعوا إلى معاصي الله تَعَالَى، وقَدْ بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«خياركم أحسنكم أخلاقًا» .

اخضع لله إذا خلوت بعملك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? -:(أن ملكًا أتاه فَقَالَ: إن ربك يقرئك السَّلام وَيَقُولُ: إن شئت أجعلك ملكًا نبيًا أو عبدًا نبيًا فأشار إليه جبريل عليه السلام أن تواضع، فما أكل متكئًا حتى مَاتَ) .

لا تظلم النَّاس فيديلهم الله عَلَيْكَ، فإنه بلغني عن بعض الْعُلَمَاء من الصحابة أنه قال: ما ظلمت أحدًا أشد عليَّ ظلمًا من أحد لا يتعسن عليّ إِلا بِاللهِ تَعَالَى.

احذر البغي فإنه عاجل العقوبة، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«إن أعجل الْخَيْر ثوابًا صلة الرحم، وإن أعجل الشر عقوبة اليمين الغموس تترك الديار بلاقع» .

لا تحلف بغير الله في شَيْء، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«لا تحلفوا بآبائكم، ليحلف حالف بِاللهِ أو ليسكت» . ولا تحلف بِاللهِ في كُلّ شَيْء فإنه بلغني أن ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} .

اللَّهُمَّ أعمر قلوبنا وألسنتنا بِذِكْرِكَ وشكرك ووفقنا للامتثال لأَمْرِكَ، وأمنا من سطوتك ومكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ أوليائك المتقين وحزبك

ص: 409

المفلحين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَقَالَ رحمه الله:

ارحم النَّاس يرَحِمَكَ اللهُ بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من لا يرحم النَّاس لا يرَحِمَهُ اللهُ» .

أحبب طاعة الله يحبك الله، ويحببك إلى خلقه، قال الله عز وجل لنبيه:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} .

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «إن الله جعل قرة عيني في السجود» . وَقَالَ بعض الْعُلَمَاء: ما أسر عبد قط سريرة خَيْر إِلا ألبسه الله رداءها، ولا أسر سريرة شر قط إِلا ألبسه الله رداءها.

وليكن عَلَيْكَ السكينة والوقار في منطقك ومجلسك ومركبك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«إذا ركبتهم هذه الدواب العجم فأعطوها من حظها من الأَرْض» .

عَلَيْكَ بالحلم والإغضاء عما كرهت، ولا تتبع ذَلِكَ من أحد بلغك عَنْهُ أذى ولا تكافئه فإن في ذَلِكَ الفضل في الدُّنْيَا والآخِرَة، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«إن الله يحب الحليم الحيي العفيف المتعفف» .

ادفع السيئة بالتي هي أحسن، بلغني عن النبي - ? - أنه قال:«أيها السلمي اتق العقوبة وقطيعة الرحم، فإن في ذَلِكَ شَيْنًا في الدُّنْيَا وتباعد في الآخِرَة» .

وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «اشتكت الرحم إِلَى اللهِ عز وجل ممن يقطعها، فرد الله عَلَيْهَا: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك» .

ص: 410

إذا غضبت من شَيْء من أمر الله فاذكر ثواب الله على كظم الغيظ، قال الله عز وجل:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} الآيَة.

وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ما امتلأ رجل غيظًا فكظمه لله إِلا ملأه الله رضوانَا يوم القيامة» .

إذا وعدت موعدًا في طاعة الله فلا تخلفه، وإذا قُلْتُ قولاً فيه رضا الله فأوف به ودم عَلَيْهِ، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من تكفل بستٍّ أتكفل له بالْجَنَّة: إذا حدث لم يكذب، وإذا وعد لم يخلف، وإذا ائتمن لم يخن، وغض بصره، وحفظ فرجه، وكف يده» .

إذا حلفت على يمين ليست من طاعة الله فلا تهمن بها وكفرها، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«لا نذر في معصية الله وكفارتها كفارة يمين، والنذر يمين، وإذا حلفت على يمين ثُمَّ رَأَيْت غيرها خيرًا منها فأت الَّذِي هُوَ خَيْر وكفر عن يمينك» فإنه بلغني عن النَّبِيّ ? أنه قال ذَلِكَ.

إياك والتزيد في القول، وأن تَقُول قولاً وأَنْتَ تعلم أنه لم يكن، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: الإمام الكذَّاب، والعائل المزهو، والشَّيْخ الزاني» .

بر والديك وخصهما منك بالدُّعَاء في كُلّ صلاة، وأكثر لهما الاستغفار، وابدأ بنفسك قبلهما، فإن إبراهيم عليه السلام قال:(رب اغفر لي ولوالديَّ) فبدأ بنفسه قبل والديه. وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من سره أن ينسأ له في عمره، ويزَادَ في رزقه، فليتق الله ربه وليصل رحمه» .

اشكر النَّاس ما أتوا إليك من خيرهم، وكافئهم إن قدرت عَلَيْهِ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من لم يشكر النَّاس لم يشكر الله» والله

ص: 411

اللَّهُمَّ قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَقَالَ رحمه الله:

إذا ركبت الدابة فوضعت رجلك في الركاب فقل: بسم الله، وإذا استويت راكبًا فقل:{سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} الآيَة. فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ كُلَّما ركب دابة. قُلْتُ: (ومثلها السيارة، والطائرة، والقطار، والسَّفِينَة ونحوها) .

إذا أكلت أو شربت فاذكر اسم الله، فإن نسيت في أول حالك فاذكره إذا ذكرت، بلغني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: تذكر اسم الله حين تذكر، فإنه يحول بين الخبيث وبين أن يأكل معك ويتقيأ ما أكل، فإذا فرغت فقل: الحمد لله الَّذِي أطعمنا وسقانَا وجعلنا مسلمين، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذا أكل وشرب.

وإذا أكلت ومعك آخر فكل مِمَّا يليك بيمينك، ولا تأكل من فوق الطعام ولا من بين يدي أحد، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال لرجل يفعله:«اذكر اسم الله، وكل مِمَّا يليك وكل بيمينك ولا تأكل بشمالك، ولا تشرب بشمالك» . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إنها أكلة الشيطان» .

لا تسافر ما استطعت إِلا في يوم الخميس، فإنه بلغني عن النَّبِيّ

ص: 412

- ? - أنه كَانَ يستحب أن يسافر يوم الخميس لا يسافر إِلا فيه.

إذا أصابك كرب فقل: يا حي يا قيوم بِرَحْمَتِكَ أستغيث، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عِنْد الكرب.

احترس ممن يقرب إليك بالنميمة، ويبلغ الكلام عن النَّاس، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«ملعون من لعن أباه، ملعون من لعن أمه، ملعون من غير تخوم الأَرْض، ملعون كُلّ صقار» . وَهُوَ: النمام.

لا تجر ثيابك فإن الله لا يحب ذَلِكَ، وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من جر ثيابه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» .

أطع الله في معصية النَّاس، ولا تطع النَّاس في معصية الله، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .

إذا أصابك حزن أو سقم أو زلة أو لأواء - يعني الجوع - فقل: الله رَبِّي لا أشرك به شَيْئًا. ثلاث مرات، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يأمر بذَلِكَ من أصابه شَيْء من ذَلِكَ.

اصبر على ما أصابك من فجائع الدُّنْيَا وأحزانها لقول الله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} . والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

لا تمارين أحدًا وإن كنت محقًا، بلغني أن قول الله عز وجل:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أنه المراء.

إذا هممت بأمر من أمور الدُّنْيَا ففكر في عاقبته، بلغني عن النَّبِيّ

ص: 413

- ? - أنه قال: «إذا هممت بأمر من أمور الدُّنْيَا ففكر في عاقبته، فإن كَانَ رشدًا فأمضه، وإن كَانَ غيًا فانته منه» .

وَإِيَّاكَ والتجريد خَاليا، فإنه ينبغي لك أن تستحي من الله إذا خلوت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«لا أحب أن يلي لي شَيْئًا من لا يستحي من الله في الخلاء» . وَإِيَّاكَ أن تدخل الحمام والماء إِلا بإزار، ولا يدخل معك أحد الحمام إِلا بإزار وأَنْتَ تقدر على ذَلِكَ.

فإن لم تقدر فغض طرفك عن كُلّ أحد مكشوفًا، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«لا يحل لامرئٍ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر أن يدخل الحمام إِلا بإزار» . وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.

اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

وَقَالَ رحمه الله: أفش السَّلام وإن استطعت أن لا يسبقك أحد إليه فافعل تعط بذَلِكَ فضلاً عن النَّاس، وبلغني عن ابن مسعود أنه قال: السَّلام اسم من أسماء الله، وضعه فيكم فأفشوه فيكم، فإن الرجل إذا سلم كتب له عشر حسنات.

أدب ولدك ومن وليت أمره على خلقك وأدبك حتى يتأدبوا على ما أَنْتَ عَلَيْهِ فيكونوا لك عونًا على طاعة الله. بلغني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كُلّ مؤدب يحب أن يؤخذ بأدبه، وإن أدب الله هُوَ القرآن.

وإذا استشارك أحد فإن شئت تكلمت، وإن شئت سكتَّ، واجتهد

ص: 414

رأيك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«المستشار بالخيار إن شَاءَ تكلم، وإن شَاءَ سكت» .

لا تفش على أحدٍ سرًا أفشاه إليك فإنما هِيَ أمانة استودعكها وائتمنك عَلَيْهَا، إِلا أن يكون إفشاؤه خيرًا له في دنياه وآخرته فأفشها عَلَيْهِ وانصحه فيها، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«من حق المسلم على المسلم إذا استنصحه أن ينصحه» .

إذا تعلمت علمًا من طاعة الله فلير عَلَيْكَ أثره، ولير فيك سمته، وتعلم للذي تعمله، وتعلم له السكينة والحلم والوقار. بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«الْعُلَمَاء ورثة الأنبياء» .

رد جواب الكِتَاب إلى كُلّ أحد كتب إليك، فإنما هُوَ كرد السَّلام قال الله عز وجل:{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .

وَقَالَ ابن عباس رضي الله عنه:

أرى رجع اْلكِتَاب عليَّ حقًا كما أرى رجع السَّلام.

الزم الحياء فإنه خلق الإسلام، وفيه قال ?:«لكل شَيْء خلق، وخلق الإسلام: الحياء» .

إذا سافرت فقل: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأَهْل والْمَال، والحور بعد الكور» . بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذا سافر.

إياك وظلم الضعيف، ومن لا يستعين عَلَيْكَ إِلا بِاللهِ، لقول النَّبِيّ - ? -: «ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة

ص: 415

المظلوم فإنها تصعد فوق الغمام، فَيَقُولُ الله لها: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» .

إذا ودعت مسافرًا فقل: «زودك الله التقوى، وغفر لك ذنبك، ويسر لك الْخَيْر حيثما كنت، استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك» . لأن النَّبِيّ ? كَانَ يأمر أصحابه بها.

إذا حضرت السُّلْطَان فاشفع بخَيْر، وَإِيَّاكَ والكلام عنده إِلا بما يرضي الله، لقول النَّبِيّ - ? -:«إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت يكتب له بها سخطه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت، يكتب له بها رضوانه إلى يوم القيامة» .

أرد ما أردت به الله ما استطعت، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«صدقة السِّرّ تطفئ غضب الرب» .

اتق كثرة التزكية لنفسك، أو ترضى بها من أحد يقولها لك في وجهك، بلغني أن رجلاً امتدح رجلاً عِنْد النَّبِيّ - ? - فَقَالَ:«ويحك قطعت عنقه، ولو سمعها ما أفلح أبدًا» .

إياك ومدح النَّاس والثناء عَلَيْهمْ في وجوههم، لقول النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام:«احثوا التُّرَاب في وجوه المداحين» .

طهر ثيابك ونقها من معاصي الله تَعَالَى، فإنه بلغني أن قوله تَعَالَى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، يأمره أن لا يلبسها على عذرة.

واكره لك أحد ما تكرهه لنفسك، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه بايع جريرًا البجلي على الإسلام والنَّصِيحَة لكل مسلم.

ص: 416

إياك والحسد والشره فهما خلقان مرديان لصاحبهما في الدُّنْيَا والآخِرَة، وَقَالَ ? فيهما:«لا حسد إِلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً وسلطه على إنفاقه في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» .

شِعْرًا:

كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِمَاتَتُهَا

إِلا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ

فَإِنَّ الْقَلْبَ مِنْهَا عُقْدَةٌ عُقِدَتْ

وَلَيْسَ يَفْتَحُهَا رَاقٍ إِلَى الأَبَدِ

إِلا الإِلَهُ فَإِنْ يَرْحَمْ تُحَلُّ بِهِ

فَالْجَأْ إِلَى اللهِ لا تَرْكَنْ إِلَى أَحَدِ

اقتد في أمورك برأي ذي الإنصاف من أَهْل التقوى. بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «خياركم شبانكم المتشبهون بشيوخكم، وشراركم شيوخكم المتشبهون بشبانكم» .

لا تحتقر أحدًا، ولا تجالس مأفونًا، فإن الوحدة خَيْر من جلَيْسَ السُّوء.

عَلَيْكَ بمعالي الأَخْلاق وكريمها، واتق رذائلها وما سفف منها، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«إن الله يحب معالي الأَخْلاق ويكره سفسافها» .

إذا رَأَيْت من فضلت عَلَيْهِ في دينك ودنياك فأكثر حمد الله عَلَيْهِ، فإن ذَلِكَ من الشكر، بلغني عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أنه قال:«ما أنعم الله على عبد بنعمة فَقَالَ: الحمد لله إِلا كَانَ ذَلِكَ أعظم من تلك النعمة وإن عظمت» .

لا تركب المثرة الحمراء، ولا تلبس المعصفر، فقَدْ نهِيَ رسول الله - ? - عن ذَلِكَ. إذا غضبت وأَنْتَ قائم فاقعد، وإن كنت قاعدًا فاضطجع، لقول النَّبِيّ - ? -:«إذا غضب أحدكم وَهُوَ قائم فليجلس فإن ذهب عَنْهُ الْغَضَب وإِلا فليضطجع» . لا تتطيرن من شَيْء تراه أو تسمعه.

ص: 417

وإذا كَانَ من ذَلِكَ شَيْء فقل: اللَّهُمَّ لا يأتي بالْخَيْر إِلا أَنْتَ ولا يدفع السُّوء إِلا أَنْتَ، ولا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. فقَدْ علمت أن النَّبِيّ - ? - كَانَ يأمر بذَلِكَ لمن رأى من ذَلِكَ شَيْئًا.

لا تتوضأ بشَيْء مِمَّا تأكل من الطعام (إِلا من لحم الجزور) ولا تدلك به في الحمام، فإن ذَلِكَ من الجفاء.

لا تتخلقن بالخلوق إِلا أن يكون في أثر النورة ليذهب ريحها، فقَدْ بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«بينما رجل في بردتين له متخلق يتبختر فيهما إذ ساخت به الأَرْض فهو يتجلجل فيه إلى يوم القيامة» .

اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَقَالَ رحمه الله: لا تحلف بالطلاق ولا بالعتاق، فإنها من أيمان الفساق. بلغني عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أربع جائزة إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر. وأربعة يمسون والله عَلَيْهمْ ساخط، ويبيحون والله عَلَيْهمْ غَضْبَان: المتشبهون من الرِّجَال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرِّجَال، ومن أتى بهيمة، أو عمل عمل قوم لوط.

لا تتطيبن بشَيْء من الطيب يظهر لونه، فإن النَّبِيّ - ? - قال:«طيب الرِّجَال ما بطن لونه وظهر ريحه، وطيب النساء ما ظهر لونه وبطن ريحه» .

الزم الرأي الحسن، والهدي الحسن، والاقتصاد بلغني عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الرأي الحسن جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة.

ص: 418

إن استطعت أن لا تدع العمامة والبرد في العيدين والْجُمُعَة فافعل. لما علمت من أمر النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام أنه كَانَ يلبس العمامة والبرد في العيدين والْجُمُعَة.

إذا صافحت أحدًا فلا تنزعن يدك من يده، حتى يكون هُوَ الَّذِي ينزع يده عن يدك، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه لم يصافح أحدًا فنزع يده حتى يكون هُوَ الَّذِي ينزع يده.

إذا أقبل عَلَيْكَ رجل بوجهه يحدثك فلا تصرف وجهك عَنْهُ حتى يكون هُوَ الَّذِي يصرف وجهه عَنْكَ، وإذا جلست إلى جنب رجل أو جلس إلى جنبك رجل فلا تقومن من بين يديه، ولا تجاوزن ركبتك ركبتيه، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه لم تتجاوز ركبته ركبة جلَيْسَ له.

وإذا أحسست من أمير ظلامة أو تغطرسًا فقل: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أعز من خلقه جميعًا، الله أكبر مِمَّا أخاف وأحذر، وأعوذ بِاللهِ الممسك السماء أن تقع على الأَرْض إِلا بإذنه من شر فلان، اللَّهُمَّ كن لي جارًا من فلان وجنوده، أن يفرط عليَّ أحد مِنْهُمْ أو أن يطغى، جل جلالك وعز جارك، ولا إله غيرك) تَقُول ذَلِكَ ثلاث مرات.

بلغني عن ابن عباس أنه قال ذَلِكَ وأمرنا به.

وإذا كتبت إلى أحد من غير أَهْل الإسلام فلا تكتبن سلام الله عَلَيْكَ، ولكن اكتب: السَّلام على من اتبع الهدى، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كتب ذَلِكَ إلى مسيلمة.

إذا عطست في الخلاء فاذكر اسم الله خفيًا. لا تدهن في مدهن

ص: 419

ذهب ولا فضة، ولا تستجمر في مجامر الذهب والفضة، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه نَهِيَ عن الشرب في إناء الذهب والفضة.

لا تنم على الحرير والديباج فإنه لبسة النساء، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه نَهِيَ عن لبس الحرير والديباج إِلا للنساء.

إذا رَأَيْت أمرًا في أهلك وخاصتك مِمَّا ينبغي تغييره فلا تحابين مِنْهُمْ أحدًا، وقم فيه بالَّذِي يحق عَلَيْكَ، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«انصر أخاك ظالمًا ومظلومًا» .

إذا هممت بأمر من طاعة الله عز وجل فلا تحبسه إن استطعت فواقًا حتى تمضيه، فإنك لا تأمن الأحداث، وإذا هممت بأمر غير ذَلِكَ فإن استطعت أن لا تمضيه فواقًا فافعل لعل الله تَعَالَى يحدث لك تركه.

لا تستحي إذا دعيت لأمر لَيْسَ بحق أن تَقُول: لا، فإن الله تعالى يَقُولُ:{وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}

إذا سمعت المؤذن يؤذن فقل كما يَقُولُ إِلا أنك تَقُول إذا قال: حي على الصَّلاة، حي على الفلاح: لا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. بلغني ذَلِكَ عن النَّبِيّ - ? -.

لا تخلون بامرأة لَيْسَتْ لك بمحرم، بلغني عن عُمَر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه أنه قال: ما خلا رجل بامرأة لَيْسَتْ له بمحرم إِلا كَانَ ثالثهما الشيطان.

شِعْرًا:

لا تَخْلُ بامْرَأَةٍ لَدَيْكَ بِرِيبَةٍ

لَوْ كُنْتَ فِي النُّسَّاكِ مِثْلَ بَنَانِ

إِنَّ الرِّجَالَ النَّاظِرِينَ إِلََى النِّسَا

مِثْلُ الْكِلابِ تَطُوفُ باللُّحْمَانِ

إِنْ لَمْ تَصُنْ تِلْكَ اللُّحُومَ أُسُودُهَا

أُكِلَتْ بِلا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ

ص: 420

إذا قال الإمام: آمين، فقل: آمين، فإنه ينبغي إذا فرغ من أم القرآن أن يَقُولُ: آمين، ويقوله من خلفه. بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:«إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن لتأمين الإمام، فمن وافق منكم تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» . أ. هـ. ما اخترناه وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.

(فَصْلٌ)

أسئلة وأجوبة

السؤال الأول عن واحد لا ثاني له.

وعن دين لا يقبل الله غيره.

وعن مفتاح الصلاة وبم تختم.

وعن غراس الْجَنَّة وعن صلاة كُلّ شَيْء.

وعن أربعة فيهم الروح ولم يكونوا في أصلاب الرِّجَال ولا أرحام النساء.

وعن رجل لا أب له.

وعن رجل لا أم له ولا أب.

وعن حيوان جرى بصاحبه.

وعن بقعة من الأَرْض طلعت عَلَيْهَا الشمس مرة واحدة ولم تطلع عَلَيْهَا قبل ذَلِكَ ولا بعده.

وعن ظاعن ظعن مرة ولم يظعن قبلها ولا بعدها.

وعن شجرة نبتت على إنسان.

وعن شَيْء يتنفس ولا روح له.

وعن الحكمة في المحو الَّذِي في القمر.

وعن ميت مَاتَ ألف شهر ومائتي شهر.

وعن جبل ارتفع ثُمَّ رجع.

وعن إثنان لا ثالث لهما.

ص: 421

وخمسة لا سادس لها.

وستة لَيْسَ لها سابع.

وسبعة لَيْسَ لها ثامن.

وثمانية لا تاسع لها.

وتسعة لا عاشر لها.

وعشرة لَيْسَ لَهُمْ حادي عشر.

وثلاثة عشر لا رابع عشر لَهُمْ.

وعن أحب كلمة إِلَى اللهِ.

وما الموضع الَّذِي لَيْسَ له قبلة.

وعن شَيْء حل بعضه وحرم بعضه.

وعن نبي نهى الله النَّبِيّ ? أن يعمل عمله.

وعن من بعثه الله ولَيْسَ من بني آدم ولا من الجن ولا من الملائكة.

وعن نفس ماتت وضربت ببعضها ميت فحيا بإذن الله.

وعن كافر لم تأكل الأَرْض لحمه.

وعن نفس خرجت من نفس ولا نسبة بينهما.

وعن اثنين تكُلَّما في الدهر مرة واحدة فقط ثم هما سكوت إلى يوم القيامة.

وعن أنفع كلمة وأرفع وأحسن كلمة وأزكى كلمة.

وعن جماعة شهدوا الحق وهم كاذبون.

وعن جماعة شهدوا الحق فأدخلوا النار ومن شهدوا عليه.

وعن شَيْء على الأَرْض من الْجَنَّة.

وعن صيدين صادهما رجل فحل أحدهما له وحرم عَلَيْهِ الآخِر.

وعن امرأة أوحى الله إليها

ص: 422

وعن خمسة مشوا على وجه الأَرْض ولم يولدوا.

وعن أم لم تولد.

وعن ماء لم يذكر أنه نبع من الأَرْض ولم يذكر أنه نزل من السماء.

ج: الجواب الواحد لا ثاني له: فالله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وأما الدين الَّذِي لا يقبل الله غيره: فدين الإسلام الله تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} .

وأما مفتاح الصَّلاة فالتكبير وتختم بالتسليم.

وأما غراس الْجَنَّة فسبحان الله والحمد لله ولا إله إِلا الله والله أكبر.

وأما صلاة كُلّ شَيْء: سبحان الله وبحمده.

وأما الَّذِي فيهم الروح ولم يكونوا في أصلاب الرِّجَال ولا أرحام النساء: فهم آدم وحواء وناقة صالح عليه السلام وعصا مُوَسى لما قلبها الله حية والكبش الَّذِي فدى به إبراهيم ابنه قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم} .

وأما الموضع الَّذِي لَيْسَ له قبلة: فظهر بيت الله (أي سطح الكعبة) .

وأما الرجل الَّذِي لا أب له: فعيسى عَلَيْهِ وعلى نبينا السَّلام.

وأما الرجل الَّذِي لا أم له ولا أب: فآدم عليه السلام.

وأما الْحَيَوَان الَّذِي جرى بصاحبه: فالحوت الَّذِي سار بيونس في البحر.

وأما البقعة التي طلعت عَلَيْهَا الشمس مرة واحدة: فأرض البحر الَّذِي فلقه الله لمُوَسى ومن معه من بني إسرائيل.

وأما الاثنان اللذان لَيْسَ لهما ثالث: فالليل والنَّهَارَ.

وأما الثالث التي لَيْسَ لها رابع فالطلاق الثالث.

وأما الخمسة التي لا سادس لها: فالصلوات الخمس المفروضة.

وأما الستة اللذين لا سابع لَهُمْ: فالأيام التي خلق الله فيه السماوات والأَرْض.

ص: 423

وأما السبعة التي لا ثامن لها: فأيام الأسبوع.

وأما الثمانية الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ تاسع: فحملة العرش يوم القيامة. قال الله جل وعلا: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} .

وأما التسعة اللذين لا عاشر لَهُمْ: فالتسعة الرهط الَّذِينَ ذكرهم الله في سورة النمل. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} .

وأما العشرة التي لَيْسَ لها حادي عشرة: فقوله تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} .

وأما الإحد عشر: فإخوة يوسف.

وأما الإثنا عشر: فشهور السنة.

وأما الثلاثة عشر: فإخوة يوسف وأبوه وأمه.

وأما أحب كلمة إِلَى اللهِ: فكلمة الإِخْلاص: (لا إله إِلا الله) .

وأما الشَيْء الَّذِي أحل بعضه وحرم بعضه: فهو نهر طالوت قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} .

وأما الَّذِي بعثه الله ولَيْسَ من الإنس ولا من الملائكة ولا من الجن فهو الغراب قال الله تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} .

وأما النفس التي ماتت وضرب ببعضها ميتًا آخر فحيا بإذن الله فهي بقرة بني إسرائيل قال الله جَلَّ وَعَلا: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى} .

وأما الشجرة التي نبتت على إنسان: فالتي أنبتها الله على يونس ابن متى قال تَعَالَى: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} .

وأما النفس التي دخلت في نفس أخرى وخرجت ولَيْسَ بينهما مناسبة

ص: 424

فهو يونس بن متى عليه السلام دخل في بطن الحوت وخَرَجَ قال تَعَالَى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} .

وأما الكنز من كنوز الْجَنَّة فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ كما في الْحَدِيث.

وأما الماء الَّذِي لم يذكر أنه نبع من الأَرْض ولم يذكر أنه نزل من السماء فالماء الَّذِي نبع بين أصابع النَّبِيّ ?.

وأما الحكمة التي في محو آية الليل القمر فالله أعلم بأنه لأجل تمييز الليل من النَّهَارَ ولمنافع أخرى تتعلق بالنَّبَات والزروع والأشجار والثمار.

وأما النَّبِيّ الَّذِي نهى الله النَّبِيّ ? أن يعمل مثل عمل عمله فهو يونس قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} .

وأما الشهود الَّذِي شهدوا الحق وهم كاذبون: فهم المنافقون، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} .

وأما الشهود الَّذِي شهدوا بالحق وأدخلوا النار ومن شهدوا عَلَيْهِ: فالجوارح، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآيات.

وأما الجبل الَّذِي ارتفع وعاد فجبل الطور أعاده الله قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} .

وأما الكافر الَّذِي لم تأكل الأَرْض لحمه فقارون.

ص: 425

وأما الَّذِي في الأَرْض وَهُوَ من الْجَنَّة: فالحجر الأسود.

وأما الصيدان اللذان صادهما رجل فأحل له أحدهما وحرم عَلَيْهِ الآخِر: فمحرم صاد صيدين من البر واحد ومن البحر واحد فالَّذِي من البر حرامٌ والَّذِي من البحر حلال.

وأما الَّذِي مَاتَ ألف شهر ومائتي شهر ثُمَّ أحياه الله: فالعزيز عليه السلام، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس:{فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} .

وأما المرأة التي أوحى الله إليها: فأم مُوَسى، قال الله جَلَّ وَعَلا:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} .

وأما الأم التي لم تولد: فحواء عليه السلام.

وأما الأم التي لم تلد: فمَكَّة المكرمة أم القرى قال الله جَلَّ وَعَلا: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} أ. هـ. انتهى.

فَصْلٌ: سئل الشَّافِعِي عن رجلين خطبا امرأةً فحلت لإحداهما ولم تحل للآخر. فَقَالَ: إن الَّذِي لم تحل له أربع زوجات فحرمت عَلَيْهِ الخامسة.

س: فَقَالَ ما تَقُول في رجلين شربا خمرًا فوجب على أحدهما الحد ولم يجب على الآخِر وكانَا مسلمين؟ فَقَالَ: إن أحدهما حرًا بالغًا فوجب عَلَيْهِ الحد والآخِر صغير لم يبلغ.

س: قال: فما تَقُول في خمسة زنوا بامرأة فوجب على أحدهم القتل وعلى الآخِر الرجم، وعلى الثالث الحد، وعلى الرابع نصف الحد، ولم يجب على الخامس حد؟

فَقَالَ: أما الأول: فمشرك زنى بمسلمة فوجب عَلَيْهِ القتل، وأما الثاني: فمسلم محصن زنى فوجب عَلَيْهِ الرجم، وأما الَّذِي وجب عَلَيْهِ الحد: فمسلم بكر زنى

ص: 426

وأما الرابع: فمملوك زنى فوجب عَلَيْهِ نصف الحد، وأما الَّذِي لم يجب عَلَيْهِ شَيْء: فالصبي، والمجنون.

س: قال: فما تَقُول في رجل أخذ كأسًا من ماء فشرب بعضه وحرم عَلَيْهِ الباقي؟ قال: هَذَا لما شرب بعضه وقع على الباقي نجاسة فحرم عَلَيْهِ.

س: قال: فما تَقُول في رجل دفع إلى امرأته كيسًا مختومًا وَقَالَ لها: أَنْتَ طالق إن لم تفرغيه، ولا تفتحيه، ولا تفتقيه، ففرغته على ذَلِكَ الحكم ولم يلحقها طلاق؟

فَقَالَ: إن الكيس مملوءًا سكرًا أو ملحًا فوضعته في الماء فذاب وتفرغ.

س: قال: فما تَقُول في جماعة صلحاء سجدوا لغير الله تَعَالَى وهم في فعلهم مطيعون؟ قال: الملائكة سجدوا لآدم.

س: قال: فما تَقُول في رجل لقي جارية فقبلها وَقَالَ: فديت من أبي جدها، وأخي عمها، وأنَا زوج أمها فما تكون منه؟ قال: هِيَ ابنته.

س: قال: فما تَقُول في امرأة لقيت غلامًا فقبلته قَالَتْ: فديت من أمي وَلَدَتْ أمَّهُ، وأخو زوجي عمه، وأبو ابن حماتي، وأنَا امرأة أبيه؟ قال: هِيَ أُمُّهُ.

س: وَقَالَ: ما تَقُول في رجل تزوج امرأة وزوج ابنه أمها فجاءت الأم والبنت بولدين، فما يكون الولد من ذَلِكَ وَذَلِكَ؟ فَقَالَ: ابن الأم خال لابن البنت، وابن البنت عم لابن الأم.

س: وَقَالَ: ما تَقُول في رجل مَاتَ وخلف ستمائة درهم وله من الورثة أخت فأصابها درهم واحد؟

ص: 427

فَقَالَ: هَذَا شخص مَاتَ وخلف ستمائة درهم، وترك بنتين أصابهما الثلثان أربعمائة درهم وخلف والدته أصابها السدس مائة درهم، وخلف زوجة أصابها الثمن، وَهُوَ خمس وسبعون درهمًا، وله اثنا عشر أخًا لكل واحد منهما درهمان، ففضل للأخت درهم.

وَقَالَ آخر ملغزًا:

تَزَوَّجَ شَخْصٌ أَمْ شَخْصٍ وَأُخْتَهُ

كَذَا أُخْتَهُ الأُخْرَى وَلَيْسَ بِبَاطِلِ

وَشَخْصٌ أَتَى أَيْضًا بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ

وَقَالُوا لَهُ أَجْرٌ لَدَى كُلِّ فَاضِلِ

وَقَالَ آخر:

أَلا فَاسْأَلُوا مَنْ كَانَ بِالْعِلْمِ بَارِعًا

وَفِي الْفِقْهِ أَفْنَى عُمْرَهُ بِابْتِذَالِهِ

عَنِ الْمَرْءِ يُوصِي قَاصِدًا وَجْهَ رَبِّهِ

لِزَيْدٍ كَمَا سَمَّاهُ مِنْ ثُلْثِ مَالِهِ

فَإِنْ يَكُنْ الْمُوصَى لَهُ مُتَمَوِّلاً

دَفَعْنَا لَهُ الْمُوصَى لَهُ بِكَمَالِهِ

وَإِنْ كَانَ ذَا فَقْرٍ وَقَلٍّ وَفَاقَةٍ

حَرَمْنَاهُ ذَاكَ الْمَالَ فَارْثَ لِحَالِهِ

أَيُحْرَمُ ذُو فَقْرٍ وَيُعْطَاهُ ذُو الْغِنَى

وَلا تَسْتَنِدْ إِلا لِعِزِّ جَلالِهِ

فَلا تَعْتَمِدْ إِلا عَلَى اللهِ وَحْدَهُ

وَلا تَسْتَنِدْ إِلا لِعِزِّ جَلالِهِ

اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا. يا رب العالمين اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فَصْلٌ: ذكر أنه لما دخل هارون الرشيد الحرم الشريف ابتدأ بالطواف ومنع النَّاس من الطواف.

ص: 428

فسبقه أعرابي وجعل يطوف معه فشق ذَلِكَ على هارون والتفت إلى حاجبه كالْمُنْكَر عَلَيْهِ.

فَقَالَ الحاجب: أخل المطاف لأمير الْمُؤْمِنِين فَقَالَ الأعرابي: إن الله ساوى بين الأنام في هَذَا المقام والبيت الحرام.

فَقَالَ تَعَالَى: {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فَلَمَّا سمَعَ الرشيد ذَلِكَ من الأعرابي أمر حاجبه بالكف عَنْهُ ثُمَّ جَاءَ الرشيد إلى الحجر الأسود ليستلمه.

فسبقه الأعرابي فاستلمه ثُمَّ أتى إلى المقام ليصلى فيه فسبقه الأعرابي فصلى فيه.

فَلَمَّا فرغ الرشيد من صلاته قال للحاجب: ائتني بالأعرابي فأتى الحاجب الأعرابي وَقَالَ له: أجب أمير الْمُؤْمِنِين.

فَقَالَ: ما لي إليه حَاجَة إن كانَتْ له حَاجَة فهو أحق بالقيام إليها فانصرف الحاجب مغضبًا فأبلغ الرشيد ما قاله الأعرابي.

فَقَالَ الرشيد: صدق نَحْنُ أحق بالقيام والسعي إليه ثُمَّ نهض إليه حتى وقف بإزاء الأعرابي وسلم عَلَيْهِ فرد السَّلام.

فَقَالَ له الرشيد: يا أخا الْعَرَب أأجلس هنا بأمرك، فَقَالَ الأعرابي: لَيْسَتْ البيت بيتي، ولا الحرم حرمي، البيت بيت الله، والحرم حرم الله ونَحْنُ فيه سواء إن شئت تجلس وإن شئت تنصرف.

فعظم جواب الأعرابي على الرشيد حيث سمَعَ كلامًا لم يخطر على باله أن أحدًا يواجهه به فجلس إلى جنبه.

وَقَالَ له: يا أعرابي أريد أن أسألك عن فرضك فإن قمت به فأَنْتَ بغيره

ص: 429

أقوم وإن عجزت عَنْهُ فأَنْتَ عن غير أعجز.

فَقَالَ الأعرابي: سؤالك هَذَا سؤال متعلم أو سؤال متعنت، فعجب الرشيد من سرعة جوابه، وَقَالَ: بل سؤال متعلم.

فَقَالَ الأعرابي: قم واجلس مقام السائل من المسئول. قال: فقام الرشيد وجثى على ركبتيه بين يدي الأعرابي.

فقال: قد جلست. قال: سل عما بدا لك فقال: أخبر عن فرض الله عليك.

فَقَالَ له: تسألني عن أي فرض؟ أعن فرض واحد؟ أم عن خمسة فروض؟ أم عن ستة عشر فرضًا؟ أم عن أربعة وثلاثين فرضًا؟

أم عن أربعة وتسعين فرضً؟ أم عن واحد من أربعين؟ أم عن واحدة في العمر؟ أم عن خمسة من مائتين؟ فضحك.

ثُمَّ قال: سألتك عن فرض فأتيتني بحساب الدهر.

فَقَالَ: يا هارون لولا إن الدين حساب لما أخذ الله الخلائق بالحساب يوم القيامة قال الله جَلَّ وَعَلا: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} .

قال: فبدا الْغَضَب في وجه هارون حيث كلمه باسمه ولم يقل يا أمير الْمُؤْمِنِين، ثُمَّ قال له: فسر لي ما قُلْتُ.

فَقَالَ الحاجب: لما رأى غضب الرشيد: أعف عَنْهُ يا أمير الْمُؤْمِنِين، وهبه لله في هَذَا المقام الشريف.

فضحك الأعرابي من قولهما فَقَالَ له الرشيد: مم تضحك؟ قال: عجبًا منكما فإن أحدكما كما يستوهب أجلاً في عقله أنه قَدْ حظر، والآخِر يستعجل أجلاً لم يحظر.

ص: 430

فَلَمَّا سمَعَ الرشيد ذَلِكَ هانَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قال له: سألتك بِاللهِ أن تفسر ما قُلْتُ فقَدْ تشوَقْت إلى شرحه.

فَقَالَ الأعرابي: أما سؤالك عما فرض الله عليّ فقَدْ فرض علي فروضًا كثيرة.

فأما الفرض الواحد فهو: دين الإسلام.

وأما الخمسة الفروض فهي: الصلوات الخمس.

وأما السبعة عشر فهي: عدد ركعات الفرض الخمس: الصبح اثنتان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع.

وأما الأربع والثلاثين فهي: سجدات الصلوات الخمس.

وأما الأربع والتسعين فهي: التكبيرات في الصلوات الخمس

وأما الواحدة من أربعين: فهي الزَّكَاة: ربع العشر دينار من أربعين دينارًا، وشاة من أربعين شاة.

وأما الواحدة في العمر: فهي حجة الإسلام.

وأما الخمسة من المأتين: فهي زكاة الفضة. وتسمى: الورق.

فَسُرَّ الرشيد من تفسير هذه المسائل ومن ذكاء الأعرابي وفطنته وإجابته.

ثُمَّ أمر له بعشرة الآف درهم، فَقَالَ: لا حَاجَة لي بها ردها إلى أصحابها، فَقَالَ له: أتريد أن أجري لك جراية تكفيك مدة حياتك.

قال: الَّذِي أجرى عَلَيْكَ يجري علي.

قال: فإن كَانَ عَلَيْكَ دين قضيناه فلم يقبل منه شَيْئًا لله دره على هذه العفة هَذَا من رقم (1) في الزهد والورع ياليت هَذَا الطراز يوجد.

ص: 431

ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:

هَبِ الدُّنْيَا تُوَاتِينَا سِنِينَا

فَتَكْدُرُ تَارَّةً وَتَلِينُ حِينَا

فَمَا أَرْضَى بِشَيْءٍ لَيْسَ يَبْقَى

وَأَتْرُكُهُ غَدًا لِلْوَارِثِينَا

كَأَنِّي بِالتُّرَابِ عَلَيَّ يُحْثَى

وَبِالإِخْوَانِ حَوْلِي نَائِحِينَا

وَيَوْمَ تَزْفُر النِّيرَانُ فِيهِ

وَتُقْسِمُ جَهْرَةً لِلسَّامِعِينَا

وَعِزَّةِ خَالِقِي وَجَلالِ رَبِّي

لانْتَقَمْنَ مِنَ الْعُصَاةِ أَجْمَعِينَا

لغز في الأَرْض

وَأُمٌّ أَوْلادُهَا فَوْقَ ظَهْرِهَا

وَفِي بَطْنِهَا أَعْجِبْ بذَلِكَ مِنْ أَمْرِ

أَحَلُّو بِإِجْمَاعِ الأَئِمَّةِ وَطْأَهَا

وَمَا مِنْ جَمَاعِ قَدْ أَتُوهُ وَلا نُكْرِ

إِذَا حَمَلَتْ مِنْهُمْ بِشَخْصٍ فَلا يُرَى

لَهُ صُورَةٌ حَتَّى الْقِيَامَةِ وَالْحَشْرِ

في ميزان

وَقَاضِي قُضَاةٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ سَاكِتًا

وَبِالْحَقِّ يَقْضِي لا يَبُوحُ فَيَنْطِقُ

قَضَى بِلِسَانٍ لا يَمِيلُ وَإِنْ يَمِلْ

عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ مُصَدَّقُ

وفي سمَكَّة

وَذَاتُ جَنَاحٍ لا تَطِيرُ وَلا تَمْشِي

تُصَادُ وَلَيْسَتْ فِي الطُّيُورِ وَلا الْوَحْشِ

عَلَيْهَا قَمِيصٌ مِن لُجَيْنٍ مُدَبَّجَ

يُحَاكِي فُصُوصَ الْجَوْشَنِ الْمُحْكَم النَّقْشِ

تَسِيرُ وَلا يَدْنُو مِن الأَرْض جِسْمُهَا

وَتَسْبِقُ إِنْ شَاءَتْ أَخَا الأَيْدِ وَالْبَطْشِ

وفي الْقَلْب

أَيَا عُلْمَاءَ النَّاسِ هَلْ تُخْبِرُونَنِي

عَنِ الرَّائِحِ الْغَادِي الْمُقِيمِ الْمُسَافِرِ

يَجُوبُ نَوَاحِي الأَرْضِ فِي عُشْرِ سَاعَةٍ

وَفِي الْوَكْرِ لَمْ يَبْرَحْ وَلَيْسَ بِطَائِرِ

في آدم

وَذِي حَسَبٍ فِي النَّاسِ لا يُنْكِرونَهُ

وَلَيْسَ لَهُ فِي النَّاسِ أُمٌّ وَلا أَبُ

ص: 432

وفي آدم وعيسى والقمر

عَجِبْتُ لِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ

وَذِي وَلَدٍ مَا إِنْ لَهُ أَبَوَانِ

وآخر:

وَيَكْمُلُ فِي خَمْسِ وَعَشْرٍ شَبَابَهُ

وَيَهْلِكُ فِي سَبْعِ مَعًا وَثَمَانِ

في يونس عليه السلام

وَمَا حَيّ بَدَا مِنْ بَطْنِ حَيٍ

تَمَامًا ذَلِكَ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ

فَعَاشَا لَيْسَ بَيْنَهُمَا وِصَالٌ

وَلا نُعْمَى وَلا نَسَبٌ قَرِيبُ

في الحجر الأسود

وَأَسْوَدُ لا تَلْقَاهُ إِلا بِسَجْدَةٍ

وَتَقْبِيلة أَوْ مَسْحَةٍ بِالأَصَابِعَ

تَرَى الْمَلِكَ الْجَبَّارَ يَعْنُو لِوَجْهِهِ

جَلالاً وَيَلْقَاهُ بِرَهْبَةِ خَاضِعَ

انتهى.

شِعْرًا:

يَا مَنْ يُعِدُ غَدًا لِتَوْبَتِهْ

أَعَلَى يَقِينٍ مِنْ بُلُوغِ غَدِ

الْمَرْءُ فِي زَلَلٍ عَلَى أَمَلْ

وَمَنِّيَةُ الإِنْسَانِ بِالرَّصْدِ

أَيَّامَ عُمُركَ كُلَّهَا عَدَدْ

وَلَعَلَّ يَوْمَكَ آخِرُ الْعَدَدِ

يا أخي التوبة قبل أن تصل إليك النوبة، الإنابة قبل أن يغلق باب الإجابة، الإفاقة فيا قرب وَقْت الفاقة، إنما الدُّنْيَا سوق للتجر ومجلس وعظ للزجر وليل صيف قريب الفجر، المكنة مزنة صيف، الفرصة زورة طيف، الصحة رقدة ضيف، والغرة نقدة زيف، الدُّنْيَا معشوقة وكيف، البدار البدار فالوَقْت سيف.

يا غافلاً عن مصيره، يا واقفًا في تقصيره سبقك أَهْل العزائم وأَنْتَ في اليقظة نائم، قف على الْبَاب وقوف نادم، ونكس رأس الذل وقل أَنَا ظَالِم وناد في الأسحار مذنب وواهم، وتشبه بالقوم وإن لم تكن مِنْهُمْ وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمَعَ ساجم، قم في الدجا نادبا، وقف على الْبَاب تائبًا، واستدرك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو والهوى جانبًا، وإذا لاح الغرور رأى راهبًا، وطلق الجنيا إن كنت للأخرى طالبًا.

ص: 433

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

موعظة

إخواني رحل الأحباب إلى القبور وسترحلون، وتركوا القصور والأموال، والأوطان وستتركون، وتجرعوا كأس الفراق وستتجرعون.

وقدموا على ما قدموا واستقدمون، وندموا على التفريط في الأعمال وستندمون، وتأسفوا على أيام الإهمال وستتأسفون، وشاهدوا ما لَهُمْ عِنْد قدوم هادم اللذات وستشهدون.

ووقفوا ببصائرهم على الأهوال، وستقفون، وسئلوا عما عملوا وستسألون، ويود أحدهم لو يفتدى بالْمَال وستودون.

فبادروا بالمتاب قبل يوم الحساب وخيبة الظنون، فكأنكم بأيام الشباب وقَدْ أبلتها يد المنون، وقَدْ أظلكم من فجاءة الموت ما كنتم توعدون.

قال الله تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} فَكَيْفَ بك يا من صناع عمره فرطا في القيل والقال وعِنْد المذياع والكرة والتلفزيون.

ماذا يكون موقفك إذا نفخ في الصور ما في القبور وحصل ما في الصدور وضاقت الأمور وظهر المستور.

وخَرَجَ الخلائق من القبور ياله من يوم فيه الزلازل والأهوال وفيه تسير الجبال وترادف المزعجات والأهوال، وتنقطع فيه الآمال، ويقل فيه الاحتيال.

فيا خسارة أَهْل الشمال يوم نزل فيه الأقدام وتتبلد فيه الأفهام، ويطول

ص: 434

فيه القيام وتتابع فيه الهموم والآلام وتظهر الجرائم والآثار وينقطع فيه الكلام.

ياله من يوم، يوم يقوم النَّاس لرب العالمين يوم الحَسْرَة والندامة يوم الزلزلة والطامة يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة يوم الصاخة:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .

شِعْرًا:

كأْسُ الْمَنِيَّةِ دَائِرٌ مَا بَيْنَنَا

يَسْقِيكُمُوا وَيَدُورُ لِلنُّدَمَاءِ

فِي الْمَوْتِ أَعْظَمُ عِبْرَةِ لِمُبْصَّرٍ

أَوْ عِبْرَة مَمْزُوجَةٍ بِدِمَاءِ

فَهُوَ الْمُصِيبَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ آيَةٍ

مُفْنِي الْوَرَاء وَمِحْنَةُ الْعُقَلاءِ

وَهُوَ الرَّزِيَّةُ وَالْبَلِيَّةُ وَالَّذِي

يَسْطُو عَلَى الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ

فَاشْدُدْ حَيَازِيمَ الرَّحِيلِ إِلَى الأُولَى

وَاخْرُجْ مِن الأَدْوَاءِ وَالْحُكَمَاءِ

إِنَّ الْغَنَائِمَ فِي التَّوَكُّلَ وَالرِّضَا

لَيْسَتْ مَعَ الصَّفْرَاءِ وَالْحَمْرَاءِ

لَوْ أَنَّ عُمْرًا مِن طَبِيبٍ يُشْتَرَى

عَاشَ الطَّبِيبُ وَلَمْ يَمُتْ بِالدَّاءِ

يَا مَوْتُ أَقْرَبُ مَنْ يَكُون عَلَى الْفَتَى

تُلْقِيهِ فِي الصَّعْقَاءِ وَالرَّمْضَاءِ

يَا مَوْتُ مَا لَكَ لا تُبَقِّي مَاجِدًا

يَا هَاذِمَ اللَّذَاتِ وَالسَّرَاءِ

يَا فِتْنَةَ الأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ يَا

مُسْتَهْلِكَ الشُّرَفَاءِ وَالْخُلَفَاءِ

يَا حَسْرَةَ الظُّرَفَاءِ وَاللُّطَفَاءِ يَا

مُسْتَأْصَلَ النُّبَلاءِ وَالنُّجَبَاءِ

الْمَوْتُ حَتْمٌ يَوْم بِأَنِّي وَعْدُهُ

مَا وَعْدُهُ وَعْدًا بِغَيْرِ فَاءِ

كَمْ فَلَّ جَيْشًا كَمْ رَمَى مِنْ أَسْهُمٍ

كَمْ فَضَّ شَمْلاً كَمْ قَضَى بِعَزَاءِ

كَمْ خَصَّ طِفْلاً كَمْ كَوَى مِنْ وَالِدٍ

كَمْ هَدَّ رُكْنًا بَعْدَ دَكِّ بِنَاءِ

كَمْ فَضَّ نَفْسًا كَمْ بَرَى مِنْ حَاكِمٍ

مِنْ بَعْدِ عِزٍّ قَائِمٍ وَحِصَاءِ

لا عِزَّ لِلدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أَهْلُهَا

دَارِ الْفَنَا لَيْسَتْ بِدَارِ بَقَاءِ

ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى

مِنْ صَفْوَةُ الْفُصَحَاءِ وَالنُّجَبَاءِ

وَالآلِ وَالأَصْحَابِ أَعْلامِ الْهُدَى

مَا سَارَ رَكْبُ الْحَجِ فِي الْبَطْحَاءِ

ص: 435

اللَّهُمَّ ارحم عبادًا غرهم طول إمهالك وأطمعهم دوام إفضالك ومدوا أيديهم إلى كرم نوالك وتيقنوا أن لا غنى لَهُمْ عن سؤالك وَجَدَ عَلَيْنَا وعَلَيْهمْ بِرَحْمَتِكَ الواسعة وَاْغِفرْ لَنَا وَلَهُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

موعظة

اسمَعَ يا من يسعى لقاعد، ويسهر لراقَدْ، ويحرس لراصد، ويزرع لحاصد، ويبخل لباذل، ويجوع لآكل.

شِعْرًا:

وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وَفْرًا

لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ

كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وَهُوَ طَاوٍ

فَرِيسَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ

آخر:

يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ

وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ

كَدُودَةِ الْقَرِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا

وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ

اسمَعَ يا غَافِل لَيْسَ بمغفول عَنْهُ، عن قليل ينهد ركناك وفي القبر سكناك، قلب قاسي كقُلُوب الكفار حرص كحرص الفار ينقب بالأظفار.

قل لي ما موقفك إذا وقعت الواقعة وقرعت القارعة وأزف لك الرحيل إلى قبرك واجتمَعَ الغسال والغسيل والعائد يغمز عينيه، والْحَبِيب يقلب كفيه.

حتى إذا انقطع نفسك وحثى على جدثك، وانطوى زمانك وخوي جثمانك وأخرجت من منزلك الَّذِي بنيته وتركت مالك الَّذِي جمعته وأبقيته.

أينفعك حينئذٍ حلال أصبته ومنعته، أو حرام غصبته أو نشب حصنته أو ولد حضنته، أو ربع أسسته، أو حطام حرسته، أو أرضًا حوشتها.

ص: 436

كلا لا ينفعك إِلا خَيْر لوجه الله أمضيته، أو خصم أرضيته، أو قريب وصلته وأعطيته، أو والدة أو والد بريته.

انتبه يا نائم واستقم يا قائم وأكثر من الزَادَ فإن الطَرِيق بعيد والبحر عميق وخفف الحمل فإن الصراط دقيق وأخلص الْعَمَل فإن الناقَدْ بصير.

وأخر نومك إلى القبر وفرحك إلى الميزان وشهواتك وراحتك إلى الآخِرَة ولذاتك إلى الحور العين.

وتقرب إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلا بحب أَهْل الطاعة وبغض أَهْل المعاصي واهجرهم وتباعد عنهم وَاحْذَر وحَذِّر عنهم واسأل ربك الثبات على الإِيمَان حتى الْمَمَات.

ومن كلام بَعْضهمْ أما تسمعون أيها النَّاس داعي الموت يدعوَكَمْ، وحاديه يحدوَكَمْ أما ترون صرعاه في منازلكم وقتلاه بين أيديكم ففيم التصامم عن الداعي والتشاغل عن الحادي والتعامي عن مصارع القتلى والتغَافِل عن مشاهدة الهلكى، فرحم الله امرأً أيقظ نَفْسهُ في مهلة الحياة قبل أن توقظه روعة الْمَمَات، واستعد لما هُوَ آت قبل الانبتات، وحلول الفوات، وكأن الحكم قَدْ وقع والخطاب قَدْ ارتفع، أعرض من أعرض وسمَعَ من سمَعَ.

شِعْرًا:

قَطَعْتُ زَمَانِي حِينًا فَحِينَا

أُدِير مِن اللَّهْوِ فِيهِ فُنُونَا

وَأَهْمَلْتُ نَفْسِي وَمَا أهْمِلَتْ

وَهَوَّنْتَ مِنْ ذَاكَ مَا لَمْ يَهُونَا

وَرُبَّ سُرُورٍ شَفَى غَلَّةً

وَوَلَّى فَأعْقَبَ حُزْنًا رَصِينَا

وَكَمْ آكِلُ سَاعَةٍ مَا يُرِيد

يُكَابِدُ مَا أَوْرَثْتَهُ سِنِينَا

وَمَا كَانَ أَغْنَى الْفَتَى عَنْ نَعِيمٍ

يَعُودُ عَلَيْهِ عَذَابًا مُهِينَا

وَكَمْ وَعَظَتْنِي عِظَاةُ الزَّمَانِ

لَوْ أَنِّي أُصِيخ إِلَى الْوَاعِظِينَا

وَكَمْ دَعَانِي دَاعِي الْمَنُونِ

وَأَسْمَعَ لَوْ كُنْتَ فِي السَّامِعِينَا

ص: 437

وَمَاذَا أؤمِّلُ أَوْ أَرْتَجِيه

وَقَدْ جُزْتُ سَبْعًا عَلَى الأَرْبَعِينَا

فَلَوْ كَانَ عَقْلِي مَعِي حَاضِرًا

سَمِعْتُ لَعَمْرِي مِنْهُ أَنِينَا

وَلَنْ يَبْرَحَ الْمَرْءُ فِي رَقْدَةٍ

يَغِطُّ إِلَى أَنْ يُوَافِي الْمَنُونَا

فَتُوقِظُهُ عِنْدَهَا رَوْعَةٌ

يُقَطِّعُ مِنْهُ هُنَاكَ الْوَاتِينَا

وَإِذْ ذَاكَ يَدْرِي بِمَا كَانَ فِيهِ

وَتَجْلُو الْحَقَائِقُ مِنْهُ الظُّنُونَا

اللَّهُمَّ أنظمنا في سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فصل)

قال ابن القيم رحمه الله:

إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارَ فَإِنَّهَا

????

أَمَّارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكُمْ فَسَلِّمُوا

????

سَلامٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ

????

وَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَفَضْلٌ وَأَنْعُمُ

????

عَلَى الصَّحْبِ وَالإِخْوَانِ وَالْوِلْدِ وَالألى

????

رَعَاهُمُ بِإِحْسَانٍ فَجَادُوا وَأَنْعَمُوا

????

وَسَائِرِ من لِلسُّنَّةِ الْمَحْضَةِ اقْتَفَى

????

وَمَا زَاغَ عَنْهَا فَهُوَ حَقٌّ مُقَوَّمُ

????

أُولَئِكَ أَتْبَاعُ النَّبِيِّ وَحِزْبِهِ

????

وَلَوْلاهُمُ مَا كَانَ فِي الأَرْضِ مُسْلِمُ

>?

????

ص: 438

.. وَلَوْلاهُمُ كَادَتْ تَمِيدُ بِأَهْلِهَا

????

وَلَكِنْ رَوَاسِيهَا وَأَوْتَادُهَا هُمُ

????

وَلَوْلاهُمُ كَانَتْ ظَلامًا بِأَهْلِهَا

????

وَلاكِنَّهُمْ فِيهَا بِدُورٌ وَأَنْجُمُ

????

أُولَئِكَ أَصْحَابِي فَحَيَّ هَلاً بِهُمْ

????

وَحَيَّ هَلاً باِلطَّيِّبِينَ وَأَنْعُمُ

????

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ سَلامٌ يَخُصُّهُ

????

يُبَلِّغُهُ الأَدْنَى إليه وَيَنْعَمُ

????

فَيَا مُحْسِنًا بَلِّغْ سَلامِي وَقُلْ لَهُمْ

????

مُحِبُّكُمُ يَدْعُو لَكُمْ وَيُسَلِّمُ

????

وَيَا لائِمِي فِي حُبِّهِمْ وَوَلائِهِمْ

????

تَأَمَّلْ هَدَاكَ اللهُ مَنْ هُوَ أَلْوَمُ

????

بَأَيِّ دَلِيلٍ أَمْ بِأَيَّةِ حُجَّةٍ

????

تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَنْقِمُ

????

وَمَا الْعَارُ إِلا بُغْضُهُمْ وَاجْتِنَابُهُمْ

????

وَحُبُّ عِدَاهُمْ ذَاكَ عَارٌ وَمَأْثَمُ

????

أَمَا وَالَّذِي شَقَّ الْقُلُوبَ وَأَوْدَعَ الْـ

????

مَحَبَّةَ فِيهَا حَيْثُ لا تَتَصَرَّمُ

????

وَحَمَّلَهَا قَلْبَ الْمُحِبِّ وَإِنَّهُ

????

لِيَضْعُفُ عَنْ حَمْلِ الْقَمِيصِ وَيَأْلَمُ

????

وَذَلَّلَهَا حَتَّى اسْتَكَانَتْ لِصَوْلَةِ الْـ

????

مَحَبَّةِ لا تَلْوِي وَلا تَتَلَعْثَمُ

????

ص: 439

.. وَذَلَّلَ فِيهَا أَنْفُسًا دُونَ ذُلِّهَا

????

حِيَاضُ الْمَنَايَا فَوْقَهَا وَهِيَ حُوَّمُ

????

لأَنْتُمْ عَلَى قُرْبِ الدِّيَارِ وَبُعْدِهَا

????

أَحِبَّتُنَا إِنْ غِبْتُمُ أَوْ حَضَرْتُمُ

????

سَلُوا نَسَمَاتِ الرِّيحِ كَمْ قَدْ تَحَمَلَتْ

????

مَحَبَّةَ صَبِّ شَوْقِهِ لَيْسَ يُكْتَمُ!!

????

وَشَاهِدُ هَذَا أَنَّهَا فِي هَبُوبِهَا

????

تَكَادُ تَبُثُّ الْوِجْدَ لَوْ تَتَكَلَّمُ

????

وَكُنْتُ إِذَا مَا اشْتَدَّ بِي الشَّوْقُ وَالْجَوَى

????

وَكَادَتْ عُرَى الصَّبْرِ الْجَمِيلِ تَفَصَّمُ

????

أُعَلِّلُ نَفْسِي بِالتَّلاقِي وَقُرْبِهِ

????

وَأُوْهِمُهَا لَكِنَّهَا تَتَوَهَّمُ

????

وَأُتْبِعُ طَرْفِي وِجْهَةً أَنْتُمُ بِهَا

????

فَلِي بِحِمَاهَا مَرْبَعٌ وَمُخَيَّمُ

????

وَأَذْكُرُ بَيْتًا قَاله بَعْضُ مَنْ خَلا

????

وَقَدْ ضَلَّ عَنْهُ صَبْرُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ

????

(أُسْائِلُ عَنْكُمْ كُلَّ غَادٍ وَرَائِحٍ

????

وَأُومِي إِلَى أَوْطَانِكُمْ وَأُسَلِّمُ)

????

وَكَمْ يَصْبِرِ الْمُشْتَاقُ عَمَّنْ يُحِبُّهُ

????

وَفِي قَلْبهُ نَارُ الأَسَى تَتَضَرَّمُ

????

أَمَّا وَالَّذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ

????

وَلَبُّوا لَهُ عِنْدَ الْمَهَلِّ وَأَحْرَمُوا

????

ص: 440

.. وَقَدْ كَشَفُوا تِلْكَ الرُّؤُوسِ تَوَاضُعًا

????

لِعِزَّةِ مَنْ تَعْنُوا الْوُجُوهُ وَتَسْلِمُ

????

يُهِلُّونَ بِالْبِيدَاءِ لَبَّيْكَ رَبَّنَا

????

لَكَ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ تَعْلَمُ

????

دَعَاهُمْ فَلَبُّوه رِضىً وَمَحَبَّةً

????

فَلَمَّا دَعَوْهُ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُمُ

????

تَرَاهُمْ عَلَى الإِنْضَاءِ شُعْثًا رُؤُوسُهُمْ

????

وَغُبْرًا وَهُمْ فِيهَا أَسَرُّ وَأَنْعَمُ

????

وَقَدْ فَارَقُوا الأَوْطَانَ وَالأَهْلَ رَغْبَةً

????

وَلَمْ يَثْنِهِمْ لَذَّاتُهُمْ وَالتَّنَعُّمُ

????

يَسِيرُونَ مِنْ أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا

????

رِجَالاً وَرُكْبَانًا وَلله أَسْلَمُوا

????

وَلَمَّا رَأَتْ أَبْصَارُهُمْ بَيْتَهُ الَّذِي

????

قُلُوبُ الْوَرَى شَوْقًا إليه تَضَرَّمُ

????

كَأَنَّهُمْ لََمْ يَنْصِبُوا قَطُّ قَبْلَهُ

????

لأَنَّ شَقَاهُمْ قَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُمُ

????

فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ عِبْرَةٍ مُهَرَاقَةٍ

????

وَأُخْرَى عَلَى آثَارِهَا تَتَقَدَّمُ

????

وَقَدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا

????

فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيُسْجِمُ

????

إِذَا عَايَنَتْهُ الْعَيْنُ زَالَ ظَلامُهَا

????

وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ التَّأَلُّمُ

????

ص: 441

.. وَلا يَعْرِفُ الطَّرْفُ الْمُعَاينُ حُسْنَهُ

????

إِلَى أَنْ يَعُودَ الطَّرْفُ وَالشَّوْقُ أَعْظَمُ

????

وَلا عَجَبٌ مِنْ ذَا فَحِينَ أَضَافَهُ

????

إِلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَنُ فَهُوَ الْمُعَظَّمُ

????

كَسَاهُ مِنَ الإِجْلالِ أَعْظَمَ حُلَّةٍ

????

عَلَيْهَا طِرَازٌ بِالْمَلاحَةِ مُعْلَمُ

????

فَمِنْ أَجْلِ ذَا كُلُّ الْقُلُوبِ تُحِبُّهُ

????

وَتَخْضَعُ إِجْلالاً لَهُ وَتُعَظِّمُ

????

وَرَاحُوا إِلَى التَّعْرِيفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً

????

وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُودُ وَيُكْرِمُ

????

فَلِلَّهِ ذَاكَ الْمَوْقِفُ الأَعْظَمُ الَّذِي

????

كَمَوْقِفِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ

????

وَيَدْنُو بِهِ الْجَبَّارُ جل جلاله

????

يُبَاهِي بِهِمْ أَمْلاكَهُ فَهُوَ أَكْرَمُ

????

يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً

????

وَإِنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجْوَدُ وَأَرْحَمُ

????

فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ

????

وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا أَمَّلُوهُ وَأَنْعَمُ

????

فَبُشْرَاكُمْ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي

????

بِهِ يَغْفِرُ اللهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ

????

وَمَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَغْيَظُ فِي الْوَرَى

????

وَأَحْقَرَ مِنْهُ عِنْدَهَا وَهُوَ الأَمُ

????

ص: 442

.. وَذَاكَ لأَمْرٍ قَدْ رَآهُ فَغَاظَهُ

????

فَأَقْبَلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظًا وَيَلْطِمُ

????

وَمَا عَايَنْتَ عَيْنَاهُ مِنْ رَحْمَةٍ أَتَتْ

????

وَمَغْفِرَةٍ مِنْ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ تُقْسَمُ

????

بَنَى مَا بَنَى حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ

????

تَمَكَّنَ مِنْ بُنْيَانِهِ فَهُوَ مُحْكَمُ

????

أَتَى اللهُ بُنْيَانًا لَهُ مِنْ أَسَاسِهِ

????

فَخَرَّ عَلَيْهِ سَاقِطًا يَتَهَدَّمُ

????

وَكَمْ قَدْرَ مَا يَعْلُوا الْبِنَاءُ وَيَنْتَهِي

????

إِذَا كَانَ يَبْنِيهِ وَذُو الْعَرْشِ يَهْدِمُ!!

????

وَرَاحُوا إِلَى جَمْعٍ فَبَاتُوا بِمَشْعَرِ الْـ

????

حَرَامِ وَصَلُّوا الْفَجْرَ ثُمَّ تَقَدَّمُوا

????

إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى يُرِيدُونَ رَمْيَهَا

????

لِوَقْتِ صَلاةِ الْعِيدِ ثُمَّ تَيَمَّمُوا

????

مَنَازِلَهُمْ لِلنَّحْرِ يَبْغُونَ فَضْلَهُ

????

وَإِحْيَاءَ نُسْكٍ مِنْ أَبِيهِم يُعَظَّمُ

????

فَلَوْ كَانَ يُرْضِي اللهَ نَحْرُ نُفُوسِهِمْ

لَدَانُوا بِهِ طَوْعًا وَلِلأَمْرِ سَلَّمُوا

????

كَمَا بَذَلُوا عِنْدَ الْجِهَادِ نُحُورَهُمْ

????

لأَعْدَائِهِ حَتَّى جَرَى مِنْهُمْ الدَّمُ

>?

????

وَلَكِنَّهُمْ دَانُوا بِوَضْعِ رُؤُوسِهِمْ

????

ص: 443

.. وَذَلِكَ ذُلٌّ لِلْعَبِيدِ وَمِيسَمُ

????

وَلَمَّا تَقَضَّوْا ذَلِكَ التَّفَثَ الَّذِي

????

عَلَيْهمْ وَأَوْفُوا نَذْرَهُمْ ثُمَّ تَمَّمُوا

????

دَعَاهُمْ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ زِيَارَةً

????

فَيَا مَرْحَبًا بِالزَّائِرِينَ وَأَكْرِمُ

????

فَلِلَّهِ مَا أَبْهَى زِيَارَتَهُمْ لَهُ!!

????

وَقَدْ حُصِّلَتْ تِلْكَ الْجَوَائِزُ تُقْسَمُ

????

وَللهِ إِفْضَالُ هُنَاكَ وَنِعْمَةٌ

????

وَبِرٌّ وَإِحْسَانٌ وَجُودٌ وَمَرْحَمُ

????

وَعَادُوا إِلَى تِلْكَ الْمَنَازِلِ مِنْ مِنَى

????

وَنَالُوا مُنَاهُمْ عِنْدَهَا وَتَنَعَّمُوا

????

أَقَامُوا بِهَا يَوْمًا وَيَوْمًا ثَالِثًا

????

وَأُذِّنَ فِيهِمْ بِالرَّحِيلِ وَأُعْلِمُوا

????

وَرَاحُوا إِلَى رَمْيِ الْجِمَارِ عَشِيَّةً

????

شِعَارُهُمْ التَّكْبِيرُ وَاللهُ مَعْهُمُ

????

فَلَوْ أَبْصَرْتَ عَيْنَاكَ مَوْقِفَهُمْ بِهَا

????

وَقَدْ بَسَطُوا تِلْكَ الأَكُفَّ لِيُرْحَمُوا

????

يُنَادُونَهُ يَا رَبُّ يَا رَبُّ إِنَّنَا

????

عَبِيدُكَ لا نَدْعُو سِوَاكَ وَتَعْلَمُ

????

وَهَا نَحْنُ نَرْجُو مِنْكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ

????

فَأَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْجَزِيلَ وَتُنْعِمُ

????

وَلَمَّا تَقَضَّوْا مِنْ مِنَى كُلَّ حَاجَةٍ

????

ص: 444

.. وَسَالَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْبِطَاحُ تَقَدَّمُوا

????

إِلَى الْكَعْبَةِ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَشِيَّةً

????

وَطَافُوا بِهَا سَبْعًا وَصَلُّوا وَسَلَّمُوا

????

وَلَمَّا دَنَا التَّوْدِيعُ مِنْهُمْ وَأَيْقَنُوا

????

بِأَنَّ التَّدَانِي حَبْلُهُ مُتَصَرِّمُ

????

وَلَمْ يَبْقَ إِلا وَقْفَةٌ لِمُوَدِّعٍ

????

فَلِلَّهِ أَجْفَانٌ هُنَالِكَ تَسْجُمُ!!

????

وَللهِ أَكْبَادٌ هُنَالِكَ أُودِعَ الْـ

????

غَرَامُ بِهَا!! فَالنَّارُ فِيهَا تَضَرَّمُ

????

وَللهِ أَنْفَاسٌ يَكَادُ بِحَرِّهَا

????

يَذُوبُ الْمُحِبُّ الْمُسْتَهَامُ الْمُتَيَّمُ

????

فَلَمْ تَرَ إِلا بَاهِتًا مُتَحَيِّرًا

????

وَآخِرَ يُبْدِي شَجْوَهُ يَتَرَنَّمُ

????

رَحَلْتُ وَأَشْوَاقِي إليكُمْ مُقِيمَةٌ

????

وَنَارُ الأَسَى مِنِّي تُشَبُّ وَتُضْرَمُ

????

أُوَدِّعُكُمْ وَالشَّوْقُ يَثْنِي أَعِنَّتِي

????

وَقَلْبِي أَمْسَى فِي حِمَاكُمْ مُخَيِّمُ

????

هُنَالِكَ لا تَثْرِيبَ يَوْمًا عَلَى امْرِئٍ

????

إِذَا مَا بَدَا مِنْهُ الَّذِي كَانَ يَكْتُمُ

????

فَيَا سَائِقِينَ الْعَيْسَ بِاللهِ رَبِّكُمْ

????

قِفُوا لِي عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ وَسَلِّمُوا

????

وَقُولُوا مُحِبٌّ قَادَهُ الشَّوْقُ نَحْوَكُمْ

????

ص: 445

.. قَضَى نَحْبَهُ فِيكُمْ تَعِيشُوا وَتَسْلَمُوا

????

قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ فِيمَا قَضَى بِهِ

????

بِأَنَّ الْهَوَى يُعْمِي الْقُلُوبَ وَيُبْكِمُ

????

وَحُبُّكُمْ أَصْلُ الْهُدَى وَمَدَارُهُ

????

عَلَيْهِ وَفَوْزٌ لِلْمُحِبِّ وَمَغْنَمُ

????

وَتَفْنَى عِظَامُ الصَّبِّ بَعْدَ مَمَاتِهِ

????

وَأَشْوَاقُهُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مُحَرَّمُ

????

فَيَا أَيُّهَا الْقَلْبُ الَّذِي مَلَكَ الْهَوَى

????

أَزِمَّتَهُ حَتَّى مَتَى ذَا التَّلوُّمُ؟!

????

وَحَتَّامَ لا تَصْحُوا؟! وَقَدْ قَرُبَ الْمَدَى

????

وَدُنَّتْ كُؤُوسُ السَّيْرِ وَالنَّاسُ نُوَّمُ

????

بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغِطَا

????

وَيَبْدُو لَكَ الأَمْرُ الَّذِي أَنْتَ تَكْتُمُ

????

وَيَا مُوقِدًا نَارًا لِغَيْرِكَ ضَوْؤُهَا

????

وَحَرُّ لَظَاهَا بَيْنَ جَنْبَيْكَ يُضْرَمُ

????

أَهَذَا جَنَى الْعِلْمِ الَّذِي قَدْ رَضِيتَهُ

????

لِنَفْسِكَ فِي الدَّارَيْنِ جَاهٌ وَدِرْهَمُ؟!

????

وَهَذَا هُوَ الرِّبْحُ الَّذِي قَدْ كَسَبْتَهُ؟!

????

لعَمْرُكَ لا رِبْحٌ وَلا الأَصْلُ يَسْلَمُ!!

????

بَخِلْتَ بِشَيْءٍ لا يَضُرُّكَ بَذْلُهُ

????

وَجُدْتَ بِشَيْءٍ مِثْلُهُ لا يَقُومُ

????

بَخِلْتَ بِذَا الْحَظِّ الْخَسِيسِ دَنَاءَةً

????

ص: 446

.. وَجُدْتَ بِدَارِ الْخُلْدِ لَوْ كُنْتَ تَفْهَمُ

????

وَبِعْتَ نَعِيمًا لا انْقِضَاءَ لَهُ وَلا

????

نَظِيرَ بِبَخْسٍ عَن قَلِيلٍ سَيُعْدَمُ

????

فَهَلا عَكَسْتَ الأَمْرِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا

????

وَلَكِنْ أَضَعْتَ الْحَزْمَ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ

????

وَتَهْدِمُ مَا تَبْنِي بِكَفِّكَ جَاهِدًا

????

فأَنْتَ مَدَى الأَيَّامِ تَبْنِي وَتَهْدِمُ

????

وَعِنْدَ مُرَادِ اللهِ تَفْنَى كَمَيِّتٍ

????

وعِنْدَ مُرَادِ النَّفْسِ تُسْدِي وَتُلْحِمُ

????

وَعِنْدَ خِلافِ الأَمْرِ تَحْتَجُّ بِالْقَضَا

????

ظَهِيرًا عَلَى الرَّحْمَنِ لِلْجَبْرِ تَزْعُمُ

????

تَنَزَّهُ مِنْكَ النَّفْسُ عَنْ سُوءِ فِعْلِهَا

????

وَتَعْتِبُ أَقْدَارَ الإِلَهِ وَتَظْلِمُ

????

تَحُلُّ أُمُورًا أَحْكَمَ الشَّرْعُ عَقْدَهَا

????

وَتَقْصُدُ مَا قَدْ حَلَّهُ الشَّرْعُ تُبْرِم

????

وَتَفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ خِلافَ مَا

????

أَرَادَ لأَنْ الْقَلْبَ مِنْكَ مُعَجَّمُ

????

مُطِيعٌ لِدَاعِي الْغَيِّ عَاصٍ لِرُشْدِهِ

????

إِلَى رَبِّهِ يَوْمًا يُرَدُّ وَيَعْلَمُ

????

مُضِيعُ لأَمْرِ اللهِ قَدْ غَشَّ نَفْسَهُ

????

مُهِينٌ لَهَا أَنَّى يُحِبُّ وَيُكْرَمُ

????

بَطِيءٌ عَنْ الطَّاعَاتِ أَسْرَعُ لِلْخَنَا

????

ص: 447

.. مِنَ السَّيْلِ فِي مَجْرَاهُ لا يَتَقَسَّمُ

????

وَتَزْعُمُ مَعَ هَذَا بِأَنَّكَ عَارِفٌ

????

كَذَبْتَ يَقِينًا بِالَّذِي أَنْتَ تَزْعُمُ

????

وَمَا أَنْتَ إِلا جَاهِلٌ ثُمَّ ظَالِمٌ

????

وَأَنَّكَ بَيْنَ الْجَاهِلِينَ مُقَدَّمُ

????

إِذَا كَانَ هَذَا نُصْحُ عَبْدٍ لِنَفْسِهِ

????

فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنْهُ الْهُدَى يُتَعَلَّمُ؟!

????

وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ قَدْ قَالَ مَنْ مَضَى

????

وَأَحْسَنَ فِيمَا قَاله الْمُتَكَلِّمُ

????

(فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ

????

وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ)

????

وَلَوْ تُبْصِرُ الدُّنْيَا وَرَاءَ سُتُورِهَا

????

رَأَيْتَ خَيالاً فِي مَنَامٍ سَيُصْرَمُ

????

كَحُلْمٍ بِطَيْفٍ زَارَ فِي النَّوْمِ وَانْقَضَى الْـ

????

مَنَامُ وَرَاحَ الطَّيْفُ وَالصَّبُّ مُغْرَمُ

????

وَظِلٍّ أَرَتْهُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا

????

سَيَقْلُصُ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ وَيَفْصِمُ

????

وَمُزْنَةِ صَيْفٍ طَابَ مِنْهَا مَقِيلُهَا

????

فَوَلَّتْ سَرِيعًا وَالْحُرُورُ تَضَرَّمُ

????

وَمَطْعَمِ ضَيْفٍ لَذَّ مِنْهُ مَسَاغُهُ

????

وَبَعْدَ قَلِيلٍ حَاله تِلْكَ تُعْلَمُ

????

كَذَا هَذِهِ الدُّنْيَا كَأَحْلامِ نَائِمٍ

????

ص: 448

.. وَمِنْ بَعْدِهَا دَارُ الْبَقَاءِ سَتَقْدَمُ

????

فَجُزْهَا مَمَرًّا لا مَقَرًّا وَكُنْ بِهَا

????

غَرِيبًا تَعْشِ فِيهَا حَمِيدًا وَتَسْلَمُ

????

أَوْ ابْنَ سَبِيلٍ قَالَ فِي ظِلِّ دَوْحَةٍ

????

وَرَاحَ وَخَلَّى ظِلَّهَا يَتَقَسَّمُ

????

أَخَا سَفَرٍ لا يَسْتَقِرُّ قَرَارُهُ

????

إِلَى أَنْ يَرَى أَوْطَانَهُ وَيُسْلِّمُ

????

فَيَا عَجَبًا!! كَمْ مَصْرَعٌ وَعَظَتْ بِهِ

????

بَنِيهَا!! وَلَكِنْ عَنْ مَصَارِعِهَا عَمُوا

????

سَقَتْهُمْ كُؤُوسَ الْحُبِّ حَتَّى إِذَا نَشَوْا

????

سَقَتْهُمْ كُؤُوسَ السُّمِّ وَالْقَوْمُ نُوَّمُ

????

وَأَعْجَبُ مَا فِي الْعَبْدِ رُؤْيَةُ هَذِهِ الْـ

????

عَظَائِمِ وَالْمَغْرُورُ فِيهَا مُتَيَّمُ

????

وَمَا ذَاكَ إِلا أَنَّ خَمْرَةَ حُبِّهَا

????

لَتَسْلِبُ عَقْلَ الْمَرْءِ مِنْهُ وَتَصْلِمُ

????

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّ أَحْبَابَهَا الأُلَى

????

تَهِينُ وَلِلأَعْدَا تُرَاعِي وَتُكْرِمُ

????

وَذَلِكَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ قَدْرَهَا

????

جَنَاحُ بَعُوضٍ أَوْ أَدَقَّ وَأَلأَمُ

????

وَحَسْبُكَ مَا قَالَ الرَّسُولُ مُمَثِّلاً

????

لَهَا وَلِدَارِ الْخُلْدِ وَالْحَقُّ يُفْهَمُ

????

كَمَا يُدْلِيَ الإِنْسَانُ فِي اليمِّ أَصْبُعًا

????

ص: 449

.. وَيَنْزِعُهَا مِنْهُ فَمَا ذَاكَ يَغْنَمُ

????

أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

????

عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا وَأَمْرِي مُبْرَمُ

????

وَهَلْ أَرِدَن مَاءَ الْحَيَاةِ وَأَرْتَوِي

????

عَلَى ظَمَأٍ مِنْ حَوْضِهِ وَهُوَ مُفْعَمُ

????

وَهَلْ تَبْدُونَ أَعْلامُهَا بَعْدَ مَا سَفَتْ

????

عَلَى رَبْعِهَا تِلْكَ السَّوَافِي فَتُعْلَمُ

????

وَهَلْ أَفْرِشَنْ خَدِّي ثَرَى عَتَبَاتِهِمْ

????

خُضُوعًا لَهُمْ كَيْمَا يَرِقُّوا وَيَرْحَمُوا

????

وَهَلْ أَرْمِينَ نَفْسِي طَرِيحًا بِبَابِهِمْ

????

وَطَيْرُ مَنَايَا الْحُبِّ فَوْقِي تُحَوِّمُ

????

فَيَا أَسَفِي تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِي

????

وَذَا الْعُتْبُ بَاقٍ مَا بَقِيتُمْ وَعِشْتُمُ

????

فَمَا مِنْكُمُ بُدَّ وَلا عَنْكُمُ غِنَى

????

وَمَا لِي مِنْ صَبْرٍ فَأَسْلُوَ عَنْكُمُ

????

وَمَنْ شَاءَ فَلْيَغْضَبْ سِوَاكُمْ فَلا إذًا

????

إِذَا كُنْتُمُ عَنْ عَبْدِكُمْ قَدْ رَضِيتُمُ

????

وَعُقْبَى اصْطِبَارِي فِي هَوَاكُمْ حَمِيدَةٌ

????

وَلَكِنَّهَا عَنْكُمْ عِقَابٌ وَمَأْثَمُ

????

وَمَا أَنَا بِالشَّاكِي لِمَا تَرْتَضُونَهُ

????

وَلَكِنَّنِي أَرْضَى بِهِ وَأُسَلَّمُ

????

وَحَسْبِي انْتِسَابِي مِنْ بَعِيدٍ إليكُمُ

????

ص: 450

.. أَلا إِنَّهُ حَظٌّ عَظِيمٌ مُفَخَّمُ

????

إِذَا قِيلَ هَذَا عَبْدُهُمْ وَمُحِبُّهُمْ

????

تَهَلَّلَ بِشْرًا وَجْهُهُ يَتَبَسَّمُ

????

وَهَا هُوَ قَدْ أَنْدَى الضَّرَاعَةَ سَائِلاً

????

لَكُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْقَالِ مُعْلِمُ

????

أَحِبَّتَهُ عَطْفًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ

????

لَمُظْمىً وَإِنَّ الْمَوْرِدَ الْعَذْبَ أَنْتُمُ

????

فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى

????

صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ

????

أَفِقْ قَدْ دَنَا الوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ

????

سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرٍّ نَارٍ تَضَرَّمُ

????

وَبِالسُّنَّةِ الْغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا

????

هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ

????

تَمَسَّكَ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَاله

????

وَعُضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمُ

????

وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا

????

فَمُرْتَعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ

????

وَهَيِءْ جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا

????

مِنَ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ

????

بِهِ رُسُلِي لَمَّا أَتَوْكُمْ فَمَنْ يَكُنْ

????

أَجَابَ سِوَاهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَنْدَمُ

????

وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ

????

ص: 451

.. لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ

????

وَيُنْصَبُ ذَاكَ الْجِسْرُ مِنْ فَوْقِ مَتْنِهَا

????

فَهَاوٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ

????

وَيَأْتِي إِلَهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ

????

فَيَفْصُلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ

????

وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقَّهُ

????

فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ!!

????

وَيُنْشَرُ دِيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوضَعُ الْـ

????

مَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ

????

فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ

????

وَلا مُحْسِنٌ مِنْ أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ

????

وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيءِ بِمَا جَنَى

????

كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهَيْمِنُ يَخْتِمُ

????

فَيَا لَيْتَ شِعْرِي!! كَيْفَ حَالُكَ عِنْدَمَا

????

تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسَمُ؟!

????

أَتَأْخُذُ بِاليمْنَى كِتَابِكَ أَمْ تَكُنْ

????

بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ

????

وَتقْرَأُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ

????

فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ

????

تَقُولُ كِتَابِي فَاقْرَؤُوهُ فَإِنَّهُ

????

يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ

????

وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ

????

ص: 452

.. أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَهُ فَهُوَ مُغْرَمُ

????

فَبَادِرْ إِذَا مَا دَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةٌ

????

وَعَدْلُكَ مَقْبُولُ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ

????

وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا

????

فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانَ تَسْعَى وَتَغْنَمُ

????

وَسِرْ مُسْرِعًا فَالسَّيْلُ خَلْفُكَ مُسْرِعٌ

????

وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ وَمَهْزَمُ!!

????

(فَهُنَّ الْمَنَايَا أَيَّ وَادٍ نَزَلْتَهُ

????

عَلَيْهَا الْقُدُومُ أَوْ عَلَيْكَ سَتَقْدَمُ)

????

وَمَا ذَاكَ إِلا غَيْرَةٌ أَنْ يَنَالَهَا

????

سِوَى كُفْؤِهَا وَالرَّبُّ بِالْخَلْقِ أَعْلَمُ

????

وَإِنْ حُجِبَتْ عَنَّا بِكُلِّ كَرِيهَةٍ

????

وَحُفَّتْ بِمَا يُؤْذِي النُّفُوسَ وَيُؤْلِمُ

????

فَلِلَّهِ مَا فِي حَشْوِهَا مِنْ مَسَرَّةٍ

????

وَأَصْنَافِ لَذَّاتِ بِهَا يُتَنَعَّمُ!!

????

وَللهِ بَرْدُ الْعَيْشِ بَيْنَ خِيَامِهَا

????

وَرَوْضَاتِهَا وَالثَّغْرُ فِي الرَّوْضِ يَبْسِمُ

????

فَلِلَّهِ وَادِيهَا الَّذِي هُوَ مَوْعِدُ الْـ

????

مَزِيدِ لِوَفْدِ الْحُبِّ لَوْ كُنْتَ مِنْهُمُ

????

بِذَيَّالِكَ الْوَادِي يَهِيمُ صَبَابَةً

????

مُحِبٌّ يَرَى أَنَّ الصَّبَابَةَ مَغْنَمُ!

????

وَللهِ أَفْرَاحُ الْمُحِبِّينَ عِنْدَمَا

????

ص: 453

.. يُخَاطِبُهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيُسَلِّمُ

????

وَللهِ أَبْصَارٌ تَرَى اللهَ جَهْرَةً

????

فَلا الضَّيْمُ يَغْشَاهَا وَلا هِيَ تَسْأَمُ

????

فَيَا نَظْرَةً أَهْدَتْ إِلَى الْوَجْهِ نَضْرَةً

????

أَمِنْ بَعْدِهَا يَسْلُو الْمُحِبُّ الْمُتَيَّمُ؟

????

وَللهِ كَمْ مِنْ خَيْرَةٍ لَوْ تَبَسَّمَتْ

????

أَضَاءَ لَهَا نُورٌ مِنْ الْفَجْرِ أَعْظَمُ

????

فَيَا لَذَّةَ الأَبْصَارِ إِنْ هِيَ أَقْبَلَتْ

????

وَيَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ حِينَ تَكَلَّمُ

????

وَيَا خَجْلَةَ الْغُصْنِ الرَّطِيبِ إِذَا انْثَنَتْ

????

وَيَا خَجْلَةَ الْبَحْرَيْنِ حِينَ تَبَسَّمُ؟؟

????

فَإِنْ كُنْتَ ذَا قَلْبٍ عَلِيلٍ بِحُبِّهَا ٌ

????

فَلَمْ يَبْقَ إِلا وَصْلُهَا لَكَ مَرْهَمُ

????

وَلاسِيَّمَا فِي لَثْمِهَا عِنْدَ ضَمِّهَا

????

وَقَدْ صَارَ مِنْهَا تَحْتَ جِيدِكَ مِعْصَمُ

????

يَرَاهَا إِذَا أَبْدَتْ لَهُ حُسْنَ وَجْهِهَا

????

يَلَذُّ بِهَا قَبْلَ الْوِصَالِ وَيَنْعَمُ

????

تَفَكَّهُ مِنْهَا الْعَيْنُ عِنْدَ اجْتِلائِهَا

????

فَوَاكِهَ شَتَّى طَلْعُهَا لَيْسَ يُعْدِمُ

????

عَنَاقِدُ مِنْ كَرْمٍ وَتُفَّاحُ جَنَّةٍ

????

وَرُمَّانُ أَغْصَانٍ بِهَا الْقَلْبُ مُغْرَمُ

????

وَلِلْوَرْدِ مَا قَدْ أَلْبِسْتَهُ خُدُودُهَا

????

ص: 454

.. وَلِلْخَمْرِ مَا قَدْ ضَمَّهُ الرِّيقُ وَالْفَمُ

????

تَقَسَّمَ مِنْهَا الْحُسْنُ فِي جَمْعِ وَاحِدٍ

????

فَيَا عَجَبًا مِنْ وَاحِدٍ يَتَقَسَّمُ

????

تُذَكِّرُ بِالرَّحْمَنِ مَنْ هُوَ نَاظِرٌ

????

فَيَنْطِقُ بِالتَّسْبِيحِ لا يَتَلَعْثَمُ

????

لَهَا فِرَقٌ شَتَّى مِنَ الْحُسْنِ أَجْمَعَتْ

????

بِجُمْلَتِهَا إِنَّ السُّلُوَّ مُحْرَّمُ

????

إِذَا قَابَلَتْ جَيْشَ الْهُمُومِ بِوَجْهِهَا

????

تَوَلَّى عَلَى أَعْقَابِهِ الْجَيْشُ يُهْزَمُ

????

فَيَا خَاطِبَ الْحَسْنَاءِ إِنْ كُنْتَ رَاغِبًا

????

فَهَذَا زَمَانُ الْمَهْرِ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ

????

وَلَمَّا جَرَى مَاءَ الشَّبَابِ بِغُصْنِهَا

????

تَيَقَّنَ حَقًّا أَنَّهُ لَيْسَ يَهْرَمُ

????

وَكُنْ مُبْغِضًا لِلْخَائِنَاتِ لِحُبِّهَا

????

لِتُحْظَى بِهَا مِنْ دُونِهِنَّ وَتَنْعَمُ

????

وَكُنْ أَيَّمَا مِمَّا سِوَاهَا فَإِنَّهَا

????

لِمِثْلِكَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ تَأَيَّمُ

????

وَصُمْ يَوْمَكَ الأَدْنَى لَعَلَّكَ فِي غَدٍ

????

تَفُوزُ بِعِيدِ الْفِطْرِ وَالنَّاسُ صُوَّمُ

????

وَأَقْدَمْ وَلا تَقْنَعْ بِعَيْشٍ مُنَغَّصٍ

????

فَمَا فَازَ بِاللَّذَاتِ مَنْ لَيْسَ يُقْدِمُ

????

وَإِنْ ضَاقَتْ الدُّنْيَا عَلَيْكَ بِأَسْرِهَا

????

ص: 455

.. وَلَمْ يَكُ فِيهَا مَنْزِلٌ لَكَ يُعْلَمُ

????

فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا

????

مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخِيَّمُ

????

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهْلَ تَرَى

????

نُرَدُّ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ

????

وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى

????

وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ

????

وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي

????

لَهَا أَضْحَتْ الأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ

????

وَحَيَّ عَلَى رَوْضَاتِهَا وَخِيَامِهَا

????

وَحَيَّ عَلَى عَيْشٍ بِهَا لَيْسَ يَسْأَمُ

????

وَحَيَّ عَلَى السُّوقِ الَّذِي يَلْتَقِي بِهِ الْـ

????

مُحِبُّونَ ذَاكَ السُّوقُ لِلْقَوْمِ يُعْلَمُ

????

فَمَا شِئْتَ خُذْ مِنْهُ بِلا ثَمَنٍ لَهُ

????

فَقَدْ أَسْلَفَ التُّجَّارُ فِيهِ وَأَسْلَمُوا

????

وَحَيَّ عَلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ فَإِنَّهُ

????

لِمَوْعِدُ أَهْلِ الْحُبِّ حِينَ يُكَرَّمُوا

????

وَحَيَّ عَلَى وَادٍ هُنَالِكَ أَفْيَحٍ

????

وَتُرْبَتُهُ مِنْ أَذْفَرِ الْمِسْكِ أَعْظَمُ

????

مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ هُنَاكَ وَفِضَّةٍ

????

وَمِنْ خَالِصِ الْعِقْيَانِ لا تَتَفَصَّمُ

????

وَمِنْ حَوْلِهَا كُثْبَانُ مِسْكٍ مَقَاعِدُ

????

ص: 456

.. لِمَنْ دُونَهُمْ هَذَا الْعَطَاءُ الْمُفَخَّمُ

????

يَرَوْنَ بِهِ الرَّحْمَنَ جل جلاله

????

كَرُؤْيَةِ بَدْر التِّم لا يُتَوَهَّمُ

????

كَذَا الشَّمْسُ صَحْوًا لَيْسَ مِنْ دُونِ أُفِقْهَا

????

سَحَابٌ وَلا غَيْمٌ هُنَاكَ يُغَيِّمُ

????

فَبَيْنَاهُمْ فِي عَيْشِهِمْ وَسُرُورِهِمْ

????

وَأَرْزَاقُهُمْ تَجْرِي عَلَيْهِمْ وَتُقْسَمُ

????

إِذَا هُمْ بِنُورٍ سَاطِعٍ قَدْ بَدَا لَهُمْ

????

وَقَدْ رَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا هُمُ

????

بِرَبِّهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ قَائِلٌ لَهُمْ:

????

سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمُ وَنَعِمْتُمُ

????

سَلامٌ عَلَيْكُمْ يَسْمَعُونَ جَمِيعُهُمْ

????

بِآذَانِهِمْ تَسْلِيمَهُ إِذْ يُسَلِّمُ

????

يَقُولُ سَلُونِي مَا اشْتَهَيْتُمْ فَكُلَّ مَا

????

تُرِيدُونَ عِنْدِي إِنَّنِي أَنَا أَرْحَمُ

????

فَقَالُوا جَمِيعًا نَحْنُ نَسْأَلُكَ الرِّضَى

????

فَأَنْتَ الَّذِي تُولِي الْجَمِيلَ وَتَرْحَمُ

????

فَيُعْطِيهِمُ هَذَا وَيُشْهِدُ جَمْعَهُمْ

????

عَلَيْهِ تَعَالَى اللهُ فَاللهُ أَكْرَمُ

????

فَبِاللهِ مَا عُذْرُ امْرِئٍ هُوَ مُؤْمِنٌ

????

بِهَذَا وَلا يَسْعَى لَهُ وَيُقَدِّمُ؟!

????

وَلَكِنَّمَا التَّوْفِيقُ بِاللهِ إِنَّهُ

????

ص: 457

.. يَخُصُّ بِهِ مَنْ شَاءَ فَضْلاً وَيَنْعَمُ

????

فَيَا بَائِعًا غَالٍ بِبَخْسٍ مُعَجَّلٍ

????

كَأَنَّكَ لا تَدْرِي بَلَى سَوْفَ تَعْلَمُ

????

فَقَدِّمْ فَدَتْكَ النَّفْسُ نَفْسَكَ إِنَّهَا

????

هِيَ الثَّمَنُ الْمَبْذُولُ حِينَ تُسَلَّمُ

????

وَخُضْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَارْقَ مَعَارِجَ الْـ

????

مَحَبَّةِ فِي مَرْضَاتِهِمْ تَتَسَنَّمُ

????

وَسَلَّمْ لَهُمْ مَا عَاقَدُوكَ عَلَيْهِ إِنْ

????

تُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَبْذِلُوا وَيُسْلَّمُوا

????

فَمَا ظَفِرَتْ بِالْوَصْلِ نَفْسٌ مُهَيْنَةٌ

????

وَلا فَازَ عَبْدٌ بِالْبَطَالَةِ يَنْعَمُ

????

وَإِنْ تَكُ قَدْ عَاقَتْكَ سُعْدَى فَقَلْبُكَ الْـ

????

مُعَنى رَهِينٌ فِي يَدَيْهَا مُسَلَّمُ

????

وَقَدْ سَاعَدَتْ بِالْوَصْلِ غَيْرَكَ فَالْهَوَى

????

لَهَا مِنْكَ وَالْوَاشِي بِهَا يَتَنَعَّمُ

????

فَدَعْهَا وَسَلِّ النَّفْسَ عَنْهَا بِجَنَّةٍ

????

مِنَ الْعِلْمِ فِي رَوْضَاتِهَا الْحَقُّ يَبْسِمُ

????

وَقَدْ ذُلِّلَتْ مِنْهَا الْقُطُوفُ فَمَنْ يُرِدْ

????

جَنَاهَا يَنَلْهُ كَيْفَ شَاءَ وَيَطْعَمُ

????

وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَتَزَيَّنَتْ

????

لِخُطَّابِهَا فَالْحُسْنُ فِيهَا مُقَسَّمُ

????

وَقَدْ طَابَ مِنْهَا نَزْلُهَا وَنَزِيلُهَا

????

ص: 458

.. فَطُوبَى لِمَنْ حَلُّوا بِهَا وَتَنَعَّمُوا

????

أَقَامَ عَلَى أَبْوَابِهَا دَاعِي الْهُدَى

????

هَلِمُّوا إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ تَغْنَمُوا

????

وَقَدْ غَرَسَ الرَّحْمَنُ فِيهَا غِرَاسَةً

????

مِنَ النَّاسِ وَالرَّحْمَنُ بِالْخَلْقِ أَعْلَمُ

????

وَمَنْ يَغْرِسِ الرَّحْمَنُ فِيهَا فَإِنَّهُ

????

سَعِيدٌ وَإِلا فَالشَّقَاءُ مُحَتَّمُ

>?

???? اللَّهُمَّ وفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من وساوس قلوبنا الحاملة على التورط في هوة الْبَاطِل وابتداعه واجعل إيماننا إيمانًا خالصًا صادقًا قويًا وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل عيشنا عيشًا رغدًا. ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا وارزقنا في محبتك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وعملاً متقبلاً وحفظًا كاملاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وأدبًا مرضيًا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

في الشفاعة العظمى

تأمل ما في حديث الشفاعة العظمى الَّذِي رواه أَبُو هُرَيْرَةِ رضي الله عنه، قال: كنا مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهس منها نهسة وَقَالَ: «أَنَا سيد النَّاس يوم القيامة هل تدرون مم ذاك؟ يجمَعَ الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنوا مِنْهُمْ الشمس، فيبلغ النَّاس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فَيَقُولُ النَّاس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فَيَقُولُ بعض النَّاس لبعض: أبوَكَمْ آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم أَنْتَ أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الْجَنَّة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا تَرَى ما نَحْنُ فيه وما

ص: 459

بلغنا؟ فَقَالَ: إن رَبِّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي، نفسي، نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أَنْتَ أول رسول إلى أَهْل الأَرْض، وقَدْ سماك الله عبدًا شكورًا، ألا تَرَى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن رَبِّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قَدْ كَانَ لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون: أَنْتَ نَبِيّ اللهِ وخليله من أَهْل الأَرْض، اشفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى ما نَحْنُ فيه؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إن رَبِّي قَدْ غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى مُوَسى، فيأتون مُوَسى فيقولون: يا مُوَسى أَنْتَ رسول الله فضلك الله برسالاته وبكلامه على النَّاس، اشفع لنا إلى ربك، أما تَرَى إلى ما نَحْنُ فيه؟ فَيَقُولُ: إن رَبِّي قَدْ غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قَدْ قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: أَنْتَ رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت النَّاس في المهد، اشفع لنا عِنْد ربك، ألا تَرَى إلى ما نَحْنُ فيه؟ فَيَقُولُ عيسى: إن رَبِّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيأتون فيقولون: يا محمدًا أَنْتَ رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقَدْ غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نَحْنُ فيه؟ فأنطلق فآتي العرش فأقع ساجدًا لرَبِّي، ثُمَّ يفتح الله علي من محامده، وحسن الثناء عَلَيْهِ شَيْئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثُمَّ يُقَالُ يا مُحَمَّد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع

تشفع، فأرفع رأسي فأَقُول: أمتي يا رب، يا رب أمتي يا رب، فَيُقَالُ: يا مُحَمَّد أدخل من أمتك لا حساب عَلَيْهمْ من الْبَاب الأيمن من أبواب الْجَنَّة، وهم شركاء النَّاس فيما

ص: 460

سِوَى ذَلِكَ من الأبواب، - ثُمَّ قال -: والَّذِي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الْجَنَّة كما بين مَكَّة وهجر، أو كما بين مَكَّة وبصرى» . رواه البخاري، ومسلم. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.

اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا:

إِلَهُ الْعَالَمِينَ وَكُلِّ أَرْضٍ

وَرَبُّ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الْجِبالِ

بَناهَا وَاِبْتَنَى سَبْعًا شِدَادًا

بِلا عَمَدٍ يُرَيْنَ وَلا رِجَالِ

وَسَوَّهَا وَزَيَّنَهَا بِنُورٍ

مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ وَالْهِلالِ

وَمِنْ شُهُبٍ تَلألأُ فِي دُجَاهَا

مَرَامِيهَا أَشَدُّ مِنَ النِّصَالِي

وَشَقَّ الأَرْضَ فَاِنْبَجَسَتْ عُيُونًا

وَأَنْهَارًا مِنَ الْعَذْبِ الزِّلالِ

وَبارَكَ فِي نَوَاحِيهَا وَزَكَّى

بِهَا مَا كَانَ مِنْ حَرْثٍ وَمَالِ

فَكُلُّ مُعَمَّرٍ لا بُدَّ يَوْمًا

وَذِي دُنْيَا يَصِيرُ إِلَى الزَّوَالِ

>?

ص: 461

.. وَيَفْنَى بَعْدَ جِدَّتِهِ وَيَبْلَى

سِوَى الْبَاقِي الْمُقَدَّسِ ذِي الْجَلالِ

وَسِيقَ الْمُجْرِمُونَ وَهُمْ عُرَاةٌ

إِلَى ذَاتِ السَّلاسِلِ وَالنَّكَالِ

فَنَادَوْا وَيْلَنَا وَيْلاً طَوِيلاً

وَعَجُّوا فِي سَلاسِلِهَا الطِّوَالِ

فَلَيْسُوا مَيِّتِينَ فَيَسْتَرِيحُوا

وَكُلُّهُمُ بَحَرِّ النَّارِ صَالِ

وَحَلَّ الْمُتَّقُونَ بِدَارِ صِدْقٍ

وَعَيْشٍ نَاعِمٍ تَحْتَ الضِّلالِ

لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَمَا تَمَنُّوا

مَنَ الأفْرَاحِ فِيهَا وَالكَمَالِ

>?

اللَّهُمَّ يا مثَبِّتْ القُلُوب ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها ووفقنا لمحبة أوليائك وبغض أعدائك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وبِكِتَابِكَ وبرسلك مقتدين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك ووفقنا للعمل بما يرضيك، وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك، وبغض من يعاديك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فَصْلٌ: وتأمل إذا جيء بجهنم إلى الموقف، تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ

ص: 462

لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} ، وَقَالَ:{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} .

وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} ، {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} ، وَقَالَ:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أليس هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} .

في ذَلِكَ الوَقْت يتذكر الإِنْسَان سعيه، ويستحضر إن كانَتْ أحوال الدُّنْيَا وشواغل المتاع أغفلته وأنسته، أيًّا كَانَ يتذكره، ويستحضره، ولكن حيث لا يفيد التذكر والاستحضار إِلا الحَسْرَة والندامة، وتصور ما وراء ذَلِكَ من الْعَذَاب والبلوى.

وَقَالَ في آية ق: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} قوي لا يحجبه حجاب، وهَذَا هُوَ الموعد الَّذِي غفلت عَنْهُ، وهَذَا هُوَ الموقف الَّذِي لم تحسب له حسابه، وهذه هِيَ النهاية التي كنت لا تتوقعها، ولا تهتم لها وتستهين بها في الدُّنْيَا فالآن فَانْظُرْ {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} ، وفي الآيَة الأخرى يَقُولُ تَعَالَى:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ اليوم فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} .

ص: 463

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها» . رواه مسلمٌ. فبينما النَّاس في الكروب والأهوال والشدائد سمعوا لها زفيرًا وجرجرةً.

تفصح عن شدة الغيظ والْغَضَب، فعِنْد ذَلِكَ أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} ، ثَبِّتْ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من كذب علي متعمدًا فليتبوء بين عيني جهنم مقعدًا» قَالُوا: وهل لها من عينين؟ قال: «نعم ألم تسمعوا قول الله تَعَالَى: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} قيل: المكَانَ الْبَعِيد مسيرة مائة عام، وقيل خمسمائة عام، وَذَلِكَ إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، يشد بكل زمام سبعون ألف ملك، لو تركت لأتت على كُلّ بر وفاجر» . وأخَرَجَ الترمذي من حديث أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يخَرَجَ عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران وأذنان يسمعا، ولسان ينطق، يَقُولُ: إني وكلت بثلاثة، بمن جعل مَعَ الله إلهًا آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصور» . وعن ابن عباس قال: إن الْعَبْد ليجر إلى النار، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير، ثُمَّ تزفر زفرة لا يبقى أحد إِلا خاف» . هكَذَا رواه ابْن أَبِي حَاتِم مختصرًا.

وعن ابن مسعود قال: إذا بقى في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار، ثُمَّ جعلت تلك التوابيت في توابيت من نار، ثُمَّ جعلت تلك التوابيت في توابيت من نور، ثُمَّ قذفوا في نار

ص: 464

الجحيم، فيرون أنه لا يعذب في النار غيرهم، ثُمَّ تلا ابن مسعود {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} .

وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة» . ليكون ذَلِكَ من باب تعجيل الهم والحزن لَهُمْ، فإن توقع الْعَذَاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز، وَقَالَ تَعَالَى:{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} الآيات، أي يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها عَلَيْهمْ، وحنقها بِهُمْ، وبعد قذفهم بها تغلي بِهُمْ، كما يغلي الحب القليل في الماء الكثير، قاله الْعُلَمَاء.

واعْلَمْ أن أول من تسعر بِهُمْ جهنم من ذكروا في ما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: الله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ناس يقضى بينهم يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يُقَالُ جريء، فقَدْ قيل، ثُمَّ أمر به فسحب على وجهه، ثُمَّ ألقى في النار ورجل تعلم العلم وعلمه، وقَرَأَ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليُقَالُ عَالِم، وقرأت القرآن ليُقَالُ هُوَ قارئ، فقَدْ قيل، ثُمَّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عَلَيْهِ وأعطاه من أصناف الْمَال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إِلا أنفقت فيها لك، قال

ص: 465

كذبت ولكنك فعلت ليُقَالُ هُوَ جواد، فقَدْ قيل، ثُمَّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار» أخرجه مسلم. والترمذي بمعناه، وَقَالَ معاذ بن جبل وذكر علماء السُّوء: من إذا وعظ عنف، أو وعظ أنف، فذاك في أول درك من النار، ومن الْعُلَمَاء من يأخذ علمه مأخذ السُّلْطَان فذَلِكَ في الدرك الثاني من النار، ومن الْعُلَمَاء من يحرز علمه، فذَلِكَ في الدرك الثالث من النار، ومن الْعُلَمَاء من يتخَيْر الكلام والعلم لوجوه النَّاس، ولا يرى سفلة النَّاس له مَوْضِعًا، فذَلِكَ في الدرك الرابع، ومن الْعُلَمَاء من يتكلم كلام اليهود والنَّصَارَى وأحاديثهم، ليكثر حديثهم، فذَلِكَ في الدرك الخامس من النار، ومن الْعُلَمَاء من ينصب نَفْسهُ للفتيا، يَقُولُ للناس: سلوني، فذَلِكَ الَّذِي يكتب عِنْد الله متَكَلُّفًا، والله لا يحب المتكلفين، فذَلِكَ في الدرك السادس من النار، ومن الْعُلَمَاء من يتخذ علمه مروءة وعقلاً، فذَلِكَ في الدرك السابع من النار، ذكره غير واحد من الْعُلَمَاء.

قال القرطبي: مثله لا يكون رأيًا، وإنما يدرك توقيفًا.

وفي حديث ذكره أسد بن مُوَسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن في جهنم لواديًا، جهنم لتتعوذ من شر ذَلِكَ الوادي كُلّ يوم سبع مرات، وإن في ذَلِكَ الوادي لجبًا، إن جهنم وَذَلِكَ الوادي ليتعوذان بِاللهِ من شر ذَلِكَ الجب، وإن في ذَلِكَ الجب لحية، إن جهنم والوادي وَذَلِكَ الجب ليتعوذون من شر تلك الحية، أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن» .

لأَمْرٍ مَا تَصَدَّعَتِ الْقُلُوبُ

وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيبُ

وَبَاتَتْ فِي الْجَوَانِحِ نَارُ ذِكْرَى

لَهَا مِنْ خَارِجٍ أَثَرٌ عَجِيبُ

وَمَا خَفَّ اللَّبِيبُ لِغَيْرِ شَيْءٍ

وَلا أَعْيَا بِمَنْطِقِهِ الأَرِيبُ

ذَرَاهُ لائِمَاهُ فَلا تَلُومَا

فَرُيَّتَ لأئِمٍ فِيهِ يَحُوبُ

ص: 466

رَأَى الأَيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهِ

مُرُورَ الرِّيحِ يَدْفَعُهَا الْهَبُوبُ

وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ إِلا

وَمِنْ جُثْمَانِهِ فِيهِ نَصِيبُ

وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ

بِهِ الْوِلْدَانُ مِنْ رَوْعِ تَشِيبُ

وَهَذَا الْمَوْتُ يُدْنِيهِ إليه

كَمَا يُدْنِي إِلَى الْهَرَمِ الْمَشِيبُ

مَقَامٌ تُسْتَلَذُّ بِهِ الْمَنَايَا

وَتُدْعَى فِيهِ لَوْ كَانَتْ تَجِيبُ

وَمَاذَا الْوَصْفُ بَالِغُهُ وَلَكِنْ

هِيَ الأَمْثَالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيبُ

وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ.

(فَصْلٌ)

فما ظنك أيها المهمل المفرط في عمره بسكَانَ هذه الدار، ضيقة الأرجَاءَ، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويوقَدْ فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} والنزل هُوَ ما يعد للضيف عِنْد قدومه، فدلت هذه الآيات على أن أَهْل النار يتحفون عِنْد دخولها بالأكل من شجرة الزقوم، والشراب من الحميم، وهم إنما يساقون إليها عطاشًا، كما قال تَعَالَى:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} ، قال أبو عمران الجوني بلغنا أن أَهْل النار يبعثون عطاشًا يقفون في مشاهد القيامة عطاشًا، ثُمَّ قَرَأَ:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} .

وَقَالَ تَعَالَى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ} .

ص: 467

خَرَجَ الترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِى دَارِ الدُّنْيَا لأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا مَعَايِشَهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ» . وقَالَ الترمذى: صَحِيحٌ.

وروي موقوفًا عن ابن عباس، وعن سعيد بن جبير قال: إذا جاع أَهْل النار استغاثوا من الجوع، فأغيثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فانسلخت وجوههم، حتى لو أن مارًا مر عَلَيْهمْ يعرفهم، لعرف جلود وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عَلَيْهمْ العطش، فاستغاثوا من العطش فأغيثوا بماء كالمهل والمهل الَّذِي قَدْ انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم أنضج حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم، ويضربون بمقامَعَ من حديد، فيسقط كُلّ عضو على حياله، يدعون بالثبور، ويدل على هَذَا قوله تَعَالَى:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، والمعنى: يترددون بين جهنم والحميم، فمرة إلى هَذَا ومرة إلى هَذَا، قاله قتادة وابن جريج وَغَيْرِهمَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} وَقَالَ: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} .

وروى الإمام أَحَمَد بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تَعَالَى: {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} قال: شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا

ص: 468

يخَرَجَ، وعن ابن عباس في قوله تَعَالَى:{مِن ضَرِيعٍ} قال: شجر في جهنم. وَقَالَ مجاهد: الضَرِيعٍ: الشبرق اليابس، وروي عن ابن عباس: الشبرق نبت ذو شوك لاط بالأَرْض، فإذا هاج سمي ضريعًا، وخرج الترمذي من حديث أبي الدرداء عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«يلقى على أَهْل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من الْعَذَاب فيستغيثون، فيغاثون بطعام من ضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذا غصة، فيذكرون أنهم كَانُوا يجيزون الغصص في الدُّنْيَا بالشراب، فيستغيثون، بالشراب، فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا وصلت بطونهم قطعت ما في بطونهم» وذكر بقية الْحَدِيث، وقَدْ روي هَذَا موقوفًا على أبي الدرداء.

وَقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {مِنْ غِسْلِينٍ} قال: هُوَ صديد أَهْل النار. وَقَالَ شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس: الغسلين الدم والماء يسيل من لحومهم، وَهُوَ طعامهم، وعن مقاتل قال: إذا سال القيح والدم بادروا إلى أكله، قبل أن تأكله النار.

وَقَالَ عز من قائل: {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا:{لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا:{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} ، وَقَالَ

ص: 469

تَعَالَى: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} ، وَقَالَ عز من قائل:{يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا:{وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} الحميم الَّذِي قَدْ انتهى حره، والغساق قيل: إنه ما يسيل من بين جلد الكافر ولحمه، وقيل: الزمهرير البارد الَّذِي يحرق من برده، قاله ابن عباس، وعن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: الغساق القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهرق في المغرب لأنتنت أَهْل المشرق، ولو أهريقت في المشرق، لأنتنت أَهْل المغرب، وَقَالَ مجاهد:(غساق) الَّذِي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده، وَقَالَ قتادة: هُوَ ما يغسق أي يسيل من القيح والصديد من جلود أَهْل النار ولحومهم، وفروج الزناة ودموع أَهْل النار وعروقه، وَقَالَ كعب: غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كُلّ ذات حمة من حية وعقرب وغير ذَلِكَ، فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة، فيخَرَجَ وقَدْ سقط جلده ولحمه عن العظام.

ويتعلق جلده ولحمه في عقبيه وكعبيه ويجر لحمه كما يجر الرجل ثوبه. رواه ابْن أَبِي حَاتِم. وأما الصديد فَقَالَ مجاهد في قوله تَعَالَى: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ} ، قال: يعني: القيح والدم، وَقَالَ قتادة: ما يسيل من بين لحمه وجلده، وَقَالَ تَعَالَى:{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} .

وخَرَجَ الإمام أَحَمَد، والترمذي من حديث أبي أمامة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: يقرب إلى فيه فيكرعه، فإذا أدْنِيَ منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه،

ص: 470

فإذا شربه قطع أمعاءه، حتى يخَرَجَ من دبره، وفي صحيح مسلم عن جابر عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إن لله عهدًا لمن شرب المسكرات ليسقينه من طينة الخبال» . قالوا: يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار أو عصارة أهل النار» .

وخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مَاتَ مدمن خمر، سقاه الله من نهر الغوطة، قيل: ما نهر الغوطة، قال: نهر يخَرَجَ من فروج المومسات، يؤذي أَهْل النار نتن فروجهم» .

وعن أبي سعيد عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في قول الله تَعَالَى: {كَالْمُهْلِ} قال: «كعكر الزيت، فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه» ، وَقَالَ عطية: سئل ابن عباس عن قوله تَعَالَى: {كَالْمُهْلِ} قال: غليظ كردي الزيت، وَقَالَ الضحاك: أذاب ابن مسعود فضة من بيت الْمَال، ثُمَّ أرسل إلى أَهْل المسجد، فَقَالَ: من أحب أينظر إلى المهل فلينظر إلى هَذَا.

وخرج الطبراني من طَرِيق تمام بن نجيح عن الحسن عن أنس عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لو أن غربًا من حميم جهنم جعل في وسط الأَرْض، لآذى نتن ريحه وشدة حره ما بين المشرق والمغرب» .

أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِي

أَشَدَّ مِن الْقَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا

إِذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ

عَنِيتٌ وَسَوَّاقٌ يَقُودُ الْفَرَزْدَقَا

أَسَاقُ إِلَى نَارِ الْجَحِيمِ مُسَرْبَلاً

سَرَابِيلَ قُطْرَانٍ لِبَاسًا مُحَرِّقًا

إِذَا شَرِبُوا فِيهَا الصَّدِيدَ رَأَيْتَهُمْ

يَذُوبُونَ مِنْ حَرِّ الصَّدِيدِ تَمَزُّقَا

شِعْرًا:

أَفْنَى شَبَابَكَ كَرُ الطَّرْفِ وَالنَّفَسِ

فَالْمَوْتُ مُقْتَرِبٌ وَالدَّهْرُ ذُو خَلَسِ

>?

ص: 471

.. لا تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَرْفٍ وَلا نَفَسٍ

وَإِنْ تَمَنَّعْتَ بِالْحُجُّابِ وَالْحَرَسِ

فَمَا تَزَالُ سِهَامُ الْمَوْتِ صَائِبَةً

فِي جَنْبِ مُدَّرِعٍ مِنْهَا وَمُتَّرِسِ

أَرَاكَ لَسْتَ بِوَقَّافٍ وَلا حَذِرٍ

كَالْحَاطِبِ الْخَالطِ الأَعْوَادِ فِي الْغَلَسِ

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا

إِنَّ السَّفِينَةَ لا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ

أَنَّى لَكَ الصَّحْوُ مِن سُكْرٍ وَأَنْتَ مَتَى

تَصِّحُ مِنْ سَكْرَةٍ تَغْشَاكَ مِنْ نَكَسِ

مَا بَالُ دِينِكَ تَرْضَى أَنْ تُدَنِّسَهُ

وَثَوْبُكَ الدَّهْرَ مَغْسُولٌ مِن الدَّنَسِ

لا تَأْمَنِ الْحَتْفَ فِيمَا تَسْتَلِذُّ وَإِنْ

لانَتْ مَلامِسُهُ فِي كَفِّ مُلْتَمِسِ

الْحَمْدُ للهِ شُكْرًا لا شَرِيكَ لَهُ

كَمْ مِنْ حَبِيبٍ مِن الأَهْلِينَ مُخْتَلَسِ

>?

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بِطَاعَتكَ وجنبنا ما يسخطك وأصلح نباتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نُفُوسنَا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عَدُوّكَ واجعل هوانَا تبعًا لما جَاءَ به رسولك صلى الله عليه وسلم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا علي يا عَظِيم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أَهْل طَاعَتكَ ويذل فيه أَهْل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن الْمُنْكَر

ص: 472

اللَّهُمَّ اعمر قلوبنا وألسنتنا بِذِكْرِكَ وشكرك ووفقنا للامتثال لأَمْرِكَ وأمنا من سطوتك ومكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ أولياءك المتقين وحزبك المفلحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وأما كسوة أَهْل النار فقَدْ ذكر جَلَّ وَعَلا ثيابهم، فَقَالَ:{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} .

وفي كتاب أبي داود، والنسائي، والترمذي عن بريدة أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رأى على رجل خاتمًا من حديد، فَقَالَ:«ما لي أرى عَلَيْكَ حلية أَهْل النار» ، وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول من يكسى حلة من النار إبلَيْسَ، يضعها على حاجبه، ويسحبها من خلفه ذريته خلفه، وَهُوَ يَقُولُ: يا ثبوره. وهم ينادون: يا ثبورهم. حتى يقفوا على النار، فَيَقُولُ: يا ثبوره ويقولون: يا ثبورهم، فَيُقَالُ:{لَا تَدْعُوا اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} خرجه الإمام أَحَمَد.

وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:«النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعَلَيْهَا سربال من قطران، ودرع من جرب» . وفي مسند الإمام أَحَمَد

ص: 473

عن حبيب بن المغفل عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تحت الكعبين من الإزار في النار» قَالَ الْعُلَمَاءُ: إن المراد ما تحت الكعب من البدن والثوب معًا، وأنه يسحب ثوبه في النار كما كَانَ يسحبه في الدُّنْيَا خيلاء. وخَرَجَ أبو داود وغيره من حديث المستورد عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:«من أكل برجل مسلم أكلة في الدُّنْيَا أطعمه الله مثلها في جهنم، ومن كسي أو اكتسى برجل مسلم ثوبًا كساه الله مثله في جهنم» .

وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} فطعامهم نار وشرابهم نار. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَاّ النَّارَ} ، ولباسهم نار، ومهادهم نار، قال تَعَالَى:{لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} .

وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} فهم بين مقطعات النيران، وسرابيل القطران وضرب المقامَعَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّما أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ? قال: «لو أن مقمعًا من حديد وضع في الارض فاجتمَعَ له الثقلان ما أقلوه من الأَرْض» وعن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «لو ضرب الجبل بمقمَعَ من حديد لتفت ثُمَّ عاد كما كَانَ» .

وَقَالَ ابن عباس في قوله تَعَالَى: {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قال يضربون بها، فيقع كُلّ عضو على حياله، فيدعون بالثبور.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} الغساق ما سال من جلود

ص: 474

أَهْل النار من القيح والصديد، وَقَالَ القرطبي هُوَ عصارة أَهْل النار. وَقَالَ السدي: هُوَ الَّذِي يسيل من دموع أَهْل النار يسقونه من الحميم، وقوله:{وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أي عذاب آخر، أو مذوق آخر، أو نوع آخر من شكل الْعَذَاب.

ومعنى {أَزْوَاجٌ} : أجناس، وأنواع، وأشباه، ونظائر. وقيل: هُوَ الزمهرير، وقوله:{هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} الآيَة أي الأتباع داخلون معكم بشدة، والاقتحام: الالقاء في الشَيْء بشدة، فَإِنَّهُمْ يضربون بمقامَعَ من حديد، حتى يقتحموها بأنفسهم خوفًا من تلك المقامَعَ، فأخبر جَلَّ وَعَلا عن قيل أَهْل النار، بَعْضهمْ لبعض كما قال تَعَالَى في الآيَة الأخرى:{كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} .

فبدل السَّلام يتلاعنون، ويتكاذبون، ويكفر بَعْضهمْ ببعض، فَتَقُول الطائفة الأولى دخولاً للتي بعدها: لا مرحبًا بِهُمْ. أي: لا اتسعت منازلهم في النار، والرحب والسعة. والمعنى: لا كرامة لَهُمْ، وهَذَا إخبار من الله جَلَّ وَعَلا بانقطاع الْمَوَدَّة بينهم وأن مودتهم في الدُّنْيَا تصير عداوة، كما قال في الآيَة الأخرى:{الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} .

فتأمل حال أولئك التعساء الَّذِينَ كَانَ بَعْضهمْ يملي لبعض في الضلال، كيف تناكروا، وتلاعنوا في جهنم، وأصبحوا يتقلبون في أنواع الْعَذَاب، ويعانون في جهنم ما لا تطيقه الجبال وما يفتت ذكره الأكباد، يقتحمون إلى جهنم إقتحامًا.

ويتجلجلون في مضائقها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، ويطوفون بينها وبين حميم آن، ولا تسأل عما يعانونه من ثقل السلال والأغلال، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ

ص: 475

وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} ، وَقَالَ:{وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} .

وَقَالَ: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} فهذه ثلاثة أنواع، أحدها: الأغلال، وهي في الأعناق، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ، وَقَالَ معمر عن قتادة في قوله تَعَالَى:{مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} قال: مقرنين في القيود والأغلال.

وروى ابْن أَبِي حَاتِم بإسناده عن مُوَسى بن أبي عَائِشَة أنه قَرَأَ قوله تَعَالَى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: تشتد أيديهم بالأغلال في النار، فيستقبلون الْعَذَاب بوجوههم قَدْ شدت أيديهم، فلا يقدرون على أن يتقوا بها كُلّ ما جَاءَ نوع من الْعَذَاب، يستقبلون بوجوههم وبإسناده عن فيض بن إسحاق عن فضيل بن عياض: إذا قال الرب تبارك وتعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} تبدره سبعون ألف ملك، كلهم يتبدر أيهم يجعل الغل في عنقه، النوع الثاني: الأنكال. وهي القيود. قاله ابن عباس، وعكرمة، ومُحَمَّد ابن كعب، وطاووس، وأبو عمران الجوني وغيرهم.

وَقَالَ أبو عمران الجوني القيود لا تحل وَاللهِ أبدًا. وروى أبو سنان عن الحسن: أما وعزته ما قيدهم مخافة أن يعجزوه، ولكن قيدهم لترسى في النار. اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك، وأرشدنا برشدك إلى السعي فيما يرضيك، وأجرنا يا مولانَا من خزيك وعذابك، وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك، وآتنا في الدُّنْيَا حسنة، وفي الآخِرَة حسنة، وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 476

شِعْرًا:

لَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَهْلَ الشَّقَا

فِي النَّارِ قَدْ غُلُّوا وَقَدْ طُوِّقُوا

تَقُولُ أَوْلاهُمْ لأُخْرَاهُمُ

فِي لُجَحِ الْمُهْلِ وَقَدْ أُغْرِقُوا

وَقَدْ كُنْتُمُ حُذِّرْتُمْ حَرَّهَا

لَكِنْ مِنْ النِّيرَانِ لَمْ تَفْرَقُوا

وَجِيءَ بِالنِّيرَانِ مَزْمُومَةً

شَرَارُهَا مِنْ حَوْلِهَا مُحْدِقُ

وَقِيلَ لِلنِّيرَانِ أَنْ أَحْرِقِي

وَقِيلَ لِلْخُزَّانِ أَنْ أَطْبِقُوا

وَأَوْلِيَاءُ اللهِ فِي جَنَّةٍ

قَدْ تُوِّجُوا فِيهَا وَقَدْ مُنْطِقُوا

تَدَبَّرُوا كَمْ بَيْنَهُمْ إِخْوَتِي

ثُمَّ أَجِيلُوا فِكْرَكُمْ وَانْتَقُوا

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *

الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قال مُحَمَّد بن كعب القرظي في قوله تَعَالَى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} تأكله النار إلى فؤاده فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه.

وعن ثابت البناني أنه قَرَأَ هذه الآيَة ثُمَّ قال: تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء، لَقَدْ بلغ مِنْهُمْ الْعَذَاب ثُمَّ يبكي.

وَقَالَ العوفي عن ابن عباس في قول الله تَعَالَى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} أدخلهم في عمد ممدة عَلَيْهمْ بعماد في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب.

اللَّهُمَّ اقبل توبتنا واغسل حوبتنا وأجب دعوتنا وثَبِّتْ حجتنا واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قولبنا وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} قال ابن عباس: تسلك في دبره حتى تخَرَجَ من منخريه حتى لا يقوم على

ص: 477

رجليه. وَقَالَ ابن جريج: قال ابن عباس: السلسة تدخل في استه، ثُمَّ تخَرَجَ من فيه، ثُمَّ ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود، حين يشوى. خرجه ابْن أَبِي حَاتِم.

وَقَالَ جويبر في قول الله تَعَالَى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} قال: يجمَعَ بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره.

وَقَالَ السدي - في هذه الآيَة -: يجمَعَ بين ناصية الكافر وقدميه، فتربط ناصيته بقدمه وظهره، ويفتل. وذكر الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: يؤخذ بناصيته وقدميه ويكسر ظهره كما يكسر الحطب في التنور. وبئس المصير.

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} عن أبي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» . خرجه الإمام أَحَمَد، والترمذي، والحاكم وقالا: صحيح. وَقَالَ: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال عطاء: يرمى به في النار منكوسًا فأول شَيْء منه تمسه النار وجهه.

وقَدْ أجرى الله العادة أن الإِنْسَان يبقى وجهه بيديه وجسمه فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نَفْسهُ النار بيديه ولا برجليه فيدفعها بوجهه، ويتقي به سوء الْعَذَاب، مِمَّا يدل على شدة الهول والاضطراب فمجرد تصوره يزعج ويقلق ويفزع.

وفي زحمة هَذَا الْعَذَاب يتلقى التوبيخ، والتأنيب، وتدفع إليه حصيلة حَيَاتهُ، ويا لها من حصيلة، {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وفي الآيَة الأخرى قال: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .

اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان ووفقنا لمحبتك ومحبة من يحبك وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قَدْ أمْسَتِ الطَّيْرُ وَالأَنْعَامُ آمِنَةً

ص: 478

.. وَالنُّونُ فِي الْبَحْرِ لَمْ يُخْبَأَ لَهَا فَزَعُ

وَالآدَمِيُّ بِهَذَا الْكَسْبِ مُرْتَهَنٌ

لَهُ رَقِيبٌ عَلَى الأَسْرَارِ يُطَّلِعُ

إِذْ النَّبِيُّونَ وَالأَشْهَادُ قَائِمَةٌ

وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشَعُوا

وَطَارَتِ الصُّحْفُ فِي الأَيْدِي مُنَشَّرةً

فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأَخْبَارُ تُطَّلَعُ

فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ

عَمَّا قَلِيلٍ وَلا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ

أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزِ لا انْقِطَاعَ لَهُ

أَم الْجَحِيمِ فَلا تُبْقِي وَلا تَذَرُ

تَهْوِي بِسَاكِنَهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ

إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا

طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ

هَيْهَاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ

لِينْفَع الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَهُ

قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا

>?

اللَّهُمَّ أتمم عَلَيْنَا نعمتك الوافية وارزقنا الإِخْلاص في أعمالنا والصدق في أقوالنا، وعد عَلَيْنَا بإصلاح قلوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 479

موعظة

عباد الله إن بين أيديكم يوم لا شك فيه ولا مراء، يقع فيه الفراق، وتنفصم فيه العرى، فتدبروا أمركم قبل أن تحضروا، وانظروا لأنفسكم نظر من قَدْ فهم ودرى، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} ، يا له من يوم يشيب فيه الولدان، وتسير فيه الجبال، وتظهر فيه الخفايا، وتنطق فيه الأعضاء، شاهدة بالأعمال، فانتبه يا من قَدْ وهي شبابه، وامتلأ بالأوزار كتابه، عباد الله أما بلغكم أن النار للكفار والعصاة أعدت، إنها لتحرق كُلّ ما يلقى فيها، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} ، وَقَالَ:{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} عباد الله أما بلغكم أن طعام أهلها الزقوم، وشرابها الحميم، قال عليه الصلاة والسلام:«لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأَرْض لأمرت على أَهْل الدُّنْيَا معيشتهم» فَكَيْفَ بمن هُوَ طعامه، لا طعام له غيره، قال تَعَالَى:{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} .

أخرَجَ الطبراني، وابْن أَبِي حَاتِم من طَرِيق منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية رفع الْحَدِيث إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ينشئ الله لأَهْل النار سحابة سوداء مظلمة، فَيُقَالُ: يا أَهْل النار أي شَيْء تطلبون؟ فيذكرون بها سحابة الدُّنْيَا، فيقولون: يا ربنا الشراب، فتمطر أغلالً تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرًا يلتهب عَلَيْهمْ» .

ص: 480

شِعْرًا:

مَثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ

مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ

فَرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيرُ

مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ

فَرْدًا ذَلِيلاً وَالْحِسَابُ عَسِيرُ

وَتَعَلَّقَتْ فِيكَ الْخُصُومُ وَأَنْتَ فِي

يَوْمِ الْحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُورُ

وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُودُ وَأَنْتَ فِي

ضِيقِ الْقُبُورِ مُوَسَّدٌ مَقْبُورُ

وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيتَ وَلايَةً

يَوْمًا وَلا قَالَ الأَنَامُ أَمِيرُ

وَبَقِيتَ بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حَفِيرَةٍ

فِي عَالَمِ الْمَوْتَى وَأَنْتَ حَقِيرُ

وَحُشِرْتَ عَرْيَانًا حَزِينًا بَاكِيًا

قَلِقًا وَمَا لَكَ فِي الأَنَامِ مُجِيرُ

أَرَضِيتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبَكَ دَارِسٌ

عَافِي الْخَرَابَ وَجِسْمُكَ الْمَعْمُورُ

أَرَضِيتَ أَنْ يُحْظَى سِوَاكَ بِقُرْبِهِ

أَبَدًا وَأَنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُورُ

مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا

يَوْمَ الْمِعَادِ وَيَوْمَ تَبْدُو الْعُورُ

>?

ص: 481

اللَّهُمَّ اغفر لنا ذنوبنا قبل أن تشهد عَلَيْنَا الجوارح ونبهنا من رقدات الغفلات فأَنْتَ الحليم المسامح، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك، ووفقنا للعمل بما يرضيك، وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك وبغض من يعاديك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

تفكر عافنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين، وأدم الفكر في جهنم، واعْلَمْ أن لها سبعة أبواب كما أخبر جَلَّ وَعَلا، قال عز من قائل:{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} . وخرج الإمام أَحَمَد، والترمذي من حديث ابن عمر عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إن لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سل سيفه على أمتي» .

وفي حديث أبي رزين العقيلي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «إن للنار سبعة أبواب، ما منهن بابان إِلا ويسر الراكب بينهما سبعين عامًا» . خرجه عَبْد اللهِ بن الإمام أَحَمَد، وابن أبي عاصم، والطبراني، والحاكم وغيرهم.

وخَرَجَ ابْن أَبِي حَاتِم من طَرِيق حطان الرقاشي قال: سمعت عليًا يَقُولُ: هل تدرون كيف أبواب جهنم، قلنا: هِيَ مثل أبوابنا هذه، قال: لا، هِيَ هكَذَا بعضها فوق بعض. وفي رواية له: بعضها أسفل بعض.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا

ص: 482

فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فتأمل حال هؤلاء الأشقياء الكفار كيف يساقون سوقًا عنيفًا إلى جهنم، بزجر وتوبيخ، وتقريع وتهديد، ووعيد كما قال عز وجل:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} أي يدفعون إليها دفعًا، هَذَا وهم عطاش ظماء جياع نصبون وجلون قَدْ بلغ مِنْهُمْ الخوف والرعب كُلّ مبلغ. قال تَعَالَى:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي مِنْهُمْ من يمشي على وجهه، قال تَعَالَى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} .

وروى مخلد بن الحسن عن هشام بن حسان قال: خرجنا حجَّاجًا فنزلنا منزلاً في بعض الطَرِيق، فقَرَأَ رجل معنا هذه الآيَة:{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} فسمعته امرأةٌ ف قَالَتْ: أعد رَحِمَكَ اللهُ. فأعادها ف قَالَتْ: خلفت في البيت سبعة أعبد، أشهدكم أنهم أحرار، لكل باب واحد مِنْهُمْ. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا.

شِعْرًا:

يَا غَافِلاً عَنْ مَنَايَا سَاقَهَا الْقَدَرُ

مَاذَا الَّذِي بَعْدَ شَيْبِ الرَّأْسُ تَنْتَظِرُ

عَايِنْ بِقَلْبِكَ إِنَّ الْعَيْنَ غَافِلَةٌ

عَنِ الْحَقِيقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهَا سَقَرُ

>?

ص: 483

.. سَوْدَاءُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ إِذا سُعِرَتْ

لِلظَّالِمِينَ فَمَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ

لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ غَيْرَ الْمَوْتِ مَوْعِظةٌ

لَكَانَ فِيهِ عَنِ اللَّذَّاتِ مُزْدَجَرُ

>?

آخر:

اسْلُكْ بُنَيَّ مَنَاهِجَ السَّادَاتِ

وَتَخَلَّقَنَ بِأَشْرَفِ العَادَاتِ

لا تُلهِيَنَّكَ عَن مَعادِكَ لَذَّةٌ

تَفْنَى وَتُوَرِثُ دَائِمَ الْحَسَراتِ

وَإِذا اتَّسَعتَ بِرِزْقِ رَبِّكَ فَاِجْعَلَنْ

مِنْهُ الأَجَلَّ لأَوْجُهِ الصَّدَقَاتِ

وَارْعَ الْجِوارِ لأَهْلِهِ مُتَبَرِّعًا

بِقَضَاءِ مَا طَلَبُوا مِنَ الْحَاجَاتِ

قال الضحاك في قول الله تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} هِيَ سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها: فيه أَهْل التَّوْحِيد يعذبون عَلَى قَدْرِ ذنوبهم ثُمَّ يخرجون، والثاني: فيه النَّصَارَى، والثالث: فيه اليهود، والرابع: الصابئون، والخامس: فيه المجوس، والسادس: فيه مشركوا الْعَرَب، والسابع: فيه المنافقون.

وعن ابن جريج في قوله تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} ، قال: أولها جهنم، ثُمَّ لظى، ثُمَّ الحطمة، ثُمَّ السعير، ثُمَّ سقر، ثُمَّ الجحيم، وفيها أبو جهل، ثُمَّ الهاوية. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا وغيره. وقَدْ وصف الله الأبواب بأنها مغلقة عَلَيْهمْ، فَقَالَ:{إِنَّهَا عَلَيْهمْ مُّؤْصَدَةٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{عَلَيْهمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} ، قال مقاتل: يعني: أبوابها مطبقة عَلَيْهمْ، فلا يفتح لها باب، ولا يخَرَجَ منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.

وهَذَا الإطباق نوعان: أحدهما خاص لمن يدخل في النار أو من يريد الله التضييق عَلَيْهِ، أجارنا الله والمسلمين من ذَلِكَ، قال أبو توبة اليزني: إن في النار أقوامًا مؤصدة عَلَيْهمْ كما يطبق الحق على طبقه. خرجه ابْن أَبِي حَاتِم.

ص: 484

والثاني الإطباق العام وَهُوَ إطباق النار على أهلها المخلدين فيها. وقَدْ قال سفيان وغيره في قول الله تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قَالُوا: هُوَ طبق النار على أهلها.

وَقَالَ أبو الزعراء عن ابن مسعود: وإذا قيل لَهُمْ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} أطبقت عَلَيْهمْ، فلا يخَرَجَ مِنْهُمْ أحد.

وَقَالَ أبو عمران الجوني: إذا كَانَ يوم القيامة أمر الله بكل جبار عنيد، وكل شيطان مريد، وبكل من يخاف من شره العبيد، فأوثقوا بالحديد، ثُمَّ أمر بِهُمْ إلى جهنم التي لا تبيد، ثُمَّ أوصدها عَلَيْهمْ ملائكة رب العبيد، قال: فلا وَاللهِ لا تستقر أقدامهم على قرارٍ أبدًا، ولا وَاللهِ لا ينظرون فيها إلى أديم سماءٍ أبدًا، ولا وَاللهِ لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدًا، ولا وَاللهِ لا يذوقون فيها بارد ولا شراب أبدًا.

وقَدْ أخبر سبحانه وتعالى أن الكفار يحاولون الْخُرُوج ويرغمون على البقاء فيها.

قال تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{كُلَّما أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الآيَة. فلا يزالون يريدون الْخُرُوج مِمَّا هم فيه من الشدة وأليم مس الْعَذَاب ولا سبيل لَهُمْ إلى ذَلِكَ، كُلَّما رفعهم اللهب فصاروا في أعلا جهنم ضربتهم الزبانية بمقامَعَ الحديد فيردونهم إلى أسفلها.

وأخبر جَلَّ وَعَلا أنهم يطلبون منه الْخُرُوج منها فَقَالَ مخبرًا عما قَالُوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} . والجواب على ذَلِكَ يَقُولُ

ص: 485

الرب جَلَّ وَعَلا: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .

أمانيهم فيها الهلاك وما لَهُمْ من النار فكاك قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} ، وَقَالَ:{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} الآيَة. وَقَالَ: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} .

وَقَالَ: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} ، وَقَالَ:{لَا يُقْضَى عَلَيْهمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} ، وَقَالَ:{أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا:{فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} ، وَقَالَ:{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا:{وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ، وَقَالَ:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} .

ومن السنة ما خرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت كل خالد بما هو فيه» .

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الْجَنَّة والنار ويذبح ويُقَالُ: يا أَهْل الْجَنَّة خلود فلا موت، ويا أَهْل النار خلود فلا موت» . رواه البخاري.

وما أخرجه الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لو قيل لأَهْل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كُلّ حصاة في الدُّنْيَا لفرحوا، ولو قيل لأَهْل الْجَنَّة: إنكم ماكثون

ص: 486

في الْجَنَّة عدد كُلّ حصاة لحزنوا ولكن جعل لَهُمْ الأبد» . هَذَا مِمَّا يدل على عدم فناء النار وبقاء أهلها فيها ينقلبون في أنواع الْعَذَاب لا راحة ولا نوم، ولا هدوء ولا قرار لَهُمْ، بل من عذاب إلى آخر، ولكل واحد مِنْهُمْ حد معلوم عَلَى قَدْرِ عصيانه وذنبه، إِلا أن أقلهم لو عرضت عَلَيْهِ الدُّنْيَا بحذافيرها لافتدى بها من شدة ما هُوَ فيه، قال صلى الله عليه وسلم:«إن أدنى أَهْل النار عذابًا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه» من حرارة نعله فَانْظُرْ الآن إلى من خفف عَلَيْهِ، واعتبر بمن شدد عَلَيْهِ الْعَذَاب ممن يسحبون على وجوههم في النار، ويُقَالُ لَهُمْ: ذوقوا مس سقر، وَقَالَ:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} . أي: تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم، ثُمَّ تبدل غير ذَلِكَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} قال قتادة: قال ابن عباس {صَعُوداً} صخرة في جهنم يسحب عَلَيْهَا الكافر على وجهه. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

موعظة

عباد الله عليكم بتقوى الله، فإن تقواه عروة مالها انفصام وقدوة يأتم بها الكرام، وسراج يضيء للأفهام، من تعلق بها حمته بإذن الله محذور العاقبة، ومن تحقق بحملها وقته بإذن الله شرور كُلّ نائبة، والحذر من دار فرقة مالها أسلاف، وقرار حرقة مالها انصراف، وأماني رجعة مالها إسعاف، فانهضوا عباد الله في استعمال ما يقربكم من دار القرار، واتركوا كُلّ ما يدنيكم من دار البوار، فإنها المصيبة الجامعة

ص: 487

والعقوبة الواقعة، يا لها دار انقطع من الرجَاءَ انحلالها، وامتنع من الفناء بقاء نكالها، وشعار أهلها الويل الطويل، ودثارهم البُكَاء والعويل، وسرابيل الخزي الوبيل، ومقيلهم الهاوية وبئس المقيل، يقطع مِنْهُمْ الحميم أمعاء طالما ولعت بأكل الحرام، وتضعضع مِنْهُمْ الجحيم أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام قَدْ كثر مِنْهُمْ الأنين، وحلت بِهُمْ المثلات، فجلودهم كُلَّما نضجت بدلت جلودًا غيرها، وكرر عَلَيْهمْ الْعَذَاب، ووجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، ينادون إلهًا ضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه ونسوه، وحق عَلَيْهمْ في الآجلة حكمه لما أغضبوه يقولون:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيجيبهم بعد حين إجابة دعوى ذي قوة متين:{اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فحينئذٍ ينقطع عندها وَاللهِ تأميل المذنبين، ويجتمَعَ التنكيل على المذنبين، ويرتفع في جهنم عويل المجرمين المعذبين {فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} فيا لها من حَسْرَة ويا لها من ندامة لا تشبهها ندامة ويا لها من خسارة لا تعادلها خسارة {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدُّنْيَا والهوى، ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تَغْفِرِ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا:

إِنْ كُنْتَ تَطْمَعُ فِي الْحَيَاةِ فَهَاتِ

كَمْ مِنْ أَبٍ لَكَ صَارَ فِي الأَمْوَاتِ

مَا أَقْرَبَ الشَّيْءَ الْجَدِيدَ مِنَ الْبِلَى

يَوْمًا وَأَسْرَعَ كُلَّ مَا هُوَ آتِ

اللَّيْلُ يَعْمَلُ وَالنَّهَارَ وَنَحْنُ عَمَّـ

ـمَا يَعْمَلانِ بِأَغْفَلِ الْغَفِلاتِ

ص: 488

.. يَا ذَا الَّذي اتَّخَذَ الزَّمَانَ مَطِيَّةً

وَخُطَا الزَّمَانِ كَثِيرَةُ الْعَثَراتِ

مَاذَا تَقُولُ وَلَيْسَ عِنْدَكَ حُجَّةٌ

لَوْ قَدْ أَتَاكَ مُنَغِّصُ اللَّذَاتِ

أَوْ مَا تَقُولُ إِذَا حَلَلْتَ مَحَلَّةً

لَيْسَ الثِّقَاتُ لأَهْلِهَا بِثِقَاتِ

أَوْ مَا تَقُولُ وَلَيْسَ حُكْمُكَ نَافِذًا

فِيمَا تُخَلِّفُهُ مِن التَّرِكَاتِ

مَا مِنْ أَحَبَّ رِضَاكَ عَنْكَ بِخَارِجٍ

مَا مِنْ أَحَبَّ رِضَاكَ عَنْكَ بِخَارِجٍ

زُرْتُ الْقُبُورَ قُبُورَ أَهْلِ الْمُلْكِ فِي الدُّ

نْيَا وَأَهْلِ الرَّتْعِ فِي الشَّهَوَاتِ

كَانُوا مُلُوكَ مَآكِلٍ وَمَشَارِبٍ

وَمَلابِسٍ وَرَوَائِحٍ عَطِرَاتِ

>?

ص: 489

.. فَإِذَا بِأَجْسَادٍ عَرِينَ مِن الْكِسَا

وِبِأَوْجُهٍ فِي التُّرْبِ مُنْعَفِرَاتِ

لَمْ تُبْقِ مِنْهَا الأَرْضُ غَيْرَ جَمَاجِمٍ

بِيضٍ تَلُوحُ وَأَعْظُمٍ نَخَرَاتِ

إِنَّ الْمَقَابِرَ مَا عَلِمْتُ لَمَنْظِرٌ

يَهْدِي الشَّجَا وَيُهَيِّجُ الْعَبَرَاتِ

سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِقُدْرَةٍ

بَارِي السُّكُونِ وَنَاشِرِ الْحَرَكَاتِ

>?

اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال أمرك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.

اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

فتفكر يا أخي في حال هؤلاء الَّذِينَ قَدْ عريت من اللحم عظامهم فبقيت الأرواح منوطة بالعروق وعلائق العصب وهي تنش في لفح تلك النيران، وهم مَعَ ذَلِكَ يتمنون الموت فلا يموتون، فَكَيْفَ بك أيها العاصي لو نظرت إلى هؤلاء المجرمين وقَدْ اسودت وجوههم، وأعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، وكسرت عظامهم، وجدعت آنافهم، وآذانهم، ومزقت جلودهم، وغلت أيديهم إلى أعناقهم وجمَعَ بين نواصيهم وأقدامهم، ولهيب النار سار في بواطنهم، وحيات جهنم وعقاربها متشبثة بظواهرهم.

ص: 490

ثُمَّ انظر في أودية جهنم وشعابها، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره» . رواه أَحَمَد، والترمذي. إِلا أنه قال:«واد بين جبلين يهوي فيه الكافر سبعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره» .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} قال: واد في جهنم يقذف فيه الَّذِينَ يتبعون الشهوات. رواه الطبراني، والبيهقي.

وعن علي رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تعوذوا بِاللهِ من جب الحزن أو وادي الحزن» قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وما جب الحزن أو وادي الحزن؟ قال: «واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كُلّ يوم سبعين مرة أعده الله للقراء المرائين» . رواه البيهقي بإسناد حسن.

ثُمَّ انظر يا أخي وتأمل في قعر جهنم وظلماتها وتفاوت دركاتها فعن خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان ري الله عَنْهُ فَقَالَ: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عامًا ما يدرك لها قعرًا وَاللهِ لتملأنه أفعجبتم. رواه مسلم هكَذَا.

وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: كنا عِنْد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما هَذَا» ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: «هَذَا حجر أرسله الله في جهنم مُنْذُ سبعين خريفًا فالآن حين انتهى إلى قعرها» . رواه مسلم.

وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 491

«أوقَدْ على النار ألف سنة حتى ابيضت، ثُمَّ أوقَدْ عَلَيْهَا ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» رواه مالك، والترمذي.

وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نار ابن آدم التي يوقدون منها جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وإن كانَتْ لكافية، قال:«فإنها فضلت بتسعة وستين جزءًا» . أخرجه مال، ومسلم وزَادَ:«كُلّهَا مثل حرها» . وعن أنس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم ولولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما انتفعتم بها وإنها لتدعوا الله أن لا يعيدها فيها» . رواه ابن ماجة.

وروى الأئمة عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اشتكت النار إلى ربها فقَالَتْ: رَبِّي أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نفسين: نفسًا في الشتاء، ونفسًا في الصيف، فشدة ما يجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما يجدون من الحر من سمومها» . أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.

اللَّهُمَّ ثبتنا عِنْد نزول غمرات هادم اللذات، وخفف عنا شدة كرب السياق، وغصص السكرات، الله وآنس وحشتنا في القبر الضيق العطن، ولقنا جواب الملك الموكل بالفتن وارحمنا عِنْد مضاجعة التُّرَاب والديدان ومفارقة الأَهْل والإِخْوَان، وأمنا عِنْد طلوع هول المطلع الفظيع وبلوغ صوت المنادي إلى أذن كُلّ سميع، وثَبِّتْ قلوبنا عِنْد تقلب القُلُوب إذا مد الصراط على النيران وتطاير العقول إذا نصب الميزان ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا ذا الفضل العميم بمنك وجود يا كريم، وَاغْفِرْ لَنَا

ص: 492

وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

ثُمَّ تفكر بقلبك، وألق السمَعَ لقوله تَعَالَى:{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} الآيَة وقوله عَزَّ من قائل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، وقوله تَعَالَى:{يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ، وقوله تَعَالَى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تَعَالَى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أليس هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الآيتين.

روى الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى البُكَاء على أَهْل النار، فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثُمَّ يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كيهئة الأخدود، ولو أرسلت فيه السفن لجرت» . خرجه ابن ماجة، وروى سلام بن مسكين عن قتادة عن أبي بردة بن أبي مُوَسى عن أبيه قال: إن أَهْل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت،

ص: 493

ثُمَّ إنهم ليبكون بالدم بعد الدموع، ولمثل ما هم فيه فليبك. وَقَالَ صالح المري: بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى مِنْهُمْ إِلا كهيئة الأنين من المدنف.

وروى الوليد بن مسلم عن أبي سلمة الدوسي - واسمه ثابت بن شريح - عن سالم بن عَبْد اللهِ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه كَانَ يدعو: «اللَّهُمَّ ارزقني عينين هطالتين يشفيان الْقَلْب بذروف الدموع من خشيتك، قبل أن يكون الدمَعَ دمًا، والأضراس جمرًا» . سالم بن عَبْد اللهِ هُوَ المحارَبِّي، وحديثه مرسل. وروى الوليد بن مسلم أيضًا عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله قال: إن داود عليه السلام قال: (رب ارزقني عينين هطالتين يبكيان بذروف الدموع ويشفيان من خشيتك، قبل أن يعود الدمَعَ دمًا، والأضراس جمرًا) ، قال وكَانَ داود عليه السلام يعاتب في كثرة البُكَاء، فَيَقُولُ: دعوني أبكي قبل يوم البُكَاء، قبل تحرق العظام، واشتعال اللحى،، وقبل أن يؤمر بي {مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وروى يونس بن ميسرة عن أبي إدريس الخولاني قال: إن داود عليه السلام قال: أبكي نفسي قبل يوم البُكَاء، أبكي نفسي قبل أن لا ينفع البُكَاء، ثُمَّ دعا بجمر فوضع يده عَلَيْهِ، حتى إذا حره رفعها، وَقَالَ: أَوَّهْ لعذاب الله، أَوَّهْ أَوَّهْ قبل أن لا ينفع أَوَّهْ.

وروى ثابت البناني عن صفوان بن محرز قال: كَانَ لداود عليه السلام يومًا يتأوه فيه، يَقُولُ: أَوَّهْ أَوَّهْ من عذاب الله عز وجل قبل أن لا ينفع أَوَّهْ، قال: فذكره صفوان ذات يوم في مجلس فَبَكَى حتى

ص: 494

غلبه البُكَاء فقام. وَقَالَ عَبْد اللهِ بن رباح الأنصاري: سمعت كعبًا يَقُولُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} قال: كَانَ إذا ذكر النار قال: أَوَّهْ من النار، أَوَّهْ من النار. والتأوه هُوَ التوجع والتحزن. قال المثقف العبدي:

إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ

????

تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ

>?

???? وفي حديث الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء في ذكر أَهْل النار قال: «فيقولون ادعوا خزنة جهنم، فيقولون: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} قال: فيقولون: ادعوا مالكًا، فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} قال الأعمش: نبئت أن بين دعاءهم وبين إجابة مالك لَهُمْ ألف عام، قال: فيقولون: ادعوا ربكم فإنه لَيْسَ أحد خيرًا من ربكم فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} قال: فيجيبهم: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} ، قال: فعِنْد ذَلِكَ يئسوا من كُلّ خَيْر، وعِنْد ذَلِكَ يأخذون في الحَسْرَة والزفير والويل» . خرجه الترمذي مرفوعًا، وموقوفًا على أبي الدرداء.

وروى أبو معشر عن مُحَمَّد بن كعب القرظي قال: لأَهْل النار خمس دعوات، يكلمون في أربع منها، ويسكت عنهم في الخامسة فلا يكلمون، يقولون: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا

ص: 495

فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} فيرد عَلَيْهمْ: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} فيرد عَلَيْهمْ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى آخر الآيتين، ثُمَّ يقولون:{رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيرد عَلَيْهمْ: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيرد عَلَيْهمْ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيرد عَلَيْهمْ: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} إلى قوله: {وَكُنتُم مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} قال: فلا يتكلمون بعد ذَلِكَ. أخرجه آدم بن أبي إياس وابْن أَبِي حَاتِم.

قال ابن القيم رحمه الله:

فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى

????

صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ

????

أَفِقْ قَدْ دَنَى الْوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ

سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرِّ نَارٍ تَضَرَّمُ

????

وَبِالسُّنَّةِ الْغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا

????

هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ

????

تَمَسَّكْ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَاله

????

وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمِ

????

وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا

????

فَمَرْتَعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ

>?

????

ص: 496

.. وَهَيِّءْ جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا

????

مِنَ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ

????

بِهِ رُسُلِي لِمَا أَتَوْكُمْ فَمَنْ يَكُنْ

????

أَجَابَ سِوَاهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَنْدَمُ

????

وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ

????

لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ

????

وَيُنْصَبُ ذَاكَ الْجَسْرُ مِنْ فَوْق مَتْنِهَا

????

فَهَاوٍٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ

????

وَيَأْتِي إلهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ

????

فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ

????

وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقَّهُ

????

فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ

????

وَيُنْشَرُ دِيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوضَعُ الْـ

????

ـمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ

????

فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ

????

وَلا مُحْسِنٌ مِنْ أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ

????

وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيء بِمَا جَنَى

????

كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهَيْمِنُ يَخْتُمُ

????

فَيَالَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالِكُ عِنْدَمَا

????

تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسَمُ

>?

????

ص: 497

.. أَتَأْخُذُ بِالْيُمْنَى كِتَابَكَ أَمْ تَكُنْ

????

بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ

????

وَتَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ

????

فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ

????

تَقُولُ كِتَابِي فَاقْرَؤُهُ فَإِنَّهُ

????

يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ

????

وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ

????

أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَهُ فَهُوَ مَغْرَمُ

????

فَبَادِرْ إِذَا مَا دَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةٌ

????

وَعَدْلُكَ مَقْبُولٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ

????

وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا

????

فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ

????

وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا

????

وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا

>?

????

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

في الثناء على أَهْل الْجَنَّة وتبشيرهم، وتبكيت أَهْل النار، وتقريعهم على إهمالهم وتفريطهم.

ص: 498

روى صفوان بن عمرو قال: سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة، وأَهْل النار النار، قال الله: يا أَهْل الحنة {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال: نعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثُمَّ يَقُولُ لأَهْل النار: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فَيَقُولُ: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم سخطي ومعصيتي وناري، امكثوا فيها خالدين مخلدين، فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنََّا ظَالِمُونَ} فَيَقُولُ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فيكون ذَلِكَ آخر عهدهم بكلام ربهم عز وجل» . خرجه أبو نعيم، وَقَالَ: كَذَا رواه أيفع مرسلاً.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ النَّاسِ يَومَ القِيَامةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» . أخرجه مسلم، وأخرجه ابن ماجة أيضًا عن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أَهْل الدُّنْيَا من الكفار، فَيُقَالُ: اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها ثُمَّ يخَرَجَ، فَيُقَالُ: أي فلان هل أصابك نعيم قط؟ فَيَقُولُ: ما أصابني نعيم قط، ويؤتى بأشد الْمُؤْمِنِين ضررًا وبَلاء، فَيُقَالُ: اغمسوه

ص: 499

في الْجَنَّة غمسة، فيغمس فيها غمسة، فَيُقَالُ له: أي فلان هل أصابك ضر وبَلاء فَيَقُولُ: لا ما أصابني ضر قط ولا بَلاء» .

قال ابن رجب رحمه الله: وأعظم أَهْل النار حجابهم عن الله عز وجل وإبعادهم عَنْهُ، وإعراضه عنهم، وسخطه عَلَيْهمْ كما أن رضوان الله على أَهْل الْجَنَّة أفضل من كُلّ نعيم الْجَنَّة وتجليه لَهُمْ ورؤيتهم إياه، أعظم مِنْ جَمِيعِ أنواع نعيم الْجَنَّة، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} فذكر تَعَالَى لَهُمْ ثلاثة أنواع من الْعَذَاب: حجابهم عَنْهُ، ثُمَّ صليهم الجحيم، ثُمَّ توبيخهم بتكذيبهم به في الدُّنْيَا، ووصفهم بالران على قُلُوبهمْ، وَهُوَ صدأ الذُّنُوب الَّذِي اسودت به قُلُوبهمْ، فلم يصل إليها بعد ذَلِكَ في الدُّنْيَا شَيْء من معرفة الله، ولا من إجلاله ومهابته، وخشيته ومحبته، فكما حجبت قُلُوبهمْ في الدُّنْيَا عن الله حجبوا في الآخِرَة عن رؤيته، وهَذَا بخلاف حال أَهْل الْجَنَّة، قال تَعَالَى:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} والَّذِينَ أحسنوا هم أَهْل الإحسان والإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) كما فسره النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما سأله عَنْهُ جبريل عليه السلام، فجعل جزاء الإحسان الحسنى - وَهُوَ الْجَنَّة - والزيادة - وهي النظر إلى وجه الله عز وجل كما فسره بذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صهيب وغيره. انتهى.

اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين اللهم يا مقلب القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 500

وَقَالَ ابن القيم رحمه الله:

أَوَ مَا سَمِعْتَ مُنَادِي الإِيمَانِ

يُخْبِرُ عَنْ مُنَادِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ

يَا أَهْلَهَا لَكُمُ لَدَى الرَّحْمَنُ وَعْـ

ـدُ هُوَ مُنْجِزُهُ لَكُمْ بِضَمَانِ

قَالُوا أَمَا بَيَّضْتَ أَوْجُهَنَا كَذَا

أَعْمَالَنَا ثَقَّلْتَ فِي الْمِيزَانِ

وَكَذَاكَ قَدْ أَدْخَلْتَنَا الْجَنَّاتِ حِيـ

ـنَ أَجَرْتَنَا مِنْ مَدْخَلِ النِّيرَانِ

فَيَقُولُ عِنْدِي مَوْعِدٌ قَدْ آنَ أَنْ

أُعْطِيكُمُوهُ بِرَحْمَتِي وَحَنَانِي

فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعْدِ كَشْفِ حِجَابِهِ

جَهْرًا رَوَى ذَا مُسْلِم بِبَيَانِ

وَلَقَدْ أَتَانَا فِي الصَّحِيحَيْنِ اللَّذَيْ

نِ هُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ بَعْدَ قُرْآنِ

بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ جَرِيرٍ الْـ

ـبجَلِيِّ عَمَّنْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ

أَنَّ الْعِبَادَ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ

رُؤْيَا الْعِيَانَ كَمَا يُرَى الْقَمَرَانِ

فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ كُلَّ وَقْتٍ فَاحْفَظُوا الْـ

ـبَرْدَيْنِ مَا عِشْتُمْ مَدَى الأَزْمَانِ

>?

ص: 501

.. وَلَقَدْ رَوَى بِضْعٌ وَعِشْرُونَ امْرُوءٌ

مِنْ صَحْبِ أَحْمَدِ خَيْرَةِ الرَّحْمَنِ

أَخْبَارَ هَذَا الْبَابِ عَمَّنْ قَدْ أَتَى

بِالْوَحْيِ تَفْصِيلاً بِلا كِتْمَانِ

وَأَلَذُّ شَيْءٍ لِلْقُلُوبِ فَهِذِهِ الْـ

أَخْبَارُ مَعَ أَمْثَالِهَا هِيَ بَهْجَةُ الإِيمَانِ

وَاللهِ لَوْلا رُؤْيَةُ الرَّحْمَنِ فِي الْـ

جَنَّاتٍ مَا طَابَت لِذِي الْعِرْفَانِ

أَعْلَى النَّعِيمِ نَعِيمُ رُؤْيَةِ وَجْهِهِ

وَخِطَابُه فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ

وَأَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْعَذَابِ حِجَابُهُ

سُبْحَانَهُ عَنْ سَاكِنِي النِّيرَانِ

وَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ نَسُوا الَّذِي

هُمْ فِيهِ مِمَّا نَالَتِ الْعَيْنَانِ

فَإِذَا تَوَارَى عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى

لَذَّاتِهِمْ مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ

فَلَهُمْ نَعِيمٌ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ سِوَى

هَذَا النَّعِيمِ فَحَبَذَا الأَمْرَانِ

أَوَ مَا سَمِعْتَ سُؤَالَ أَعْرفِ خَلْقِهِ

بِجَلالِهِ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ

>?

ص: 502

.. شَوْقًا إليه وَلَذَّةِ النَّظَرِ الَّذِي

بِجَلالِ وَجْهِ الرَّبِّ ذِي السُّلْطَانِ

فَالشَّوْقُ لَذَّةٌ رُوُحه فِي هَذِهِ الدُّ

نْيَا وَيَوْمَ قِيَامَةِ الأَبْدَانِ

تَلْتَذُّ بِالنَّظَرِ الَّذِي فَازَتْ بِهِ

دُونَ الْجَوَارِحِ هَذِهِ الْعَيْنَانِ

وَاللهِ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَلَـ

ـذُّ مِنْ اشْتِيَاقِ الْعَبْدِ لِلرَّحْمَنِ

وَكَذَاكَ رُؤْيَةُ وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ

هِيَ أَكْمَلُ اللَّذَاتِ لِلإِنْسَانِ

>?

اللَّهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللَّهُمَّ إن كنا مقصرين في حفظ حقك والوفاء بعهدك فأَنْتَ تعلم صدقنا في رجَاءَ رفاك، وخالص ودك، اللَّهُمَّ أَنْتَ أعلم بنا منا فبكمال جودك تجاوز عنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ اجعلنا لكتابك من التالين ولك به من العاملين وبما صرفت فيه من الآيات منتفعين، وإلى لذيذ خطابه مستمعين، ولأوامره ونواهيه خاضعين وبالأعمال مخلصين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

عباد الله وقَدْ سبق ذكر النار وأهوالها، وغمومها وأنكالها وطباقتها، وشراب أهلها وطعامهم، وما إلى ذَلِكَ مِمَّا أعده الله جَلَّ وَعَلا لأهلها من أنواع الْعَذَاب الأليمِ الأبدي السرمدي أعاذنا الله وإياكم وَجَمِيع

ص: 503

المسلمين منها، ويقابلها دار أخرى دار قرار ونعيم، وسرور وحبور، وأمن وصحة، وحياة أبدية فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مِمَّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، دار جعلها الكريم الرحيم الغافر الجواد الماجد، دار ضيافة يكرم فيها عباده الأخيار الَّذِينَ وفقهم الله لخدمته والْعَمَل بطاعته، ولا تظنن هذه الضيافة فيها محدودة، ولا أن الكرامة فيها تنتهي، بل الكرامة كُلّ ما تحبه وتتمناه أمامك، إن كنت ممن سبقت له من الله الحسنى.

فاستثر الخوف من قلبك، بطول فكرك في أصحاب جهنم، وفي أحوالهم وتقلباتهم، وحسرتهم، وندامتهم على تفريطهم، واذكر طعامهم وشرابهم، وألوان عذابهم وخلودهم، واستثر الرجَاءَ، بطول فكرك فيما أعده الله لأولياءه وأصفيائه في دار كرامته من النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم الموعود لأَهْل الْجَنَّة، جعلنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين ممن يحلها، وسق نفسك بسوط الخوف، وقدها بزمام الرجَاءَ إلى الصراط المستقيم لتنال الملك العَظِيم، وتسلم من الْعَذَاب الأليمِ، وتفكر في قدوم أَهْل الْجَنَّة، وما يلاقون من الحفاوة والتكريم، وما يُقَالُ لَهُمْ عَنْدَ قدومهم.

قال تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} إلى قوله: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بعد أن ذكر جَلَّ وَعَلا أحوال الأشقياء، وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال والكروب والشدائد، أردف ذَلِكَ بذكر أحوال السعداء، وما

ص: 504

يلاقونه إذ ذاك من النَّعِيم، وما يُقَالُ لَهُمْ والمراد بالسوق هنا الإسراع بِهُمْ إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك، بخلاف السوق المتقدم في حق الكفار، فإنه طردهم إلى الْعَذَاب والذل والهوان، كما يفل بالمجرم الأسير إذا سيق إلى السجن أو القتل فشتان ما بين السوقين {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} المعنى أنهم إذا وصلوا إليها وقَدْ فتحت أبوابها لَهُمْ كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف عَنْدَ قدومه، وتقف له منتظرة حضوره فرحًا واستبشارًا لقدومه، فرحوا بما أفاء الله عَلَيْهمْ من النَّعِيم، وبما شاهدت أعينهم مِمَّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثُمَّ أخبر جَلَّ وَعَلا أن خزنة الْجَنَّة يسلمون على الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ عز من قائل:{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فبدؤهم بالسلام، التضمن للسلامة من كل شر ومكروه أي سلمتم فلا يلقكم بعد اليوم ما تكرهون ثم قالوا لهم:{طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} .

أي سلامتكم ودخولكم بطيبكم، فإن الله حرمها إِلا على الطيبين، فبشروهم بالسلامة والطيب، والدخول والخلود، ثُمَّ أخبر عما يقوله المؤمنون إذا عاينوا ذَلِكَ النَّعِيم الْمُقِيم والعطاء الجزيل بعد دخولهم واستقرارهم، حامدين لله على ما أولاهم ومن به عَلَيْهمْ وهداهم له، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} ونحو هذه الآيَة {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} .

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ومحبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واعصمنا يا مولانَا مِنْ جَمِيعِ الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات

ص: 505

وارفع منازلنا في فسيح الجنات وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم يا حكيم يا عليم يا حي يا قيوم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قال ابن القيم:

أَبْوَابُهَا حَقُّ ثَمَانِيَةٌ أَتَتْ

فِي النَّصِّ وَهِيَ لِصَاحِبِ الإِحْسَانِ

بَابُ الْجِهَادِ وَذَاكَ أَعْلاهَا وَبَا

بُ الصَّوْمِ يُدْعَى الْبَابُ بِالرَّيَّانِ

وَلِكُلِّ سَعْيٍ صَالِحٍ بَابُ وَرَ

بُ السَّعْيِ مِنْهُ دَاخِلٌ بِأَمَانِ

وَلَسَوْفَ يُدْعَى الْمَرْءُ مِنْ أَبْوَابِهَا

جَمْعًا إِذَا وَافَى حُلَى الإِيمَانِ

مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ هُوَ الصِّدِّيقُ ذَا

كَ خَلِيفَةُ الْمُبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ

>?

وتفكر في وجوه أَهْل الْجَنَّة التي أخبر الله عَنْهَا بقوله: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أي بهاءه ونضارته ورونقه فإن توالي اللذات والمسرات والأفراح يكسب الوجه نورًا وحسنًا، وبهجة وإشراقًا، تبرق منه أسارير الوجه.

ثُمَّ أخبر جَلَّ وَعَلا عما يسقاه الأَبْرَار من الشراب الطيب اللذيذ، فَقَالَ:{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ} الرحيق من أسماء الخمر. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد. وَقَالَ الإمام أَحَمَد: حدثنا حسن حدثنا زهير عن سعيد عن أبي المحاصر الطائي عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أراه قَدْ رفعه إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أيما مُؤْمِن

ص: 506

سقى مؤمنًا شربة ماء على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مُؤْمِن أطعم مؤمنًا على جوع أطعمه الله من ثمار الْجَنَّة، وأيما مُؤْمِن كسا مؤمنًا ثوبًا على عُرْيٍ كساه الله من خضر الْجَنَّة» ، وقوله:{خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي خلطه مسك.

وعن أبي الدرداء: هُوَ شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به شرابهم، ولو أن رجلاً من أَهْل الدُّنْيَا أدخل أصبعه فيه ثُمَّ أخرجها، لم يبق ذو روح إِلا وَجَدَ طيبها، وقوله:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} المعنى - وَاللهُ أَعْلَمُ - وفي مثل هَذَا الحال فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله، وليتفاخر المتفاخرون، وليتباهى المتباهْوَن، ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون، كقوله تَعَالَى:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} ، وقوله:{وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} المعنى أن هَذَا الشراب الموصوف المختوم بالمسك: يفض ختمه، ثُمَّ يمزج بشَيْء من هذه العين المسماة {تَسْنِيمٍ} التي {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَهُوَ أشرف شراب أَهْل الْجَنَّة وأعلاه، قاله أبو صالح، والضحاك. ولهَذَا قال:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أي يشربها المقربون، وقيل: يشرب منها المقربون، وَقَالَ تَعَالَى:{وَيُطَافُ عَلَيْهمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَأَنْتَ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} بعد ما أخبر جَلَّ وَعَلا أنه وقاهم شر ذَلِكَ اليوم، فلا يحزنهم الفزع الأكبر، وأنه لقاهم نضرة في وجوههم، وَسُرُورًا في قُلُوبهمْ، فجمَعَ لَهُمْ بين النَّعِيم الظاهر، والنَّعِيم الباطن، وأنه {جَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} ، وأنهم في جلسة مريحة مطمئنة، والجو حولهم رخاء ناعم، دافئ في غير حر نَدِيِ، في غير برد، فلا شمس تلهب،

ص: 507

ولا برد يقرس، وقريبة أغصانها وثمارها من مريدها يناله قاعدًا أو قائمًا، أخبر عما يدور به الولدان والخدم، من الطعام والشراب الَّذِي عَلَى قَدْرِ ريهم، لا يزيد عَنْهُ ولا ينقص، قال ابن القيم رحمه الله واصفًا لطعامهم وشرابهم:

وَطَعَامُهُمْ مَا تَشْتَهِيهِ نُفُوسُهُمْ

وَلُحُومُ طَيْرٍ نَاعِمٍ وَسِمَانِ

وَفَوَاكِهٌ شَتَّى بِحَسْبِ مُنَاهُمُ

يَا شِبْعَة كَمُلَتْ لِذِي الإِيمَانِ

لَحْمٌ وَخَمْرٌ وَالنِّسَا وَفَوَاكِهٌ

وَالطِّيبُ مَعْ رُوحٍ وَمَعْ رَيْحَانِ

وَصِحَافُهُمْ ذَهَبٌ تَطُوفُ عَلَيْهِمْ

بِأَكَفِّ خُدَّامٍ مِن الْوِلْدَانِ

وَانْظُرْ إِلَى جَعْلِ اللَّذَاذَةِ لِلْعُيُو

نِ وَشَهْوَةٍ لِلنَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ

لِلْعَيْنِ مِنْهَا لَذَّةٌ تَدْعُو إِلَى

شَهَوَاتِهَا بِالنَّفْسِ وَالأَمْرَانِ

سَبَبُ التَّنَاوُلِ وَهُوَ يُوجِبُ لَذَّةً

أُخْرَى سِوَى مَا نَالَتِ الْعَيْنَانِ

>?

اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلى حبك، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانَا عن المحرمَاتَ والمشتبهات واغفر لنا جَمِيع الخطايا والزلات وافتح لدعائنا باب القبول والإجابات يا أجود الأجودين.

اللَّهُمَّ امنن عَلَيْنَا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادانَا وفي دينك

ص: 508

اجتهادنا وعَلَيْكَ توكلنا واعتمادنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} هَذَا الكلام استئناف مسوق لشرح محاسن الْجَنَّة الموعود بها الْمُؤْمِنِين وبيان كيفية أنهارها التي أشير إليها وأنها تجري من تحتهم، فَقَالَ - مفسرًا لذَلِكَ - {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} أي غير متغيرة الطعم والريح واللون، بل هُوَ أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها وألذها شربًا والثاني:{وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} لا بحموضة ولا غيرها.

الثالث: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} لم تدنسها الأرجل، ولم تكدرها الأيدي، ولَيْسَ فيها كراهة طعم ولا ريح ولا غائلة سكر، بل يلتذ شاربها لذة عظيمة، لا كخمر الدُّنْيَا التي يكره مذاقها، وتصدع الرأس، وتزيل العقل.

والرابع: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} أي قَدْ صفي عن القذى والوسخ، وما يكون في عسل الدُّنْيَا قبل تصفيته من الشمَعَ، وفضالات النحل وغيرها، وبدئ بالماء لأنه لا يستغنى عَنْهُ في الدُّنْيَا، ثُمَّ باللبن لأنه يجري مجرى الطعام لكثير من الْعَرَب في غالب أوقاتهم، ثُمَّ بالخمر، لأنه إذا حصل

ص: 509

الري والشبع تشوَقْت النفس لما يستلذ به، ثُمَّ بالعسل لأن فيه الشفاء في الدُّنْيَا مِمَّا يمرض من المطعوم والمشروب.

الخامس: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ} أي ولهم في الْجَنَّة أنواع من الثمار المختلفة الطعوم والروائح والأشكال، من نخيل وأعناب، وتفاح ورمان وتين وغير ذَلِكَ، مِمَّا لا نظير له في الدُّنْيَا: وَقَالَ ابن القيم رحمه الله في شراب أَهْل الْجَنَّة:

يُسْقَوْنَ مِنْ خَمْرٍ لَذِيذِ شُرْبُهَا

بِالْمِسْكِ أَوَّلَهُ كَمِثْلِ الثَّانِي

مَن خَمْرَةٍ لَذَّتْ لِشَارِبِهَا بِلا

غَوْلٍ وَلا دَاءٍ وَلا نُقْصَانِ

وَالْخَمْرُ فِي الدُّنْيَا فَهَذَا وَصْفُهَا

تَغْتَالُ عَقْلَ الشَّارِبِ السَّكْرَانِ

وَبِهَا مِن الأَدَّوَاءِ مَا هِيَ أَهْلُهُ

وَيُخَافُ مِنْ عَدَمِ لِذِي الْوِجْدَانِ

فَنَفَى لَنَا الرَّحْمَنُ أَجْمَعَهَا عَنْ الْـ

ـخَمْر الَّتِي فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ

وَشَرَابُهُمْ مِنْ سَلْسَبِيلِ مَزْجُهُ الْـ

ـكَافُورُ ذَاكَ شَرَابُ ذِي الإِحْسَانِ

هَذَا شَرَابُ أُولِي اليمِين وَلَكِنْ الْـ

أَبْرَارُ شُرْبُهُمْ شَرَابُ ثَانِي

>?

ص: 510

.. يُدْعَى بِتَسْنِيمٍ سَنَامُ شَرَابِهِمْ

شُرْبٌ الْمُقَرَّبِ خِيرَةِ الرَّحْمَنِ

صَفَّى الْمُقَرَّبُ سَعْيَهُ فَصَفَا لَهُ

ذَاكَ الشَّرَابُ فَتِلْكَ تَصْفِيَتَانِ

لَكِنَّ أَصْحَابَ الْيَمينِ فَأَهْلُ مَزْ

جٍ بِالْمُبَاحِ وَلَيْسَ بِالْعِصْيَانِ

مُزِجَ الشَّرَابُ لَهُمْ كَمَا مَزَجُوا هُمُ

أَعْمَالَ ذَاكَ الْمَزْجُ بِالْمِيزَانِ

هَذَا وَذُو التَّخْلِيطِ مَزْجًا أَمْرُهُ

وَالْحُكْمُ فِيهِ لِرَبِّنَا الدَّيَّانُ

>?

اللَّهُمَّ اكتب في قلوبنا الإِيمَان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأَرْض اللَّهُمَّ وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة، واغفر لنا بِرَحْمَتِكَ الواسعة إنك أَنْتَ الغفور الرحيم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

قال تَعَالَى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثُمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} بعد أن ذكر جَلَّ وَعَلا وصف أواني مشروبهم، ووصف مشروبهم، ذكر أوصاف السقاة الَّذِينَ يسقونهم ذَلِكَ الشراب، وأنهم ولدان من ولدان الْجَنَّة، يأتون على ما هم عَلَيْهِ من الشباب والطراوة والنظارة، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة، وإنك إذا رَأَيْت هؤلاء الولدان خلتهم لحسن ألوانهم، ونضارة وجوههم لؤلؤًا

ص: 511

منثورًا، ولما ذكر جَلَّ وَعَلا نعيم أَهْل الْجَنَّة، ذكر أن هناك أمور عالية عظيمة، يعني في الْجَنَّة وسعتها وارتفاعها، وما فيها من المساكن، والغرف المزينة المزخرفة، مِمَّا لا يدركه الوصف، ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه الشهية، ولحوم الطيور الطرية، والأنهار التي قال الله جَلَّ وَعَلا عَنْهَا:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ} .

وَقَالَ في سورة الواقعة - مخبرًا عما هم فيه من النَّعِيم وأنهم مخدومون في شرابهم وطعامهم، مكفيون مؤنة ما يريدون -:{يَطُوفُ عَلَيْهمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ} وبعد وصف الشراب، وصف جَلَّ وَعَلا الطعام، فَقَالَ:{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} ثُمَّ بعد ذكر الطعام والشراب ذكر نساءهم فَقَالَ: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} .

ثُمَّ ذكر السبب في متعتهم بكل هَذَا النَّعِيم فَقَالَ: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكما حسنت مِنْهُمْ الأعمال، أحسن الله لَهُمْ الجزاء، ووفر لَهُمْ الفوز والنَّعِيم، فجازاهم على ما عملوا وأثابهم بما كسبوا في الدُّنْيَا، وزكوا به أنفسهم من صالح الأعمال، ونصبوا له بأداء فرائضه على أتم الوجوه وأكملها، فهم كَانُوا قوامين الليل، صوامين النَّهَارَ {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .

وَأَهْوَى مِنَ الْفِتْيَانِ كُلَّ مُوَحِّدٍ

مُلازَمِ ذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةِ

لَهُ عِفَّةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ

وَذُو رَغْبَةٍ فِيمَا يُؤَدِّي لِجَنَّةِ

ص: 512

وبعد أن وصف نساءهم وصف جَلَّ وَعَلا حديثهم حينئذٍ فَقَالَ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} ، أي: لا يسمعون في الْجَنَّة اللغو أي الهراء من الْحَدِيث، ولا هجر القول، ما تتقزز منه النُّفُوس الراقية، ذات الأَخْلاق العالية ولا يسمعون كلامًا يؤثم صاحبه، ولكن يسمعون أطيب الكلام وَهُوَ التسليم من بَعْضهمْ على بعض، وَذَلِكَ أنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إِلا كُلّ طيب، وهَذَا دَلِيل على حسن أدب أَهْل الْجَنَّة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب السَّلام، وسامي الكلام، مِمَّا يستساغ، كما قال تَعَالَى:{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

ثُمَّ بعد أن ذكر حال السابقين وبين مالهم من نعيم مقيم في جنات النَّعِيم، أردف ذَلِكَ بذكر أصحاب اليمين فَقَالَ:{وَأَصْحَابُ اليمين مَا أَصْحَابُ اليمين * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِّأَصْحَابِ اليمين} . ففيها كُلّ ما تشتهيه النُّفُوس، وتلذ الأعين به، من مطاعم ومشارب، وملابس ومناكح، ومناظر حسنة، ويرى فيها الأشجار الملتفة، والمباني المزخرفة، ويرى فيها الرياض المعجبة، والطيور المطربة المشجية، ما يأخذ بالقُلُوب، ويسر النُّفُوس ويفرحها، وتجد الواحد عنده من الزوجات اللآتي في غاية الجمال، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، اللآتي قال الله عنهم:{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} ما يملأ الْقَلْب سرورًا ولذة وفرحًا، وعنده

ص: 513

من الخدم والغلمان المخلدين ما به تحصل الرَّاحَة وَالطُّمَأْنِينَة والأُنْس، وتتم به لذة العيش، وتكمل به الغبطة، وفوق ذَلِكَ رضى بديع السماوات والأَرْض، وسماع كلامه، ولذة القرب منه، والابتهاج والسرور برضاه، والخلود الدائم الأبدي، الخالي من المكدرات والمنغصات، وتزايد ما هم فيه من النَّعِيم الْمُقِيم، والعيش السَّلِيم، كُلّ وَقْت وحين، قال ابن القيم رحمه الله في صفة عرائس الْجَنَّة، وحسنهن وجمالهن، ولذة وصالهن ومهورهن:

يا مَنْ يَطُوفُ بِكَعْبَةِ الْحُسْنِ الَّتِي

حُفَّتْ بِذَاكَ الْحِجْرِ وَالأَرْكَانِ

وَيَظَلُّ يَسْعَى دَائِمًا بَيْنَ الصَّفَا

وَمُحَسِّرٌ مَسْعَاهُ لا الْعَلَمَانِ

وَيَرُومُ قُرْبَانَ الْوِصَالِ عَلَى مِنَى

وَالْخَيْفُ يَحْجِبُهُ عَنِ الْقُرْبَانِ

فَلِذَا تَرَاهُ مُحْرِمًا أَبَدًا وَمَوْ

ضِعُ حِلِّهِ مِنْهُ فَلَيْسَ بِدَانِي

يَبْغِي التَّمَتُعَ مُفْرَدًا عَنْ حِبِّهِ

مُتَجَرِّدًا يَبْغِي شَفِيعَ قِرَانِ

فَيَظَلُّ بِالْجَمَرَاتِ يَرْمِي قَلْبَهُ

هَذِي مَنَاسِكُهُ وَكُلُّ زَمَانِ

وَالنَّاسُ قَدْ قَضَّوْا مَنَاسِكَهُمْ وَقَدْ

حَثُوا رَكَائِبَهُمْ إِلَى الأَوْطَانِ

>?

ص: 514

ج

وَخَدَتْ بِهِمْ هِمَمٌ لَهُمْ وَعَزَائِمُ

نَحْوَ الْمَنَازِلَ أَوَّلَ الأَزْمَانِ

رُفِعَتْ لَهُمْ فِي السَّيْرِ أَعْلامُ الْوِصَا

لِ فَشَمِّرُوا يَا خَيْبَةَ الْكَسْلانِ

وَرَأَوا عَلَى بُعْدٍ خِيَامًا مُشْرِفَا

تٍ مُشْرِقَاتِ النُّورِ وَالْبُرْهَانِ

فَتَيَمَّمُوا تِلْكَ الْخِيَامَ فَآنَسُوا

فِيهِنَّ أَقْمَارًا بِلا نُقْصَانِ

مِنْ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لا تَبْغِي سِوَى

مَحْبُوبِهَا مِنْ سَائِرِ الشُّبَّانِ

قَصَرَتْ عَلَيْهِ طَرْفَهَا مِنْ حُسْنِهِ

وَالطَّرْفُ فِي ذَا الْوَجْهِ لِلنَّسْوَانِ

أَوْ أَنَّهَا قَصَرَتْ عَلَيْهِ طَرْفَهُ

مِنْ حُسْنِهَا فَالطَّرْفُ لِلذُّكْرَانِ

وَالأَوَّلُ الْمَعْهُودُ مِنْ وَضْعِ الْخِطَا

بِ فَلا تَحُدْ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ

وَلَرُبَّمَا دَلَّتْ إِشَارَتُه عَلَى الثَّـ

ـانِي فَتِلْكَ إِشَارَةٌ لِمَعَانِي

هَذَا وَلَيْسَ الْقَاصِرَاتُ كَمَنْ غَدَتْ

مَقْصُورَةً فَهُمَا إِذًا صِنْفَانِ

>?

ص: 515

.. يَا مُطْلِقَ الطَّرْفِ الْمُعَذَّبِ فِي الأُلَى

جُرِّدْنَ عَنْ حُسْنٍ وَعَنْ إِحْسَانِ

لا تَسْبِينَّكَ صُورَةٌ مِنْ تَحْتِهَا الدَّ

اءُ الدَّفِينُ تَبُوءُ بِالْخُسْرَانِ

قَبُحَتْ خَلائِقُهَا وَقُبِّحَ فِعْلُهَا

شَيْطَانَةٌ فِي صُورَةِ الإِنْسَانِ

تَنْقَادُ لِلأَنْذَالِ وَالأَرْذَالِ هُمْ

أَكْفَاؤُهَا مِنْ دُونِ ذِي الإِحْسَانِ

مَا ثُمَّ مِنْ دِينٍ وَلا عَقْلٍ وَلا

خُلُقٍ وَلا خَوْفٍ مِن الرَّحْمَنِ

وَجَمَالُهَا زُورٌ وَمَصْنُوعٌ فَإِنْ

تَرَكْتُهُ لَمْ تَطْمَح لَهَا الْعَيْنَانِ

طُبِعَتْ عَلَى تَرْكِ الْحِفَاظِ فَمَا لَهَا

بِوَفَاءِ حَقِّ الْبَعْلِ قَطُ يَدَانِ

إِن قَصَّرَ السَّاعِي عَلَيْهَا سَاعَةً

قَالَتْ وَهَلْ أَوْلَيْتَ مِنْ إِحْسَانِ

أَوْ رَامَ تَقْوِيمًا لَهَا اسْتَعْصَتْ وَلَمْ

تَقْبَلَ سِوَى التَّعْوِيجِ وَالنُّقْصَانِ

أَفْكَارُهَا فِي الْمَكْرِ وَالْكيدِ الَّذِي

>?

ص: 516

.. قَدْ حَارَ فِيهِ فِكْرَةُ الإِنْسَانِ

فَجَمَالُهَا قِشْرٌ رَقِيقٌ تَحْتَهُ

مَا شِئْتَ مِنْ عَيْبٍ وَمِنْ نُقْصَانِ

نَقْدٌ رَدِيءٌ فَوْقَهُ مِنْ فِضَّةٍ

شَيْءٌ يُظَنُّ بِهِ مِنْ الأَثْمَانِ

فَالنَّاقِدُونَ يَرَوْنَ مَاذَا تَحْتَهُ

وَالنَّاسُ أَكْثَرْهُم مِن الْعُمْيَانِ

أَمَّا جَمِيلاتُ الْوُجُوهِ فَخَائِنَا

تُ بُعُولَهنَّ وَهُنَّ لِلأَخْدَانِ

وَالْحَافِظَاتُ الْغَيْبِ مِنْهُنَّ الَّتِي

قَدْ أَصْبَحَتْ فَرْدًا مِنْ النّسْوَانِ

فَانْظُرْ مَصَارِعَ مَنْ يَلِيكَ وَمَنْ خَلا

مِنْ قَبْلُ مِن شَيْبٍ وَمِنْ شُبَّانِ

وَارْغَبْ بِعَقْلِكَ أَنْ تَبِيعَ الْغَالِي الْـ

بَاقِي بِذَا الأَدْنَى الَّذِي هُوَ فَانِي

إِنْ كَانَ قَدْ أَعْيَاكَ خُودٌ مِثْلَ مَا

تَبْغِي وَلَمْ تَظْفَرْ إِلَى ذَا الآنِ

فَاخْطُبْ مِنَ الرَّحْمَنِ خُودًا ثُمَّ قَدِّ

مْ مَهْرَهَا مَا دُمْتَ ذَا إِمْكَانِ

ذَاكَ النِّكَاحُ عَلَيْكَ أَيْسَرُ إِنْ يَكُنْ

>?

ص: 517

.. لَكَ نِسْبَةٌ لِلْعِلْمِ وَالإِيمَانِ

وَاللهِ لَمْ تُخْرَجْ إِلَى الدُّنْيَا لِلَّذْ

ةِ عَيْشِهَا أَوْ لِلْحُطَامِ الْفَانِي

لَكِنْ خَرَجْتَ لِكَيْ تُعِدَّ الزَّادَ لِلْـ

أُخْرَى فَجِئْتَ بِأَقْبَحِ الْخُسْرَانِ

أَهْمَلْتَ جَمْعَ الزَّادِ حَتَّى فَاتَ بَلْ

فَاتَ الَّذِي أَلْهَاكَ عَنْ ذَا الشَّانِ

وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْقُلُوبَ سَلِيمَةٌ

لِتَقَطَّعَتْ أَسَفًا مِن الْحُرْمَانِ

لَكِنَّهَا سَكَرَى بِحُبِّ حَيَاتِهَا الدُّ

نْيَا وَسَوْفَ تَفِيقُ بَعْدَ زَمَانِ

>?

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات وجنبنا الخطايا والذُّنُوب الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات وألهمنا ذكرك في جَمِيع الأوقات وزحزحنا عن النار وأدخلنا فسيح الجنات يا رفيع الدرجات.

اللَّهُمَّ أعنا على ذكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، وَاجْعَلْنَا مِنْ حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين. وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وبعد أن وصف الله جَلَّ وَعَلا شراب أَهْل الْجَنَّة وآنيته، وما هم فيه من النَّعِيم، وصف ملابسهم بقوله:{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} وذكر بعده حليهم فَقَالَ: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي سورة فاطر يَقُولُ

ص: 518

جَلَّ وَعَلا: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} .

وَقَالَ في الآيَة الأخرى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} إلخ، وَقَالَ عز من قائل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} ففي آية سورة الدخان ذكر جَلَّ وَعَلا من ضروب نعيمهم خمسة ألوان:

1-

مساكنهم فَقَالَ: {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} والمسكن الطيب يطيب بأمرين:

(أ) أن يكون الساكن فيه آمنًا مِنْ جَمِيعِ ما يخافه ويحذر منه، وَهُوَ المقام الأمين.

(ب) أن يكون فيه أسباب النزهة من الجنات والعيون، وَذَلِكَ في قوله:{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .

2-

ملابسهم، وهي التي ذكرها بقوله:{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} .

3-

استئناس بَعْضهمْ ببعض، بجلوسهم على جهة التقابل وَهُوَ ما أشار إليه بقوله:{مُّتَقَابِلِينَ} .

ص: 519

4-

الأزواج وَهُوَ المشار إليه بقوله: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} .

5-

المأكول كما في قوله: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} هَذَا جزاء المتقين لله، الَّذِينَ تجنبوا ما يسخطه من المعاصي، وفعلوا ما يرضيه من الطاعات، وبعد أن وصف ما هم فيه من نعيم مقيم، بين أن حياتهم في هَذَا النَّعِيم مستمرة دائمة لا يلحقها موت ولا فناء ولا انقطاع فَقَالَ:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} ، فلا يخشون في الْجَنَّة موتًا ولا فناءًا أبدًا، ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الْجَنَّة والنار، ثُمَّ يذبح ثُمَّ يُقَالُ: يا أَهْل الْجَنَّة خلود فلا موت، ويا أَهْل النار خلود فلا موت» . وروى أَبُو هُرَيْرَةِ وأبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُقَالُ لأَهْل الْجَنَّة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا» . رواه مسلم.

ومَعَ هَذَا النَّعِيم، فقَدْ نجاهم من عذاب الجحيم، تفضلاً منه وإحسانَا، فأعطاهم ما يطلبون، ونجاهم مِمَّا يرهبون وهَذَا هُوَ الفلاح والفوز العَظِيم.

قال ابن القيم:

أَوَ مَا سَمِعْتَ بِذَبْحِهِ لِلْمَوْتِ بَيْـ

نَ الْمَنْزِلَيْنِ كَذَبْحِ كَبْشِ الضَّانِ

>?

ص: 520

.. حَاشَا لِذَا الْمَلَكِ الْكَرِيمِ وَإِنَّمَا

هُوَ مَوْتُنَا الْمَحْتُومُ لِلإِنْسَانِ

وَاللهُ يُنْشِىءُ مِنْهُ كَبْشًا أَمْلَحًا

يَوْمَ الْمَعَادِ يُرَى لَنَا بِعِيَانِ

>?

وَقَالَ رحمه الله:

هَذَا وَخَاتِمَةُ النَّعِيمِ خُلُودُهُم

أَبَدًا بِدَارِ الأَمْنِ وَالرِّضْوَانِ

أَوَ مَا سَمِعْتَ مُنَادِيَ الإِيمَانِ

يُخْبِرُ عَنْ مُنَادِيهِمْ بِحُسْنِ بَيَانِ

لَكُمُ حَيَاةٌ مَا بِهَا مَوْتٌ وَعَا

فِيَةٌ بِلا سُقْمٍ وَلا أَحْزَانِ

وَلَكُمْ نَعِيمٌ مَا بِهِ بُؤْسٌ وَمَا

لِشَبَابِكُمْ هَرَمٌ مَدَى الأَزْمَانِ

كَلا وَلا نَوْمٌ هُنَاكَ يَكُونَ ذَا

نَوْمٌ وَمَوْتٌ بَيْنَنَا أَخَوَانِ

هَذَا عَلِمْنَاهُ اضْطِرَارًا مِنْ كِتَا

بِ اللهِ فَافْهَمْ مُقْتَضَى الْقُرْآنِ

>?

ونعود إلى لباس أَهْل الْجَنَّة والكلام عَلَيْهِ.

فلباس أَهْل الْجَنَّة في الْجَنَّة الحرير، ومنه سندس، وَهُوَ رفيع

ص: 521

الديباج، للقمصان والغلائل ونحوها مِمَّا يلي أبدانهم، والاستبرق هُوَ غليظ الديباج لامعه، مِمَّا يلي الظاهر، كما هُوَ المعهود في لباس الدُّنْيَا، وأما الحل فقيل: إن صفة حلي الأَبْرَار أنه من فضة وصفة حلي المقربين من الذهب، وقيل: لأن أَهْل الْجَنَّة يلبسون هَذَا تَارَّة، والآخِر تَارَّة، وقَدْ يجمعون بينهما. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

ثُمَّ بعد ذَلِكَ ذكر جَلَّ وَعَلا وتقدس أنهم يسقون شرابًا آخر طهورًا، قيل: طاهرٌ من الأقذار والأقذاء، لم تدنسه الأيدي والأرجل، كخمر الدُّنْيَا وقيل إنه لا يصير بولاً نجسًا ولكنه يصير في أبدانهم كريح المسك، وَذَلِكَ أنهم يؤتون بالطعام فيأكلون، فإذا كَانَ آخر ذَلِكَ أتوا بالشراب الطهور فيشربون، فتطهر بطونهم، ويصير ما أكلوا رشحًا، يخَرَجَ من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم، وتعود شهوتهم، وَقَالَ مقاتل: هُوَ عين ماء على باب الْجَنَّة، من شرب منها نزع الله ما في قَلْبهُ من غل وغش وحسد. وعن أمير الْمُؤْمِنِين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا انتهى أَهْل الْجَنَّة إلى باب الْجَنَّة وجدوا هنالك عينين، فكأنما ألهموا ذَلِكَ، فشربوا من إحداهما، فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثُمَّ اغتسلوا من الأخرى فجرت عَلَيْهمْ نضرة النَّعِيم، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر، وجمالهم الباطن، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} في هذه الآيات يخبر جَلَّ وَعَلا عن أَهْل الْجَنَّة: أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات، أنهم في شغل مفكة للنفس، ملذٍ لها، من كُلّ ما تهواه

ص: 522

النُّفُوس، وتلذه العيون. قال الحسن البصري وإسماعيل بن خالد: في شغل عما فيه أَهْل النار من الْعَذَاب. وَقَالَ ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي: شغلهم افتضاض الأبكار.

والخلاصة أن من يدخل الْجَنَّة يتمتع بنعيمها ولذاتها، ويكون بذَلِكَ في شغل عما سواه، إذ يرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأنى له أن يفكر فيما سواه وَهُوَ بذَلِكَ فرح مستبشر، ضحوك السن، هادئ البال، لا يرى شَيْئًا يغمه أو ينغص عَلَيْهِ حبوره وسروره.

وَلَقَدْ رُوِينَا أَنَّ شُغْلَهُم الَّذِي

قَدْ جَاءَ فِي يَس دُونَ بَيَانِ

شُغْلُ الْعَرُوسِ بِعُرْسِهِ مِنْ بَعْدِمَا

عَبِثَتْ بِهِ الأَشْوَاقُ طُولَ زَمَانِ

بِاللهِ لا تَسْأَلْهُ عَنْ أَشْغَالِهِ

تِلْكَ اللَّيَالِي شَأْنُهُ ذُو شَانِ

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً بِصَبٍّ غَابَ عَنْ

مَحْبُوبِهِ فِي شَاسِعِ الْبُلْدَانِ

وَالشَّوْقُ يُزْعِجُهُ إليه وَمَا لَهُ

بِلِقَائِهِ سَبِبٌ مِن الإِمْكَانِ

وَافَى إليه بَعْدَ طُولِ مَغِيبِهِ

عَنْهُ وَصَارَ الْوَصْلُ ذَا إِمْكَانِ

أَتَلُومُهُ أَنْ صَارَ ذَا شُغْلٍ بِهِ

لا وَالَّذِي أَعْطَى بِلا حُسْبَانِ

يَا رَبُّ غَفْرًا قَدْ طَغَتْ أَقْلامُنَا

يَا رَبُّ مَعْذِرَةً مِنَ الطُّغْيَانِ

اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين. اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 523

(فَصْلٌ)

قال تَعَالَى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} يذكر جَلَّ وَعَلا ما يتلقى به عباده الْمُؤْمِنِين، الْمُتَحَابِّينَ فيه، تشريفًا لَهُمْ وتكريمًا، وتسكينًا لروعهم، مِمَّا يكون في ذَلِكَ اليوم من الأهوال والكروب والشدائد، فَقَالَ:{يَا عِبَادِ} الآيَة. ثُمَّ بين من يستحق هَذَا الندا فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فعِنْدَمَا يسمَعَ النَّاس المنادي ينادي بالآيَة الأولى، وهي قوله:{يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} يرجوها النَّاس كلهم فإذا سمعوا الآيَة التي تليها يئس النَّاس منها غير الْمُؤْمِنِين ثُمَّ ذكر ما يُقَالُ لَهُمْ على سبيل البشرى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} وبعد ذَلِكَ ذكر طرفًا مِمَّا يتنعمون به من النَّعِيم، فَقَالَ:{يُطَافُ عَلَيْهمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي وبعد أن يستقروا بالْجَنَّة، ويهدأ روعهم، تدور عَلَيْهمْ خدامهم من الولدان المخلدين بصحاف من الذهب، مترعة بألوان الأطعمة، وبأكواب فيها أصناف الشراب مِمَّا لذ وطاب.

وعن أنس قال: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الرؤيا، فيسأل عَنْهُ إذا لم يكن يعرفه، فإذا أُثْنِيَ عَلَيْهِ معروف كَانَ أعجب لرؤياه إليه، فأتته امرأة فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ رأيت

ص: 524

كأني أتيت، فأخرجت من الْمَدِينَة، فأدخلت الْجَنَّة، فسمعت وجبة انفتحت لها الْجَنَّة، فنظرت فإذا فلان وفلان وفلان، فسمت اثني عشر رجلاً كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ بعثهم في سرية قبل ذَلِكَ، فجيء بِهُمْ عَلَيْهمْ ثياب طلس، تشخب أوداجهم، فقيل: اذهبوا بِهُمْ إلى نهر البيذخ، قال: فغمسوا فيه، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر، فأكلوا من ذَلِكَ البسر ما شاءوا، فما يقلبونها من وجه إِلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم، فَجَاءَ البشير من تلك السرية، فَقَالَ: أصيب فلان، وفلان، حتى عد اثني عشر رجلاً، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة فَقَالَ:«قصي رؤياك» فقصتها وجعلت تَقُول: جيء بفلان، وفلان كما قال. رواه الإمام أَحَمَد في مسنده بنحوه وإسناده على شرط مسلم.

وبعد هَذَا التفصيل لبعض ما في الْجَنَّة من نعيم، عمم ذَلِكَ فَقَالَ:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ففيها ما تشتهيه أنفس أهلها من صنوف الأطعمة والأشربة والألبسة، والأياء المعقولة والمسموعة، ونحوها مِمَّا تطلبه النُّفُوس وتهواه، كائنًا ما كَانَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً} بعد أن ذكر جَلَّ وَعَلا حال المجرمين المكذبين الطاغين، أعقبه بمآل المتقين، وما يفوزون به من الجنات التي وصفها، ووصف ما فيها، وذكر أنها عطاء منه، ففي ذكرها استنهاظ، وحث لعوالي الهمم، بدعوتهم إلى المثابرة على الطاعات والازدياد منها، وفي تذكر ما في هَذَا المفاز والمنجى الْبَعِيد عن النار،

ص: 525

والزوجات الكواعب، اللاتي على سن واحد متقارب، ما يمنع ذا اللب من الانهماك في الدُّنْيَا ولذاتها، وقتل الأوقات في طلبها وتحصيلها.

قال ابن القيم رحمه الله: فَصْلٌ فيما أعد الله لأوليائه المتمسكين بالْكِتَاب والسنة:

يَا خَاطِبَ الْحُورِ الْحِسَانِ وَطَالِبًا

لِوِصَالِهِنَّ بِجَنَّةِ الْحَيَوَانِ

لَوْ كُنْتَ تَدْرِي مَنْ خَطَبْتَ وَمَنْ طَلَبْـ

تَ بَذَلْتَ مَا تَحْوِي مِنَ الأَثْمَانِ

أَوْ كُنْتَ تَدْرِي أَيْنَ مَسْكَنُهَا جَعَلْـ

ـتَ السَّعْيَ مِنْكَ لَهَا عَلَى الأَجْفَانِ

وَلَقَدْ وَصَفْتُ طَرِيقَ مَسْكَنِهَا فَإِنْ

رُمْتَ الْوِصَالَ فَلا تَكُنْ بِالْوَانِي

أَسْرِعْ وَحُثَّ السَّيْرَ جَهْدَكَ إِنَّمَا

مَسْرَاكَ هَذَا سَاعَةً لِزَمَانِ

فَاعْشِقْ وَحَدِّثْ بِالْوِصَالِ النَّفْسَ وَابْـ

ـذِلْ مَهْرَهَا مَا دُمْتَ ذَا إِمْكَانِ

وَاجْعَلْ صِيَامَكَ قَبْلَ لُقْيَاهَا وَيَوْ

مْ الْوَصْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانِ

وَاجْعَلْ نُعُوتَ جَمَالِهَا الْحَادِي وَسِرْ

تَلْقَى الْمَخَاوُفَ وَهِيَ ذَاتُ أَمَانِ

>?

ص: 526

.. لا يُلْهِيَنَّكَ مَنْزِلٌ لَعِبْتَ بِهِ

أَيْدِي الْبِلا مِنْ سَالِفِ الأَزْمَانِ

فَلَقَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُ كُلُّ مُسَرَّةٍ

وَتَبَدَلَتْ بَالْهَمِّ وَالأَحْزَانِ

سِجْنٌ يَضِيقُ بِصَاحِبِ الإِيمَانِ لَـ

ـكِنْ جَنَّةُ الْمَأْوَى لِذِي الْكُفْرَانِ

سُكَّانُهَا أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْبَطَا

لَةِ وَالسَّفَاهَةِ أَنْجَسُ السُّكَّانِ

وَأَلَذُّهُمْ عَيْشًا فَأَجْهَلُهُمْ بِحَـ

ـقِ اللهِ ثُمَّ حَقَائِقِ الْقُرْآنِ

عَمْرتْ بِهِمْ هَذِي الدِّيَارُ وَأَقْفَرَتْ

مِنْهُمْ رُبُوعُ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ

قَدْ آثَرُوا الدُّنْيَا وَلَذَّةُ عَيْشِهَا الْـ

فَانِي عَلَى الْجَنَّاتِ وَالرِّضْوَانِ

صَحِبُوا الأَمَانِي وَابْتُلُوا بِحُظُوظِهِمْ

وَرَضُوا بِكُلِّ مَذَلَّةٍ وَهَوَانِ

كَدْحًا وَكَدًا لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ

مَا فِيهِ مِنْ غَمٍّ وَمِنْ أَحْزَانِ

وَاللهِ لَوْ شَاهَدتَ هَاتَيْكَ الصُّدُو

رِ رَأَيْتَهَا كَمَرَاجِلِ النِّيرَانِ

>?

ص: 527

.. وَوَقُودُهَا الشَّهَوَاتُ وَالْحَسَرَاتُ وَالآ

لامُ لا تَخْبُو مَدَى الأَزْمَانِ

أَبْدَانُهُمْ أَجْدَاثُ هَاتِيكَ النُّفُو

سِ اللائِي قَدْ قُبِرتْ مَعَ الأَبْدَانِ

أَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ وَجُسُومُهُمْ

فِي كَدْحِهَا لا فِي رِضَا الرَّحْمَنِ

هَرَبُوا مِن الرِّقِ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ

فَبُلُو بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ

لا تَرْضَ مَا اخْتَارُوا هُمُ لِنُفُوسِهِمْ

فَقَدْ ارْتَضُوا بِالذُّلِّ وَالْحِرْمَانِ

لَوْ سَاوَتْ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ

لَمْ َيَسْقِ مِنْهَا الرَّبُّ ذُو الْكُفْرَانِ

لَكِنَّهَا وَاللهِ أَحْقَرُ عِنْدَهُ

مِنْ ذَا الْجَنَاحِ الْقَاصِرِ الطَّيَرَانِ

وَلَقَدْ تَوَلَّتْ بَعْدُ عَنْ أَصْحَابِهَا

فَالسَّعْدُ مِنْهَا حَلَّ بِالدَّبَرَانِ

لا يُرْتَجَى مِنْهَا الْوَفَاءُ لِصَبِّهَا

أَيْنَ الْوَفَا مِنْ غَادِرِ خَوَّانِ

طُبِعَتْ عَلَى كَدْرِ فَكَيْفَ يَنَالُهَا

صَفْوٌ أهَذَا قَطُ فِي إِمْكَانِ

>?

ص: 528

.. يَا عَاشِقَ الدُّنْيَا تَأَهَّبْ لِلَّذِي

قَدْ نَالَهُ الْعُشَّاقُ كُلَّ زَمَانِ

أَوْ مَا سَمِعْتَ بَلْ رَأَيْتَ مَصَارِعَ الْـ

ـعُشَّاقِ مِنْ شَيْبٍ وَمِنْ شُبَّانِ

>?

اللَّهُمَّ إليك بدعائنا توجهنا وبفنائك أنخنا وَإِيَّاكَ أملنا ولما عندك من الجود والإحسان طلبنا ولرحمتك رجونا، ومن عذابك أشفقنا ولعفوك وغفرانك تعرضنا فاعف عنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} لما ذكر تَعَالَى أنه يدخل التائبين الْجَنَّة، وصف هذه الْجَنَّة بجملة أوصاف (أولاً) : أحبر أنها جنات إقامة دائمة، لا كجنات الدُّنْيَا، وقَدْ وعد بها المتقين، وهي غائبة لم يشاهدوها، ووعد الله حق لا يخلف، فهم آتوها لا محالة. (ثانيًا) : أنهم لا يسمعون فيها كلامًا ساقطًا تافهًا لا معنى له، كما يوَجَدَ في الدُّنْيَا، بل يسمعون فيها سلامًا، والسَّلام اسم جامَعَ للخَيْر، لأنه يضمن السلامة. (ثالثًا) : أن لَهُمْ ما يشتهون من المطاعم والمشارب، في قدر وَقْت البكرة ووَقْت العشي من نهار أيام الدُّنْيَا، أي إن الَّذِي بين غدائهم وعشائهم في الْجَنَّة قدر ما بين غداء أحدنا في الدُّنْيَا وعشائه.

فَكَّرْتُ فِي الْجَنَّةِ الْعُلْيَا فَلَمْ أَرَهَا

تَنَالُ إِلا عَلَى جَسْرٍ مِنَ التَّعَبِ

ص: 529

ولما ذكر جَلَّ وَعَلا وتقدس أن هذه الْجَنَّة تخالف جنات الدُّنْيَا ذكر ما هُوَ سبب استحقاقها فَقَالَ: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} المعنى: هذه الْجَنَّة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة، نورثها من عبادنا المتقين الَّذِينَ يطيعون الله في السِّرّ والعلن، ومعنى إيراثهم الْجَنَّة: الإنعام عَلَيْهمْ بالخلود فيها في أكمل نعيم، وقيل: نجعلها لَهُمْ كملك الميراث الَّذِي هُوَ أقوى تمليك، بأن نبقي عَلَيْهِ الْجَنَّة، كما نبقي على الوارث مال الموروث، ولأن الأتقاء يلقون ربهم يوم القيامة وقَدْ انقضت أعمالهم، وثمرتها باقية وهي الْجَنَّة، فإن أدخلهم الْجَنَّة فقَدْ أورثهم من تقواهم، كما يورث الوارث من المتوفى الْمَال الَّذِي خلفه.

وجَاءَ بمعنى الآيَة قوله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى أن قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} ، وَقَالَ:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} ، وَقَالَ:{أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ

ص: 530

لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهمْ مِّن كُلّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} إلى غير ذَلِكَ من الآيات المنوهة بذكرهم وشرفهم وعظم جزائهم فنكتفي بالآيات التي ذكرنا، وما أوضحناه من معاني الآيات السابقات نسأل الله الحي القيوم ذا الجلال والإكرام، بديع السماوات والأَرْض، الواحد الأحد الفرض الصمد، الَّذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أن ينفع بها إنه القادر على ذَلِكَ.

وأما الأحاديث الواردة في الْجَنَّة، فمنها ما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قال الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّىٍّ فِى السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَتْفِلُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ، أَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِى السَّمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قال ابن القيم:

هَذَا وَسِنَّهُمْ ثَلاثٌ مَعَ ثَلا

ثِينَ الَّتِي هِيَ قُوَّةُ الشُّبَّانِ

وَصَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ فِي ذَا عَلَى

حَدٍ سَوَاءٌ مَا سِوَى الْوِلْدَانِ

>?

ص: 531

.. وَلَقَدْ رَوَى الْخُضَرِيُّ أَيْضًا أَنَّهُمْ

أَبْنَاءُ عَشْرٍ بَعْدَهَا عَشْرَانِ

وَكِلاهُمَا فِي التِّرْمِذِيُّ وَلَيْسَ ذَا

بِتَنَاقُضٍ بَلْ هَا هُنَا أَمْرَانِ

حَذْفُ الثَّلاثِ وَنَيِّفٌ بَعْدَ الْعُقُو

دِ وَذِكْرَ ذَلِكَ عِنْدَهُمُ سِيَّانِ

عِنْدَ اتِّسَاعٍ فِي الْكَلامِ وَعِنْدَمَا

يَأْتُوا بِتَحْرِيرٍ فَبِالْمِيزَانِ

وَالطُّولُ طُولُ أَبِيهِمْ سِتُّونَ لَـ

كِنْ عَرْضُهم سَبْعٌ بِلا نُقْصَانِ

الطُّولُ صَحَّ بِغَيْرِ شَكٍّ فِي الصَّحِيـ

????

ـحَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا لَنَا شَمْسَانِ

????

وَالْعَرْضُ لَمْ نَعْرِفْهُ فِي إِحْدَاهُمَا

????

لَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَد ُالشَّيْبَانِي

????

هَذَا وَلا يَخْفي التَّنَاسُبُ بَيْنَ هَـ

ذَا الْعَرْضِ وَالطُّولِ الْبَدِيعِ الشَّانِ

كُلُّ عَلَى مِقْدَراِ صَاحِبِهِ وَذَا

تَقْدِيرُ مُتْقِنِ صَنْعَةِ الإِنْسَانِ

هَذَا كَمَالُ الْحُسْنِ فِي أَبْشَارِهِمْ

وَشُعُورِهِمْ وَكَذَلِكَ الْعَيْنَانِ

أَلْوَانُهُمْ بِيضُ وَلَيْسَ لَهُمْ لُحَى

جُعْدُ الشُّعُور مُكَحَّلُوا الأَجْفَانِ

>?

ص: 532

اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل النجاة، وبلغ كلامنا ما أمله ورجاءه واجعل لنا عندك أعظم قدر وجاه، ولا تحرمنا من فضلك العَظِيم يا أكرم الأكرمين،

وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

في بيان أدنى أَهْل الْجَنَّة منزلةً

عن الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ مُوسَى عليه السلام سَأَلَ رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ فَقَالَ: رَجُلٌ يَجِىءُ بَعْدَ مَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ؟ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ. فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. قَالَ: رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرْسَ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . رواه مسلم.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّة، رَجُلاً يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إليه أَنَّهَا مَلأَى، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إليه أَنَّهَا مَلأَى. فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا

ص: 533

مَلأَى، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا. فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي، أَوْ تَضْحَكُ مِنِّى وَأَنْتَ الْمَلِكُ» . قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَكَانَ يَقولُ:«ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وعن أبي مُوَسى رضي الله عنه أن النَّبِيّ ? قال: «إن للمُؤْمِن في الْجَنَّة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمُؤْمِن فيها أهلون، يطوف عَلَيْهمْ المُؤْمِن، فلا يرى بَعْضهمْ بعضًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الميل: ستة آلاف ذراع. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? قال: «والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده إن ما بين مصراعين من مصاريع الْجَنَّة لكما بين مَكَّة وهجر» . متفق عَلَيْهِ.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? قال: «إن في الْجَنَّة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة سنة ما يقطعها» . متفق عَلَيْهِ. وعنه عن النَّبِيّ ? قال: «إن أَهْل الْجَنَّة ليتراءون أَهْل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم، قال:«بلى والَّذِي نفسي بيده، رِجَال آمنوا بِاللهِ وصدقوا المرسلين» . متفق عَلَيْهِ. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه أن رسول الله ? قال: «لقاب قوس في الْجَنَّة خَيْر مِمَّا تطلع عَلَيْهِ الشمس أو تغرب» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ? قال: «إن في الْجَنَّة سوقً يأتونها

ص: 534

كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم وقَدْ ازدادوا حسنًا وجمالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أهلوهم: وَاللهِ لَقَدْ ازددتم حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم وَاللهِ لَقَدْ ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً» . رواه مسلم.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النَّبِيّ ? قال: «يدخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة جردًا مردًا مكحلين، بني ثلاث وثلاثين» . رواه الترمذي، وَقَالَ: حديث حسن غريب.

وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ حدثنا عن الْجَنَّة ما بناؤها؟ قال: «لبنة من ذهب، ولبنة منن فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها الؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبئس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» . الْحَدِيث رواه أَحَمَد واللفظ له، والترمذي.

وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إن في الْجَنَّة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» . فَقَالَ أبو مالك الأشعري: لمن هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا وَالنَّاس نيام» . رواه الطبراني، والحاكم، وَقَالَ: على شرطهما. ورواه أَحَمَد، وابن حبان في صحيحه.

وعن عَبْد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: (لكل مسلم خيرة، ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، يدخل عَلَيْهَا من كُلّ باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذَلِكَ، لا مرحات، ولا دفرات، ولا سخرات،

ص: 535

ولا طماحات، حور عين، كأنهن بيض مكنون» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا من رواية جابر الجعفي موقوفًا.

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ? قال: «بينا أَنَا أسير في الْجَنَّة، إذ أَنَا بنهر حافتاه قباب الؤلؤ المجوف، فقُلْتُ: ما هَذَا يا جبريل، قال: هَذَا الكوثر الَّذِي أعطاك ربك. قال: فضرب الملك بيده. فإذا طينه مسك أذفر» . رواه البخاري.

وروي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: «في الْجَنَّة بحر للماء، وبحر للبن، وبحر للعسل، وبحر للخمر، ثُمَّ تشقق الأنهار منها بعد» . رواه البيهقي.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «خلق الله جنة عدن بيده، ودلى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثُمَّ نظر إليها، فَقَالَ لها: تكلمي، فقَالَتْ: قَدْ أفلح المؤمنون، فَقَالَ: وعزتي لا يجاورن فيك بخيل» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط بإسنادين أحدهما جيد. ورواه ابن أبي الدُّنْيَا من حديث أنس أطول منه، ولفظه قَالَ رَسُولُ اللهِ ?:«خلق الله جنة عدن بيده، لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء، وملاطها مسك، حشيشها الزعفران، حصباؤها اللؤلؤ، ترابه العنبر، ثُمَّ قال لها: انطقي: قَالَتْ: قَدْ أفلح المؤمنون. فَقَالَ الله عز وجل: وعزتي وجلالي: لا يجاورني فيك بخيل» ثُمَّ تلا رسول الله ?: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 536

قال ابن القيم رحمه الله:

وَالْجَنَُّة اسْمُ الْجِنْسِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ

جِدَا وَلَكِنْ أَصْلُهَا نَوْعَانِ

ذَهَبِيَّتَانِ بِكُلِّ مَا حَوَتَاهُ مِنْ

حُليٍّ وَآنِيَةٍ وَمِنْ بُنْيَانِ

وَكَذَاكَ أَيْضًا فِضَّةٌ ثِنْتَانِ مِنْ

حُليٍّ وَبُنْيَانِ وَكُلِّ أَوَانِ

لَكِنَّ دَارَ الْخُلْدِ وَالْمَأْوَى وَعَدْ

نِ وَالسَّلامِ إِضَافَةٌ لِمَعَانِ

أَوْصَافُهَا اسْتَدعَتْ إِضَافَتَهَا إِلَيْـ

????

ـهَا مِدْحَةً مَعَ غَايَةَ التِّبْيَانِ

????

لَكِنَّمَا الْفِرْدَوْس أَعْلاهَا وَأَوْ

سَطُهَا مَسَاكِنُ صَفْوَةِ الرَّحْمَنِ

أَعْلاهُ مَنْزِلَةً لأَعْلَى الْخَلْقِ مَنْـ

زِلَةً هُوَ الْمَبْعُوثُ بِالْقُرْآنِ

وَهِيَ الْوَسِيلَةُ وَهِيَ أَعْلَى رُتْبَةً

خَلُصَتْ لَهُ فَضْلاً مِن الرَّحْمَنِ

وَلَقَدْ أَتَى فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ

????

تَفْصِيلُ الْجِنَانِ مُفَصَّلاً بِبَيَانِ

????

هِيَ أَرْبَع ثِنْتَانِ فَاضِلَتَانِ وَا

يَالِيهِمَا ثِنْتَانِ مَفْضُولانِ

>?

ص: 537

.. فَالأَوْلَيَانِ الْفَضْلَيَانِ لأَوْجُهٍ

عَشْرٍ وَيَعْسُرُ نَظْمُهَا بِوِزَانِ

وَإِذَا تَأَمَّلْتَ السِّيَاقَ وَجَدْتَهَا

فِيهِ تَلُوحُ لِمَنْ لَهُ عَيْنَانِ

سُبْحَانَ مَنْ غَرَسَتْ يَدَاهُ جَنَّةُ الْـ

????

فِرْدَوْسِ عِنْدَ تَكَامُلِ الْبُنْيَانِ

????

وَيَدَاهُ أَيْضًا اتْقَنَتْ لِبِنَائِهَا

فَتَبَارَكَ الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ بَانِي

لَمَّا قَضَى رَبُّ الْعِبَادِ الْغَرْسَ قَا

لَ تَكَلَّمِي فَتَكَلَّمَتْ بِبَيَانِ

قَدْ أَفْلَحَ الْعَبْدُ الَّذِي هُوَ مُؤْمِنٌ

مَاذَا ادَّخَرْتَ لَهُ مِن الإِحْسَانِ

>?

اللَّهُمَّ يا من بيده خزائن السماوات والأَرْض، عافنا من محن الزمان، وعوارض الفتن، فإنا ضعفاء عن حملها، وإن كنا من أهلها، اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمن من افزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

روي عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أرض الْجَنَّة بيضاء، عرصتها صخور الكافور وقَدْ أحاط به المسك، مثل كثبان الرمل، أنهار مطردة، فيجتمَعَ فيها أَهْل الْجَنَّة، أدناهم

ص: 538

وآخرهم، فيتعارفون، فيبعث الله ريح الرحمة، فتهيج عَلَيْهِمْ ريح المسك، فيرجع الرجل إلى زوجته وقَدْ ازداد حسنًا وطيبًا، فَتَقُول له: لَقَدْ خرجت من عِنْدِي وأنَا بك معجبة، وأنَا بك الآن أشد إعجابًا» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا.

وعن كريب أنه سمَعَ أسامة بن زيد رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ألا مشمر إلى الْجَنَّة، فإن الْجَنَّة لا خطر لها، هِيَ ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، حلل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية» قَالُوا: نعم يَا رَسُولَ اللهِ، نَحْنُ المشمرون، قال:«قولوا: إن شَاءَ الله» فَقَالَ القوم: إن شَاءَ الله. رواه ابن ماجة، وابن أبي الدُّنْيَا، والبزار، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي.

وعن سماك أنه لقي عَبْد اللهِ بن عباس بالْمَدِينَة، بعد ما كف بصره، فَقَالَ: يا ابن عباس ما أرض الْجَنَّة؟ قال: مرمرة بيضاء من فضة، كأنها مرآة. قُلْتُ: ما نورها؟ قال: ما رَأَيْت الساعة التي يكون فيها طلوع الشمس؟ فذَلِكَ نورها، إِلا أنه لَيْسَ فيها شمس ولا زمهرير، قال: قُلْتُ: فما أنهارها؟ أفي أخدود؟ قال: لا ولكنها تجري على أرض الْجَنَّة، مستكفة، لا تفيض ها هنا ولا ها هنا، قال الله لها: كوني فكانَتْ. قُلْتُ: فما حلل الْجَنَّة؟ قال: فيها شجرة ثمر كأنه الرمان، فإذا أراد ولي الله منها كسوة انحدرت إليه من غصنها، فانفلقت له عن سبعين حلة، ألوانًا بعد ألوان، ثُمَّ تنطبق فترجع كما كانَتْ. رواه ابن أبي الدُّنْيَا موقوفًا بإسناد حسن.

ص: 539

وروي عن عمران بن حصين وأَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنهم قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تَعَالَى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} قال: «قصر في الْجَنَّة من لؤلؤة، فيها سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كُلّ دار سبعون بيتًا، من زمردة خضراء، في كُلّ بيت سبعون سريرًا، على كُلّ سرير سبعون فراشًا من كُلّ لون، على كُلّ فراش امرأة، في كُلّ بيت سبعون وصيفًا ووصيفة، يعطى المُؤْمِن من القوة ما يأتي على ذَلِكَ كله في غداة واحدة» . رواه الطبراني.

وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قَالَتْ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى - فَقَالَ: «يسير الراكب في ظِلّ الفنن منها مائة سنة، أو يستظِلّ بها مائة راكب شك يحيى، فيها فراش الذهب، كأن ثمارها القلال» . رواه الترمذي. وَقَالَ: حديث حسن صحيح غريب.

وفي حديث أُبَيَّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ما الحوض؟ قال: «والَّذِي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك، وآنيته أكثر عددًا من النجوم، لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدًا، ولا يصرف عَنْهُ إنسان فيروى أبدًا» . رواه ابن أبي عاصم وغيره.

وأخَرَجَ الشيخان وَغَيْرِهمَا من حديث عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من ريح المسك، كيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ أبدًا» . وأخَرَجَ مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 540

قال: «ليردن على الحوض أقوام، فيختلجون دوني، فأَقُول: رب أصحابي، رب أصحابي، فَيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» .

وأخَرَجَ الطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححه عن خباب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«سيكون أمراء من بعدي فلا تصدقوهم بكذبهم، ولا تعينوهم على ظلمهم، فمن فعل لم يرد عليّ الحوض» .

وأخَرَجَ البخاري ومسلم غيرها من طَرِيق أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَنَا فرطكم على الحوض من ورد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثُمَّ يحال بيني وبينهم» . قال أبو حازم:

فسمَعَ النعمان ابن أبي عياش وانَا أحدث هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ: هكَذَا سمعت سهلاً يَقُولُ؟ قُلْتُ: نعم، فَقَالَ: وانَا أشهد على أبي سعيد الخدري سمعته يزيد: «إنهم مني، فَيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأَقُول: سحقًا لمن بدل بعدي» .

وعن عتبة بن عبدٍ رضي الله عنه قال: جَاءَ أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ما حوضك الَّذِي تحدث عَنْهُ؟ فذكر الْحَدِيث إلى أن قال فَقَالَ الأعرابي: يَا رَسُولَ اللهِ فيها فاكهة؟ قال: «نعم، وفيها شجرة تدعى طُوبَى، هِيَ تطابق الفردوس» فَقَالَ: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: «لَيْسَ تشبه شَيْئًا من شجر أرضك، ولكن أتيت

ص: 541

الشام» ؟ قال: لا يَا رَسُولَ اللهِ، قال:«فإنها تشبه شجر في الشام، تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد، ثُمَّ ينتشر أعلاها» . قال: فما عظم أصلها؟ قال: «لو ارتحلت جزعة من إبل أهلك لما قطعتها حتى تنكسر ترقوتها هرمًا» . قال: فيها عنب؟ قال: «نعم» . قال: فما عظم العنقود منها؟ قال: «مسيرة شهر للغراب الأبقع، ولا ينثني ولا يفتر» ، قال: فما عظم الحبة منه؟ قال: «هل ذبح أبوك تيسًا من غنمه عظيمًا، فسلخ إهابه فأعطاه أمك، فَقَالَ: ادبغي هَذَا، ثُمَّ افري لنا منه ذنوبًا، يروي ماشيتنا» ؟ قال: نعم، قال:«فإن تلك الحبة تشبعني وأَهْل بيتي» . فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «وعامة عشيرتك» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، واللفظ له، والبيهقي بنحوه، وابن حبان في صحيحه، بذكر الشجرة في موضع والعنب في آخر، ورواه أَحَمَد باختصار.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنْ الثَّلْجِ» رواه ابن ماجة والترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ

عن جرير رضي الله عنه قَالَ: نزلنا الصفاح، فإذا رجل نائم في تحت شجرة قَدْ كادت الشمس تبلغه، قال: فقُلْتُ للغلام: انطلق بهَذَا النطع فأظله. قال فأنطلق فأظله، فَلَمَّا استيقظ فإذا هُوَ سلمان رضي الله عنه، فأتيته أسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ: يا جرير تواضع لله، فإن من تواضع لله في الدُّنْيَا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير هل تدري ما الظلمَاتَ يوم القيامة؟ قُلْتُ: لا أدري، قال: ظلم النَّاس بينهم ثُمَّ أخذ عودًا لا أكاد

ص: 542

أراه بين إصبعيه فَقَالَ: يا جرير لو طلبت في الْجَنَّة مثل هَذَا العود لم تجده، قُلْتُ: يا أبا عَبْد اللهِ؟ أين النخل والشجر؟ فَقَالَ: أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاه الثمر. رواه البيهقي بإسناد حسن. وعن الْبَرَاءُ بن عازب رضي الله عنه في قوله تَعَالَى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: إن أَهْل الْجَنَّة يأكلون من ثمار الْجَنَّة، قيامًا وقعودًا ومضطجعين. رواه البيهقي وغيره موقوفًا بإسناد حسن.

وعن علي رضي الله عنه قال: يساق الَّذِينَ اتقوا ربهم إلى الْجَنَّة زمرا حتى إذا انتهوا إلى أول باب من أبوابها وجدوا عندها شجرة، يخَرَجَ من تحت ساقها عينان تجريان، فعمدوا إلى إحداهما كأنما أمروا بها فشربوا منها، فأذهب ما في بطونهم من قذى وأذى، ثُمَّ عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها فجرت عَلَيْهمْ نضرة النَّعِيم، فلن تتغير أبشارهم بعدها أبدًا، ولن تشعث أشعارهم كأنما دهنوا، ثُمَّ انتهوا إلى خزنة الْجَنَّة، فَقَالُوا:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ثُمَّ تتلقاهم الولدان يطيفون بِهُمْ كما يطيف ولدان أَهْل الدُّنْيَا بالحميم يقدم من غيبته، يقولون له: أبشر بما أعد الله لك من الكرامة، قال: ثُمَّ ينطلق غلام من أولئك الغلمان إلى بعض أزواجه من الحور العين فَيَقُولُ: قَدْ جَاءَ فلان - باسمه الَّذِي كَانَ يدعى به في الدُّنْيَا - فَتَقُول: أَنْتَ رأيته؟ فَيَقُولُ: أَنَا رأيته. وهو ذا في أثري. فيستخف إحداهن الفرح، حتى تَقُوم على أسكفة بابها فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أي شَيْء أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرح أخضر وأصفر وأحمر من كُلّ لون ثُمَّ رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق فلو أن الله تَعَالَى قدره له لألم أن يذهب بصره، ثُمَّ طأطأ رأسه فنظر إلى

ص: 543

أزواجه وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فتظروا إلى تلك النعمة ثُمَّ اتكئوا فَقَالُوا:{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} ثُمَّ ينادي مناد: تحيون فلا تموتون، وتقيمون فلا تظعنون.

قال ابن القيم:

فَاسْمَعْ صِفَاتِ عَرَائِسِ الْجَنَّاتِ ثُمَّ

اخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا أَخَا الْعِرْفَانِ

حُورٌ حِسَانٌ قَدْ كَمَلْنَ خَلائِقًا

وَمَحَاسِنًا مِنْ أَجْمَلِ النِّسْوَانِ

حَتَّى يَحَارُ الطَّرْفُ فِي الْحُسْنِ الَّذِي

قَدْ أَلْبَسَتْ فَالطَّرْفُ كَالْحَيْرَانِ

وَيَقُولُ لَمَّا أَنْ يُشَاهِدَ حُسْنَهَا

سُبْحَانَ مُعْطِي الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ

وَالطَّرْفُ يَشْرَبُ مِنْ كُؤُوسِ جَمَالِهَا

فَتَرَاهُ مِثْلَ الشَّارِبِ النَّشْوَانِ

كَمُلَتْ خَلائِقُهَا وَأُكْمِلَ حُسْنُهَا

كَالْبَدْرِ لَيْلَ السِّتِ بَعْدَ ثَمَانِ

وَالشَّمْسُ تَجْرِي فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا

وَاللَّيْلُ تَحْتَ ذَوَائِبِ الأَغْصَانِ

فَتَرَاهُ يَعْجَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ ذَاكَ مِن

لَيْلٍ وَشَمْسٍ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ

>?

ص: 544

.. فَيَقُولُ سُبْحَانَ الَّذِي ذَا صُنْعُه

سُبْحَانَ مُتْقِنِ صَنْعَةَ الإِنْسَانِ

وَكِلاهُمَا مَرَآةُ صَاحِبِهِ إِذَا

مَا شَاءَ يُبْصِر وَجْهَهُ يَرَيَانِ

فَيَرَى مَحَاسِنَ وَجْهِهِ فِي وَجْهِهَا

وَتَرَى مَحَاسِنَهَا بِهِ بِعَيْنَانِ

حُمْرُ الْخُدُودِ ثُغُورُهُنَّ لآلِئ

سُودُ الْعُيُونِ فَوَاتِرُ الأَجْفَانِ

وَالْبَدْرُ يَبْدُو حِينَ يَبْسُمُ ثَغْرُهَا

فَيُضِيءُ سَقْفُ الْقَصْرِ بِالْجِدْرَانِ

وَلَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ بَرْقًا سَاطِعًا

يَبْدُو فَيَسْأَلُ عَنْهُ مَنْ بِجِنَانِ

فَيُقَالُ هَذَا ضَوْءُ ثَغْرٍ ضَاحِكٍ

فِي الْجَنَّةِ الْعُلْيَا كَمَا تَرَيَانِ

للهِ لاثِمُ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِي

فِي لَثْمِهِ إِدْرَاكُ كُلِّ أَمَانِ

رَيَّانَةُ الأَعْطَافِ مِنْ مَاءِ الشَّبَا

????

بِ فَغُصْنُهَا بِالْمَاءِ ذُو جَرَيَانِ

????

لما جَرَى مَاءُ الشَّبَابِ بِغُصْنِهَا

حَمَلَ الثِّمَارَ كَثِيرَةَ الأَلْوَانِ

فَالْوَرْدُ وَالتُّفَّاحُ وَالرُّمَّانُ فِي

غُصْنٍ تَعَالَى غَارِسُ الْبُسْتَانِ

>?

ص: 545

إلى أن قال:

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً بِصَبٍّ غَابَ عَنْ

مَعْشُوقِهِ فِي شَاسِعِ الْبُلْدَانِ

وَالشَّوْقُ يُزْعِجُهُ إليه وَمَا لَهُ

بِلِقَائِهِ سَبَبٌ مِن الإِمْكَانِ

وَافَى إليه بَعْدَ طُولِ مَغِيبهِ

عَنْهُ وَصَارَ الْوَصْلُ ذَا إِمْكَانِ

أَتَلُومُهُ أَنْ صَارَ ذَا شُغْلٍ بِهِ

لا وَالَّذِي أَعْطَى بِلا حُسْبَانِ

>?

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَمَلائِكَتِكَ وَكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ وَاليوم الآخِر، والقَدَرِ خَيْره وَشَرهِ، وَاشْرَحْ صُدُورِنَا وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لِعِبَادِكَ الأَخْيار وانْظُمْنَا في سِلْكِ الْمُقَرَّبينَ والأَبْرَارِ وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخَرِةَ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.

(فَصْلٌ)

عن جَابِرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلا يَمْتَخِطُونَ، وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَبُولُونَ، طَعَامُهُمْ ذَلِكَ جُشَاءٌ كَرَيحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ.

وَعَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ

ص: 546

إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونِ وَيَشْرَبُونَ؟ قَالَ: «نعم، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ وَالْشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ» . قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُون لَهُ الْحَاجَةُ، وَلَيْسَ فِي الجَنَّةِ أَذَى؟ قَالَ:«تَكُون حَاجَة أَحَدِهِمْ رَشْحًا يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ كَرَشْحِ الْمِسْكِ فَيَضْمُرُ بَطْنُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي. وَرُوَاتُهُ مُحْتَجّ بِهِم في الصَّحِيحِ.

ورواه الطبراني بإسناد صحيح. ولفظه في إحدى رواياته قال: بينما نَحْنُ عَنْدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من اليهود، يُقَالُ له: ثعلبة بن الحارث فَقَالَ: السَّلام عَلَيْكَ يا مُحَمَّد، فَقَالَ:«وعليكم» . فَقَالَ له اليهودي: تزعم أن في الْجَنَّة طعامًا وشرابًا وأزواجًا، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«نعم تؤمن بشجرة المسك» ؟ قال: نعم. قال: «وتجدها في كتابكم» ؟ قال: نعم، قال:«فإن البول والجنابة عرق، يسيل من تحت ذوائبهم، إلى أقدامهم مسك» .

وَرَواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم ولفظهما: أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فَقَالَ: يا أبا القاسم ألست تزعم أن أَهْل الْجَنَّة يأكلون فيها ويشربون؟ وَيَقُولُ لأصحابه: إن أقر لي بهَذَا خصمته، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بلى، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ في المَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَالشَّهْوَةِ، وَالْجِمَاعِ» ، فَقَالَ اليهودي: فإن الَّذِي يأكل ويشرب تَكُون له الحاجة، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«حاجتهم يفيض من جلودهم مثل المسك، فإذا البطن قَدْ ضمر» . ولفظ النسائي نحو هَذَا.

ص: 547

.. هَذَا وَتَصْرِيفُ الْمَآكِلِ مِنْهُمُوا

عَرَقٌ يَفِيضُ لَهُمْ مِنْ الأَبَدَانِ

كَرَوَائِحِ الْمِسْكِ الَّذِي مَا فِيهِ مِنْ

خِلْطٍ لَهُ مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ

فَتَعُودُ هَاتِيكَ الْبُطُونُ ضَوَامِرٌ

تَبْغِي الطَّعَامَ عَلَى مَدَى الأَزْمَان

لا غَائِطٌ فِيهَا وَلا بَوْلٌ وَلا

مَخَطٌ وَلا بَصَقٌ مِن الإِنْسَانِ

وَلَهُمْ جُشَاءٌ رِيحُهُ مِسْكٌ يَكُو

نُ بِهِ تَمَامُ الْهَضْمِ بِالإِحْسَانِ

هَذَا وَهَذَا صَحَّ عَنْهُ فَوَاحِدٌ

فِي مُسْلِمٍ وَلأَحْمَدَ الأَثَرَانِ

>?

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه: «إن أسفل أَهْل الْجَنَّة أجمعين من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، مَعَ كُلّ خادم صحفتان، واحدة من فضة، وواحدة من ذهب، في كُلّ صفحة لون لَيْسَ في الأخرى مثلها، يأكل من آخره كما يأكل من أوله، يجد لآخره من اللذة والطعم ما لا يجد لأوله، ثُمَّ يكون فوق ذَلِكَ رشح مسك وجشاء مسك، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا واللفظ له، والطبراني، ورواته ثقات.

وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أَهْل الْجَنَّة منزلة إن له سبع درجات وَهُوَ على السادسة،

ص: 548

وفوقه السابعة، إن له لثلاثمائة خادم، ويغدى عَلَيْهِ في كُلّ يوم ويراح بثلاثمائة صحفة، - ولا أعلمه إِلا قال -: من ذهب، في كُلّ صفحة لون لَيْسَ في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء، في كُلّ إناء لون لَيْسَ في الآخِر، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليَقُولُ: يا رب لو أذنت لي لأطعمت أَهْل الْجَنَّة وسقيتهم، لم ينقص مِمَّا عِنْدِي شَيْء» . الْحَدِيث رواه أَحَمَد عن شهرٍ عَنْهُ.

وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن طير الْجَنَّة كأمثال البخت، ترعى في شجر الْجَنَّة» . فَقَالَ أبو بكر: يَا رَسُولَ اللهِ إن هذه لطير ناعمة، فَقَالَ:«أكلتها أنعم منها» . قالها ثلاثًا، «وإني لأرجو أن تَكُون ممن يأكل منها» . رواه أَحَمَد بإسناد جيد، والترمذي، وَقَالَ: حديث حسن، ولفظه قال: سئل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: «ذاك نهر أعطانيه الله، يعني في الْجَنَّة، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر) قال عمر: إن هذه لناعمة، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلتها أنعم منها» . (البخت) : بضم الموحدة، وإسكَانَ الخاء المعجمة، هِيَ الإبل الخراسنية.

فَمَا الْعَيْشُ إِلا ذَاكَ لا عَيْشُ عَزَّةٍ

وَسُعْدَى وَلا لَيْلَى وَلا أُمِّ سَالِمِ

وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَا

وَيُرْجَى لِعَبْدٍ قَارِعِ الْبَابِ لازِمِ

>?

ص: 549

وعن سليم بن عامر رضي الله عنه قال: كَانَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يومًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ذكر الله في الْجَنَّة شجرة مؤذية، وما كنت أرى أن في الْجَنَّة شجرة تؤذي صاحبها؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وما هِيَ» ؟ قال: السِّدر، فإن له شوكًا مؤذيًا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أليسَ الله يَقُولُ: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} ، خَضَد الله شوكه، فجعل مكَانَ كُلّ شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرًا تَفَتَّق الثمرةُ منها عن اثنين وسبعين لونًا من طعام، ما فيها لون يشبه الآخِر» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا، وإسناده حسن. ورواه أيضًا عن سليم بن عامر عن أبي أمامة الباهلي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مثله. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الرمانة من رمان الْجَنَّة يجتمَعَ حولها بشر كثير يأكلون منها فإن جرى على ذكر أحدهم شَيْء يريده وجده في موضع يده حيث يأكل» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا. وروى بإسناده أيضًا عَنْهُ قال: «إن التمرة من تمر الْجَنَّة طولها اثنا عشر ذراعًا، لَيْسَ له عجم» .

شِعْرًا:

فَسِرْ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى الْعُلا

عَلَى الصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ وَالْبِرِّ وَالتُّقَى

وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا الْغَرُورَ فَإِنَّهَا

مَتَاعٌ قَلِيلٌ مَالَهَا أَبَدًا بَقَا

وَتُلْهِيكَ عَنْ جَنَّاتِ خُلْدٍ نَعِيمُهَا

يَدُومُ وَيَصْفُو حَبَذَا ذَلِكَ مُلْتَقَى

>?

ص: 550

.. وَفِيهَا رِضَا الرَّبِّ الْكَرِيمِ وَقُرْبُهُ

وَرُؤْيَتُه أَكْرِمْ بِذَلِكَ مُرْتَقَى

وَصَلِّ وَسَلِّمْ ذُو الْجَلالِ عَلَى أَحْمَدٍ

شَفِيعِ الْبَرَايَا كُلَّمَا الْمُزْنُ أَغْدَقَا

>?

اللَّهُمَّ أعذنا من شر نُفُوسنَا ومن شر الشيطان ومن شر الهوى ومن شر الدُّنْيَا وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا.

اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ) في ثيابهم وحللهم

وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من يدخل الْجَنَّة ينعم ولا يبأس، لا تبلى، ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الْجَنَّة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . رواه مسلم.

وَعَنْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ ضَوْءُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالزُّمْرَةُ الثَّانِيَة عَلَى لَوْنِ أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ واحد مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعَيْنِ، عَلَى كُلّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء» . رواه الطبراني بإسناد صحيح، والبيهقي بإسناد حسن، وتقدم

ص: 551

حديث أَبِي هُرَيْرَةِ المتفق عَلَيْهِ بنحوه.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ، ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَة فَتَضْرِبُ مَنْكِبَهُ فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنْ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ السَّلامَ وَيَسْأَلُهَا مَنْ أَنْتَ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنْ الْمَزِيدِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا أَدْنَاهَا مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبَى، فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنْ التِّيجَانِ إِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . رواه أَحَمَد من طَرِيق ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم، وابن حبان في صحيحه من طَرِيق عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم.

وروى الترمذي منه ذكر التيجان فقط من رواية رشدين عن عمرو بن الحارث، وَقَالَ: لا نعرفه إِلا من حديث رشدين.

وعن شريح بن عبيدٍ رضي الله عنه قال: قال كعب: لو أن ثوبًا من ثياب أَهْل الْجَنَّة لبس اليوم في الدُّنْيَا لصعق من ينظر إليه، وما حملته أبصارهم. رواه ابن أبي الدُّنْيَا. ويأتي حديث أنس المرفوع: «ولو اطلعت امرأة من نساء أَهْل الْجَنَّة إلى الأَرْض لملأت ما بينهما ريحًا، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها - يعني خمارها - على رأسها خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها. رواه البخاري، ومسلم.

شِعْرًا:

بِقَدْرِ الْكَدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي

وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَى سَهَرَ اللَّيَالِي

وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ

أَضَاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمَحَالِ

تَرُومَ الْخُلْدَ ثُمَّ تَنَامُ عَنْهَا

يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللآلي

ص: 552

وفي الصحيحين من حديث عَبْد اللهِ بن قيس قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلْعَبْدِ المُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَة طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهمْ لا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وأخَرَجَ ابن أبي الدُّنْيَا عن سعيد بن جبير: إن شهوته لتجري في جسده سبعين عامًا يجد اللذة ولا يلحقهم بذَلِكَ جنابة فيحتاجون إلى التطهير ولا ضعف ولا انحلال قوة، وطؤهم وطء التذاذ، نعيم لا آفة فيه بوجه من الوجوه. وأخَرَجَ أبو نعيم قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يستطع نور في الْجَنَّة فيرفعون رؤوسهم فإذا هُوَ من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها» . وإلى هَذَا أشار الشاعر:

شِعْرًا:

فَلَوْ أَنَّ حُورًا فِي الدَّيَاجِي تَبَسَّمَتْ

تَجَلَّى دُجَى الظَّلْمَاءِ فِي الأَرْضِ نُورُهَا

وَلَوْ مُزِجَ الْمَاءُ الأُجَاجُ بِرِيقِهَا

لأَصْبَحَ عَذْبًا سَلْسَبِيلاً بِحُورُهَا

>?

آخرُ:

يَا عَاشِقًا لِلْغَوَانِي مُغْرَمًا بِهَوَى

دَارِ الْغُرُورِ وَعَيْشٍ شِيبَ بِالْكَدَرِ

إِنَّ الْغَوَانِي الْحِسَانَ الْحُورَ مَسْكَنُهَا

دَارُ السُّرُورِ عَلَى فُرشٍ عَلَى السُّرُرِ

>?

ص: 553

.. فِي سُنْدُس الْفُرْشِ أَقْمَارٌ عَلَى سُرُرٍ

مِن الْيَواقِيتِ فِي قَصْرٍ مِن الدُّرَرِ

يُشَاهِدُ الْمُخَّ فِي السَّاقَينِ نَاظِرُهَا

مِنْ فَوْقِ سَبْعِينَ مَلْبُوسًا مِن الْحِبَرِ

قَدْ طِلْنَّ شَوْقًا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ كَمَا

يَشْتَاقُ لِلْغَائِبِ الْمَحْبُوبِ فِي السَّفَرِ

>?

اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوب ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

شِعْرًا:

اللهُ أَعْظَمَ مِمَّا جَالَ فِي الْفِكَر

وَحُكْمُهُ فِي الْبَرَايَا حُكْمُ مُقْتَدِرِ

مَوْلَىً عَظِيمٌ حَكِيمٌ وَاحِدٌ صَمَدٌ

حَيُّ قَدِ يُرْمُرِ يدُ فَاطِرَ الْفِطَرِ

يَا رَبُّ يَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ صَلِّ عَلَى

رَسُولِكَ الْمُجْتَبِي مِنْ أَطْهَرِ الْبَشَرِ

وَآلِهِ وَالصِّحَابِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ

أَهْلِ التُّقَى وَالْوَفَا وَالنُّصْحِ لِلْبَشَرِ

أَشْكُو إليْكَ أُمُورًا أَنْتَ تَعْلَمُهَا

فُتُورَ عَزْمِي وَمَا فَرَّطْتُ فِي عُمُرِي

وَفَرْطَ مَيْلِي إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ حَسَرَتْ

عَنْ سَاعِدِ الْغَدْرِ فِي الآصَالِ وَالْبُكَرِ

>?

ص: 554

.. يَا رَبِّ زِدْنِي تَوْفِيقًا وَمَعْرِفَةً

وَحُسْنَ عَاقِبَةٍ فِي الْوِرْدِ وَالصَّدَرِ

قَدْ أَصْبَحَ الْخَلْقُ فِي خَوْضٍ وَفِي ذُعُرٍ

وَزَوْرِ لَهْوٍ وَهُمْ فِي أَعْظَمِ الْخَطَرِ

وَلِلْقِيَامَةِ أَشْرَاطٌ وَقَدْ ظَهَرَتْ

بَعْضُ الْعَلامَاتِ وَالْبَاقِي عَلَى الأَثَرِ

قَلَّ الْوَفَاءُ فَلا عَهْدٌ وَلا ذِمَمُ

وَاسْتَحْكَمَ الْجَهْلُ فِي الْبَادِينَ وَالْحَضَرِ

دَعَوْا لأَدْيَانِهِمْ بِالْبَخْسِ مِنْ سُحْتٍ

وَأَظْهَرُوا الْفِسْقَ وَالْعُدْوَانَ بِالأَشَرِ

وَجَاهُروا بِالْمَعَاصِي وَارْتَضَوْا بِدَعًا

عَمَّتْ فَصَاحِبُهَا يَمْشِي بِلا حَذَرِ

وَطَالِبُ الْحَقِّ بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَتِرٌ

وَصَاحِبُ الإِفْكِ فِيهِمْ غَيْرُ مُسْتَتِرِ

وَالْوَزْنُ بِالْوَيْلِ وَالأَهْوَاءِ مُعْتَبَرٌ

وَالْوَزْنُ بِالْحَقِّ فِيهِمْ غَيْرُ مُعْتَبَرِ

وَقَدْ بَدَا النَّقْضُ بِالإِسْلامِ مُشْتَهِرًا

وَبُدِّلَتْ صَفْوَةُ الْخَيْرَاتِ بِالْكَدَرِ

فَسَوْفَ يَخْرُجُ دَجَّالُ الضَّلالَةِ فِي

هَرَجٍ وَقُحْطٍ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ

وَيَدَّعِي أَنَّهُ رَبُّ الْعِبَادِ وَهَلْ

تَخْفَى صِفَاتُ كَذُوبٍ ظَاهِرِ الْعَوَرِ

>?

ص: 555

.. فَنَارُهُ جَنَّةُ طُوبَى لِدَاخِلِهَا

وَزُورُ جَنَّتِهِ نَارٌ مِنَ السُّعُرِ

شَهْرٌ وَعَشْرٌ لَيَإلى طُولَ مُدَّتِهِ

لَكِنَّهُ عَجَبٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ

فَيَبْعَثُ اللهُ عِيسَى نَاصِرًا حَكَمًا

عَدْلاً وَيَعْضِدُهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ

فَيَتْبَعُ الْكَاذِبَ الْبَاغِي وَيَقْتُلُهُ

وَيَمْحَقُ اللهُ أَهْلَ الْبَغْي وَالضَّرَرِ

وَقَامَ عِيسَى يُقِيمُ الْحَقَّ مُتَّبِعًا

شَرِيعَةَ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ

فِي أَرْبَعِينَ مِنَ الأَعْوَامِ مُخْصِبَةٌ

فَيَكْسِبُ الْمَالَ فِيهَا كُلُّ مُفْتَقِرِ

حَتَّى إِذَا أَنْفَذَ اللهُ الْقَضَاءَ دَعَى

عِيسَى فَأَفْنَاهُمُ الْمَوْلَى عَلَى قَدْرِ

وَعَادَ لِلنَّاسِ عِيدُ الْخَيْرِ مُكْتَمِلاً

حَتَّى يَتِمَّ لِعِيسَى آخِرُ الْعُمُرِ

وَالشَّمْسُ حِينَ تُرَى فِي الْغَرْبِ طَالِعَةً

طُلُوعُهَا آيَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْكِبَرِ

فَعِنْدَ ذَلِكَ لا إِيمَانَ يُقْبَلُ مِنْ

أَهْلِ الْجُحُودِ وَلا عُذْرٌ لِمُعْتَذِرِ

>?

ص: 556

.. وَدَابَةٌ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا

وَسْمٌ مِنْ النُّورِ وَالْكُفَّارِ بِالْقَتَرِ

وَخَلْفُهَا الْفِتْنَةُ الدَّجَالُ قَبْلَهُمَا

أَوْ بَعْدَ قَدْ وَرَدَ الْقَوْلانِ فِي الْخَبَرِ

وَكَمْ خَرَابٍ وَكَمْ خَسْفٍ وَزَلْزَلَةٍ

وَفِيحِ نَارِ وَآيَاتٍ مِنَ النُّذُرِ

وَنَفْخَةٌ تُذْهِبُ الأَرْوَاحَ شِدَّتُهَا

إِلا الَّذِينَ عَنُوا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ

وَأَرْبَعُونَ مِنَ الأَعْوَامِ قَدْ حُسِبْتَ

لِكَيْ تُبَثَّ بِهَا الأَرْوَاحُ فِي الصُّوَرِ

قَامُوا حُفَاةً عُرَاةٌ مِثْلَ مَا خُلِّقُوا

مِنْ هَوْلِ مَا عَايَنُوا سَكْرَى بِلا سُكُرِ

قَوْمٌ مُشَاةٌ وَرُكْبَانٌ عَلَى نُجُبِ

عَلَيْهِمَا حُلَلٍ أَبْهَى مِنَ الزَّهْرِ

وَيُسْحَبُ الظَّالِمُونَ الْكَافِرُونَ عَلَى

وُجُوهِهِمْ وَتُحِيطُ النَّارُ بِالشَّرَرِ

وَالشَّمْسُ قَدْ أُدْنِيَتْ وَالنَّاسُ فِي عَرَقٍ

وَفِي زِحَامٍ وَفِي كَرْبٍ وَفِي حَصَرِ

وَالأَرْضُ قَدْ بُدِّلَتْ بَيْضَاءَ لَيْسَ لَهَا

مَخْفَى وَلا مَلْجَأٌ يَبْدُو لِمُسْتَتِرِ

>?

ص: 557

.. طَالَ الْوُقُوفُ فَجَاءُوا آدَمًا فَرَجُوا

شَفَاعَةً مِنْ أَبِيهِمْ أَوَّلُ الْبَشَرِ

فَرَدَّ ذَاكَ إِلَى نُوحٍ فَرَدَّهُمُوا

إِلَى الْخَلِيلِ فَأَبْدَى وَصْفَ مُفْتَقِرِ

إِلَى الْكَلِيمِ إِلَى عِيسَى فَرَدَّهُمُوا

إِلَى الْحَبِيبِ فَلَبَّاهَا بِلا حَصَرِ

فَيَسْأَلُ الْمُصْطَفَى فَصْلَ الْقَضَاءِ لَهُمْ

لِيَسْتَرِيحُوا مِنَ الأَهْوَالِ وَالْخَطَرِ

تُطْوَى السَّمَاوَاتُ وَالأَمْلاكُ هَابِطَةٌ

حَوْلَ الْعِبَادِ لِهَوْلٍ مُعْضِلٍ عَسِرِ

وَالشَّمْسُ قَدْ كُوِّرَتْ وَالْكُتُبُ قَدْ نُشِرَتْ

وَالأَنْجُمُ انْكَدَرَتْ نَاهِيكَ عَنْ كَدَرِ

وَقَدْ تَجَلَّى إِلَهُ الْعَرْشِ مُقْتَدِرًا

سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ كَيْفٍ وَعَنْ فِكَرِ

فَيَأْخُذُ الْحَقَّ لِلْمَظْلُومِ مُنْتَصِفًا

مِنْ ظَالِمٍ جَارٍ بِالْعُدْوَانِ وَالْبَطَرِ

وَالْوَزْنُ بِالْقِسْطِ وَالأَعْمَالُ قَدْ ظَهَرَتْ

وَوَزْنُهَا عِبْرَةٌ تَبْدُو لِمُعْتَبِرِ

وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ الأَوْثَانَ يَتْبَعُهَا

بِإِذْنِ رَبِّي وَصَارَ الْكُلُّ فِي سَقَرِ

>?

ص: 558

.. وَالْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمِيزَانِ قَدْ قُسِمُوا

ثَلاثَةً فَاسْمَعُوا تَقْسِيمَ مُخْتَصِرِ

فَسَابِقٌ رَجَحَتْ مِيزَانُ طَاعَتِهِ

لَهُ الْخُلُودُ بِلا خَوْفٍ وَلا ذُعُرِ

وَمُذْنِبٌ كَثُرَتْ آثَامُهُ فَلَهُ

شَفْعٌ بِأَوْزَارِهِ أَوْ عَفْوُ مُغْتَفِرِ

وَوَاحِدٌ قَدْ تَسَاوَتْ حَالَتَاهُ لَهُ

حَبْسٌ طَوِيلٌ وَبَيْنَ الْبِشْرِ وَالْحَصَرِ

وَيُكْرِمُ اللهُ مَثْوَاهُ بِجَنَّتِهِ

بِجُودِ فَضْلٍ عَمِيمٍ غَيْرِ مُنْحَصِرِ

وَفِي الطَّرِيقِ صِرَاطٌ مُدَّ فَوْقَ لَظَى

كَحَدٍّ سَيْفٍ سَطَا فِي دِقَّةِ الشَّعَرِ

النَّاسُ فِي وَرْدِهِ شَتَّى فَمُسْتَبَقٌ

كَالْبَرْقِ وَالطَّيْرِ أَوْ كَالْخَيْلِ فِي النَّظَرِ

سَاعِي وَمَاشٍ وَمَخْدُشٍ وَمُعْتَلِقٍ

نَاجٍ وَكَمْ سَاقِطٍ فِي النَّارِ مُنْتَشِرِ

لِلْمُؤْمِنِينَ وُرُودٌ بَعْدَهُ صَدَرٌ

وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ وِرْدٌ بِلا صَدَرِ

فَيَشْفَعُ الْمُصْطَفَى وَالأَنْبِيَاءُ وَمَنْ

يَخْتَارُهُ الْمَلِكُ الرَّحْمَنُ فِي زُمَرِ

>?

ص: 559

.. فِي كُلِّ عَاصٍ لَهُ نَفْسٌ مُقَصِّرَةٌ

وَقَلْبُهُ عَنْ سِوَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ بَرِي

فَأَوَّلُ الشُّفَعَا حَقًّا وَآخِرُهُمْ

مُحَمَّدٌ ذُو الْبَهَاءِ الطَّيِّبِ الْعَطِرِ

وَالْحَوْضُ يَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ غَدًا

كَالأَرْيِ يَجْرِي عَلَى إلياقُوتِ وَالدُّرَرِ

وَيَخْلُقُ اللهُ أَقْوَامًا قَدْ احْتَرَقُوا

كَانُوا أُولِي الْعِزَّةِ الشَّنْعَاءِ وَالنَّجَرِ

وَالنَّارُ مَثْوَى لأَهْلِ الْكُفْرِ كُلِّهِمُ

طِبَاقُهَا سَبْعَةٌ مُسْوَدَّةُ الْحُفَرِ

جَهَنَّمٌ وَلَظَى وَالْحَطْمُ بَيْنَهُمَا

ثُمَّ السَّعِيرُ كَمَا الأَهْوَالُ فِي سَقَرِ

وَتَحْتَ ذَاكَ جَحِيمٌ ثُمَّ هَاوِيَةٌ

يَهْوِي بِهَا أَبَدًا سُحْقًا لِمُحْتَقِرِ

فِي كُلِّ بَابٍ عُقُوبَاتٌ مُضَاعَفَةٌ

وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَسْطُوا عَلَى النَّفَرِ

فِيهَا غِلاظٌ شِدَادٌ مِنْ مَلائِكَةٍ

قُلُوبُهُمْ شِدَّةً أَقْسَى مِنَ الْحَجَرِ

لَهُمْ مَقَامِعُ لِلتَّعْذِيبِ مُرْصَدَةٌ

وَكُلُّ كِسْرٍ لَدَيْهِمْ غَيْرِ مُنْجَبِرِ

>?

ص: 560

.. سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ شَعْثَاءُ مُوحِشَةٌ

دَهْمَاءُ مُحْرِقَةٌ لَوَّاحَةُ الْبَشَرِ

فِيهَا الْجَحِيمُ مُذِيبٌ لِلْوُجُوهِ مَعَ الْ

أَمْعَاءِ مِنْ شِدَّةِ الأحْرَاقِ وَالشَّرَرِ

فِيهَا الْغِسَاقُ الشَّدِيدُ الْبَرْدِ يَقْطَعُهُمْ

إِذَا اسْتَغَاثُوا بِحَرِّ ثُمَّ مُسْتَعِرِ

فِيهَا السَّلاسِلُ وَالأَغْلالُ تَجْمَعُهُمْ

مَعَ الشَّيَاطِينِ قَسْرًا جَمْعَ مُنْقَهِرِ

فِيهَا الْعَقَارِبُ وَالْحَيَّاتُ قَدْ جُعِلَتْ

جُلُودُهُمْ كَالْبِغَالِ الدُّهْمِ وَالْحُمُرِ

وَالْجُوعُ وَالْعَطَشُ الْمُضْنِي لأَنْفُسِهِمْ

فِيهَا وَلا جَلَدٌ فِيهَا لِمُصْطَبِرِ

لَهَا إِذَا مَا غَلَتْ فَوْرٌ يُقَلِّبُهُمْ

مَا بَيْنَ مُرْتَفِع مِنْهَا وَمُنْحَدِرِ

جَمْعُ النَّوَاصِي مَعَ الأَقْدَامِ صَيَّرَهُمْ

كَالْقُوسِ مَحْنِيَّةً مِنْ شِدَّةِ الْوَتَرِ

لَهُمْ طَعَامٌ مِن الزَّقُّومِ يَعْلَقُ فِي

حُلُوقِهِمْ شَوْكُهُ كَالصَّابِ وَالصَّبِرِ

يَا وَيْلَهُمْ تُحْرِقُ النِّيرَانُ أَعْظُمَهُمْ

بِالْمَوْتِ شَهْوَتُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الضَّجَرِ

>?

ص: 561

.. ضَجَّوْا وَصَاحُوا زَمَانًا لَيْسَ يَنْفَعُهُمْ

دُعَاءُ دَاعٍ وَلا تَسْلِيمُ مُصْطَبِرِ

وَكُلُّ يَوْمٍ لَهُمْ فِي طُولِ مُدَّتِهِمْ

نَزْعٌ شَدِيدٌ مِن التَّعْذِيبِ وَالسَّعَرِ

كَمْ بَيْنَ دَارِ هَوَانٍ لا انْقِضَاءَ لَهَا

وَدَارِ أَمْنٍ وَخُلْدٍ دَائِمِ الدَّهَرِ

دَارِ الَّذِينَ اتَّقُوْا مَوْلاهُمُ وَسَعَوْا

قَصْدًا لِنَيْلِ رِضَاهُ سَعْيَ مُؤْتَمِرِ

وَآمِنُوا وَاسْتَقَامُوا مِثْلَ مَا أُمِرُوا

وَاسْتَغْرَقُوا وَقْتَهُمْ فِي الصَّوْمِ وَالسَّهَرِ

وَجَاهَدُوا وَانْتَهَوْا عَمَّا يُبَاعِدُهُمْ

عَنْ بَابِهِ وَاسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعَرِ

جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ بِهَا

فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوْضِ وَالزَّهَرِ

بِنَاؤُهَا فِضَّةٌ قَدْ زَانَهَا ذَهَبٌ

وَطِينُهَا الْمِسْكُ وَالْحَصْبَا مِنَ الدُّرَرِ

أَوْرَاقُهَا ذَهَبٌ مِنْهَا الْغُصُونُ دَنَتْ

بِكُلِّ نُوعٍ مِن الرَّيْحَانِ وَالثَّمَرِ

أَوْرَاقُهَا حُلَلٌ شَفَافَةٌ خُلِقَتْ

وَاللُّؤْلؤُ الرَّطْبُ وَالْمُرْجَانُ فِي الشَّجَرِ

>?

ص: 562

.. دَارُ النَّعِيمِ وَجَنَّاتُ الْخُلُودِ لَهُمْ

دَارُ السَّلامِ لَهُمْ مَأْمُونَةُ الْغِيَرِ

وَحَنَّةُ الْخُلْدِ وَالْمَأْوَى وَكَمْ جَمَعَتْ

جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مِنْ مُونِقٍ نَضِرِ

طِبَاقُهَا دَرَجَاتٌ عَدُّهَا مائَةٌ

كُلُّ اثْنَتَيْنِ كَبُعْدِ الأَرْضِ وَالْقَمَرِ

أَعْلَى مَنَازِلِهَا الْفِرْدَوْسُ عَإليهَا

عَرْشُ الإِلَهِ فَسَلْ وَاطْمَعْ وَلا تَذَرِ

أَنْهَارُهَا عَسَلٌ مَا فِيهِ شَائِبَةٌ

وَخَالِصُ اللَّبَنِ الْجَارِي بِلا كَدَرِ

وَأَطْيَبُ الْخَمْرِ وَالْمَاءِ الَّذِي خَلِيَتْ

مِنَ الصُّدَاعِ وَنُطْقِ اللَّهْوِ وَالسَّكَرِ

وَالْكُلُّ تَحْتَ جِبَالِ الْمِسْكِ مَنْبَعُهَا

يُجْرُونَهُ كَيْفَ شَاءُوا غَيْرَ مُحْتَجَرِ

فِيهَا نَوَاهِدُ أَبْكَارٌ مُزَيَّنَةٌ

يَبْرُزْنَ مِنْ حُلَلٍ فِي الْحُسْنِ وَالْخَفَرِ

نِسَاؤُهَا الْمُؤْمِنَاتُ الصَّابِرَاتُ عَلَى

حِفْظِ الْعُهُودِ مَعْ الإِمْلاقِ وَالضَّرَرِ

كَأَنَّهُنَّ بُدُور فِي غُصُون نَقَا

عَلَى كَثِيبٍ بَدَتْ فِي ظُلْمَةِ السَّحَرِ

>?

ص: 563

.. كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يُعْطَى قُوَى مائَةً

فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالإِفْضَا بِلا خَوَرِ

طَعَامُهُمْ رَشْحُ مِسْكٍ كُلَّمَا عَرِقُوا

عَادَتْ بُطُونُهُمْ فِي هَضْمِ مُنْضَمِرِ

لا جُوعَ لا بَرْدَ لا هَمٌ وَلا نَصَبٌ

بَلْ عَيْشُهُمْ عَنْ جَمِيعِ النَّائِبَاتِ عَرِي

فِيهَا الْوَصَائِفُ وَالْغُلْمَانُ تَخْدُمُهُمْ

كَلُؤْلُؤ فِي كَمَالِ الْحُسْنِ مُنْتَثِرِ

فِيهَا الْغِنَا وَالْجَوَارِي الْغَانِيَاتُ لَهُمْ

بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ لِلْمَوْلَى مَعَ السَّمَرِ

لِبَاسُهُمْ سُنْدُسٌ حُلاهُمْ ذَهَبٌ

وَلُؤْلُؤٌ وَنَعِيمٌ غَيْرُ مُنْحَصِرِ

وَالذِّكْرُ كَالنَّفَسِ الْجَارِي بِلا تَعَبٍ

وَنُزِّهُوا عَنْ كَلامَ اللَّغْوِ وَالْهَذَرِ

وَأَكْلُهَا دَائِمٌ لا شَيْءَ مُنْقَطِعٌ

كَرِّرْ أَحَادِيثَهَا فِي أَطْيَبِ الْخَبَرِ

فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ مَا لَمْ يَجْرِي فِي خَلَدٍ

وَلَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ

فِيهَا رِضَا الْمَلِكَ الْمَوْلَى بِلا غَضَبٍ

سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ نَفْعٌ بِلا غِيَرِ

>?

ص: 564

.. لَهُمْ مِن اللهِ شَيْءٌ لا نَظِيرَ لَهُ

سَمَاعُ تَسْلِيمِهِ وَالْفَوْزُ بِالنَّظَرِ

بِغَيْرِ كَيْفٍ وَلا حَدٍّ وَلا مَثلٍ

حَقًّا كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ

وَهِيَ الزِّيَادَةُ وَالْحُسْنَى الَّتِي وَرَدَتْ

وَأَعْظَمُ الْمَوْعِدِ الْمَذْكُورِ فِي الزُّبُرِ

للهِ قَوْمٌ أَطَاعُوهُ وَمَا قَصَدُوا

سِوَاهُ إِذَا نَظَرُوا الأَكْوَانَ بِالْعِبَرِ

وَكَابَدُوا الشَّوْقَ وَالأَنْكَادُ قُوَّتُهُمْ

وَلازَمُوا الْجِدَّ وَالأَذْكَارَ فِي الْبُكَرِ

يَا مَالِكَ الْمُلْكِ جُدْ لِي بِالرِّضَا كَرَمًا

فَأَنْتَ لِي مُحْسِنٌ فِي سَائِرِ الْعُمُرِ

يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى الْهَادِي الْبَشِيرِ لَنَا

وَآلِهِ وَانْتَصِرْ يَا خَيْرَ مُنْتَصِرِ

مَا هَبَّ نَشْرُ الصَّبَا وَاهْتَزَّ نَبَتُ رُبَا

وَفَاحَ طِيبُ شَذَا فِي نَسْمَةِ السَّحَرِ

أَبْيَاتُهَا تِسْعُ عَشْرٍ بَعْدَهَا مائَةٌ

كِلاهُمَا وَعْظُهَا أَبْهَى مِن الدُّرَرِ

>?

اللَّهُمَّ أعذنا من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وصلع الدين وغلبة الرِّجَال، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك، واقطع رجاءنا عمن سواك، اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها، وتعلم حاجتنا فاقضها، كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب

ص: 565

العالمين، اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

موعظة

عباد الله لَقَدْ امتن الله على خاتم رسله، وصفوة خلقه، سيدنا مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ بأشرف المنن، واختصه بأجل النعم، وآتاه من فضله ما لم يؤت أحدًا سواه، أدبه فأحسن تأديبه، وهذبه فأكمل تهذيبه، ومنحه من الصفات الجميلة غايتها، ومن الأَخْلاق الكريمة نهايتها، ثُمَّ أثنى عَلَيْهِ فَقَالَ:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} قَالَتْ عَائِشَة رضي الله عنها: كَانَ خلقه القرآن يرضى برضاه، ويسخط بسخطه، وكَانَ ? أوسع النَّاس صدرًا، وأصدقهم قولاً، وإلينهم جانبًا، وأكرمهم عشرةً، يؤلف النَّاس ولا ينفرهم، ويكرم كريم كُلّ قوم، ويوليه عَلَيْهمْ، يتفقَدْ أصحابه ويعطي كُلّ جلَيْسَ نصيبه حتى لا يحسب جليسه أحدًا أكرم عَلَيْهِ منه، من جالسه أو قاربه بحاجة سايره، حتى يكون هُوَ المنصرف عَنْهُ، قَدْ وسع النَّاس بسطه وخلقه، فصار لَهُمْ أبًا رحيمًا. وصاروا عنده في الحق سواء، لذَلِكَ اجتمعت عَلَيْهِ القُلُوب بعد نفورها، وتألفت النُّفُوس بعد جموحها، تحقيقًا لقوله تَعَالَى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وكَانَ ? حليمًا مَعَ الأَذَى، عفوا مَعَ القدرة، صبروا على المكاره، وتلك خصال أدبه بها ربه، فَقَالَ:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .

سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن تفسيرها، فَقَالَ: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وكَانَ صلى الله عليه وسلم أكرم النَّاس، وأسخاهم يدا، وأطيبهم

ص: 566

نفسًا، ما سئل عن شَيْء قط فَقَالَ لا، من سأله حَاجَة لم يرده إِلا بها، أو بميسور من القول، يجيب دعوة من دعاه، ويقبل الهدية لو كأَنْتَ كراعًا، ويكافئ عَلَيْهَا خيرًا منها، وكَانَ عليه الصلاة والسلام أشجع النَّاس، وأعظم النَّاس غيرة وإقدامًا، فر الفرسان والأبطال عَنْهُ غير مرة، وَهُوَ ثابت لا يبرح مقبل لا مدبر، ولا يتزحزح، وكَانَ صلوات الله وسلامه عَلَيْهِ أشد النَّاس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء. قال أبو سعيد الخدري: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكَانَ إذا كره شَيْئًا عرفناه في وجهه وكَانَ لا يخاطب أحدًا بما يكره حياء وكرمًا.

أما شفقته ورحمته ورأفته ولطفه بجَمِيع الخلق، فنما ذكر الله عَنْهُ بقوله:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، وَقَالَ عز من قائل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وأما تواضعه – مَعَ علو منصبه ومكانته، ورفع رتبته - فقَدْ خيره الله بين أن يكون ملكًا نبيًا، أو عبدًا نبيًا، فاختار عبدًا نبيًا، وكَانَ يَقُولُ:«إنما أَنَا عبد، آكل كما يأكل الْعَبْد، وأجلس كما يجلس الْعَبْد» وكَانَ يجالس الفقراء، ويعود المساكين، ويجلس مَعَ أصحابه مختلطًا بِهُمْ كأنه واحد مِنْهُمْ، وكَانَ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ أحيني مسكينً، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» .

وأما عدله وأمانته، وعفته ومروءته، ووقاره وهيبته، وصدقه ووفاؤه بالعهد وحفظه للوعد، وصلته للأرحام، وعطفه على الأيتام، فقَدْ بلغ في كُلّ ذَلِكَ الغاية، ووصل إلى النهاية، وأما زهده وورعه، فقَدْ قال صلى الله عليه وسلم: «إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مَكَّة ذهبًا، فقُلْتُ: لا

ص: 567

يا رب. أجوع يومًا، وأشبع يومًا، فأما اليوم الَّذِي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الَّذِي أشبع فيه فأحمدك وأثني عَلَيْكَ» . وقَالَتْ أم الْمُؤْمِنِين عَائِشَة رضي الله عنها: أَنَا كنا آل مُحَمَّد لنمكث شهرًا ما نستوقَدْ نارًا، إن هُوَ إِلا التمر والماء، وأما خوفه من ربه، وطاعته لَهُ فعَلَى قَدْرِ عمله به ولذَلِكَ قال:«لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وَلَبَكَيْتُم كثيرًا، أرى ما لا ترون، وأسمَعَ ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إِلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله وَاللهِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وَلَبَكَيْتُم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفراش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إِلَى اللهِ تَعَالَى» . وكَانَ صلى الله عليه وسلم يصلى حتى تورمت قدماه، فَقَالَتْ له عَائِشَة: أتكلف هذا وقَدْ غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فَقَالَ: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» ؟ هَذَا يا عباد الله قليل من كثير من صفات سيد المرسلين ذي الخلق العَظِيم، والقدر الفخيم، فهل لكم أن تتأملوا هذه الصفات الجليلة والخصال الحميدة، فتمسكوا بها وتسيروا على نهجها قال تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآيَة.

شِعْرًا:

يَا نَفْسُ تُوبِي فَإِنَّ الْمَوْتَ قَدْ حَانَا

وَاعْصِي الْهَوَى فَالْهَوَى مَا زَالَ فَتَّانَا

أَمَا تَرَيْنَ الْمَنَايَا كَيْفَ تَلْقُطُنَا

لَقْطًا فَتُلْحِقُ أُخْرَانَا بِأُولانَا

>?

ص: 568

.. فِي كُلِّ يَوْمٍ لَنَا مَيِّتٌ نُشَيِّعُهُ

نَرَى بِمَصْرَعِهِ آثَارَ مَوْتَانَا

يَا نَفْسُ مَإلى وَلِلأَمْوَالِ أَتْرُكُهَا

خَلْفِي وَأُخْرَجُ مِنْ دُنْيَايَ عُرْيَانَا

أَبَعْدَ خَمْسِينَ قَدْ قَضَيْتُهَا لِعِبَا

قَدْ آنَ أَنْ تَقْصُرِي قَدْ آنَ قَدْ آنَا

مَا بِالُنَا نَتَعَامَى عَنْ مَصَائِرُنَا

نَنْسَى بِغَفْلَتِنَا مَنْ لَيْسَ يَنْسَانَا

نَزْدَادُ حِرْصًا وَهَذَا الدَّهْرُ يَزْجُرَنَا

كَانَ زَاجِرَنَا بِالْحِرْصِ أَغْرَانَا

أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ

كَانَتْ تَخِر لَهُ الأَذْقَانُ إِذْعَانَا

صَاحَتْ بِهِمْ حَادِثَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا

مُسْتَبْدِلِينَ مِن الأَوْطَانِ أَوْطَانَا

خَلَّوا مَدَائِنَ كَانَ الْعِزُّ مَفْرَشُهَا

وَاسْتَفْرَشُوا حُفُرًا غُبْرًا وَقِيعَانَا

يَا رَاكِضًا فِي مَيَادِين الْهَوَى مَرِحًا

وَرَافِلاً فِي ثِيَابِ الْغَيِّ نَشْوَانَا

مَضَى الزَّمَانُ وَوَلَّى الْعُمْرُ فِي لَعِبٍ

يَكْفِيكَ مَا قَدْ مَضَى قَدْ كَانَ مَا كَانَا

>?

ص: 569

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوفيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكِ، وَأَرَشِدْنَا إلى السَّعْيِ إلى مَا يُرْضِيكَ وأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ.

اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ أَوَامِرَكَ، واجتناب نواهيك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

فَصْلٌ

في وصف نساء أَهْل الْجَنَّة

عَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لغَدْوَةٌ في سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدِهِ - يَعْنِي سَوْطَهُ - مِنْ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ اطَّلَعَتْ مَنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيْحًا ولأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . رَوَاهُ البُخَاريِ وَمُسْلِمٌ وَالطَّبَرانِيّ مُخْتَصَرًا بِإسْنَادٍ جَيِّدٍ، إِلا أَنَّهُ قَالَ:«ولَتَاجُهَا عَلَى رَأسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .

(النصِيفُ) : الخِمَارُ.

(أَلْقَابُ) : هُوَ القَدْرُ، وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: قَابُ القَوْسِ مِنْ مَقْبَضِهِ إلى رَأْسِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، والتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ وَلِكُلِّ امْرئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يَرَى مُخَّ سُوقِهما مِنْ وَرَاءِ اللحْمِ، وَمَا فيِ الجَنَّةِ أَعْزَبٌ» . رَواهُ

ص: 570

البُخَارِيّ وَمُسْلِمٌ.

وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً حَتَّى يُرَى مُخُّهَا وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: {كَأَنَّهُنَّ إلىاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فَأَمَّا إلياقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لأُرِيتَهُ مِنْ وَرَائِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا، وابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِه، والتِّرْمِذِي واللفظُ لَهُ وَقَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَهُوَ أَصَحُّ.

وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حدثني جبريل عليه السلام قال: يدخل الرجل على الحوراء فتستقبله بالمعانقة، والمصافحة» . قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فبأي بنان تعاطيه، لو أن بعض بنانها بدا لغلب ضوؤه ضوء الشمس والقمر، ولو أن طاقة من شعرها بدت لملأت ما بين المشرق والمغرب من طيب ريحها، فبينا هُوَ متكئ معها على أريكته إذ أشرف عَلَيْهِ نور من فوقه، فيظن أن الله عز وجل قَدْ أشرف على خلقه، فإذا حوراء تناديه: يا ولي الله، أما لنا فيك من دولة؟ ، فَيَقُولُ: ومن أَنْتَ يا هذه؟ ، فَتَقُول: أَنَا من اللواتي قال الله تبارك وتعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} فيتحول عندها، فإذا عندها من الجمال والكمال ما لَيْسَ مَعَ الأولى، فبينا هُوَ متكئ معها على أريكته، وإذا حوراء أخرى، تناديه: يا ولي الله، أما لنا فيك من دولة؟ ، فَيَقُولُ: ومن أَنْتَ يا هذه؟ فَتَقُول: أَنَا من اللواتي قال الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ،

ص: 571

فلا يزال يتحول من زوجة إلى زوجة» . رواه الطبراني في الأوسط.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبي صلى الله عليه وسلم في قَوْلِهِ: {كَأَنَّهُنَّ إلياقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قَالَ: «يَنْظُرُ إِلَى وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنْ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حَلة يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ» . رواه أَحَمَد، وابن حبان في صحيحه في حديث تقدم بنحوه، والبيهقي بإسناد ابن حبان، واللفظ له.

قال ابن القيم رحمه الله في صفة عرائس أَهْل الْجَنَّة وحسنهن وجمالهن ووصالهن:

وَإِذَا بَدَتْ فِي حُلَّةٍ مِنْ لُبْسِهَا

وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ

تَهْتَزُّ كَالْغُصْنِ الرَّطِيبِ وَحَمْلُهُ

وَرْدٌ وَتُفَّاحٌ عَلَى رُمَّانِ

وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيِهَا وَيَحِقُ ذَا

كَ لِمِثْلِهَا فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ

وَوَصَائِفٌ مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا

وَعَلى شَمَائِلِهَا وَعَنْ أَيْمَانِ

كَالْبَدْرِ لَيْلَةَ تِمِّهِ قَدْ حُفَّ فِي

غَسَقِ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الْمِيزَانِ

>?

ص: 572

.. فَلِسَانِهِ وَفُؤَادِهِ وَالطَّرْفُ فِي

دَهَشٍ وَإِعْجَابٍ وَفِي سُبْحَانِ

فَالْقَلْبُ قَبْلَ زِفَافِهَا فِي عُرْسِهِ

وَالْعُرْسُ إِثْرَ الْعُرْسِ مُتَّصِلانِ

حَتَّى إِذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا

أَرَأَيْتَ إِذْ يَتَقَابَلُ الْقَمَرَانِ

فَسَلِ الْمُتَيَّمَ هَلْ يَحِلُّ الصَّبْرُ عَنْ

ضَمٍّ وَتَقْبِيلٍ وَعَنْ فُلْتَانِ

وَسَلْ الْمُتَيَّمَ أَيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ

فِي أَيِّ وَادٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ

وَسَلْ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ حَالَتُهُ وَقَدْ

مُلِئَتْ لَهُ الأُذُنَانِ وَالْعَيْنَانِ

مِنْ مَنْطِقٍ رَقَّتْ حَوَاشِيهِ وَوَجْـ

ـهٍ كَمْ بِهِ لِلشَّمْسِ مِنْ جَرَيَانِ

وَسَلْ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ عِيشَتُهُ إِذَا

وَهُمَا عَلَى فُرَشَيْهِمَا خَلَوَانِ

يَتَسَاقَطَانِ لَئَآلِئًا مَنْثُورَةً

مِنْ بَيْنِ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمَانِ

وَسَلْ الْمَتَيَّمَ كَيْفَ مَجْلِسُهُ مَعَ الْـ

مَحْبُوبَ فِي رَوْحٍ وَفِي رَيْحَانِ

>?

ص: 573

.. وَتَدُورُ كَاسَاتُ الرَّحِيقِ عَلَيْهِمَا

بِأَكُفٍّ أَقْمَارٍ مِن الْوِلْدَانِ

يَتَنَازَعَانِ الْكَأْسَ هَذَا مَرَّةً

وَالْخُودُ أُخْرَى ثُمَّ يَتَّكِئَانِ

فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أَرَأَيْتَ مَعْـ

شُوقَيْنِ بَعْدَ الْبُعْدِ يَلْتَقِيَانِ

غَابَ الرَّقِيبُ وَغَابَ كُلُّ مُنَكِّدٍ

وَهُمَا بِثَوْبِ الْوَصْلِ مُشْتَمِلانِ

أَتَرَاهُمَا ضَجِرَيْنِ مِنْ ذَا الْعَيْشِ لا

وَحَيَاةِ رَبِّكَ مَا هُمَا ضَجِرَانِ

وَيَزِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا حُبًّا لِصَا

حِبِهِ جَدِيدًا سَائِرَ الأَزْمَانِ

وَوِصَالُهُ يَكْسُوهُ حُبًّا بَعْدَهُ

مُتَسَلْسِلاً لا يَنْتَهِي بِزَمَانِ

فَالْوَصْلُ مَحْفُوفٌ بِحُبٍّ سَابِقٍ

وَبِلاحِقٍ وَكِلاهُمَا صِنْوَانِ

فَرْقٌ لَطِيفٌ بَيْنَ ذَاكَ وَبَيْنَ ذَا

يَدْرِيهِ ذُو شُغْلٍ بِهَذَا الشَّانِ

وَمَزِيدُهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ حَاصِلٌ

سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالسُّلْطَانِ

>?

ص: 574

.. يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ

جَدَّ الرَّحِيلُ وَلَسْتَ بِإليقْظَانِ

سَارَ الرِّفَاقُ وَخَلَّفُوكَ مَعَ الأُولى

قَنَعُوا بِذَا الْحَظِّ الْخَسِيسِ الْفَانِ

وَرَأَيْتَ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا

فَتَبَعْتَهُمْ فَرَضِيتَ بِالْحُرْمَانِ

لَكِنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتِي عَجْزٍ وَجَهْلٍ

بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ

مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِاللُّحُوقِ مَعَ الْقُعُو

دِ عَن الْمَسِيرِ وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ

وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِينَ يَنْكَشِفُ الْغِطَا

مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إِمْكَانِ

>?

وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

(فَصْلٌ)

قال ابن القيم رحمه الله

(وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقرًا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العَظِيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جَمِيع الْخَيْر بحذافيره، وطهرها من كُلّ عيب وآفة ونقص.

فإن سألت عن أرضها وتربتها، فهي المسك والزعفران.

ص: 575

وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن.

وإن سألت عن بلاطها، فهو المسك الأذفر.

وإن سألت عن حصبائها، فهو اللؤلؤ والجوهر.

وإن سألت عن بنائها، فلبنة من فضة، ولبنة من ذهب.

وإن سألت عن أشجارها، فما فيها شجرة إِلا وساقها من ذهب وفضة، لا من الحطب والخشب.

وإن سألت عن ثمرها، فأمثال القلائل إلين من الزبد، وأحلى من العسل.

وإن سألت عن ورقها، فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.

وإن سألت عن أنهارها، فأنهار من ماء غير آسن {وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} .

وإن سألت عن طعامهم، فـ {فَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} .

وإن سألت عن شرابهم، فالتسنيم، والزنجبيل والكافور.

وإن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير ،

وإن سألت عن سعة أبوابها، فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عَلَيْهِ يوم وَهُوَ كظيظ من الزحام.

وإن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها، فإنها تستفز بالطرب لمن

ص: 576

يسمعها.

وإن سألت عن ظلها، ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها.

وإن سألت عن سعتها، فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألف عام.

وإن سألت عن خيامها وقبابها، فالخيمة الواحدة من درة مجوفة، طولها ستون ميلاً من تلك الخيام.

وإن سألت عن علإليها وجواسقها، فهي {غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .

وإن سألت عن ارتفاعها، فَانْظُرْ إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الَّذِي لا تكاد تناله الأبصار.

وإن سألت عن لباس أهلها، فهو الحرير والذهب.

وإن سألت عن فُرُشِهم فَبَطائِنُها مِن اسْتَبْرَقٍ مَفْرُوشَةٍ في أَعْلَى ألرُّتَبِ.

وإن سألت عن أرائكها، فهي الأسرة عَلَيْهَا البشخانات وهي الحجال، مزرة بأزرار الذهب، فمالها من فروج ولا خلال.

وإن سألت عن وجوه أهلها وحسنهم، فعلى صورة القمر.

وإن سألت عن أسنانهم، فأبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم عليه السلام أبي البشر.

ص: 577

وإن سألت عن أسماعهم، فغناء أزواجهم من الحور العين وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما خطاب رب العالمين.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ في سماع أَهْل الْجَنَّة)

وَقَالَ في النونية

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيُرْسِلُ رَبُّنَا

رِيحًا تَهُزُّ ذَوَائِبَ الأَغْصَانِ

فَتُثِير أَصْوَاتًا تَلَذُّ لِمَسْمَعِ الْـ

إِنْسَانِ كَالنَّغَمَاتِ بِالأَوْزَانِ

يَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ لا تَتَعَوَّضِي

بِلَذَاذَةِ الأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ

أَو مَا سَمِعْتَ سَمَاعَهم فِيهَا غِنَا

ءَ الْحُورِ بِالأَصْوَاتِ وَالأَلْحَانِ

وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَإِنَّهُ

مُلِئَتْ بِهِ الأَذُنَانِ بِالإِحْسَانِ

وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَطِيبِهِ

مِنْ مِثْلِ أَقْمَارٍ عَلَى أَغْصَانِ

وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَلَمْ أَقُلْ

ذَيَّاكَ تَصْغِيرًا لَهُ بِلِسَانِ

>?

ص: 578

.. وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَكَمْ بِهِ

لِلْقَلْبِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَشْجَانِ

مَا ظَنَّ سَامِعُهُ بِصَوْتِ أَطْيَبِ الْـ

أَصْوَاتِ مِنْ حُورِ الْجِنَانِ حِسَانِ

نَحْنُ النَّوَاعِمُ وَالْخَوَالِدُ خَيَّرَا

تٌ كَامِلاتُ الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ

لَسْنَا نَمُوتُ وَلا نَخَافُ وَمَا لَنَا

سَخَطٌ وَلا ضَغَنٌ مِن الأَضْغَانِ

طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَذَاكَ طُو

بَى لِلَّذِي هُوَ حَظُّنَا لَفْظَانِ

فِي ذَاكَ آثَارٌ رُوِينَ وَذِكْرُهَا

فِي التِّرْمِذِيِّ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِي

وَرَوَاهُ يَحْيى شَيْخُ الأَوْزَاعِي تَفْـ

سِيرًا لِلَفْظَةِ يُحْبَرُونَ أَغَانِي

نَزِّهْ سَمَاعَكَ إِنْ أَرَدْتَ سَمَاعَ ذَيَّـ

ـاكَ الْغِنَا عَنْ هَذِهِ الأَلْحَانِ

لا تُؤْثِرِ الأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَتُحْـ

رَمُ ذَا وَذَا يَا ذِلَّةَ الْحُرْمَانِ

>?

ص: 579

.. إِن اخْتِيَارَكَ لِلسَّمَاعِ النَّازِل الْـ

أَدْنَى عَلَى الأَعْلَى مِنَ النُّقْصَانِ

وَاللهِ إِنَّ سَمَاعَهُمْ فِي الْقَلْبِ وَالْـ

أَبْدَانِ مِثْلُ السُّمِّ فِي الأَبْدَانِ

وَاللهِ مَا انْفَكَّ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ

أَبَدًا مِن الإِشْرَاكِ بِالرَّحْمَنِ

فَالْقَلْبُ بَيْتُ الرَّبِّ جل جلاله

حُبًّا وَإِخْلاصًا مَعَ الإِحْسَانِ

فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالسَّمَاعِ أَصَارَهُ

عَبْدًا لِكُلِّ فُلانَةٍ وَفُلانِ

حُبُّ الْكِتَابِ وَحُبُّ أَلْحَانِ الْغِنَا

فِي قَلْبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ

>?

وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

(فَصْلٌ)

وإن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عَلَيْهَا، فنجائب أنشأها الله مِمَّا شَاءَ تسير بِهُمْ حيث شاءوا من الجنان.

وإن سألت عن حليهم وشارتهم فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان.

ص: 580

وإن سألت عن غلمانهم، (فَوِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ) .

وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم، فهن الكواعب والأتراب، اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ منثور ما حوته الثغور، وللرقة واللطافة ما دارت عَلَيْهِ الخصور، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت حبها فقل ما تشاء في تقابل النيرين، وإذا حادثته فما ظنك بمحادثة الحبين وإن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين، يرى وجهه في صحن خدها، كما يرى في المرآة التي جلاها صقيلها، ويرى مخ ساقها من وراء اللحم، ولا يستره جلدها ولا عظمها ولا حللها.

لو اطلعت على الدُّنْيَا لملأت ما بين الأَرْض والسماء ريحًا، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلاً وتكبيرًا وتسبيحًا، ولتوخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كُلّ عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها بِاللهِ الحي القيوم.

ونصيفها على رأسها خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها، ووصالها أشهى إليه مِنْ جَمِيعِ أمانيها، لا تزداد على طول الأحقاب إِلا حسنًا وجمالاً، ولا يزداد لها طول المدى إلا محبة ووصالاً، مبرأة من الحمل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا

ص: 581

وإن سألت عن حسن العشرة ولذة ما هنالك، فهن الْعَرَب المتحببات إلى الأزواج، بلطافة التبعل بالروح أي امتزاج، فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الْجَنَّة من ضحكها، وإذا انتقُلْتُ من قصر إلى قصر قُلْتُ هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها، وإذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة، وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة والمخاصرة.

وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلالُ لَوْ أَنَّهُ

لَمْ يَجْنِ قَتْلَ الْمُسْلِمِ الْمُتَحَرِّزِ

إِنْ طَالَ لَمْ يُمْلَلْ وَإِنْ هِيَ حَدَّثَتْ

وَدَّ الْمُحَدَّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزِ

>?

آخر:

يُعَادُ حَدِيْثُهَا فَيَزِيْدُ حُسْنًا

وَقَدْ يُسْتَقْبَحُ الشَيْء المُعَادُ

>?

وإن غَنَّّتْ فَيَا لَذَّةَ الأبْصَارِ والأَسْمَاع، وإن آنَسَتْ وَأَمْتعَتْ فَيَا حَبَّذا تِلْكَ المؤَانَسَةِ والامْتَاع، وإنْ قَبلَتْ فلا شيْءَ أشْهَى مِنْ ٍذَلِكَ التّقِْبيْلِ، وإنْ نَوَّلْتَ فلا ألذَّ وَلَا أَطْيَبَ مِنْ ذَلِكَ التَّنْوِيْلِ.

هَذَا وإن سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه، كما تَرَى الشمس في الظهيرة، والقمر ليلة البدر، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه، وَذَلِكَ موجود في الصحاح، والسُّنَن والمسانيد، من رواية جرير وصهيب وأنس وأَبِي هُرَيْرَةِ وأبي مُوَسى وأبي سعيد: فاستمَعَ يوم ينادي المنادي: يا أَهْل الْجَنَّة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحي على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قَدْ أعدت لَهُمْ، فيستوون،

ص: 582

يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها.

قَدْ قصرت طرفها على زوجها، فلا تطمح لأحد سواه، وقصر طرفه عَلَيْهَا فهي غاية أمنيته وهواه، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها بطاعته أطاعته، وإن غاب عَنْهَا حفظته، فهو معها في غاية الأماني والأمان.

هَذَا ولم يطمثها قبله إنس ولا جان، كُلَّما نظر إليها ملأت قَلْبهُ سرورًا، وكُلَّما حدثته ملأت أذنه لؤلؤًا مَنْظُومًا منثورًا.

وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نورًا.

وإن سألت عن السن، فأتراب في أعدل سن الشباب.

وإن سألت عن الحسن، فهل رَأَيْت الشمس والقمر.

وإن سألت عن الحدق، فأحسن سواد في أصفى بياض في أحسن حور.

وإن سألت عن القدود، فهل رَأَيْت أحسن الأغصان، وإن سألت عن النهود فهن الكواعب، نهودهن كألطف الرمان.

وإن سألت عن اللون، فكأنه إلياقوت والمرجان.

وإن سألت عن حسن الخلق، فهن الخيرات الحسان، اللات جمع لهن بين الحسن والإحسان، فأعطين جمال الباطن والظاهر، فهن أفراح النُّفُوس، وقرة النواظر.

ص: 583

على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الَّذِي جعل لَهُمْ موعدًا وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي مِنْهُمْ أحدًا، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ثُمَّ نصبت لَهُمْ منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم – وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء – على كثبان المسك، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا.

حتى إذا استقرت بِهُمْ مجالسهم، واطمأَنْتَ بِهُمْ أماكنهم، نادى المنادي: يا أَهْل الْجَنَّة إن لكم عَنْدَ الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هُوَ؟ ألم يبيض وجوهنا. ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الْجَنَّة، ويزحزحنا عن النار؟ فبينما هم كَذَلِكَ إذ سطع لَهُمْ نور أشرقت له الْجَنَّة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، قَدْ أشرف عَلَيْهمْ من فوقهم،وَقَالَ: يا أَهْل الْجَنَّة سلام عليكم، فلا ترد هذه التحية بأحسن من نقولهم: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلام ومنك السَّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لَهُمْ الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم، وَيَقُولُ: يا أَهْل الْجَنَّة، فيكون أول ما يسمعون منه تَعَالَى: أين عبادي الَّذِينَ أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهَذَا يوم المزيد. فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قَدْ رضينا فارض عنا، فَيَقُولُ: يا أَهْل الْجَنَّة: إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هَذَا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه. فيكشف لَهُمْ الرب جل جلاله الحجب ويتجلى لَهُمْ، فيغشاهم من نوره ما لو أن الله تَعَالَى قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذَلِكَ المجلس أحد إِلا حاضره ربه تَعَالَى محاضرة، حتى إنه

ص: 584

ليَقُولُ: يا فلان أتذكر يوم فعلت كَذَا وَكَذَا؟ يذكره ببعض غدراته في الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يا رب ألم تغفر لي؟ فَيَقُولُ: بلى بمغفرتي بلغتك منزلتك هذه، فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قرة عيون الأَبْرَار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخِرَة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .

فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا

مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوُّ فَهَلْ تَرَى

نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ

>?

اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ لا خوفٌ عَلَيْهمْ ولا هُمْ يَحْزَنونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

شِعْرًا:

أَرَى النَّاسَ فِي الدُّنْيَا مُعَافًا وَمُبتَلَى

وَمَا زَالَ حُكْمُ اللهِ فِي الأَرْضِ مُرْسَلا

مَضَى فِي جَمِيعِ النَّاسِ سَابِقُ عِلْمِهِ

وَفَصَّلَهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَوَصَّلا

وَلَسْنَا عَلى حُلْوِ الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ

نَرَى حَكَمًا فِينَا مِنَ اللهِ أَعْدَلا

بِلا خَلْقَهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَرِّ فِتنَةً

لِيَرْغَبَ فِيمَا فِي يَدَيْهِ وَيَسْأَلا

>?

ص: 585

.. وَلَمْ يَبْغِ إِلا أَنْ نَبُوءَ بِفَضْلِهِ

عَلَيْنَا وَإِلا أَنْ نَتُوبَ فَيَقْبَلا

هُوَ الأَحَدُ الْقَيُّومُ مِنْ بَعْدِ خَلْقِهِ

وَمَا زَالَ فِي دَيْمُومَةِ الْخَلْقِ أَوَّلا

وَمَا خَلَقَ الإِنْسَانَ إِلا لِغايَةٍ

وَلَمْ يَتْرُكِ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ مُهْمَلا

كَفَى عِبْرَةً أَنَّا وَأَنَّكَ يَا أَخِي

نُصَرِّفُ تَصْرِيفًا لَطِيفًا وَنُبْتَلَى

كَانَا وَقَدْ صِرْنَا حَدِيثًا لِغَيْرِنَا

يُخَاضُ كَمَا خُضْنَا الْحَدِيثَ بِمَنْ خَلا

تَوَهَّمْتُ قَوْمًا قَدْ خَلُوا فَكَأَنَّهُمُ

بِأَجْمَعِهِم كَانُوا خَيَالاً تَخَيَّلا

وَلَسْتُ بِأَبْقَى مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ

وَلَكِنَّ لِي فِيهَا كِتَابًا مُؤَجَّلا

وَمَا النَّاسُ إِلا مَيِّتٌ وَابْنُ مَيِّتٍ

تَأَجَّلَ حَيٌّ مِنْهُمْ أَوْ تَعَجَّلا

فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يُخْلِفُ وَعدَهُ

بِمَا كَانَ أَوْصَى الْمُسْلِمِينَ وَأَرْسَلا

هُوَ الْمَوْتُ يَا ابْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثُ بَعْدَهُ

فَمِنْ بَيْنِ مَبْعُوثٍ مُخفًا وَمُثْقَلَا

وَمِنْ بَيْنِ مَسْحُوبٍ عَلَى حُرٍّ وَجْهِهِ

وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يَأْتِي أَغَرَّ مُحَجَّلا

>?

ص: 586

.. عَشِقْنَا مِنَ اللَّذَاتِ كُلَّ مُحَرَّمٍ

فَأُفٍّ عَلَيْنَا مَا أَغَرَّ وَأَجْهَلا

لَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ مِنَ النَّاسِ قَبْلَنَا

يَعَافُونَ مِنْهُنَّ الْحَلالَ الْمُحَلَّلا

رَكَنّا إِلَى الدُّنْيَا فَطَالَ رُكُونُنَا

وَلَسْنَا نَرَ الدُّنْيَا عَلَى ذَاكَ مَنْزِلا

فَلِلَّهِ دَارٌ مَا أَحَثَّ رَحِيلَهَا

وَمَا أَعْرَضَ الآمَالَ مِنْهَا وَأَطْوَلا

أَبيّ الْمَرْءُ إِلا أَنْ يَطُولَ اغْتِرَارُهُ

وَتَأْبَى بِهِ الْحَالاتُ إِلا تَنَقُّلا

إِذَا أَمَّلَ الإِنْسَانُ أَمْرًا فَنَالَهُ

سَمَا يَبْتَغِي فَوْقَ الَّذِي كَانَ أَمَّلا

وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ عَزَّ مِن بَعْدِ ذِلَّةٍ

وَكَمْ مِنْ رَفِيعٍ كَانَ قَدْ صَارَ أَسْفَلا

وَلَمْ أَرَ إِلا مُسْلِمًا فِي وَفَاتِهِ

وَإِنْ أَكْثَرَ الْبَاكِي عَلَيْهِ وَأَعْوَلا

وَكَمْ مِنْ عَظِيمِ الشَّأْنِ فِي قَعْرِ حُفْرَةٍ

تَلَحَّفَ فِيهَا بِالثَّرَى وَتَسَرْبَلا

أَيَا صَاحِبَ الدُّنْيَا وَثِقْتَ بِمَنْزِلٍ

تَرَى الْمَوْتَ فِيهِ بِالْعِبَادِ مُوَكَّلا

تُنَافِسُ فِي الدُّنْيَا لِتَبْلُغَ عِزَّها

وَلَسْتَ تَنَالُ العِزَّ حَتَّى تَذَلَّلا

>?

ص: 587

.. إِذَا اصْطَحَبَ الأَقْوَامُ كَانَ أَذَلُّهُمْ

لأَصْحَابِهِ نَفْسًا أَبَرَّ وَأَفْضَلا

وَمَا الْفَضْلُ فِي أَنْ يُؤثِرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ

وَلَكِنَّ فَضْلَ الْمَرْءِ أَنْ يَتَفَضَّلا

>?

اللَّهُمَّ يا من عم العباد فضله ونعماؤه، ووسع البرية جوده وعطاؤه، نسأل منك الجود والإحسان، والعفو والغفران، والصفح والأمان، والعتق من النيران، وتوبة تجلو أنوارها ظلمَاتَ الإساءة والعصيان، يا كريم يا.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ثبوت الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ، وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُور الإيمانِ وَاجْعَلْنَا هُداةً مُهْتَدِين وَأَصْلِحْ أَوْلادَنَا واغفر لآبائنا وأمهاتنا واجمعنا وإياهم مَعَ عبادك الصالحين في جنات النَّعِيم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وأصْحابِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ)

(في نظر أَهْل الْجَنَّة إلى ربهم تبارك وتعالى

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» ؟ قَالُوا: لا، قَالَ:«فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» فذكر الْحَدِيث بطوله. رواه البخاري، ومسلم.

وَعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ؟ - قَالَ -: فَيَكْشِفُ

ص: 588

الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إليهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ – ثُمَّ تلا هذه الآيَة -: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} » . رواه مسلم، والترمذي، والنسائي.

وَعَنْ أَبِي مُوسى رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً، فِي كُلّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهمْ الْمُؤْمِنُونَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» . رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم، والترمذي.

وَرُوِيَ عَنْ جَابِر بِنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ ?: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَجْلِسٍ لَهُمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تبارك وتعالى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهمْ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سلوني، فَقَالُوا: نسألك الرِّضَا عنا، قال: رضائي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، وهَذَا أوانها فسلوني، قَالُوا: نسألك الزيادة، قال: فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر أزمتها من زمرد أخضر، وياقوت أحمر، فيحملون عَلَيْهَا، تضع حوافرها عَنْدَ منتهى طرفها، فيأمر الله عز وجل بأشجار عَلَيْهَا الثمار، فتجيء حوراء من الحور العين وهن يقلن: نَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلا نَبْأَسُ، نَحْنُ الخالدات فلا نموت، أزواج قوم مؤمنين كرام، ويأمر الله عز وجل بكثبان من مسك أبيض، فينشر عَلَيْهمْ ريحًا يُقَالُ: لها: المثيرة، حتى تنتهي بِهُمْ إلى جنة عدن، وهي قصبة الْجَنَّة، فَتَقُول الملائكة: يا ربنا قَدْ جَاءَ القوم، فَيَقُولُ: مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطائعين. قال: فيكشف لَهُمْ الحجاب، فينظرون إِلَى اللهِ تبارك

ص: 589

وتَعَالَى، فيتمتعون بنور الرحمن، حتى لا ينظر بَعْضهمْ بعضًا، ثُمَّ يَقُولُ: أرجعوهم القصور بالتحف، فيرجعون وقَدْ أبصر بَعْضهمْ بعضًا، فَقَالَ رسول الله ?: فذَلِكَ قوله: {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} . رواه أبو نعيم، والبيهقي، واللفظ له، وَقَالَ: وقَدْ مضى في هَذَا الْكِتَاب، يعني: في كتاب البعث، وفي كتاب الرؤية ما يؤكد ما روي في هَذَا الخبر. انتهى.

وَهُوَ عَنْدَ ابن ماجة، وابن أبي الدُّنْيَا مختصر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ جل جلاله قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْء مِمَّا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إليه، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَتَبْقَى فِيهِم بَرَكَتُهُ وَنُورُهُ» . هَذَا لَفْظُ ابْنُ مَاجَة، وَالآخرُ بِنَحْوِهِ.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: جَاءَ جبريل عليه السلام وفي يده مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقُلْتُ: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذه الْجُمُعَة يعرضها عَلَيْكَ ربك لتَكُون لك عيدًا ولقومك من بعدك، تَكُون أَنْتَ الأول، وتَكُون اليهود والنَّصَارَى من بعدك، قال: مالنا فيها؟ قال: فيها خَيْر لكم، فيها ساعة من دعا ربه فيها بخَيْر – هُوَ له قسم - إِلا أعطاه إياه، أو لَيْسَ بقسم إِلا ادخر له ما هُوَ أعظم منه، أو تعوذ فيها من شر هُوَ عَلَيْهِ مكتوب إِلا أعاذه، أو لَيْسَ عَلَيْهِ مكتوب إِلا أعاذه من أعظم منه، قُلْتُ: ما هذه النكتة السوداء فيها؟ قال: هذه الساعة تقم يوم الْجُمُعَة، وَهُوَ سيد الأيام عندنا، ونَحْنُ ندعوه في الآخِرَة: يوم المزيد. قال: قُلْتُ: لم تدعونه يوم المزيد؟ قال: إن ربك عز وجل اتخذ في الْجَنَّة

ص: 590

واديًا أفيح من مسك أبيض، فإذا كَانَ يوم الْجُمُعَة نزل تبارك وتعالى من عليين، فجلس على كرسيه، ثُمَّ حف الكرسي بمنابر من نور، وجَاءَ النبيون حتى يجلسوا عَلَيْهَا، ثُمَّ يجيء أَهْل الْجَنَّة حتى ينظروا إلى وجهه، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، هَذَا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه الرِّضَا، فَيَقُولُ الله عز وجل: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لَهُمْ عَنْدَ ذَلِكَ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إلى مقدار منصرف النَّاس يوم الْجُمُعَة، ثُمَّ يصعد الرب تبارك وتعالى على كرسيه، فيصعد معه الشهداء والصديقون» . أحسبه قال:«ويرجع أَهْل الغرف إلى غرفهم، درة بيضاء، لا فصم فيها ولا وصم، أو ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء منها غرفها، وأبوابها، مطردة فيها أنهارها، متدلية فيها ثمارها، فيها أزواجها وخدمها، فليسوا إلى شَيْء أحوج مِنْهُمْ إلى يوم الْجُمُعَة ليزداد فيه كرامة، وليزدادوا فيه نظرًا إلى وجهه تبارك وتعالى ولذَلِكَ دعي يوم المزيد» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا، والطبراني في الأوسط بإسنادين، أحدهما: جيد قوي، وأبو يعلى مختصرًا ورواته رواة الصحيح، والبزار، واللفظ له.

قال ابن القيم رحمه الله:

أَوَ مَا سَمِعْتَ بِشَأْنِهِمْ يَوْمَ الْمَزِيـ

دِ وَأَنَّهُ شَانٌ عَظِيمُ الشَّانِ

هُوَ يَوْمُ جُمْعَتِنَا وَيَوْمَ زِيَارَةِ الـ

ـرَّحْمَنِ وَقْتَ صَلاتِنَا وَأَذَانِ

وَالسَّابِقُونَ إِلَى الصَّلاةِ هُمْ الأُولَى

????

فَازُوا بِذَاكَ السَّبْقِ بِالإِحْسَانِ

????

سَبْقٌ بِسَبْقٍ وَالْمُؤَخَّرُ هَا هُنَا

????

مُتَأَخَّرٌ فِي ذَلِكَ الْمَيْدَانِ

????

ص: 591

.. وَالأَقْرَبُونَ إِلَى الإِمَامِ فَهُمْ أُولُو

????

الزُّلْفَى هُنَاكَ فَهَا هُنَا قُرْبَانِ

????

قُرُبٌ بِقُرْبٍ وَالْمُبَاعَدُ مِثْلُهُ

بُعْدٌ بِبُعْدٍ حِكْمَةُ الدَّيَّانِ

وَلَهُمْ مَنَابِرُ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ

وَمَنَابِرُ إلياقُوتِ وَالْعِقْيَانِ

هَذَا وَأَدْنَاهُمْ وَمَا فِيهِمْ دَنِي

مِن فَوْقَ ذَاكَ الْمِسْكِ كَالْكُثْبَانِ

مَا عِنْدَهُمْ أَهْلُ الْمَنَابِرِ فَوْقَهُمْ

مِمَّا يَرَوْنَ بِهِمْ مِنَ الإِحْسَانِ

فَيَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَعَالَى جَهْرَةً

نَظَرَ الْعِيَانِ كَمَا يُرَى الْقَمَرَانِ

وَيُحَاضِرُ الرَّحْمَنُ وَاحِدَاهُمْ مُحَا

ضَرَةَ الْحَبِيب يَقُولُ يَا ابْنَ فُلانِ

هَلْ تَذْكُرُ اليوم الَّذِي قَدْ كُنْتَ فِيـ

????

ـهِ مُبَارِزًا بِالذَّنْبِ وَالْعِصْيَانِ

????

فَيَقُولُ رَبِّ أَمَا مَنَنْتَ بِغَفْرَةٍ

قِدْمًا فَإِنَّكَ وَاسِعُ الْغُفْرَانِ

فَيُجِيبُهُ الرَّحْمَنُ مَغْفِرَتِي الَّتِي

قَدْ أَوْصَلَتْكَ إِلَى الْمَحَل الدَّانِي

>?

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنْ التَّإلينِ وَلكَ بِهِ مِنْ العاملينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيات مُنْتَفِعينِ وَإلى لَذِيذِ خِطَابِه مُسْتَمِعينَ وَلأوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعين وَبِالأَعْمَالِ مُخْلِصِين، وَاغْفِرَ لَنَا

ص: 592

وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ،

اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوب ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ، وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(موعظة) : عباد الله يجب عليكم أن تعلموا أنكم ما دمتم في هذه الدار فأنتم في دار المعاملات، وأن لكم درًا أخرى أبدية، فيها تستوفون مالكم على هذه المعاملات من جزاءات، فإن أحسنتم هنا أو أسأتم، كَانَ جزاؤكم هناك إحسانَا أو إساءات، هكَذَا وعدكم ربكم، وَهُوَ عليم بكل الأعمال، وعلى جزائكم عَلَيْهَا قدير، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} ، وَقَالَ:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وَقَالَ:{يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} من هَذَا قاطعًا تعلم أن شأن هذه المعاملات عَظِيم عظمًا لا يعرف قدره إِلا الرجل العاقل، الْبَعِيد النظر الحكيم، فإن عَلَيْهَا يترتب غضب الله وعقابه أو رضاه، والنَّعِيم الْمُقِيم، وشَيْء هَذَا قدره لا يتوقف ولا يتردد في بذل العناية به رجل بصير، وهذه المعاملات تارة تكون بينكم وبين الله، وتارة تكون مع عباد الله، فأما المعاملة مَعَ الله جَلَّ وَعَلا فبأن تسمَعَ وتطيع فيما أمر ونهى، وأما معاملتك مَعَ عباد الله الْمُؤْمِنِين، فبأن تحب لَهُمْ ما تحب لنفسك، وَذَلِكَ بأن تجعل نفسك ميزانَا في معاملة كبيرهم وصغيرهم، أَنْتَ تكره إساءتهم لك وتحب إحسانهم، فاحذر إساءتهم، وعاملهم بالإحسان، وكما تكره أن يمسوا مالك بسوء، فلتكن أموالهم منك في أمان،وكما تكره أن يتعرضوا لأولادك وأهلك وشخصك بشر، فكن لَهُمْ خَيْر حفيظ ونصير، وكما تحب أن يريحوك إذا جاوروك، فأرحهم عَنْدَ مجاورتك لَهُمْ، وكما تحب أن ينصحوك

ص: 593

ويصدقوك في وعودهم وعقودهم وأخبارهم، فاسبقهم أَنْتَ إلى ذَلِكَ، وكما تحب أن يفرحوا لفرحك، ويحزنوا لحزنك، فكن أَنْتَ كَذَلِكَ معهم، وكما تحب أن لا يتكلموا فيك إلا بخَيْر، فلا تكن أَنْتَ معهم بضد ذَلِكَ، وقس على ذَلِكَ ما يتعلق بالموضوع، وأما معاملتك مَعَ نفسك، فهي أن تعودها دائمًا على الْخَيْر بلا ضجر.

شِعْرًا:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحَقَّ أَبْلَجُ لائِحُ

وَأَنَّ لِجَاجَاتِ النُّفُوسِ جَوائِحُ

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَكْفُفْ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ

فَلَيْسَ لَهُ مَا عَاشَ مِنْهُمْ مُصَالِحُ

إِذَا كَفَّ عَبْدُ اللهِ عَمَّا يَضُرُّهُ

وَأَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ فَالْعَبْدُ صَالِحُ

إِذَا الْعَبْدُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ فِعَالِهِ

فَلَيْسَ لَهُ وَالْحَمْدُ للهِ مَادِحُ

إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ لَمْ يَصْفُ عَيْشُهُ

وَمَا يَسْتَطِيبُ الْعَيْشَ إِلا الْمُسَامِحُ

وَبَيْنَا الْفَتَى وَالْمُلْهِيَاتُ يُذِقْنَهُ

جِنَى اللَّهْوِ إِذْ نَاحَتْ عَلَيْهِ النَّوَائِحُ

وَإِنَّ امْرأً أَصْفَاكَ فِي اللهِ وُدَّهُ

وَكَانَ عَلَى التَّقْوَى مُعِينًا لِصَالِحُ

>?

ص: 594

.. وَإِنَّ أَلَبَّ النَّاسِ مَنْ كَانَ هَمُّهُ

بِمَا شَهِدَتْ مِنْهُ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ

>?

اللَّهُمَّ عَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، ووفقنا لطَاعَتكَ ومرضاتك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجمَِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين غير خزايا ولا مفتونين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجمَِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ)

وروي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل، فإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها، وإذا في وسطها نكتة سواداء، قال: قُلْتُ: يا جبريل ما هذه؟ قال: هذه الدُّنْيَا صفاؤها وحسنها، قال: قُلْتُ: وما هذه اللمعة السوداء في وسطها؟ قال: قال هذه الْجُمُعَة قال: قُلْتُ: وما الْجُمُعَة: قال: يوم من أيام ربك عَظِيم، وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الدُّنْيَا والآخِرَة، أما شرفه وفضله واسمه في الدُّنْيَا، فإن الله تبارك وتعالى جمَعَ فيه أمر الخلق وأما ما يرجى فيه، فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله فيها خيرًا إِلا أعطاها إياه، وأما شرفه وفضله واسمه في الآخِرَة فإن الله تَعَالَى إذا صير أَهْل الْجَنَّة إلى الْجَنَّة، وأدخل أَهْل النار النار، وجرت عَلَيْهمْ أيامها وساعتها، لَيْسَ بها ليل ولا نهار إِلا قَدْ علم الله مقدار ذَلِكَ وساعته، فإذا كَانَ يوم الْجُمُعَة في الحين الَّذِي يبرز أو يخَرَجَ فيه أَهْل الْجُمُعَة،

ص: 595

نادى مناد: يا أَهْل الْجَنَّة أخرجوا إلى دار المزيد، لا يعلم سعتها وعرضها وطولها إِلا الله عز وجل، فيخرجون في كثبان من المسك» ، قال حذيفة: وإنه لهو أشد بياضًا من دقيقكم هَذَا، قال: فيخَرَجَ غلمان الأنبياء بمنابر من نور، ويخَرَجَ غلمان الْمُؤْمِنِين بكراسي من ياقوت، قال: فإذا وضعت لَهُمْ، وأخذ القوم مجالسهم، بعث الله تبارك وتعالى عَلَيْهمْ ريحًا تدعى المثيرة، تثير عَلَيْهمْ أثابير المسك الأَبْيَض، فتدخله من تحت ثيابهم،وتخرجه في وجوههم وإشعارهم، فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذَلِكَ المسك، من امرأة أحدكم لو دفع إليها كُلّ طيب على وجه الأَرْض لكأَنْتَ تلك الريح أعلم كيف تصنع بذَلِكَ المسك، من تلك المرأة لو دفع إليها ذَلِكَ الطيب بإذن الله عز وجل، قال: ثُمَّ يوحي الله سُبْحَانَهُ إلى حملة العرش فيوضع بين ظهراني الْجَنَّة، وبينه وبينهم الحجب فيكون أول ما يسمعون منه أن يَقُولُ: أين عبادي الَّذِينَ أطاعوني بالغيب ولم يروني، وصدقوا رسلي، واتبعوا أمري، فسلوني فهَذَا يوم المزيد. قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب رضينا عَنْكَ، فارض عنا، قال: فيرجع الله تَعَالَى في قولهم: أن يا أَهْل الْجَنَّة إني لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي فسلوني فهَذَا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب وجهك أرنا ننظر إليه. قال: فيكشف الله تبارك وتعالى تلك الحجب ويتجلى لَهُمْ، فيغشاهم من نوره شَيْء، لو أنه قضى عَلَيْهمْ أن لا يحترقوا مِمَّا غشيهم من نوره، قال: ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: ارجعوا إلى منازلكم، قال: فيرجعون إلى منازلهم، وقَدْ خفوا على أزواجهم، وخفين عَلَيْهمْ، مِمَّا غشاهم من نوره. انتهى.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هل نرى ربنا؟ قال: نعم، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا، قال: «كَذَلِكَ لا

ص: 596

تتمارون في رؤية ربكم عز وجل ولا يبقى فذ يدلك المجلس أحد إِلا حاضره الله عز وجل محاضرة حتى أن يَقُولُ للرجل منكم: ألا تذكر يا فلان يوم عملت كَذَا وَكَذَا يذكره بعض غدراته في الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يا رب أفلم تغفر لي فَيَقُولُ: بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم كَذَلِكَ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عَلَيْهمْ طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شَيْئًا قط ثُمَّ يَقُولُ: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، قال: فنأتي سوقًا قَدْ حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمَعَ الآذان ولم يخطر على القُلُوب، قال: فيحمل لنا ما اشتهينا لَيْسَ يباع فيه شَيْء ولا يشتَرَى وفي ذَلِكَ السوق يلقى يلقى أَهْل الْجَنَّة بَعْضهمْ بعضًا، فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هُوَ دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عَلَيْهِ من اللباس فما ينقص آخر حديثه حتى يتمثل له عَلَيْهِ أحسن منه وَذَلِكَ أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها قال: ثُمَّ ننصرف إلى منازلنا فتلقانَا أزواجنا، فيقلن: مرحبًا وأهلاً لَقَدْ جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مِمَّا فارقتنا عَلَيْهِ فنقول: أَنَا جالسنا اليوم ربنا الجبار عز وجل ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا.

قال ابن القيم في سوق الْجَنَّة:

فَيَقُولُ جل جلاله قُومُوا إِلَى

مَا قَدْ ذَخَرْتُ لَكُمْ مِنَ الإِحْسَانِ

يَأْتُونَ سُوقًا لا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى

فِيهِ فَخُذْ مِنْهُ بِلا أَثْمَانِ

>?

ص: 597

.. قَدْ أَسْلَفَ التُّجَّارَ أَثْمَانَ الْمَبِيـ

????

ـعِ بِعَقْدِهِمْ فِي بيعةِ الرِّضْوَانِ

????

للهِ سُوقٌ قَدْ أَقَامَتُهُ الْمَلا

ئِكَةُ الْكِرَامُ بِكُلِّ مَا إِحْسَانِ

فِيهِ الَّذِي وَاللهِ لا عَيْنٌ رَأَتْ

كَلا وَلا سَمِعَتْ بِهِ أُذُنَانِ

كَلا وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْبِ امْرِئٍ

فَيَكُونُ عَنْهُ مُعْبِرًا بِلِسَانِ

فَيَرَى امْرَأً مِنْ فَوْقَهُ فِي هَيْئَةٍ

فَيَرُوعُهُ مَا تَنْظُرُ الْعَيْنَانِ

فَإِذَا عَلَيْهِ مِثْلُهَا إِذْ لَيْسَ يَلْـ

????

ـحَقُ أَهْلَهَا شَيْءٌ مِن الأَحْزَانِ

????

وَاهًا لِذَا السُّوقِ الَّذِي مِن حَلَّهُ

نَالَ التَّهَانِي كُلَّهَا بِأَمَانِ

يُدْعَى بِسُوقِ تَعَارُفٍ مَا فِيهِ مِنْ

صَخَبٍ وَلا غِشٍّ وَلا أَيْمَانِ

وَتِجَارَةٍ مَنْ لَيْسَ تُلْهِيهِ تِجَا

رَاتٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ الرَّحْمَنِ

أَهْلُ الْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةِ وَالتُّقَى

وَالذِّكْرِ لِلرَّحْمَنِ كُلَّ أَوَانِ

يَا مَنْ تَعَوَّضَ عَنْهُ بِالسُّوقِ الَّذِي

ص: 598

.. رُكزَتْ لَدَيْهِ رَايَةُ الشَّيْطَانِ

لَوْ كُنْتَ تَدْرِي قَدْرَ ذَاكَ السُّوق لِمْ

تَرْكَنْ إِلَى سُوق الْكَسَادِ الْفَانِي

>?

اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَنَجِّنَا مِن لَفَحَاتِ الجَحِيمِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ) : اعْلَمْ أن الله سبحانه وتعالى اختار من كُلّ جنس من أجناس المخلوقات أطيبه. واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره، فإنه تَعَالَى طيب لا يحب إِلا الطيب، ولا يقبل من الْعَمَل والكلام والصدقة إِلا الطيب، فالطيب من كُلّ شَيْء هُوَ مختاره تَعَالَى، وأما خلقه تَعَالَى فعام للنوعين.

وبهَذَا يعلم عنوان سعادة الْعَبْد وشقائه، فإن الطيب لا يناسبه إِلا الطيب ولا يرضى إِلا به، ولا يسكن إِلا إليه، ولا يطمئن قَلْبهُ إِلا به، فله من الكلم الطيب الَّذِي لا يصعد إِلَى اللهِ تَعَالَى إلا هُوَ، وَهُوَ أشد شَيْء نفرة عن الفحش في المقال، والتفحش في اللسان والبذاء، والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور، وكل كلام خبيث.

وكَذَلِكَ لا يألف من الأعمال إِلا أطيبها وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفطر السليمة مَعَ الشرائع النبوية، وزكتها العقول الصحيحة. فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة.

مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شَيْئًا، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبب إليه جهده وطاقته، ويحسن إلى خلقه ما استطاع، فيفعل بِهُمْ ما يحب أن يفعلوه به، ويعاملهم بما يجب أن يعاملوه به،ويدعهم مِمَّا يجب أن يدعوه منه.

وينصحهم لما ينصح به نَفْسهُ، ويحكم لَهُمْ بما يجب أن يحكم له به، ويحمل أذاهم ولا يحملهم أذاه، ويكف عن أعراضهم ولا يقابلهم بمثل ما نالوا من عرضه، وإذا رأى لَهُمْ

ص: 599

حسنًا أذاعه وإذا رأى لَهُمْ سيئًا كتمه، ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة، ولا يناقض الله أمرًا ولا نهيًا.

وله أيضًا من الأَخْلاق أطيبها وأزكاها، كالحلم والوقار والسكينة، والرحمة والصبر والوفاء، وسهوله الجانب ولين العريكة والصدق وسلامة الصدر من الغل والغش والحقَدْ والحسد، والتواضع وخفض الجناح لأَهْل الإِيمَان.

والعزة والغلظة على أعداء الله وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله والعفة والشجاعة والسخاء والمروءة. وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول.

وكَذَلِكَ لا يختار من المطاعم إِلا أطيبها وَهُوَ الحلال الهنيء المريء الَّذِي يغذي البدن والروح أحسن تغذية، مَعَ سلامة الْعَبْد من تبعته. وكَذَلِكَ لا يختار من المناكح إِلا أطيبها وأزكاها. ومن الرائحة إِلا أطيبها وأزكاها. ومن الأصحاب والعشراء إِلا الطيبين مِنْهُمْ.

فروحه طيب وبدنه طيب، وخلقه طيب، وعمله طيب، وكلامه طيب، ومطعمه طيب، ومشربه طيب، وملبسه طيب، ومنكحه طيب، ومدخله طيب ومخرجه طيب، ومنقَلْبهُ طيب، ومثواه كله طيب.

فهَذَا ممن قَالَ اللهُ تَعَالَى فيه: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ومن الَّذِينَ يَقُولُ لَهُمْ خزنة الْجَنَّة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} .

وهَذَا الفناء تقتضي السببية، أي بسبب طيبكم ادخلوها. وَقَالَ تَعَالَى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} وقَدْ فسرت الآيَة بأن الكلمات الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ، والكلمات الطَّيِّبَاتُ، للطَّيِّبِينَ، وفسرت بأن النساء َالطَّيِّبَاتُ للرِجَال الطَّيِّبِينَ، والنساء الْخَبِيثَاتُ للرِجَال اِلْخَبِيثِينَ، وهي تعم ذَلِكَ وغيره.

ص: 600

فالكلمَاتَ والأعمال والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين والكلمَاتَ والأعمال والنساء الخبيثات لمناسبها الخبيثين. وَاللهُ سبحانه وتعالى جعل الطيب بحذافيره في الْجَنَّة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار. فجعل الدور ثلاثة:

دار أخلصت للطيبين، وهي حرام على غير الطيبين. وقَدْ جمعت كُلّ طيب، وهي الْجَنَّة.

ودار أخلصت للخبيثين والخبائث، ولا يدخلها إِلا الخبيثون، وهي النار.

ودار امتزج فيها الطيب والخبيث وخلط بينهما وهي هذه الدار.

ولهَذَا وقع الابتلاء والمحنة بسبب هَذَا الامتزاج والاختلاط، وَذَلِكَ بموجب الحكمة الإلهية. فإذا كَانَ يوم معاد الخليقة ميز الله الخبيث من الطيب.

فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأَمْر إلى دارين فقط: الْجَنَّة، وهي دار الطيبين، والنار: وهي دار الخبيثين.

وأنشأ الله تَعَالَى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم، فجعل طيبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هِيَ عين نعيمهم ولذاتهم، فأنشأ لَهُمْ منها أكمل أسباب النَّعِيم والسرور. وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هِيَ عين عذابهم وآلامهم فأنشأ لَهُمْ منها أعظم أسباب العقاب والآلام، حكمة بالغة، وعزة باهرة قاهرة، ليرى عباده كمال ربوبيته، وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته، وليعلم أعداؤه أنهم كَانُوا هم المفترين الكذابين، لا رسله البررة الصادقون قال الله تَعَالَى:{وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ}

ص: 601

والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ جعل للسعادة والشقاء عنوانَا يعرفان به. فالسَّعِيد الطيب لا يليق به إِلا طيب، ولا يأتي إِلا طيبًا، ولا يصدر منه إِلا طيب، ولا يلبس إِلا طيبًا، والشقي الخبيث لا يليق به إِلا الخبيث، ولا يأتي إِلا خبيثًا ولا يصدر منه إِلا الخبيث.

فالخبيث: يتفجر من قَلْبهُ الخبث على لِسَانه وجوارحه. والطيب: يتفجر من قَلْبهُ الطيب على لِسَانه وجوارحه، وقَدْ يكون في الشخص مادتان، فأيهما غلب عَلَيْهِ كَانَ من أهله، فإن أراد الله به خيرًا طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة، فيوافيه يوم القيامة مطهرًا فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار.

فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة حتى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة. ويمسك عن الآخِر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة، وحكمته تَعَالَى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النار طهرة له، وتصفية وسبكًا، فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث صلح حينئذٍ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده.

وإقامة هَذَا النوع من النَّاس في النار على حسب سرعة زَوَال تلك الخبائث مِنْهُمْ وبطئها فأسرعهم زوالاً وتطهيرًا أسرعهم خروجًا، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.

وما كَانَ المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه، بل لو خَرَجَ منها لعاد خبيثًا كما كَانَ كالكلب إذا دخل البحر ثُمَّ خَرَجَ منه فلذَلِكَ حرم الله تَعَالَى على المشرك الْجَنَّة. ولما كَانَ المُؤْمِن الطيب المطيب مبرًا من الخبائث، كأَنْتَ النار حرامًا عَلَيْهِ، إذا لَيْسَ فيه ما يقتضي تطهيره بها.

ص: 602

فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وشهدت فطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ورب العالمين، لا إله إِلا هُوَ.

وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَمَ.

(فَصْلٌ)

خطب أمير الْمُؤْمِنِين علي بن أبي طالب رضوان الله عَلَيْهِ بالكوفة، فَقَالَ في كلام له:

سبحانك خالقًا معبودًا بحسن بَلائِكَ في خلقك، خلقت دارًا وجعلت مأدبة ومطعمًا ومشربًا، وأزواجًا وقصورًا، وخدمًا وعيونًا وأنهارًا، ثُمَّ أرسلت داعيًا إلينا، فلا الداعي أجبنا، ولا فيما رغبتنا رغبنا، أقبلنا على جيفة نأكل منها، قَدْ زَادَ بعضنا على بعض حرصًا عَلَيْهَا، وافتضحنا لما اصطلحنا على حبها، عميت أبصار صالحينا وفقهائنا فيها، ولها من في قَلْبهُ مرض، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمَعَ بأذن غير سميعة، وقَدْ ملكت الشهوات عقله، وأماتت الدُّنْيَا قَلْبهُ، وذهلت عَلَيْهَا نَفْسهُ، فهو عبدها وعبد من في يديه منها شَيْء، حيثما زالت زال معها، وحيثما أقبلت أقبل إليها، لا يعقل ولا يسمَعَ، ولا يزدجر من الله بزاجر، ولا يتعظ من الله بواعظ. قَدْ رأى المأخوذين على الغرة حيث لا إقالة ولا رجعة كيف فاجاتهم تلك الأمور، ونزل بِهُمْ ما كَانُوا يوعدون، وفارقوا الدور، وصاروا إلى القبور، ولقوا دواهي تلك الأمور، فإذا نزلت بقُلُوبهمْ حسرات أنفسهم، اجتمعت عَلَيْهمْ خصلتان، حَسْرَة الفوت، وسكرة الموت، تفطرت لها قُلُوبهمْ، وتغيرت ألوانهم، وتردد فوافهم وحركوا لمخَرَجَ أرواحهم أيديهم وأرجلهم، فعرقت لذَلِكَ جباههم، ثُمَّ ازداد الموت فيهم، فحيل بين أحدهم ومنطقه وأنه لبين ظهراني قومه ففكر بعقل بقي له: فيم فني عمره، وفيم ذهبت أيامه!!

عن الأصمعي رحمه الله قال: حجبت فنزلت ضرية في يوم جمعة، فإذا أعرابي قَدْ كور عمامته، وتنكب قوسه، فصعد المنبر فحمد الله، وأثنى عَلَيْهِ،

ص: 603

وصلى على نبيه ?، ثُمَّ قال: أيها النَّاس، إن الدُّنْيَا دار ممر، والآخِر دار مقر فخذوا من دار ممركم، ولا تهتكوا أستاركم عَنْدَ من لا تخفى عَلَيْهِ أسراركم، فإنه لن يستقبل أحدٌ يومًا من عمره إِلا بفارق آخر من أجله، وإن أمس موعظة، واليوم غنيمة، وغدًا لا يدري من أهله. فاستصلحوا ما تقدمون عَلَيْهِ، واقنوا ما لا ترجعون إليه، واخرجوا من الدُّنْيَا بقلوبكم قبل أن تخَرَجَ منها أبدانكم، ففيها خلقنم، وإلى غيرها ندبتم. وإنه لا قوي أقوي من الخالق، ولا ضعيف أضعف من مخلوق، ولا هرب من الله إِلا إليه، وكيف يهرب من يتقلب في يدي طالبه، و {كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح الْعَمَل وهدانَا بفضله سبيل الرشاد وطَرِيق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير.

لا يَخْدَعَنَّكَ صِحَّةٌ وَفَرَاغ

مَا لا يَدُومُ عَلَيْكَ فَهُوَ مُعَارُ

يَغْشَى الْفَتَى حُبَّ الْحَيَاةِ وَزِينَةَ الدُّ

نْيَا وَيَنْسَى مَا إليه يُصَارُ

وَإِذَا الْبَصَائِرُ عَنْ طَرَائِقِ رُشْدِهَا

عَمِيَتْ فَمَاذَا تَنْفَعُ الأَبْصَارُ

لا تَغْتَرِرْ بِالدَّهْرِ إِنْ وَافَاكَ فِي

حَالٍ يَسُرُّكَ إِنَّهُ غَرَّارُ

انْظُرْ إِلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَاعْتَبِرْ

سَتَصِيرُ عَنْ قُرْبٍ إِلَى مَا صَارُوا

آخر:

النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِهُمْ

وَمِمَّا يُفِيقُونَ حَتَّى يَنْفَدَ الْعُمُرُ

>?

ص: 604

.. يُشِيعُونَ أَهَإليهِمْ بِجَمْعِمُوا

وَيَنْظُرُونَ إِلَى مَا فِي قَدْ قُبِرُوا

وَيَرْجِعُونَ إِلَى أَحْلامِ غَفْلَتِهِمْ

كَأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا شَيْئًا وَلا نَظَرُوا

>?

اللَّهُمَّ إن حسناتنا من عطائك، وسيئآتنا من قضائك، فجد اللَّهُمَّ بما أعطيت، على ما به قضيت، حتى تمحو ذَلِكَ بذَلِكَ، اللَّهُمَّ إن مساوينا قطعت عنا الوسائل، غير أَنَا علمنا أنك رب كريم، ومولى رؤوف رحيم، فجرانَا مَعَ قبح أفعالنا، وضعف أعمالنا، علمنا بذَلِكَ، وحملنا – مَعَ البعد عَنْكَ - رجاؤنا في نوالك، فاستجب لنا، واغفر لنا وارحمنا، وتب عَلَيْنَا، وعافنا واعف عنا، وحقق رجاءنا، واسمَعَ دعاءنا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.

وهذه قصة الذبيح إسماعيل بن إبراهيم الخليل عَلَيْهِمَا الصَّلاة والسَّلام

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى

إِنْعَامِهِ فَهُوَ ذُو الأَنْعَامِ وَالنِّعَمِ

وَبَعْدَ هَذَا فَآلافُ الصَّلاةِ عَلَى

مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْعُرْبَانِ وَالْعَجَمِ

وَالآلِ وَالصَّحْبِ ثُمَّ التَّابِعِينَ لَهُمْ

مَا لاحَ بَرْقٌ وَسَحَّتْ أَعينُ الدِّيمِ

إِنِّي نَظَمْتُ لأَمْرٍ لِلْخَلِيلِ بِمَا

أَدَّاهُ فِكْرِي وَمَا أَبْدَى بِهِ قَلَمِي

فَبَيْنَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُضْطَجِعًا

الْعَيْنُ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبُ لَمْ يَنَمِ

رَأَى مَنَامًا بِأَنَّ اللهَ يَأْمُرُهُ

بِذَبْحِ ابن صَدُوقِ الْقَوْلِ ذِي الشِّيَمِ

أَعْنِي أَبَا الْعَرَبِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ بِهِ

جَمَاعَةٌ مِنْ ذَوِي الأَلْبَابِ وَالْحِكَمِ

وَبَعْضُهُمْ قَالَ إِسْحَقَ الذَّبِيحَ وَقَدْ

تَوَاتَرَ الْقَوْلُ فِيمَنْ قَبْلُ كَانَ سُمِي

نَادَاهُ إِنِّي أَرَى فِي النَّوْمِ ذَبْحَكَ يَا

بُنَيَّ فَانْظُرْ فَمَا رُؤْيَايَ بِالْحُلُمِ

ص: 605

فَقَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ

مُبَادِرًا أَنْتَ أَمْرَ اللهِ لَنْ تُلَمِ

لَكِنَّ وَالدَتِي وَارَحْمَتَاهُ لَهَا

مَاذَا يَحِلُّ بِهَا إِنْ خُبِّرَتْ بِدَمِ

فَاقْرِي وَالِدَتِي مِنِّي السَّلامَ وَقُلْ

لَهَا أصْبِرِي لِقَضَاءِ اللهِ وَاعْتَصِمِ

حَولْ لِوَجْهِكَ عِنْدَ الذَّبْحِ يَا أَبَتِي

وَاغْضُضْ بِطَرْفِكَ لا تَجْزَعْ لِسَفْكِ دَمِي

فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ يَفْعَلُ بِي

مَا شَاءَ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ وَذُو كَرَمِ

فَاسْتَسْلَمَا ثُمَّ سَارَ عَازِمِينَ عَلَى

إِنْفَاذِ أَمْرِ إلَهٍ مُحْيِي الرِّمَمِ

فَجَاءَ إِبْلَيْسُ يَسْعَى وَهُوَ ذُو عَجَلٍ

فِي زِيِّ شَيْخٍ كَبِيرِ السِّنِّ ذِي هَرَمِ

فَقَالَ أَنْتَ خَلِيلُ اللهِ تَسْمَعُ مَا

يُوحِيهِ إِبْلَيْسَ فِي الأَضْغَانِ وَالْحُلُمِ

أَجَابَهُ اخْسَأْ عَدَوَّ اللهِ إِنَّكَ إِبْـ

ـلَيْسُ اللَّعِينُ قَرِينُ الشَّرِّ وَالنَّدَمِ

فَرَاحَ عَنْهُ وَوَلَّى خَاسِئًا خَجِلاً

يَقُولُ قَدْ فَاتَنِي الْمَطْلُوبُ وَآلِمِ

ثُمَّ انْثَنَى نَحْوَ إِسْمَاعِيلَ مُمْتَحِنًا

لَهُ يَقُولُ ادْنُ مِنِّي وَاسْتَمِعْ كَلَمِ

أَبُوكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ يَأْمُرُهُ

بِذَبْحِكَ اليوم مَا هَذَا مِنَ الشِّيَمِ

فَقَالَ إِنْ كَانَ رَبُّ الْعَرْشِ يَأْمُرُهُ

فَإِنَّنِي صَابِرٌ رَاضٍ بِلا نَدَمِ

وَطَاعَةُ الرَّبِّ فَرْضٌ لا مَحِيصَ لَنَا

عَنْهَا لأَنْ كُتِبَتَ فِي اللَّوْحِ بِاْلَقَلمِ

فَارْجِعْ بِكِبْرِكَ عَنَّا إِنَّنَا بَرَءَآ

مِنْكَ فَإِنَّكَ مَطْرُودٌ مِنَ الرَّحِمِ

فراحَ عنه لِنَحْو الأم قَالَ لَهَا

إنَّ ابنَكَ اليومَ مَذْبُوحٌ على وَهَمِ

مِنْ أَجْلِ رُؤْيًا رَآهَا الشَّيْخُ حَقَّقَهَا

يُرِيدُ انْجازَهَا هَلْ ذَا بِمُلْتَزَمِ

قَالَتْ نَعَمْ مَا لَهُ بُدٌ وَكَيْفَ لَهُ

بِأَنْ يُخَالِفَ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَمِ

لَمَّا رَأَى إليأْسَ مِنْهُمْ رَدَّ مُكْتَئِبًا

يَرنَّ أَرْنَانَ ذَاتِ الثُّكْلِ وَإليتُمِ

إِذَا فَاتَهُ مَا جَرَى مِنْهُ وَأَمَّلَهُ

وَبَاءَ بِالْخِزْيِ وَالْخُذْلانِ وَالنَّدَمِ

وَانْقَادَ لِلذَّبْحِ إِسْمَاعِيلُ مُحْتَسِبًا

لِحُكْمِ مَوْلاهُ يَمْشِي حَافِي الْقَدَمِ

فَبَيْنَمَا هُوَ مُنْقَادٌ لِسَيِّدِهِ

مَا فِيهِ مِنْ جَزَعٍ كَلا وَلا سَئَمِ

ص: 606

.. أَتَى الْخَلِيلُ بِسِكِّينٍ فَأَشْحَذْهَا

حَتَّى غَدَتْ مِثْلَ بَرْقٍ دُجَى الظُّلَمِ

فَقَالَ يَا أَبَتَاهُ ارْفَعْ ثِيَابَكَ لا

يُصِيبُهَا قَذَرٌ عِنْدَ اصْطِبَابِ دَمِي

وَيَفْجَعُ الأُمَّ مَهْمَا شَاهَدَتْهُ كَذَا

فَاللهُ يَعْصِمُهَا مِنْ زَلَّةِ الْقَدَمِ

وَالأَمُّ يَا وَالَدِي مَهْمَا رَجَعْتَ لَهَا

فَاطْلُبْ لِي الْحَلَّ مِنْهَا وَأحْفَظْ الذِّمَمِ

وَأَمْرَ مَوْلايَ نَفَّذْهُ بِذَبْحِكَ لِي

وَاشْحذ لِشَفْرَةِ ذَبْحِي يَا أَبَا الْكَرَمِ

كَيْمَا يَهُونُ عَليَّ الْمَوْت إِنَّ لَهُ

لَشِدَّةٍ لَمْ تَصِفْهَا أَلْسُنُ الأُمَمِ

قَالَ الْخَلِيلُ فَنِعْمَ الْعَوْنِ أَنْتَ عَلَى

مَرْضَاةِ رَبِّي فَثِقْ بِاللهِ وَاعْتَصِمِ

فَجَاءَ بِالْحَبْلِ شَدَّ الإِبْنُ ثُمَّ بَكَى

لِرِقَّةِ غَلَبَتْهُ فَهُوَ لَمْ يُلَمِ

أَمَرَّ شَفْرَتَهُ بِالنَّحْرِ فَانْقَلَبَتْ

عَنْهُ ثَلاثًا وَلَمْ يَمْسَسْهُ مِنْ أَلَمِ

فَقَالَ إِنَّ شَقَّ ذَا وَالنَّفْسُ مَا سَمِحَتْ

فَكُبَّ وَجْهِي فَإِنِّي غَيْرَ مُهْتَضِمِ

فَكَبَّهُ مِثْلَ مَا أَوْصَاهُ فَانْقَلَبَتْ

إِذْ ذَاكَ شَفْرَتُهُ لَمْ تُفْرِ مِنْ أَدَمِ

وَالأَرْضُ رَجَّتْ وَأَمْلاكُ السَّمَا جَارَتْ

وَالْوَحْشُ عَجَّتْ وَعَمَّ الْخَطْبُ فِي الأُمَمِ

وَاللهُ ذُو الْعَرْشِ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْجِبُ مِنْ

إِيمَانِ عَبْدَيْهِ مَا عَنْهُ بِمُنْكَتِمِ

أَوْحَى لِجِبْرِيلَ أَنْ أَدْرَكْهُمَا عَجلاً

بِكَبْشِ ضَانٍ رَبِّي فِي رَوْضَةِ النَّعَمِ

أَيْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا فِي الْجِنَانِ رَعَى

يَسْقَى مِنْ أَنْهَارَهَا عَذْبًا بِلا وَحَم

فَجَاءَ بِالْكَبْشِ جِبْرِيلُ الأَمِينُ إِلَى

ذَاكَ الْخَلِيلِ النَّبِيلِ الطَّاهِرِ الْعَلَمِ

فَقَالَ هَذَا الْفِدَى مِنْ عِنْدَ رَبَّكَ عَنْ

هَذَا الذَّبِيحِ جَزَا هَذَا دَمٌ بِدَمِ

فَكَبَّرَ اللهَ جُبْرَائِيلُ حِينَئِذٍ

وَالْكَبْشُ كَبَّرَ أَيْضًا نَاطِقًا بِفَمِ

ثم الخَلِيلُ كَذاكَ الإِبنُ مَا بَرَحَا

مُكَبَّرِيْنَ وذَا شُكْرٌ على النَّعَمِ

وَسَرَّ أَهْلَ السَّمَا وَالأَرْضُ حَالَهُمَا

وَاغْتَمَ إِبْلَيْسَ غَمًّا غَيْرَ مُنْصَرِمِ

عَوَاقِبُ الصَّبْرِ تُنْجِي مَنْ يُلازِمُهَا

وَالْحَمْدُ للهِ هَذَا آخِرُ الْكَلِمِ

ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ أَحْمَدَ مَا

غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ فِي الأَيْكِ بِالنِّعَمِ

ص: 607

.. وَالآلُ وَالصَّحْبُ ثُمَّ التَّابِعِينَ لَهُمْ

مَا لاحَ فَجْرٌ فَأَجْلَى غَيْهَبَ الظُّلَمِ

انتهى.

اللَّهُمَّ أَنَا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤمِنُ بِلقَائِكْ وتَرْضَى بِقَضائِكْ، وتَقْنَعُ بِعَطَائِكْ، يا أرْأفَ الرائفين، وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ أَنَا نَسْأَلُكَ التَّوْفِيق لما تُحِبُّه مِن الأعمال، ونسألُكَ صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وحُسْنَ الظَنِّ بِكَ يَا رَبَّ العالمين.

اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المُخْبِتِين، الغُرِّ المُحَجَّلِين الوَفْدِ المُتَقَبِّلين.

اللَّهُمَّ أَنَا نَسْأَلُكَ حَيَاةً طَيِّبةً، ونَفْسًا تَقِيَّةً، وعِيْشَةً نَقِيَّةً ومِيْتَةً سَويَّةً، ومَرَدًا غَيْرَ مُخْزِي ولا فاضح.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أهلِ الصَّلاحِ والنَّجَاحِ والفَلاحِ، ومِن المُؤَيَّدِينَ بِنَصْرِكَ وتَأْييدِكَ ورِضاكَ.

اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنا بابَ القَبُولِ والإِجَابةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

خطبة في التحذير من المعاصي

قال أحد الْعُلَمَاء رحمه الله عَلَيْهِ:

الحمد لله الَّذِي حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن المتعرف إلى خلقه بما أسداه إليهم من الكرم والمنن الَّذِي أخَرَجَ النَّاس من الظلمَاتَ إلى النور وهداهم إلى صراطه المستقيم وجنبهم ما يوقعهم في مهامه الجحيم.

الواحد الأحد الفرد الصمد العزيز الحكيم لا تدركه الأبصار وَهُوَ يدرك الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير أحمده سُبْحَانَهُ على فضله وجوده الغزير وأشكره وَالشُّكْر مؤذن بالزيادة والتوفير.

ص: 608

وأشهد أن لا إله إِلا الله وحده لا شريك له وَهُوَ نعم المولى ونعم النصير وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير اللَّهُمَّ صل وسلم على عبدك ورسولك مُحَمَّد وعلى آله وصبحه أولي الجد في الطاعة والتشمير صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم المصير.

أما بعد: أيها النَّاس اتقوا الله تَعَالَى بفعل أوامره واجتناب مناهيه وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها النَّاس والحجارة عَلَيْهَا ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وتدبروا فيمن ضاع عمره في البطالة والتمادي وجمَعَ الْمَال ولا يبإلى أمن حلالٍ جمعه أم من حرام.

ولا تأكلوا الربا فإن الله لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وَقَالَ هم في الوزر سواء قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ إليتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وَقَالَ عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} وفي الْحَدِيث: «مْا تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى أعْلِنُوها إِلَاّ ابتلاهم الله بالطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. ومْا طفّف قَوْمٍ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَاّ ابتلوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ وَما مْنَعُ قَوْمٍ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَاّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَمْا خفر قَوْمٍ العَهْدَ اللَّهِ إِلَاّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. ولا حكموا بغير مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَاّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» .

وَقَالَ عليه السلام: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» .

ص: 609

وقَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمُ كَانَ فِي حَاجَتِهِ» .

وَقَالَ في حجة الوداع: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» وقَالَ عن الكعبة ما أعظمك وأعظم حرمتك وإن حرمة المُؤْمِن أعظم عَنْدَ الله منك.

وقَالَ «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يأمن جاره بوائقه» وقَالَ مُعَاذُ أو

، مُؤَاخَذُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ:«ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَاّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» وَقَالَ

الغيبة أشد مِنَ الزِّنَا الْحَدِيث إن من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم» وَقَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

وفي حديث أبي بكر «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ من عنده» رواه أَحَمَد وعن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَالَ رَسُولِ اللهُ ?: «إذا خفيت الخطيئةُ لم تضرَّ إِلا صاحبَها وإذا ظهرتْ فلم تغيَّرْ ضَرَّتْ العامةَ» .

وروى أَحَمَد عن عُمَر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه يوشك أن تخرب القرى وهي عامرة قَالُوا وكيف خرابها قال إذا علا فجارها على أبرارها وساد القبيلة منافقوها وروى أَحَمَد من حديث جَرِيرٍ أن النَّبِيّ ? قال: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ َأَعَزُّ وأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُه فلم يُغَيِّرُوهُ إِلَاّ عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ» وروى البخاري عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ?، مَنْ الْمُوبِقَاتُ» .

فاتقو الله عباد الله بالإقلاع عن المعاصي وتوبوا إلى ربكم توبة نصوحًا

ص: 610

عَسَى ربكم أن يكفر عنكم سئاتكم واستدركوا بقية عمر أضعتم أوله فإن بقية عمر المُؤْمِن لا قيمة له جعلني الله وإياكم ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جنسه وأعد عدة تصلح لرمسه.

إن أحس ما وعظ به الواعظون كلام من نَحْنُ لعفوه وكرمه مؤملون والله يَقُولُ وبقوله يهتدي المهتدون وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون أعوذ بِاللهِ من الشيطان الرجيم: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} بارك الله لي ولكم في القرآن ولكم في القرآن العَظِيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أَقُول قولي هَذَا وأستغفر الله العَظِيم لي ولكم وَلِجَمِيعِ المسلمين فاستغفروه إنه هُوَ الغفور الرحيم.

(موعظة)

عباد الله إن العاقل اللبيب الفطن الرشيد من يسعى في نفع نَفْسهُ وأهله ودفع الضَّرَر عنهم، وانَا نرى في زمننا الَّذِي كثرت فيه المنكرات وانحطت فيه الأَخْلاق وقل فيه الورع وكثر فيه النفاق والرياء.

تَرَى النَّاس يخشون النَّاس ولا يخافون ربًا قهارًا بطشه شديد وعذابه إليم تَرَى الرجل يفعل الْمُنْكَر جهارًا ولا تنهاه وتنسى أو تتناسى قول الله تَعَالَى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} ، وقوله:{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} .

وقوله ?: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَليُغَيِّرَهُ بِيَدِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانه، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» .

فقل للذي يرى تارك الصَّلاة ولا ينهاه لا يجوز لك ذَلِكَ أنصح أخاك

ص: 611

المسلم وقل للذي قَدْ عميت بصيرته فأتى بكفار خدامين أو سواقين أو مربين أو طباخين أو خياطين أو نحو ذَلِكَ وأمِنْهُمْ على محارمه.

خف الله وأحذر من عقوبة الدُّنْيَا قبل عقوبة الآخِرَة كيف تأتي بأعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِين، لَقَدْ أسأت إلى نفسك وأهلك والمسلمين.

أما سمعت قول النَّبِيّ ?: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» .

أو ما بلغك قصة الثلاثة الَّذِينَ هجرهم المسلمون نحوا من خمسين ليلة بأيامها حين تخلفوا عن رَسُولِ اللهُ ? في غزوة تبوك.

أو ما بلغك أن أبا هريرة أقسم (لا يظله سقف هُوَ وقاطع رحم) وأَنْتَ وأعداء الله الكفار متصل بعضكم في بعض في البيت والسوق والسيارة عياذا بِاللهِ من ذَلِكَ {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .

وإذا رَأَيْت من يحلق لحيته ويبقي شاربه متشبها بالمجوس فقل له أما سمعت حَدِيثِ «أكرموا اللحى» وَحَدِيثِ «وَفِّرُوا اللِّحَى» وقول الله تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ إلىمٌ} ، وقوله ?:«كُلّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلَاّ الْمُجَاهِرِينَ» وعملك هَذَا مجاهرة.

وإذا رَأَيْت شارب الدخان فإنصحه وبين له مضاره في الدين والبدن والدنيا.

وإذا رَأَيْت من يقتل وقته أمام الملاهي والمنكرات فأنصحه وبين له المضار التي منها ترك الصَّلاة جماعة أو إهمالها بتاتا والعياذ بِاللهِ.

وإذا رَأَيْت الَّذِي يطارد النساء في الأسواق فقل بِاللهِ هل ترضى أن الفسقة مثلك يطاردون نساءك أتق الله وتب إليه من هَذَا الخلق الرذيل.

ص: 612

وإذا رَأَيْت الَّذِي يغش المسلمين فقل له إتق الله أما بلغك حديث المصطفى ?: «مَنْ غَشَّنَا فلَيْسَ مِنَّا» .

وإذا رَأَيْت من يعامل بالربا فقل كيف تحارب ربك الَّذِي أعطاك الْمَال خف الله وأحذر أن يمحقك الله ويمحق مالك.

وإذا رَأَيْت من يسافر إلى بلاد الكفر فأنصحه وقل أما سمعت قول النَّبِيّ ?: «أَنَا بَرِىءٌ مِنْ كُلّ مُسْلِمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَرَأيَ نَارَاهُمَا» وكَانَ ? يأخذ على أصحابه عَنْدَ البيعة يأخذ علي يد أحدهم «أن لَا تَرَيَ نَارَك نار المشركين إِلا أن تَكُون حربا لَهُمْ» .

وإذا رَأَيْت من يصور أو يبيع صور ذوات الأرواح فأنصحه وقل له أما بلغك: «أنَّ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» أما بلغك مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ، وقل له أما سمعت حديث «كُلّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْس فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ» إتق الله قبل أن تقف بين يديه حافيًا عاريًا أعزلاً.

وإذا رَأَيْت من يبيع الصور أو آلات اللهو كالتلفزيون والكورة والمذياع والفيديو والسينماء والورق الملهية عما خلق الإِنْسَان له وأبا الخبائث الدخان ونحو هذه البدع المحرمة التي ضاع العمر والْمَال بسببها وقضت على الأَخْلاق والغيرة الدينية فقل له: أترضى لنفسك أن تتجر بالمحرمَاتَ وأن تَكُون ممن يعين على المعاصي وينشر الفساد إتق الله قبل أن يفاجئك هادم اللذات فتندم ولا يفيدك الندم. ويصدق عَلَيْكَ قول الشاعر:

نَدَمُ الْبُغَاةِ وَلاتَ سَاعَةُ مندم ** وَالْبَغْيَ مَصْرَعُهُ وَخِيمَ الْمَصْرَعِ

وإذا رَأَيْت من يطفف في المكيال والميزان أزو يأخذ راتبه كاملاً ولا يؤدي

ص: 613

الْعَمَل كاملاً قل له: إتق الله أما تقَرَأَ قول رب العالمين: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقل له: ستناقش عن عملك وإهمالك له في يوم كَانَ مقداره خمسين ألف سنة.

وإذا رَأَيْت المغتابين نهاشة الأعراض أكالة لحوم الغوافل فقل لَهُمْ: أما قرأتم قول الملك الديان: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} الآيَة.

وإذا رَأَيْت النمام فقل له: أما سمعت قول النَّبِيّ ?: «لا يدخل الْجَنَّة نمام» ، وهكَذَا تفعل عِنْدَمَا تريد أن تنصح أَهْل المعاصي نحو هؤلاء من منافقين ومتملقين وكذابين وخداعين ومرائين ومكارين.

ولَقَدْ تضاعفت الغيبة والنميمة والكذب أضعافًا كثيرة بعد ظهور التلفزيون والتلفون والمسجلات فقَدْ كأَنْتَ بالأول لا توَجَدَ إِلا مَعَ اجتماع الأبدان والآن توَجَدَ ولو كَانَ بينهم مسافات بعيدة نسأل الله العافية.

اللَّهُمَّ جنبنا البدع والمنكرات واغفر لنا جَمِيع الزلات ووفقنا للأعمال الصالحات وأسكنا فسيح الجنات وَجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

موعظة

قال ابن القيم رحمه الله:

ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قَسْوَة الْقَلْب والبعد عن الله خلقت النار لإذابة القُلُوب القاسية أبعد الْقَلْب من الله الْقَلْب القاسي، إذ قسى قحطت العين.

قَسْوَة الْقَلْب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل،

ص: 614

والنوم، والكلام، والمخالطة، كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكَذَلِكَ الْقَلْب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ.

من أراد صفاء قَلْبهُ فليؤثر الله على شهواته.

القُلُوب المتعلقة بالشهوات محجوبة بقدر تعلقها بها. شغلوا قُلُوبهمْ بالدُّنْيَا، ولو شغلوها بِاللهِ والدار الآخِرَة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفَوَائِد.

إذا غذي الْقَلْب بالتذكر، وسقى بالتفكر، ونقى من الدغل، ورأى العجائب، وألهم الحكمة، خراب الْقَلْب من الأمن والغَفْلَة، وعمارته من الخشية والذكر.

إذا زهدت القُلُوب في موائد الدُّنْيَا قعدت على موائد الآخِرَة بين أَهْل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدُّنْيَا فاتتها تلك الموائد.

والْقَلْب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية ويصدأ كما تصدئ المرآة وجلاوة بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسد وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة.

للقب ستة مواطن يجول فيه لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية.

فالسافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له، فهذه مواطن الأرواح السافلة لا تزال تجول فيها.

والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده. والقُلُوب جوالة في هذه المواطن.

وَقَالَ رحمه الله: ولا ريب أن الْقَلْب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرها وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك صدئ، فإذا ذكر جلاه.

ص: 615

وصدأ الْقَلْب بأمرين: بالغَفْلَة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. فمن كأَنْتَ الغَفْلَة أغلب أوقاته كَانَ الصدأ متراكمًا على قَلْبهُ، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدأ الْقَلْب لم تنطبع فيه صور المعلومَاتَ على ما هِيَ عَلَيْهِ فيرى الْبَاطِل في صورة الحق والحق في صورة الْبَاطِل، لأنه لما تراكم عَلَيْهِ الصدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا ولا ينكر باطلاً. وهَذَا أعظم عقوبات الْقَلْب.

وأصل ذَلِكَ من الغَفْلَة وإتباع الهوى فإنهما يطمسان نور الْقَلْب ويعميان بصره، قال تَعَالَى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} فإذا أراد الْعَبْد أن يقتدي برجل فلينظر:

هل هُوَ من أَهْل الذكر أو من الغافلين. وهل الحاكم عَلَيْهِ الهوى أو الوحي. فإن كَانَ الحاكم عَلَيْهِ هُوَ الهوى وَهُوَ من أَهْل الغَفْلَة كَانَ أمره فرطًا. ومعنى الفرط قَدْ فسر بالتضييع، أي أمره الَّذِي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائع قَدْ فرط فيه، وفسر بالإسراف أي قَدْ أفرط، وفسر بالأهلاك، وفسر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة.

والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ نهى عن طاعة من جمَعَ هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كَذَلِكَ فليبعد منه وإن وَجَدَ ممن غلب عَلَيْهِ ذكر الله عز وجل وإتباع السنة، وأمره غير مفروط عَلَيْهِ بل هُوَ حازم في أمره فليتمسك بغرزه، ولا فرق بين الحي والميت إِلا بالذكر، فمثل الَّذِي يذكر ربه والَّذِي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت وفي المسند مرفوعًا:«أكثر واذكر الله تَعَالَى حتى يُقَالُ: مجنون» .

شِعْرًا:

الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمِ الْخَبَرَا

لأَنَّهُ قَوْلَ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا

فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهْمًا وَمَعْرِفَةً

يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخْرَا

ص: 616

وَتَحْمَدِ اللهَ فِي يَوْمِ الْمَعَادِ إِذَا

جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانْتَشَرَا

للهِ دَرُّ رِجَالٍ عَامِلِينَ بِهِ

فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا

قال ابن القيم رحمه الله: كل آفة تدخل على الْعَبْد فسببها ضياع الْقَلْب وفساد الْقَلْب يعود بضياع حقه من الله تَعَالَى ونقصان درجته ومنزلته عنده.

ولهَذَا أوصى بعض الشيوخ فَقَالَ: احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوَقْت وتفسد الْقَلْب فإن ضاع الوَقْت وفسد الْقَلْب انفرطت على الْعَبْد أموره كُلّهَا وكَانَ ممن قال الله فيه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} .

ومن تأمل حال هذه الخلق وجدهم كلهم إِلا أقل القليل ممن غفلت قُلُوبهمْ عن ذكر الله تَعَالَى الَّذِي به تحيا القُلُوب وتطمئن واتبعوا أهواءهم وصَارَت أمورهم ومصالحهم فرطا، أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود عَلَيْهمْ بمصالحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم بل بما يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً.

وهؤلاء قَدْ أمر الله سُبْحَانَهُ رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرَّسُول ? لا تتم إِلا بعدم طاعة هؤلاء لأنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من أتباع الهوى والغَفْلَة عن ذكر الله.

والغَفْلَة عن ذكر الله والدار الآخِرَة متى تزوجت باتباع الهوى تولد بينهما كُلّ شر وكثيرًا ما يقترن أحدهما بالآخِر ولا يفارقه.

ومن تأمل فساد أحوال العَالِم عمومًا وخصوصًا وجده ناشئًا عهن هاذين الأصلين فالغَفْلَة تحول بين الْعَبْد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون بذَلِكَ من الضإلين، وإتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته وإتباعه، فيكون من المغضوب عَلَيْهمْ.

وأما المنعم عَلَيْهمْ فهم الَّذِينَ من الله تَعَالَى عَلَيْهمْ بمعرفة الحق عِلْمًا وبالانقياد إليه وإيثاره عما سواه عملاً وهؤلاء هم الَّذِينَ على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك.

ص: 617

ولهَذَا أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقول كُلّ يوم وليلة عدة مرات {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيْهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيْهمْ وَلَا الضَّإلينَ} .

فإن الْعَبْد مضطر كُلّ للاضطرار إلى أن يكون عارفا بما ينفعه في معاشه ومعاده وأن يكون موثرًا مريدًا لما ينفعه مجتنبًا لما يضره فبمجموع هذين قَدْ هدى إلى الصراط المستقيم فإن فاته معرفة ذَلِكَ سلك سبيل الضإلين.

وإن فاته قصده وأتباعه سلك سبيل المغضوب عَلَيْهمْ وبهَذَا تعرف قدر هَذَا الدُّعَاء العَظِيم وشدت الحاجة إليه وتوقف سعادة الدُّنْيَا والآخِرَة عَلَيْهِ.

وَقَالَ آخر: حافظ على الأوقات فإن الوَقْت رأس الْمَال ولا تضيعها بالفراغ وأملأها بالإفادة أو الاستفادة أو بهما جميعًا واعرف ما يذهب به ليلك ونهارك وجدد توبتك في كُلّ وَقْت.

وقسم وقتك ثلاثة أقسام قسم لطلب العلم وقسم للعمل الَّذِي تستعين به على مصالح دنياك وآخرتك وقسم لحقوق نفسك وما يلزمك واعتبر بمن مضى وتفكر في منصرف الفريقين بين يدي الله جَلَّ وَعَلا وتقدس فريق في الْجَنَّة وفريق في السعير.

واستحضر قرب الله منك كما في الْحَدِيث فإن لم تكن تراه فإنه يراك وأكرم الكتبة الحافظين فقَدْ أوصى رَسُولِ اللهُ بالجار من النَّاس الَّذِي بينك وبينه جدار وأحجار فَكَيْفَ بالجار الكريم الَّذِينَ قال الله فيهم {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وَقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس {عَنِ اليمين وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} .

فرعاية جواره أحق وإكرام قربه أو جب لأنه أسبق وألصق ولَيْسَ بينك وبينه جدار ولا أحجار ولا حائل ومَعَ الأسف إلشديد أن الأذية لهما لا تفتر على مر الساعات ولكن مقل ومكثر.

اللَّهُمَّ اجعل الإِيمَان هادمًا للسيئات كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، وَاجْعَلْنَا ممن توكل عَلَيْكَ

ص: 618

فكفيته واستهداك فهديته ودعاك فأحبته وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ.

(فَصْلٌ)

ثُمَّ أعلم أيها الأخر أنه ما من ساعة تمر على الْعَبْد لا يذكر الله فيها إِلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذَلِكَ ينبغي للعاقل أن يجعل معه شَيْئًا يذكره لذكره الله كُلَّما غفل عَنْهُ.

ويُقَالُ إن الْعَبْد تعرض عَلَيْهِ ساعات عمره في اليوم واللَّيْلَة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كُلّ خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآاها فارغة ساءه ذَلِكَ وتندم حين لا يفيده الندم.

وأما الساعات التي كَانَ يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بَعْضهمْ أوقات الإِنْسَان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.

ولله عَلَيْكَ في كُلّ وَقْت منها سهم من العبودية.

فمن كَانَ وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عَلَيْهِ أن هداه ووفقه للقيام بها.

ومن كَانَ وقته المعصية فعَلَيْهِ بالتوبة والندم والاستغفار.

ومن كَانَ وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عَلَيْهِ.

ومن كَانَ وقته البلية فسبيله الرِّضَا بالِقَضَاءِ والصبر والرِّضَا رضي النفس عن الله، والصبر ثبات الْقَلْب بين يدي الرب. أ. هـ.

العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإِنْسَان هُوَ ميدانه للأعمال الصَّالِحَة المقربة من الله تَعَالَى والموجبة له جزيل الثواب في الآخِرَة. ولكن ما يعرف قدر العمر إِلا نوادر الْعُلَمَاء.

ص: 619

قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَإليةِ} وَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} الآيات.

وهذه هِيَ السعادة التي يكدح الْعَبْد ويسعى من أجلها ولَيْسَ له منها إِلا ما سعى كما قال جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَن لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .

فكل جزء يفوته من العمر خَإليا من عمل صالح.

يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه.

فالوَقْت لا يستدرك ولَيْسَ شي أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من الْعَمَل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفني ولا قيمة لما يوصل إلى ذَلِكَ لأنه في غاية الشرف والنفاسة.

ولأجل هَذَا عظمت مراعاة السَّلَف الصالح رضي الله عنهم لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إِلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصريف أوقاتهم.

تَبْغِي الْوُصُولَ بِسَيْرٍ فِيهِ تَقْصِيرُ ** لا شَكَّ أَنَّكَ فِيمَا رُمْتَ مَغْرُورُ

قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا ** هَذَا وَفِي سَيْرِهِمْ جَدٌّ وَتَشْمِيرُ

قال بَعْضهمْ أدركت أقوما كَانُوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخَرَجَ أحدكم دنيارًا ولا درهما إِلا فيما يعود نفعه عَلَيْهِ فكذالك السَّلَف لا يحبون أن تخَرَجَ ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إِلا فيما يعود نفعه عَلَيْهمْ ضد ما عَلَيْهِ أَهْل هَذَا الزمان من قتل الوَقْت عَنْدَ المنكرات.

بَقيَّةُ الْعُمْرِ عِنْدِي مَا لَهُ ثَمَنٌ

وَإِنْ غَدَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الزَّمَنِ

يَسْتَدْرِكُ الْمَرْءُ فِيهَا مَا فَائِتَةٍ

مِنَ الزَّمَانِ وَيَمْحُو السُّوءَ بِالْحَسَنِ

ص: 620

آخر:

لا يَحَقْرِ الرَّجُلُ الرَّفِيعُ دَقِيقَةً

فِي السَّهْوِ فِيهَا لِلْوَضِيعِ مَعَاذِرُ

فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيِر صَغِيرَةٌ

وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ

رأى أحد الزهاد إنسانَا يأكل فطوره وَهُوَ يحتاج إلى مضغ فَقَالَ: هَذَا يستغرق وقتًا طويلاً فَلَمَّا أخَرَجَ فطوره وإذا هُوَ ما يستغرق إِلا وقتًا يسيرًا.

فَقَالَ له: ما حَمَلَكَ على هَذَا فَقَالَ: إني حسبت ما بين المضغ والسف سبعين تسبيحة.

لله دره على هذه الملاحظة ولَقَدْ بلغنا أن أحد علماء السَّلَف كَانَ يأكل بإليمنى والكراس بإليسرى.

وإذا دخل الخلا أمر القارئ أن يرفع صوته كُلّ هَذَا محافظة على الوَقْت.

بلغ يا أخي قتالة الأوقات عَنْدَ الملاهي والمنكرات من تلفاز ومذياع وكورات وجرائد ومجلات وقيل وَقَالَ ونحو ذَلِكَ.

ويا أخي إن كنت ممن عصمهم الله من هذه الشرور والبلايا والمنكرات فكثر من حمد الله وشكره وذكره واسأله الثبات حتى الْمَمَات.

وانصح إخوانك المسلمين واجتذبهم عن ضياع الأوقات فلعلك أن تَكُون سببًا لهدايتهم.

وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمْرُ مِنْكَ سَبَهْلَلا

وَلا تُغْبَنَنْ بِالنَّعْمَتَيْنِ بَلْ اجْهِدِ

فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَاتَ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ

أَكَبَّ عَلَى اللَّذَاتِ عَضَّ عَلَى إليدِ

فَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا

وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذِلُ سَرْمَدِ

ثُمَّ اعْلَمْ أيها الأخ إن الوَقْت لَيْسَ من ذهب كما يَقُولُ النَّاس فإنه أغلى من الذهب والفضة مهما بلغا كثرةً إنه الحياة من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة فتنبه لذَلِكَ وحافظ عَلَيْهِ واقتد بالسَّلَف الصالح الَّذِينَ عرفوا قيمة الوَقْت.

ص: 621

قال ابن مسعود رضي الله عنه ما ندمت على شَيْء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه عمري ولم يزد فيه عملي.

وَقَالَ آخر: كُلّ يوم مر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمسه.

وَقَالَ آخر: من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خَيْر أسسه أو علم اقتبسه فقَدْ عق يومه وظلم نَفْسهُ. ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.

وإذا كَانَ هَذَا حرص السَّلَف على الوَقْت والمحافظة عَلَيْهِ وتقديره عندهم فإن مِمَّا يحزن المسلم ويجرحه ويدمي الْقَلْب ويمزق الكبد أسىً وأسفًا ما نشاهده عَنْدَ كثيرين من الْمُؤْمِنِين من إضاعة للوَقْت تعدت حد التبذير والإسراف والتبديد.

وبالحَقِيقَة أن السفيه هُوَ مضيع الوَقْت لأن الْمَال له عوض أما الوَقْت فلا عوض له.

فالعاقل من حفظ وقته وتجنب ما يضيعه عَلَيْهِ كالجلوس عَنْدَ الملاهي والمنكرات ومطالعة في الكتب الهدامَاتَ إن من أخسر النَّاس أعمارًا من شغلتهم شهواتهم عن أمور دينهم ومصالح أمورهم قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} ، وَقَالَ عز من قائل:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} .

اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الَّذِي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الَّذِي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير.

ص: 622

اللَّهُمَّ يا من خلق الإِنْسَان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصِّدِّيقِينَ والشهداء والصالحين، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ.

(فَصْلٌ)

عن وهب بن منبه قال الحواريون: يا عيسى من أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون؟ فَقَالَ: الَّذِينَ نظروا إلى باطن الدُّنْيَا حين نظر النَّاس إلى ظاهرها والَّذِينَ نظروا إلى آجل الدُّنْيَا حين نظر النَّاس إلى عاجلها فأماتوا ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما عملوا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتًا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنًا، فما عارضهم منها رفضوه، أو من رفعتها بغير الحق وضعوه.

خلقت الدُّنْيَا عندهم فلم يجددوها، وخربت بينهم فلم يعمروها، وماتت في صدورهم فليسوا يحيوها.

يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لَهُمْ، رفضوها وكَانُوا برفضها فرحين، وباعوها وكَانُوا ببيعها رابحين.

نظروا إلى أهلها صرعى قَدْ حلت بِهُمْ المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره.

ص: 623