المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَقْفٌ للهِ تَعَالَى   تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٦

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: وَقْفٌ للهِ تَعَالَى   تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ

وَقْفٌ للهِ تَعَالَى

تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ

عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ

المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض

سابقاً

‌الجزء السادس

ص: 1

شِعْرًا:

أَلا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيِّتِي

أُلازِمُ ذِكَرَ اللهِ فِي كُلِّ لَحْظَةِ

وَآخِرُ رَمْقٍ مِنْ حَيَاتِي خِتَامُهُ

بِكَلِمَةِ إِخْلاصٍ لِبَارِي البَرِّيَةِ

آخر:

أُقَلِّبْ كِتَبًا طَالَمَا قَدْ جَمَعْتُهَا

وَأَفْنَيْتُ فِيهَا الْعَيْنَ والْعَيْنَ واَلْيَدَا

وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنِّ بِهَا وَتَمَسُّكٍ

لِعِلْمِيْ بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنَضَّدَا

وَأَحْذَرُ جُهْدِيْ أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ

مَهِينٍ وَأَنْ يَغْتَالَها غَائِلُ الرَّدَى

وَأَعْلَمُ حَقًا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا

فَيَالَيْتَ شِعْرِيْ مَنْ يُقَلَّبُهَا غَدَا

آخر:

جَنَحَتْ شَمْسُ حَيَاتِي

وَتَدَلَّتْ لِلْغُرُوبْ

وَتَوَلَّى لَيْلُ رَأْسِي

وَبَدَ فَجْرُ الْمَشِيبْ

رَبِّي خَلِّصْنِي فَإِنِّي

غَرِيق بَحْرِ الذُّنُوبْ

وَأَنِلْنِي الْعَفْو يَا مَنْ

أَقْرَبْ مِنْ كُلِّ قَرِيبْ

آخر:

وَمِنَ الْمَصَائِبِ وَالْمَصَائِبُ جَمَّةٌ

هَجْرِ كِتَابِ الْوَاحِد الرَّحْمَنِ

وَالإِنْكِبَابُ عَلَى صُحْفٍ قَدْ امْتَلأتْ

بِالْمُنْكَراتِ وَتَضْيِيعٍ لأَزْمَانِ

إِذَا المَرْءُ لَمْ يَحْفَظْ ثَلاثًا فَخَلِّهِ

وَرَى الظَّهْرِ وَاصْحَبِ مُخْلِصًا لإِلِههِ

فَأَوَّلُهَا الإِخْلاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ

وَثَانِيهَا تَابِعْ مَنْ أَتَى بِالرِّسَالةِ

وَثَالِثُهَا جَنِّبْ هوًا وَتَكَبُّرًا

لِتِسْلَمَ مِنْ نَار الْجَحِيم الْعَضِيمَةِ

آخر:

إِنِّي أَبُثَكَ مِنْ حَدِيثِي

والْحَدِيثُ لَهُ شُجُونْ

غَيَّرْتُ مَرْقَدَ نَومِي

لَيْلاً فَنَافَرِنِي السُّكُونْ

قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلُةٍ

فِي الْقَبْرِ تَرى يَكُونْ

آخر:

يَا مَنْ سَيَنا عَنْ بَنِيهْ

كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهْ

مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُ

جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِّهُوه

وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ

قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوه

ص: 2

آخر:

أَعْوَامُ لَهْوٍ كَانَ يُحْزِنُ ذِكْرُهَا

قَلْبَ الَّلِبِيب لِفَقْدِهَا لِلَّطَاعَةِ

لَوْ أَنَّهَا مُلِئَتْ بِذِكْرِ إِلَهَنَا

وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ زَالَ نَدَامَتِي

آخر:

قَدِّمْ لِنَفْسِكَ فِي الْحَيَاةٍ

تَزوُّدَا فَلَقَدْ تُفَارِقَهَا وَأَنْتَ مُوَدَّعُ

وَاهْتَمَّ لِلَسَّفَرِ الْقَرِيبْ فَإِنَّهُ

أَنَاي مِنَ السَّفَرِ الْبَعِيدِ وَأَشْنَعُ

واجْعَلْ تَزوُّدَكَ الْمَخافَةَ والتُّقى

فَلَعَلَّ حَتْفَكَ فِي مَسَائِكَ أَسْرَعُ

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

وَقَفَ قَوْمٌ عَلَى عَالٍم فَقَالَوْا: إِنَّا سُّائِلُوكَ أَفَمُجِبْيُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلَوْا وَلا تُكْثِرُوْا، فَّإِنَّ النَهَارَ لَنْ يَرِجِعَ وَالعُمُرَ لَنْ يَعُودَ، والطَّالِبَ حَثِيْثٌ فِي طَلبِه، قَالَوْا: فأَوْصَنَا، قَالَ: تَزَوَّدُوا عَلَى قَدَرِ سَفَرِكُمْ فإِنََّ خَيْرَ الزَّادِ مَا أَبْلَغَ البُغْيَةَ، ثُمَّ قَالَ: الأَيَّامُ صَحَائِفَ الأَعْمَارِ فَخلَّدُوْهَا أَحْسَنَ الأَعْمَال، فَإِنَّ الفرص تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، والتَّوَاني مِنْ أَخْلاق الكُسَالى وَالْخَوالِفِ، وَمَنْ اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ الْعَجْز عَثَرَ بِهِ، وَتَزَوَّجَ التَّوَاني بالْكَسَلَ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْخَسْرَانُ. أ. هـ. قَالَ بَعْضُهُمْ:

شِعْرًا:

تَزَوَّجَتِ الْبَطَالَةَ بالتَّوَانِي

فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعَ غُلامِهْ

فَأَمَّا الابْن سَمُّوه بِفَقْرٍ

وَأَمَّا الْبِنْت سَمُّوهَا نَدَامَة

آخر:

الذَّكْرُ أًصْدَقُ قَوْلٍ فافْهَمِ الْخَبَرَا

لأنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أَنْشَأ الْبَشَرا

فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهْمًا وَمَعْرِفَةً

يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَال العِزَّ والْفَخَرَا

وَتَحْمِد الله في يَوْمِ الْمَعادَ إِذَا

جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوفُ وانْتَشَرَا

لله دَرُّ رَجالٍ عَامِلِينَ بِهِ

فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا

قَال بَعْضُهُمْ:

أَيُّهَا الأَخ تَدَبَّرْ أَمْرَكَ فَإِنَّكَ فِي زَمَنِ الرِّبْح وَوَقتِ الْبَذْرِ وَاحْذَرْ أَنْ يَخْدَعَكَ الْعَدُوَّ عَنْ نَفِيسِ هَذَا الْجوهَر فَتُنْفِقُهُ بِكَفِّ التّبْذِير، وَالله لَئِنْ فَعَلْتَ لَتَغْرَسَنَّ شَجَرِةَ النَّدَامَة فَيَتَسَاقَطُ عَلَيَكَ مِنَ كُلِّ فَنٍّ مِنْهَا حَسْرَةٌ وَنَدَامَة وَاحْذَرْ مِنْ اخْتِلاسِ الأَعْدَاءِ لَهُ، والأعداء أَرْبَعَة إِبْلِيسُ لَعَنَهُ الله، وَالدنيا، والنَّفْس الأمَّارة بالسُّوء، والْهَوَى.

شِعْرًا

إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا

إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي

إِبْلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى

كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلَهُمْ أَعْدَائِي

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مُلاحَظَة: لا يسمح لأي إنسان أنْ يَخْتَصِرَهُ أوْ يَتَعرَّضَ له بما يُسَمُّونَه تَحْقِيقًا لأَنَّ الاخْتصار سَبَبٌ لِتعطيلِ الأصْلِ والتحقيق أرَى أَنَّهُ اتِهَامُ لِلْمُؤَلِفَ، ولا يُطْبَع إلا وقفًا لله تعالى على مَن ينتفع به من المسلمين.

(فائدةٌ عَظِيمَةُ النَّفَعْ لِمَنْ وفَّقَهُ الله)

ما أَنْعَم الله على عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلْ مِنْ أَنْ عَرَّفَه لا إله إلا الله، وَفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلَعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوِة إِلَيْهَا.

فوائد:

وَاعَجَبًا مِنْكَ يَضِيعُ الشَّيءُ الْقَلِيل وَتَتَكِدر وَتَتَأَسَّفْ، وَقَدْ ضَاعَ عُمْرَكَ الذي لا عَوضَ له، وَأَنْتَ عِنْد قَتَّالات الأَوْقَاتِ: الْكُورَة والتِّلْفَاز والْمِذِياعِ ونحوها من قُطَّاعِ الطَّرِيقْ عَنْ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلكَن سَتَنْدم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} .

ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

فائدة عَظِيمَةُ النَّفْع جِدًا لِبَعْضِ الْعُلَماء رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى

(1)

اللِّيلُ والنَّهارُ يَعْمَلان فِيكَ فاعْمَلْ فيهما أَعْمَالاً صَالِحَةً تَرْبَحَ وَتَحْمَدِ الْعَاقِبِةَ الْحَمِيدِة إن شاء الله تعالى.

وَلَيْلُكَ شَطْرُ عُمْرِكَ فَاغْتَنِمْهُ

وَلَا تَذْهَبْ بِشَطْرُ العُمْرِ نَوْمَا

آخر:

عَلَيكَ بِذِكرِ اللَهِ في كُلِّ لَحْظَةٍ

فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمنِ يَذْكُرُ

(2)

الملائِكةُ يَكْتُبَانِ مَا تَلفَّظُ به فَاحْرَصْ عَلَى أَنْ لا تَنْطِقَ إلا بِمَا يَسُرُّكَ يَوم الْقِيَامَةْ.

إِنَّ الشَرائِعَ أَلقَت بَينَا حِكَمًا

وَأَورَثَتنا أَفانينَ المَوَدَّاتِ

وَهَلْ رَأَيْتَ كَمِثْلِ الدِّينِ مَنْفَعَةً

لِلْعَبْدِ تُوصِلُهُ أَعْلَى الكَرَمَاتِ

(3)

اعْلَمْ أنَّ قِصَرَ الأَمَلِ عَلَيهَ مَدَارٌ عَظِيمْ، وحِِصْنُ الأَمَلِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، وحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فَجَأَةِ الْمُوْتِ وَأَخْذُ الإِنْسان على غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ وَهُوَ فِي غِرُورٍ وَفُتُور عن العمل للآخرة. نسأل الله أَنْ يُوقِظََ قُلوبَنَا إنه على كل شيء قدير. اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمِ.

فائدة:

الْعِلْمُ بِمَا جَاء عَنِ الله وَعَن رَسُوله خَيْرُ مِيراثٍ، وَالتَّوفِيقُ مِنَ الله خَيْرُ قِائِدٍ، والاجْتِهَادُ في طَاعَةَ اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةْ، وَلا مَالَ أَحْسَنَ مِنْ عَمَل الرَّجُل بِيَدِهِ، وَلا مُصِيبَةَ أَعْظَمُ مِنْ الْكُفْرِ بالله، ولا عَوَينَ أَوْثَقَ مِن الاعتماد عَلَى الله

ص: 6

ثُمَّ مُشَاوَرَةِ أَصْحَاب الرَّأي وَالدِّين مِنْ الْمُؤمنين، ولا أوحَشَ مِنَ الْكِبْر والْعُجْب والنِّفَاق.

آخر:

سلِ اللهَ عَقلاً نافِعاً واستَعِذْ بهِ

منَ الجَهلِ تَسأَلْ خَيرَ مُعْطٍ لِسائلِ

فبالعَقلِ تَسْتَوْفِي الفضائلُ كُلُّها

كَما الجَهلُ مُستَوفٍ جميعَ الرَّذائلِ

تَنْبِيهِ:

ومَن أَرَادَ طَبَاعَتَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله لا يُريد بِه عَرَضًا مِن الدنيا فقد أذن لُه وجَزَى اللهُ خَيْراً مِنْ طَبَعَهُ وَفَقًا أَوْ أَعَانَ على طَبْعِهِ أَوْ تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ وَتَوْزِيعِهِ عَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِين فقد ورد عنه ? أَنَّهُ قال: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» . رواه مسلم. وَوَرَدَ عنه ? أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِي بِهِ، وَمُنْبِلَهُ» . الحديث رواه أبو داود. وَوَرَدَ عَنْه ? أنه قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَاّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . الحديث رواه مسلم.

(فَصْلٌ) في الجهادِ في سبيل اللهِ

اعْلمْ وَفَّقَنَا اللهُ وإيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِين أَنَّ الْجِهادَ فِي سَبيلِ اللهِ أَفْضَلُ تَطَوُّع البَدَنِ، وَعَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رُكْناً سَادِسًا لِدِينِ الإِسْلامِ، وَهُوَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الإسلامِ، وَمُوْجِبُ الْهِدَايَةِ، وَحَقِيقَة الإخْلاصِ، والزُّهْدِ في الدنيا، وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنازِلِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا لَهُمْ الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا، فَهُم الأَعْلَوْنَ فِي الآخِرَةِ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاس يَتَلَهَّفُونَ عَلَى الْجِهادِ الذِي أُغْلِقَتْ أَبْوابُهُ مِنْ زَمَنٍ بَعيدٍ، مِنْ عَهَدِ أَنْ كانَ الرجُلُ يَخْرُجُ بِنَفْسِهِ وبِمَالِهِ آمِلاً أَنْ يُنْفَقَ

ص: 7

كُلَّ مَالِهِ في سبيلِ اللهِ، وَأَنْ يَحْظَى بالشهادةِ في سبيلِ اللهِ، فإذا رَجَعَ سَالِمًا إلى أَهْلِهِ، رَجَعَ حَزِينًا على ما فَاتَهُ مِن مَقامِ الشَّهَادَةِ التِي كَانَ يَحْرصُ عليها كُلَّ الْحِرْصِ، وَلَقَدْ كانَ الْمُسْلِمُونَ في أَوَّلِ هَذِهِ الأمَّةِ أَقَلِّيَّةً بَيْنَ الأُمَمِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ فُقَراءَ مِنَ الْمَالِ، ولكنْ كانُوا أَغْنِيَاءَ، بِمَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ البُطُولَةِ، غِنَىً لَمْ يَرْوِ لَنَا التَّارِيخُ نَظِيرَهُ بَيْنَ ذَوِي البُطُولاتِ، يَعْتَمِدُونَ في تِلْكَ البُطولَةِ على مَعونةِ مولاهُمْ لَهُم في كُلِّ حالٍ مِنَ الأَحْوَالِ.

وَلَقْدَ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ تُبَيَّضُ الوُجُوهَ وَتَمْلأُ القُلُوبَ سُرُورًا وَفَرَحًا، كَانُوا إِذَا نَازَلُوا الأَعْدَاءَ رَجَعُوا ظَافِرِينَ مُنْتَصِرِينَ، لا يُرَى عَلَيْهِمْ أَثرُ كَآبةٍ، اللَّهُمَّ إلا كَآبةُ الْحُزْنِ، على أنَّ أَحَدَهُم لَمْ يَفُزْ بِمَقامِ الشَّهَادَةِ التِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُنْتَهَى الآمالِ، لِذَلِكَ دَوَّخُوا الدُّنْيَا، وَكَانُوا عِنْدَ الكُلِّ سَادَةَ الأَعِزَّاءِ، كَانُوا لا يَطْمَعُ فِيهِمْ طَامِعٌ، مَعَ أَنَّهُمْ أَقَلِيَّةٌ، وَكَانُوا إِذَا نُسِبُوا لِغَيْرِهِمْ فُقَرَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ بالتَّوَكُّل عَلَى مَنْ بِيَدِهِ القُلوبُ، وَبِيَدِهِ كُلْ شيء لا إِلهَ إِلا هو جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّس.

وَلَقَدْ كانَ مَعَهُمْ صَفْوَةُ الْخَلْقِ، وَعَنْ إِرْشَادَاتِهِ يُصْدِرُونَ مَا يَصْدِرُونَ مِنْ أَعْمَالٍِ، وَهُوَ كَانَ لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلا بِذَلِكَ، أَمَّا نَحْنُ فَعُدَّ مِنَّا بِمِئَآتِ الأُلُوفِ وَقُلْ مَا تُرِيدُ في غِنَانَا فَالْوَاحِدُ مِنَّا يَمْلِكُ الْمَلايينَ، وَمِنْ العَقَارَاتِ الشَّيْءَ الكَثِيرَ، وَلَكِنَّنَا مَعَ ذَلِكَ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، نُحِبُّ هَذِهِ الْحَيَاةَ، حُبًّا مَلَكَ مَشَاعِرَنَا كُلَّهَا اللَّحْمُ وَالعَظْمَ وَالعُروقَ وَكُلَّ شَيْءٍ وَنَكْرَهُ الْمَوْتَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَالسَّبَبْ في ذلك - واللهُ أعلمُ -

ص: 8

أنَّ حُبَّ الدُّنْيَا، وَالتَّعَلُّقَ بِهَا هُوَ الذِي أَنْسَانَا، وَأَلْهَانَا عَنْ تَذَكُّر الْجِهَادِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَتَمَنِّيَهِ، وَبَذْلِ النَّفِيسِ فِيمَا يُقَرّبُ إِلَيْهِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا، وَيُوَفِّقَنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ سَلَفِنَا. لِنُقيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ، وَيَجْعَلْنَا مِنْ أَنْصَارِ دِينِهِ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُم والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ) وَقَدْ وَرَدَ في فَضْلِ الْجِهَادِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَبَيَانِ عَظِيمِ ثَوَابِهِ، آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللهِ تَعَالى.

فَمِنَ الآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فَفِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ترغيبٌ في الْجِهَادِ على أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَأَحْسَنِ صُورَةٍ. قَالَ ابنُ القَيَّمِ رحمه الله على هذه الآية: فجعلَ سبحانَهُ ها هُنَا الجنَةَ ثَمَنًا لِنفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، إِذَا بَذَلُوهَا فِيهِ اسْتَحَقُّوا الثَّمَنَ، وَعَقَدَ مَعهمْ هَذَا العَقْدَ، وَأَكَّدَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ التَّأْكِيدَاتِ.

1-

أَوَّلاً: إِخْبَارُهُمْ بصِيغَةِ الْخَبَرِ الْمؤَكَّدِ بأداةً إِنَّ.

2-

ثَانِيًا: الإِخْبَارُ بذلِكَ بِصَيْغَةِ الْمَاضِي الذي وَقَعَ وَثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ.

3-

ثَالِثًا: إِضَافةُ هذا العَقْدِ إلى نَفْسِهِ سُبْحَانَه، وَأَنَّهُ هو الذي اشْتَرَى هَذَا الْمَبِيعَ.

ص: 9

4-

رَابِعًا: أَنَّهُ أَخْبَرَ بَأَنَّهُ وَعَدَ بِتَسْلِيمْ هَذَا الثَّمَن، وَعْدًا لا يُخْلِفُهُ وَلا يَتْرُكُهُ.

5-

خَامِسًا: أَنَّهُ أَتَى بِصِيْغَةِ (عَلَى) الَّتِي لِلْوُجوب، إعْلامًا لِعِبادِهِ بَأنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِ، أَحَقَّه هو على نَفْسِهِ.

6-

سَادِسًا: أَنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ حَقًّا عَلَيْهِ.

7-

سَابِعًا: أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَحَلِّ هَذَا الوَعْدِ، وَأَنَّهُ في أَفْضَلِ كُتُبهِ الْمُنَزَلةِ مِنْ السَّمَاءِ وَهِيَ التَّوراةُ وَالإِنْجِيلُ والقرآنُ.

8-

ثَامِنًا: إِعْلامُهُ لِعِبَادِهِ بِصِيغةِ استفهامِ الإنكارِ، وَأَنَّهُ لا أَحَدَ أَوْفى بعهدِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ.

9-

تَاسِعًا: أَنَّهُ سبحانه وتعالى أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَبْشِرُوا بِهَذَا الْعَقْدِ، وَيُبَشّرَ بِهِ بَعْضُهمْ بَعْضًا، بَشَارةَ مَنْ قَدْ تَمَّ لَهُ العَقْدُ وَلَزِمَ، بِحَيْثُ لا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ، وَلا يَعْرِضُ لَهُ مَا يَفْسَخُهُ.

10-

عَاشِرًا: أنهُ أَخْبَرَهُمْ إِخْبَارًا مُؤكَّدًا بَأَنَّ ذَلِكَ البيعَ الذي بَايَعُوهُ بِهِ هو الفوزُ العظيمُ، والبيعُ ها هُنَا بِمَعْنى الْمُبِيعِ الذي أَخَذُوهُ بِهَذَا الثَّمَن، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَوْلُهُ:{بَايَعْتُم بِهِ} أَيْ عَاوَضْتُمْ وثامَنْتُمْ بِهِ، ثم ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ هَذَا العَقدِ الذي وَقَّعَ العقْدَ وَتَمَّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ التَّائِبُونَ إلخ. انتهى.

شِعْرًا:

إِذَا قَلَّ دِينُ قَلَّ بَهَاؤُهُ

وَضَاقَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ وَسَمَاؤُهُ

وَأَصْبَحَ لا يَدْرِي وَإِنْ كَانَ حَازِمًا

أقدَّامَهُ خَيْرٌ لَهُ أَمْ وَرَاؤُهُ

فَإِنْ كَانَ ذَا دِينٍ عَلاه بَهَاؤُهُ

وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِهِ أَصْدِقَاؤُهُ

ص: 10

وَيقولُ سَيِّدُ قُطْبِ رحمه الله على الآية المتقدمَةِ قَرِيبًا: هذا النَّصُ النَّصُ الذِي تَلَوْتُهُ مِنْ قَبْلُ وَسَمِعْتُهُ أَلْفَ مَرَّةٍ أَوْ تَزَيدُ في أَثْنَاءِ حِفْظِي لِلْقُرْآنِ، وَفِي أَثْنَاءِ تِلاوَتِهِ بعدَ ذَلِكَ وَدِرَاسَتِهِ، فِي أَكْثَر مِنْ رُبع قَرْنٍ، هَذَا النَّصْ أَشْهَدُ أَنَّنِي أَدْرِكُ مِنْهُ اللَّحْظَةَ مَا لَمْ أُدْرِكْهُ في أَلْفِ مَرَّةٍ أَوْ تَزِيدُ، إِنَّهُ نَصٌّ رَهِيبٌ، يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ العِلاقَةِ التِي تَرْبَطُ الْمُؤْمِنينَ الصادقينَ باللهِ، وَعَنْ حَقِيقَةِ البَيْعَةِ التِي في أعْنَاقِهِمْ طُولَ الْحَيَاةِ، فمَنْ بايَعَ البَيْعَةَ، وَوَفَى بِهَا فَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْحَقُّ، الذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الْمُؤْمِنِ وَحَقِيقَتِهِ، وَإِلاّ فَهِي دَعْوَى تَحْتَاجُ إلي التصديقِ والتحقيق.

حقيقةُ هذهِ البَيْعَةِ - أَوْ هذه الْمُبَايَعَةِ كَمَا سَمَّاهَا اللهُ كَرَمًا منه وَفَضْلاً - أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ اسْتَخْلَصَ لِنَفْسِهِ أَنْفُسَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، فَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، لَمْ يَعُدْ لَهُمْ أَنْ يَسْتَبِقُوا مِنْهَا بَقِيَّةً، لا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ، لَمْ يَعُدْ لَهَمْ خِيارٌ فِي أَنْ يَبْذُلُوا أَوْ يُمْسِكُوا، كَلا إِنَّها بَيْعةٌ كامِلةٌ، فالثمَنُ الجَنةُ والطريقُ الجِهَادُ، والنِّهايةُ هِيَ النَّصْرُ أَوِ الاسْتِشْهَادُ، وَمِنْ رَحمتِهِ أَنْ جَعَلَ لِلصَّفْقَةِ ثَمنًا، وَإِلاّ فهو مالِكُ الأَنفُسِ والأَموَالِ وَلَكِنَّهُ كَرَّمَ هَذَا الإنسانَ، فَجَعَلَهُ مُرِيدًا، وَكَرَّمَهُ فَجَعل لَهُ أَنْ يعقِدَ العُقودَ وَيُمْضِيهَا حتَّى مَعَ اللهِ وَكَرَّمَهُ فقيَّدَهُ بعُقُودِهِ وَعُهُودِهِ، وجعلَ وَفَاءَهُ بِهَا مِقْيَاسَ آدَمِيَّتِهِ الكَرِيمةِ، كَمَا جَعَلَهُ مَنَاطَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.

وَإِنَّهَا لَبَيْعَةٌ رَهِيبَةٌ بِلا شَكٍّ، وَلَكِنَّهَا في عُنُقِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، لا تَسْقُطُ عنهُ إلا بِسُقُوطِ إيمانِهِ وَالعِياذُ بِاللهِ، يَا اللهُ عونَكَ، فَإِنَّ العَقْدَ رَهِيبٌ، وَهؤلاءِ القَاعِدونَ بِالْمَلايينِ، في مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا يَدَّعُون أنهم مؤمنونَ بِكَ، وَهُمْ قَاعِدُونَ، لا يُقَاتلون لإِعْلاءِ

ص: 11

كَلِمَتِكَ، ولا يَقْتُلُون ولا يُقْتَلُون، ولا يُجَاهِدُون جِهَادًا مَا دُونَ القِتَالِ والقَتْلِ، يَسُدُّون بِهِ ثَغْرةً وَيُسَاهِمُونَ بِهِ في الدِّفَاعِ عَنْ دِينِك الذي أَرَدْت له النَّصْرَ والاستعلاءَ، قال:

ولقد كانَتْ هذه الكماتُ تَدْخُلُ إلى قلوب مُسْتَمِعيها الأوَّلِينَ، على عهدِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَحَوَّلُ مِنْ فَوْرِهَا إلى وَاقِعٍ مِنْ وَاقع حَيَاتِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ مَعَانٍ يَتَمَلَّوْنَها بأذهانِهِمْ، وَيُحِسُّونَها مُجَرَّدَةً فِي مَشَاعِرِهِمْ، كانُوا يَتَلَقَّوْنَهَا للْعَمَل الْمبَاشِر بِها، لِتَحْوِيلِهَا إلى حَرَكةٍ مَنظورَةٍ، لا إلى صُورَةٍ مُتأمَّلَةٍ، هَكَذَا أَدْرَكَهَا عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحة رضي الله عنه في بَيْعَةِ العَقَبَةِ.

قال محمدُ بن كعبِ القُرَظِي: قَالَ عَبْدُ اللهِ بن رواحةَ لِرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي لَيلةَ العقبةِ - اشْتَرطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، فَقَالَ:«أشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، واشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكمْ وَأَمْوَالَكُمْ» . قَالَ: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: «الْجَنَّةِ» قَالُوا: رَبِحَ البَيْعُ، لا نُقِيلُ ولا نَسْتَقِيل فَنَزَلَتْ:{إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} . انْتَهَى باخْتِصَار.

اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 12

تَأَلَّفَ بَرْقُ الْحَقِّ في الْعَارِضِ النَّجْدِي

فَعَمَّ جَمِيعَ الكَوْنِ في الغَوْرِ والنَّجْدِ

به زُعْزُعَتْ أَرْكَانُ كِسْرَى وقَيْصَرٍ

ولم يُجَد مَا حَازَا مِنْ الْمَالِ والجُنْدِ

وَأَمْثَالُهَا في السَّالِكينَ طرَيِقَهَمْ

أَرنَاَ كَمَا قَدْ قَالَهُ صَادِقُ الوَعْدِ

فَلِلهِ حَمْدٌ يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ

عَلَى نِعْمٍ زَادَتْ عَنْ الحَصْرِ والعَدِّ

فَأعْظَمهما بَعْثُ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ

أَمِينُ إله الحَقِّ وَاسِطَةَ العِقْدِ

دَعَانَا إِلى الإسلامِ دِينِ إِلَهَنَا

وتَوْحِيدِهِ بالْقَوْلِ والفِعْلِ والقَصْدِ

هَدَانَا بِهِ بَعْدَ الضَّلالَةِ والعَمَى

وَأَنْقَذَنَا بَعْدَ الغِوَايَةِ بالرُّشْدِ

حَبَانَا وَأَعْطَانَا الذِي فَوْقَ وَهْمِنَا

وأَمْكَنَنَا مِن كُلِّ طَاغٍ وَمُعْتَدِّ

وَأَيَّدَنَا بالنَّصْرِ واتَّسَعَتْ لَنَا

مَمَالِكُ لا تَدْعُوا سِوَى الوَاحِدِ الفَرْدِ

فَنَسْأَلُهُ إِتْمَامَ نِعْمَتِهِ بأنْ

يُثَبِّتَنَا عِنْدَ الْمَصَادِرِ كَالوِرْدِ

فيا فوزَ عبدٍ قَاَم لله جاهِدًا

عَلَى قَدَمِ التجريدِ يَهْدِي وَيَسْتَهْدِي

ص: 13

.. وَجَرَّدَ في نَصْرِ الشَّريعَةِ صَارمًا

بِعَزْم يُرَى أَمْضَى مِن الصَّارِمِ الْهِنْدِي

وتابَعَ هَدْيَ الْمُصْطَفَى الطُهْرَ مُخْلِصًا

لِخَالِقِهِ فِيمَا يُسِرُّ وَمَا يُبْدِي

ويَا حَسْرَة الْمَحْرُومِ رَحْمَةَ رَبِّهِ

بإِعْرَاضِهِ عن دِينِ ذِي الْجُودِ والْمَجْدِ ِ

لَقَدْ فَاتَه الْخَيْرَ الكَثِيرُ وَمَا دَرَى

وَقَدْ خَابَ واختارَ النُّحُوسَ عَلى السَّعْدِ

ومِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ أَزْكَى صَلاتِهِ

وَتَسْلِيمِهِ الأَوْفَى الكَثِيرِ بلا حَدِ

عَلَى الْمُصْطَفَى خَيْرِ الأَنَامِ وآلِهِ

وَأَصْحَابِهِ أَهْل السَّوابِقِ والزُّهْدِ

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَكُتُبِكَ وَرُسُلِك وَاليوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ.

اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاشْرَحْ صُدُورَنَا وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا وَأَمِّنْ خَوْفَنَا وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ أَعْمَالِنَا وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَحِزْبِكَ المُفْلِحِينِ الذِينَ لا خَوفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فَصْلٌ

وَمِنْ الآيَاتِ التِي وَرَدَتْ في الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَمُلازمةِ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ تَعَالى:{وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لَاّ تَشْعُرُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ

ص: 14

يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} .

وَقَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

وَقَالَ تَعَالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .

وَقَالَ تَعَالى: {لَاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} .

وَقَالَ تَعَالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .

شِعْرًا:

أَطَيَبُ الطَّيبَاتِ فِعْلُ الفَرائض

والْجِهَاد في سَبِيل الله لِقَتْلِ الأَعَادِي

ص: 15

وَقَالَ تَعَالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

وَأَمَّا الأَحَادِيثُ الواردةُ في فَضْلِ الْجِهَادِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ بالنفسِ وَالْمَالِ، فَإِلَيْكَ مِنْهَا طَرَفًا فَتَأَمَّلْهُ وَاسْأَل اللهَ أَنْ يُقِيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ في سَبِيلِهِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكَ الشَّهَادَةَ، وَأَنْ يُلْحِقْنَا بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَيَجْمَعَنَا وَإِيَّاهُمْ في مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ إِنَّهُ جَوَّاد كريم. فَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللهِ أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالى؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» . قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسِ رضي الله عنه قَالَ: قَالََ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ص: 16

شِعْرًا:

وَلَمْ أَرَى فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا

كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى الْجِهَادِ

جِهَادِ النَّفْسِ مَعْ قَتَلِ الأَعَادِي

لِدِينِ اللهِ فَافهَمْ مِنْ مُرَادِ

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ» . قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالى أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ فِيهِ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ مُسْلِم.

وَعَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنَّهُ يُنْمِّي لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤْمَنُ فِتْنَةِ الْقَبْرِ» . رواهُ أَبُو دَاودَ، والتِّرْمِذِي. وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح.

وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» . رواهُ التِّرْمذِي، وقال: حديثٌ حَسَنٌ صحيح.

ص: 17

اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَن الْمَعَاصِي وَالزَّلات وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

فَصْلٌ

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي وَإِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ» . رواه مسلم. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللهِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَواقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ جُرِحَ جَرْحًا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشِعْبٍ في عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ،

ص: 18

فَأَعْجَبَتْهُ فقال: لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أسْتَأذنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَر ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لا تَفْعَلْ فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ في سبيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يغفِرَ اللهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اغْزُو في سبيل اللهِ، مَنْ قاتلَ في سبيلِ الله فُوَاقَ ناقةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . رواهُ التِّرْمِذِي. وقال: حديثٌ حسَنٌ.

وعنهُ قالَ: قيلَ يَا رسولَ اللهِ ما يَعْدِلُ الْجهاد في سبيل اللهِ؟ قَالَ: «لا تَسْتَطِيعُونَهُ» . فَأَعَادُوا عليهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لا تَسْتَطِيعُونَهُ» . ثُمَّ قَالَ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ في سبيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَانِتِ بآياتِ اللهِ لا يَفْتُرُ مِنْ صلاةٍ وَلا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ في سبيلِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظُ مُسْلِمٍ.

وفي رِوايةٍ للبُخاري أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولِ اللهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: «لا أَجِدُهُ» . ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ» ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَى مَتْنِهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ أَوِ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ أَوْ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إِلا فِي خَيْرٍ» . رواه مسلم.

شِعْرًا:

أفادَتْنِي الدِّيَّانَةُ كُلَّ عِزٍ

وَهَل شَيءٌ أعَزُّ مِنَ الدِّيَانَةْ

ص: 19

فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ

وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَةْ

آخر:

وَمَا نُبَالي إِذَا أَدْيَانُنَا سَلِمَتْ

بِمَا فَقَدْنَاهُ مِنْ مَال وَمِنْ نَشَبِ

فَالْمَالُ مُكْتَسَبٌ وَالْعِزُّ مَطْلَبُهُ

في طَاعَةِ اللهِ لا فِي المَالِ وَالنَّسَبِ

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ في الْجَنَّةِ مائةَ دَرَجَةٍ، أعدَّها اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كمَا بَيْنَ السَّمَاءَ والأرضِ» .

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ وساوِسِ قُلُوبنَا الْحَامِلَةِ عَلَى التورُّطِ في هُوَّةِ البَاطِلِ وابتداعِهِ واجْعَلْ إِيمَانَنَا إِيمَانًا خَالِصًا صَادِقًا قَوِيًّا وَكُنْ لَنَا مُؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ عَيْشَنَا عَيْشًا رَغَدًا. وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا في مَحَبَّتِكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَعَمَلاً مُتَقبَّلاً وَحِفْظًا كَامِلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَأَدَبًا مُرْضِيًا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا القِيَامَ بِحَقِّكَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلال مِنْ رِزْقَكَ، وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا مُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ وَأَمِّلْنَا يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ، أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَت لَهُ الْجَنَّةُ» . فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا

ص: 20

رَسُولَ اللهِ. فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، قَالَ:«وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا الْعَبْدَ مَائةَ دَرَجَةٍ في الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» . قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ» . رواهُ مُسْلِم.

وَعَنْ أبي بَكْرِ بِنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي رضي الله عنه وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» . فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى أَنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ ثُمَّ كَسَرَ جفْنَ سَيْفِهِ فَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم.

وَعَنْ أَبِي عَبْسٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» . رواهُ البُخاري.

وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» . رواهُ الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . رواهُ الترمذيُ، وقالَ: حديثٌ حسنٌ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ

ص: 21

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلَاّ الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ» . وفي رِوايةٍ: «لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» .

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَاّ الدَّيْنَ» . رواهُ مُسْلم. وفي روايةٍ لهُ: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَاّ الدَّيْنَ» .

اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا وَاحْمِنَا عَنْ الرُّكُونِ إِلى عِدَاكَ وَارْزُقْنَا بُغْضَهُمْ وَأَعْوَانِهِم وَوَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ رُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.

اللَّهُمَّ نَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ النَّارِ وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الْخِزْيِ وَالبَوَارِ وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دَارَ القَرَارِ وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُم والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

موعظة: عِبَادَ اللهِ إِنَّ الأَوْلادَ بدُونِ تَرْبيةٍ لا قِيمَةَ لَهُمْ بَيْنَ صُفُوفِ الأَوْلادِ، بَلْ هُمْ بِدُونِ تَرْبِيَةٍٍ مُصِيبَةٌ كُبْرَى على الوَالِدَيْنِ خَاصةً وعلى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ وَخَيرٌ مِنْ وُجُودِهِمْ بِدُونِ تَرْبِيَةٍ أَوْ بِتَرْبِيَةٍ فَاسِدَةٍ عَدَمُهُمْ، لأَنَّهُ لَيْسَ فِي عَدَمِهِمْ ضَرَرٌ، لا عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَلا عَلَى الْجَمَاعَةِ وَلا عَلَى الأفرادِ، بَلْ في عَدَمِهِمْ مَصَالِحُ مُتَعَددةٌ، هَذَا بَيَانُ حَالِهِمْ بِلا تَرْبِيَةٍ أَوْ بِتَرْبِيَةٍ فَاسِدَةٍ، فَلْيَعْلَمْهُ الرَّجُلُ الْحَكِيمُ، أَمَّا التَّرْبِيَةُ فَشَيْءٌ هَيِّنٌ

ص: 22

يَسِيرٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ عز وجل فَمِنَ الأَسْبَابِ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ لا تَعْمَلَ أَنْتَ وَزَوْجَتُكَ أمامَ أَوْلادِكُمَا شَيْئًا يَكُونُ فَاعلُهُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ قَدْرٌ مِنْ اللوْمِ، بَلْ تَلْزمانِ الآدَابَ السَّامِيةَ وَالأَخْلاقَ الفَاضِلَةِ لِيَقْتَدُوا بِكُمَا، ذَلِكَ لأَنَّ الولدَ يُقَلِّدُ غَالِبًا أُمَّهُ وَأَبَاهُ تَقْلِيدًا مُطْلَقًا لا عِقَالَ لَهُ ولا زِمَامَ وَيَتَحَدَّثُ عَنْ سِيرةِ أَبَوَيْهِ وَأَفْعَالِهمَا وَيَفْتَخِرُ بِهِمَا وَبِمَا لَهُمَا مِنْ سَجَايَا وَيَمْدَحُهُمَا وَيذُبُّ عَنْهُمَا بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ هذا في الغالبِ كَمَا ذَكَرْنَا ويندُرُ خِلافُه تَأمَّلْ مَا حَكَاهُ القُرْآنُ الكريمُ لِتَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ صِدْقٌ وَأَنَّ صَلاحَ الأبَوَيْنِ وَتَوْجِيهَهُمَا تَوْجِيهًا حَسَنًا عَلَيْهِ مَدَارٌ عَظِيمٌ ذَكَرَ اللهُ في كِتَابِهِ العَزِيز مَرَّاتٍ أَنَّ الرُّسُلَ بَعْدَ إظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ لِلْكَمَالِ فَيُكَذِّبُونَهُم في دَعْوَتِهِمْ وَهُمْ رُسُلُ اللهِ بِحُجّةِ أَنَّ آبائهُمْ لَيْسَتْ أَعْمَالُهُمْ كَهِذِهِ الأَعْمَالِ فَيُرَجّحُونَ عَمَلَ آبَائِهِمْ وَهُمْ كَفْرٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ دِينُ رَبِّنَا ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ قَالَ تَعَالى عَنْ مَا قالوه:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} وفي الآيةِ الأُخْرى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} هكذا الآباءُ عِنْدَ الأَبْنَاءِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ العُظْمَى التي عِنْدَهُمْ لا تُدَانِيهَا مَنْزِلَةُ عَظِيمٍ، وَاسْمَعْ إِلى قَوْلِ الفَرَزْدَق يَتَحَدَّى جَرِيرًا:

أُولئكَ آبائِي فجِئنِي بمِثْلِهِم

إِذَا جَمَعَتْنَا يا جَرِيرُ الْمَجَامِعُ

ويقول الآخر:

إِنَّا َنَبْنِي عَلى مَا شَيَّدَتْهُ لَنَا

آبَاؤُنا الغُرُّ مِنْ مَجدِوِ مِن كَرَمِ

ص: 23

آخر:

وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا

عَلَى مَا كَانَ عَوَدَهُ أَبُوهُ

حَتَّى إِنَّهُم كَانُوا في الْجَاهِلِيةِ يَحْلفونَ بآبائِهِمْ حَتَّى نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لا تَحْلِفُوا بآبائكم» . وكذلك نَهَى عَن الْحَلْفِ بِغَيْرِ الآباءِ، وَلِذَلِكَ أَبْنَاءُ الوَالِدَيْنِ الكَامِلَيْنِ لا يَعْمَلانِ إِلا الأَعْمَالَ الحسنةَ التِي رَأَوْا وَالِدَيْهِم يَعْمَلانِهَا فَيشِبُّونَ وَيَشِيبُونَ لا يَعْرِفونَ إِلا الكَمَالَ ولو كَلفْتَهُم غَيْرَهُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا وَالِدَانا لا يَعْرِفَانِهِ، وَتَجِدُ أَبناءَ الْمُنْحَرِفِينَ الفَاسِدِينَ فَاسِدِينَ كَآبَائِهِمْ غَالِبًا، لأَنَّهُمْ وَرِثُوا الفَسَادَ مِنْ أَبَوَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ أَبْنَاءَ الفَاسِدِينَ الفَاسِقِينَ يَحْكُونَ عَنْ آبائِهِمْ مَا يَتَغَيَّرُ لَهُ وَجْهُ صَاحِبِ الدِّينِ وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ تَجِدَ وَلَدَ الفَاسِدينَ لَيْسَ فَاسِدًا وَمِنْ الشُّذوذِ أَيْضًا أَنْ تَجِدَ وَلَدَ التَّقِيِّ وَالتَّقِيّةِ شَقِيًّا فَاسِدًا هَذَا يُعْرَفُ قَدِيمًا قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى تَعْلِيمَ الشَّبَابِ ضِعَافُ الدِّينِ وَمَنْ لا دِينَ لَهُمْ وَلا أَخْلاقَ وَإِنْ شِئْتَ فَاقَرأ قَوْلَ اللهِ تَعَالى:{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} وَلَمْ يُبَرِّئَهَا قَوْمُهَا مِنْ الفَاحِشَةِ إِلا بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللهُ جَلَّ وَعَلا عَقِبَ الوِلادَةِ عَلَى لِسَانِ وَلَدِهَا عِيسَى عليه السلام عَرَفَ قَوْمُهَا أَنَّ الوَلدَ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الغَالِب حَسْبَ العَادَةِ التِي أَجْرَاهَا اللهُ جَلَّ وَعَلا في الصَّلاحِ والفسادِ في الأَبَوَيْنِ فَاسْتَغْرَبُوا مِنْ مَرْيَمَ الطَّاهِرَةِ العَفِيفَةِ أَنْ تَفْعَلَ الفَاحِشَةَ لَمَّا رَأَوْا بأَعْيُنِهِمْ عَلَى كَتِفِهَا وَلدًا مِنْ الأَوْلادِ وَيَحَسْبِ مَا أَجْرَى اللهُ مِنْ العَادَةِ أَنَّهُ لا يَجِيءُ الوَلدُ إِلا مِنْ وَالِدٍ لِذَلِكَ فَهِمَ قومُها فِيهَا أَنَّهَا جَاءَتْ هَكَذَا مِنْ وَالِدَيْنِ صَالِحِينَ عَلى خِلافِ الْمُعْتَادِ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّهَا جَاءَتْ كَالْعَادَةِ صَالِحَةً مِنْ الصَّالِحِينِ إِلا

ص: 24

بَعْدَ أَنْ كَلَّمَهُمْ وَلَدُهَا عِيسَى عليه السلام عَقِبَ ولادَتِهِ بِمَا يُبِرِّؤُهَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ كَلامَهُمْ أَقْبَلَ عليهِمْ وَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَأَشَارَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ بَدَأَ يَتَكَلَّمُ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِجُمْلَةِ صِفَاتٍ فَقَالَ:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} .

فَوِلادَةُ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسلامِ عَجِيبَةٌ حَقًّا بالقِيَاسِ إِلى مَأْلُوفِ البَشَرِ وَلَكِنْ لا غَرَابَةَ فِيهَا عِنْدَمَا تُقَاسُ إِلى خَلْقِ آدَمَ أَبِي البَشَرِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فاللهُ جَلَّ وَعَلا لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلا في السَّمَاءِ وَالْهَدَفَ الْمَقْصُودُ مِنْ مَا تَقَدَّمَ الْحِرْصُ وَالْجِدُّ وَالاجْتِهَادُ عَلَى تَوْجِيهِ الأَوْلادِ إِلى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالأَخْلاقِ الفَاضِلَةِ وَأَنْ يَحْرِصُوا جَدًّا على مُلاحَظَتِهمْ وَحِفْظِهمْ عَنْ مُرَافَقَةِ الأَشْرَارِ وَمَنْعِهمْ مِنْ حُضُورِ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ كَالتِّلِفِزيُون مَقْبَرَةُ الأَخْلاقِ والفِيدْيُو مُعَلِّمِ الفَسَاد وَالكُورةِ مُورِثَةِ العَدَاوَةِ وَالفُرقَةِ بَيْنَ القُلُوبِ وَالأَبْدَان وَمِنَ الْخُرُوجِ لَيْلاً حَسْبَ الاسْتِطَاعَةِ وَالقُدْرَةِ وَالْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ بِيدِ اللهِ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَلَوْ كَانَ مِنْ ذُرِيَّةِ الرُّسُلِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَوْلادِ الفَرَاعِنَةِ وَالْكَفَرَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْلَقَ سَعِيدًا تَخَلَفَتْ

ظنُونُ مُرَبِّيهِ وَخَابَ الْؤُمِّلُ

فَمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْرِيلُ كَافِرٌ

وَمُوسَى الذِي رَبَّاهُ فِرْعَوْنُ مُرُسَلُ

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبِّلاً وَرِزْقًا وَاسِعًا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَإِيمَانًا خَالِصًا، وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ الْمُخْلِصِينَ وَخُشُوعَ الْمُخْبِتِينَ، وَأَعْمَالَ الصَّالِحِينَ، وَيَقِينَ الصَّادِقِينَ،

ص: 25

وَسَعَادَةَ الْمُتَّقِينَ، وَدَرَجَاتِ الفَائِزِينَ، يَا أَفْضَلَ مَنْ رُجِيَ وَقُصِدَ، وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ.

اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَذُنُوبِنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ.

اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًا وَارْزُقْنَا إتِّبَاعَه، وَأرِنا الباطل باطلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

في هذه الآيات الكريماتِ، والأحاديثِ الشريفةِ بيانُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالشُّهَدَاءِ وَكَرَامَتُهُمْ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَفِي ضِمْنِهَا تَسْلِيَةٌ لِلأَحْيَاءِ عَنْ قَتْلاهم، وَتَعْزِيَةٌ لَهُمْ، وَتَنْشِيطٌ لَهُمْ عَلى القِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُثَابَرَةِ عليهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلشَّهَادَةِ، وَالْجِدِّ وَالاجتهادِ في الْحُصُولِ عَلَيْهَا، نَسْأَلُ اللهَ الْحَيَّ القيومَ، العليَّ العظيمَ، أَنْ يوفِقَنَا لَهَا إِنَّهُ القَادِرُ على ذلك.

عَنْ أَنَسٍ بن مالكٍ - في أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذيِن أرسلَهُمْ نَبِيُّ اللهِ إلى بئْرِ مَعُونَةَ - قالَ: لا أَدْرِي أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ وَعَلَى ذَلِكَ الْمَاء عَامِرُ بنُ الطُّفيلِ الْجَعفريُ فخرَجَ أَولئك النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتُوا غَارًا مُشْرِفًا على الماءِ، فقعَدُوا فِيهِ ثُمَّ قَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يُبَلِّغُ رِسَالةَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ هَذَا الْمَاءِ؟ فَقَالَ - أُراهُ - أبو مِلْحَانَ الأَنْصَارِي: أَنَا أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ حتَّى أَتَى حَوْلَ بَيْتِهِمْ فَاخْتَبَأ أمَامَ البُيُوتِ ثَمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ بِئْرِ مَعُونَةَ إني رُسُولُ رَسُولِ اللهِ إليكُمْ أَني أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ،

ص: 26

وأَنَّ محمدًا عبدُهُ وَرَسُولُهُ فآمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ كَسْرِ البيتِ برمْحٍ، فَضَرَبَه في جَنْبِهِ حتى خَرَجَ مِنْ الشِّقِّ الآخر فقالَ: اللهُ أكبَرُ فُزْتُ وربِّ الكعبةِ فاتَّبَعُوا أَثَرَهُ حتى أَتَوْا أصحابَه في الغار فقَتَلَهُمْ أجمعينَ عامرُ بن الطفيلِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابنُ أَبي طَلْحَةَ: حَدَثَّنِي أَنَسُ بِنُ مَالكٍ أنَّ الله أنَزَل فِيهم قُرْآنًا (بِلِّغُوا عنا قَومَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ) . ثُمَّ نُسِخَتْ فَرُفِعَتْ بعْدَ مَا قرأنها زَمانًا وأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فَقَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا ففعل ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» .

قالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: عَزَّى اللهُ نبيَّهُ وأولياءَهُ عَمَّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ في سبيلِهِ، أَحْسَنَ تعزيةٍ وألطَفَهَا وَأدْعاهَا إلى الرِّضَا بِمَا قضاهُ لَهمْ، فقالَ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً} الآية فجمَعَ لَهُمْ إلى الحياةِ الدَّائمةِ منزلةَ القُرْبِ منْهُ، وَأَنَّهم عندَهُ، وَجَرَيانَ الرزْقِ الْمستَمّرِ عليهم وفرَحَهُمْ بِمَا آتَاهمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو فوقَ الرِّضَا واستبشارَهُمْ بإخوانِهِمْ الذين باجتماعِهِم بِهِمْ يتمُّ سرورُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ

ص: 27

وَاسْتِبْشَارَهُم بِمَا يُجَدّدُ لَهم كَلَّ وَقْتٍ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ.

وَعَنْ أَنَسِ أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا إِلَاّ الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسرُهُ أَنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيَا فَيُقْتلَ مرةً أُخْرى مِمَّا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» . تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلم.

وَعن جابر قَالَ: قالَ لِي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعَلِمْتَ أنَّ اللهَ أَحْيَا أَباكَ فَقَالَ له: تَمَنَّ. فَقَالَ لَهُ: أُرَدُّ إلى الدُّنْيَا فَأُقتَلُ فِيكَ مَرةً أُخْرَى، قالَ: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ» . وَعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَوْنَنِي وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تَبْكِيهِ - أَوْ مَا تَبْكِيهِ - مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ» . وَعَنْ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأَوي إلى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ في ظِلِّ العَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِم، قَالُوا: يَا لَيْتَ إخْوَانِنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللهُ بِنَا لِئَلا يَزْهَدُوا في الْجِهَاد، ولا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ فَقَالَ اللهُ عز وجل: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ فَأَنْزِلَ هَذِهِ الآياتِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات.

ص: 28

قال ابن القيم رحمه الله:

فالشَّأنُ لِلأرْوَاحِ بَعْدَ فِراقِهَا

أبدَانَها وَاللهِ أعظَمُ شَانِ

إمَّا عَذَابٌ أَوْ نَعِيمٌ دَائِمٌ

قَدْ نُعِّمَتْ بِالرَّوْحِ والرَّيحَانِ

وَتَصِيرُ طَيْرًا سَارِحًا مَعْ شَكْلِهَا

تَجْنِي الثِّمَارَ بِجَنَّةِ الحَيَوانِ

وَتَظَلُّ وَارِدَةً لأنْهَارٍ بِهَا

حَتَّى تَعُودَ لِذَلِكَ الْجُثْمَانِ

لَكِنَّ أَرْوَاحَ الذِينَ اسْتُشْهِدُوا

فِي جَوفِ طَيْرٍ أَخْضَرٍ رَيَّانِ

فَلَهُمْ بِذَاكَ مَزِيَّةٌ في عَيْشِهِم

ونَعِيمُهُم لِلرُّوْحِ وَالأبدَانِ

بَذَلُوا الجُسُومَ لربِّهِم فأعَاضَهُم

أَجْسَامَ تِلكَ الطَّيرِ بالإحْسَانِ

وَلَهَا قَنَادِيلٌ إليهَا تَنتَهِي

مَأوَى لَهَا كَمَسَاكِنِ الإِنْسَانِ

فالرُّوحُ بَعدَ الموتِ أكمَلُ حَالَةٍ

منهَا بِهَذِي الدَّارِ في جُثمَانِ

وَعذَابُ أشقَاهَا أشدُّ مِنَ الذِي

قَدْ عَاينَت أبصَارُهَا بِعِيَانِ

ص: 29

اللَّهُمَّ يا فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إِليْه، يا كَافِي المُتَوَكِّلينَ عليه، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَتِ الظُنُونُ إلا فِيكَ، وضَعُفَ الاعْتمادُ إِلا عَلَيْكَ نسألُكَ أنْ تُمْطَرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا مِن سَحائِبِ بِرِّكَ وإحْسَانِكْ وأَنْ تُوِفقَّنا لِمُوجِباتِ رَحْمَتِكَ وعَزَائِم مَغفرتِكَ إنكَ جَوادٌ كريم رؤوفٌ غفور رحيم.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَنَسْأَلُكَ بَرَكَةَ الحياةِ وَخَيْرَ الحيَاةِ، وَنَعُوذ بِكَ مِنْ شَرّ الحياةِ، وَشَرّ الوَفَاةْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عَمْروٍ بن حَرَام: رَأَيْتُ في النَّوْمِ قَبْلَ أُحُدٍ مُبَشِّر بن عَبْدِ الْمُنْذِرِ يَقُولُ لِي: أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْنَا في أَيَّام. فَقُلْتُ: وَأَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: في الْجَنَّةِ نَسْرَحُ فِيهَا حَيْثُ نَشَاءُ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تُقْتَلْ يَوْمَ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: بَلَى، ثُمَّ أُحِييتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ:«هَذِهِ الشَّهَادَةُ يا جَابِرُ» . وَقَالَ خَيْثَمَةُ وَكَانَ ابْنُهُ قَدْ اسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ -: لَقَدْ أَخْطَأْتَنِي وَقْعَةُ بَدْرٍ، وَكُنْتُ وَاللهِ عَلَيْهَا حَرِيصًا.

حَتَّى سَاهَمْتُ ابْنِي في الْخُرُوجِ، فَخَرَجَ سَهْمُهُ فَرُزِقَ الشَّهَادَةَ وَقَدْ رَأَيْتُ البَارِحَةَ ابْنِي في النَّوْمِ في أَحْسَنِ صُورَةٍ، يَسْرَحُ في ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَأَنْهَارِهَا، يَقُولُ: الْحقْ بِنَا تُرَافِقُنَا في الْجَنَّةِ، فَقَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَ رَبِّي حَقًّا، وَقَدْ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَصْبَحْتُ مُشْتَاقًا إِلى مُرَافَقَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي وَأَحْبَبْتُ لِقَاءَ رَبِّي، فَادْعُ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَرْزُقْنِي الشَّهَادَةَ وَمُرَافَقَةَ سَعْدٍٍ في الْجَنَّةِ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقُتِلَ بأُحُدٍ شَهِيدًا، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ

ص: 30

ابنُ جَحْشٍ في ذَلِكَ اليَومِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ ألْقَى الْعَدُوَّ غَدَا فَيَقْتُلُونِي ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِي، وَيَجْدَعُوا أَنْفِي وَأُذُنِي، ثُمَّ تَسْأَلُنِي فِيمَ ذَلِكَ فَأَقُولُ: فِيكَ.

وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ شَبَابٌ يَغْزُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا، فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى أُحُدٍ أَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهُ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ: إِنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ رُخْصَةً فَلَو قَعَدْتَ فَنَحْنُ نَكْفِيكَ وَقَدْ وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الْجِهَادَ فَأَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ بَنِيَّ هَؤُلَاءِ يَمْنَعُونِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَكَ وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أُسَتَشْهَدَ فَأَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَنْكَ الْجِهَادَ» . وَقَالَ لِبَنِيهِ: «وَمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ عز وجل يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ» . فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا.

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رضي الله عنه عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ

ص: 31

قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَاّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} إِلَى آخرها. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالَا: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ» . رواه البخاري.

شِعْرًا:

لَبَيْكَ رَسُولَ اللهِ مَنْ كَانَ بَاكِيَا

وَلا تَنْسَ قَبْرًا بالْمَدِينَةِ ثَاوِيَا

جَزَى اللهُ عَنَّا كُلَّ خَيرٍ مُحَمَّدًا

فَقَدْ كَانَ مَهْدِيًا دَلِيلاً وَهَادِيَا

وَلَنْ تَسْرِيَ الذِكْرَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ

إِذَا كُنْتَ لِلْبَرِّ الْمُطَهَّرِ نَاسِيَا

أَتَنْسَى رَسُولَ اللهِ أَفْضَلَ مَنْ مَشَى

وَآثَارُهُ بالْمَسْجَدَيْنِ كَمَا هِيَا

وَكَانَ أَبَرَّ الناسِ بالناسِ كُلِّهم

وَأَكْرَمَهُم بَيْتًا وَشِعِبًا وَوَادِيَا

تَكَدَّرَ مِنْ بَعْدِ النبيّ مُحَمَّدٍ

عَلَيْهِ سَلامُ اللهِ مَا كَانَ صَافِيَا

ص: 32

فَكَمْ مِنْ مَنَارٍ كَانَ أَوضَحَهُ لَنَا

وَمِنْ عَلَمٍ أَمْسَى وَأَصْبَحَ عَافِيَا

رَكَنَّا إلى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ بَعْدَهُ

وَكَشَّفَتِ الأَطْمَاعُ مِنَّا الْمَسَاوِيَا

وَإِنّا لَنُرْمَى كُلَّ يَوْمٍ بِعَبْرَةٍ

نَرَاهَا فَمَا نَزْدَادُ إلا تَمَادِيَا

نُسَرُّ بِدَارٍ أَوْرَثَتْنَا تَضَاغُنَا

عَلَيْهَا وَدَارٍ أَوْرَثَتْنَا تَعَادِيَا

إِذا المَرءُ لَم يَلبَسْ لِبَاسًا مِنَ التُقى

تَقَلَّبَ عُريانًا وَإِن كانَ كاسِيَا

أَخي كُن عَلى يَأسٍ مِنَ الناسِ كُلِّهُم

جَمِيعًا وَكُن ما عِشتَ للهِ راجِيَا

أَلَم تَرَ أَنَّ اللهَ يَكْفِي عِبادَهُ

فَحَسْبُ عِبادِ اللهِ بِاللهِ كافِيَا

وَكَمْ مِنْ هَنَاتٍ مَا عَلَيْكَ لَمَستَهَا

مِنَ النَّاسِ يَومًا أَو لَمَسْتَ الأَفاعِيَا

أَخِي قَدْ أَبَى بُخْلِي وَبُخْلُكَ أَنْ يُرَى

لِذِي فاقَةٍ مِنّي وَمِنْكَ مُوَاسِيَا

كِلانا بَطينٌ جَنبُهُ ظَاهِرُ الكُسى

وَفي النَّاسِ مَنْ يُمْسِي وَيُصْبِحُ طَاوِيَا

كَأَنّا خُلِقنا لِلبَقاءِ وَأَيُّنا

ص: 33

.. وَإِن مُدَّتِ الدُّنْيَا لَهُ لَيْسَ فَانِيَا

أَبى المَوتُ إِلا أَن يَكونَ لِمَن ثَوى

مِنَ الخَلقِ طُرًّا حَيثُمَا كَانَ لاقِيَا

حَسَمْتَ الْمُنَى يَا مَوْتُ حَسْمًا مُبَرِّحًا

وَعَلَمْتَ يَا مَوتُ البُكَاءَ البَواكِيَا

وَمَزَّقتَنا يا مَوتُ كُلَّ مُمَزَّقٍ

وَعَرَّفتَنا يَا مَوْتُ مِنْكَ الدَوَاهِيَا

أَلا يَا طَوِيلَ السَّهْوِ أَصْبَحْتَ ساهِيًا

وَأَصْبَحتَ مُغتَرًّا وَأَصْبَحْتَ لاهِيَا

أَفي كُلِّ يَومٍ نَحنُ نَلْقَى جَنازَةً

وَفي كُلِّ يَوْمٍ نَحْنُ نَسْمَعُ نَاعِيَا

وَفي كُلِّ يَومٍ مِنكَ نَرثِي لِمُعوِلٍ

وَفي كُلِّ يَومٍ نَحْنُ نُسْعِدُ باكِيَا

أَلا أَيُّها البَانِي لِغَيرِ بَلاغِهِ

أَلا لِخَرابِ الدَّهرِ أَصْبَحْتَ بانِيَا

أَلا لِزَوالِ العُمْرِ أَصْبَحْتَ جامِعًا

وَأَصْبَحْتَ مُختالاً فَخورًا مُباهِيَا

كَأَنَّكَ قَدْ وَلَّيتَ عَنْ كُلِّ مَا تَرى

وَخَلَّفتَ مَن خَلَّفتَهُ عَنْكَ سالِيَا

اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا في الأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزي الدنيا وعذاب الآخرةِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بِاليَسِيرِ وَسَهِل عَلينَا كُلّ أمر عَسِير وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبَّه وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ

ص: 34

يَا مَنْ هُو مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمَّ فَرَجَا وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجًا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

في وقعة بدر

فَلَمَّا كَانَ في رَمَضَانَ في العام الثاني، في سَبْعَةَ عَشَرَ، في صَبِيحَةِ يوم الْجُمعةِ، وَقَعَتْ بَدْرُ بَيْنَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وَجَيْشِهِ، وَبَيْنَ الْقَوْمِ الكَافِرين، أعداءِ اللهِ ورسولهِ، وهِيَ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَمُلْخَّصُهَا أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ العِيرِ الْمُقْبِلَةِ مِنْ الشَّامِ لِقُرَيْشِ، العِيرُ التِي خَرَجُوا في طَلَبِهَا، لَمَا خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، وَفِيهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ لِقُرَيْشٍ، حَتَّى لَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ قُوِّمَ مَا فِيهَا بِنَحْوِ خَمْسِينَ أَلْف دِينَارٍ فَتَرَامَتْ إِلى رَسُولِ اللهِ ? أَنْبَاؤُهَا، بِأَنَّهَا قَدْ فَصَلَتْ مِنْ الشَّام ِ، عَائِدَةً إِلى مَكَّةَ، فَنَدَبَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا بِالنُّهُوضِ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ غَائِبًا، وَلَمْ يَحْتَفِلْ لَهَا احْتِفَالاً بَلِيغًا، لأَنَّهُ خَرَجَ مُسْرِعًا وَمَعَهُ ثَلاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةٌ عَشَرَ رَجُلاً، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَسَارَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ بُيُوتَ السُّفيَا، وَهِيَ آبَارٌ عَذْبَةُ الْمَاءِ، عَلَى نَحْوِ مِيلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَ بِهَا يَوْمَ الأَحد، فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ.

ثُمَّ عَرَضَ الْجُنْدَ، فَرَدَّ مِنْهُمْ صِغَارَهُمْ، الذِينَ لا يَقْوَوْنَ عَلَى حَمْلِ السِّلاحِ، فَكَانَ مِمَّنْ رَدَّهُمْ عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ، وَرَافِعُ بن خُدَيْجٍ، وَالبَرَاءُ بنُ عَازِبٍ، وَأُسَيَّدُ بنُ حُضَيْرِ بِنْ سَمَّاكٍ، وزيدُ بنُ

ص: 35

الأرقم، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وَعَرَضَ عُمَيْرَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَاسْتَصْغَرَهُ فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازهُ، وَسَيَّرَهُ مَعَ الْجَيْشِ، وَرَوَى الوَاقدي عن سَعْد ابن أبي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ أَخِي عُمَيْرَ بنَ أَبِي وَقَّاصِ، قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَارَى، فَقُلْتُ مَالَكَ يَا أَخِي؟ قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَرَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَسْتَصْغِرُنِي فَيَرُدَّنِي، وَأَنَا أُحِبُّ الْخُرُوجَ، لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقَنِي الشَّهَادَةَ، قَالَ: فَعُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَصْغَرَهُ، فَقَالَ:«ارْجِعْ» . فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَكَانَ سَعْدٌ يَقُولُ: كُنْتُ أَعْقِدُ لَهُ حَمَائِلَ سَيْفِهِ.. فَقُتِلَ بِبَدْرٍ وَهُوَ ابنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَة.

وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن بُيُوتَ السُّقْيَا فِي نَحْوِ خَمْسَةَ عَشَرَ وثَلاثِمِائَةِ، وَرُوِيَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَدّ أَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرِ، وَجَدَهُمْ ثَلاثَمِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَفَرِحَ بِذَلِكَ وَقَال:«عِدّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ الذَّيِنْ جَازوا مَعَهُ النَّهْرَ» . وكان فِيهِمْ نَحْو سَبْعِينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ، وَنَحْوُ مائتَيْن وَأَرْبَعِينَ مِنْ الأَنْصَارِ، ولَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِن الْخَيْلِ إِلا فَرَسَانِ، فَرَسٌ لِلزُبَيْرِ بنِ الْعَوَّامِ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بِنْ الأَسْوَدِ الْكَنَدِي، وكان مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا، يَعْتَقبُ الرَّجُلانِ والثَّلاثَةُ على الْبَعِير الواحدَ، والأَرْبَعَةُ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، يَتَبَادَلُونَ الرُّكُوبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيُّ بنُ أبِي طَالبِ، وَمَرْثَدُ بنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ، وَزَيْدُ بنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو كَبْشَةَ، وانَسَة مَوْلَيَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 36

يَعْتَقِبُونَ بَعِيْرًا، وكانَ أَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعِبْدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ يِعْتَقِبُونِ بَعِيْرًِا.

وَهَكَذَا كَانَ كُلُ جَمَاعَةٍ يَتَعَاقَُبْونَ الْمَشْيَ، وَيَتَبَادَلُونَ الرُّكُوبَ عَلَى بَعِيرهِم، وكَانَ صلى الله عليه وسلم يَأَبَى إلا أَنْ يُشَارِكَ أَصْحَابَهُ في تَعبَهِمْ ورَاحَتِهمِْ، وإلا أَنْ يَأْخُذَ دَوْرَهُ في الْمَشْي وفي الرُّكوبِ كَوَاحِدٍ منْهُمْ، فكانَ صلى الله عليه وسلم إذا انْتَهَتَ نَوْبَتُهُ في الرُّكوبِ نَزَلَ فَيَقُولُ لَهُ رَفِيقَاهُ: اِرْكَبْ يَا رسولَ اللهِ، حتى نَمْشِيَ عَنْكَ. فَيَقُولُ لَهُمَا:«مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي على الْمشِي، ومَا أَنَا بأغْنَى عن الأَجْرِ مِنْكُمَا» .

وكان أصحابُهُ صلى الله عليه وسلم في حاجَةٍ شَدِيدَةٍ، فَقرٌ وَعُرِي، ولِذَلِكَ فقد رُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَظَر إلى أَصْحَابِهِ حينَ خَرَجُوا إلى بَدْرٍ، فَأَثَّرَ في نَفْسِهِ مَنْظَرُهُمْ، فَدَعَا اللهِ لَهُمَ، فقال:«اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفاةٌ فاحْمِلْهُمْ، وَعُرَاةٌ فاكْسُهُمْ، وجِياعٌ فَأَشْبِعْهُمُ، وَعَالةٌ فََأَغْنِهِمْ مِنْ فَضْلِكَ» . واسْتَخْلَفَ على الْمَدِينةِ وعلى الصَّلاةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَلَمَّا كانَ بالرَّوْحَاءِ رَدَّ أبا لُبَابةَ بنَ عبْدِ الْمُنْذِرِ، واسْتعْمَلُه على المدينة.

شِعْرًا:

وَنَشْهَدُ أنَّ اللهَ خَصَّ رَسُولَهُ

بأصْحابِهِ الأبْرَارِ فَضْلاً وَأَيَّدَا

فَهُمْ خَيرُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ أنْبِيائِهِ

بِهِمْ يَقْتَدِي في الدِّينِ كُلُ مَنْ اقْتَدَا

ص: 37

وَأَفْضلُهم بَعْدَ النبي مُحَمَّدٍ

أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ذُو الْفَضْلِ والنَّدا

لَقَد صَدَّقَ الْمُخْتَارَ فِي كُلِّ قَوْلِهِ

وآمَن قَبلَ النَّاسِ حَقًّا وَوَحَّدَا

وَفَادَاهُ يَومَ الْغَارِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ

وَوَاسَاهُ بالأمْوَالِ حَتَّى تَجَرَّدَا

وَمِنْ بَعْدِهِ الْفَارُوُقُ لا تَنْسَ فَضْلَهُ

لَقَدْ كَانَ لِلإِسْلامِ حِصْنًا مُشَيَّدَا

لَقد فَتَحَ الْفَارُوقُ بالسَّيْفِ عَنْوةً

كَثِيرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدَا

وَأَظْهَرَ دِينَ اللهِ بَعْدَ خَفَائِهِ

وَأَطْفَأَ نَارَ الْمُشْرِكِينَ وَأَخْمَدَا

وَعُثْمَانُ ذُو النُّورينِ قَدْ مَاتَ صَائِمًا

وَقَدْ قَامَ بالْقُرَآنِ دَهْرًا تَهَجَّدَا

وَجَهَّزَ جَيْشَ العُسْرِ يَومًا بِمَالِهِ

وَوَسَّعَ لِلْمُخْتَارِ والصُّحْبِ مَسْجِدَا

وَبَايَعَ عَنْهُ الْمُصْطَفَى بِشِمَالِهِ

مُبَايَعَةِ الرِّضْوانِ حَقًّا وَأَشْهَدَا

ولا تَنْسَ صِهّرَ الْمُصْطَفَى وابْنَ عَمِهِ

فَقَدْ كانَ حبَرًا لِلْعُلُوم وَسَيِّدَا

وَفَادَى رَسُولَ طَوْعًا بِنَفْسِهِ

ص: 38

.. عَشِيَّةَ لَمَّا بالفِراشِ تَوَسَّدَا

وَمَنْ كَانَ مَوْلاهُ النَّبِيُ فَقَدْ غَدَا

عَليٌّ لَهُ بالْحَقِ مَولاً وَمُنْجِدًا

وَطَلْحَتُهُمْ ثُمَّ الزُّبَيْرُ وَسَعْدُهُمْ

كَذَا وَسَعِيدٌ بالسَّعَادَةِ أُسْعِدَا

وَكانَ ابْنُ عَوفٍ باذِلَ الْمَالِ مُنْفِقًا

وَكَانَ ابنْ جَرَّاحٍ أَمِينًا مُؤَيَّدَا

وَلا تَنْسَ بَاقِي صَحْبِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ

وَأَنْصَارَهُ والتَّابِعِينَ على الْهُدَى

فَكُلُهُمْ أَثْنَى الإِلهُ عَلَيْهِمُ

وَأَثْنَى رَسُولُ اللهِ أَيْضًا وَأَيَّدَا

اللَّهُمَّ إِنا نعوذُ بكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَعَمَلٍ لا يُرْفَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، واغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ إنا نعوذُ بكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَعَمَلَ لا يُرْفَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، واغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا من حِزْبِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحينَ الذين أَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ وَجَعَلْتَهُمْ مِمَّنْ قَبِلْتَ صِيامَهُ وَقِيامَهُ، واغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمينَ الأَحْياءِ منهم والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وكانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينةِ على غَيْرِ لِوَاءٍ مَعْقُودٍ، ولكِنّهُ مُنْذُ خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ السُّقيَا وَضَعَ رِجَالَهُ في تَشْكِيلٍ حرْبِيّ، يُلائِمُ ظُرُفَ السَّيْر في أَرْضِ الْعَدُوّ، فقدْ يَلْقَوْنَ عَدُوِّهُمْ فُجْأةً، وهم على غَيْر أُهْبةٍ لِلْقتالِ، وقدْ يَأْخُذُهُمْ عَدُوُّهُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ

ص: 39

الْخَلْفِ، وَهُمْ كُلَمَّا بَعُدُوا عن الْمَدِينةِ تَقَدَّمُوا في أرضٍ يُسَيْطِرُ عليها الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَنْ يُشَابِهونَهُمْ في عَدَاوَةِ الإِسْلامِ، وَمِنْ أَجْل هَذَا أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في تَنْظِيمِ رِجَالِهِ، عَلَى النَّحْوِ الذِي أَحْرَى أَنْ يَأْمَنَ بِهِ الْمُفَاجَأَةَ، فَجَعَلَ عَلَى السَّاقَةِ قَيْسَ ابنَ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامَ، وَأَظهَرَ السِّلاحَ، وَعَقَدَ ألْوِيةً ثلاثةً لِوَاءً أَبْيَضَ يَحْمِلُهُ مُصْعبُ بنُ عُمَيرٍ، وَرَايَتَانِ سَوْداَوَانِ، إِحْدَاهُمَا مَعَ عَلِيّ بنِ أبي طَالبٍ، وَالتِي للأَنْصَارِ إلى سَعْدِ بن مُعاذٍ.

وَسَارَ صلى الله عليه وسلم، وَلَمَّا قَرُبَ مِنْ الصَّفْرَاءِ قَدَّمَ عَيْنَيْنِ لَهُ إلى الْمُشْرِكِينَ، يَتَجَسَّسَانِ أَخْبَارَ العِيْر، وَالْعَيْنَّانِ بسْبَسُ بنُ عَمْروٍ الْجَهَنِي، وَعُدَيُّ بنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِي، فَانْتَهَيَا إِلى مَاءِ بَدرٍ، فَوَجَدَا هُنَاكَ جَارِيَتَيْن تَسْتَقِيَانِ مِنْ الْمَاءِ، وَعَلِمَا مِنْ حِوَارِهِمَا أَنَّهُمَا تَتَرَقَّبَانِ عِيرَ قُرَيْشٍ، وَأَنَّهَا تَصِلُ إلى بَدْرٍ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ فَرَجَعَا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأْخَبَرَاهُ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانُ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْخَبَرُ بَأَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَتَرَصَّدُونَ عوْدَتُه، فأرْسَلَ على عَجَلٍ رَسُولاً إلى قُرَيْشِ، يُنَبِّئُهَا بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَصَحْبُهُ، وَيَسْتَفِزُّهَا لِحَمَايَةِ أَمْوَالِهَا وَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بنَ عَمْروٍ الغِفَارِيّ إلى مَكَّةَ، مُسْتَصْرِخًا لِقُرَيْشٍ بالنَّفِير إلى عِيرِهِمْ، لِيَمْنَعُوهُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَوَصَّى رَسُولَهُ أَنْ يَتَّخِذَ لِذَلِكَ كُلَّ وَسِيلَةٍ تُثِيرُ مَشَاعِرَ القَوْمِ، وَتَسْتَنْهِضُ هِمَمَهُمْ لِلْغَوْثِ وَالنَّجْدَةِ، فَاتَّخَذَ رَسُولُهُ لِذَلِكَ كُلَّ مَظَاهِرِ الصَّارِخِ الْمَلْهُوفِ، فَجَدَع بَعِيرَهُ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَوَقَفَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الوَادِي، قَائِلاً: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ

ص: 40

وَأَصْحَابُهُ، لا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الغَوْثَ الغَوْثَ، فَبَلَغَ الصَّرِيخُ أَهْلَ مَكَّةَ، فَنَهَضُوا وَأَوْعَبُوا في الْخُرُوجِ، وَأَعَانَ قَوِيُهُمْ ضَعِيفَهُمْ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجلٌ إلا خَرَجَ، أَوْ بَعَثَ مَكَانَهُ رَجُلاً، وَيَقُولُ الرُّوَاةُ: إِنَّ أُميَّةَ بنَ خَلَفٍ أَرَادَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ النَّفِيرِ، فَجَاءَهُ عقبةُ بنُ أَبِي مُعْيطٍ، وَمَعْهُ مِجْمرةٌ وَبَخُورٌ فَوَضَعَهَا أَمَامَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَدِيّ القَوْمِ، وَقَالَ لَهُ: اسْتَجْمِرْ أَبَا علي، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ النِّسَاءِ فَخَجَلَ وَاسْتَحْيَا، وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ مَعَ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ سِوَى أَبِي لَهَبٍ، فَإِنَّهُ عَوَّضَ عَنْهُ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ: العَاصُ بنُ هِشَامٍ، كانَ لأبي لَهَبٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُمْ مِنْ بُطونِ قُرَيْشٍ إلا بَنِي عَدِيٍّ فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَخَرَجُوا من دِيَارِهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى:{بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} .

وسَارَ أَبُو سُفْيَانَ بالعِيرِ يَتَشَمَّم الأَخْبَارَ في طَرِيقِهِ، حَتَّى إِذَا قَرُبَ مِنْ بِدْرٍ، تَقَدَّمَ الْعِيرَ حَذَرًا، حَتَّى وَرَدَ الْمَاءَ، فَسَأَلَ هُنَاكَ عَنْ أَخْبَارِ الْمُسْلِمِين، فَعَلِمَ أَنَّ رَاكِبَيْنِ كَانَا قَدْ نَزَلا عَلَى تَلٍّ هُنَاك، فَأَنَاخَا رَاحِلَتَيْهِمَا سَاعَةً، حَتَّى اسْتَقَيَا مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ رَحَلا، فَذَهَبَ أَبُو سُفْيَانَ إِلى ذَلِكَ التَّلِّ، وَنَظَر في مُنَاخِ الرَّاحلتينِ، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِهِمَا، وَفَرَكَهُ فِي يَدِهِ، فَوَجَدَ فِيهِ آثَارَ النَّوَى، فَعَلِمَ أَنَّ الرَّاكِبَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللهِ عَلائِفُ يَثْرِبَ، وَهَذِهِ عُيُونُ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَقْبَلَتْ، تَتَجَسَّسُ أَخْبَارَنَا وَرَجَعَ مُسْرِعًا إلى الْعَيْر، فجعلَ يَضْرِبُ وُجُوهَهَا وَيُحَوّلُها عَنِ السَّيْرِ إِلى بَدْرٍ، مُتَّجِهًا بِهَا إِلى سَاحِلِ البحرِ، تَارَكًا بَدْرًا إِلى يَسَارِهِ فَاسْتطَاعَ أَنْ يَنْجُو بَأَمْوَال قُرَيْشٍ، وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ قَدْ نَجَا وَأَحْرَزَ العَيْرَ

ص: 41

كَتَبَ إِلى قريشٍ أَنْ ارْجِعُوا، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ، فَأتَاهُمْ الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ، فَهَمُّوا بالرُّجُوعِ وَرَغِبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ رَكِبَ رَأْسَهُ، وَعَزَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعُوا، فَتَضْعُفَ شَوْكَتُهُمْ بَيْنَ العربِ، وَيَطْمَعَ فِيهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ، فأخَذَ يَصِيحُ في القَوْمِ وَيَقُولُ: وَاللهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى نَردَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا، وَنُطْعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِنْ العَرَبَ وَنَسْقِيَ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا القِيَانُ، وَتَسْمَعَ العربُ بنا، وبِمَسِيرنا، وَجَمْعِنَا، وَلا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ.

وَانْقَسَمَ النَّاسُ إلى قِسْمَيْنِ، فَرِيقٌ يَرَى أَنَّ الْخُرُوجَ إِنَّمَا كَانَ لإِنْقَاذِ العِيرِ، وَقَدْ نَجَّاهَا اللهُ، فلا مَعْنَى إِذًا لِلسَّيْرِ، وَفَرِيقٌ يَرَى رَأْيَ أَبِي جَهْل، فَيَدْعُو إلى مُواصَلَةِ السَّيْرِ، وَكَانَ من الفريقِ الأَوَّلِ بَنُوا عَدِيٍّ، وَبَنُوا زَهْرَةَ، وَمِمَّنْ أَشَارَ بِالرُّجُوعِ الأَخْنَسُ بنُ شَرِيْقٍ فَعَصَوْهُ فَرَجَعَ هُوَ وَبَنُوا زَهْرَةَ فَلَمْ يَشْهدْ بَدْرًا زُهْرِيُّ، فَاغْتَبَطَتْ بَنُوا زَهْرَةَ بَعَدَ ذَلِكَ بِرَأْي الأَخْنَسِ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مُطَاعًا مُعَظَّمًا، وَأَمَّا الفَرِيقُ الثَّانِي فَقَدْ وَاصَلُوا السَّيْرَ تَحْتَ ضَغْطِ أَبِي جَهْلٍ وَشِيعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَسِيرُ عَلَى غَيْرِ مَا يَرَى مِنَ الرَّأْيِ، وَمَا يُضْمِرُ مِنَ العَقِيدَةِ، إِنَّمَا يَسِيرُ تَحْرُّجًا، وَمَدَارَاةً لِسَفَاهَةِ السُّفَهَاءِ، وَمَا زَالُوا يَسِيرونَ وَيَنْحَرُونَ، وَيُطْمِعُونَ، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيُغَنُّونَ وَيُصَفِّقُونَ وَيُعَلِنُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِكُلِّ الوسَائلِ وَالدِّعَايَاتِ، حَتَّى وَصَلُوا إِلى وَادِي بَدْر، فَنَزَلُوا بالعُدْوَةِ القُصْوَى. اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقَ الْجَبينُ وكَثُرَ الأنينُ وأَيِسَ مِنَّا الْقَريبُ والطبيبُ وَبكى عَلَيْنَا الصديقُ والحبيبُ وَارحَمْنَا يَا مَولانَا إِذَا وَارانَا التُّرابُ وَوَدَّعَنَا الأحْبَابُ وَفَارَقْنَا النَّعِيمَ وانقطَع عَنَّا النَّسِيم، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ الوَاسِعَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 42

فَصْلٌ: وَلما بلغ رَسُول الله ? خُرُوجُ قُرَيْش اسْتَشَار أَصْحَابَهُ، فَتَكَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا، فَاسْتَشَارَهُمْ ثَانِيًا فَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فَأَحْسَنُوا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ ثَالِثًا، ثُمَّ قَالَ:«أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ» . يُرِيدُ بِذَلِكَ الأَنْصَارَ، لأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ القَوْمِ عَدَدًا، وَكَانُوا قَدْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْنَعُوهُ في دِيَارِهِمْ، أَمَّا في خَارِجِ دِيَارِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ عَهْدٌ يُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ، إِلا أَنْ يَرَوْا ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهِمُوا أَنَّهُ يَعْنِيهِمْ، فَبَادَرَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّكَ تُرِيدُنَا. قَالَ: «أَجَلْ» . فَقَالَ سَعْدُ: إِنَّكَ عَسَى أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَأَحَدَثَ اللهُ لكَ غَيْرَهُ، فَانْظُر الذِي أَحْدَثَ اللهُ إِلَيْكَ، فَامْضِ إِلَيْهِ، فَإِنَّا قَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عُهُودَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَلَعَلَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَخْشَى أَنْ لا تَكُونَ الأَنْصَارِ تَرَى عَلَيْهَا، أَنْ لا يَنْصُرُوكَ إِلا في دِيَارِهِمْ، وَإِنِّي أَقُولُ عن الأَنْصَارِ وَأُجِيبُ عَنْهُمْ، فَاظْعَنْ يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعْطِنَا مِنْهَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ، فَوَاللهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ البَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَاللهِ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا البَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ في الْحَرْبِ، صُدَّقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تُقرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، فَسُرَّ لِذَلِكَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَانْبَسَطَ وَجْهُهُ، وَبَدَا عَلَيْهِ البِشْرُ وَالرِّضَى والنَّشَاطُ.

وَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ: لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى

ص: 43

{اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . ولكن نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ، فَأشْرَقُ وَجْهُهُ صلى الله عليه وسلم وَسُرَّ بِمَا سَمِعَ، وَقَالَ:«سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَصَارِعَ القَوْم» . فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى بَدْرٍ حَتَّى نَزَلَ عِشَاءً أَدْنَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَدْرٍ، فَقَالَ الْحُبَابُ بن الْمُنْذِر - وَكَانَ خَبِيرًا بِمِيَاهِ بَدْرٍ -: يَا رَسُولَ اللهِ أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَ مِنْهُ أَوْ نَتَأَخَّرُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ» . فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِي أَدْنَى مَاءٍ مِنْ القَوْمِ، فَنُنْزِلَه، فَإِنِّي أَعْرِفُ غَزَارَةَ مَائِهِ وَكَثْرَتهَ، فَننْزِلُهُ وَنُغَوّرُ مَا عَدَاهُ مِنْ الآبَارِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنَمْلؤُهُ مَاءً، فَنَشْرَبُ وَلا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ أَشَرْتَ بالرأي» . وَنَهَضَ بأصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلُوا، ثُمَّ بَنُوا الْحَوْضَ عَلَى البِئْرِ، حَيْثُ أَشَارَ الْحُبَابُ، وَطَمَسُوا كُلَّ مَا وَرَاءَهُمْ مِن الآبَارِ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ الزَّلَلِ وَوَفِّقْنَا لِصَالِحِ العَمَلِ وَهَدَانَا بِفَضْلِهِ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَطَرِيقَ السَّدَادِ إِنَّهُ جَلَّ شَأنُهُ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

مَوْعِظَةٌ

عِبَادَ اللهِ اهْتِفُوا بالقُلُوب لَعَلَّهَا تَسْتَيْقِظُ مِنْ وَسَنِ الرُّقَادِ وَاصْرِفُوا نُفُوسَكمْ عَنْ مَوَارِدِ الإِبْعَادِ في دارِ النُّقْلَةِ وَالزَّوَالِ آثارَ السَّلَفِ الزُّهَادِ فَقَدْ نَاحَتْ الدُّنْيَا عَلَى أَهْلها بَألْسُنِ الانْقِلابِ وَلاحَتْ لَكُمْ مِنْ الآخرةِ شَوَاهِدُ الاقْتِرَابِ وَأَنْتُمْ عَمَّا أَضَلَّكُمْ مِنْهَا غَافِلُونُ وَبِمَا غَرَّكُمْ

ص: 44

وَأَلْهَاكُمْ عَنْهَا مُتَشَاغِلُونَ كَأَنَّكُمْ بِحَقِيقَةِ مَعْرِفَتِهَا جَاهِلُونَ أَوْ كَأَنَّكُمْ إِلى غَيْرِهَا رَاحِلُونَ فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَاتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَنْهُ مُنْقَلِبُونَ وَانْهَضُوا في التَّزوَّدِ لِمَا أَنْتُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، فَإِنَّ أَمَامَكمْ صَيْحَةٌ تُلْحِقُ الأَحْيَاءَ مِنْكُمْ بالأَمْوَاتِ وَتَذْهَلُ مَعَهَا النُّفُوسُ عَنْ مُلابَسَةِ اللذاتِ فَمَا أَقْرَبَ الوُصُولِ إِلَيْهَا لِمَنْ مَطَايَاهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ الْمُبْلِيَانِ لِكُلِّ جَدِيدٍ الْمُقَرِّبَانِ لِكُلِّ بَعِيدٍ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَانَتْ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي مَطَايَاهُ سَارَتْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ. وَكَتَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلى أَخٍ لَهُ فَقَالَ: اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْكَ أَنَّكَ مُقِيمٌ وَأَنْتَ دَائِبُ السَّيْرِ تُسَاقُ سَوْقًا حَثِيثًا وَالْمَوْتُ مُتَوَجّهٌ إِلَيْكَ وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ وَرَائِكَ وَمَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ فَلَنْ يَرْجَعَ إِلَيْكَ.

شِعْرًا:

تَمُرُّ اللَّيَالِي وَالْحَوَادثُ تَنْقَضِي

كَأَضْغَاثِ أَحْلام وَنَحْنُ رُقُودُ

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّهَا كُلُّ سَاعَةٍ

تَجِدُ بِنَا سَيْرًا وَنَحْنُ قُعُودُ

آخر:

وَما هَذِهِ الأَيّام إِلا مَراحِل

يَحُثُ بِهَا حَادٍ مِن الْمَوْتِ قَاصِدُ

وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا

مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ

آخر:

أَتَحْسَبِ العُمْرَ مَرْدُودًا تَصَرُمُهُ

هَيْهَاتَ أَنْ يَرْجِعَ الْمَاضِي مِنْ الْحُقُبِ

فَبَادِرِ العُمْرَ قَبْلَ الفَوْتِ مُغْتَنِمًا

مَا دُمْتَ حَيًّا فَإِنَّ الْمَوْتَ في الطَّلَبِ

ص: 45

.. فالعُمُرُ مُنْصَرِمٌ والوَقْتُ مُغْتَنَمٌ

وَالدَّهْرُ ذُو غَيْرٍ فَأجْهَد به تُصِبِ

كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ لأهْلِهِ: أَسْتَوْدِعُكُمْ اللهِ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ مَنِيَّتِي التِي لا أَقُومُ مِنْهَا وَكَانَ هَذَا دَأبَهُ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ. وَقَالَ آخَرُ: إِنْ اسْتَطَاعَ أَحَدُكُمْ أَنْ لا يَبِيتَ إِلا وَعَهْدُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ مَكْتُوبُ فَلْيَفْعَلْ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَبِيتُ فِي أَهْلِ الدُّنْيَا وَيُصْبَحُ فِي أَهْلِ الآخِرَةِ. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي لِكُلّ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِمَحَلٍّ تَطْرُقُهُ السَّيَارَاتُ في وَقْتِنَا الذي كَثَر فِيهِ مَوْتُ الفُجَاءِ بسَبَبِ السُّرْعَةِ الْمُفْرِطَةِ مِنْ سَائِقِي السَّيَارَاتِ الذين لَيْسَ عِنْدَهُمْ حُرْمَةٌ لِلْمُسْلم نَسَأْلُ اللهَ الْحَيَّ القَيُّومَ أَنْ يوفِقَ وُلاتَنَا لِلأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَرَدْعِهِمْ لِيَأْمَنَ الْمَشَاةُ وَيَطْمَئِنُّوا بَإِذْنِ اللهِ تعالى:

إِنّي أَرِقتُ وَذِكرُ المَوتِ أَرَّقَني

وَقُلْتُ لِلدَّمْعِ أَسْعِدْنِي فَأَسْعَدَنِي

يَا مَن يَمُوتُ فَلَمْ تُحْزِنْهُ مَيْتَتُهُ

وَمَنْ يَمُوتُ فَمَا أَولاهُ بِالْحَزَنِ

تَبْغِي النَّجَاة مِنَ الأَحْدَاثِ مُحْتَرِسًا

وَإِنَّمَا أَنْتَ وَالعِلاتُ في قَرَنِ

يَا صَاحِبَ الرَّوْحِ ذِي الأَنْفَاسِ في بَدَنٍ

بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ مُرتَهَنِ

لَقَلَّمَا يَتَخَطَّاكَ اِختِلافُهُمَا

حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ الرُّوحِ وَالبَدَنِ

طِيبُ الْحَياةِ لِمَنْ خَفَّتْ مَئُونَتُهُ

وَلَمْ تَطِبْ لِذَوِي الأَثْقَالِ وَالْمُؤَنِ

ص: 46

لَمْ يَبْقَ مِمَّا مَضَى إِلا تَوَهُّمُهُ

كَأَنَّ مَنْ قَدْ مَضَى بِالأَمْسِ لَمْ يَكُنِ

وَإِنَّمَا الْمَرءُ فِي الدُّنْيَا بِسَاعَتِهِ

سَائِلْ بِذلِكَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالزَمَنِ

مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ لِلْمُلْقِي بِعِبرَتِهِ

بَيْنَ التَّفَكُّرِ وَالتَّجْرِيبِ وَالفِطَنِ

أَلَسْتَ يَا ذَا تَرَى الدُّنْيَا مُوَلِّيَةً

فَمَا يَغُرُّكَ فِيهَا مِنْ هَنٍ وَهَنِ

لأَعْجَبَنَّ وَأَنَّى يَنْقَضِي عَجَبِي

النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ وَالْمَوتُ في سَنَنِ

وَظَاعِنٍ مِنْ بَيَاضِ الرَّيطِ كِسْوَتُهُ

مُطَيَّبٍ لِلْمَنايَا غَيْرِ مُدَّهِنِ

غَادَرْتُهُ بَعْدَ تَشْيِيعَيهِ مُنْجَدِلاً في

قُرْبِ دَارٍ وَفي بُعْدٍ مِنَ الوَطَنِ

لا يَسْتَطيعُ اِنْتِقَاصًا في مَحَلَّتِهِ

مِنَ القَبِيحِ وَلا يَزْدَادُ في الْحَسَنِ

مَا بَالُ قَوْمٍ وَقَدْ صَحَّتْ عُقُولُهُم

فِيمَا ادَّعَوا يَشْتَرُونَ الغَيَّ بِالثَمَنِ

لِتَجْذِبَنّي يَدُ الدُّنْيَا بِقُوَّتِها

إِلى الْمَنَايَا وَإِنْ نَازَعْتُهَا رَسَنِي

وَأَيُّ يَوْمٍ لِمَنْ وَافَى مَنِيَّتَهُ

ص: 47

.. يَوْمٌ تَبَيَّنُ فِيهِ صُورَةُ الغَبَنِ

لله دُنْيَا أُنَاسٍ دَائِنِينَ لَهَا

قَدْ ارْتَعَوا في رِيَاضِ الغَيِّ وَالفِتَنِ

كَسَائِمَاتٍ رَوَاعٍ تَبْتَغِي سِمَنًا

وَحَتْفُهَا لَوْ دَرَتْ في ذَلِكَ السِّمَنِ

اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنْ النِّفَاقِ وَعَمَلنَا منَ الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنْ الكَذب اللَّهُمَّ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُور الإيمانِ واجعلنا هُداةً مُهْتَدِين اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْْرِكِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

فَصْلٌ: وَكَانَ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى كِتْمَانِ أَمْرِهِ عَنْ النَّاسِ، حَتَّى لا يَقِفَ على حَقِيقَتِهِمْ أَحَدٌ، وَلا يَعْرِفَ مَقْصَدَهمْ أَحَدٌ فَجَعَلَ كُلَّمَا نَزَلَ مَنْزِلاً يَسْأَلُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ، وَيَبْحَثُ عَنْهُمْ في حَيْطَةٍ وَحَذَرٍ.

وَرَوَى ابن إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلى شَيْخٍ مِنْ العَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَ ذَاكَ بِذَاكَ» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابِهِ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الذِي أَخْبَرَنِي فَهُمْ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ

ص: 48

الذي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمْ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ مِنْ مَاءَ» . ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، قَالَ: يَقُولُ الشَّيْخُ: مِنْ مَاءٍ أَمِنْ مَاءَ العِرَاقِ.

فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلَيَّ بن أَبِي طَالِبٍ، وَالزَّبَيْرُ بن العَوَّامِ، وَسَعْدَ بن أبي وَقَّاصِ، في نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلى مَاءِ بَدْرٍ، يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ، فَوَجَدُوا سُقَاةَ قُرَيْشٍ يَسْقُونَ لَهُمْ فَأَمْسَكُوا بِغُلامَيْنِ مِنْهُمْ، فَجَاءوُا بِهِمَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَجَعَلَ القَوْمُ يَسْأَلُونَهُمَا لِمَنْ أَنْتُمَا؟ وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَا مِنْ سُقَاةِ العَيْرِ، فَقَالَ الغلامان: نَحْنُ مِنْ سُقَاةِ قُريشٍ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمَا يَكْذِبَانِ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُمَا، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُمَا فَيَقُولانِ: نَحْنُ لِقُرَيْشٍ. فَلَمَّا أَوْجَعُوهُمَا ضَرْبًا قالا: نَحْنُ لأبي سُفْيَانَ فَتَرَكُوهُمَا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَلاتِهِ قَالَ:«إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صدَقَا وَاللهِ إِنَّهُمَا لِقُريشٍ» . ثُمَّ سَألَهُمَا عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَالا: هُمْ وَاللهِ وَرَاءَ هَذَا الكَثِيبِ الذِي تَرَى، بالعُدْوةِ القُصْوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«كَمْ القَوْمُ» ؟ قَالا: كَثِيرٌ، قَالَ:«مَا عِدَّتُهُمْ» ؟ قَالا: لا نَدْرِي، قَالَ:«كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ» ؟ قَالا: يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا مِنْ الْجُزُرِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمَائةِ وَالأَلْفِ» . ثُمَّ قَالَ: «فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ» ؟ فَجَعَلا يَذْكُرَانِ لَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ:«هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلاذَ كَبِدِهَا» . فَعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّها الْحَرْبُ لا مَحَالَةَ.

اللَّهُمَّ قَوِّي إِيَمانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبُرسُلِكَ وباليومِ الآخِرِ وَبالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ

ص: 49

وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ) وَكَمَا أَشَارَ الْحُبَابُ بنُ الْمُنْذِرِ بِبِنَاءِ الْحَوْضِ، أَشَارَ سَعْدٌ بنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنْ يَبْنُوا لَهُ عَرِيشًا، يَشْرِفُ مِنْهُ عَلَى الْمَعْرَكَةِ وَيُوَجِّهُهَا وَيَأْمَنُ غِرَّةَ العَدُوِّ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَلا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا، تَكُونُ فِيهِ وَنُعِدُّ عندَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِذَا أَعَزَّنَا اللهُ وَأظْهَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا وَإِنْ كَانَتْ الأُخْرَى جَلَسْتَ عَلَى رُكَائِبَكَ، فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بَأَشَدَّ مِنْهُمْ حُبًّا لكَ وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللهُ بِهِمْ، وَيُنَاصِحُونَك، وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ، ثُمَّ بُنِيَ العَرِيشُ عَلَى تَلٍّ، كَمَا أَشَارَ سَعْدٌ، وَأُعِدَّتْ عِنْدَهُ أَنْجَبُ الرَّكَائِب، وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي الصُّفُوفَ، وَيَتَفَقَّدُ الرِّجَالَ، وَيُهَيِّئُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ، وَدَفَع رَايتَهُ إِلى مُصْعَبِ بن عُمَيْرِ، فَتَقَدَّمَ بِهَا إِلى مَوْضِعِهَا الذِي أَمْرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِيهِ، ثُمَّ وَقَفَ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إِلى الصُّفُوفِ، فَاسْتَقْبَلَ الْغَرْبَ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَرَاءَهُ، وَأَقْبلَ الْمُشْرِكُونَ، فَاسْتَقْبَلُوا الشَّمْسَ.

وَخَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، يَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي الأَجْرِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَحُثِّكُمْ عَلَى مَا حَثَّكُمْ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّ اللهَ عَظِيمٌ شَأْنُهُ، يَأْمُرُ بالْخَيْرِ، وَيُحِبُّ الصِّدْقَ، وَيُعْطِي الْخَيْرَ أَهْلَهُ، عَلَى مَنَازِلِهِمْ عِنْدَهُ، وَإِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ بِمَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْحَقِّ لا يَقْبلُ اللهُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا مَا ابْتُغِي بِهِ وَجْهَهُ، وَإِنَّ

ص: 50

الصَّبْرَ في مَوَاطِنِ الْبَأسِ مِمَّا يُفَرِّجُ اللهُ بِهِ الْهَمَّ، وَيُنْجِي بِهِ مِنْ الغَمِّ، وَتُدْرَكُ بِهِ النَّجَاة فِي الآخِرَةِ، فِيكُمْ نَبِيُّ اللهِ، يُحَذِّرُكُم وَيَأْمُرُكُم، فَاسْتَحْيُوا اليَوْمَ أَنْ يَطَّلِعَ اللهُ عز وجل عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكُم يَمْقُتُكُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ:{َمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} وَأَبْلُوا رَبَّكم في هَذِهِ الْمَوَاطِنِ أَمْرًا تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الذي وَعَدَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وَعِقَابَهُ شَدِيدٌ، وَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ باللهِ الْحَيِّ القَيُوم، إليهِ أَلْجَأْنَا ظُهُورَنَا، وَبِهِ اعْتَصَمْنَا، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلنَا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرِ، يَغْفِرُ اللهُ لِي وَلِلْمُسْلِمِينَ» .

وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ تَنْصَبُّ إِلى الوَادِي مِنْ الكَثِيب، وَعَدَدُ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبٌ من الأَلْفِ مُقَاتِل، وَمَعَهُمْ مَائَةُ فَرَسٍ، وَسَبْعُمَائَةِ بَعِير، وَرُوِيَ أَنَّ أَيْمَاءَ بن رُخْصَةَ بَعَثَ إِلى قُرَيْشٍ ابْنَا لَهُ بعَشْرِ جَزَائِرِ، أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَمُدَّكُم بِسِلاحٍ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ أَوْصَلَتْكَ رَحِمٌ، فَلَئِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَمَا بِنَا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وَإِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللهَ كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ فَمَا لأَحَدٍ باللهِ طَاقَةٌ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَثْرَتَهُمْ، وَقِلَّةَ أَصْحَابِهِ، تَوَجَّهَ إلى اللهِ يَسْتَعِينُهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشُ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ الذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ فَأحِنْهُمُ الغَد» .

اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُ فِيهِ أَهْلُ طَاعَتِكَ وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ مَعْصِيَتِكَ وَيُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء.

اللَّهُمَّ مَكِّنْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَأَلْهِمْنَا

ص: 51

ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ بِحُضُورِ قَلْبٍ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَذِقْنَا عَفْوَكَ وَغُفْرَانَكَ وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ مَرْضَاتِكَ. وَعَامِلْنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَاقْطَعْ عَنَّا مَا يُبْعِدُ عَنْ طَاعَتِكَ اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَأَرَادَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَسْتَوْثِقُوا مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، قَبْلَ أَنْ يُنَازِلُوهُمْ، فَأَرْسَلُوا عُمَيْرَ بن وَهْبٍ الْجُمَحِي يَحْرُزُ لَهُمْ أَعْدَادَ الْمُسْلِمِينَ تَقْرِيبًا، وَيَتَعَرَّفُ أَحْوَالَهُمْ، فَلَمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ عُمَيْرُ رَأَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَنْظَرٍ يَبْعَثُ الرُّعْبَ والذُّعْرَ وَالْخَوْفَ وَيَسْتَوْجِبُ الْحَذَرَ الشَّدِيدَ، قَوْمٌ قَلِيلٌ عَدَدَهُمْ، وَلَكِنْ صُوَرُ الْمَوْتِ تَتَرَاءَى مِنْ مَنَاظِرِهِمْ، قَدْ تَرَاصَتْ صُفُوفُهُمْ، كَمَا يَتَرَاصُ البُنْيَانِ، وَتَلاحَمَتْ أَجْسَامُهُمْ كَمَا يَتَلاحَمُ الْحَدِيدُ، وَجَثُوا عَلَى الرُّكَبِ مُسْتَوْفِزِين، يَتْنَمَرُونَ تَنَمُّرَ الأُسُودِ الضَّوَارِي، وَيَتَلَمَظُونَ تَلَمُظَ الأفَاعِي، وَيَدُورُونَ بِعُيُونٍ تَبْعَثُ الْمَوْتَ حَيْثُمَا دَارَتْ، وَتَتَحَرَّكَ شِفَاهُهمُ بِمَا لا تَظْهِرُهُ أَصْوَاتُهُمْ، يَسُودُهُمْ صَمْتٌ رَهِيبٌ وَتَصْمِيمٌ عَجِيبٌ، وَعَزْمٌ صَارِمٌ عَلَى الاسْتِمَاتَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى لَكَأَنَّهُمْ بَاعُوا لَهَا نُفُوسَهُمْ، فلا يُرِيدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلى أَهْلِيهِمْ، فَأَخَذَ عُمَيْرُ بِهَذَا الْمَنْظِرِ الْمُفْزِعِ الْمُقْلِقِ، وَرَجَعَ إِلى قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ البَلايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا.. نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النَّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ، وَلا مَلْجَأ إِلا سُيُوفَهُمْ، والله ما أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ رَجُلاً مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ

ص: 52

أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَرُوا رَأْيَكُمْ، فَتَعَاظَمَتْ في أَعْيُن قُرَيْشٍ هِيبَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَانْهَارَتْ قُوَاهُمْ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَحَلَّ الْخَوْفِ مَحَلَّ التَّكَبر وَالزَّهْوِ وَالطُّغْيَانِ وَالاحْتِقَارِ، وَلَكِنْ ضَافَ عَلَى الْخَوْفِ التَّجَلُّدُ وَالْمُجَامَلَةُ، وَأَخَذَ الْخِلافُ يَدِبُّ بَيْنَ صُفُوفِهِمْ مِنْ جَدِيدٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمْشِي إِلى بَعْضٍ، رَجَاءَ أَنْ يَنْفَضُوا قَبْلَ أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ، وَيَحْتَدِمُ الْقِتَالُ، وَأَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا بَيَنْهُم مِن خِلافٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعْذِرَ إِلَيْهِمِ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لَهُمْ: ارْجِعُوا فَإِنَّهُ يَلِي هَذَا مِنِّي غَيْرَكُمْ، أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ تَلَوْهُ مِنِّي، فَقَالَ حُكَيْمُ بن حِزَامٍ: قَدْ عَرَضَ وَاللهِ نِصْفًا فَاقْبَلُوهُ وَمَشَى إِلى عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الوَلِيدِ أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدَهَا وَالْمُطَاعِ فِيهَا، فَهَلْ لَكَ أَلا تَزَالَ تُذْكَرَ مِنْهَا بِخَيْرٍ آخِرَ الدَّهْرِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنَّاسِ، وَتَحْمِلْ دَمَ حَلِيفِكَ ابن الْحَضْرَمِي، وَمَا أَصَابَ مُحَمَّدٌ مِنْ تِلْكَ العِيرِ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، قَالَ عُتْبَةُ: قَدْ فَعَلْتُ وَأَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ في الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ: يَا قَوْمُ أَطِيعُونِي لا تُقَاتِلُونَ هَذَا الرَّجُلَ وَأَصْحَابَهُ، اعْصُبُوا هَذَا الأَمْرَ بِرَأْسِي، وَاجْعَلُوا جُبْنَهَابِي فَإِنَّ مِنْهُمْ رِجَالاً قَرَابَتَهُمْ قَرِيبَةً، وَلِئِنْ أَصَبْتُمُوه لا يَزالَ الرَّجلُ مِنْكُمْ يَنْظُرُ إلى قَاتِلِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَيُورِثُ ذَلِكَ مِنْكُمْ شَحْنَاءَ وَأَضْغَانًا، وَلَنْ تَخْلَصُوا إِلى قَتْلِهِم حَتَّى يُصِيبُوا مِنْكُمْ عَدَدَهُمْ وَلا آمَنُ أَنْ تَكُونَ الدَّبِرَةُ عَلَيْكُم، وَأَنْتُم لا تَطْلُبُونَ إِلا دَمَّ هَذَا الرَّجُلِ، وَالْعِيرِ التِي أَصَابَ، وَأَنَا أَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَهُوَ عَلَيَّ، يَا قَوْمُ إِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ كَاذِبًا يَكْفِيكُمُوهُ ذُؤبَانُ العَرَبِ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا أَكَلْتُمْ في

ص: 53

مُلْكِ ابن أَخِيكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ نَبِيًّا كُنْتُم أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، يَا قَوْمُ لا ترُدُوا نَصِيحَتِي، وَلا تُسَفَّهُوا رَأْيِي.

وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ شَيْطَانُ هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، فَجَعَلَ يُسَفِّهُ رَأَيْ عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ، وَيَصِفُهُ بالْجُبْنِ، وَيُشِيعُ في النَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَ إِلا خَوْفًا عَلَى ابْنِهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَقَدْ رَأَى أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَكْلَةَ جَزُورٍ، فَخَافَ عَلَى ابْنِهِ أَنْ يُقْتَلَ مَعَهُمْ، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الشَّرِّ، وَيَقُولُ: لا وَاللهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَاسْتَفْتَحَ في ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَقْطَعْنَا ِللرَّحِمِ، وَآتانَا بِمَا لا نَعْرِفُ فأَحِنْهُ الغَدَاة.

اللَّهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ، وَأَرْضَى عِنْدَكَ، فَانْصُرْهُ الَيْوَمَ فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} .

وَبَعَثَ إلى عَامِرِ بن الْحَضْرَمِي الذِي قُتِلَ أَخُوهُ في نَخْلَةَ، فَجَعَلَ يُحَرِّضُهُ عَلَى أَنْ يَطْلُبَ ثَأرَ أَخِيهِ، فَقَامَ ابن الْحَضْرَمِي، (فَجَعَلَ يَحْثُوا عَلَى نَفْسِهِ التُّرَابَ وَيَصِيح وَاعُمَرَاهْ وَاعُمَرَاهْ) فَحَمِيَ النَّاسُ وَاسْتَوْثَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ وَأَخَذُوا أُهْبَةَ الزَّحْف، وَاسْتَعَدُّوا للْقِتَالْ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(مَوْعِظَةٌ)

عِبَادَ اللهِ انْتَبِهُوا لِلْمَوَاعِظِ وَاعْمَلُوا بِهَا فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ جَاءَتْهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ اللهِ فِي دِينِهِ فَإِنَّمَا هِيَ نِعْمَةٌ مِنْ اللهِ سِيقَتْ إِلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهَا بِشُكْرٍ وَإِلا كَانَتْ حُجَّةً مِنْ اللهِ

ص: 54

عَلَيْهِ لِيَزْدَادَ بِهَا إثْمًا وَيَزْدَادُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سُخْطًا.

عِبَادَ اللهِ كَمْ قَدْ نُهِيتُمْ عن الاغْتِرَارِ بالدُّنْيَا وَحُطَامِهَا الْفَانِي وَالطَّمَأْنِينَةِ إِلَيْهَا وَالانْخِدَاعِ بِزَخَارِفِهَا وَكَمْ قَدْ نُهِيتُمْ عَنْ الإِيثَارِ لَهَا عَلَى الآخِرَةِ وَالاشْتِغَالِ بِهَا عَنْهَا قَالَ اللهُ تَعَالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِل:{فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ، وَقَالَ تَعَالى:{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِل:{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} وَإِنَّ دَارًا يَا عِبَادَ الله أَوْصَافِهَا فِي كِتَابِ الله وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إِنَّها َغرُوْرٌ وَمَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَعِبٌ وَلَهِوٌ وَمَمَرٌّ وَطَرِيْقَ إِِلى الآخِرَةِ كَمَا هُوَ الوَاقِعُ دَارٌ مَمْلُؤَةٌ بالأكْدَارِ والْمَصَائِبَ والآلام والأَحْزَانِ دَارٌ ماَ أَضْحَكَتْ إِلا وَأَبِكَتْ ولا سَرَّتْ إِلا وأَسَاءَتْ دَارٌ نِهَايَةُ قُوَّةِ سَاكِنِيهَا إِلى الضَّعْفِ وَنِهَايَةُ شَبَابِهِمْ إِلى الْهَرَمِ وَنِهَايَةُ حَيَاتِهِمْ الْمَوْت.

اللَّهُمَّ يَا مُصْلِحَ الصَّالِحِينَ أَصْلِحْ فَسَادَ قُلُوبِنَا وَاسْتُرْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عُيُوبَنَا وَاغْفِرْ بِعَفْوِكَ وَرَحْمَتِكَ ذُنُوبَنَا، وَهَبْ لَنَا مُوبِقَاتِ الْجَرَائِرِ وَاسْتُرْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا فَاضِحَاتِ السَّرَائِرِ، وَلا تُخْلِنَا في مَوْقِفِ القِيَامَةِ من بَرْدِ عَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ وَلا تَتْركْنَا مِنْ جَمِيلِ صَفْحِكَ وَإِحْسَانِكَ وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةَ وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 55

شِعْرًا:

أَيَا بَانِيَ الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَبْتَنِي

وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَجْمَعُ

أَرَى الْمَرْءُ وَثَّابًا علَى كُلِّ فُرْصَةٍ

وللْمَرْءِ يَومًا لا مَحَالَةً مَصْرَعُ

آخر:

يَأْتِي عَلَى النَّاسِ إِصْبَاحٌ وَإِمْسَاءٌ

وَحُبَّنَا هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الدَّاءُ

كَمْ أَيقَضَتْ بِصُروفٍ مِنْ حَوَادِثِهَا

وَكُلَّنَا لِصُرُوفِِ الدَّهْرِ نَسَّاءُ

أَيْنَ الْمُلُوكَ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ

قَادُوا الْجُنُودَ وَنَالُوا كُلَّ مَا شَاءُوا

وَأَيْنَ عَادٌ وَاقْيَالَ الْمُلُوكِ وَمَنْ

كَانَتْ لَهُمْ عِزَّةٌ فِي الْمُلُوكِ قَعْسَاءُ

قَدْ مُتِعُوا بِقَلِيلٍ مِنْ زَخَارِفِهَا

فِي عِزَّةٍ فَإِذَا النَّعْمَاءُ بَأْسَاءُ

نَالُوا يَسِيرًا مِنَ اللَّذَاتِ وَانْصَرفُوا

عَنْ دَارِهَا وَاِقْتَفى اللَّذَاتَ أَسْوَاءُ

دَارٌ هَذَا وَصْفُهَا وَوَاقِعُهَا فَهَلْ يَغْتَرُّ بِهَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ هَلْ يَأْمَنُهَا أَوْ يَطْمَئِنُ إِلَيْهَا ذُو عَقْلٍ رَزِين هَلْ يُعَادِي وَيُشَاحِنُ وَيُوَالِي مِنْ أَجْلِهَا إِلا نَاقِصُ الْعَقْلِ وَالدِّين فَاتَّقُوا اللهَ يَا عِبَادَ اللهِ وَكُونُوا مِنْ تَقَلبهَا عَلى غَايَةِ الْحَذَرِ وَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَذَلِّلُوا دُنْيَاكُمْ لآخِرَتِكُمْ وَاسْتَخْدِمُوهَا فِي الذي يُرْضِي رَبَّكُمْ فَإِنَّ الدُّنْيَا نِعْمَ الْمَطِيَّةُ لِمَنْ اسْتَخْدَمَهَا لِلآخِرَةِ وَلَنْ يَصْحَب الإنسانُ إِذَا فَارَقَهَا وَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلا مَا قَدَّمَهُ فِيهَا مِنْ صَالِحِ

ص: 56

الأَعْمَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالى:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ، وَقَالَ تَعَالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ هُجُومِ هَاذِمِ اللَّذَاتِ وَمُفَرِّقِ الْجَمَاعَاتِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِي فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا. وَرَوَى البُخَارِيُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. وَيَقُولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابن عَبَّاسٍ:«اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَتِّكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» .

عَسَى تَوْبَةٌ تُمْحَى بِهَا كُلُّ زَلَّةِ

وَتَغْسِلُ أَدْرَانَ القُلُوبِ الْمَرِيضَةِ ِ

أَجدَّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا نَعِيمُهَا

وَهَلْ هِيَ إِلا دَارُ بُؤْسٍ وَحَسْرَةِ

وَلَمْ أَرَى فِيهَا مَا يَرُوقَ بَلَى بِهَا

تُرِيقُ دَمَ الأَعْمَارِ أَسْيَاقُ غَفْلَةِ

إِذَا أُدْرِكَتْ فِيهَا مَسَرَّةُ سَاعَةٍ

أَتَتْكَ إِسَاءَاتٌ تُنْسِيكَ بالَّتِي

ص: 57

وَإِنْ عَطَفَتْ فَالْعَطْفُ عَطْفَ تَوَهُمٍ

فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ مِنْهَا بِعَطْفَةِ

رَأَيْنَا أُنَاسًا قَدْ أَنَاخَتْ بِسَوْحِهِمْ

وَقَالَتْ خُذُوا مِنْ زَهْرَتِي كُلَّ مُنْيَةِ

فَغَرَّتْهُمُ حَتَّى اسْتَبَاحُوا حَرِيمَهَا

وَحَطُّوا بِهَا الأَثْقَالَ مِنْ كُلِّ شَهْوَةِ

فَمَا هِيَ إِلا أَنْ أَرَتْهُمْ نَعِيمَهَا

وَمَدَّدُوا أَعْنَاقًا إِلى كُلِّ لِذَّةِ

أَتَتْهُمْ فَأَجْلَتْ عَنْهُمُ كُلَّ شَهْوَةٍ

أَرَادُوا وَأَخْلَتْ مِنْهُم كُلِّ غُرْفَةِ

فَصَارُوا أَحَادِيثًا لِكُلِّ مُحَادِثٍ

وَهُمْ سَمَرُ السُّمَارِ فِي كُلِّ سَمْرَةِ

وَلِلْعَيْنِ كَانُوا قُرَّةً ثُمَّ أَصْبَحُوا

وَهُمْ عِبْرَةٌ تَجْرِي بِهَا كُلُّ عَبْرَةِ

تَبَدَّلَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ بِضِدِّهِ

فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ فِيهَا بِرُتْبَةِ

فَصِحَّتُهَا وَالعِزُّ وَالْمَالُ بَعْدَهَا

سَقَامٌ وَذِلٌ وَافْتِقَارٌ بِقِلَّةِ

أَرَى هَذِهِ الأَعْمَارَ أَحْلامَ نَائِمٍ

وَلَذَتَهَا طَيْفًا أَلَمَّ بِمُقْلَتِي

أَلَسْتَ تَرَى الأَتْرَابَ قَدْ رَحَلُوا إلى

ص: 58

.. تُرَابٍ وَحَلَّوا فِي مَنَازِلِ وَحْشَةِ

مُقِيمِينَ فِيمَا يَنْظُرُونَ مَتَى مَتَى

تَرُوحُ إِلَيْهِمْ فِي عَشِيٍّ وَبُكْرَةِ

وَتُقْبِلُ في جَيْشٍ قُصَارَى مَرَامِهِمْ

نُزُولُكَ فَرْدًا حُفْرَةً أَيَّ حُفْرَةِ

وَيَحْثُو عَلَيْكَ التُّرْبَ كُلُّ مُشَيِّعٍ

ثَلاثًا وَهَذَا مِنْ فِعَالِ الأَحِبَةِ

فَتَنْزِلُ دَارَ لا أَنيِسَ بِهَا وَلا

خَلِيلَ بِهَا تُفْضِي إِلَيْهِ بِخُلَّتِي

سِوَى رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ يَا خَيْرَ رَاحِم

أَسَأْنَا فَقَابِلْنَا بِعَفْوٍ وَرَحْمَةِ

وَصَلِّي عَلَى الْمُخْتَارِ وَالآلِ إِنَّهَا

لِحُسْنِ خِتَامِ فِي نِظَامِ القَصِيدَةِ

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مِنَاهِجِ الْمُتَّقِين وَخصَّنَا بِالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.

اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإجَابَةِ وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَةِ النَّصُوح وَالإنَابَةِ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا تَثْبِيتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.اللَّهُمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْمَعْرِفَةِ بِكَ عَنْ بَصِيرَةٍ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ. واللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ص: 59

(فَصْلٌ)

وَعَبَّأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ تَعْبِئَةٍ لأَصْحَابِهِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَقَالَ لَهُمْ:«لا تَحْمِلُوا حَتَّى آمرَكُم، وَإِنْ اكْتَنَفَكُم القَوْمُ فَاتْصَنحُوا عَنْكُمْ بالنَّبْلِ، وَلا تَسْلُوا السُّيُوفِ حَتَّى يَغْشُوكُم» . ثُمَّ رَجَعَ إِلى العَرِيشِ، فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَامَ سَعْدُ ابنُ مُعَاذٍ وَاقِفًا عَلَى البَابِ بَابِ العَرِيشِ، مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنْ الأَنْصَارِ، يَحْرِسُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَوْفًا عَلَيْهِ أَنْ يَدْهَمُهُ العَدُوُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّجَائِبُ مُهَيَّأَةٌ لَهُ إِنِ احْتِاجَ إِلَيْهَا رَكِبَهَا وَبَدَأْتَ قُرَيْشٌ الزَّحْفَ، فَانْدَفَعَ مِنْ صُفُوفِهَا الأَسْوَدُ ابنُ عَبْدِ الأَسَدِ الْمَخْزُومِي، إلى حَوْضِ الْمَاءِ الذي أَقَامَهُ الْمُسْلِمِونَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَعَاهِدُ اللهَ لأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ، أَوْ لأَهْدِمَنَّهُ، أَوْ لأَمُوتَنَّ مِنْ دُونِهِ، فَتَلَقاهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِضَرْبَةٍ مِنْ سَيْفِهِ أَطَنَّ بِهَا سَاقَهُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ يَزْحَف حَتَّى وَصَلَ إِلى الْحَوْض، فَجَعَلَ حَمْزَة يُتْابِعَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ، وَحَمَىَ عَتُبَة بنُ رَبِيعَةَ مِنْ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ، فَانْدَفَعَ مِنَ الصَّفِ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ، وَابْنِهِ الوَلِيدِ، يَدْعُونَ إِلى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةٌ مِن الأَنْصَارِ، عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ وَعَوْفُ وَمُعَوِّذُ أَبْنَاءُ عَفراءَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: مِنَ الأَنْصَارِ. قَالُوا: أَكْفَاءٌ كِرَام، وَإِنَّما نُرِيدُ بَنِي عَمِّنَا، وَنَادَوْا يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إَلِيْنَا أَكْفَاءَنَا، فَأَخْرَجَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَمْزَةَ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُبَيْدَةَ بن الْحَارِثِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيَّ بن أَبِي

ص: 60

طَالِبٍ فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الوَلِيدَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ فَلَمْ يَلْبَثْ كُلٌ مِنْهُمَا أَنْ قَتَلَ صَاحِبَهُ، وَأَمَّا عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْن، فَوَقَعَ كِلاهُمَا عَلَى الأَرْضِ، فَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بَأسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ، فَذَفَّفَا عَلَيْهِ، وَحَمَلا عُبَيْدَةَ فَجَاءا بِهِ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قُطِعَتْ سَاقُهُ، وَجَعَلَ مُخُهَا يَسِيل، فَأَفْرَشَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدمَهُ الشَّرِيفَة، وَبَشَّرَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَهُنَا حَمِيَ الْمُشْرِكُون، وَهَجَمُوا عَلَى صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، هُجُومَ السَّيْلِ الْجَارِفِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْسِرُوا هَجَمَاتِهِمْ بِالنَّبْلِ، وَهُمْ مُرَابِطُونَ فِي أَمَاكِنِهم، فَلَمَّا أَوْشَكَ الصَّفَانِ، أَنْ يَتَلاحَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْمِلُوا عَلَيْهِمْ وَنَادَى قَائِلاً:«وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُقَاتِلُهُمْ اليَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتِسَبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ» . فَهَجَمَ الْمُسْلِمُونَ بِقُلُوبٍ مِلْؤُهَا الإِيمَانُ بِالْحَقِّ، وَالرَّغْبَةُ فِي الشَّهَادَةِ، وَالطَّمَعُ في ثَوَابِ اللهِ، وَجَعَلُوا أَهْدَافَهُمْ رُؤوسَ الكَفَرَةِ، يَتَصَيَّدُونَهُمْ وَسَطَ الْجُمُوعِ الزَّاحِفَة، ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَلَيْهِمْ كَالصَّوَاعِقِ، وَهُمْ يَتَصَايَحُونَ تَصَائِحَ الأُسُودِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ أَمِتْ.

ثُمَّ حَمِيَ الوَطِيسُ وَاسْتَدَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ، وَاشْتَدَّ القِتَالُ، وَهَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْحَيَاةُ، وَلَذَّتْ لَهُمْ الشَّهَادَةُ، وَاسْتَعْجَلُوا الْمَوْتَ فِي سَبِيلِهَا، حَتَّى إِنَّ عُمَيْرَ بنَ الْحُمَامِ لِيَصِيحُ مِنْ فَرْطِ سُرُورِهِ وَيَقُولُ: بَخٍ بَخٍ أَفَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلاءِ؟ ثُمَّ يَرْمِي مِنْ يَدِهِ تَمَرَاتٍ كَانَ يَأكُلُ مِنْهَا، وَيَقُولُ: لَئِنْ أَنَا حَيَيْتُ

ص: 61

حَتَّى آكَلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ يَنْدَفِعُ إِلى الْمَعْرَكَةِ انْدِفَاعَ السَّهْمِ، وَحَتَّى إِنَّ عَوْفَ بن الْحَارِثِ لَيَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَضْحَكُ الرَّبُ مِن عَبْدِهِ فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«غَمْسُهُ يَدَهُ في العَدُوِّ حَاسِرًا» . فَيَنْزِعُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ سَيْفَهُ، وَيَخُوضُ فِي الْمَعْرَكَةِ لا يُبَالِي أَوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ، أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ملءَ كَفِّهِ مِنْ الْحَصَى، فَرَمَى بِها وُجُوه العَدُوِّ، فَلَمْ تَتْرُكْ رَجُلاً مِنْهُمْ إِلا مَلأَتْ عَيْنَيْهِ، وَشُغِلُوا بالتُّرَابِ فِي أَعْيُنِهم، وَشُغِلَ الْمُسْلِمُونَ بِقَتْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ في شَأْنِ هَذِهِ الرَّمْيَةِ عَلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} وَكَانَتْ الْمَلائِكَةُ يَوْمَئِذٍ تُبَادِرُ الْمُسْلِمِينَ إِلى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: بَيَنْمَا رَجُلٌ مِن الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِن الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمَعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الفَارِسِ فَوْقَهُ، يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، إِذْ نَظَرَ إِلى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشَقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَأَحْضَرَ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءََ الأَنْصَارِيُ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«صَدَقْتُ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ» . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الأَنْصَارِي: إِنِّي لأَتْبَعُ رَجُلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ لأَضْرِبَهُ، إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي، وَجَاءَ رَجُلٌ بالعباسِ بن عبدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ العَبَّاسُ: إِنَّ هَذَا وَاللهِ مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، وَمَا أَرَاهُ في القَوْمِ، فَقَالَ الأَنْصَارِي: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «اسْكُتْ فَقَدْ أَيَّدَكَ اللهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ، وَأُسِرَ مِنْ بَنِي

ص: 62

عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثَلاثَةً، العَبَّاسُ، وَعَقِيلٌ، وَنَوْفَلُ بن الْحَرثِ.

وَذَكَرَ الطَّبَرَانِي عَنْ رِفَاعَةَ بن رَافِعٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ مَا يَفْعَلُ الْمَلائِكَةُ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَشْفَقَ أَنْ يَخْلُصَ القَتْلُ إِلَيْهِ، فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَرْثَ بن هِشَامٍ هَارِبًا، حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ في البَحْرِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَظْرَتَكَ إِيَّاي، فَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ لا يَهْزِمَنَّكُمْ خَذْلانُ سُرَاقَةَ إِيَّاكُم، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلا يَهُولَنَّكُم قَتْلُ عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيد، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَجَّلُوا فَوَالَّلاتِ وَالعُزَّى لا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْرِنَهُم بِالْحِبَالِ، وَلا أَلْفَيْنَ رَجُلاً مِنْكُمْ قَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلاً، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخَذَا، حَتَّى نَعْرِفَهُمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، وَلا تَزَالُ تُضَاعفُ شَجَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَتَزْدَادُ قُوَاهُمُ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْحِسِّيَةُ وَتَزْدَادُ حَمَاسَتُهُمْ، حَتَّى لَيُحِسُّ الوَاحِدَ مِنْهُمْ أَنَّهُ كُفْءٌ لِعَشْرَةٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَتَضَاءَلَتْ فِي أَعْيُن الْمُؤْمِنِينِ كَثْرَةُ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلُوا يَفْتَرِسُونَهُمْ كَمَا تَفْتَرِسُ الذِّئَابُ الْغَنَمِ، وَيَكْتَسِحُونَهُمْ كَمَا يَكْتَسِحُ السَّيْلُ الْغُثَاءَ، وَانْعَقَدَ فَوْقَ الْمَعْرَكَةِ جَوٌّ رَهِيبٌ، مَلأَ قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّعْبِ، كَمَا مَلأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ مِن اللهِ العَزِيزِ الْحَكِيم.

وَرُوِيَ أَنَّ خُبَيْبَ بن يَسَافٍ كَانَ رَجُلاً شُجَاعًا، وَكَانَ يَأْبَى الإِسْلامَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى بَدْرٍ، خَرَجَ هُوَ وَقَيْسُ بن مُحْرِثٍ، فَعَرَضَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَخْرُجَا مَعَهُ، فَقَالَ:«لا يَخْرُجْ مَعَنَا رَجُلٌ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا» . فَقَالَ خُبَيْبٌ: قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي عَظِيمُ الغِنَاءِ في الْحَرْبِ، فَأقَاتِلُُ مَعَكَ لِلْغَنِيمَةِ، قَالَ:«لا، وَلَكِنْ أَسْلَمَ ثُمَّ قَاتلَ» .

اللَّهُمَّ يا فالقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إِليْه، يا كَافِي المُتَوَكِّلينَ عليه، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَتِ الظُنُونُ إلا فِيكَ، وضَعُفَ الاعْتمادُ إِلا عَلَيْكَ نسألُكَ أنْ تُمْطَرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا

ص: 63

مِن سَحائِبِ بِرِّكَ وإحْسَانِكْ وأَنْ تُوِفقَّنا لِمُوجِباتِ رَحْمَتِكَ وعَزَائِم مَغفرتِكَ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ العَمَلِ الذِي يُقَرِّبُنَا إِلى حُبِّكَ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَاحْفَظْنَا مِن الاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَالْهَوَى وَالنَّفْسِ وَعَدُوِّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ إِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

(فَصْلٌ)

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَرِيشِهِ، يُتَابِعُ الْمَعْرَكَةَ، وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِاللهِ عز وجل، فَتَارَةً يَنْزِلُ إِلَيْهِمْ، فَيُنْهِضُ هِمَمَهُمْ، وَيُقَوِي بِإِذْنِ اللهِ قُلُوبَهُم، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَتَارَةً يَصْعَدُ إِلى الْجَبَلِ يَدْعُو رَبَّهُ، وَيُكَرِّرُ دُعَاءَهُ وَابْتِهَالَهُ للهِ، وَمُنَاشَدَتُهُ رَبَّهُ عز وجل، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مِنْكَبَيْهِ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الصِّدِيقُ رضي الله عنه، وَقَالَ: بَعْضُ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأُغْفِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِغْفَاءَةً وَاحِدَةً، وَأَخَذَ القَوْمُ النُّعَاسُ فِي حَالِ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ فَقَالَ:«أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا جَبِريلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ، وَجَاءَ النَّصْرُ، وَأَنْزَلَ اللهُ جُنْدَهُ، وَأَيَّدَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِين، وَمَنَحَهُم أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ أَسْرًا وَقَتْلاً، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى أَصْحَابِهِ، يَشُدُّ عَزَائِمَهُمْ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِنَصْرِ اللهِ وَيَقُولُ لَهُمْ: «شُدُّوا، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .. مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَسَرَا أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ» ، فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، تَصَدَّعَتْ لَهَا جُمُوعُهُمْ، وَانْهَارَتْ أَمَامَهَا قُوَاهُمْ وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ مَا أَصَابَ سَادَتِهم، فَأَلْقِيَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَخَذُوا يُلْقُونَ بِأَثْقَالِهِمْ، وَيَفِرُّونَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، نَجَاةً بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ

ص: 64

الْمَوْتِ، فَانْقَضَّ الْمُسْلِمُونَ يَأسِرُونَ وَيَهْزِمُونَ وَيَغْنِمُونَ، وَلَمَا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيهُمْ يَأْسِرُونَ، نَظَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى سَعْدِ بن مُعَاذٍ، فَرَأَى في وَجْهِهِ الكَرَاهَةَ لِمَا يَصْنَعُونَ، فَقَالَ:«لَكَأَنَّكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ القَوْمُ» ؟ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَة أَوْقَعَهَا اللهُ بأَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَانَ الإثْخَانُ في القَتْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ، وَهَكَذَا تَصَدَّعَتْ جُمُوعُ الشِّرْكِ، أَمَامَ قُوَّةِ الإِيمَانِ باللهِ وَرَسُولِهِ وَانْجَلَتِ الْمَعْرَكَةُ عَنْ سَبْعِينَ قَتِيلَا وَسَبْعِينَ أَسِيرَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّ مَا خَلَّفَ الْمُشْرِكُونَ وَرَاءَهُمْ، مِنْ زَادٍ وَعَتَادٍ، أَمَّا الذِينَ فَازُا بِالشَّهَادَةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَبَدَأَتِ الْمَعْرَكَةُ في الصَّبَاحِ، وانْتَهَتْ في عَصْرِ ذَلِكَ الْيَومِ الذِي هُوَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ مِن السَّنةِ الثانِيةِ لِلْهِجْرَةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْفَنَ الشُّهَدَاءُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وأَنْ يُوَارَيَ الْقَتْلَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي قَلِيبٍ هُنَاكَ مَهْجُورَة، فَلَمَّا وُضِعُوا فِي الْقَلِيبِ، وَقَفَ عَلَيْهِم رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رِبِّي حَقًّا» . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ ما تُخَاطِبُ مِنْ أَقْوَامٍ قَدْ جَيَّفُوا. فَقَالَ: «وَالذِي نَفْسِي بَيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بَأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْجَوَاب» .

وَرَوَى الْبُخَارِيّ في الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ الْتَفْتُ فإِذا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِ، فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا إذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبه: يَا عَمُّ، أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ

ص: 65

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، قَالَ: فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيانِ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلانِي عَنْهُ. قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَيُّكُمَا قَتَلَهُ» ؟ . فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. قَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا» ؟ . فَقَالَا: لَا. فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ» . وَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. والرَّجُلانِ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ومُعَاذَ بنِ عَفْرَاءَ:

بُغْضُ الْحَيَاةِ وَخَوْفُ اللهِ أَخْرَجَنِي

وَبيَعُ نَفْسِي بِمَا لَيْسَتْ لَهُ ثَمَنَا

إنّي وَزَنْتُ الذي يَبْقَى لِيَعْدِلَهُ

مَا لَيْسَ يَبْقَى فَلا واللهِ مَا وَزَنَا

وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

(فَصْلٌ)

(مِن مَوَاعِظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَصَايَاهُ)

قَالَ صلى الله عليه وسلم: «حَلُّوا أَنْفُسَكُمْ بالطَّاعَةِ، وأَلْبِسُوهَا قِنَاعَ الْمَخَافَةِ، واجْعَلُوا آخِرَتَكُم لأَنْفُسِكُم بالطاعةِ، لِمُسْتَقَرِّكُم، واعْلَمُوا أَنَّكُمْ عن قَليلٍ رَاحِلُون، وَإِلى اللهِ صَائِرُون ولا يُغْنِي عَنْكُم هُنَالِكَ إِلا صَالِحُ عَمَلٍ قَدَّمُتُمُوهُ، أَوْ حُسْنُ ثَوَابٍ حُزْتُمُوه» .

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ خُطَبِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الأَيَّامَ تُطْوى، والأَعْمَارَ تَفْنَى، والأبْدَانَ في الثَّرى تَبْلى، وإِنَّ اللَّيْلَ والنهارَ

ص: 66

يَتَرَاكَضَانِ تَرَاكُضَ الْبَريدِِ، يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعيدٍ، وَيُخْلقَانِ كُلَّ جَديدِ، وفي ذَلِكَ عِبادَ اللهِ ما أَلْهَى عن الشَّهَواتِ، وَرَغَّب في الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» .

وقال صلى الله عليه وسلم في بعْضِ خُطَبِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ لَكُم نِهَايَةً، فانْتَهُوا إلى نِهَايَتِكُم، وإِنَّ لَكُمْ مَعَالِمَ، فانْتَهُوا إلى مَعَالِمِكُم، وإِنَّ الْمُؤمِنَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ: أَجلٍ قَدْ مَضَى، لا يَدْري ما الله صَانِعُ فِيهِ، وأَجَلٍ قَدْ بَقِيَ، لا يَدْرِي ما اللهُ قاضٍ فيه فَلْيَتَزَوَّدِ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ، وَمِن الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَوتِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا خُلِقَتْ لَكُم، وَأَنْتُمْ خُلِقْتُمْ لِلآخِرَةِ، فَوَالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ما بَعدَ الْمَوْتِ مِن مُسْتَعْتَبٍ، ولا بَعْدَ الدنيا إلا الْجَنَّةُ أو النَّارُ» .

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ كَأَنَّ الْمَوتَ عَلى غَيْرِنَا كُتِبَ وكأنَّ الْحَقَّ عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وكَأَنَّ الذي نُشَيِّعُ مِن الأَمْواتِ سَفَرٌ عَمَّا قَلِيل إِليْنَا رَاجِعُون، نُبَوئِهم أَجْدَاثَهُمْ، وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُم، كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ، نَسِينَا كُلَّ وَاعِظَةٍ، وَأَمِّنَا كُلَّ جَائِحَةٍ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُه عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، طُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ مَالاً اكْتَسَبَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيةٍ، وَجَالَسَ أَهْلَ الفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ وَخَالَطَ أَهْلَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ طُوبَى لِمَنْ ذَلَّتْ نَفْسُهُ، وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ، وَطَابَتْ سَرِيرَتُهُ، وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ طُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَمْ تَسْتَهْوِهِ البِدْعَةُ» . أ. هـ.

قِيلَ: إِنَّ خَيْريْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فِي خَمْسِ خِصَالٍ وَهِيَ: غِنَى النَّفْسِ، وَكَفِّ الأَذَى، وَكَسْبِ الْحَلالِ، وَلِبَاسُ التَّقْوَى وَالثِّقَةِ بِاللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقَدْ

ص: 67

نَظَمَهَا أَحَدُ العُلَمَاءِ فَقَالَ:

أَرَى خَيْرَيْ الدَّارَيْنِ يُجْمَعُ كُلُّهُ

بِخَمْسِ خِلالٍ يَا لَهَا مِنْ لَطَائِفِ

غِنَى النَّفْسِ مَعْ كَفِّ الأَذَى وَاِكْتِسَابِ مَا

يَحِلُّ وَمَلْبُوسُ التُّقَى حِصْنُ خَائِفِ

عَلَى كُلِّ حَالٍ كُنْ بِرَبِّكَ وَاثِقًا

بِنَفْعٍ وَكَشْفِ الضُّرِّ عِنْدَ الْمَخَاوِفِ

اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ أَهْلِ الطَّاعَة، وَوَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَيْهَا وَالاسْتِقَامَةِ، وَعَافِنَا مِنْ مُوجِبَات الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، وَأَمِّنَا مِنْ فَزع يَوْمِ القِيَامَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا.

اللَّهُمَّ اكْتُبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، اللَّهُمَّ وَافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإِجَابَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الوَاسِعَةِ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُوُر الرَّحِيم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَلَمَّا بَرَدَتِ الْحَرْبُ، وَوَلَّى القَوْمُ مُنْهَزِمِينَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مِنْ يَنْظُر لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ» ؟ فَانْطَلَقَ ابنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ أَبْنَاءُ عَفْرَاءَ حَتَّى بَردَ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ. فَقَالَ: لِمنْ الدَّائِرَةُ اليَوْمَ، فَقَالَ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَهَلْ أَخْزَاكَ اللهُ يَا عَدُّوَ اللهِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلُهُ قَوْمُه؟ فَقَتَلَهُ عَبْدُ اللهِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: «اللهُ الذِي لا إِله إِلا هُوَ» . فَرَدَّدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ:«اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ للهِ الذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، انْطَلِقْ أَرِنِيهِ» . فَأَنْطَلَقْنَا فَأَرَيْتُهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ:«هَذَا فِرْعَونُ هَذِهِ الأُمَّة» .

ص: 68

وَأَسَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ، وابْنَهُ عَلِيًّا، فَأَبْصَرَهُ بِلالُ، وَكَانَ أُمَيَّةُ يُعَذِّبُ بِلالاً بِمَكَّةَ، فَقَالَ: رَأْسُ الكُفْرِ أُمَيَّةُ بن خَلَفِ، لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، ثُمَّ اسْتَصْرَخَ جَمَاعَةَ مِنَ الأَنْصَارِ، وَاشْتَدَّ عَبْدُ الرَّحْمَن ِبِهِمَا يَحْرِزُهُمَا مِنْهُمْ، فَأَدْرَكُوهُمْ فَشَغَلَهُمْ عَنْ أُمَيَّةَ بابْنِهِ، فَفَرغوا مِنْهُ وَلِحقُوهَمَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: أُبْرُكْ. فَبَرَكَ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَضَرَبُوهُ بِالسَّيْفِ مِنْ تَحْتِهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَصَابَتْ بَعْضُ السُّيُوفِ رِجْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ.

وَبَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَتَهُ بِوَادِي بَدْرٍ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُرْتَحِلاً بأَصْحَابِهِ إِلى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ الأسَارَى مِن الْمُشْرِكِين، وَالنَّفَلُ الذِي أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الكُفَّارِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، نَزَلَ فَقَسَمَ النَّفَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالسَّواءِ وَجَعَلَ لِلْفَرَسِ نَصِيبًا، وَلِلْفَارِسِ نَصِيبًا، وَجَعَلَ لِوَرَثَةِ مَنْ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصَّةً، وَكَانَ فَرِيقٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْضُرُوا الوَقْعَةَ، لأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلَّفَهُمْ أَعْمَالاً غَيْرَ أَعْمَالِ الْقِتَالِ، وَفَرِيقٌ حَجَزَهُ عُذْرٌ قَاهِرٌ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمَهُ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانُوا كَمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِين، وَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ لَهُ عَمَّا كَانَ مَنْ تَأَخُرهِمْ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ أَسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ: يَا رَسُولِ اللهِ الْحَمْدُ للهِ الذِي أَظْفَرَكَ، وَأَقَرَّ عَيْنُكَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَانَ تَخَلُّفِي عَنْ بَدْرٍ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّكَ تَلْقَى عَدُوًا، وَلَكِنْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا عَيْرٌ وَلَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا عَدُّوٌّ مَا تَخَلَّفْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقْتَ» وَمِمَّا يَنْطَبِقُ عَلَى النَّبِيِّ ? مَا يَلِي:

ص: 69

شِعْرًا

تَكامَلَتْ فِيكَ أَوْصَافٌ خُصِصْتَ بِهَا

فَكُلُّنَا بِكَ مَسْرُورٌ وَمُغْتَبِطُ

السِّنُّ ضَاحِكَةٌ وَالكَفُّ مَانِحَةٌ

وَالنَّفْسُ وَاسِعةٌ وَالوَجْهُ مُنْبَسِطُ

آخر:

صَفُوحٌ عَنِ الإِجْرَامِ حَتَّى كَأنَّهُ

مِنَ العَفْوِ لَمْ يَعرف من الناس مُجْرِمَا

ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّيْرِ إِلى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ الأَثِيلَ، اسْتَعْرَضَ الأَسْرَى هُنَا، فَأَمَرَ بَاثْنِينِ مِنْهُمْ أَنْ يُقْتَلا، وَهُمَا النَّضْرُ بنُ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ كِلاهُمَا شَيْطَانًا من شَياطين قُرَيْشٍ، وَمِنْ أَشَدِّ الْمُشْرِكِينَ إِيذَاءً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلأَصْحَابِهِ، وَأَفْظَعَهُم تَقَوُّلاً عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، لا يَفْتُرَانِ مِنْ الإِيذَاءِ لا لَيْلاً وَلا نَهَارًا، أَمَّا النَّضْرُ بنُ الْحَارِثِ فَقَدْ نَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَظَرَةً هَلَعَ لَهَا قَلْبُهُ، وَأَيِسَ مِنَ البَقَاءِ بَعْدَهَا، فَقَالَ لِرَجُلٍ إِلى جَنْبِهِ: مُحَمَّدٌ وَاللهِ قَاتِلِي، فَقَدْ نَظَرَ إِليَّ بِعَيْنَيْنِ فِيهمَا الْمُوْتُ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا هَذَا وَاللهِ مِنْكَ إِلا رُعْبٌ، وَجَعَلَ النَّضْرُ يَلْتَمِسُ شَفِيعًا لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَعَلَّهُ أَنْ يَعْفُو عَنْهُ، فَذَهَبَ إِلى مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَ أَقْرَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ رَحِمًا، فَقَالَ لَهُ: كَلِّمْ صَاحِبَكَ أَنْ يَجْعَلَنِي كَرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَهُو وَالله قَاتِلِي إِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَقَالَ مُصْعَبِ: إِنَّكَ تَقُولُ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي نَبِيِّهِ كَذَا وَكَذَا، وَكُنْتَ تُعَذِّبُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّضْرُ: لَوْ أَسَرَتْكَ قُرَيْشٌ مَا قَتَلَتْكَ وَأَنَا حَيٌّ أَبَدَا، قَالَ مُصْعَبِ: اللهِ إِنِّي لأَرَاكَ صَادِقَا، ثُمِّ إِنِّي لَسْتُ مِثْلُكَ، فَقَدْ قَطَعَ الإِسْلامُ الْعُهُودِ، وَكَانَ قَائِلاً: النَّضْرُ أَسِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اضْرِبْ عُنُقَهُ، وَاللَّهُمَّ أَغْنِ الْمِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ» . فَقُتِلَ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ، وَأَمَّا الآخَرُ وَهُوَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعْيَطٍ، فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ وَهُوَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ، وَرَوَى أَنَّهُ

ص: 70

لَمَّا أَمَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ عُقْبَةَ قَالَ: أَتَقْتُلَنِي يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ؟ قَالَ «نَعَمْ. أَتَدْرُونَ مَا صَنَعَ هَذَا بِي؟ جَاءَ وَأَنَا سَاجِدٌ خَلفَ الْمَقَام، فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَغَمَزَهَا، فَمَا رَفَعَهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ عَيْنِيَّ سَتَنْدُرَانِ، وَجَاءَ مَرَّةً أُخْرَى بِسَلا شَاةٍ فَأَلْقَاهُ عَلَى رَأْسِي وَأَنَا سَاجِدٌ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَغَسَلَتْهُ عَنْ رَأْسِي» . ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.

إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ

وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَئيمَ تَمَرَّدَا

فَوَضَعُ النَّدا في مَوضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا

مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدا

آخر:

أُكْرَمْ لِئَامًا بِالْهَوَانَ فَإِنَّهُمْ

إِنْ أُكْرَمُوا فَسَدُوا عَلَى الإِكْرَامِ

لا تَلْطَفَنَّ بِذِي لُؤْمٍ فَتطْغَيَهُ

أهِنْهُ يَأتِيكَ مِطْوَاعًا ومِذْعَانَا

إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ

وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَالانَا

آخر:

أَهنْ عَامِرًا تكْرُمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا

أَخُو عَامِرٍ مَنْ مَسَّهُ بِهَوَانِ

آخر:

وَمَا شَيْءٌ أسَرَّ إلى لَئِيمْ

إِذَا شَتَمَ الْكِرَامَ مِنَ الْجَواب

مُتَارَكَةُ اللَئِيمِ بِلا جَوَابٍ

أَشَدُّ عَلَيْهِ مَنْ مُرِّ الْعَذَابِ

آخر:

وَتَرَى الْكَرِيمَ يَعُزُّ حِينَ يَهُونُ

وَتَرَى اللَّئِيمَ يَهونُ حِينَ يُهَانُ

ثُمَّ مَضَى صلى الله عليه وسلم فِي طَرِيقِهِ إِلى الْمَدِينَة، فَدَخَلَهَا قَبْلَ الأسَارَى بَيْوم، وَكَانَ دُخُولُهُ مِنْ ثَنِيَّةِ الوَدَاع، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الأَرْبَعَاءِ الثَّانِي وَالْعُشْرُونَ مِنْ رَمَضَان، فَتَلَقَّاهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِئُونَهُ بِفَتْحِ اللهِ، فَقَدِم صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مُظَفَرًا، مَكْبُوتًا عَدُوُّهُ، مَسْرُورًا صَدِيقُهُ، قَدْ أَعْلَى كَلِمَةَ اللهِ، وَمَكَّنَ لَهُ رَبُّهُ، وَنَصَرَهُ وَأَعَزَّهُ.

وَمِنْ اللَّطَائِفِ التِي ذَُكِرَتْ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لِمَا أَقْبَلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهَنِئُونَهُ، قَالَ لَهُمْ سَلَمَةُ بن سَلامَةَ: مَا الذِي

ص: 71

تُهَنِئُونَنَا بِهِ، فَوَاللهِ إِنْ لَقِينَا إِلا عَجَائِزًا صُلْعًا، كَالْبُدُنِ الْمُعَقَلةٍ فَنَحَرْنَاهَا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:«أَيّ ابن أَخِي أُولَئِكَ الْمَلا» . أَيْ هُمُ الأَشْرَافُ وَالسَّادَةُ الذِينَ لا يُسْتَهَانُ بِبَلائِهِم في الْقِتَالِ، وَلا بِمَكَانِهِمْ فِي الْقَوْمِ وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُوا الطِّيبِ فَقَالَ:

وَمَا عَدِمَ اللاقُوكَ بَأْسًا وَشِدَّةً

وَلَكِنَّ مَنْ لاقَوْا أَشَدُّ وَأَنْجَبُ

وَرَوَى ابنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَأَتْ فِي مَنَامِهَا وَقَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ قُرَيْشٌ بِثَلاثِ لَيَالٍ - أَنَّ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى قُرَيْشِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا آل غُدَر، انْفُروا إِلى مَصَارِعِكُم فِي ثَلاثٍ، وَظَلَّ يُكَرِّرُهَا هُنَا وَهُنَاكَ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةَ فَرَمَى بِهَا مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِهِ، تَنَاثَرَتْ أَجْزَاؤُهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ وَلا دَارٌ بِمَكَّةَ إِلا دَخَلَتْهُ مِنْهَا فِلْقَةٌ، وَبَعْدَ ثَلاثٍ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا جَاءَ رَسُولُ أَبِي سُفْيَانَ يَصِيحُ بِالْقَوْمِ، وَيَسْتَفِزُّهُمْ لِيُنْقِذُوا عِيرَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.

وَرُوِيَ أَنَّ جُهَيْمَ بن الصَّلْتِ رَأَى وَهُمْ فِي طَرِيقهِمْ إِلى بَدْرٍ - كَأَنَ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى فَرَسِهِ، وَمَعَهُ بَعِيرٌ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: قُتِلَ فُلانٌ وَفُلانٌ، وَأُسِرَ فُلانٌ وَفُلانٌ، لِرجَالٍ سَمَّاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ ضَرَبَ بِخَنْجَرِهِ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ، وَأَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخِبيْتَهِم إلا أَصَابَهُ مِنْ دَمِه.

وَرَوَى الْوَاقِدِي أَنَّ ضَمْضَمَ بن عَمْرو جَاءَ إِلى الْحَارِثِ بِنْ عَامِرٍ، فَقَالَ

ص: 72

لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيًا كَرِهْتُهَا، رَأَيْتُ - وَأَنَا كَالْيَقْظَانِ عَلَى رَاحِلَتِي - كَأَنَّ وَادِيًا يَسِيلُ دَمًا، فَقَالَ الْحَارِثْ: لَوْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مَا خَرَجْتُ، أَوْ قَالَ: مَا سِرْتُ خَطْوَةً، فَاطْوِ هَذَا الْخَبَرَ أَنْ تَعْلَمَهُ قُرَيْش، فَإِنَّهَا تَتَّهِمُ كُلَّ مَنْ عَوَّقَهَا عَنْ الْمَسِيرِ اللَّهُمَّ عَمِّقْ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

عِبَادَ اللهِ تَأَمَّلُوا كَيْفَ تَغَيَّرَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَكَيْفَ آثَروا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ، وَكَيْفَ شَغَلَتْهُمُ الأَمْوَالُ وَالأَهْلُ، وَالأَوْلادُ وَالْمَلاهِي، وَالْمُنْكَرَاتِ، عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الصَّلاةِ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ مَهْمَا عَاشُوا وَمَهْمَا نَالُوا مِن الدُّنْيَا، وَمَهْمَا تَلَذَّذُوا فَإِنَّهُمْ رَاحِلُونَ وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ زَائِلٌ عَنْهُمْ وَخَالِفُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَ اللهِ وَأَنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلا ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاهُ وَمَنْ اشْتَرى الْعَاجِلَ بِالآجِل وَلَمْ يَتَّخِذِ الدُّنْيَا مَطِيَّةً تُوصِلُهُ إِلى الْمَقْصَدِ الذِي يَرْضَاهُ وَالْمُسْتَقَرِ الأَخِيرِ الذِي يَهْوَاهُ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، فَذَلِكُمْ الذِي لا تُفِيدُهُ الْمَوَاعِظُ، وَلا تَجْدِي فِيهِ النَّصَائِحُ وَلا تَرُدُّهُ الْعِبَرُ عَنْ غَيِّهِ، وَاقْتِحَامِهِ الْقَبَائِحَ، وَذَلِكَ هُوَ الذِي خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، عِبَادَ اللهِ حَلالُ هَذِهِ الدُّنْيَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عِقَابٌ، وَمَآلِهَا إِلَى الدَّمَارِ وَالْخَرَابِ، وَلا يَطْمَئِنُ إِلَيْهَا إِلا جَاهِلٌ مُرْتَابٌ، قَدْ فَقَدَ الرُّشْدَ وَأَبْعَدَ عن الصَّوَابِ، فَكَمْ مِنْ ذِهَابٍ بِلا إِيَابٍ، وَكَمْ مِنْ حَبِيبٍ عَلَى الرَّغْمِ قَدْ فَارَقَ الأَحْبَابِ، وَتَرَكَ الأَهْلَ وَالأَصْحَابَ، وَانْتَقَلَ إِلى ثَوَابِ جَزِيلٍ أَوْ عِقَابٍ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الْمُغَفَّلُ الْمَخْدُوعُ عَلَى جَمْعِهَا حَرِيصٌ مَعَ مَا تُشَاهِدُهُ مِن الأَكْدَارِ وَالتَّنْغِيصِ، وَكَانَ يَكْفِيكَ مِنْهَا الْقَلِيلِ.

شِعْرًا:

يَا مُحِبَّ الدُّنْيَا الْغَرُورِ إِغْتَِِرَارًا

رَاكِبًا في طِلابِهَا الأَخْطَارَا

ص: 73

شِعْرًا:

يَبْتَغِي وَصْبَهَا فَتَأبَى عَلَيْهِ

وَتَرَى أُنْسَهُ فَتُبْدِي نِفَارَا

آخر:

خَابَ مَنْ يَبْتَغِي الْوصَال لَدَيْهَا

جَارَةٌ لَمْ تَزلْ تُسِيءُ الْجِوَارَا

كَمْ مُحِبٍّ أَرَتْهُ أُنْسًا فَلَمَّا

حَاوَل الزَّوْرَ أَرَتْهُ ازْوِرَارَا

آخر:

وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لأَغْنَتْهُ بُلْغَةٌ

مِن الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُ يَجْشَعُ

إِلى أَنْ تَوَافِيهِ الْمَنِيَّةُ وَهُوَ بِالْقِنَاعَةِ فِيهَا آمِنًا لا يَرْوَعُ.

قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، وَقَالَ تَعَالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .

نَعَمْ لا بَأْسَ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَاكْتِسَابِ الْحَلالِ لِلتَّمَتُعِ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَاغِلاً عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ لا سِيمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ وَفَّقَهُ اللهُ لانْفَاقِهِ فِي الْمَشَارِيعِ الدِّينِيَّةِ كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَتَرْمِيمِهَا وَوَضْعِ الْمَاءِ لِلشَّارِبِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بَلْ كَسْبُ الْمَالِ فَرِيضَة عَلَيْكَ لأَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تُحَافِظْ عَلَى حَيَاتِكَ وَعَلى حَيَاةِ مَنْ تَجِبُ لَهُمْ عَلَيْكَ النَّفَقَاتِ وَأَنْتَ لا تُحَافِظَ عَلَى تِلْكَ الأَنْفُس إِلا بِإعْطَائِهَا مَا لِلْحَيَاةِ مِنْ ضَرُورِيَّاتٍ وَهَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ لا يُمْكِنُكَ أَنْ تَحْصُلَ عَلَيَهَا إِلا بِمَالٍ تَبْذِلُهُ عِنْدَ الْمُبَادَلاتِ إِذَنْ كَسْبُ الْمَالِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحَيَاةِ فَرِيضَةٌ وَإِذَا أَرَدْتَ هَذَا الْكَسْبَ فَانْوِ عِنْدَ طَلَبِكَ لَهُ الْقِيَامَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ وَالتَّقْوَى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتَّى تَنْقَلِبَ عَادَاتُكَ عِبَادَاتٌ وَمِنْ أَفْضَلِ مَا تَأْكلُ مَا كَسَبْتَهُ بِيَدِكَ وَتَحَرَّ الْحَلالَ فِي كَسْبِهِ فَإِنَّهُ يُنِيرُ الْقَلْبَ وَسَبَبٌ لِقُبُولِ الدُّعَاءِ بِإِذْنِ اللهِ وَتَوَقَّ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ يُظْلِمُ الْقُلُوبَ وَيُثْقَلُ الأَبْدَانَ عَنِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ سَبَبٌ لِعَدَمِ قَبُولِ الدُّعَاءِ وَابْتَعِدْ عَنِ الشُّبُهَاتِ فِي كَسْبِكَ وَاجْتَنِبْ الْغِشَّ وَالْكَذِبَ وَالإِيمَانَ فِي كُلَّ مُعَامَلاتِكَ وَكُنْ صَادِقًا سَمْحًا

ص: 74

لَيِّنَ الْجَانِبِ لِلْمُسْلِمِينَ مُحِبًّا لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَكُنْ قَانِعًا فِي الدُّنْيَا رَاضِيًا بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ صَارِفًا جُلَّ أَوْقَاتِكَ لِلآخِرَةِ.

اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تمحو بها عنا كُلَّ ذَنْبٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا:

لا تَأْسَفَنَّ أَخَا عِلْمٍ لِفَائِتَةٍ

فَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنْ رِزْقِ الْفَتَى فَاتَا

كَمْ مِنْ فَتَىً وَاصَلَ الأَسْفَارَ مُجْتَهِدًا

مِنْ أَرْضِ دَارِينَ حَتَّى حَلَّ أَغْمَاتَا

لَمْ يُسْعِفْ الرِّزْقُ بِالأَقْدَارِ بُغْيَتَهُ

وَلَوْ أَقَامَ أَتَاهُ الرِّزْقُ مِيقَاتَا

مَوْلاكَ يَكْفِيكَ فَالْزَمْ بَابَ طَاعَتِهِ

فَقَدْ كَفَى النَّاسَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَا

آخر:

وَيْلٌ لأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ

مَاذَا يُقَاسُونَ مِنَ النَّارِ

تَنْقَدُّ مِنْ غَيْظٍ فَتَغْلِي بِهِمْ

كَمِرجَلٍ يَغْلِي عَلَى النَّارِ

فَيَسْتَغِيثُونَ لِكَي يُعْتَبُوا

أَلا لَعًا مِنْ عَثْرَةِ النَّارِ

وَكُلُّهُمْ مُعْتَرِفٌ نَادِمٌ

لَوْ تُقبَلُ التَّوْبَةُ فِي النَّارِ

يَهْوي بِهَا الأَشْقَى عَلَى رَأْسِهِ

فَالْوَيْلُُ لِلأَشْقَى مِنَ النَّارِ

فَتَارَةً يَطَفْو عَلَى جَمْرِهَا

وَتَارَةً يَرْسُبُ فِي النَّارِ

ص: 75

.. وَكُلَّمَا رَامَ فِرَارًا بِهَا

فَرَّ مِنَ النَّارِ إِلى النَّارِ

يَطُوفُ مِنْ أَفْعَى إِلى أَرْقَمٍ

وَسُمُّهَا أَقْوَى مِنَ النَّارِ

وَكَمْ بِهَا مِنْ أَرْقَمٍ لا يَنِي

يَلْسَعُ مَنْ يُسْحَبُ فِي النَّارِ

لا رَاحَةٌ فِيهَا وَلا فَتْرَةٌ

هَيْهَاتَ لا رَاحَةَ فِي النَّارِ

أََنْفَاسُهَا مُطْبَقَةٌ فَوْقَهُمْ

وَهَكَذَا الأَنْفَاسُ فِي النَّارِ

سُبْحَانَ مَنْ يُمْسِكُ أَرْوَاحَهُمْ

فِي الدَّرَكِ الأَسْفََلِ فِي النَّارِ

وَلَوْ جِبَالُ الأَرْضِ تَهْوِي بِهَا

ذَابَتْ كَذَوْبِ الْقِطْرِ فِي النَّارِ

طُوبَى لِمَنْ فَازَ بِدَارِ التُّقَى

وَلَم يَكُنْ مِنْ حَصَبِ النَّارِ

وَوَيْلُ مَنْ عُمِّرَ دَهْرًا وَلَمْ

يُرْحَمْ وَلَمْ يُعْتَقْ مِنَ النَّارِ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا حِذْرَكُمْ

وَحَصِّنُوا الْجَنَّةَ لِلنَّارِ

فَإِنَّهَا مِنْ شَرِّ أَعْدَائِكُمْ

مَا فِي الْعِدَا أَعْدَى مِنَ النَّارِ

وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ مَوْلاكُمُ

فَذِكْرُهُ يُنْجِي مِنَ النَّارِ

وَاعَجَبًا مِنْ مَرِحٍ لاعِبٍ

يَلْهُو وَلا يَحْفِلُ بِالنَّارِ

يُوقِنُ بِالنَّارِ وَلا يَرْعَوِي

كَأَنَّهُ يَرْتَابُ فِي النَّارِ

وَهُوَ بِهَا فِي خَطَرٍ بَيِّنٍ

لَوْ كَاسَ مَا خَاطَرَ بِالنَّارِ

إِنَّ الأَلِبَّاءَ هُمُ قِلَّةٌ

فَرَّوا إِلى اللهِ مِنَ النَّارِ

وَطَلَّقُوا الدُّنْيَا بَتَاتًا وَلَمْ

يَلُوُوا عَلَيْهَا حَذَرَ النَّارِ

وَأَبْصَرُوا مِنْ عَيْبِهَا أَنَّهَا

فَتَّانَةٌ تَدْعُو إِلى النَّارِ

وَاللهِ لَوْ أَعْقِلُ لَمْ تَكْتَحِلْ

بِالنَّوْمِ عَيْنِي خَيْفَةَ النَّارِ

وَلا رَقَا دَمْعِي وَلا عِلْمَ لي

أَنِّيَ في أَمْنٍ مِنَ النَّارِ

وَلَمْ أَرِدْ مَاءً وَلا سَاغَ لي

إِذا ذَكَرْتُ الْمُهْلَ فِي النَّارِ

ص: 76

.. وَلَمْ أَجِدُ لَذَّةَ طَعْمٍ إِذَا

فَكَّرْتُ في الزَقُّومِ فِي النَّارِ

أَيُّ الْتِذَاذٍ بِنَعِيمٍ إِذَا

أَدّى إِلى الشَّقْوَةِ فِي النَّارِ

أَمْ أَيُّ خَيْرٍ في سُرُورٍ إِذَا

أَعْقَبَ طُولَ الْحُزنِ فِي النَّارِ

فَفَكِّرُوا في هَوْلِهَا وَاِحْذَرُوا

مَا حَذَّرَ اللهُ مِنَ النَّارِ

فَإِنَّهَا رَاصِدَةٌ أَهْلَها

تَدُعُّهُمْ دَعًّا إِلى النَّارِ

فَلَيْسَ مِثْلِي طَالِبًا حَبَّةً

إِلا الْمُعَافَاةَ مِنَ النَّارِ

وَطَالَمَا اسْتَرْحَمْتُهُ ضَارِعًا

يَا رَبُّ حَرِّمَنِي عَلَى النَّارِ

فَأَنْتَ مَوْلايَ وَلا رَبَّ لِي

غَيْرُكَ أَعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ

وَلَمْ تَزَلْ تَسْمَعُنِي قَائِلاً

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ

اللَّهُمَّ ثَبتنَا على قَولِكَ الثابِت في الحَيَاة وفي الآخِرَة وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابِ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا سَبِيلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهَيِّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ الْعُظْمَى لَنَا سَنَدَا وَاحْشُرْنَا إِذَا تَوَفَيْتَنَا مَعَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ أُحُدْ

أُحُدٌ جَبَلٌ مَشْهُورٌ بِالْمَدِينَةِ، عَلَى أَقَلَّ مِن فَرْسَخٍ مِن الْمَدِينَةِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَوَحُّدِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَن الْجِبَالِ الأُخَرِ هُنَاكَ، وَهُوَ الذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبّهُ» . وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْوَقْعَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي شَوَّالِ، بِالاتِّفَاقِ يَوْمَ السَّبْتِ لأحْدَى عَشَرَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ شَوَّالِ، وَقِيلَ: لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ وَقِيلَ: فِي نِصْفِهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

ص: 77

وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا رَجَعُوا مِنْ بَدْرٍ، وَقَدْ قُتِلَ أَشْرَافُهُم، وَأَصِيبُوا بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ التِي لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهَا، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعَيْرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي رُبَيْعَةَ، وَعِكْرَمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِن قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بِنْ حَرْبِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةً، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، فَلَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرَنَا بِمَنْ أَصَابَ مِنَّا فَفَعَلُوا، وَفِيهِمْ - كَمَا قَالَ ابنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ - نَزَلَتْ الآيةُ قَوْلُهُ تَعَالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} .

وَأَخَذَتْ قُرَيْشُ تُعِدُّ لِذَلِكَ الْعُدَّةَ، وَتَرْصُدُ الأَمْوَالَ، وَتُعْبِئُ الْقُوَى، وَتَجْمَعُ السِّلاح َ، وَبَعَثَتْ رُسُلَهَا فِيمَنْ حَوْلَهَا مِنْ قِبَائِلِ الْعَرَبِ تَسْتَنْصِرُهُمْ، وَتَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى تَمْكِينِ الضَّرْبَةِ، وَكَانَ مِنْ هَؤُلاءِ الرُّسُلِ أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بن عَبْدُ اللهِ الْجُمَحِي، قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ فَقِيرًا، ذَا عِيَالٍ وَحَاجَةٍ، فَأَطْلَقَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلا فِدَاء، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيَثاقَ أَنْ لا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدَا، وَلا يكُثْرُ عَلَيْهِ جَمْعَا، فَنَقَضَ الْعَهْدَ وَالْمِيَثَاقَ، وَذَهَبَ مَعَ الذَّاهِبِين إِلَى كَنَانَةَ وَتِهَامَةَ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ، قِتَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُكَثِّرُ عَلَيْهِ.

وَهَكَذَا ظَلَّتْ قُرَيْشٌ طِوَالَ عَامِهَا تَبْذِلُ مِنْ أَمْوَالِهَا، وَتَجْمَعُ مِنْ أَنْصَارِهَا، وَتُعِدُّ مِنْ قُوَّتِهَا، حَتَّى بَلَغَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَرَادَتْ وَغَدَتْ فِي أَتَمِّ أُهْبَةٍ، وَأَكْمَلِ اسْتِعْدَادٍ، فَلَمْ تَلْبَثْ حَتَّى حَصَلَتْ عَلَى جَيْشٍ لَجِبٍ، مِنْ رِجَالِهَا، وَمِمَّنْ حَالَفَهَا مِنْ الأَحَابِيشِ، مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَبَنِي الْهُونِ بن خُزَيْمَةَ، وَتَوَجَّهَتْ إِلى الْمَدِينَةِ فِي حَمَاسَةِ الْمَوْتُورِ، وَسُورَةِ الْمُغِيظِ الْمُحَنقِ، لِتَضْرِبَ الضَّرْبَةَ الْقَاضِيَةِ فِي زَعْمِهَا، وَأَبَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ إِلا أَنْ يَكُنَّ مَعَ الْجَيْشِ يُحَمِّسْنَ الرِّجَالَ، وَيُثِرْنَ الْحَمِيَّةِ، فَخَرَجَ مِنْهُنَّ مِنْ رَبَّاتِ الْخُدُورِ نَحْوَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، عَلَى رَأْسِهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَخَرَجَ مَعَ الْجَيْشِ أَبُو عَامِرٍ الأَوْسِي الْفَاسِقُ، وَكَانَ مُقَاوِمًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمُبَاعِدًا لَهُ، وَمُنْكرًا لِنُبُوَّتِهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَرَهِبًّا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثَ، وَيَذْكُرُ لِلنَّاسِ كَثِيرًا مِنْ صِفَاتِهِ، يَقُولُ

ص: 78

لَهُمْ: أَنَّهُ قَدْ قَرُبَ خُرُوجُهُ، فَلَّمَا هَاجَرَ صلى الله عليه وسلم إِلى الْمَدِينَةِ، وَاتَّضَحَتْ صِفَاتِهِ لِلأَنْصَارِ وَاتَّبَعُوهُ حَسَدَهُ أَبُو عَامِرٍ وَأَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ، وَكَانَ رَئِيسًا فِي الأَوْسِ قَبَّحَهُ اللهِ، كَعَبْدِ اللهِ بن أُبَيّ فِي الْخِزْرَجِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا حَسَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّ عَبْدَ اللهِ بن أُبَيّ دَخَلَ فِي الإِسْلامِ ظَاهِرًا وَهُوَ مَعَ الْكُفَّارِ بَاطِنًا وَأَبُو عَامِرٍ خَرَجَ مِن الإِسْلامِ كَافِرًا مُبَاعِدًا، وَخَرَجَ مَعَهُ خَمْسُونَ مِنْ شِيعَتِهِ، مِن شَبَابِ الأَوْسِ وَغِلْمَانِهِمْ، فَأقَام فِي مَكَّةَ مُنَاصِرًا لِقُرَيْشٍ مُحَرِّضًا لَهَا عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا عَزِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْخُرُوجِ إِلى أُحُدٍ، مَنَّاهَا أَبُو عَامِرٍ أَنْ يُخَذِّلَ لَهَا قَوْمَهُ الأَوْسَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، إِلى صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مُعْتَمِدًا عَلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ سَابِقِ الْمَكَانَةِ فِي قَوْمِهِ، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ بِهَذِهِ الْمَكَانَةِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْدِثُ مَا يَشَاءُ مِنْ التَّفْرِيقِ فِي صُفُوفُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَكْفِي لِذَلِكَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَأَنْ يُسْمِعَهُمْ صَوْتَهُ، فَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، حَتَّى لَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ، فِي يَقِينِ الْوَاثِقِ الْمُطْمَئِنِّ - لَوْ قَدِمْتُ عَلَى قَوْمِي لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ رَجُلانِ، وَهَؤُلاءِ مَعِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي، وَكَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَأَى رُؤْيَا فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمَ الْجُمْعَةَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمد اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي رُؤْيَا، رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ وَرَأَيْتُ كَأَنَّ سَيْفِي ذُو الْفُقَارِ انْقَصَمَ مِن عِنْدِ ظَبَّتِهِ، وَرَأَيْتُ َبَقرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا» . فَقَالَ النَّاسُ: فَمَا أَوَّلْتَهَا؟ قَالَ: «أَمَّا الدِّرْعُ الْحَصِينَةُ فَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَامْكُثُوا فِيهَا، أَمَّا انْفِصَامُ سَيْفِي مِنْ عِنْدِ ظَبَّتِهِ فَمُصِيبَتِي فِي نَفْسِي، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَقَتْلَى فِي أَصْحَابِي، وَأَمَّا أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا، فَكَبْشُ الْكَتِيبَةِ، نَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ:: «وَأَمَّا انْفِصَامِ سَيْفِي، فَقَتْلُ رَجُلِ مِنْ بَيْتِي» .

ص: 79

اللَّهُمَّ انْظُمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَر إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَفِي أَوَائِل شَهْرِ شَوَّالٍ مِنْ السنة الثانيةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ: فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، خَرَجَ الْجَيْشُ الْجَرَّارُ مِنْ مَكَّةَ يَقُودُهُ أَبُو سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَيَحْمِلُ لِوَاءَهُ طَلْحَةُ بنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَعَلى مَيْمَنَتِهِ خَالِدُ بن الْوَلِيْدِ، وَعَلَى مَيِسرَتِهِ عِكْرَمَةُ بن أَبِي جَهْلٍ، وَعَلَى رِجَالَتِهِ صَفْوَانُ ابنُ أُمَيَّةَ.. وَعَدَدُهُم ثَلاثَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ فِي أَكْمَلِ اسْتِعْدَادٍ، وَأَحْسَنَ تَعْبِئَةٍ، مِنْ بَيْنِهِمْ مائَتَانِ مِنْ الْفُرْسَانِ الْمُدَرَّبِينَ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ وَسَبْعُمَائِةٍ مِنَ الدَّاَرعِينَ الْمُحَصَّنِينَ بِالزُّرَدِ وَالدُّرُوعِ الْوَاقِيَةِ، يَحْمِلُهُمْ عَدَدٌ وَافِرٌ مِنَ الرَّكَائِب وَيَتْبَعُهُمْ حَشْدٌ كَبِيرٌ مِن الْعَبِيدِ والْغُلْمَانِ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ، وَيَحْرِسُونَ مَتَاعَهُم، وَكَانَ مَعَ الْعَبِيدِ عَبْد حَبَشِيٌ اسْمُهُ وَحْشِيٌّ، وَكَانَ يُجِيدُ الرِّمَايَةَ بِالْحِرَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَبَشَةِ، فَأَغْرَاهُ سَيِّدُهُ جُبَيْرٌ بن مُطْعِمٍ بَقْتَلِ حَمْزَةَ بن عَبْدِ الْمُطَّلبِ عَمَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لَهُ: إِنْ قَتَلْتَهُ فَأَنْتَ عَتِيقٌ. وَكَذَلِكَ أَغْرَتْهُ بِهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وَوَعَدَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ رضي الله عنه قَدْ قَتَلَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ طُعَيْمَةَ بن عَدِي عَمَّ جُبَيْرِ، وَعُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ بن أَبَا هِنْدٍ.

وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِيمَا يَبْدُوا قَدْ خَرَجَتْ عَلَى خُطَّةٍ مَوْضُوعَةٍ، هِيَ أَنْ

ص: 80

تُفَاجِئَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْرِ دَارِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعِدُّوا فَإِنْ أَخْفَقُوا فِي هَذِهِ الْخُطَّةِ بِأَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مُفَاجَأَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ بِخُرُوجِهِمْ، وَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ فَالْخُطَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ التَّخْذِيلُ وَالإِرْجَافُ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اللَّقَاءِ فَإِنْ أَخْفَقَتْ هَذِهِ الْخُطَّةُ وَلَمْ يَنْجَحُوا فِيهَا، فَالْخُطَّةُ الثَّالِثَةِ هِيَ الْفَتْكُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بِرُؤوسِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، كَمَا فَتَكَ الْمُسْلِمُونَ بِرُؤوسِهِمْ في وَقْعَةِ بَدْرٍ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَمَتْ قُرَيْشٌ أَمْرَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجَتْ تَوَاصُلِ السَّيْرِ فِي سِرٍّ حَتَّى نَزَلَتْ بِوَادِي أُحُد، عَلَى أَقَلَّ مِنْ فَرْسَخٍ مِن الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِرَسُولِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ الْعَبَّاسَ بنَ عَبْدِ الْمُطَّلبِ كَتَبَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا أَخْبَرَهُ فِيهِ بِمَخْرَجِ قُرَيْشٍ هَذَا، وَبِمَا أَعَدَّتْ لَهُ مِن الرِّجَالِ وَالْعَتَادِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ هَذَا مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غَفَّارٍ، فَوَاصَل السَّيْر بِهِ حَتَّى بَلَغَ الْمَدِينَةَ فِي ثَلاثِ لَيَالٍ، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَاءٍ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ فَسَلَّمَهُ الْكِتَابَ، فَدَفَعَهُ صلى الله عليه وسلم إِلى أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ، فَاسْتَكْتمهُ الْخَبَرَ، ثُمَّ دَخَلَ سَعْدِ بن الرَّبِيعِ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْكِتَابِ فَقَالَ سَعْدُ: وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرًا، وَأُرْجِفَ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ بِأَمْرِ الْكِتَابِ، فَشَاعَ الْخَبَرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا مَا كَانَتْ تَخْشَاهُ قُرَيْشٌ.

رَوَى الْوَاقِدِيُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرو بن أَبِي حَكِيمَةَ الأَسْلَمِي قَالَ: لَمَّا أَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ: أَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُمْ جَاءُوا مُحَمَّدًا فَخَبَّرُوهُ مَسِيرَنَا وَحَذَّرُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِعَدَدِنَا، فَهُمُ الآنَ يَلْزَمُونَ صِيَاصِيَّهُمْ، فَمَا أَنْ نُصِيبُ مِنْهُمْ شَيْئًا فِي وَجْهِنَا، فَقَالَ صَفْوَانٌ: إِنْ لَمْ يُصْحِرُوا لَنَا عَمَدْنَا إِلى نَخْلِ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَقَطَعْنَاهُ، فَتَرَكْنَاهُمْ وَلا أَمْوَالَ لَهُم فلا يَجْتَبِرُونَهَا أَبَدًا، وَإِنْ أَصْحَرُوا لَنَا فَعَدَدُنَا أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِم، وَسِلاحُنَا أَكْثَرُ مِنْ سِلاحِهِمْ، وَلَنَا

ص: 81

خَيْلٌ وَلا خَيْلَ مَعَهُمْ، وَنَحْنُ نُقَاتِلُ عَلَى وَتَرٍ عِندَهُم، وَلا وَتَرَ لَهُمْ عِنْدَنَا.

اللَّهُمَّ أَظِلَّنَا تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّكَ وَلا بَاقٍ إِلا وَجْهُكَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا، وَتَلُمَّ بِهَا شَعْثَنَا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدَنَا، وَتَحْفَظُ بِهَا غَائِبَنَا، وَتُزكِّي بِهَا أَعْمَالِنَا، وَتُلْهِمْنَا بِهَا رُشْدَنَا، وَتَعْصِمْنَا بِهَا مِنْ كُلَّ سُوء يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا الْقِيَامَ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا مُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ? عُيُونَهُ يَسْتَطْلِعُونَ لَهُ خَبَرَ الْقَوْمِ، فَجَاءُوا إِلى رَسُولِ اللهِ ? فَأَخْبُرُوهُ بِمَنْزِلِهِمْ مِنْ وَادِي أُحُدٍ، وَحَزَرُوا لَهُ عَدَدُهُمْ وَعِتَادَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ أَطْلَقُوا خُيُولَهُمْ وَإِبْلَهُمْ فِي مَزَارِعٍ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَتْ تَأْكُل الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ حَتَّى أَوْشَكَتْ أَنْ تَدْخُلَ الْمَدِينَةِ وَبَاتَ الْخَطَرُ جَاثِمًا عَلَى الأَبْوَابِ، وَغَدَا الأَمْرُ لا يَقْبَلُ التَّسْوِيفَ، وَصَارَ مِن الوَاجِب عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَيَسْتَعِدُّوا، وَحُرِسَتِ الْمَدِينَةُ كُلَّها طِوَالَ اللَّيْلِ، فَبَاتَ وُجُوهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَيْهِمْ السِّلاحُ خَوْفًا عَلَى النَّبِيَّ ?.?

فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَمَعَ النَّبِيِّ ? أَهْلَ الرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ كَيْفَ يَلْقُونَ عَدُوَّهُمْ اللَّدُودَ.

ص: 82

رَوَى الْوَاقِدِي أَنَّ النَّبِيِّ ? قَالَ لأَصْحَابِهِ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ» . فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بن أُبَيِّ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ نُقَاتِلْ فِيهَا وَنَجْعَلُ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي هَذِهِ الصَّيَاصِي، وَيُجْعَلُ مَعَهُم الْحِجَارَةَ، وَنَشْبِكُ الْمَدِينَةِ بِالْبُنْيَانِ، فَتَكُونُ كَالْحِصْنِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَتَرْمِي الْمَرْأَةُ وَالصَّبِي مِنْ فَوْقَ الصَّيَاصِي وَالآطَامِ، وَنُقَاتِلُ بَأَسْيَافِنَا فِي السِّكَكِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ مَدِينَتَنَا عَذْرَاءُ، مَا فُضَّتْ عَلَيْنَا قَطُ، وَمَا خَرَجْنَا إِلى عَدُوٍّ قَطُ مِنْهَا إِلا أَصَابَ مِنَّا، وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا قَطُ إِلا أَصَبْنَاهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرَّ مَحْبَسٍ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ مَغْلُوبِينَ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا.

يَا رَسُولَ اللهَ أَطِعْنِي فِي هَذَا الأَمْرَ، وَاعْلَمْ أَنِّي وَرَثْتُ هَذَا الرَّأْيَ مِنْ أَكَابرِ قَوْمِي وَأَهْلِ الرَّأْيِ مِنْهُمْ، فَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ.

وَكَانَ هَذَا الرَّأْيُ هُوَ رَأْيُ رَسُولِ اللهِ ? وَهُوَ أَنْ لا يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ، وَأَنْ يَتَحَصَّنُوا بِهَا فَإِنْ دَخَلُوهَا قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَفْوَاهِ الأَزِقَّةِ وَالنِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ رَأْيُ الأَكَابِرِ مِن الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.

فَقَالَ رَسُولِ اللهِ ?: «امْكُثُوا ِفي الْمَدِينَةِ وَاجْعَلُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِي فِي الآطَامِ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِي الأَزِقَّةِ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَرَمُوَا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانُ مِنْ فَوْقِ الصَّيَاصِي وَالآطَامِ» . فَبَادَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ فَاتَهُمُ الْخُرُوجُ يَوْمَ بَدْرٍ وَرَغِبُوا فِي الشِّهَادَةِ، وَأَحَبُّوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ، وَأَلَحُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.

وَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ: إِنَّا نَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَظُنَّ عَدُونَا أَنَا كَرِهْنَا الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ جُبْنًا عَنْ لِقَائِهِم، فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةٌ مِنْهُمْ عَلَيْنَا وَقَدْ كُنْتَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلاثِمَائةٍ فَظَفَّرَكَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ

ص: 83

خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ كُنَّا نَتَمَنَّى هَذَا الْيَوْمَ وَنَدْعُو اللهَ بِهِ، فَقَدْ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْنَا فِي سَاحَتِنَا.

وَقَالَ مَالِكُ بن سِنَان: يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ بَيْنَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا يُظْفِرُنَا اللهُ بِهِمْ فَهَذَا هُوَ الذِي نُرِيدُ، وَالأُخْرَى يَا رَسُولَ اللهِ يَرْزُقُنَا اللهُ بِهَا الشَّهَادَةَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أُبَالِي أَيَّهُمَا كَانَ، إِنَّ كُلَاّ لَفِيهِ خَيْرٌ.

وَقَالَ حَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَالذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لا أَطْعَمُ الْيَوْمَ طَعَامًا حَتَّى أُجَالِدَهُمْ بِسَيْفِي خَارِجًا مِن الْمَدِينَةِ.

وَقَالَ النَّعْمَانُ بنُ مَالِكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ تُحْرِمْنَا الْجَنَّةُ فَوَالذِي لا إِلَه إِلا هُوَ لأَدْخُلَنَّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?:«بِمَ» ؟ فَقَالَ: إِنِّي امْرؤٌ أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلا أَفِرُّ يَوْمَ الزَّحْفِ.

وَقَالَ إِيَاسُ بن أَوْسٍ: لا أُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ قُرَيْشٌ إلى قَوْمِهَا فَيَقُولُونَ حصَرْنَا مُحَمَّدًا فِي صِيَاصِي يَثْرِبَ وَإِطَامِهَا فَتَكُونُ هَذِهِ جُرْأَةٌ لِقُرَيْشٍ عَلَيْنَا وَقَدْ وَطِئُوا سَعَفَنَا فَإِذَا لَمْ نَدَبَّ عَنْ غَرْسِنَا لَمْ يُزْرَعْ.

وَرَأَى رَسُولُ اللهِ ? أَنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الرَّغْبَةَ الْغَالِبَةَ، وَأَنَّ كَثْرَةَ النَّاسِ تَدْعُوا إِلَيْهِ فَصَلَّى بِهِمِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَأَمَرُهُمْ بِالْجَدِّ وَالْجِهَادِ.

وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ لَهُمْ النَّصْرَ مَا صَبَرُوا، فَفَرِحَ النَّاسُ بِالشُّخُوصِ إِلى عَدُّوِهِمْ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا كَرِهُوا ذَلِكَ الْمُخْرَجِ، لِمَا رَأَوا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ ? مِنَ الْكَرَاهَةِ لَهُ.

وَأَخَذَ النَّاسُ يَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، فَيَلْبِسُونَ دُرُوعَهُمْ وَسِلاحَهُمْ وَيَتَوَافَدُونَ عَلَى

ص: 84

مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ? فَلَمَّا كَانَ الْعَصْرُ كَانَ النَّاسُ قَدْ تَجَمَّعُوا وَاحْتَشَدُوا فَصَلَّى بِهِمْ صَلاةَ الْعَصْرِ وَأَمَرَ أَنْ يُرْفَعَ النِّسَاءُ وَالأَوْلادُ فِي الآطَامِ وَالْحُصُونِ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ لِيَلْبَسَ لامَتَهُ، وَالنَّاسُ فِي خَارِجِ الْبَيْتِ يَتَنَاقَشُونَ وَيَتَجَادَلُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَلا يَزَالُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْبَقاَءَ هُوَ الأَصْوَبُ، وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَكْرَهُوا رَسُولَ اللهِ ? عَلَى الْخُرُوجِ فَعَزَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ.

وَجَاءَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ فَقَالا: قُلْتُمْ لِرَسُولِ اللهِ ? مَا قُلْتُمْ، وَاسْتَكْرَهْتُمُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ وَالأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَرَدُّوا الأَمْرَ إِلَيْهِ! فَمَا أَمَرَكُمْ فَافْعَلُوهُ، وَمَا رَأَيْتُمْ لَهُ فِيهِ هَوَى أَوْ رَأْيًا فَأَطِيعُوهُ.

فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ وَقَدْ لَبِسَ لامَةَ الْحَرْبِ، فَقَالَ الذِينَ كَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْخُرُوجِ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَكَ، فَاصْنَعْ مَا بَدَالَكَ فَقَالَ: «قَدْ دَعَوْتَكُمْ إِلى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ، وَلا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إِذَا لَبِسَ لامَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمُ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ.

انْظُرُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ، وَامْضُوا عَلَى اسْمِ اللهِ، فَلَكُمُ النَّصْرُ مَا صَبَرْتُمْ» .

وَعَقَدَ ثَلاثَةَ أَلْوِيَةٍ: لِوَاءٌ بِيَدِ أُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ، وَلِوَاءٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِيَدِ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ، وَقِيلَ: بِيَدِ عَلَيِّ بن أَبِي طَالِبٍ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْخَزْرَجِ، بِيَدِ الْحُبَابِ بن الْمُنْذِرِ.

وَقِيلَ: بِيَدِ سَعْدِ بن عُبَادَةَ، ثُمَّ دَعَا بِفَرَسِهِ، فَرَكِبَهُ وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ

ص: 85

مِن أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ مائةُ دَارِعٌ، وَالنَّاسُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَالسَّعْدَان يَعْدُوَانِ أَمَامَهُ، سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، وَسَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، لِسِتٍ خَلَونَ مِنْ شَوَّالٍ، بَعْدَ أَنْ أَمَّرَ عَلَى الْمَدِينةِ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ، يُصَلَّي بِالنَّاسِ.

اللَّهُمَّ أَقِمْ عَلَمَ الْجِهَادِ وَاقْمَعْ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالزَّيْغِ وَالْعِنَادِ وَانْشُرْ رَحْمَتكَ عَلَى هُؤلاءِ الْعِبَادِ يَا مَنْ لَهُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَإِلَيْهِ الْمَعَادُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ أَهْلِ السَّعَادَةُ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُحْسِنِينَ الذِينَ لَهُمْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

موعظة: عِبَادَ اللهِ كَانَ سَلَفُنَا فِي أَرْقَى دَرَجَةٍ، وَأَصْبَحْنَا بَعْدَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ فِي حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا مِن التَّهَالُكِ عَلَى الدُّنْيَا وَإهْمَالِ الآخِرَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الآخِرَةِ لا تَنْتَهِي حَيَاتُهَا، وَأَنَّ الدُّنْيَا تَنْتَهِي فِي أَيَّامٍ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مَتَاعِهَا أَنَّهُ قَلِيلٌ، فَوَضَعُوا حَيَاةَ الأَبَدِ نَصْبَ أَعْيُنِهم، وَجَدُّوا وَاجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلَ لَهَا، كَمَا أَمَرَهُمْ اللهُ، فَلا تَكَادُ تَرَاهُمْ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ إِلا وَهُمْ بعَمَلٍ مِنْ الأَعْمَالِ يَعْمَلُونَ وَذَلِكَ الْعَمَل مِنْ أَعْمَالِ الآخِرَةِ.

وَلَقَدْ كَانُوا فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ النَّفَسَ الأَخِير، الذِي تَنْتَهِي بِهِ آجَالِهِمْ، فَلَوْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ بَعْدَ سَاعَةَ تَنْتَهِي حَيَاتُكَمْ مَا زَادُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِن الإِكْثَارِ مِن الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ.

أَمَّا اشْتِغَالُهُم بِهَذِهِ الْحَيَاةِ فَمَا كَانَ إِلا لأَنَّهُ وَسِيلَةٌ مِن الْوَسَائِلِ التِي

ص: 86

تُدْنِي إِلى الْجَنَّاتِ، وَتُبْعِدُ عن النَّارِ، لِهَذَا كَانُوا لا يَخَافُونَ الْمَوْتَ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَعَلَّهُمْ يَنَالُونَ الشَّهَادَةَ، وَيَبْكُونَ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ الْخُرُوجُ إِلى الْجِهَادِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُم، وَكَمَا مَرَّ عَنْهُمْ فِي الأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، لِذلِكَ بَلَغُوا مِن الشَّجَاعَةِ مُنْتَهَاهَا، وَعَاشُوا وَمَاتُوا وَهُمْ سَادَةُ الْعَالَمِين.

أَمَّا زُهْدُهُم في هَذِهِ الدُّنْيَا فَكَانَ مَوْضِعَ الْعَجَبِ لأَنَّ مَقْصُودَهُمْ غَيْرَهَا، وَلِهَذَا كَانُوا أَشْرَفَ أُمَّةٍ تَحَلَّى بِرُؤْيَتِهَا الزَّمَانُ.

أَمَّا نَحْنُ فَقَصُرَ نَظَرُنَا قَصْرًا مِن الْعَارِ أَنْ يُنْسَبَ إِلى عُقَلاءَ الرِّجَالِ وَهَلْ يُتَصَوَّرْ أَنَّ الْعَاقِلَ تَمْلِكُ قَلْبَهُ وَقَالِبَهُ الدُّنْيَا وَحِطَامِهَا الْفَانِي، فَيَجْعَلُ كُلَّ مَقْصُودِهِ الْمَالُ، مَعَ أَنَّهُ يَقْرَأ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .

هَذَا هُوَ الذِي كَانَ مِنَّا فَالآخِرَةُ لا تَخْطُرُ لَنَا عَلَى بَالٍ، فَلِلدُّنْيَا أَبْدَانُنَا وَقُلُوبُنَا، وَلَهَا رِضَانَا وَسَخَطُنَا، وَإِنْ زُجْرنَا عَنْهَا إِزْدَادَ وَلَعُنَا بِهَا وَزَادَ إِقْبَالُنَا عَلَيْهَا وَتَضَاعَفَ جُهْدَنَا لَهَا.

عَلَى حَد قَوْل الشَّاعر:

وَإِذا زَجَرْتُ النَّفْسَ عَنْ شَغَفٍ بِهَا

فَكَأَنَّ زَجْرَ غَويِّهَا إِغْرَاؤُهَا

لِهَذَا كَرِهْنَا الْمَوْتَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً فَفَقَدْنَا الشَّجَاعَةَ وَأَصَابَنَا الْوَهَنُ وَالْخَورُ وَالضَّعْفُ وَالْجُبْنُ.

شِعْرًا:

نَهَاكَ عَن الْبَطَالَةِ وَالتَّصَابِي

نُحُولُ الْجِسْمِ وَالرَّأْسُ الْخَضِيبُ

إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضَا

فَبَعْضُ الشَّيْءِ مِنْ بَعْضٍ قَرِيبُ

ص: 87

وَلِهَذا وَصَلَتْ بِنَا الْحَالُ إِلى أَنْ مَنَعْنَا الزَّكَاةَ أَوْ بَعْضَهَا وَهِيَ قَرِينَةُ الصَّلاةَ، وَمِن أَجْلِ الدُّنْيَا دَاهِنًّا، وَتَمَلَّقْنَا لأَعْدَاءِ اللهِ وَقُلْنَا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَوْ يَا مُعَلِّمُ، أَوْ يَا أُسْتَاذُ، هَذَا خِطَابُنَا لأَعْدَاءِ اللهِ مَعَ أَنَّ الْوَاجِب عَلَيْنَا نَحْوَهُمْ هِجْرَانُهُم وَالابْتِعَادُ عَنْهُمْ وَبُغْضُهُمْ للهِ قَالَ تَعَالَى:{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ الْعَلِّي الْعَظِيم، هَذَا يَا أَخِي هُوَ السَّبَبُ الْوَحِيدُ فِي انْحِطَاطِنَا، وَفِي عِزِّ سَلَفِنَا الأَجلاءِ الْكِرَامِ، وَلَوْ سَلَكْنَا طَرِيقَهُمْ مَا أَصَابَنَا هَذَا الذُّلُ وَالْهَوَانُ.

قَصِيدَة زُهْدِيَّةٌ فِي غُرْبَةِ الدِّيْنِ وَالْوَلاءِ وَالْبَرَاءِ وَالتَّقَلُّلِ مِن الدُّنْيَا

إلِى اللهِ نَشْكُوا غُرْبَةَ الدِّينِ وَالْهُدَى

وَفُقْدَانَه مِنْ بَيْنِ مَنْ رَاحَ أَوْ غَدَا

فَعَادَ غَرِيبًا مِثْلَ مَا كَانَ قَدْ بَدَا

عَلَى الدِّينِ فَلْيُبْكِي ذُوو الْعِلْمِ وَالْهُدَى

فَقَدَ طَمَسَتْ أَعْلامُهُ في الْعَوَالِمِ

حَوَى الْمَالَ أَنْذَالُ الْوَرَى وَرَذَالُهُم

وَقَدْ عَمَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ ضَلالَهُم

وَلا تَرْتَضِي أَقْوَالَهم وَفِعَالَهُمْ

وَقَدْ صَارَ إِقْبَالُ الْوَرَى وَاحْتِيَالُهم

عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَجَمْعِ الدَّرَاهِمِ

ص: 88

.. فَذُو الْمَالِ لا تَسْأْلَ أَخَصُّ خَدِينِهِم

وَقَدْ نَفِقَ الْجَهْلُ الْعَظِيمُ بِحِينِهِم

بِإعْرَاضِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ وَمَدِينِهِم

وَإِصْلاحِ دُنْيَاهُمْ بِإفْسَادِ دِينِهِم

وَتَحْصِيلِ مَلْذُوذَاتِهِمْ وَالمَطَاعِمِ

مُحِبُّونَ لِلدُّنْيَا مُحِبُّونَ قَيْلَهَا

وَلَوْ مُعْرِضًا عَنْ دِينِهِ وَلَهَاً لَهَا

وَكُلُّهُمُ لا شَكَّ دَنْدَنَ حَوْلَهَا

يُعَادُونَ فِيهَا بَلْ يُوَالُونَ أَهْلَهَا

سَوَاءٌ لَدَيْهِم ذُو التُّقَى وَالْجَرَائِمِ

إِلى اللهِ فِي هَذَا الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَا

نَبُثُّ الدُّعَا فَالْقَلْبُ لا شَكَّ قَدْ قَسَا

وَحُبُّ الْوَرَى الدُّنْيَا فَفِي الْقَلْبِ قَدْ رَسَى

إِذَا انْتُقِصَ الإِنْسَانُ مِنْهَا بِمَا عَسَى

يَكُونُ لَهُ ذَخْرًا أَتَى بِالْعَظَائِمِ

بَكَى وَاعْتَرَاهُ الْمَسُّ مِنْ عُظْمِ مَا حَسَى

وَخَرَّ صَرِيعًا إِذْ بَدَا النَّقْصُ وَأَفْلَسَا

وَانْحَلَ جِسْمًا نَاعِمًا قَبْلُ مَا عَسَى

وَأَبْدَى أَعَاجِيبًا مِن الْحُزْنِ وَالأَسَى

عَلَى قِلَّةِ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ حَازِمِ

ص: 89

.. وَنَادَى بِصَوْتٍ مزْعَجٍ مُتَكَلِّمًا

وَبَاتَ حَزِينًا قَلْبُه مُتَكَلِّمًا

وَقامَ عَلى سَاقٍ لِحَرَّاهُ مُعْلِمًا

وَنَاحَ عَلَيْهَا آسِفًا مُتَظَلِّمًا

وَبَاتَ بِمَا فِي صَدْرِهِ غَيْرَ كَاتِمِ

فَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْغَيِّ وَالْجَهْلِ وَالرَّدَى

إِذَا انْتُقِصُوا الدُّنْيَا أَصَارُوا الثَّرَى نَدَى

وَبَكُوا وَأَبْكُوا كُلَّ مَنْ رَاحَ أَوْ غَدَا

فَأَمَّا عَلَى الدِّين الْحَنِيفِيِّ وَالْهُدَى

وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ذَاتِ الدَّعَائِمِ

وَلَوْ قُطَّعَتْ فِي كُلِّ أَرْكَانِهَا الْقُوَى

وَلَوْ سَلَكْت كُلُّ الْوَرَى سُبْلَ مَن غَوَى

أَوْ اتَّخَذَ الْمَخْلُوقُ مَعْبُودَهُ الْهَوَى

فَلَيْسَ عَلَيْهَا وَالذِي فَلَقَ النَّوَى

مِن النَّاسِ مَنْ بَاكٍ وَآسٍ وَنَادِمِ

بُنُودٌ لَهَا فِيمَا مَضَى بَيْنَنَا انْتَفَتْ

وَكُلُّ مُحَامِيٍّ لَهَا مَالَ وَالْتَفَتْ

وَمَحْبُوبُنَا مَنْ أَبْغَضَتْهُ وَمَنْ نَفَت

وَقَدْ دَرَسَتْ مِنْهَا الْمَعَالِمُ بَلْ عَفَتْ

وَلَمْ يَبْقَ إِلا الإِسْمِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ

ص: 90

.. وَقَدْ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْفَوَاحِشُ وَالْجَفَا

وَلا شَكَّ فِي فِعْلِ اللَّوَاطِ مَعَ الزِّنَى

وَقَلْبِي إِذًا مِمَّا بَدَى مَسَّهُ الضَّنَى

فَلا آمِرٌ بِالْعُرْفِ يُعْرَفُ بَيْنَنَا

وَلا زَاجِرٍ عن مُعْضَلاتِ الْجَرَائِمِ

بِحَارُ الْمَعَاصِي قَدْ طَمَى الآنَ لُجُهَا

وَمُتَّسِعُ بَيْنَ الْبَرِيَّةِ ثَجُّهَا

وَقَدْ لاحَ مِنْ فَوْقِ الْبَسِيطَةِ فَجُّهَا

ومِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ غُودِرَ نَهْجُهَا

عَفَاءً وأضْحَتْ طَامِسَاتِ الْمَعَالِمِ

نَوَاظِرُنَا كَلَّتْ وَأَنْوَارُهَا طَفَتْ

وَأَلْسُنُنَا عن بَحْثِ مِنْهَاجِهَا حَفَتْ

مَنَاهِجُهَا واللهِ مِنْ بَيْنِنَا عَفَتْ

وَقَدْ عُدِمَتْ فِينَا وَكَيْفَ وَقَدْ سَفتْ

عَلَيْهَا السَّوَافِي مِنْ جَمِيعِ الأقَالِمِ

تَظُنُونَ أَنَّ الدَّيْنَ لَبَيْكَ فِي الفَلا

وَفِعْلَ صَلاةٍ والسُّكُوتَ عَن المَلا

وَسَالِمْ وَخَالِطْ مَن لِذَا الدِّيْن قَدْ قَلا

وَمَا الدِّيْنُ إِلا الْحُبُّ والْبُغْضُ والْولا

كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَآثِمِ

ص: 91

.. فَأَفْرَادُنَا ظَنُّوَا النَّجَا فِي التَّنَسُكِ

وَغَالِبُنَا مِنْهَاجُهُم في التَّسَلُّكِ

وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ خَيْرِ مَسْلَكِ

وَلَيْسَ لها مِنْ سَالِكِ مُتَمَسِّكِ

بِدِين النَّبِي الأَبْطَحِي بن هَاشِمِ

فَلَسْنَا نَرَى مَا حَلَّ فِي الديِّنِ وَامّحَتْ

بِهِ الْمِلَّةِ السَّمْحَاءِ إِحْدَى الْقَوَاصِمِ

عَسَى تَوْبَةٌ تَمْحُو ذُنُوبًا لِمُرْتَجِي

عَسَى نَظْرَةٌ تَسْلُكْ بِنَا خَيْرَ مَنْهَجِ

عَسَى وَعَسَى مِنْ نَفْحَةٍ عَلَّهَا تَجِي

فَنَأْسَى عَلَى التَّقْصِيرِ مِنَّا وَنَلْتَجِي

إِلى اللهِ فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ الْعَظَائِمِ

فَكُلُّ الْوَرَى فِي كَثْرَةِ الْمَالِ نَافَسَتْ

وَرَانَتْ ذُنُوبٌ فِي الْقُلُوبِ وَقَدْ رَسَتْ

وَفِي النَّهْيِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي تَنَاعَسَتْ

فَنَشْكُوا إِلى اللهِ الْقُلوبَ التِي قَسَتْ

وَراَنَ عَلَيْهَا كَسْبُ تِلْكَ الْمَآثِمِ

نُرَاعِي أَخَا الدُّنْيَا فَذَاكَ هُوَ الأَخُ

وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي مُلَطَّخُ

أَلَسْنَا بَأَوْضَارِ الْخَطَا نتَضَمَّخُ

أَلَسْنَا إِذَا مَا جَاءَنَا مُتَضَمِّخُ

ص: 92

بِأَوْضَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ ظَالِمِ

أَتَيْنَاهُ نَسْعَى مِنْ هُنَاكَ وَمِنْ هُنَا

وَفِي عَصْرِنَا بَعْضٌ يُرَدُ وَلَوْ عَنَى

أَتَيْنَا سِرَاعًا وَالرِّضَى عَنْهُ حثَّنَا

نَهُشُّ إِلَيْهِمْ بِالتَّحِيَّةِ وَالشَّنَا

وَنَهْرَعُ فِي إِكْرَامِهِم بالْولائِمِ

إِذَا يُرْتَضَى فِي الدِّينِ هَلْ مِنْ مُعَلِّم

أَفِقْ أَيُّهَا الْمَغْبُونُ هَلْ مِنْ تَنَدُّمٍ

أَيَرْضَى بِهَذَا كُلُّ أَبْسَلَ ضَيْغَمٍ

وَقَدْ بَرِيَ الْمَعْصُومُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ

يُقِيمِ بِدَارِ الْكُفْر غَيْرَ مُصَارِمِ

وَلا مُنْكِرٍ أَقْوَالَهُمْ يَا ذَوِي الْهُدَى

ومُبْغِضٍ أَفْعَالَ مَنْ ضَلَّ واْعَتَدَى

ولا آمرٍ بالْعُرْفِ مِنْ بَيْنِهِم غَدَا

ولا مُظْهِرٍ لِلدِّينِ بَيْنَ ذَوِي الرَّدَى

فَهَلْ كَانَ مِنَّا هَجْرُ أَهْلِ الْجَرَائِمِ

وَهَلْ كَانَ فِي ذَاتِ الْمُهَيْمِنِ وُدُّنَا

وَهَلْ نَحْنُ قَاتَلْنَا الذِي عَنْهُ صَدَّنَا

وَهَلْ نَحْنُ أَبْعَدَنَا غَدَا والذِي دَنَا

وَلَكِنَّمَا الْعَقْلُ الْمَعِيشِيُ عِنْدَنَا

مُسالَمَةُ الْعَاصِينَ مِنَ كُلِّ آثِمِ

ص: 93

.. أَيَا وَحْشَةً مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْمَنَازِلِ

وَيَا وَصْمَةً لِلدِّينِ مِنْ كُلِّ نَازِلِ

تَكَلَّمَتْ الأَوْبَاشُ وَسْطَ الْمَحَافِلِ

فِيَا مِحْنَةَ الإِسْلامِ مِنْ كُلِّ جَاهِلِ

وَيَا قِلَّةَ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ عَالِمِ

فَنَفْسَكَ فاخْزِمَْا إِذَا كُنْتَ حَازِمًا

وَمِن بَابِهِ لا تَلْتَفِتْ كُنْ مُلازِمًا

وَصَبْرٌ فَرَبُّ الْعَرْشِ لِلشِّرْكِ هَازِمًا

وَهَذَا أَوَانُ الصَّبْرِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا

عَلَى الدِّينِ فاصْبِرْ صَبْرَ أَهْل عَزَائِمِ

وَمُدُّ يَدًا للهِ كُلَّ عَشِيَّةٍ

وَسَلْ رَبَّكَ التَّثْبِيتَ فِي كُلِّ لَحْظَةِ

عَلى مِلَّةِ الإِسْلامِ أَزْكَى الْبَرِيَةِ

فَمَنْ يَتَمَسَّكَ بالْحَنِفِيَّةِ الَّتِي

أَتَتْنَا عَنِ الْمَعْصُومِ صَفْوَةِ آدَمِ

وعُضَّ عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ إِذْ غَدَا

وَحِيدًا مِنَ الْخِلانِ مَا ثَمَّ مُسْعِدًا

عَلَى قِلَّةِ الأَنْصَارِ أَصْبَحَ وَاحِدًا

لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ أَمْرًا مِنْ ذَوِي الْهُدَى

مِن الصَّحْبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الأَكَارِمِ

وَكُنْ عَنْ حَرَامٍ فِي الْمَآكِلِ سَاغِبًا

ص: 94

.. وَلا تَمْشِ مِنْ بَيْنِ الْعِبَادِ مُشَاغِبًا

ومُدَّ يدًا نَحْوَ الْمُهَيْمِنِ طَالِبًا

وَنُحْ وابْكِ وَاسْتَنْصِرْ بِرَبِّكَ رَاغِبًا

إِلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ أَرْحَمُ رَاحِمِ

لِيَنْصُرَ هَذَا الدِّينِ مِنْ بَعْدِهَا عَفَتْ

مَعَالِمُهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ

وَأَنْ يَكْبُتَ الأَعْدَا وَيَفْنُوا بِغِلِّهِمْ

وَيَخْذُلَ أَعْدَاءَ الْهُدَى بأَقَلِّهِمِ

مِن الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَخِلِّهِمْ

وَصَلِّ عَلَى الْمَعْصُومِ والآلِ كُلِّهِمْ

وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى والْمَكَارِمِ

بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ والرَّمْلِ والْحَصَى

وَمَا انْهَلَّ وَدْقٌ مِنْ خِلالِ الْغَمَائِمِ

اللَّهُمَّ يَا مَنْ عَمَّ الْوَرَى جُودُهُ وَإِحْسَانُه لنَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ وَإِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ أَنْْْْْْ تُثَبِّتَ وَتُقَوِّي قُلُوبَنَا فِي الإِيمَانِ بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخرِ وَبِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ اللَّهُمَّ وَأَيِّدْنَا بِنَصْرِكَ وَارْزُقْنَا مِنْ فَضْلِكَ وَنَجِّنَا مِنْ عَذَابِكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَارْزُقْنَا التَّأهُّبَ وَالاسْتِعْدَادَ لِلِقَائِكَ وَاجْعَلْ خِتَامَ صَحَائِفَنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 95

(فَصْلٌ)

وَمَضَى ? حَتَّى وَصَلَ إِلى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الشَّيْخَيْنِ، فَعَسْكَرَ بِهِ، ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْجَيْشَ، فَرَدَّ مَنْ اسْتَصْغَرَهُ مِنْ جُنُودِهِ.

وَكَانَ فِيمَنْ رَدَّ رَسُولُ اللهِ ? مِنْ هَؤُلاءِ الصِّغَارِ رَافِعُ بن خَدِيجٍ

وسمرة بن جُنْدُبٍ، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ?: إِن رَافِعًا يُحْسِنُ الرِّمَايَةَ فَأجَازَهُ فَبَكَى سمرة ابن جُنْدُبٍ، وَقَالَ: أَجَازَ رَافِعًا وَرَدَّنِي مَع أَنِّي أَصْرَعُهُ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ? فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَتَصَارَعَا فَكَانَ الْغَالِبُ سمرة، فَأجَازَهُ.

وَبَاتَ رَسُولُ اللهِ ? لَيْلَتَهُ تِلْكَ بِالشَّيْخَيْنِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى حَرَسِ الْجَيْشِ مُحَمَّدَ بن سَلَمَةَ، وَعَلَى حَرَسِهِ، ذَكْوَانَ بن قَيْسٍ.

وَنَامَ ? حَتَّى إِذَا كَانَ السَّحَرُ، قَالَ:«أَيْنَ الأَدِلاءُ، مَن رَجُلَ يَدُلُنَا عَلَى الطَّرِيقِ، يُخْرِجُنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ» . فَقَامَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْحَارِثِي، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.

وَلَمَّا بَلَغَ ? الشَّوْطَ، وَهُوَ بُسْتَانٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ، انْشَقَّ الْجَيْشُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ?، فَرَجَعَ عَبْدُ اللهِ بن أُبَيّ بِثَلاثِمَائةِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَقُول: أَطَاعَ الْغُلْمَانَ وَعَصَانِي، فَعَلامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَا هُنَا، فَجَعَل عَبْدُ اللهِ بن عَمْرُو بن حَرَامٍ يُحَاوِلُ أَنْ يَثْنِيهُمْ عَنْ عَزْمِهِمْ هَذَا، وَيُنَاشِدُهُمْ اللهَ أَلا يَشُقُّوا عَصَا الْجَمَاعَةِ، وَأَنْ لا يَخْذُلُوا قَوْمَهُمْ وَنَبِيَّهُمْ فِي حَضْرَةِ الْعَدُوِّ، فَيَقُولُونَ لَهُ مُتَهَكِمِينَ بِهِ {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاّتَّبَعْنَاكُمْ} .

وَقَدْ أَحْدَثَتْ هَذِهِ الْفِعْلَةُ الشَّنِيعَةُ، خَلْخَلَةً عَظِيمَةً فِي بِنَاءِ الْجَيْشِ، فِي هَذَا الْوَقْتِ الْحَرِجِ، وَأَحْدَثَتْ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً فِي نُفُوس الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى لَقَدْ هَمَّتْ بَنُوا حَارِثَةَ مِن الْخَزْرَجِ، وَبَنُوا سَلَمَةَ الأَوْسِ، أَنْ تَفْعَلا كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ ابنُ أَُبَيّ، وَلَكِنْ عَصَمَهُمُ اللهُ، فَعَادُوا إِلى صُفُوفُ الْجَمَاعَةِ، وَسَارُوا مَعَ الْجَيْشِ، كَمَا يَسِيرُونَ.

وَمَضَى رَسُولُ اللهِ ? إِلى أُحُدٍ، وَهُوَ جَبَلٌ كَثِيرُ الْمَسَالِكِ، وَالشِّعَابِ، تَقْطَعُهُ عِدَّةُ وِدْيَانٍ، وَيُدورُ دَوْرَةً وَاسِعَةً فِي مُوَاجَهِةَ السَّهْلِ الضَّيّقِ.

ص: 96

الذِي وَقَفَتْ عِنْدَهُ قُرَيْشٍ، كَمَا أَنَّ تَعَرجَاتِ الأَرْضِ جَعَلَتْ فِي انْحِدَارِهِ فَجَوَاتٍ، تُشْبِهُ الْحُفَرَ، تَصْلُحُ للإخْتِفَاءِ فِي الْحَرْبِ الدِّفَاعِيَّةِ، لِقَذْفِ النِّبَالِ.

فَنَزَلَ رَسُولِ اللهِ ? فِي شَعبٍ عَلَى عُدْوَةِ الْوَادِي، إِلى جَانِب تلٍّ مُشْرِفٍ، يُقَالُ لَهُ: جَبَلُ عَيْنَيْن، وَهُنَاكَ أَخَذَ ? يَصُفُ أَصْحَابَهُ، وَيُعْبِئُهُمْ لِلْقِتَالِ، فَجَعَلَ ظُهُورَهُمْ إِلى الْجَبَلِ بِحَيْثُ يَحْتَمُونَ بِهِ مِنْ خَلْفِهِمْ وَجَعَلَ وَجُوهَهُمْ إِلى الْمَدِينَةِ، بِحَيْثُ يَسْتَقْبِلُونَ الْوَادِي، وَيُشْرِفُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْلاهُ وَجَعَلَ خَمْسِينَ مِن الرُّمَاةِ عَلَى جَبَل عَيْنَيْن.

وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بن جُبَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمُوا ظُهُورَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَأَنْ لا يُمَكِّنُوا الْعَدُوِّ مِن اقْتِحَامِ هَذَا الْحِصْنِ، وَأَنْ لا يَبْرَحُوا مَكَانَهُمْ هَذَا، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْ عَلَيْهِمْ.

ثُمَّ عَلَّمَهُمْ أَنْ يَنْضَحُوا الْخَيْلَ كُلَّمَا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ بِالنَّبْلِ، وَأَكَّدَ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهِمْ أَنْ لا يُغَادِرُوا مَوَاضِعَهُمُ، وَإِنْ رَأَوْا أَصْحَابَهُمْ تَتَخَطَّفُهُمْ الطَّيْرُ.

فَلَمَّا انْتَهَى صلى الله عليه وسلم مِنْ تَعْدِيلِ الصُّفُوفِ، وَإِعْدَادِ الْمَوَاضِعِ، خَطَبَ فِي النَّاسِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لا يَبْدَءُوا بِقِتَالٍ حَتَّى يُؤَاذِنَهُمْ، وَبَيْنَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُشْتَغِلاً بِصَفِّ جُنُودِهِ ظَهَرَ الْقُرَشِيُّونَ فِي السَّهْلِ الْمُنْبَسِطِ، تَحْتَ التَّلِّ، وَصَارَ الْجَيْشَانِ وَجْهًا لِوَجْهٍ.

وَظَهَرَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، يَمْشِينَ بَيْنَ الصُّفُوفُ، وَيَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ وَيُنْشِدْنَ الأَنَاشِيدِ، تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ، وَإِثَارَةَ لِلْحَمِيَّةِ بَيْنَ الرِّجَالِ.

اللَّهُمَّ نَجّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ النَّارِ وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الْخِزْيَ وَالْبَوَارِ، وَأَدْخِلْنَا بفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دَارَ الْقَرَارِ وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 97

(فَصْلٌ)

فَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ، بَدَأَ أَبُو سُفْيَانَ خُطَّةَ التَّخْذِيلِ، بَيْنَ الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، خَلُّوا بَيْنَ وَبَيْنَ عَمِّنَا وَنَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، فَذَهَبَ نِدَاؤُهُ صَرْخَةً فِي الْفَضَاءِ.

فَأَعْقَبَهُ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ، فَبَرَزَ بَيْنَ الصُّفُوفُ يُنَادِي قَوْمَهُ الأَوْسَ: يَا لَلأَوْسِ إِليَّ إِليَّ، فَمَا كَانَ جَوَابُهُ مِنْهُمْ إِلا اللَّعْنَ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمَ وَالرَّمِيَ بِالْحِجَارَةِ وَالطَّرْدِ حَتَّى وَلَّى مُخْتَزِيًا خَجْلانَ، يَقُولُ: لِقُرَيْشٍ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ.

وَأَخْفَقَتْ خُطَّةُ التَّخْذِيلِ، كَمَا أَخْفَقَتْ خُطَّةُ الْمُفَاجَأَةِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْقِتَالِ مَفَرٌّ، وَهُنَا حَاوَلَتْ قُرَيْشٌ أَنْ تُطَوِّقَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَضُمُّ عَلَيْهِمْ جَنَاحَيْهَا بِحَرَكَةِ الْتِفَافٍ سَرِيعَةٍ.

فَتَحَرَّكَ لِوَاءُ عِكْرَمَةَ مِنَ الْمَيْسَرَةِ، يُرِيدُ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ عَسْكَرِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ.

فَحَاوَلَ مِثْلَهُ خَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ مِنْ الْمَيْمَنَةِ، فَأَمْطَرَهُ الرُّمَاةُ وَابِلاً مِنَ النِّبَالِ، َفارْتَدَّتْ الْخَيْلُ عَلَى أَعْقَابِهَا مُسْرِعَةً.

فَعَادَ الْكُفَّارُ إِلى أَمَاكِنِهِمْ كَمَا كَانُوا أَوَّلاً وَبَدَأ الْقِتَالُ بِالْمُبَارَزَةِ. فَخَرَجَ مِنْ صُفُوفُ الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمُبَارَزَةَ، فَبَرَزَ لَهُ الزُّبَيْرُ بنُ الْعَوَّامِ، فَقَتَلَهُ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ? وَكَبَّرَ فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ.

وَشَدُّوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ يَتَصَايَحُونَ صَيْحَةَ الْحَرْبِ، (أَمِتْ أَمِتْ) فَهَجَمَ عَلِيَّ بن أَبِي طَالِبٍ عَلَى حَامِلِ لِوَائِهِمْ طَلْحَةِ بن أَبِي طَلْحَة فَقَتَلَهُ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَسُرَّ النَّبِيِّ ? بِقَتْلِهِ، فَإِنَّهُ هُو كَبْشُ الْكَتِيبَةِ.

ص: 98

وَكَانَ قَزْمَانُ يُعْرَفُ بِالشَّجَاعَةِ، وَقَدْ تَأَخَّرَ، فَعَيّرَتْهُ نِسَاءُ بَنِي ظَفَرٍ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ?، وَهُوَ يُسَوِّي الصُّفُوفَ حَتَّى انْتَهَى إِلى الصَّفِّ الأَوَّلِ فَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي صَفِّ الْمُسْلِمِينَ بِسَهْمٍ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ نَبْلاً كَأَنَّها الرِّمَاحُ، وَيَكُتُّ كَتِيتَ الْجَمَلِ، ثُمَّ فَعَلَ بِالسَّيْفِ الأَفَاعِيلَ حَتَّى قَتَلَ سَبْعَةً.

وَأَصَابَتْهُ جِرَاحٌ فَوَقَعَ، فَنَادَاهُ قَتَادَةُ بن النُّعْمَان: أَبَا الْغَيْدَاقِ هَنِيئًا لَكَ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ: إِنِّي وَاللهِ مَا قَاتَلْتُ يَا أَبَا عَمْروٍ عَلَى دِينٍ، مَا قَاتَلْتُ إِلا عَلَى الْحِفَاظِ، أَنْ تَسِيرَ قُرَيْشٌ إِلَيْنَا حَتَّى تَطَأ سَعَفَنَا، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ? فَقَالَ:«مِنْ أَهْلِ النَّارِ، إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُل الْفَاجِرُ» .

ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ أَخُو طَلْحَةَ عُثْمَانُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَخُوهُمَا سَعِيدٌ، فَرَمَاهُ سَعْدُ بن أَبِي وَقَّاصٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَتَنَاوَبَ اللِّوَاءَ بَعْدَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَوْلادِ طَلْحَةَ، وَكُلُّهُمْ يُقْتَلُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَحَمَلَ اللِّوَاءُ غُلامَ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ صُوءَابُ، فَقُتِلَ، وَسَقَطَ اللِّوَاءُ عَلَى الأَرْضِ، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ أَخْذًا شَدِيدًا وَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَانْفَرَجَتْ صُفُوفُهُمْ فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، وَأَمْنَعُوا فِيهِمْ ضَرْبًا بِالسُّيُوفِ، وَطَعْنًا بِالرِّمَاحِ، وَرَمْيًا بِالسِّهَامِ، فَانْكَشَفُوا وَوَلَّوْا الأَدْبَارِ وَجَعَلَتْ نِسَاؤُهُمْ تَصِيحُ وَتُوَلْوِلُ، وَأَخَذْنَ فِي الْهَرَبِ وَالْفِرَارِ، مِنْ الأَسْرِ مُشَمِّرَاتٍ عَنْ أَسَياقِهِنَّ، وَخَلاخِيلِهِنَّ، وَتَتَبَّعَ الْمُسْلِمُونَ أَعْدَاءَهُمْ يَضَعُونَ فِيهِمْ السِّلاحَ حَيْثُ شَاءُوا، حَتَّى أَبْعَدُوا عَن مُعَسْكَرِهِمْ.

اللَّهُمَّ إِنَّ نَوَاصِينَا بِيَدِيكَ، وَأُمُورُنَا تَرْجعُ إِلَيْكَ، وَأَحْوَالِنَا لا تَخْفَى

ص: 99

عَلَيْكَ، وَآلامُنَا وَأَحْزَانُنَا وَهُمُومُنَا وَغُمُومُنَا كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ لَدَيْكَ، اللَّهُمَّ قَدْ عَجَزَتْ قُدْرَتُنَا، وَقَلَّتْ حِيلَتُنَا، وَضَعَفَتْ قُوَّتُنَا، وَتَاهَتْ فِكْرَتُنَا، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْنَا هُمُومُنَا وَأَوْصَابُنَا، وَأَنْتَ مَلْجَؤُنَا، وَمَلاذُنَا وَمَوْلانَا، وَسَيِّدُنَا وَإِلَيْكَ نَرْفَعُ بَثَّنَا وَحُزْنَنَا، وَشِكَايَتُنَا، يَا مَنْ يَعْلَمِ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتُنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ، وَأَمِّنْ خَوْفَنَا إِذَا وَصَلْنَا إِلَيْكَ، وَلا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا إِذَا صِرْنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَسُوقُهُ الضَّرُورَاتُ إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيم، وَجُدْ عَلَيْنَا بِإِحْسَانِكَ الْعَمِيمْ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيم.

اللَّهُمَّ مَكِّنْ حُبَّكَ فِي قُلُوبِنَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ طَاعَتِكَ وَأَمْرِكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

ثُمَّ وَقَعُوا عَلَى الْغَنَائِم وَالأَسْلابِ يَجْمَعُونَهَا وَيَنْتَهِبُونَهَا وَهُمْ مُطْمَئِنُونَ إِلى أَنَّ ظُهُورَهُمْ لا تَزَالُ مَحْمِيَّةً بِرُمَاتِهِمْ، أَمَّا الرُّمَاةُ فَقَدْ خُيِّلَ لَهُمْ أَنَّ الْمَعْرَكَةَ انْتَهَتْ. وَأَنَّ الْهَزِيمَةَ قَدْ تَمَّتْ، وَخَشُوا أَنْ يَسْبَقَهُمْ إِخْوَانُهُمْ فِي جَمْعِ الْغَنَائِمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا بَقَاؤُنَا هُنَا، وَقَدْ هَزَمَ اللهُ الْعَدُوَّ، هَؤُلاءِ إِخْوَانُكُمْ يَغْنَمُونَ، فَادْخُلُوا فَاغْنَمُوا مَعَ إِخْوَانِكُمْ، فَذَكَّرَهُمْ أَمِيرُهُمْ عَهْدَ رَسُولِ اللهِ ? وَوَصَيَّتَهُ لَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ عَاقِبَةَ الْخِلافِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، وَظَنُّوا أَنْ لَيْسَ لِلْمُشْرِكينَ رَجْعَةٌ، فَذَهَبُوا فِي طَلَبِ الْغَنِيمَةِ وَأَخْلَوا الثَّغْرَ، وَتَرَكُوا أَمِيرَهُمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لا يُجَاوِزُونَ الْعَِشْرَةَ فَانْكَشَفَ بِذَلِكَ الْحِصْنُ الذِي كَانَ يَحْمِي ظُهُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ يَتَقَهْقَرُ وَعَيْنُهُ إِلى التَّلِّ لا تُفَارِقُهُ، فَلَمَّا رَأَى الرُّمَاةَ يَتْرُكُونَ مَوَاقِفَهُمْ انْقَلَبَ رَاجِعًا فِي دَوْرَةٍ، وَاسِعَةٍ مُتَّخِذًا مِنْ الأَرَاضِي الْمَسْتُورَةِ دَرْبًا وَطَرِيقًا

ص: 100

لَهُ، وَجَاءَ فِي أَعْقَابِهِ عِكْرَمَةُ بِلِوَائِهِ، فَتَسَلَّلوا فَوْقَ الْجَبَلِ وَأزَاحُوا الرُّمَاةَ الْبَاقِينَ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ وَاقْتَحَمُوا خُطُوطَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْخَلْفِ، وَجَعَلُوا يَتَنَادُونَ بِشَعَارِهِمْ، يَا لَلْعُزَّى، يَالِهَبَلْ، فَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ إِدْبَارِهِمْ، وَأَخَذَتْ عُمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ اللِّوَاءِ فَرَفَعَتْهُ، فَجَعَلُوا يَلُوذُونَ بِهِ وَفُوجِئَ الْمُسْلِمُونَ بِأَعْدَائِهِمْ قَدْ حَاصَرُوهُمْ وَأَوْجَعُوا فِيهِمْ قَتْلاً ذَرِيعًا فَاضْطَرَبَ أَمْرَهُمْ واَنْتَقضَتْ صُفُوفُهُمْ، وَجَعَلُوا يُقَاوِمُونَ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ وَيُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ شِعَارٍ، وَتَرَكُوا مَا انْتَهَبَوا وَخَلُّوا مَنْ أَسَرُوا، وَتَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ. وَهَذِهِ عَاقِبَةُ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَالْعَجَلَةْ الْمُثْمِرَة لِلنَّدَامَة.

شِعْرًا:

وَمُسْتَعْجِلِ وَالْمُكْثِ أَدْنَى لِرُشْدِهِ

وَلَمْ يَدْرِ مَا يَلْقَاهُ حِينَ يُبَادِرُ

وَنَظَرَ حُذَيْفَةَ إِلى أَبِيهِ الْيَمَانِ وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ وَهُمْ يَظُنُّونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللهِ أَبِي، فَلََمْ يَفْهَمُوا قَوْلَهُ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ ? أَنْ يَدِيهُ، فَقَالَ: قَدْ تَصَدَّقْتُ بِديتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَزَادَ ذَلِكَ حُذَيْفَةَ خَيْرًا عِنْدَ النَّبِيِّ ?.

وَقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ? يَوْمَ أُحُدٍ أَطْلُبُ سَعْدَ بن الرَّبِيعِ، فَقَالَ لِي:«إِنْ رَأَيْتَهُ فَأقْرأَهُ مِنِّي السَّلام َ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللهِ ?: كَيْفَ تَجِدُكَ» ؟ قَالَ: فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ.

فَقُلْتَ: يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامُ، وَيَقُولُ لَكَ:«أَخْبِرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ» ؟ فَقَالَ: وَعَلَى رَسُولِ اللهِ ? السَّلام، قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَار: لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلى رَسُولِ اللهِ ? وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُف وَفَاضَتْ نَفْسُهُ مِنْ وَقْتِهِ.

شِعْرًا:

وَمَا الْمَرْءُ إِلا حَيْثُ يَقْضِي حَيَاتَهُ

لِنُصْرَةِ دِينِ الله لا لِلتَّكَاثُرِ

آخر:

وَمَا الْبَأْسُ إِلا فِي لِحَدِيدِ مُرَكبٌ

ومَا الْعِزُّ إلا في التُّقَى والدِّيَانَةِ

ص: 101

وَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَقَالَ: يَا فُلانُ أَشَعَرْت أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ؟ فَقَالَ الأَنْصَارِي: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَّغَ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية.

وَأَكْرَمَ اللهُ بِالشَّهَادَةِ مَنْ أَكْرَمَ وَهُمْ سَبْعُونَ، وَفِي وَسَطِ هَذِهِ الدَّهْشَةُ الْبَالِغَةُ صَرَخَ إِبْلِيسَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ إِنَّ مُحَمَّدًا قُدْ قُتِلَ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّ أَكْثَرُهُمْ، وَكَانَ أَمْرَ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.

وَمَرَّ أَنَسُ بنِ النَّضْرِ بِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَلْقَوْا بَأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ، فَقَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللهِ ? فَقَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ قُومُوا مُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ.

وَخَلَص الْمُشْرِكُونَ إِلى رَسُولِ اللهِ ? وَثَبَتَ ? فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَقَاتَلَهُمْ قِتَالاً شَدِيدًا فَظَلَّ يَرْمِي بِالنَّبْل حَتَّى فَنِيَ نَبْلُهُ، وَانْكَسَرَتْ سِيَّةُ قَوْسِهِ، وَانْقَطَعَ وَتَرُهُ، ثُمَّ ظَلَّ يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى وَقَعَ لِشِقِّهِ.

وَثَبَتَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنَ أَصْحَابِهِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ دُونَ الْعَشَرَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ فَوْقَ الْعَشَرَةَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَحَاطُوا بِهِ، يَصُدُّونَ عَنْهُ هَجَمَاتِ الْعَدِوِّ، الذِينَ أَحْدَقُوا بِهِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ.

وَشَدُّوا عَلَيْهِ يَرِيدُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ فَمَازَالَ هَؤُلاءِ النّفَرُ يَذُودُونَ عَنْهُ وَيُقَاتِلُونَ دُنَهُ، وَيَتَلَقَوْنَ ضَرَبَاتِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنَّ الْعَدُوَّ جَرَحَ وَجْهَهُ ? وَكَسَرَ رَبَاعِيَّتَهُ وَهَشَمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَرَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى وَقَعَ وَسَقَطَ فِي حُفْرَةٍ مِنْ الْحُفَرِ الَّتِي كَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ يَكِيدُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ

ص: 102

فَأَخَذَ عَلِيّ بِيَدِهِ، وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ، وَكَانَ الذِي تَوَلَّى أَذَاهُ ? عَمْرُو بن قَمِئَة، وَعُتْبَة بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الذِي شَجَّهُ عَبْدُ اللهِ بنُ شِهَابٍ الزُّهْرِي عَمُّ مُحَمَّد بن مُسْلِم بن شِهَابِ الزَّهْرِي، وَقُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلى عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ وَنَشَبَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمَغْفَرِ فِي وَجْهِهِ، فَانْتَزَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، وَعَضَّ عَلَيْهِمَا حَتَّى سَقَطَتْ ثَنيَّتَاهُ مِنْ شِدَّةِ غَوْصِهِمَا فِي وَجْهِهِ ?.

اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرَضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَقَدْ أَبْلَى النَّفَرُ الذِينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? فِي الدِّفَاعِ عَنْهُ أَحْسَنَ الْبَلاءَ وَامْتَازَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي دِفَاعِهِ بِالصِّدْقِ وَالشَّجَاعَةِ، فَقَدْ قَاتَلَ طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ عَنْهُ قِتَالاً شَدِيدًا، وَصَارَ يَذُودُ عَنْهُ بِالسَّيْفِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَيَدُورُ حَوْلَهُ يُتَرِّسُ بِنَفْسِهِ دُونَهُ، وَالسِّيُوفُ تَغْشَاهُ، وَالنَّبْلُ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.

شِعْرًا:

كَفَانِي فَخْرًا أَنْ أَمُوتَ مُجَاهِدًا

وَحُبُّ إِلَهِي قَائِدِي مُنْذُ نَشْأَتِي

ص: 103

فَلَمْ يَزَلْ يَقِي رَسُولَ اللهِ ? بِنَفْسِهِ حَتَّى أَجْهَضَهُمْ عَنْهُ، فَانْكَشَفُوا عَنْهُ، فَكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ غِنَاءً عَنْ رَسُولِ اللهِ ?، فَجَعَلَ ? يَقُولُ:((قَدْ أَوْجَبَ طَلْحَةُ)) .

وَفِي مَغَازِي الأَمَوِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَعَدُوا عَلَى الْجَبَلِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ? لِسَعْدٍ: «أجْبُنْهُمْ» . - يَقُولُ أرْدُدْهُمْ - فَقَالَ: كَيْفَ أَرْدُّهُمْ وَحْدِي، قَالَ ذَلِكَ ثَلاثًا.

فَأَخَذَ سَعْدُ سَهْمًا مِنْ كَنَانَتِهِ فَرَمَى بِهَا رَجُلاً فَقَتَلَهُ، قَالَ: ثُمَّ أَخَذْتُ سَهْمِي أَعْرِفُهُ فَرَمَيْتُ بِهِ آخرَ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ أَخَذْتُهُ أَعْرِفُهُ فَرَمِيتُ بِهِ آخرَ فَقَتَلْتُهُ، فَهَبَطُوا مِنْ مَكَانِهِمْ، فَقُلْتُ: هَذَا سِهْمُ مُبَارَكٌ فَجَعَلْتُهُ فِي كَنَانَتِي فَكَانَ عِنْدَ سَعْدٍ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ كَانَ عِنْدَ بَنِيهِ.

وَقَاتَلَتِ الْمَلائِكَةُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ?. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ.

وَقَالَ نَافِعُ بن جُبَيْرٍ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِن الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شهَدِتْ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إِلى النَّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللهِ ? وَسَطَهَا كُلُّ ذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْهُ.

وَرَمَى حِبَّانُ بنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ ذَيْلَ أُمِّ أَيْمَنَ - وَقَدْ جَاءَتْ تَسْقِي الْجَرْحَى - فَانْكَشَفَ عَنْهَا فَاسْتَغَرَقَ فِي الضَّحِكِ.

فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? فَدَفَعَ إِلى سَعْد ابن أَبِي وَقَّاصٍ سَهْمًا لا نَصْلَ لَهُ فَقَالَ: «ارْمِ» . فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي نَحْرِ حِبَّانَ فَوَقَعَ مُسْتَلْقِيًا وَبَدَتْ عَوْرَتُهْ.

ص: 104

فَضَحَكَ رَسُولُ اللهِ ? حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. ثُمَّ قَالَ: «اسْتَقَادَ لَهَا سَعْدٌ أَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ وَسَدَّدَ رَمْيَتَكْ» .

وَكَانَ شَمَّاسُ بن عُثْمَانَ بن الشَّرِيدِ الْمَخْزُومِي لا يَرْمِي رَسُولَ اللهِ ? بَصَرَهُ يَمِينًا وَلا شِمَالاً إِلا رَآهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ بِسَيْفِهِ حَتَّى غُشِيَ رَسُولُ اللهِ ? فَتَرَّسَ بِنَفْسِهِ دُونَهُ حَتَّى قُتِلَ رحمه الله.

وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَامِيًا شَدِيدَ الرَّمْي فَنَثَرَ كِنَانَتَهُ بَيْنَ يَدَي رَسُولِ اللهِ ? وَصَارَ يَرْمِي عَنْهُ وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ? كُلَّمَا مَرَّ بِهِ أَحَدٌ مِن أَصْحَابِهِ مَعَهُ كِنَانَةٌ يَقُولُ لَهُ: أُنْثُرْهَا لأَبِي طَلْحَةَ.

وَكُلَّمَا رَمَى أَبُو طَلْحَةَ سَهْمًا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ? مِنْ وَرَائِهِ لِيَرَى مَوْقِعَ السَّهْمِ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ اللهِ بَأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لا تَنْظُرْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دَوْنَ نَحْرِكَ وَوَجْهِي لِوَجْهِكَ فِدَاءٌ.

وَتَرَّسَ أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? فَجَعَلَ النَّبْلُ يَقَعُ فِي ظَهْرِهِ وَهُو مُنْحَنٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? حَتَّى كَثَر فِيهِ النَّبْلُ وَرَمَى سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? فَجَعَلَ رَسُولِ اللهِ ? يُنَاوِلُهُ النَّبْلَ وَهُوَ يَقُولُ: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ السَّهْمَ مَالَهُ نَصْلٌ فَيَقُولُ لَهُ: «ارْمِ بِهِ» فَيَرْمِي بِهِ.

وَدَافَعَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? أُمُّ عِمَارَةَ وَهِي نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبِ الْمَازِنِيَّةُ وَكَانَتْ تَسْقِي النَّاسَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللهِ ? قَدْ أُحِيطَ بِهِ وَانْهَزَمَ عَنْهُ النَّاسُ وَضَعَتْ سِقَاءَهَا وَأَخَذَتْ سَيْفًا فَجَعَلَتْ تُقَاتِلُ أَشَدَّ الْقِتَالِ وَإِنَّهَا لَحَاجِزَةٌ

ص: 105

ثَوْبِهَا عَلَى وَسَطِهَا حَتَّى جُرِحَتْ ثَلاثَةَ عَشْرَ جُرْحًا وَظَلَّ عَلَى عَاتِقَها مِنْ هَذِهِ الْجِرَاحِ جُرْحٌ أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ أَصَابَهَا بِهِ ابن قَمِئَةَ.

وَقَدْ سُمِعَ رَسُولُ اللهِ ? يَقُولُ يَوَمْئِذٍ: «مَا الْتَفَتُ يَمِينًا وَلا شِمَالاً إِلا أَنَا أَرَاهَا تُدَافِعُ دُونِي» .

وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ خَرَجَتْ نُسَيْبَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَزَوْجُهَا زَيْدُ بن عَاصِمٍ وَابْنَاهَا: حَبِيبٌ، وَعَبْدُ اللهِ. وَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ?:«بَارَكَ اللهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» . فَقَالَتْ لَهُ نُسَيْبَةُ رضي الله عنها: ادْعُ اللهَ أَنْ نُرَافِقَكَ فِي الْجَنَّةِ.

فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ رُفَقَائِي فِي الْجَنَّةِ» .

وَعِندَ ذَلِكَ قَالَتْ رضي الله عنها: مَا أُبَالِي مَا أَصَابَنِي مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَهَذِهِ حَقًّا شَجَاعَةٌ مُدْهِشَةٌ لإِمْرَأَةٍ وَقَدْ تَحَمَّلَتْ مَا أَصَابَهَا مِن الْجِرَاحِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ مَا يَعْجَزُ عَنْ تَحَمُّلَهُ الرِّجَالُ فَضْلاً عَنِ النِّسَاءِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِن الذِّينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلا تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلا تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لِمَا فِيهِ صَلاحُ دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَكَانَ الْحَبَّابُ بنُ الْمُنْذِرِ يَحُوشُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تُحَاشُ الْغَنَمُ وَاشْتَمَلُوا عَلَيْه مَرَّةً حَتَّى قِيلَ: قُدْ قُتِلَ.

ص: 106

ثُمَّ بَرَزَ والسَّيْفُ في يَدِهِ، وَقَدْ افْتَرَقُوا عَنْهُ وَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَهْرَبُوْنَ.

وَقَامَ زِيَادُ بن السَّكَنِ فِي نَفَرٍ مِن الأَنْصَارِ فَقَاتَلُوا دُونَ رَسُولِ اللهِ ? رَجُلاً ثُمَّ رَجُلاً وَهُمْ يُقْتَلُونَ دُونَهُ حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ زِيَادُ فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحُ فَوَسَّدَهُ رَسُولُ اللهِ ? رِجْلَهُ حَتَّى مَاتَ.

وَمَاتَ مُصْعَبُ بن عُمْيَرٍ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? وَهُوَ يَتَلَقَّى عَنْهُ ضَرْبَةً قَدْ سُدِّدَتْ إِلَيْهِ قَتَلَهُ ابنُ قَمِئَةَ وَهُوَ يَحْسِبُهُ رَسُولَ اللهِ وَذَهَبَ يُذِيعُ بَيْنَ الْكُفَّارِ.

وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? خَلْقٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يُفَدِّيهِ بِنَفْسِهِ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُّوِ حَتَّى يُصْرَعَ.

وَرَوَى الْوَاقِدِي عَنْ سُفْيَانَ بن عُيَيْنَةَ قَالَ: لَقَدْ أُصِيبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? يَوْمَ أُحُدٍ نَحْوٍ مِنْ ثَلاثِينَ كُلُّهُمْ يَجِيءُ حَتَّى يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: وَجْهِي لِوَجْهِكَ الْفِدَاءُ وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَاءُ وَعَلَيْكَ سَلامُ اللهِ غَيْرَ مُوَدَّعٍ.

ثُمَّ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? لا يَزَالُ حَيًّا فَأَحَاطُوا بِهِ حَتَّى كَشَفُوا عَنْهُ الْعَدُوَّ.

وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللهِ ? كَعْبُ بنُ مَالِكٍ قَالَ: عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ تَزْهُرَانِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ فَنَادَيْتُ بَأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا هَذَا رَسُولُ اللهِ ? فَأَشَارَ إِليَّ رَسُولُ اللهِ ? أَنْ أَنْصِتْ.

وَفَاءَتْ إِلى رَسُولِ اللهِ ? جَمَاعَةٌ مِن الْمُسْلِمِينَ فَنَهَضُوا بِهِ إِلى الشَّعْب فَاحْتَمَى بِهِ مَعْ مَنْ كَانَ يَحْتَمِي هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِهِ.

ص: 107

وَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ ? إِلى صَخْرَةٍ مِنْ الْجَبَلِ لِيَعْلُوهَا فَلَمْ يَقْدِرْ لِكُثْرَةِ النَّزِيفِ الذِي خَرَجَ مِن الْجِرَاحِ فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ فَنَهَضَ بِهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا.

وَحَانَتْ الصَّلاةُ فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا وَصَارَ رَسُولُ اللهِ ? ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْتَ لِوَاءِ الأَنْصَارِ وَشَدَّ حَنْظَلَةُ الْغَسِيلُ - وَهُوَ حَنْظَلَةُ بنُ أَبِي عَامِرٍ - عَلَى أَبِي سُفْيَان. فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ حَمَلَ عَلَى حَنْظَلَةَ شَدَادُ بنُ الأَسْوَدِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ جُنَبًا. فَإِنَّهُ سَمَعَ الصَّيْحَةَ وَهُوَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ إِلى الْجِهَادِ فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ? أَصْحَابَهُ أَنَّ الْمَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُ ثُمَّ قَالَ: «سَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ» . فَسَأَلُوا امْرَأَتَهُ فَأَخْبَرَتْهُمْ الْخَبَرَ. وَعِنْدَمَا امْتَدُّوا صُعُودًا فِي الْجَبَلِ أَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ ? أُبَيَّ بن خَلَفٍ عَلَى جَوَادٍ لَهُ اسْمَه الْعَوْدُ كَانَ يُطْعِمُهُ فِي مَكَّةَ وَيَقُولُ أَقْتُلُ عَلَيْهِ مُحَمَّدًا، فَلَمَا سَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ?، قَالَ:«بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهِ» . فَلَّمَا أَدْرَكَهُ تَنَاوَلَ ?؛ الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ، وَطَعَنَ بِهَا عَدُّوَ اللهِ فِي تَرْقُوَتِهِ فَكَرَّ عَدُو اللهُ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: وَاللهِ مَا بِكَ مِنْ بَأْسٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ كَانَ مَا بِي بَأَهْلِ الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ، وَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ بِسَرِفٍ مَرْجِعَهُ إِلى مَكَّة.

وَقَالَ ابنُ عُمَرَانِي لأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بَعْدَ هُوِي مِن اللَّيْلِ إِذَا نَارَ تَأَجَّجَ لِي فيَمَّمْتُهَا فَإِذَا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا فِي سِلْسِلَةٍ يَجْتَذِبُهَا يَصِيحُ: الْعَطَش الْعَطَش وَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: لا تَسْقِهِ هَذَا قَتِيلُ رَسُولِ اللهِ ? هَذَا أُبِيُّ بنُ خَلَفٍ.

وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ قَدْ انْتَقَمُوا لِيَوْمِ بَدْرٍ وَشَفُوا نُفُوسَهُمْ وَأَخَذَتِ الْمَعْرَكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَهْدَأُ حِدَّتُهَا وَتَخْمُدُ حَرَارَتُهَا، فَانْحَازَ الْمُشْرِكُونَ إِلى مُعَسْكَرَهِمْ، وَشُغِلُوا بِدَفْنِ قَتْلاهُمْ، وَأَخَذَتْ نِسَاؤُهُمْ يُمَثِّلْنَ بِالْقَتْلَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمُثِّلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بِحَمْزَةَ رضي الله عنه أَفْظَعَ تَمْثِيلَ حَتَّى

ص: 108

بَقَرَتْ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَتْ كَبِدَهُ وَلاكَتْهَا فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَنْ تُسِيغَهَا وَلَفَظَتْهَا.

وَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ? بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ تَأَثَّرَ تَأْثُّرًا شَدِيدًا وَقَالَ ?: «لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِكَ أَبَدًا وَمَا وَقَفْتُ قَطُ مَوْقِفًا أَغْيَظُ مِنْ هَذَا» .

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «أَكَلْتْ شَيْئًا» . قَالُوا: لا. قَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ» .

وَقَالَ ? لِوَحْشِي الذِي قَتَلَ حَمْزَةَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي» . قَالَ وَحْشِي: فَخَرَجْتُ فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ? وَخَرَجَ مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابُ قُلْتُ لأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأْكَافِئُ بِهِ حَمْزَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ ثُمَّ رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ.

قَالَ ابن هِشَامٍ: فَبَلَغَنِي أَنَّ وَحْشِيًا لَمْ يَزَلْ يُحَدُّ فِي الْخَمْرِ حَتَّى خُلِعَ مِن الدِّيوَانِ.

فَكَانَ عُمَرُو بنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ قَاتِلَ حَمْزَةَ.

وَرَوَى الدَّارَقُطْنِي بِإسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بن الْمُسَيَّبِ قَالَ: كُنْتُ أَعْجَبُ لِقَاتِلِ حَمْزَةَ كَيْفَ يَنْجُو حَتَّى أَنَّهُ مَاتَ غَرِيقًا فِي الْخَمْرِ.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بن جَحْشٍ بن خُزَيْمَةَ الأَسَدِيُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ تَرَى، وَقَدْ سَأَلْتُ اللهَ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، فَيَقْتُلُونَنِي، وَيَبْقُرُونَنِي وَيُمَثِّلُونَ بِي، فَأَلْقَاكَ مَقْتُولاً قَدْ صَنَعَ هَذَا بِي فَتَقُولُ: فِيمَ صُنِعَ هَذَا بِكَ، فَأَقُولُ فِيكَ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ أَخْرَى، أَنْ

ص: 109

تَلِي تَرِكَتِي مِنْ بَعْدِي، فَقَالَ: نَعَمْ فَخَرَجَ، حَتَّى قُتِلَ، وَمُثِّلَ بِهِ وَدُفِنَ هُوَ وَحَمْزَةُ رضي الله عنهما فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.

وَوَلِيَ تَرِكَتَهُ رَسُولُ اللهِ ? فَاشْتَرَى لابْنِهِ مَالاً بِخَيْبَرَ، فَأَقْبَلَتْ أُخْتُهُ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ?:«يَا حَمْنَةُ احْتَسِبِي» . قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«خَالَكَ حَمْزَةَ» . قَالَتْ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، غَفَرَ اللهُ لَهُ وَرَحَمَهُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ.

ثُمَّ قَالَ لَهَاَ: «احْتَسِبِي» . قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«مُصْعَبَ بن عُمَيْرٍ» . قَالَتْ: وَأحَزَنَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: وَاعَقْرَاهْ، فَقَالَ ?:«إِنَّ لِلزَّوْجِ مِنْ الْمَرْأَةِ مَكَانًا مَا هُوَ لأَحَدٍ» .

ثُمَّ قَالَ لَهَا: «لِمَ قُلْتَ هَذَا» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذَكَرْتُ يُتْمَ بَنِيهِ فَرَاعَنِي، فَدَعَا رَسُولَ اللهِ ? لِوَلَدِهِ أَنْ يُحْسِنَ عَلَيْهِمُ الْخَلَفُ فَتَزَوَّجَتْ طَلْحَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بنَ طَلْحَةَ، فَكَانَ أَوْصَلَ النَّاسِ لِوَلَدِهَا، وَكَانَتْ حَمْنَةُ خَرَجَتْ يَوْمَئِذٍ إِلى أُحُدٍ مَعَ النِّسَاءِ يَسْقِينَ الْمَاءَ رضي الله عنها وَأَرْضَاهَا.

شِعْرًا:

تَبَارَكَ مَنْ عَمَّ الْوَرَى بِنَوَالِهِ

وَأَوْسَعَهُمْ فَضْلاً بِإِسْبَاغِ نِعْمَةِ

وَقَدَّرَ أَرْزَاقًا لَهُمْ وَمَعَايِشًا

وَدَبَّرَهُمْ فِي كُلِّ طَوْرٍ وَنَشْأَةِ

أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمًا وَأَحْصَى عَدِيدَهُمْ

وَصَرَّفَهُمْ عَنْ حِكْمَةٍ وَالْمَشِيئَةِ

ص: 110

وَللهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهُمْ

بِكُلِّ زَمَانٍ كَمْ مُنِيبٍ وَمُخْبِتِ

وَكَمْ سَالِكٍ كَمْ نَاسِكٍ مُتَعَبِّدٍ

وَكَمْ مُخْلِصٍ فِي غَيْبِهِ وَالشَّهَادَةِ

وَكَمْ صَابِرٍ كَمْ صَادِقٍ مُتَبَتِّلٍ

إِلى اللهِ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ وَنِيَّةِ

وَكَمْ قَانِتٍ أَوَّابَ فِي غَسَقِ الدُّجَى

مِنَ الْخَوْفِ مَحْشُو الْفُؤَادِ وَمُهْجَةِ

يُنَاجِي بِآيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَهَهُ

بِصَوْتٍ حَزِينٍ مَعْ بُكَاءٍ وَخَشْيَةِ

وَكَمْ ضَامِرِ الأَحْشَاءِ يَطْوِي نَهَارَهُ

بِحَرِ هُجَيْرٍ مَا تَهَنَّا بشَرْبَةِ

وَكَمْ مُقْبِلٍ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ

عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى بِجَدٍّ وَهِمَّةِ

وَكَمْ زَاهِدٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ مُعْرِضٍ

وَمُقْتَصِرٍ مِنْهَا عَلَى حَدِ بُلْغَةِ

تَزَيَّنَتِ الدُّنْيَا لَهُ وَتَزَخْرَفَتْ

فَغَضَّ وَلَمْ يَغْتَرَّ مِنْهَا بِزِينَةِ

وَكَمْ عَالِمٍ بِالشَّرْعِ للهِ عَامِلٌ

بِمَوْجَبِهِ فِي حَالِ عُسْرٍ وَيُسْرَةِ

وَكَمْ آمرٍ بِالرُّشْدِ نَاهٍ عَنْ الرَّدَى

ص: 111

.. سَرِيعٍ إِلى الْخَيْرَاتِ مِنْ غَيْرِ فَتْرَةِ

فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مُوَفَّقًا

وَتَحْظَى بِفَوْزٍ عِنْدَ نَشْرِ الصَّحِيفَةِ

فَحَافِظْ عَلَى الْمَفْرُوضِ مِنْ كُلِّ طَاعَةٍ

وَأَكْثِرْ مِنَ النَّفْلِ الْمُفِيدِ لِقُرْبَةِ

بِكُنْتُ لَهُ سَمْعًا إِلى آخِرِ النَّبَا

عَنِ اللهِ فِي نَصِّ الرَّسُولِ الْمُثَبَّتِ

وَكُنْ فِي طَعَامٍ وَالْمَنَامِ وَخُلْطَةٍ

وَنُطْقٍ عَلَى حَدِّ اقْتِصَارٍ وَقِلَّةِ

وَجَالِسْ كِتَابِ اللهِ وَاحْلُلْ بِسَوْحِهِ

وَدُمْ ذَاكِرًا فَالذِّكْرُ نُورُ السَّرِيرَةِ

عَلَيْكَ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالَةٍ

وَباِلْفِكْرِ إِنَّ الْفِكْر كُحْلُ الْبَصِيرَةِ

وَكُنْ أَبَداً فِي رَغْبَةٍ وَتَضَرُّعٍ

إِلى اللهِ عَنْ صِدْقِ افْتِقَارٍ وَفَاقَةِ

وَوَصْفِ اضْطِرَارٍ وَانْكِسَارٍ وَذِلَةٍ

وَقَلْبٍ طَفُوحٍ بِالظُّنُونِ الْجَمِيلَةِ

وَبَعْدُ فَإِنَّ الْحَقَّ أَفْضَل مَسْلَكٍ

سَلَكْتَ وَتَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةِ

وَمَنْ ضَيَّعَ التَّقْوَى وَأَهْمَلَ أَمْرِهَا

تَغَشَتْهُ فِي الْعُقْبَى فُنُونُ النَّدَامَةِ

ص: 112

وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا قُصَارَى مُرَادِهِ

فَقَدْ بَاءَ بالْخُسْرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ شُغْلُهُ

عَلَى كُلِّ حَالٍ لا يَفُوزُ بِبُغْيَةِ

وَمَنْ أَكْثَرُ الْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ

فَذَاكَ طَرِيحٌ فِي فَيَافِي الْغِوَايَةِ

بَعِيدٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ حَلَّ بِهِ الْبَلا

وَوَاجَهَهُ الْخُذْلانُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةِ

عَجِبْتُ لِمَنْ يُوصِي سِوَاهُ وَإِنَّهُ

لأَجْدَرُ مِنْهُ بِاتِّبَاعِ الْوَصِيَّةِ

يَقُولُ بِلا فِعْلٍ وَيَعْلَمُ عَامِلاً

عَلَى ضِدِّ عِلْمٍ يَا لَهَا مِنْ خَسَارَةِ

عُلُومٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ تَلاطَمَتْ

وَأَعْمَالُهُ فِي جَنْبِهَا مِثْلُ قَطْرَةِ

وَقَدْ أَنْفَقَ الأَيَّامَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ

كَمِثْل اللَّيَالِي إِذَا تَقَضَّتْ وَوَلَّتِ

عَلَى السَّوْفِ وَالتَّسْوِيفِ شَرُّ مُصَاحِبٍ

وَقَوْلِ عَسَى عَنْ فَتْرَةِ وَبَطَالَةِ

تَنَكَّبَ عَجْزًا عَنْ طَرِيقِ عَزِيمَةٍ

وَمَالَ لِتَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ وَرُخْصَةِ

ص: 113

يَهِمُّ بِلا جَدٍّ وَلَيْسَ بِنَاهِضٍِ

عَلَى قَدَمِ التَّشْمِيرِ مِنْ فَرْطِ غَفْلَةِ

وَقَدْ سَارَ أَهْلُ الْعَزْمِ وَهُوَ مُخَلَّفُ

وَقَدْ ظَفِرُوا بِالْقُرْبِ مِنْ خَيْر حَضْرَةِ

وَقَدْ أَدْرَكُوا الْمَطْلُوبَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ

بِقَيْدِ الأَمَانِي وَالْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ

وَلَمْ يَنْتَهِزْ مِنْ فَائِتِ الْعُمْرِ فُرْصَةً

وَلَمْ يَغْتَنِمْ حَالِي فَرَاغٍ وَصِحَّةِ

وَلَمْ يَخْشَى أَنْ يَفْجَأهُ مَوْتٌ مُجَهِّزٌ

فَإِنَّ مَجِيءَ الْمَوْتِ غَيْرُ مُؤَقَّتِ

وَلَمْ يَتَأَهَّبْ لِلرُّجُوعِ لِرَبِّهِ

وَلَمْ يَتَزَوَّدْ لِلطَّرِيقِ الْبَعِيدَةِ

وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمَوْتُ وَالْقَبْرُ وَالْبَلَى

وَبَعَثٌ وَمِيزَانٌ وَأَخْذُ الصَّحِيفَةِ

وَجَسْرٌ عَلَى مَتْنِ الْجَحِيمِ وَمَوْقِفٌ

طَوِيلٌ وَأَحْوَالُ الْحِسَابِ الْمَهُولَةِ

وَلَكِنَّهُ يَرْجُو الذِي عَمَّ جُودُهُ

وَإِحْسَانُهُ وَالْفَضْلُ كُلَّ الْخَلِيقَةِ

إِلَهٌ رَحِيمٌ مُحْسِنٌ مُتَجَاوِزٌ

إِلَيْهِ رُجُوعِي فِي رَخَائِي وَشِدَّتِي

ص: 114

غِيَاثِي إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي

وَمِنْهُ أَرْجَى كَشْفُ ضُرِّي وَمِحْنَتِي

فَيَا رَبُّ ثَبِتْنَا عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى

وَيَا رَبَّنَا اقْبِضْنَا عَلَى خََيْرِ مِلَّةِ

وَعُمَّ أُصُولاً وَالْفُرُوعَ بِرَحْمَةٍ

وَأَهْلاً وَأَصْحَابًا وَكُلَّ قَرَابَةِ

وَسَائِرَ أَهْلِ الدِّينِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ

أَقَامَ لَكَ التَّوْحِيدَ مِنْ غَيْرِ رِيبَةِ

وَصَلِّ وَسَلِّمْ دَائمِ الدَّهْرِ سَرْمَدَا

عَلَى خَيْرِ مَبْعُوثٍ إِلى خَيْرِ أُمَّةِ

اللَّهُمَّ يَا مَنْ عَمَّ الْعِبَادِ فَضْلُهُ وَنَعْمَاؤُهُ وَوَسِعَ الْبَرِيَّةَ جُودُهُ وَعَطَاؤُهُ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لاِمْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاجْتِنَابِ نَهْيِكَ وَأَنْ تُلْهِمَنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَنْ تَرْزُقْنَا حُبَّكَ وَحَبُّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ الْعَمَلِ الذِي يُقَرِّبُنَا إِلى حُبِّكَ وَاغْفِرْ لَنَا.

اللَّهُمَّ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، واجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ وَتَوفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

وَبَعْدَ ذَلِكَ مَشَى أَبُو سُفْيَانَ يَتَفَقَّدُ الْقَتْلَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَعَرَّفُ وُجُوهَهُمْ، فَلَمَّا وَجَدَ حَمْزَةَ صَرِيعًا بَيْنَهُمْ، جَعَلَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِهِ بِكَعْبِ الرُّمْحِ، وَيَقُولُ: ذُقْ عَقَقٌ، فَرَآهُ الْحُلَيْسُ سَيِّدُ الأَحَابِيشِ، فَأنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بابْنِ عَمِّهِ، وَهُوَ مَيِّتٌ، فَاسْتَحْيَا أَبُو سُفْيَانِ مِنْ هَذِهِ الزَّلَةِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَكْتُمَهَا عَلَيْهِ، وَلا يُذِيعُهَا فِي النَّاسِ، لأَنَّهَا سَخَافَةٌ وَسَمَاجَةٌ وَقَضَا

ص: 115

عَاجِزٍ وَكَانَ هَمُّ أَبِي سُفْيَانَ أَنْ يَجِدَ رَسُولَ اللهِ ? فِي الْقَتْلَى، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْهُ بَيْنَهُمْ، أَخَذَ الشَّكُ يُخَامِرُهُ فِي أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَذَهَبَ إِلى نَاحِيَةِ الشَّعْبِ الذي اعْتَصَمَ بِهِ الرَّسُولُ ? وَأَصْحَابُهُ، وَجَعَلَ يُنَادِي: أَفِيكُمُ مُحَمَّدٌ، أَفِيكُمْ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِيكُمْ ابنُ الْخَطَّابِ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ ? أَنْ يُجِيبُوهُ، فَلَمَّا لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِن الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهمْ، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ وَاللهِ يَا عَدُوَّ الله، قَدْ أَبْقَى اللهُ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَكَأَنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَذِرَ مِمَّا فَعَلَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ بِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ جَعَلَ يَرْتَجِزْ قَائِلاً نِعْمَتْ فِعَالُ، إِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ، أَعْلُ هَبْلْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُولُوا له: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ» . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُولُوا له؛ اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ» . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُولُوا لَهُ:«لا سَوَاءَ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاكُمْ فِي النَّارِ» .

ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ? بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُدْفَنَ الْقَتْلَى حَيْثُ صُرِعُوا وَقَالَ لُفُّوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَدِمَائِهِمْ، وَجِرَاحِهِمْ

وَانْظُرُوا أَيَّهُمْ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ، فَإِذَا أَشَارُوا إِلى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ.

وَكَانَ يَدْفُنُ الاثْنِيْنِ، وَالثَّلاثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ يَومَئِذٍ مِن الإِعْيَاءِ وَالضَّعْفِ، وَالْجِرَاحِ، فَيَعْجَزُوا أَنْ يَحْفُرُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ قَبْرًا، وَدُفِنَ عَبْدُ اللهِ بن عَمْرِو بن حَرَامٍ، وَعَمْرُو ابنُ الْجَمُوح في قَبْرٍ وَاحِدٍ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ فَقَالَ: «ادْفُنُوا هَذَيْنِ الْمُتَحَابَيْنِ فِي الدُّنْيَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ حُفِرَ عَنْهُمَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَيَدُ عَبْدُ اللهِ بن حرَامٍ عَلَى جِرَاحَتِهِ كَمَا

ص: 116

وَضَعَهَا حِينَ جُرِحَ، فَأَمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جِرَاحَتِهِ، فَانْبَعَثَتْ الدَّمْ فَرُدَّتْ إِلى مَكَانِهَا، فَسَكَنَ الدَّمُ وَمَا تَغَيَّرَ مِنْ حَالِهِ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، قِيلَ لَهُ: أَفَرَأَيْت أَكْفَانَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا دُفِنَ فِي نَمِرَةٍ خُمِّرَ بِهَا وَجْهَهُ وَعَلى رِجْلِيْهِ الْحَرْمَلِ فَوُجَدِتِ النَّمِرَةُ كَمَا هِيَ وَعَلَى رِجْلَيْهِ الْحَرْمَلُ عَلَى هَيْأَتِهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً.

وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله ? مِنْ دَفْنِ أَصْحَابِهِ رَكِبَ فَرَسَهُ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ والْمُسْلِمُونَ مِنْ حَوْلِهِ، أَكْثَرُهُمْ جَرْحَى، يَتَحَامَلُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، مِمَّا بِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُهْدِ، وَيَتَلاوَمُونَ عَلَى الزَّلَةَ وَيَتَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْهَا.

وَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللهِ ? إِلى الْمَدِينَةِ، وَجَدَ النِّسَاءَ عِنْدَ بَابِهَا يَبْكِينَ قَتْلاهُنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ مُقْبِلاً نَسِينَ مَا هُنَّ فِيهِ مِن الْحُزْنِ، وَأَسْرَعْنَ إِلَيْهِ، يَنْظُرْنَ إِلى سَلامَتِهِ، فَلَمَّا رَأَينَهُ فِي سَلامَةٍ، هَانَتْ عَلَيْهِنَّ الْمُصِيبَةُ.

وَجَاءَتْ أُمُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ تَعْدُو نَحْوَهُ، وَتَتَأَمَّلُهُ حَتَّى إِذَا اطْمَأَنَّتْ عَلَى سَلامَتِهِ، قَالَتْ: أَمَّا إِذَا رَأَيْتُكَ سَالِمًا فَقَدْ اشْوَتِ الْمُصِيبَةُ فَعَزَّاهَا رَسُولُ اللهِ ? بِابْنِهَا عَمْرِو بن مُعَاذٍ، ثُمَّ قَالَ لَهَا:«يَا أُمَّ سَعْدٍ، أَبْشِري وَبَشِّرِي أَهْلِيهِمْ أَنَّ قَتْلاهُمْ تَرَافَقُوا فِي الْجَنَّةِ جَمِيعًا» . قَالَتْ: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ، وَمَنْ يَبْكِي عَلَيْهِمْ بَعْدَ هَذَا.

ثُمَّ قَالَتْ: ادْعُ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَنْ خَلَّفُوا، قَالَ: «اللَّهُمَّ أَذْهِبْ حُزْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْبُرْ مُصِيبَتَهُمْ، وَأَحْسِنْ الْخَلَفَ عَلَى مَنْ خَلَّفُوا ثُمَّ عَزَمَ رَسُولُ اللهِ ? عَلَى أَصْحَابِهِ، مِن الْجَرْحَى أَنْ يَرْكَنُوا إِلى بُيُوتِهِمْ، وَلِيُدَاوُوا جِرَاحَهُمْ، فَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ كُلُّ مَجْرُوحٍ، وَبَاتُوا يُوقِدُونَ النَّارَ، وَيُكَمِّدُونَ بِهَا الْجِرَاحَ.

ص: 117

وَمَضَى ?، حَتَّى جَاءَ بَيْتَهُ، فَمَا نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ إِلا حَمْلاً، ثُمَّ مَشَى يَتَحَامَلُ عَلَى السَّعْدَيْنِ، سَعْدِ بن عُبَادَةَ، وَسَعْدِ بن مُعَاذٍ، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، فَلَمَّا أَذَّنَ بِلالٌ لِصَلاةِ الْمَغْرِب خَرَجَ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، يَتَوَكَّأُ عَلَى السَّعْدَيْنِ، فَصَلَّى ثُمَّ عَادَ إِلى بَيْتِهِ، وَبَاتَ وُجُوهُ الأَوْسِ، وَالْخَزْرَجِ عَلَى بَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ، يَحْرِسُونَهُ، مَخَافَةَ أَنْ تَكِرَّ قُرَيْشٌ، وَهُمْ غَافِلُونَ.

وَقَالَ كَعْب بن مَالِكٍ يَبْكِي حَمْزَة بن عَبْدِ الْمُطَّلِب:

طَرَقَتْ هُمُومُكَ فَالرُّقَادُ مُسَهَّدُ

وَجَزِعْتَ أَنْ سُلِخَ الشَّبَابُ الأَغْيَدُ

وَدَعَتْ فُؤَادَكَ لِلْهَوَى ضَمَرِيَّةٌ

فَهَوَاكَ غُورِيٌّ وَصَحْبُكَ مُنْجِدُ

فَدَعِ التَّمَادِيَ في الْغَوايَةِ سَادِرًا

قَدْ كُنْتَ في طَلَبِ الْغَوَايَةِ تُفْنَدُ

وَلَقَدْ أَتَى لَكَ أنْ تَنَاهِيَ طَائِعًا

أَوْ تَسْتَفِيقُ إِذَا نَهَاكَ الْمُرْشِدُ

وَلَقَدْ هُدِدْتُ لِفَقْدِ حَمْزَةَ هُدَّةً

ظَلَّتْ بَنَاتْ الْجَوْفِ مِنْهَا تَرْعُدُ

وَلَوَ أنَّهُ فَجِعَتْ حِراءُ بِمِثْلِهِ

لَرَأَيْتَ رَأْسَيْ صَخْرِهَا يَتَبَدَّدُ

قَرْمٌ تَمَكَّنَ فِي ذُئَوَابَةِ هَاشِمٍ

حَيْثُ النُّبُوَّةُ وَالنَّدَى وَالسُّؤْدُدُ

وَالْعَاقِرُ الْكُومَ الْجِلادَ إِذَا غَدَتْ

رِيحٌ يَكَادُ الْمَاءُ مِنْهَا يَجْمُدُ

وَالتَّارِكُ الْقِرْنَ الْكَمِيَّ مُجَدَّلاً

يَوْمَ الْكَرِيهَةِ والْقَنَا يَتَفَصَّدُ

وتَراهُ يَرْفُلُ في الحديدِ كَأَنَّهُ

ذُو لِبْدَةٍ شَثْنُ البراثِنِ أَرْبَدُ

عَمُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ وَصَفِيُّهُ

وَرَدَ الْحِمَامَ فَطَابَ ذَاكَ الْمَوْرِدُ

وَأَتَى الْمَنِيَّةَ مُعَلِمًا فِي أُسْرَةٍ

نَصَرُوا النَّبِيَّ ومِنْهُمُ الْمُسْتَشْهِدُ

ولَقَدْ أخالُ بِذَاكَ هِنْدًا بُشِّرَتْ

لتُميتَ داخِلَ غُصَّةٍ لا تَبْرُدُ

مِمّا صَبَحْنَا بالعَقَنْقَلِ قَوْمَهَا

يَوْمًا تَغيَّبَ فيهِ عَنْها الأَسْعَدُ

وبِبِئرِ بَدْرٍ إذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ

جِبْريلُ تَحْتَ لوائِنا وَمُحَمَّدُ

حَتَّى رَأَيْتُ لَدَى النَّبيِّ سَرَاتَهُمْ

قِسْمَيْنِ نَقتُلُ مَنْ نَشَاء وَنَطْرُدُ

ص: 118

فأقامَ بالعَطَنِ المُعَطَّنِ مِنْهُمُ

سَبْعُونَ عُتْبةُ مِنْهُمُ وَالأَسْوَدُ

وابنُ المغيرَةِ قَدْ ضَرَبْنا ضَرْبَةً

فوقَ الوريدِ لها رَشاشٌ مُزْبِدُ

وَأُمَيَّةُ الْجُمَحيُّ قَوَّمَ مَيْلَهُ

عَضْبٌ بأيدي المؤمنينَ مُهَنَّدُ

فَأَتَاكَ فل الْمُشْرِكِينَ كَأَنَّهُمْ

وَالْخَيْلُ تَثْفُنُهمْ نَعامٌ شُرَّدُ

شتَّانَ مَنْ هُوَ في جَهَنَّمَ ثَاوِيًا

أَبَدًا وَمَنْ هُوَ في الجِنانِ مخلَّدُ

شتَّانَ مَنْ هُوَ في جَهَنَّمَ ثَاوِيًا

أَبَدًا وَمَنْ هُوَ في الجِنانِ مخلَّدُ

وَقَالَ كَعْب بن مَالِكٍ يُجِيبُ هَبِيرَة بن أبي وهب:

ولكنْ بِبَدْرٍ سَائِلوا مَنْ لَقِيتُمُ

مِنَ النّاسِ والأنبَاءُ بالغَيْبِ تَنْفَعُ

وَإِنَّا بِأَرْضِ الخَوفِ لَو كَانَ أهْلُهَا

سِوَانَا لَقَدْ أَجْلُوا بِلَيْلٍ فأقشَعُوا

إذا جَاءَ منّا رَاكبٌ كانَ قولُهُ

أَعِدّوا لِما يُزْجي ابنُ حرْبٍ ويجمَعُوا

فَمَهْمَا يُهِمُّ النّاسَ مِمّا يُكِيدُنَا

فَنَحْنُ لَهُ من سَائِرِ النّاس أَوْسَعُ

فَلَوْ غَيْرُنَا كَانَتْ جَمِيعًا تَكِيدُهُ الـ

ـبَرِيّةُ قَدْ أَعْطَوْا يَدًا وَتَوَرَّعُوا

نُجَالِدُ لا تبغى عَلَيْنَا قَبِيلَةٌ

مِنَ النّاسِ إلاّ أَنْ يَهانُوا وَيَفْظَعُوا

وَلَمّا ابتَنَوا بالْعِرْضِ قَالَت سَيُوفَنَا

عَلَامَ إِذَا لَمْ نَمْنَعِ العِرْضَ نزرَعُ

وَفِينَا رسولُ اللهِ نَتْبَعُ أمْرَهُ

إِذَا قَالَ فِينَا الْقَوْلَ لا نَتَظَلَّعُ

تَدَلَّى عَلَيْهِ الرَّوحُ مِنْ عند ربّهِ

يُنزَّلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ ويُرفَعُ

نَشَاوره فِيمَا نُرِيد وَقصرنا

إِذَا مَا اشْتَهَى أَنَا نُطِيع وَنَسْمَعُ

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ لَمّا بدوا لَنَا

ذَرُوا عَنْكُمْ هَوْلَ المنيَّاتِ وَاطْمَعُوا

وَكُونُوا كَمَنْ يَشْرِي الحياةَ تَقرّبًا

إلى ملِكٍ يُحيِي لَدَيْهِ ويُرجَعُ

ولكنْ خُذوا مِيثَاقَكُمْ وَتَوَكَّلُوا

عَلَى اللهِ إنَّ الأمْرَ للهِ أجمعُ

فَسِرْنَا إليهِمْ جَهْرَةً فِي رِحَالِهِمْ

ضُحيًّا عَلَيْنَا الْبيضُ لا نتخشَّعُ

ص: 119

.. بِمَلْمُومَةٍ فِيهَا السَّنَوَّرُ والقَنَا

إِذَا ضَرَبُوا أَقْدَامَها لا تورّعُ

فجئنَا إلى مَوجٍ من الْبَحْرِ وَسْطَهُ

أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمقنّعُ

ثَلاثةُ آلافٍ وَنَحْنُ عِصَابَة

ثَلَاثُ مِئينٍ إنْ كَثُرْنَا فَأَرْبعُ

نُغَوِرُهُم تجري الْمنيّةُ بَيْنَنَا

نُشارِعُهُمْ حوضَ الْمَنَايا ونَشْرَعُ

تَهَادَى قِسِيُّ النبعِ فينا وفيهِمُ

وَمَا هو إلَاّ اليَثْرِبيُّ المُقَطَّعُ

ومَنْجُوفةٌ حِرْمِيَّةٌ صَاعِديَّةٌ

يُذَرُّ عليها السّمُّ سَاعةَ تَصْنَعُ

تَصُوبُ بأَبْدَانِ الرّجَالِ وَتَارَةً

تمرُّ بأَعراضِ البَصَارِ تَقَعْقَعُ

وقال حسان بن ثابت:

عَرَفتَ دِيارَ زَينَبَ بِالكَثيبِ

كَخَطِّ الوَحَى في الورَق القَشيبِ

تَداوَلها الرِياحُ وَكُلُّ جَونٍ

مِنَ الوَسمِيِّ مُنهَمِرٍ سَكوبِ

فَأَمسى رَسمُها خَلَقًا وَأَمسَت

يَبابًا بَعدَ ساكِنِها الحَبيبِ

فَدَع عَنكَ التَذَكُّرَ كُلَّ يَومٍ

وَرُدَّ حَرارَةَ الصَدرِ الكَئيبِ

وَخَبِّر بِالَّذي لا عَيبَ فيهِ

بِصِدقٍ غَيرِ إِخبارِ الكَذوبِ

بِما صَنَعَ المَليكُ غَداةَ بَدرٍ

لَنا في المُشرِكينَ مِنَ النَصيبِ

غَداةَ كَأَنَّ جَمعَهُمُ حِراءٌ

بَدَت أَركانُهُ جُنحَ الغُروبِ

فَلاقَيناهُمُ مِنّا بِجَمعٍ

كَأُسدِ الغابِ مُردان وَشيبِ

أَمامَ مُحَمَّدٍ قَد وازَرورهُ

عَلى الأَعداءِ في لفح الحُروبِ

بِأَيديهِم صَوارِمُ مُرهَفاتٌ

وَكُلُّ مُجَرَّبٍ خاطي الكُعوبِ

بَنو الأَوسِ الغَطارِفِ آزَرَتها

بَنوا النَجّارِ في الدينِ الصَليبِ

فَغادَرنا أَبا جَهلٍ صَريعًا

وَعُتبَةَ قَد تَرَكنا بِالجَبوبِ

وَشَيبَةَ قَد تَرَكنا في رِجالٍ

إِذا نَسَبُوا ذَوي حَسَبٍ حَسيبِ

ص: 120

.. يُناديهِم رَسولُ اللَهِ لَمّا

قَذَفناهُم كَباكِبَ في القَليبِ

وقال كعب بن مالك أيضًا في يوم أحد:

سَائِلْ قريشًا غداةَ السَّفْحِ مِنْ أُحُدِ

ماذا لَقِينا وما لاقوا من الهَرَبِ

كنّا الأُسُودَ وكانوا النُّمورَ إذ زَحَفُوا

ما أنْ نراقِبْ مِنْ إلّ ولا نَسَبِ

فَكَمْ تَرَكْنا بِها مِنْ سَيِّدٍ بَطَلٍ

حامي الذِمارِ كريمِ الجَدّ والحَسبِ

فِينا الرسُولُ شِهابٌ ثُمَّ نَتْبَعُهُ

نُورٌ مُضيءٌ لَهُ فَضْلٌ على الشُّهُبِ

الحَقُّ مَنْطِقُهُ والعَدْل سِيرَتُهُ

فَمَنْ يُجبْهُ إليهِ يَنْجُ مِنْ تَبَبِ

نَجْدُ المقدَّمِ ماضي الهمِّ مُعْتَزِمٌ

حينَ القلوبُ على رجب منَ الرُّعُبِ

نَمْضي ويذْمرُنَا مِنْ غيرِ مَعْصِيةٍ

كأَنَّه البَدْرُ لم يُطْبَعْ على الكَذِبِ

بَدَا لنا فاتَّبَعْناهُ نُصَدِّقُهُ

وَكَذَّبوه فكُنَّا أسْعَدَ العَربِ

جالُوا وجُلْنا فَمَا فَاءوا وَلا رَجَعوا

ونَحْنُ نَثْفُنُهُمْ لَمْ نَأْلُ في الطلبِ

ليسَا سواءً وشتَّى بين أمِرهمَا

حِزْبُ الإلهِ وأهْلُ الشِّركِ والنُّصبِ

ولكعب بن مالك:

بَكَتْ عَيْني وحُقَّ لَهَا بُكَاهَا

وَمَا يُغنِي البُكَاءُ ولا العَوِيلُ

عَلَى أَسَدِ الإله غَدَاةَ قالوا

أحمزةُ ذَاكُمُ الرّجُلُ القَتِيلُ

أُصِيبَ المُسْلِمُونَ بِهِ جميعًا

هُنَاكَ وَقَدْ أُصِيبَ بهِ الرّسُولُ

أبَا يَعْلَى لكَ الأَرْكَانُ هُدَّتْ

وأَنْتَ المَاجِدُ البَرُّ الوَصُولُ

عليكَ سَلَامُ رَبِّكَ في الجِنَانٍ

مُخالِطُهَا نعيمٌ لا يَزولُ

ألا يَا هَاشِمَ الأخْيَارِ صَبْرًا

فكُلُّ فِعالِكُمْ حَسَنٌ جميلُ

رَسُولُ اللهِ مصطبرٌ كَرِيمٌ

بأمْرِ اللهِ ينطقُ إذْ يَقُولُ

ألَا مَنْ مُبَلغٌ عنّي لؤيًّا

فَبَعْدَ اليومِ دَائِلَةٌ تَدُولُ

وقبلَ اليومِ ما عَرَفُوا وَذَاقُوا

وَقَائِعُنَان بِهَا يُشفَى الغَلِيلُ

ص: 121

.. نَسِيتُم ضَرْبَنَا بِقَلِيبِ بَدْرٍ

غَدَاةَ أَتَاكُمُ الموتُ العَجيلُ

غَدَاةَ ثَوَى أبو جهلٍ صَرِيعًا

عليهِ الطيرُ حَائِمةٌ تَجُولُ

وَعُتْبَةُ وابنُهُ خَرَّا جَمِيعًا

وَشَيْبَةُ عَضَّهُ السَّيْفُ الصَّقِيلُ

وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب:

أسائلة أصحاب أحد مخافة

بنات أبي من أعجم وخبير

فقال الخبير أن حمزة قد ثوى

وزير رسول الله خير وزير

دعاه إله الحق ذو العرش دعوة

إلى جنة يحيى بها سرور

فذلك ما كنا نرجى ونرتجى

لحمزة يوم الحشر خير مصير

فوالله لا أنساك ما هبت الصبا

بكاء وحزنًا محضري ومسيري

على أسد الله الذي كان مدرها

يذود عن الإسلام كل كفور

فيا ليت شلوى عند ذاك وأعظمى

لدى أصبغ تعتادني ونسور

أقول وقد أعلى النعى عشيرتي

جزى الله خير من أخ ونصير

شِعْرًا:

فَلا يَغُرَنَّكُمْ لَمَّا جَرَى قَدَرٌ

فَرُبَّمَا فِيهِ تَأْدِيبٌ وَتِبْيَانُ

لِيَنْتَبِهْ غَافِلاً أَوْ قَائِلاً زَلَلاً

وَمُعْجَبٌ غَرَّهُ بِالْعُجْبِ شَيْطَانُ

كَمَا جَرَى فِي حُنَيْن إِذَا قَالَ قَائِلُهُمْ

الْيَوْمَ مِنْ كَثْرَةٍ يَأْتِي لَنَا شَانُ

فَأَدْبَرُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَانْهَزَمُوا

لَمْ يَلُووا مِنْ أَحَدِ وَالْكُلُّ فُرْسَانُ

ص: 122

.. لَمْ يَبْقَ إِلا نَبِيُّ اللهِ يَطْعُنُهُمْ

أَنَا ابنُ مُطَّلِبٍ وَالْجَدُّ عَدْنَان

حَتَّى إِذَا قَالَ يَا أَصْحَابَ سَمْرِتَنَا

هَلُمَّ إِنَّ عَلَى الرِّضْوَانِ رِضْوَانُ

جَاؤُوا يُلَبُّونَ وَالأَسْيَافُ مُصْلَتةٌ

كَأَنََّهُنَّ بأَيْدِي الْقَوْمِ نِيرَان

تِلْكَ الأُمُورُ مِنَ الْبَارِي يُدَاوِلُهَا

فَكُل يَوْمٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ شَانُ

لَمْ يَأْتِ مِن خَلَلٍ إِلا لَهُ سَبَبٌ

فَانْظُرْ فَمِنْ أَي بَاب جَاء نَقْصَانُ

اجْعَلْ مُرَادَكَ دِينَ اللهِ تَنْصُرُهُ

فالْمُلْكُ بالدِّينِ لا بالْجُنْدِ يُنْصَانُ

وَكُنْ معَ اللهِ لا تَخْشَى الْمَلا أَبَدًا

يَكُنْ لَكَ اللهُ والأَمْلاكُ أَعْوَانُ

والناسُ إلا قَلِيلٌ قَالَ أَكْثَرُهُمْ

إِذَا رَأَوْا نَاصِحًا قَالُوا بِهِ جَانُ

عَنْ نُصْرَةِ الدِّينِ أَمْوَاتٌ بِهِمْ وَهُنٌ

وَنُصْرَةُ الْمَالِ فُرْسَانٌ وَشُجْعَانُ

صَلِّحْ لِدُنْيَاكَ مَا يَخْصُصْكَ مِنْ أَحَدٍ

لِلنَّاسِ وَادٍ وَقَدْ آوَتْكَ وُدْيَانُ

تُنَفِّرُ النَّاسَ وَالإِخْوَانُ قَدْ سَكَتُوا

ص: 123

.. أَعْرِضْ وَكُنْ مِثْلَهم وَدِنْ بِمَا دَانُوا

كُنْ لِلْمُلُوكِ عَلَى الأَهْوَاءِ تَعِشْ مَعَهُمْ

فَاللهُ فِي جَنْبِهِ عَفْوٌ وَغُفْرَانُ

يَا قَاتَلَ اللهُ مَنْ هَذِي مَقَالَتُهُ

هَذَا ابن إِبْلِيسَ غَشَّاشٌ وَفَتَّانُ

يَا حَسْرَةَ الدِّينِ مِنْ هَذَا وَشِيعَتِهِ

إِنْ سُوعِدُوا لَمْ يَقُمْ لِلدِّينِ بُنْيَانُ

(وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ كَمْ ثَبَّطُوا أُمَمًا

عَنْ نَصْرِ دِينٍ وَلِلشَّيْطَانِ أَعْوَانُ)

(فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكُنْ مِنْهُمْ عَلَى حَذِرٍ

لا يَخْدَعُوكَ فَهُمْ فِي الْمَكْرِ فُرْسَانُ)

(وَاصْحَبْ أَخًا الزُّهْدِ لا تَبْغِي بِهِ بَدَلاً

النَّاصِرَ الدِّينِ لِلتَّوْحِيدِ مِعْوَانُ)

اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلَ بِمَا فَهَّمْتَنَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنَّا مُقَصِّرِينَ فِي حِفْظِ حَقِّكَ وَالوَفَاءِ بِعَهْدِكَ فَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا فِي رَجَاءِ رِفْدِكَ وَخَالِصَ وِدِّكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا، فَبِكَمَالِ جُودِكَ تَجَاوَزْ عَنَّا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْياءِ منْهُم والمَيَّتِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

عِبَادَ اللهِ نَحْنُ فِي زَمَانٍ كَمَا تَرَوْنَ قَدْ كَثُرَ فِيهِ الشَّرُ وَوَسَائِلُهُ وَانْتَشَرَ فِي الأَرْضِ انْتِشَارًا لا يَخْطُرُ عَلَى الأَفْكَارِ فَإِذَا رُمْتُمْ حَاجَةً مِن السُّوقِ فَاقْضُوهَا بِسُرْعَةٍٍ مُنْكِرِينَ فِي قُلُوبِكُمْ وَفِي أَلْسِنَتِكُمْ حَسَبَ قُدْرَاتِكُمْ عَلَى مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَعْمَلُ الْمُنْكَرَاتِ وَاتْرُكُوا الاجْتِمَاعَ مَعَ مَنْ لا تَسْلَمُونَ

ص: 124

مِنْ الإِثْمِ إِذَا اتَّصَلْتُمْ بِهِ لاسِيَّمَا وَقَدْ كَثُرَ مَنْ لا تُؤْمَنُ شُرُورُهُ وَأَضْرَارُهُ وَمَفَاسِدُهُ وَاحْرَصُوا عَلَى غَضِّ أَبْصَارِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ أَطْلَقْتُمْ لَهَا الْعِنَانِ رَأَيْتُمْ مِنَ الْبَلايَا مَالا يُحْصِيهِ الْعَدُّ وَلا يَأْتِي عَلَيْهِ الْبَيَانُ تَرَوْنَ النِّسَاءَ فِي حَالَةٍ تُؤْلِمُ قَلْبَ كُلِّ مُؤْمِنٍ ذِي مُرُوءَةِ وَشِيمَةٍ وَغَيْرَةٍ دِينِيَّةٍ وَتَرَوْنَ الْغِشَّ السَّائِدَ فِي كُلِّ الْمُعَامَلاتِ بِدَرَجَةٍ قَلَّ أَنْ يَنْجُو مِنْهَا أَذْكَى النَّاسِ وَأَيْقَظُهُمْ وَأَقْوَاهُمْ فِرَاسَةً وَتَرَى الدُّخَانَ عَنْ يَمِينِكَ وَيَسَارِكَ تُؤْذِيكَ رَائِحَتُهُ الْكَرِيهَة وَتَرَى حَلاقِي اللَّحَى وَمُصَلِّحِي التَّوَالَيْتَاتِ وَالْخَنَافِسِ وَتَرَى النِّسَاءَ تَرْكَبُ مَعَ أَيِّ وَاحِدٍ بُدُون مَحْرَمٍ وَتَدْخُلُ عَلَى الْخَيَّاطِ يَقِيسُ عَلَيْهَا وَتَرْوَنَ الْكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ لا يُعَرِّجُونَ عَلَى الْمَسَاجِدِ أَوْقَاتِ الصَّلاةِ وَتَرَوْنَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي يَدُورُونَ فِي الأَسْوَاقِ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ إِلا مَا يُحْزِنُ قَلْبَ كُلِّ غَيورٍ لِدِينِهِ وَتَرَاهُمْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ إِقْبَالاً فَوْقَ مَا يَتَصَوَّرُهُ الْعَاقِلُ اللَّبِيبُ وَتَرَاهُمْ إِذَا قَضَوْا مَآرَبَهُمْ مِنْ كُتُبِ تَحْتَوِي عَلَى الدِّينِ وَغَيْرِهِ فِيهَا آيَاتٌ وَأَحَادِيثٌ أَلْقَوْهَا فِي الأَسْوَاقِ وَالْمَزَابِل مَعَ الْقُمَامِ وَكَذَلِكَ بَاقِي النِّعَمِ تَجِدْهَا مُلْقَاةً مَعَ الْقَاذُورَاتِ وَتَرَاهُمْ دَائِمًا فِي مُطَالِعَةِ الْجَرَائِدِ وَالْمَجَلاتِ وَلَوْ نَاوَلْتَ أَحْدَهُمْ مُصْحَفًا أَوْ الْبُخَارِي أَوْ مُسْلِمًا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْهُ لَسَارَعَ إِلى الضَّحِكِ أَوِ النَّوْمِ وَاسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ كَأَنَّكَ نَاوَلْتَهُ مَا يُذْهِبُ الْعُقُولَ وَيُرْقِدُ الأَبْدَانَ وَتَرَاهُ يَسْهَرَ كُلَّ لَيْلِهِ فِي صُنُوفِ الْمَعَاصِي وَعِنْدَ الْمَلاهِي لَكِنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ جَدًا أَنْ يَسْهَرَ سَاعَةً فِي طَاعَةً مَوْلاهُ وَتَرَاهُمْ أَمَامَ التَّلَفْزِيُونِ مُقَابِلِينَ لَهُ وَمُقْبِلِينَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَلَوْ نُودِيَ أَحَدُهُمْ لَشَتَمَ الْمُنَادِي وَسَبَّهُ بَلْ رُبَّمَا لَعَنَهُ وَقَذَفَهُ خَوْفًا مِنْ فَوَاتَ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنْ مُنْكَرَاتٍ مِنْ نِسَاءٍ سَافِرَاتٍ وَتَمْثِيلِيَّاتٍ خَلِيعَةٍ وَأَغَانِي مُهَيَّجةٍ لِلْفَسَادِ وَنَحْو ذَلِكَ تَمُرُّ السَّاعَاتُ لا يَمُلُّونَ بَلْ هُمْ مُرْتَاحُونَ لَهُ وَأَمَّا أَمَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ الذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ فَعَشَرُ الدَّقَائِقِ الَّتِي يَقِفُونَهَا فِي الصَّلاةِ أَثْقَلُ مِنْ رَضْوَى وَأُحُدٍ وَيَتَسَابَقُونَ إِلى الذِي يَمُرُّهَا مَرَّ السَّحَابِ وَإِذَا تَأَخَّرَ الإِمَامُ وَلَوْ دَقِيقَةً رَأَيْتَهُمْ يَتَلَفَتُونَ وَيَبْحَثُونَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا أَكْثَرُوا مِن الاسْتِغْفَارِ وَالْحَوْقَلَةِ وَالتَّهْلِيلِ لِيُفْهِمُوهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُعَجِّلَ فَيُصَلِّى كَأَنَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ حِمْلاً أَوْ عَلَى أَظْهُرِهِمْ حَتَّى الذِي يَتَأَخَّرُ بَعْدَ الصَّلاةِ وَيَقْعُدُ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ حَالَةٌ وَاللهِ يُرْثَى لَهَا قَالَ ابن القيم:

يَا نَاصِرَ الإِسلَامِ وَالسُّنَنِ الَّتِي

جَاءَتْ عَنِ الْمَبعُوثِ بالْفُرقَانِ

ص: 125

.. يَا مَنْ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وَقَولُهُ

وَلِقَاؤُهُ وَرَسُولُهُ بِبَيَانِ

اشْرَحْ لِدِينِكَ صَدْرَ كُلِّ مُوَحِّدٍ

شَرْحًا يَنَالُ بِهِ ذُرَى الإِيمَانِ

وَاجْعَلهُ مُؤْتَمًّا بِوَحْيِكَ لَا بِمَا

قَدْ قَالَهُ ذُو الإِفْكِ وَالْبُهتَانِ

وَانْصُرْ بِهِ حِزبَ الْهُدَى وَاكْبِتْ بِهِ

حِزْبَ الضَّلَالِ وَشَيعَةَ الشَّيطَانِ

وَانْعِشْ بِهِ مَنْ قَصْدُهُ إحْيَاؤُهُ

وَاعْصِمْهُ مَنْ كَيْدِ امْرِىءٍ فَتَّانِ

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّل عَافِيتَكِ وَفَجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْحِكَمِ الَّتِي كَانَتْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ

قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ رحمه الله وَقَدْ أَشَارَ اللهُ سُبْحَانَهُ إِلى أُمَّهَاتِهَا وَأُصُولِهَا فِي سُورَةِ آل عِمْرَانَ حَيْثُ افْتَتَحَ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إِلى تَمَامِ سَتِّينَ آيَةٍ، قَالَ فَمِنْهَا: تَعْرِيفُهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيةَ، وَالْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ، وَأَنَّ الذِي أَصَابَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِشُؤْمِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالى (3: 152) : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} .

ص: 126

فَلَمَّا ذَاقُوا عَاقِبَةَ مَعْصِيَتِهِمْ لِلرَّسُولِ وَتَنَازُعِهِمْ وَفَشَلِهِمْ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَشَّدَ حَذَرًا وَيَقْظَةً وَتَحَرُّزًا مِنْ أَسْبَابِ الْخُذْلانِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ. وَسُنَّتَهُ فِي رُسُلِهِ، وَأَتْبَاعِهِمْ: جَرَتْ بَأَنْ يُدَالُوا مَرَّةً، وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى، لَكِنْ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ، فَإِنَّهُمْ لَوْ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ مَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ انْتَصَرُوا عَلَيَهِمْ دَائِمًا، لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِن الْبِعْثَةَ وَالرِّسَالَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ أَنْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، لِيَتَمَيَّزَ مِنْ يَتْبَعُهُمْ وَيُطِيعُهمْ لِلْحَقِّ وَمَا جَاءُوا بِهِ، مِمَّنْ يَتْبَعُهُمْ عَلَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصَةٍٍ.

وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْلامِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لأَبِي سُفْيَانَ: (هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ) ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ الْحَرْب بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: سِجَالٌ نُدَالُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ، وَيُدَالُ عَلَيْنَا الأَخْرَى، قَالَ: كَذِلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. رَوَاهُ الْبُخَارِي.

وَمِنْهَا: أَنَّ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِن الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَظْهَرَهُمُ اللهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَطَارَ لَهُمُ الصِّيتُ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الإِسْلامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ عز وجل أَنْ سَبَّبَ لِعِبَادِهِ، مِحْنَةً مَيَّزَتْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُؤُوسَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَتَكَلَّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، وَظَهَرَتْ مُخَبَاتُهُمْ، وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا وَانْقَسَمَ النَّاسُ إِلى كَافِرٍ، وَمُؤْمِنٍ، وَمُنَافِقٍ، اِنْقِسَامًا ظَاهِرًا لا يُفَارِقُهُمْ، فَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ، وَتَحَرَّزُوا مِنْهُمْ.

ص: 127

قَالَ اللهُ تَعَالى (3: 179) : {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} أَيْ مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ، حَتَّى يُمَيِّزَ أَهْلَ الإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَمَا مَيَّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ فَإِنَّهُمْ مُتَمَيِّزُونَ فِي عِلْمِهِ وَغَيْبِهِ.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يُمَيِّزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا، فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الذِي هُوَ غَيْبٌ شِهَادَةٌ، وَقَوْلُهُ:{وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} اسْتِدْرَاكْ لِمَا نَفَاهُ، مِنْ إطْلاعِ خَلْقِهِ عَلَى الْغَيْبِ كَمَا قَالَ:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فَحَظَّكُم أَنْتُمْ وَسَعَادَتُكم فِي الإِيمان بِالْغَيْبِ الذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ، فَإِنْ آمِنْتُمْ بِهِ وَاتَّقَيْتُم كَانَ لَكُمْ أَعْظَمُ الأَجْرِ وَالْكَرَامَةِ.

وَمِنْهَا: اسْتِخْرجُ عُبُودِيَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فِي السَّرَاءِ وَالضَّرَاءِ وَفِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ، وَفِي حَالِ ظَفَرِهِمْ، وَفِي حَالِ ظَفَرِ أَعْدَائِهِمْ بِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ، فَهُمْ عَبِيدُهُ حَقًّا وَلَيْسُوا كَمَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِن السَّرَاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا، وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوِّهِمْ، فِي كُلِّ مَوْطِن، وَجَعَلَ لَهُمْ التَّمَكُنَ، وَالْقَهْرَ لأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ، وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ، فَلَوْ بَسَطَ لَهُمْ النَّصْرُ وَالظَّفَرَ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُوا فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمْ الرِّزْقُ فَلا يُصْلِحُ عِبَادَهُ إلا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، والشِّدَّةُ والرَّخَاءُ، وَالقَبْضُ وَالبَسْطُ فَهُوَ المُدَبِّرُ لأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إِنَّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِير.

ص: 128

وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ إِذَا امْتَحَنَهُمْ بِالْغَلَبَةِ، وَالْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةَ، وَذُلُّوا وَانْكَسَرُوا وَخَضَعُوا؛ فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ الْعِزَّةِ وَالنَّصْرَ، فَإِنَّ خِلْعَةَ النَّصْرِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ وَلايَةِ الذُّلِّ وَالانْكِسَارِ، قَالَ اللهُ تَعَالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} ، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزَّ عَبْدَهُ وَيَجْبُرَهُ وَيَنْصُرَهُ، كَسَرَهُ أَوَّلاً وَيَكُونُ جِبْرُهُ لَهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَيَّأَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمَنِينَ مَنَازِلَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالِهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بَالِغِيهَا إِلا بِالْبَلاءِ وَالْمِحْنَةِ، فَقَيَّضَ لَهُمْ الأَسْبَابَ الَّتِي تُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا، مِنْ ابْتِلائِهِ وَامْتِحَانِهِ، كَمَا وَفَّقَهُمْ للأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولِهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ النَّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنْ الْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ، وَالنَّصْرِ وَالْغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إِلى الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُهَا عَنْ جِدِّهَا فِي سَيْرهَا إِلى اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبُّهَا وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ، قَيَّضَ لَهَا مِنْ الإبْتِلاءِ وَالإِمْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِذَلِكَ الْمَرَض الْعَائِق عَن السَّيْر الْحَثِيثِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبِلاءِ وَالْمِحْنَةِ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي الْعَلِيلَ الدَّوَاءَ الْكَرِيه وَيَقْطَعُ مِنْهُ الْعُرُوقَ الْمُؤْلِمَةِ، لاسْتِخْرَاجِ الأَدْوَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الأَدْوَاءُ، حَتَّى يَكُونَ فِيهَا هَلاكُهُ.

اللَّهُمَّ أَنظِمْنا في سِلكِ حِزبِكَ المُفلِحِين، واجْعلنا مِنْ عبادِكَ المُخْلِصين وآمِنَّا يومَ الفَزَع الأكَبرِ يومَ الدِين، واحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَليهَم مِنَ النَبيين والصِّدِّيقين والشُهداء والصَّالِحِينِ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحياءِ منهمْ والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِِ أَجْمَعِينَ.

ص: 129

وَإِنَّ ذَوِي الإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالنُّهَى

هُمْ الْغُرَبَاء طُوبَى لَهُمْ مَا تَغَرَّبُوا

أُنَاسٌ قَلِيلٌ صَالِحُونَ بأمَّةٍ

كَثِيرِينَ لَكِنْ بِالضَّلالَةِ أُشْرِبُوا

وَقِيلَ لَهُمْ النُّزَاعُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ

عَلَى حَرْبِهِمْ أَهْلُ الضَّلالِ تَحَزَّبُوا

وَلَكِنْ لَهُمْ فِيهَا الظُّهُورُ عَلَى الْعِدَا

وَإِنْ كَثُرتْ أَعْدَاؤُهُم وَتَأَلَّبُوا

وَكَمْ أَصْلَحُوا مَا أَفْسَدَ النَّاسُ بِالْهَوَى

مِن السُّنَّةِ الْغَرَّا فَطَابُوا وَطَيَّبُوا

وَقَدْ حَذَّرَ الْمُخْتَارُ مِنْ كُلِّ بِدْعَةٍ

وَقَامَ بِذَا فَوْقَ الْمَنَابِرِ يَخْطُبُ

فَقَالَ عَلَيْكُمْ بَاتَّبَاعِي وَسُنَّتِي

فَعُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَارْغَبُوا

وَإِيَّاكُمْ وَالابْتِدَاعَ فَإِنَّهُ

ضَلالٌ وَفِي نَارِ الْجَحِيمِ يُكَبْكِبُ

فَدُومُوا عَلَى مِنْهَاجِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ

لَكِي تَرِدُوا حَوْضَ الرَّسُولِ وَتَشْرَبُوا

فَإِنَّ لَهُ حَوْضًا هَنِيئًا شَرَابُهُ

مِنْ الدُّرِ أَنْقَى فِي الْبَيَاضِ وَأَعْذَبُ

لَهُ يَرِدُ السُّنِيُّ مِنْ حِزْبِ أَحْمَدٍ

ص: 130

.. وَعَنْهُ يُنْحَى مُحْدِثٌ وَمُكَذِبُ

وَكَمْ حَدَثَتْ بَعْدَ الرَّسُولِ حَوَادِثٌ

يَكَادُ لَهَا نُورُ الشَّرِيعَةِ يُسْلَبَ

وَكَمْ بِدْعَةٍ شَنْعَاءَ دَانَ بِهَا الْوَرَى

وَكَمْ سُنَّةٍ مَهْجُورَةٍ تُتَجَنَّبُ

لِذَا أَصْبَحَ الْمَعْرُوفُ فِي الأَرْضِ مُنْكرًا

وَذُو النُّكْرِ مَعْرُوفٌ إِلَيْهِمْ مُحَبَّبُ

وَمَا ذَاكَ إِلا لإنْدِرَاسِ مَعَالَمِ

مِنَ الْعِلْم إِذْ مَاتَ الْهُدَاتُ وَغُيِّبُوا

وَلَيْسَ اغْتِرَابُ الدِّينِ إِلا كَمَا تَرَى

فَسَلْ عَنْهُ ينْبِيكَ الْخَبِيرُ الْمُجَرِّبُ

وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْعِلْمَ تَعْفُو رُسُومُهُ

وَيَفْشُو الزِّنَا وَالْجَهْلُ وَالْخَمْرُ تُشْرَبُ

وَتِلْكَ أَمَارَاتٌ يَدُلُ ظُهُورُهَا

عَلَى أَنَّ أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ أَقْرَبُ

فَسَارِعْ لِمَا يُرْضِي الإِلهَ بِفِعْلِهِ

وَدَعْ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ للهِ يُغْضِبُ

وَخُذْ إِنْ طَلَبْتَ الْعِلْمَ عَنْ كُلِّ عَالِمٍ

تَرَاهُ بَآدَابِ الْهُدَى يَتَأَدَّبُ

لأَهْلِ السُّرَى تَهْدِي نَجُومُ عُلُومِهِ

وَتُرْمي الْعِدَى مِنْ شُهْبِهَا حِينَ تُثْقَبُ

ص: 131

.. فَلازِمْهُ وَاسْتَصْبِحْ بِمَصْبَاحِ عِلْمِهِ

لِتَخْلُصَ مِنْ جَسْرٍ عَلَى النَّارِ يُضْرَبُ

فَخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتُ عَلَى الْهُدَى

وَشَرُّ الأُمُورِ الْمُحْدَثَاتِ فَجَنَّبُوا

وَمَا الْعِلْمُ إِلا مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ

وَغَيْرُهُمَا جَهْلٌ صَرِيحٌ مُرَكَّبُ

فَخُذْ بِهِمَا وَالْعِلْمِ فَاطْلُبُه مِنْهُمَا

وَدَعْ عَنْكَ جُهَّالاً عَنْ الْحَقِّ أَضْرَبُوا

خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارِ بِضَوْئِهِ

فَوَافَقَهَا مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ غَيْهَبُ

فَظَلَّتْ تُحَاكِي الطَّيْرَ فِي ظُلْمَةِ الدُّجَا

وَإِنْ لاحَ ضُوءُ الصُّبْحِ لِلْعِشِّ تَهْرَبُ

وَخَتْمُ نِظَامِي بِالصَّلاةِ مُسَلِّمًا

مَدَى الدَّهْرِ مَا دَامَتْ مَعَدٌ وَيَعْرِبُ

عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ مُحَمَّدٍ

بِهِ طَابَ خِتْمُ الأَنْبِيَاءِ وَطُيِّبُوا

كَذَا الآلِ وَالصَّحْبِ الأَلَى بِجِهَادِهِمْ

أَضَاءَ بِدِينِ اللَهِ شَرْقٌ وَمَغْرِبُ

اللَّهُمَّ امْنُنْ عَلَيْنَا بِالإقْبَالِ عَلَيْكَ وَالتَّوْفِيقِ وَأَعِذْنَا مِن الْخَذْلانِ وَالتَّعْوِيقِ، وَفَرِّجْ عَنَّا كُلَّ هَمٍّ وَغَمٍّ وَضِيق، وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا نَقْوَى وَلا نُطِيق، يَا مَنْ كُلُّ نَفْسٍ إِلى جُودِهِ افْتَقَرَتْ، اللَّهُمَّ جَلَّلْنَا بِسِتْرِكْ وَاعْفُ عَنَّا بِكَرَمِكَ.

ص: 132

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، اللَّهُمَّ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وّبِكُتِبَكَ وَبُرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاشْرَحْ صُدُورَنَا وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَعَامِلْنَا بِلُطْفِكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ أَعِذْنَا مِن الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجَزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلْعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعَلَى مَرَاتِبَ أَوْلِيَائِهِ وَالشُّهَدَاءُ هُمُ خَوَّاصُهُ الْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِهِ وَلَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الصِّدِيقِيَّةِ إِلا الشَّهَادَةُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ تُرَاقَ دِمَاؤُهُمْ فِي مَحَبَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ وَيُؤْثِرُونَ رِضَاهُ وَمَحَابَّهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَلا سَبِيلَ إِلى نَيْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلا بِتَقْدِيرِ الأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهَا مِنْ تَسْلِيطِ الْعَدُوُّ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الله سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ وَيَمْحَقَهُمْ قَيَّضَ لَهُمْ الأَسْبَابَ الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا هَلاكَهُمْ، وَمَحْقَهُمْ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ بَغْيُهُمْ، وَطُغْيَانُهُمْ، وَمُبَالَغَتُهُمْ، فِي أَذَى أَوْلِيَائِهِ، وَمُحَارَبَتُهُمْ، وَقِتَالُهُمْ، وَالتَّسَلُّطُ عَلَيْهِمْ، فَيَتَمَحَّصُ بِذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ، مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَعُيُوبِهِمْ، وَيَزْدَادُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ، مِنْ أَسْبَابِ مَحْقِهِمْ وَهَلاكِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ تَعَالى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ (3: 139 - 141) : {وََلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} .

فَجَمَعَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخِطَابِ بَيْنَ تَشْجِيعِهِمْ وَتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِحْيَاءِ عَزَائِمِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وَبَيْنَ حُسْنِ التَّسْلِيَةِ وَذِكْرِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ

ص: 133

الَّتِي اقْتَضَتْ إِدَالَةَ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} فَقَدْ اسْتَوَيْتُمْ فِي الرَّجَاءِ وَالثَّوَابِ، كَمَا قَالَ (4: 104) : {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ} فَمَا بَالَكُمْ تَهِنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ الْقَرْحِ وَالأَلَمِ فَقَدْ أَصَابُوا ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الشَّيَطَانِ وَأَنْتُمْ أَصَبْتُمْ فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي.

ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُدَاوِلُ أَيَّامَ هَذِهِ الْحَيَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَرَضُ حَاضِرٌ يَقْسِمُهَا دُوَلاً بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدائِهِ، بِخِلافِ الآخِرَةِ، فَإِنَّ عِزَّهَا وَنَصْرَهَا وَرَجَاءَهَا خَالِصٌ لِلذِينَ آمنُوا.

ثُمَّ ذَكَرَ حِكمَةً أُخْرَى وَهِيَ اتِّخَاذُهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ الشُّهَدَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ، وَأَفْضَلَهَا وَقَدْ اتَّخَذَهُمْ لِنَفْسِهِ، فَلا بُدَّ أَنْ يُنِيلَهُمْ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تَنْبِيهٌ لَطِيفُ الْمَوْقِعِ جِدًا عَلَى كَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ لِلْمُنَافِقِينَ، الذين انْخَذَلُوا عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يَشْهَدُوهُ، وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ، لأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّهُمْ فَأَرْكَسَهُمْ وَرَدَّهُمْ، لِيَحْرِمَهُمْ مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا أَعْطَاهُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ، فَثَبَّطَ هَؤُلاءِ الظَّالِمِينَ عَنِ الأَسْبَابِ الَّتِي وَفَّقَ لَهَا أَوْلِيَاءه وَحِزْبَهُ.

ثُمَّ حِكْمَةً أُخْرَى فِيمَا أَصَابَهُمُ مِن الذُّنُوبِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهِيَ تَمْحِيصُ الذِينَ آمِنُوا وَهُوَ تَنْقِيَتَهُمْ وَتَخْلِيصُهُمْ مِن الذُّنُوبِ، وَمِنْ آفَاتِ النُّفُوسِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدَّمَة وَإرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ النَّبِيِّ ? فَنَبَأَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى انْقِلابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِنْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ ?، أَوْ قُتِلَ

ص: 134

بَلْ الْوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ: أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دِينِهِ، وَتَوْحِيدِهِ، وَيَمُوتُوا عَلَيْهِ، أَوْ يُقْتَلَوا، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ رَبَّ مُحَمَّدٍ ?، وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، فَلَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ أَوْ قُتِلَ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ فَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.

وَمَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ? إِلَيْهِمْ لِيُخَلَّدَ لا هُوَ وَلا هُمْ، بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الإِسْلامِ وَالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لا بُدَّ مِنْهُ، سَوَاءٌ مَاتَ رَسُولُ اللهِ ? أَوْ بَقِيَ وَلِهَذَا وَبَّخَهُمْ عَلَى رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ لَمَّا صَرَخَ الشَّيْطَانُ بِأَنَّ: مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} .

وَالشَّاكِرُونَ هُمْ الذِينَ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ فَثَبَتُوا عَلَيْهَا حَتَّى مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا، فَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعِتَابِ وَحُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ الله ? وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَثَبَتَ الشَّاكِرُونَ عَلَى دِينِهِمْ، فَنَصْرَهُمُ اللهُ وَأَعَزَّهُمْ وَأَظْفَرَهُمْ بَأَعْدَائِهِمْ وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ.

ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلاً لا بُدَّ أَنْ تَسْتَوِفِيَهُ تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهُ، وَيَصْدُرُونَ عَنْ مَوْرِدِ الْقِيَامَةِ، مَصَادِرَ شَتَّى، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.

ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَنْبِيَائِهِ قُتِلُوا، وَقُتِلَ مَعَهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ كَثِيرُونُ، فَمَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا ضَعَفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَمَا وَهَنُوا عِنْدَ الْقَتْلِ، وَلا ضَعُفُوا وَلا اسْتَكَانُوا، بَلْ تَلَقُوا الشَّهَادَةَ بِالْقُوةِ وَالْعَزِيمَةِ وَالإِقْدَامِ، فَلَمْ يَسْتَشِهَدُوا مُدْبِرِينَ مُسْتَكِينِينَ أَذِلَّةً

ص: 135

بَلْ اسْتُشْهِدُوا أَعِزَةً كِرَامًا مُقْبِلِينَ غَيْرَ مُدْبِرِينَ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الآية تَتَنَاوَلُ الْفَرِيقِينَ كَلِيْهِمَا، ثُمَّ أَخْبَر سُبْحَانَهُ عَمَّا اسْتَنْصَرَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ وَأُمَمِهِمْ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ اعْتِرَافِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ رَبَّهُمْ أَنْ يُثَبّتَ أَقْدَامَهُمْ وَأَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَقَالَ:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .

لَمَّا عَلِمَ الْقَوْمِ أَنَّ الْعَدُوَّ إِنَّمَا يُدَالُ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّ الشَّيَطَانَ إِنَّمَا يَسْتَزِلُّهُمْ وَيَهْزِمُهُمْ بِهَا، وَأَنَّها نَوْعَانِ تَقْصِيرٌ فِي حَقٍّ، أَوْ تَجَاوُزٌ لِحَدٍ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَنُوطٌ بِالطَّاعَةِ، {قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّ رَبَّهُمْ تبارك وتعالى، إِنْ لَمْ يُثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرَهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا هُمْ عَلَى تَثْبِيتِ أَقْدَامِ أَنْفُسِهِمْ، وَنَصْرهَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَسَأَلُوهُ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بِيَدِهِ دُونَهُمْ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُثَبّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرَهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا، وَلَمْ يَنْتَصِرُوا.

ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ: أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِن الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمُهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِي لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، وَلا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ، إِذَا صَارَ مُشَاهِدًا وَاقِعًا فِي الْحِسِّ.

فَوَفَّوْا الْمَقَامَيْنِ حَقَّهُمَا، مَقَامَ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ: التَّوْحِيدُ وَالالْتِجَاءِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَمَقَامِ إِزَالَةِ الْمَانِعِ مِن النُّصْرَةِ، وَهُوَ: الذُّنُوبِ وَالإِسْرَافِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ طَاعَةِ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إِنْ أَطَاعُوهُمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.

شِعْرًا:

لَعَمْري مَا الرَّزِيَّةِ فَقْدُ مَالٍ

يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ مُعْدِمِينَا

وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةِ فَقْدُ دِينٍ

يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا

ص: 136

ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَوْلى الْمُؤْمِنِين، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فَمَنْ وَالاهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ الذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، الذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ، وَالإِقْدَامِ عَلَى حَرْبِهِمْ، فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ حِزْبَهُ بِجُنْدٍ مِن الرُّعْبِ، يَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَذَلِكَ الرُّعْبُ بِسَبَبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِن الشِّرْكِ بِاللهِ وَعَلى قَدْرِ الشِّرْكِ يَكُوُن الرُّعْبُ، وَالذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِالشِّرْكِ، لَهُمْ الأَمْنُ وَالْهُدَى وَالْفَلاحُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَدَقَ وَعْدَهُ فِي النَّصْرَةِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْوَعْدِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ اسْتَمَرُّوا عَلَى الطَّاعَةِ وَلُزُومِ مَرَاكِزِهِمْ امْتِثَالاً لأَمْرِ النَّبِيِّ ? لاسْتَمَرَّتْ نُصْرَتُهُمْ، وَلَكِنْ انْخَلَعُوا عَن الطَّاعَةِ وَفَارَقُوا مَرَاكِزَهُمْ فَانْخَلَعُوا عَنْ عِصْمَةِ الطَّاعَةِ، فَفَارَقَتْهُمُ النُّصْرَةُ فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُّوِّهِمْ عَقُوبِةً وِابْتِلاءً وَتَعْرِيفًا لَهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَحُسْنِ عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ يَسِير.

اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تَائِبِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قَالَ ابن الْقَيِّمِ رحمه الله:

يَا أيُّهَا الرَّجُلُ الْمُرِيدُ نَجَاتَهُ

اسْمَعْ مَقَالَةَ نَاصِحٍ مِعوَانِ

كُنْ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا مُتَمَسِّكًا

بِالْوَحْيِ لا بِزَخَارِفِ الْهَذَيَانِ

وَانْصُرْ كِتَابَ اللهِ وَالسُّنَنَ الَّتِي

جَاءَتْ عَنِ الْمَبْعُوثِ بالْقُرْآنِ

ص: 137

وَاضْرِبْ بِسَيْفِ الْوَحْيِ كُلَّ مُعَطِّلٍ

ضَرْبَ الْمُجَاهِدِ فَوْقَ كُلِّ بَنَانِ

وَاحْمِلْ بِعَزْمِ الصِّدْقِ حَملَةَ مُخُلِصٍ

مُتَجَرِّدٍ للهِ غَيرِ جَبَانِ

وَاثبُْتْ بِصَبْرِكَ تَحْتَ أَلْوِيةِ الْهُدَى

فَإِذَا أَصِبْتَ فَفِي رِضَا الرَّحْمَنِ

وَاجْعَلْ كِتَابَ اللهِ وَالسُّنَنَ الَّتِي

ثَبَتَتْ سِلَاحَكَ ثُمَّ صِحْ بِجَنَانِ

مَنْ ذَا يُبَارِزُ فَلْيُقَدِّم نَفْسَهُ

أَوْ مَنْ يُسَابِقُ يَبْدُ فِي الْمِيدَانِ

وَاصْدَعْ بِمَا قَالَ الرَّسُولُ وَلا تَخَفْ

مِنْ قِلَّةِ الأَنْصَارِ وَالأَعْوَانِ

فَاللهُ نَاصِرُ دِينِهِ وَكِتَابِهِ

وَاللهُ كَافٍ عَبْدَهُ بأمَانِ

لا تَخشَ مِن كَيدِ العدُوِّ وَمكْرِهِم

فَقِتَالُهُمْ بِالْكِذْبِ والْبُهتَانِ

فَجُنُودُ أتبَاعِ الرَّسُولِ مَلَائِكٌ

وَجُنُودُهُمْ فَعَسَاكِرُ الشَّيطانِ

شَتَّانَ بينَ العَسْكَرَيْنِ فَمَنْ يَكُنْ

مُتَحَيِّزًا فَلَيْنُظُرِ الْفِئَتَانِ

ص: 138

وَاثْبُتْ وَقَاتِلْ تَحْتَ رَايَاتِ الْهُدَى

وَاصْبِرْ فَنَصْرُ اللهِ رَبِّكَ دَانِ

وَاذْكُرْ مَقَاتِلَهُمْ لِفُرْسَانِ الْهُدَى

للهِ دُرُّ مَقَاتِلِ الْفُرْسَانِ

وَادْرَأْ بِلَفْظِ النَّصِّ فِي نَحْرِ الْعِدَى

وَارْجُمْهُمُ بِثَوَاقِبِ الشُّهبَانِ

لا تَخْشَى كَثْرَتَهُمْ فَهُمْ هَمَجُ الْوَرَى

وَذُبَابُهُ أَتَخَافُ مِنْ ذُبَّانِ

وَاشْغَلْهُمُ عِنْدَ الْجِدَالِ بِبَعْضِهِمْ

بَعْضًا فَذَاكَ الْحَزْمُ لِلْفُرْسَانِ

وَإِذَا هُمُوا حَمَلُوا عَلَيْكَ فَلا تَكُنْ

فَزِعًا لِحَمْلَتِهِمْ وَلا بِجَبَانِ

وَاثْبُتْ وَلا تَحْمِلْ بِلا جُنْدٍ فَمَا

هَذَا بِمَحْمُودٍ لَدَى الشُّجَعَانِ

فَإِذَا رَأَيْتَ عِصَابَةَ الإِسْلَامِ قَدْ

وَافَتْ عَسَاكِرُهَا مَعَ السُّلطَانِ

فَهُنَاكَ فَاخْتَرِقِ الصُّفُوفَ وَلا تَكُنْ

بِالْعَاجِزِ الْوَانِي وَلَا الْفَزْعَانِ

وَتَعَرَّ مِنْ ثوبَيْنِ مَنْ يَلْبَسْهُمَا

يَلْقَى الرَّدَى بِمَذَمَّةِ وَهَوانِ

ص: 139

ثَوبٍ مِنَ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ فَوقَهُ

ثَوْبُ التّعَصُّبِ بِئْسَتِ الثَّوبَانِ

وتَحَلَّ بِالإِنْصَافِ أَفْخَرَ حُلَّةٍ

زِينَتْ بِهَا الأَعْطَافُ وَالْكَتِفَانِ

وَاجْعَل شِعَارَكَ خَشْيَةَ الرَّحْمَنِ مَعْ

نُصْحِ الرّسُولِ فَحَبَّذَا الأَمْرَانِ

وَتَمَسكَنَّ بِحَبْلِهِ وَبِوَحْيِهِ

وَتَوَكَّلَنَّ حَقِيقَةَ التُّكْلَانِ

فَالْحَقُّ وَصْفُ الرّبِّ وَهُوَ صِرَاطُهُ الْـ

ـهَادِي إِلَيْهِ لِصَاحِبِ الإيمَانِ

وَهُوَ الصِّرَاطُ عَلَيْهِ رَبُّ الْعَرْشِ أَيْـ

ـضًا وَذَا قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

وَالْحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلَا

تَعْجَبْ فَهَذِي سُنَّةُ الرَّحْمَنِ

وَبِذَاكَ يَظْهَرُ حِزْبُهُ مِنْ حَرْبِهِ

وَلأَجْلِ ذَاكَ النَّاسُ طَائِفَتَانِ

وَلأَجْلِ ذَاكَ الْحَرْبُ بَيْنَ الرُّسِلِ وَالْـ

ـكُفَّارِ مُذْ قَامَ الْوَرَى سِجْلَانِ

لَكِنَّمَا الْعُقبَى لأَهْلِ الْحَقِّ إِنْ

فَاتَتْ هُنَا كَانَتْ لَدَى الدَّيَّانِ

وَاجْعَلْ لِقَلْبِكَ هِجْرَتَيْنِ وَلَا تَنَمْ

ص: 140

.. فَهُمَا عَلَى كُلِّ امْرِءٍ فَرْضَانِ

فَالْهِجْرَةُ الأُولَى إِلى الرَّحْمَنِ بِالـ

إِخْلاصِ فِي سِرٍّ وَفي إِعْلانِ

فَالْقَصْدُ وَجْهُ اللهِ بِالأَقْوَالِ وَالـ

أَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ وَالشُّكرَانِ

فَبِذَاكَ يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْ إِشْرَاكِهِ

وَيَصِيرُ حَقًّا عَابِدَ الرَّحْمَنِ

وَالْهِجْرةُ الأُخْرَى إِلى الْمَبْعُوثِ بِالْـ

حَقِّ الْمُبِينِ وَوَاضِحِ الْبُرْهَانِ

فَيَدُورُ مَعْ قَوْلِ الرَّسُولِ وَفِعْلِهِ

نَفِيًا وَإِثْبَاتًا بِلَا رَوَغَانِ

وُيُحَكِّمُ الْوَحْيَ الْمُبينَ عَلَى الذِي

قَالَ الشُّيوخُ فَعِنْدَهُ حَكَمَانِ

لَا يَحْكُُمَانِ بِبَاطِلٍ أبَدًا وَكُلُّ

الْعَدْلِ قَدْ جَاءَتْ بِهِ الْحَكَمَانِ

وَهُمَا كِتَابُ اللهِ أَعْدَلَ حَاكِمٍ

فِيهِ الشِّفَا وَهِدَايَةُ الْحَيْرَانِ

وَالْحَاكِمُ الثَّاني كَلامُ رَسُولِهِ

مَا ثَمَّ غَيْرُهُمَا لِذِي إِيمَانِ

فَإِذَا دَعَوْكَ لِغَيْرِ حُكْمِهِمَا فَلا

سَمْعًا لِدَاعِي الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ

ص: 141

.. قُلْ لَا كَرَامَةَ لَا ولَا نُعْمًا وَلا

طَوْعًا لِمَنْ يَدْعُو إلى طُغيَانِ

وَإِذا دُعِيتَ إِلى الرَّسُولِ فَقُلْ لَهُمْ

سَمْعًا وَطَوْعًا لَسْتُ ذَا عِصْيَانِ

وَإِذَا تَكَاثَرَتِ الْخُصُومُ وَصيَّحُوا

فَاثْبُتْ فَصَيْحَتُهُمْ كَمِثْلِ دُخَانِ

يَرْقَى إِلى الأَوْجِ الرَّفِيعِ وَبَعْدَه

يَهْوِي إِلى قَعْرِ الْحَضِيضِ الدَّانِي

هَذَا وَإنَّ قِتَالَ حِزْبِ اللهِ بِالـ

أَعْمَالِ لا بِكَتَائِبِ الشُّجعَانِ

وَاللهِ مَا فَتَحُوا الْبِلادَ بِكَثْرَةٍ

أنَّى وَأَعْدَاهُمْ بِلَا حُسْبَانِ

وَكَذَاكَ مَا فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِهَذِهِ الـ

آرَاءِ بَلْ بِالْعِلمِ وَالإِيمَانِ

وَشَجَاعَةُ الْفُرْسَانِ نَفْسُ الزُّهْدِ فِي

نَفْسٍ وَذَا مَحْذُورُ كُلِّ جَبَانِ

وَشَجَاعَةُ الْحُكَّامِ وَالْعُلَمَاءِ زُهْـ

ـدٌ فِي الثَّنَا مِنْ كُلِّ ذِي بُطْلَانِ

فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِقَلْبٍ صَادِقٍ

شُدَّت رَكَائبُهُ إِلى الرَّحْمَنِ

وَاقْصِد إِلى الأَقْرَانِ لَا أَطْرَافِهَا

ص: 142

.. فَالْعِزُّ تَحْتَ مَقَاتِلِ الأَقْرَانِ

وَاسْمَعْ نَصِيحَةَ مَنْ لَهُ خَبَرٌ بِمَا

عِنْدَ الْوَرَى مِنْ كَثْرَةِ الْجَولَانِ

مَا عِنْدَهُمْ وَاللهِ خَيْرٌ غَيْرَمَا

أَخَذُوهُ عَمَّنْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ

والْكُلُّ بَعْدُ فَبِدْعَةٌ أَوْ فِرِيَةٌ

أَوْ بَحْثُ تَشْكِيكٍ وَرَأْيُ فُلانِ

فَاصْدَعْ بِأَمْرِ اللهِ لا تَخْشَ الْوَرَى

فِي اللهِ وَاخْشَاهُ تَفُزْ بأَمَانِ

وَاهْجُرْ وَلَوْ كُلَّ الْوَرَى فِي ذَاتِهِ

لَا فِي هَوَاكَ وَنَخْوَةِ الشَّيطَانِ

وَاصْبِرْ بِغَيْرِ تَسَخُّطٍ وَشِكَايَةٍ

وَاصْفَحْ بِغَيْ بِغَيرِ عِتَابِ مَنْ هُوَ جَانِ

وَاهْجُرهُمُ الْهَجْرَ الْجَمِيلَ بِلا أذَى

إِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْهِجْرَانِ

وَانْظُرْ إِلى الأَقْدَارِ جَارِيَةً بِمَا

قَدْ شَاءَ مِنْ غَيٍّ وَمِنْ إِيمَانِ

وَاجْعَلْ لِقَلْبِكَ مُقْلَتَينِ كِلَاهُمَا

بِالْحَقِّ فِي ذَا الْخَلْقِ نَاظِرَتَانِ

فَانْظُرْ بِعَيْنِ الحُكْمِ وَارْحَمْهُمْ بِهَا

إِذْ لا تُرَدُّ مَشِيئَةُ الدَّيَانِ

ص: 143

.. وَانْظُرْ بَعْيْنِ الأَمْرِ وَاحْمِلْهُمْ عَلَى

أَحْكَامِهِ فَهُمَا إِذًا نَظَرَانِ

وَاجْعَلْ لِوَجْهِكَ مُقْلَتَينِ كِلَاهُمَا

مِنْ خَشْيَةِ الرَّحْمَنِ بَاكِيَتَانِ

لَوْ شَاءَ رَبُّكَ كُنْتَ أَيْضًا مِثلَهُمْ

فَالْقَلْبُ بَيْنَ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ

وَاحْذَرْ كَمَائِنَ نَفْسِكَ اللَاّتِي مَتَى

خَرَجَتْ عَلَيْكَ كُسِرْتَ كَسْرَ مُهَانِ

وَإِذَا انْتَصَرَتْ لَهَا فَأَنْتَ كَمَنْ بَغَى

طَفْيَ الدُّخَانِ بِمَوْقِدِ النِّيرَانِ

وَاللهُ أخْبَرَ وَهُوَ أَصْدَقُ قَائِلٍ

أَنْ سَوْفَ يَنْصُرُ عَبْدَهُ بأَمَانِ

مَنْ يَعْمَلِ السُّوء سَيُجْزَى مِثْلَهَا

أَوْ يَعْمَلِ الْحُسْنَى يَفُزْ بِجِنَانِ

هَذِيْ وَصِيَّةُ نَاصِحٍ وَلِنَفْسِهِ

وَصَّى وَبَعْدُ لِسَائِرُ الإِخْوَانِ

قَالَ ابن الْجَوْزِي رحمه الله:

أَعْظَمُ الْمُعَاقَبَةِ أَنْ لا يُحِسَ الْمَعَاقَبُ بِالْعُقُوبَةِ، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ السُّرُورُ بِمَا هُو عُقُوبة، كَالْفَرَحِ بِالْمَالِ الْحَرَامِ، وَالتَّمَكن مِن الذُّنُوبِ. وَمَنْ هَذِهِ حَالَهُ لا يَفُوزُ بِطَاعَةِ.

وَإِنِّي تَدَبرت أَحْوَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَزَهِّدِينَ فَرَأَيْتَهُمُ فِي عُقُوبَاتِ لا يَحُسُّونَ بِهَا، وَمُعْظَمَهُا مِنْ قَبْلِ طَلَبِهِمْ لِلرِّيَاسَةِ. فَالْعَالِمُ مِنْهُمْ يَغْضِب إِنْ رُدَّ عَلَيْهِ خَطَؤُهُ، وَالْوَاعِظُ مُتَصَنّعُ بِوَعْظِهِ،

ص: 144

وَالْمُتَزهِّد مُنَافِقٌ أَوْ مُرَاءٍ. فَأَوَّلُ عُقُوبَاتِهِمْ، إِعْرَاضُهمْ عَنْ الْحَقِّ شُغْلاً بِالْخَلْقِ، وَمِنْ خَفِيِّ عُقُوبَاتِهِمْ سَلْبُ حَلاوَةِ الْمُنَاجَاةِ، وَلَذَةِ التَّعَبُدِ.

إِلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ، وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتُ، يَحْفَظ الله بِهِمْ الأَرْضَ، بَوَاطِنَهُمْ كَظَوَاهِرَهُمْ بَلْ أَحْلَى، وَسَرَائِرَهُمْ كَعَلانِيَّتَهُمْ بَلْ أَحْلَى، وهممهم عِنْدَ الثَّرَيَا بَلْ أَعْلَى، إِنْ عُرِفُوا تَنَكَّرُوا وَإِنْ رُئيت لَهُمْ كَرَامَة أَنْكَرُوا. فَالنَّاسُ فِي غَفْلاتِهِمْ، وَهُمْ فِي قَطْعِ فَلاتِهِمْ، تَحِبُّهُمْ بِقَاع الأَرْض، وَتَفْرَح بِهِمْ أَمْلاكُ السَّمَاءِ. نَسْأَلُ اللهَ عز وجل التَّوْفِيقَ لإتِّبَاعِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلْنَا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ.

وَسَلِ الْعِيَاذُ مِنْ التَّكَبُّرَ وَالْهَوَى

فَهُمَا لِكُلِّ الشَّرِ جَامِعَتَانِ

فَتَرَى هَوَاهُ يَمْنَعُهُ تَارَةً

وَالْكِبْرُ أُخْرَى ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ

واللهِ مَا فِي النَّارِ إِلا تَابِعٌ

هاذين فَاسْأَلْ سَاكِنِي النِّيرَانِ

آخر:

تَواضَع إِذَا مَا نِلْتَ فِي النَّاسِ رِفْعَةً

فَإِنَّ رَفِيعَ الْقَوْمِ مَنْ يَتَوَاضَعُ

وَدَاوِمْ عَلَى حَمْدِ الإِلَهِ وَشُكْرِهِ

وَذِكْرٍ لَهُ فَهُوَ الذِي لَكَ رَافِعُ

وَقَالَ ابن الْجَوْزِي: اعْتَبَرْتُ عَلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَادِ أَنَّهم يُبْطِنُونَ الْكِبْرَ فَهَذَا يَنْظُرُ فِي مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لا يَعُودُ مَرِيضًا فَقِيرًا يَرَى نَفْسَه خَيْرًا مِنْهُ. حَتَّى أَنِّي رَأَيْتُ جَمَاعَةً يُوْمأ إِلَيْهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لا أَدْقَنُ إِلا فِي دِكَّةِ أَحْمَدَ بن حَنْبَل، وَيَعْلَمُ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَسْرُ عِظَامِ الْمَوْتَى، ثُمَّ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلاً لِذَلِكَ التَّصَدُّرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولِ: ادْفِنُونِي إِلى جَانِب مَسْجِدِي ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَصِير بَعْدَ مَوْتِهِ مَزُورًا كَمَعْرُوف الْكَرْخِي.

وَهَذِهِ خِلَّةٌ مُهْلِكَة ولا يعلمون. قال النبي ?: «مَن ظن أنه خير من غيره فقد تكبر» وَقَلَّ مَنْ رَأَيْتُ إلا وهو يَرى نفسه.

والعجبُ كُلَّ العجبِ مِمَّنْ يَرى نَفْسَه، أتراه بماذا؟ إن كان بالعلم فقد سَبَقَهُ الْعُلماء، وإن كان بالتعبد فقد سَبَقه العبَّاد، أو بالمال فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلةً دِينيةً. فإن قال: قد عرفتُ ما لم يعرف غيري من العلم في زمني فما عليَّ مِمَّن تقدم.

ص: 145

قيل له: ما نأمرك يا حافظ القرآن أن ترى نفسك في الْحِفْظِ كَمَنْ يَحْفَظُ النِّصف، ولا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي، إنما نَحْذَرُ عليك أن تَرى نفسَك خيرًا مِن ذَلِكَ الشخص المؤمن وإن قلَّ علمه، فإن الخيريةَ بالمعاني لا بصورة العِلم والعبادة. ومَن تلمح خصالَ نفسِه وذُنُوبَها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير.

شِعْرًا:

يَا صِحَاحَ الأَجْسَادِ كَيْفَ بَطَلْتُمْ

لا لِعُذْرٍ عَنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ

لَوْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْبَطَالَةَ تُجْدِي

حَسْرَةً فِي مَعَادِكم وَالْمَآلِ

لَتَبَادَرْتُمْ إِلى مَا يَقِيكُمْ

مِنْ جَحِيمٍ فِي بَعْثِكم وَنَكَالِ

إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ غُرُورٌ

لا أَبَدًا تُطْمِعُ الْوَرَى فِي الْمُحَالِ

ج

كَيْفَ يَهْنِيكموا الْقَرَارُ وَأَنْتُمْ

بَعْدَ تَمْهِيدِكُم عَلَى الارْتِحَالِ

كَيْفَ يَهْنِيكموا الْقَرَارُ وَأَنْتُمْ

بَعْدَ تَمْهِيدِكُم عَلَى الارْتِحَالِ

الْهُدَى وَاضِحٌ فَلا تَعْدِلُوا عَنْ

ـهُ وَلا تَسْلُكوا سَبْلَ الضَّلالِ

وَأَنِيبُوا قَبْلَ الْمَمَاتِ وَتُوبُوا

تَسْلَمُوا فِي غَدٍ مِنَ الأَهْوَالِ

اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقُبُولِ وَالإِجَابَةِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِنْ الْمَخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ وَلا تُؤَاخِذْنَا بِجَرَائِمَنَا وَمَا وَقَعَ مِنَّا مِن الْخَطَأْ وَالنِّسْيَانِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

غزوة حنين

حنين واد قربَ ذي المجاز بينه وبين مكة ثلاث ليال قربَ الطائف وتُسَمَّى غزوة أوطاس سُمِّيتِ الغزوة باسم المكانين.

لم ينقص شهر على مغادرة النبي ? للمدينة، حتى ترامت إليه الأخبار أن قبيلة هوزان النازلة شرق مكة، تحشد رجالها، وتستعد لهجوم مفاجئ على المسلمين.

ص: 146

وذلك لقلقها المتزايد من زيادة عدد المسلمين لا سيما بعد توقيع صلح الحديبية، وقد كانوا يعلمون - من قبل فتح مكة بزمن طويل - على إتارة مختلف قبائل العرب ضد الإسلام، أما وقد فتحت مكة، فقد أصبح لزامًا عليهم في رأيهم أن يوجهوا إلى الإسلام ضربة قاتلة، قبل أن يستفحل أمره، ويصبح من المحال القضاء عليه.

وهم رجال حرب بطبيعتهم، فما كانوا يحتاجون لأكثر من أيام معدودات لحشد جيش كبير. ترامت إلى النبي ? أخبارها، فأوفد من يتبين له الأمر، وعاد الرسول يؤيد الخبر فأمر النبي ? على التو - أي على الفور - بتجهيز جيش قوي لسحق هوزان.

وسرعان ما إلتف عشرة ألاف مقاتل ساروا وعلى رأسهم النبي ? إلى وادي حنين حيث احتشدت جنود هوزان.

وقد أمدت مكة المسلمين بكميات وافرة من السلاح والعتاد بجانب الألفين من المقاتلين.

وكانت هوزان حاذقة في الرماية بالسهام والنبال، يضاف إلى هذه أنها احتلت المراكز الممتازة كلها وقد وزعت زهرة رماتها فوق التلال والمرتفعات، واضطر المسلمون إلى النزول بالمراكز غير الملائمة، فكانت السهام تنزل عليهم من كل صوب وحدب أشبه بالمطر.

بينما تقدمت ساقة هوزان لمهاجمة قلب جيش المسلمين، والتقى الجمعان وجهًا لوجه، وكانت طليعة المسلمين تحت إمرة خالد بن الوليد وهي مكونه من المكيين وفيهم غير المسلمين. فكانوا أول من خاض غمار المعركة. ولكنهم لم يتحملوا عنف القتال المرير فتقهقروا، وأدى تقهقرهم إلى اضطراب النظام بين صفوف المسلمين، فارتدوا جميعًا في غير نظام، وتقهقرت فيالق المهاجرين والأنصار هي الأخرى، وبقي النبي ? ومعه عمه العباس في فئة قليلة من المقاتلين وحدهم في العراء عرضة لسهام المهاجمين المحتشدين.

رأى النبي جيش المسلمين يرتد فثبت في مركزه المحفوف بالخطر في رباطة جأش تدعوا إلى الإعجاب الشديد. كان العدو يتقدم في سرعة خاطفة، وكاد يكون بمفرده، ولكن

ص: 147

ذلك لم يؤثر فيه أي تأثير. ألم يكن في أمان ترعاه عناية الله العلي القدير! . نفس الشعور الذي لا يخونه، والثقة التي لا حد لها في معونة الله والإيمان بالنصر النهائي لقضيته.

بقي وحده في الميدان وعاصفة العدو تدوي من حوله، ونادى بأعلى صوته:«أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» وصرخ العباس بصوته الجهورى: (يا معشر الأنصاري الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة. إن محمدًا حي فهلموا) وكرر العباس النداء حتى تجاوبت في كل جنبات الوادي أصداؤه.

وأجاب المسلمون من كل جانب: (لبيك! لبيك!) وعادت جموعهم تلتئم من جديد. وترجل نفر منهم عن أفراسهم وجمالهم وشدوا على العدو بعنف

وجرأة، فلم يستطع العدو الثبات في وجههم وأخذ فريق منهم في الفرار، وبقى نفر آخر يقاوم وقتًا ما، ولكن عندما سقط حامل اللواء، ولوا جميعًا الأدبار.

وعندما اعتزمت هوزان الخروج للقتال أمر كبيرها مالك - وهو فتى متهور في الثلاثين من عمره - أن يخرج النساء والأطفال مع الجيش، ظنًا أن وجود هؤلاء يكون مشجعًا ومثيرًا لعواطف رجاله، وحاثًا لهم، إن دارة الدائرة، على أن لا يتقهقروا ويولوا أعقابهم، ولكن لما أزفت الساعة الرهيبة تركوا وراءهم كل شيء: النساء، والأطفال، والغنم، فوقع في يد المسلمين أربعةٌ وعشرون رأس من الغنم، وأربعة آلاف أوقيةٍ من الفضة، غير ستة آلاف أسير.

وبعد أن وضع المسلمون غنائمهم في مكان حريز، أخذوا في السير للحاق بعدوهم المتقهقر، وقد احتمى فريق منهم في قلعتهم في أوطاس، فأوفد إليهم النبي ? سرية من المسلمين لتشتيتهم، بينما احتمت ساقتهم بأسوار الطائف المحصنة تحصينًا متينًا مسلحًا، كانوا رجال حرب محنكين خبيرين بالأسلحة الحديثة كالمنجنيق، وكانوا قد اختزنوا مئونة عام كامل داخل الأسوار، وأقاموا عليها حراسة وفيرة العدد، ووزعوا حامياتها حول أسوار المدينة.

ص: 148

فخف النبي ? إلى حصونهم وضرب الحصار عليها، وقد استعان المسلمون بالأسلحة الحديثة التي أمددتهم بها بعض القبائل الأخرى، وثقل الحصار عليهم جميعًا فجمع النبي ? أصحابه للمشورة، واقترح أحد الشيوخ المحنكين تركهم وشأنهم فقد عاد الذئب إلى جحره وليس من الهين اصطياده، خصوصًا وأن المسلمين ما خرجوا إلا لرد العدوان، وها هو العدو أعجز من أن يضربهم، فأمر النبي برفع الحصار إذا لم يكن للمسلمين من هدف سوى إبعاد الخطر، وقد كان.

وفي طريق عودتهم طلب بعضهم من النبي في نفس المكان الذي قذف فيه بالحجارة من قبل، أن يستنزل غضب الله على الأعداء. ولكنه بدلاً من أن يلعنهم ويستنزل غضب ربه، أخذ يصلي ويتضرع من أجلهم، ويبتهل إلى الله أن يهدي ثقيفًا إلى الإسلام، وأن تنضم إلى لواء النبي ?. وقبل الله دعاءه، فلم ينقض وقت طويل حتى دخل الجميع في دين الله أفواجًا، طوعًا ومن تلقاء أنفسهم. انتهى.

شعرًا:

أَسُيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفٌ

لَهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ قَلْبٌ مُخَالِفُ

قَدِيمًا عَصَى عَمْدًا وَجَهْلاً وَغِرَّةً

وَلَمْ يَنْهَهُ قَلْبٌ مِنَ الله خَائِفُ

تَزِيدُ سِنُوهُ وَهُوَ يَزْدَادُ ضِلَّةً

فَهَا هُوَ فِي لَيْلِ الضَّلالَةِ عَاكِفُ

تَطَلَّعُ صُبْحُ الشَّيْبِ وَالْقَلْبُ مُظْلِمٌ

فَمَا طَافَ فِيهِ مِنْ سَنَا الْحَقِّ طَائِفُ

ثَلاثُونَ عَامًا قَدْ تَوَلَّتْ كَأَنَّهَا

حُلُومُ مَنَامِ أَوْ بُرُوقٌ خَوَاطِفُ

وَجَاءَ الْمَشِيبُ الْمُنْذِرُ الْمَرْءَ أَنَّهُ

ص: 149

.. إِذَا ارْتَحَلَتْ عَنْهُ الشَّبِيبَةْ تَألِفُ

فَيَا أَيَّهُا الْمَغْرُورُ قَدْ أَدْبَرَ الصِّبَا

وَنَادَاكَ مِنْ سِنِّ الْكُهُولَةِ هَاتِفُ

فَهَلْ أَرَّقَ الطَّرْفَ الزَّمَانُ الذِي مَضَى

وَأَبْكَاهُ ذَنْبٌ قَدْ تَقَدَّمَ سَالِفُ

فَخُذْ بِالدُّمُوعِ الْحُمْرِ حُزْنًا وَحَسْرَةً

فَدَمْعُكَ يُنْبِي أَنَّ قَلْبَكَ آسِفُ

نَسْأَلُ أَنْ يُوفِّقَنَا لِتَدبُّرِ آيَاتِهِ وَفَهْمِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ? وَالْعَمَلِ بِهِمَا وَأَنْ يَرْزُقْنَا الانْتِفَاعَ بِمُرُورِ الزَّمَنِ عَلَى خَيْرِ وَجْهٍ إِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ هَذِهِ السِّنَةِ وَوَفِّقْنَا لإتِّبَاعِ ذَوِي النُّفُوسِ الْمُحْسِنَةْ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللَّهُمَّ وَآتِنَا أَفْضَلَ مَا تُؤْتِي عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ.

اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجُوهَنَا عَنْ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وَجُوُهَنَا عَنْ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ. اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ عَلَى هَوَىً وَهُوَ يَظُنَّ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَرُدَّهُ إِلى الْحَقِّ حَتَّى لا يَظِلَّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ. اللَّهُمَّ لا تَشْغَلْ قُلُوبَنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ وَلا تَجْعَلْنَا فِي رِزْقِكَ خَولاً لِغَيْرِكَ وَلا تَمْنَعْنَا خَيْرَ مَا عِنْدَكَ بِشَرِّ مَا عِنْدَنَا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

صفات المنافقين للإمام ابن القيم

(فَصْلٌ)

وَأَمَّا النِّفَاقُ: فَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَالْبَاطِنُ الذِي يَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ، وَهُوَ لا يَشْعُرُ. فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ عَلَى النَّاسِ وَكَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُصْلِحٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ.

ص: 150

وَهُوَ نَوْعَانِ: أَكْبَرٌ، وَأَصْغَرٌ. فَالأَكْبَرُ: يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ فِي دَرْكِهَا الأَسْفَلِ وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ لِلْمُسْلِمِينَ إِيمَانَهُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُنْسَلِخٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّه مُكَذِّبٌ بِهِ. لا يُؤْمِنُ بَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِكَلامٍ أَنْزَلَهُ عَلَى بَشَرٍ جَعَلَهُ رَسُولاً لِلنَّاسِ، يَهْدِيهِمْ بِإِذْنِهِ، وَيُنْذِرُهمْ بَأْسَهُ، وَيُخَوِّفُهم عِقَابَهُ.

وَقَدْ هَتَكَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَسْتَارَ الْمُنَافِقِينَ وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ فِي الْقُرْآنِ،

وَجَلَّى لِعِباَدِهِ أُمُورَهُمْ لِيَكُونُوا مِنْهَا وَمِنْ أَهْلِهَا عَلَى حَذَرٍ، وَذَكَرَ طَوَائِفَ الْعَالَمِ الثَّلاثَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفَّارَ، وَالْمُنَافِقِينَ، فَذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَرْبَعَ آيَاتٍ، وَفِي الْكُفَّارِ آيتَيْنِ، وَفِي الْمُنَافِقِينَ ثَلاثَ عَشْرَةَ آيَةِ لِكَثْرَتِهِم وَعُمُومِ الابْتِلاءِ بِهِمْ، وَشِدَّةِ فِتْنَتِهم عَلَى الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ بَلَيَّة الإِسْلام بِهِم شَدِيدَةٌ جِدًّا، لأَنَّهُمْ مَنْسُوبُونَ إِلَيْهِ، وَإِلى نُصْرَتِهِ وَمُوَالاتِهِ، وَهُمْ أَعْدَاؤُه فِي الْحَقِيقَةِ، يُخْرِجُونَ عَدَاوَتَهُ فِي كُلِّ قَالَبٍ، يَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهُ عِلْمٌ وَإِصْلاحٌ وَهُو غَايَةُ الْجَهْلِ وَالإِفْسَادِ.

فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ مَعْقَلٍ للإِسْلامِ قَدْ هَدَمُوهُ!؟ وَكَمْ مِنْ حِصْنٍ لَهُ قَدْ قَلَعُوا أَسَاسَهُ وَخَرَّبُوه؟! وَكَمْ مِنْ عَلَمٍ لَهُ قَدْ طَمَسُوهُ؟! وَكَمْ مِنْ لِوَاءٍ لَهُ مَرْفُوع قَدْ وَضَعُوه؟! وَكَمْ ضَرَبُوا بِمَعَاوِلِ الشَّبَهِ فِي أُصُولِ غِرَاسِهِ لِيَقْلَعُوهَا؟! وَكَمْ عَمّوا عُيُونَ مَوَارِدِه بِآرَائِهِمْ لِيَدْفِنُوهَا وَيَقْطَعُوهَا؟!

فَلا يَزَالُ الإِسْلامُ وَأَهْلُه مِنْهُمْ فِي مِحْنَةٍ وَبِلِيَّةِ وَلا يَزَالُ يَطْرُقُه مِنْ شُبَهِهِمْ سَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةً، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُصْلِحُونَ {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} ، {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .

اتَّفَقُوا عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَحْيِ، فَهُمْ عَلَى تَرْكِ الإِهْتِدَاءِ بِهِ مُجْتَمِعُونَ {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وَلأَجْلِ ذَلِكَ {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} .

دَرَسَتْ مَعَالِمُ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِهم فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا، وَدَثَرَتْ مَعَاهِدُه عَنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرونَهَا، وَأَفلَتْ كَوَاكِبَهُ النَّيِّرَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يُحْيَوْنَها

ص: 151

وَكَسَفَتْ شَمْسَهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ ظُلْمِ آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا، لَمْ يَقْبَلُوا هُدَى اللهِ الذِي أرسَلَ بِهِ رَسُولَهُ. وَلَمْ يَرْفَعُوا بِهِ رَأْسًا، وَلَمْ يَرَوْا بالإعْرَاضِ عَنْهُ إِلى آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ بَأْسًا، خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْي عَنْ سَلْطَنَةِ الْحَقِيقَةِ، وَعَزَلُوهَا عَنْ وَلايَةِ الْيَقِينِ وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّأْوِيلاتِ الْبَاطِلَةِ، فَلا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْهُمْ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٌ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ لِئَامٍ، فَقَابَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَنْبَغِي لَهَا مِنْ الْقُبُولِ وَالإِكْرَامِ، وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ، وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي الصُّدُورِ مِنْهَا وَالأَعْجَازِ، وَقَالُوا: مَالَكِ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ - وَإِنْ كَانَ لا بُدَّ - فَعَلى سَبِيلِ الاجْتِيَازِ، أَعَدُّوا لِدَفْعِهَا أَصْنَافَ الْعُدَدِ وَضُرُوبَ الْقَوَانِينِ، وَقَالُوا - لَمَّا حَلَّتْ بِسَاحَتِهِمْ - مَا لَنَا وَلِظَوَاهِرَ لَفْظِيَّةٍ لا تُفِيدُنَا شَيْئًا مِنْ الْيَقِين، وَعَوَامُّهم قَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ خَلْفُنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينِ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَأَقْوَمُ بطرَائِق الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِين، وَأُولئِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ السَّذَاجَةُ وَسَلامَةُ الصُّدُورِ وَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِتَمْهِيدِ قَوَاعِدِ النَّظَرِ، وَلَكِنْ صَرَفُوا هَمَّهُمْ إِلى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، فَطَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرينَ: أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَطَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ: أَجْهَلُ، لَكِنَّهَا أَسْلَمُ.

أَنْزَلُوا نُصُوصَ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ وَفِي الْخُطْبَةِ فَوْقَ الْمَنَابِرِ مَرْفُوعٌ، وَالْحُكْمُ النَّافِذُ لِغَيْرِهِ، فَحُكْمُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلا مَسْمُوعٍ، لَبِسُوا ثِيَابَ أَهْلِ الإِيمَانِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْخُسْرَانِ، وَالْغِلِّ وَالْكُفْرَانِ، فَالظَّوَاهِرُ ظَوَاهِرُ الأَنْصَارِ، وَالْبَوَاطِنُ قَدْ تَحَيَّزَتْ إِلى الْكُفَّارِ، فَأَلْسِنَتُهُمْ ألْسِنَةُ الْمُسَالِمِينَ، وَقُلُوبُهُم قُلُوبُ الْمُحَارِبِين، وَيَقُولُونَ:{آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} .

ص: 152

رَأْسُ مَالِهِم الْخَدِيعَةُ وَالْمَكْرُ، وَبِضَاعَتُهُم الْكَذِبُ وَالْخَتْرُ، وَعِنْدَهِم الْعَقْلُ الْمَعِيشِي: أَنَّ الْفَرِيقَيْن عَنْهُمْ رَاضُونَ، وَهُمْ بَيْنَهُمْ آمِنُون {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} .

قَدْ أَنْهَكَتْ أَمْرَاضُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ قُلُوبَهُمْ فَأَهْلَكَتْهَا وَغَلَبَتِ الْقُصُورُ السَّيِّئَةُ عَلَى إِرَادَاتِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ فَأَفْسَدَتْهَا، فَفَسَادُهُمْ قَدْ تَرَامَى إِلى الْهَلاكِ، فَعَجِزَ عَنْهُ الأَطِبَّاءُ الْعَارِفُونَ {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .

مَنْ عَلِقَتْ مَخَالِبُ شُكُوكِهِمْ بَأَدِيمِ إِيمَانِهِ مَزَّقَتْهُ كُلَّ تَمْزِيقٍ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَرَرُ فِتْنَتِهِمْ بِقَلْبِهِ أَلْقَاهُ فِي عَذَابِ الْحَرِيقِ، وَمَنْ دَخَلَتْ شُبُهَاتُ تَلْبِيسِهِمْ فِي مَسَامِعِه حَالَتْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ، فَفَسَادُهُمْ فِي الأَرْضِ كَثِير وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَنْهُ غَافِلُون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} .

الْمُتَمَسِّكُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنةِ صَاحِبُ ظَوَاهِرٍ، مَبْخُوسُ حَظٍّ مِنْ الْمَعْقُولِ، وَالدَّائِرُ مَعَ النُّصُوصِ عِنْدَهُمَ كَحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا فَهْمُه فِي حَمْلِ الْمَنْقُولِ وَبِضَاعَةُ تَاجِرِ الْوَحْيِ لَدَيْهِمْ كَاسِدَةٌ، وَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ بِمَقْبُولِ، وَأَهْلُ الأَتْبَاعِ عِنْدَهُم سُفَهَاءُ فَهُمْ فِي خَلَوَاتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمِ بِهِمْ يَتَطَيَّرُونَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لَاّ يَعْلَمُونَ} . قَالَ الشَّاعِرُ:(رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتِ) .

لِكُلِّ مِنْهُمْ وَجْهَانِ: وَجْهٌ يَلْقَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَجْهٌ يَنْقَلِبُ بِهِ إِلى إِخْوَانِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ، وَلَهُ لِسَانَانِ: أَحَدُهُمَا يَقْلِبُه بِظَاهِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالآخَرُ يترجمُ بِهِ عَنْ سِرِّهِ الْمَكْنُونِ {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .

ص: 153

قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِهْزَاءً بِأَهْلِهِمَا وَاسْتِحْقَارًا، وَأَبَوا أَنْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْوَحْيَيْنِ فَرَحًا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ الذِي لا يَنْفَعُ الاسْتِكْثَارُ مِنْهُ إِلا شَرًّا وَاسْتِكْبَارًا فَتَرَاهُمْ أَبَدًا بِالْمُتَمَسِّكِينَ بِصَرِيح الْوَحْيِ يَسْتَهْزِئُونَ {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .

خَرَجُوا فِي طَلَبِ التِّجَارَةِ الْبَائِرَةِ فِي بِحَارِ الظُّلُمَاتِ، فَرَكِبُوا مَرَاكِبَ الشُّبَه وَالشُّكُوكِ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجِ الْخَيَالاتِ، فَلَعِبَتْ بِسُفُنِهِمْ الرِّيحُ الْعَاصِفُ؛ فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ سُفن الْهَالِكِينَ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} .

أَضَاءَتْ لَهُمْ نَارُ الإِيمَانِ فَأَبْصِرُوا فِي ضَوْئِهَا مَوَاقِعَ الْهُدَى وَالضَّلالِ ثُمَّ طَفِئَ ذَلِكَ النُّورِ، وَبَقِيتْ نَارًا تَتَأَجَّجُ ذَاتَ لَهَبٍ وَاشْتِعَال، فَهُمْ بِتَلْكَ النَّارِ مُعَذبُون، وَفِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ يَعْمَهُونَ {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَاّ يُبْصِرُونَ} .

أَسْمَاعُ قُلُوبِهم قَدْ أثْقَلَهَا الْوَقْرُ، فَهِيَ لا تَسْمَعُ مُنَادِي الإِيمَان، وَعُيونُ بَصَائِرِهم عليها غِشَاوَةُ الْعَمَى، فَهِي لا تُبْصِرُ حَقَائِقُ الْقُرْآنِ، وَأَلْسِنَتُهم بِهَا خَرَسٌ عَنْ الْحَقِّ، فَهُمْ بِهِ لا يَنْطِقُونَ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} .

صَابَ عَلَيْهِم صَيِّبُ الْوَحْي، وَفِيهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالأَرْوَاحِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ إِلا رَعْد التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّكَالِيفِ الَّتِي وُظِّفَتْ عَلَيْهم فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، فَجَعَلُوا أَصَابِعَهُم فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوا ثِيَابَهُمْ، وَجَدُّوا فِي الْهَرَبِ، وَالطَّلَبُ فِي آثَارِهِمْ وَالصِّيَاحُ، فَنُودِي عَلَيْهِمْ عَلَى رُؤوسِ الأَشْهَادِ، وَكُشِفَتْ حَالُهمْ لِلْمُسْتَبْصِرينَ، وَضَربَ لَهُمْ مَثَلانِ بِحَسَب حَالِ

ص: 154

الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ: الْمُنَاظِرِينَ، وَالْمُقَلِّدِينَ، فَقِيلَ:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} .

ضَعُفَتْ أَبْصَارُ بَصَائِرِهِمْ عَنْ احْتِمَالِ مَا فِي الصَّيِّب مِنْ بَرُوقِ أَنْوَارِهِ وَضِيَاءِ مَعَانِيهِ، وَعَجَزتْ أَسْمَاعُهُمْ عَنْ تَلَقِّي رُعُودِ وَعُودِهِ وَأَوَامِرهِ وَنَوَاهِيِهِ، فَقَامُوا عِنْدَ ذَلِكَ حَيَارَى فِي أَوْدِيَةِ التِّيهِ، لا يَنْتَفِعُ بِسَمْعِهِ السَّامِعُ، وَلا يَهْتَدِي بِبَصَرِهِ الْبَصِيرُ {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} واللهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ

لَهُمْ عَلامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا مُبَيِّنَةٌ فِي السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ، بَادِيَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا مِنْ أَهْلِ بَصَائِرِ الإِيمَانِ، قَامَ بِهِمْ - وَاللهِ - الرِّيَاءُ، وَهُوَ أَقْبَحُ مَقَامٍ قَامَهُ الإِنْسَانُ، وَقَعَدَ بِهِمْ الْكَسَلُ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَوَامِرِ الرَّحْمَنِ، فَأَصْبَحَ الإِخْلاُص عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ ثَقِيلاً {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَاّ قَلِيلاً} .

أَحَدُهْم كَالشَّاةِ الْعَائِرَة بَيْنَ الْغَنمَينِ، تَيْعَرُ إِلى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلى هَذِهِ مَرَّةً وَلا تَسْتَقِرُّ مَعَ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ، فَهُمْ وَاقِفُونَ بَيْنَ الْجَمْعَين، يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْوَى وَأَعَزُّ قَبِيلاً {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاء وَلَا إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} .

يَتَرَبَّصُونَ الدَّوَائِرَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ. فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَتْحٌ مِنْ اللهِ قَالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَأَقْسَمُوا عَلَى ذَلِكَ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لأَعْدَاءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ النُّصْرَةِ نَصِيبٌ، قَالُوا: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ عَقْدَ الإِخَاءِ بَيْنَنَا مُحْكَمٌ، وَأَنَّ النَّسَبَ بَيْنَنَا قَرِيبٌ؟ فَيَا مَنْ يُرِيدُ مَعْرِفَتَهُمْ، خُذْ صِفَاتِهِمْ

ص: 155

مِنْ كَلامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فلا تَحْتَاجُ بَعْدَهُ دَلِيلاً:{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .

يُعْجبُ السَّامِعَ قَوْلُ أَحَدِهِمْ لِحَلاوَتِهِ وَلِيْنِه، وَيُشْهِدُ اللهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ كَذبِهِ وَمَيْنِه، فَتَرَاهُ عِنْدَ الْحَقِّ نَائِمًا، وَفِي الْبَاطِل عَلَى الأَقْدَامِ فَخُذْ وَصْفَهُمْ مِنْ قَوْلِ الْقُدُّوسِ السَّلامِ:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} .

أَوَامِرُهُم الَّتِي يَأْمُرونَ بِهَا أَتْبَاعَهُم مُتَضَمِّنَةٌ لِفَسَادِ الْبِلادِ والْعِبَادِ، وَنَوَاهِيهم عَمَّا فِيهِ صَلاحُهم فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَأَحَدُهُمْ تَلْقَاهُ بَيْنَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الصَّلاةِ وَالذِّكْرِ وَالزُّهْدِ وَالاجْتِهَادِ {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} .

فَهُم جِنْسُ بَعْضُه يُشْبِهُ بَعْضَا، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلُوه، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ بَعْدَ أَنْ يَتْرُكُوه، وَيَبْخَلُون بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ أَنْ يُنْفِقُوهُ، كَمْ ذَكَّرَهُمْ اللهُ بِنِعمِهِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَنَسُوهُ؟ وَكَمْ كَشَفَ حَالَهُم لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَجْتَنِبُوه؟ فَاسْمَعُوا أَيُّهَا الْمُؤمِنِينَ:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .

إِنْ حَاكَمْتَهُم إِلى صَرِيحِ الْوَحْي وَجَدْتَهُم عَنْهُ نَافِرِينَ، وَإِنْ دَعَوْتَهُمْ إِلى حُكْمِ كِتَابِ اللهِ وَسُنّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم رَأَيْتَهُمْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَلَوْ شَهِدْتَ حَقَائِقَهُم لَرَأَيْتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْهُدَى أَمَدًا بَعِيدًا، وَرَأَيْتَهَا مُعْرِضَةً عَنْ

ص: 156

الْوَحْي إِعْرَاضًا شَدِيدًا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} .

فَكَيْفَ لَهُمْ بِالْفَلاحِ وَالْهُدَى! بَعْدَ مَا أُصِيبُوا فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَأَنَّى لَهُمْ التَّخَلُّصُ مِنْ الضَّلالِ وَالرَّدَى؟ وَقَدْ اشْتَرَوا الْكُفْرَ بِإيمَانِهِم؟ فَمَا أَخْسَرَ تِجَارَتَهِمْ الْبَائِرَةِ! وَقَدْ اسْتَبْدَلُوا بِالرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ حَرِيقًا {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} .

نَشَبَ زَقُّومُ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ. فَلا يُجِيدُونَ لَهُ مَسِيغَا {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} .

تَبًّا لَهُمْ، مَا أَبْعَدَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ! وَمَا أَكْذَبَ دَعْوَاهُمْ لِلتَّحْقِيقِ وَالْعُرْفَانِ، فَالْقَوْمُ فِي شَأْنٍ وَإِتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي شَأْنٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.

فَصْلٌ

لَقَدْ أَقْسَمِ اللهُ جل جلاله فِي كِتَابِهِ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ قَسَمًا عَظِيمًا يَعْرِفُ مَضْمُونَه أُولُوا الْبَصَائِر، فَقُلُوبُهم مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ إِجْلالاً لَهُ وَتَعْظِيمًا، فَقَالَ تَعَالى تَحْذِيرًا لأَوْلِيَائِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى حَالِ هَؤُلاءِ وَتَفْهِيمًا:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .

تَسْبِقُ يَمِينُ أَحَدِهم كَلامَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ قُلُوبَ أَهْلِ الإِيمَانِ لا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، فَيَتَبَرَّأَ بِيَمِينِهِ مِنْ سُوءِ الظَّنَّ بِهِ وَكَشْفِ مَا لَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الرِّيبَةِ يَكْذِبُونَ، وَيَحْلِفُونَ لِيَحْسَبَ السَّامِعُ أَنَّهُمُ صَادِقُونَ قَدْ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

ص: 157

قَالَ الشَّاعِر:

أَمْسَى النِّفَاقُ دُرُوعًا يَسْتَجِنُّ بِهَا

عَنِ الأَذَى وَيُقَوِّي سَرْدَهَا الْحَلِفُ

تَبًّا لَهُمْ بَرَزُوا إِلى الْبَيْدَاءِ مَعَ رَكْبِ الإِيمَانِ، فَلَمَّا رَأَوْا طُولَ الطَّرِيقِ وَبُعْدَ الشُّقَّةِ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَرَجَعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِطَيِّبِ الْعَيْشِ وَلَذَّةِ الْمَنَامِ فِي دِيَارِهِمْ، فَمَا مَتَّعُوا بِهِ وَلا بِتِلْكَ الْهَجْعَةِ انْتَفَعُوا، فَمَا هُو إِلا أَنْ صَاحَ بِهِمْ الصَّائِحُ فَقَامُوا عَنْ مَوَائِدِ أَطْعِمَتِهِمْ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ مَا شَبِعُوا، فَكَيْفَ حَالُهم عِنْدَ اللِّقَاءِ؟ وَقَدْ عَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا، وَعَمُوا بَعْدَ مَا عَايَنُوا الْحَقَّ وَأَبْصَرُوا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} .

أَحْسَنُ النَّاسِ أَجْسَامًا وَأَخْلَبُهم لِسَانًا وَأَلْطَفَهُمْ بَيَانًا وَأَخْبَثَهُمْ قُلُوبًا وَأَضْعَفَهُمْ جَنَانًا، فَهُمْ كَالْخَشَبِ الْمُسَنَّدَةِ الَّتِي لا ثَمَرَ لَهَا، قَدْ قُلِعَتْ مِنْ مَغَارِسِهَا فَتَسَانَدَتْ إِلى حَائِطٍ يُقِيمُهَا لِئلا يَطَأهَا السَّالِكُونَ {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} !

يُؤخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا الأَوَّلِ إِلى شَرْقِ الْمَوْتَى، فَالصُّبْحُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْعَصْرُ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَيَنْقُرونَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، إِذْ هِيَ صَلاةُ الأَبْدَانِ لا صَلاةُ الْقُلُوبِ، وَيَلْتَفِتُونَ فِيهَا الْتِفَاتَةِ الثَّعْلَبِ، إِذْ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مَطْرُودٌ مَطْلُوبٌ، وَلا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَةِ، بَلْ إِنْ صَلَّى أَحَدهُم فَفِي الْبَيْتِ أَوْ الدُّكَّانِ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ لِلْخَلْقِ، وَتِلْكَ مُعَامَلَتُهم لِلْخَالِق، فَخُذْ وَصْفَهُم مِنْ أَوَّلِ (الْمُطَفِّفِينَ) وَآخِر (وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ)

ص: 158

فَلا يُنَبِّئُكَ عَنْ أَوْصَافِهِمْ مِثْلُ خَبِيرٍ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .

فَمَا أَكْثَرَهُمْ! وَهُمْ الأَقَلُّونَ، وَمَا أَجْبَرَهُم! وَهُمْ الأَذَلُّونَ، وَمَا أَجَهَلهُم! وَهُمْ الْمُتَعَالِمُونَ، وَمَا أَغَرَّهُمْ بِاللهِ! إِذْ هُمْ بِعَظَمَتِهِ جَاهِلُونَ {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ، وَمَا هُم مِّنكُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} .

إِنْ أَصَابَ أَهْلُ الْكِتَاب والسُّنَّةِ عَافِيَةٌ وَنَصْرٌ وَظُهُورٌ سَاءَهُمْ ذَلِكَ وَغَمَّهُمْ وَإِنْ أَصَابَهُمْ ابْتِلاءٌ مِنْ اللهِ وَامْتِحَانُ يُمَحِّصُ بِهِ ذُنُوبَهُمْ وَيُكَفِّرُ بِهِ عِنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَفْرَحَهُمْ بِذَلِكَ وَسَرَّهُمْ وَهَذَا يُحَقِّقُ إِرْثَهُمْ وَإِرْثَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَلا يَسْتَوِي مَنْ مَوْرُوثُه الرَّسُولُ وَمَنْ مَوْرُوثهُم الْمُنَافِقُونَ {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ، وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا، هُوَ مَوْلَانَا، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ السَّلَفَيْن الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَالْحَقُّ لا يَنْدَفِعُ بِمُكَابَرَةِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالتَّخْلِيطِ:{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .

كَرِهَ اللهُ طَاعَاتِهِم لِخُبْثِ قُلُوبِهِمْ وَفَسَادِ نِيَّاتِهِمْ، فَثَبَّطَهُمْ عَنْهَا وَأَقْعَدَهُمْ، وَأَبْغَضَ قُرْبِهِمْ مِنْهُ وَجَوَارَهُ، لِمَيْلِهِمْ إِلى أَعْدَائِهِ، فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ وَأَبْعَدَهُمْ، وَأَعْرَضُوا عَنْ وَحْيِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَأَشْقَاهُمْ وَمَا أَسْعَدَهُمْ، وَحَكمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ عَدْلٍ لا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي الْفَلاحِ بَعْدِهِ إِلا أَنْ يَكُونُوا مِنْ التَّائِبِينَ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} . ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَتَهُ فِي تَثْبِيطِهم

ص: 159

وَإِقْعَادِهِمْ، وَطَرْدِهم عَنْ بَابِهِ وَإِبْعَادِهِمْ، وَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِهِ بِأَوْلِيَائِهِ وَإِسْعَادِهِمْ، فَقَالَ وُهَوُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ:{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .

ثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ النُّصُوصُ فَكَرِهُوهَا، وَأَعْيَاهُمْ حَمْلُهَا فَأَلْقُوهَا عَنْ أَكْتَافِهِمْ وَوَضَعُوهَا، وَتَفَلَتَتْ مِنْهُمْ السُّنَنُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَأَهْمَلُوهَا، وَصَالَتْ عَلَيْهِمْ نُصُوصُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةِ فَوَضَعُوا لَهَا قَوَانِينَ رَدُّوهَا بِهَا وَدَفَعُوهَا، وَلَقَدْ هَتَكَ اللهُ أَسْتَارَهُم، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُم، وَضَرَبَ لِعَبَادِهِ أَمْثَالَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كُلَّمَا انْقَرَضَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ خَلفَهم أَمْثَالُهُمْ، فَذَكَرَ أَوْصَافِهمْ لأَوْلِيَائِهِ لِيَكُونُوا مِنْهَا عَلَى حَذَرِ، وَبَيْنَهَا لَهُمْ فَقَالَ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم) .

فَصْلٌ: هَذَا شَأْنُ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، فَرَآهَا حَائِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِدْعَتِهِ وَهَوَاهُ، فَهِيَ فِي وَجْهِهِ. كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، فَبَاعَهَا بِمُحَصَّل مِنْ الْكَلامِ الْبَاطِلِ، وَاسْتَبْدَلَ مِنْهَا بِالْفُصُوصِ فَأَعْقَبَهم ذَلِكَ أَنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ إِعْلانَهُمْ وَإِسْرَارَهُمْ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .

أَسَرُّوا سَرَائِرَ النِّفَاقِ، فَأَظْهَرَهَا اللهُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوُجُوه مِنْهُمْ وَفَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَوَسَمَهُمْ لأَجْلِهَا بِسِيْمَاءِ لا يَخْفَوْنَ بِهَا عَلَى أَهْلَ الْبَصَائِرَ وَالإِيمَانِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذْ كَتَمُوا كُفْرَهُمْ وَأَظْهَرُوا إِيمَانَهم رَاجُوا عَلَى الصَّيَارِفِ وَالنُّقَادِ،

ص: 160

كَيْفَ؟ وَالنَّاقِدُ الْبَصِيرُ قَدْ كَشَفَهَا لَكُمْ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} .

فَكَيْفَ إِذَا جُمِعُوا لِيَوْمِ التَّلاقِ، وَتَجَلَّى اللهُ جل جلاله لِلْعِبَادِ وَقَدْ كَشَفَ عَنْ سَاقٍ؟ وَدُعُوا إِلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .

أَمْ كَيْفَ بِهِمْ إِذَا حُشِرُوا إِلى جِسْرِ جَهَنَّمَ؟ وَهُوَ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنْ الْحُسَامِ، وَهُوَ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ، مُظْلِمٌ، لا يَقْطَعُه أَحَدٌ إِلا بِنُورٍ يُبْصِرُ بِهِ مَوَاطِئ الأَقْدَامِ، فَقُسِّمَتْ بَيْنَ النَّاسِ الأَنْوَارُ، وَهُمْ عَلَى قَدْرِ تَفَاوُتِهَا فِي الْمُرُورِ وَالذِّهَابِ، وَأَعْطُوا نُورًا ظَاهِرًا مَعْ أَهْلِ الإِسْلامِ، كَمَا كَانُوا بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارُ يَأْتُونَ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحِجِّ وَالصِّيَامِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْجَسْرَ عَصَفَتْ عَلَى أَنْوَارِهِمْ أَهْوِيَةُ النِّفَاقِ. فَأَطْفَأَتْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَصَابِيح فَوَقَفُوا حَيَارَى لا يَسْتَطِيعُونَ الْمُرُورَ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنُ أَهْلِ الإِيمَانِ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، وَلَكِنْ قَدْ حِيلَ بَيْنَ الْقَوْم وَبَيْنَ الْمَفَاتِيحِ، بَاطِنُه - الذِي يَلِي الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ الرَّحْمَةِ -، وَمَا يَلِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْعَذَابِ وَالنَّقِمَةُ، يُنَادُونَ مِنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ وَفْدِ الإِيمَانِ، وَمَشَاعِلُ الرَّكْبِ تَلُوحُ عَلَى بُعْدٍ كَالنُّجُومِ تَبْدُو لِنَاظِر الإِنْسَانِ {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} لِنَتَمَكَّنَ فِي هَذَا الْمَضِيقِ مِنْ الْعُبُورِ، فَقَدْ طَفَشَتْ أَنْوَارُنَا، وَلا جَوَاز الْيَوْمَ إِلا بِمِصْبَاح مِنْ النُّورِ {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} حَيْثُ قُسِّمَتْ الأَنْوَارِ، فَهَيْهَاتَ الْوُقُوفُ لأَحَدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمِضْمَارِ! كَيْفَ نَلْتَمِسُ الْوُقُوفَ فِي هَذَا الْمُضِيقِ؟ فَهَلْ يَلْوِي الْيَوْمِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فِي هَذَا الطَّرِيقِ؟ وَهَلْ يَلْتَفِتُ الْيَوْمَ رَفِيقٌ إِلى رَفِيقٍ؟ فَذَكَّرُوهُم

ص: 161

بِاجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُمْ وَصُحْبَتِهِمْ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، كَمَا يُذَكِّرُ الْغَريبُ صَاحِبَ الْوَطَنِ بِصُحْبَتِهِ فِي الأَسْفَارِ {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} ؟ نَصُومُ كَمَا تَصُومُونَ، وَنُصَلِّي كَمَا تُصَلُّونَ، وَنَقْرَأُ كَمَا تَقْرَءُونَ، وَنَتَصَدَّقُ كَمَا تُصَدِّقُونَ، وَنَحُجُّ كَمَا تَحُجُّونَ؟ فَمَا الذِي فَرَّقَ بَيْنَنَا الْيَوْمَ حَتَّى انْفَرَدْتُمْ دُونَنَا بِالْمُرُورِ؟ {قَالُوا بَلَى} وَلَكِنَّكُمْ كَانَتْ ظَوَاهِرُكُمْ مَعَنَا وَبَوَاطِنُكم مَعَ كُلِّ مُلْحِدٍ، وَكُلِّ ظَلُومٍ كَفُورٍ {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .

لا تَسْتَطِلْ أَوْصَافَ الْقَوْم، فَالْمَتْرُوكُ - وَاللهِ - أَكْثَرُ مِنْ الْمَذْكُورِ كَادَ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ كُلَّهُ فِي شَأْنِهِمْ، لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ وَفِي أَجْوَافِ الْقُبُورِ، فَلا خَلَتْ بِقَاعُ الأَرْضِ مِنْهُمْ لِئَلا يَسْتَوْحِشَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الطُّرَقاتِ، وَتَتَعَطَّلَ بِهِمْ أَسْبَابُ الْمَعَايِشِ، وَتَخَطَّفُهمْ الْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ فِي الْفَلَوَاتِ، سَمَعَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَهْلِكْ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ:(يَا ابن أَخِي، لَوْ هَلَكَ الْمُنَافِقِونُ لاسْتَوْحَشْتُم فِي طُرُقَاتِكُمْ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِ) .

تَاللهِ لَقَدْ قَطَعَ خَوْفُ النِّفَاقِ قُلُوبَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ لَعِلْمِهم بِدِقِّهِ وَجُلِّه، وَتَفَاصِيلِهِ وَجُمَلِهِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُم بِنُفُوسِهِمْ، حَتَّى خَشُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ لِحُذَيْفَةَ رضي الله عنهما:(يَا حُذَيْفَةِ، نَشَدْتُكَ بِاللهِ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ؟ قَالَ: لا، وَلا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ) . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ، وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ (مَا أَمِنَهُ إِلا مُنَافِقٌ، وَمَا خَافَهُ إِلا

ص: 162

مُؤْمِنٌ) وَلَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ، قِيلَ: وَمَا خُشُوعِ النِّفَاقِ؟ قَالَ: أَنْ يُرَى الْبَدَنُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ) .

تَاللهِ لَقَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُ الْقَوْمِ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَخَوْفُهُمْ مِنْ النِّفَاقِ شَدِيدٌ وَهَمُّهُمْ لِذَلِكَ ثَقِيلٌ، وَسِوَاهُمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلِ.

زَرْعُ النِّفَاقِ يَنْبُت عَلَى سَاقِيَتَيْنِ: سَاقِيَةُ الْكَذِبِ، وَسَاقِيَةُ الرِّيَاءِ وَمَخْرَجُهمَا مِنْ عَيْنَيْن: عَيْن ضَعْف الْبَصِيرَةِ، وَعَيْنَ ضَعْفِ الْعَزِيمَةِ، فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الأَرْكَانُ الأَرْبَعُ، اسْتَحْكَمَ نَبَاتُ النِّفَاقُ وَبُنْيَانُه، وَلَكِنَّه بِمَدَارِجِ السُّيُولِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَإِذَا شَاهَدُوا سَيْلَ الْحَقَائِق يَوْم تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَكُشِفَ المَسْتُورُ وُبُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ تَبَيَّنَ حِينَئِذٍ لِمَنْ كَانَتْ بِضَاعَتُهُ النِّفَاقُ، أَنَّ حَوَاصِلُه الَّتِي حَصَّلَهَا كَانَتْ كَالسَّرَابِ {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

قُلُوبُهُمْ عَنْ الْخَيْرَاتِ لاهِيَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ إِلَيْهَا سَاعِيَةٌ، وَالْفَاحِشَةُ فِي فَجَاجِهِمْ فَاشِيَةٌ، وَإِذَا سَمِعُوا الْحَقِّ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ قَاسِيَةٌ. وَإِذَا حَضَرُوا الْبَاطِلَ وَشَهدُوا الزُّورَ، انْفَتَحَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَتْ آذَانُهُمْ وَاعِيَةً.

فَهَذِهِ - وَاللهِ - أَمَارَاتُ النِّفَاقِ، فَاحْذَرْهَا أَيَّهَا الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بِكَ الْقَاضِيَةُ، إِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَفُوا، وَإِنْ وَعَدُوا أَخْلَفُوا وَإِنْ قَالُوا لَمْ يُنْصِفُوا، وَإِنْ دُعُوا إِلى الطَّاعَةِ وَقَفُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ

ص: 163