الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، وفي رواية:(فلما قعدت بين رجليها) قَالَتْ: اتق الله ولا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَاّ بِحَقِّهِ. فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا.
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا.
وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي. فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ.
فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئْ بِي!
فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ.
فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئاً.
اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ» . (متفق عليه) .
قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله
عَنَّ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ? يَقُولُ:
«إِنَّ ثَلَاثَةً من بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، أراد الِلَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكاً، فَأَتَى الأَبْرَصَ.
فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، ويذهب عنّي قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ.
فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، أُعْطِىَ لَوْناً حَسَناً.
فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الإِبِلُ - أَوْ قَالَ الْبَقَرُ -.
فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ.
فَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.
وَفأَتَى الأَقْرَعَ:
فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا، الذي قَذِرَنِى النَّاسُ.
فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عنه، وَأُعْطِىَ شَعَراً حَسَناً.
قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الْبَقَرُ.
فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلاً.
قَالَ: بَارَكُ الله لَكَ فِيهَا.
فأَتَى الأَعْمَى
فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ بَصَرِى، فَأُبْصِرُ النَّاسَ.
فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ.
قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الْغَنَمُ.
فَأَعْطَيُ شَاةً وَالِداً.
فَأُنْتِجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ
فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، قد تَقَطَّعَتْ بِه الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لي إِلَاّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ بَعِيراً أَتَبَلَّغُ فِي سَفَرِي.
فَقَالَ: كَأَنِّى أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيراً فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ !
فَقَالَ إنَّما وَرِثْتُ هذا المال كَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ.
فقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ هَذَا فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَعْمَى فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ.
فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ، اَتَقَطَّعَتْ بِه الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لي الْيَوْمَ إِلَاّ بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي؟
فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، ودع مَا شِئْتَ فَوَ اللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ عز وجل.
فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِي اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» متفق عليه.
قِيلَ إِنَّ مَلِكاً مِن الْمُلُوكِ كَانَ كَافِراً عَاتِياً مُتَكَبِّراً مُعْجَباً بِنَفْسِهِ حَدِيث السِّنِ مُسْتَحْكِمَ الْغَيْرَةِ وَكَانَ إِذَا رَكَبَ لَمْ يَرْفَعَ أَحَدُ صَوْتَهُ إِلا بِمَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
وَكَانَ لَهُ وَزِيرٌ مُؤْمِنُ بِاللهِ جَلَّ وَعَلا قَدْ أَدْرَكَ حَوَارِيَّ الْمَسِيح وَهُوَ يَكْتُم إِيمَانَهُ وَيَتَحَيّنُ وَقْتاً يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَلِكِ إِلى اللهِ جَلَّ وَعَلا.
فَرَكَبَ الْمَلِكُ يَوْماً فَسَمِعَ شَيْخاً) أَيْ قَدْ شَابَ رَافِعاً صَوْتَهُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ لِبَعْضِ أَعْوَانِهِ: خُذُوهُ فَلَمَّا أَخَذُ ذَلِكَ الشَّائِب الذي رَفَعَ صَوْتَهُ قَالَ: إِنَّ رَبِّي الله.
فَقَالَ الْوَزِيرُ خَلُّوا عَنْهُ فَخُلِّيَ عَنْهُ فَغَضِبَ الْمَلِكُ عَلَى الْوَزِير وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكَنُه الإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَسَكَتَ الْمَلِكُ لِيُوهِمَ النَّاسَ أَنَّ فِعْلَ الْوَزِيرَ كَانَ بَأَمْرِهِ.
فَلَمَّا عَادَ الْمَلِكُ إِلى قَصْرِهِ أَحْضَرَ الْوَزِيرَ وَقَالَ لَهُ: مَا الذِي دَعَاكَ إِلى مُنَاقَضَةِ أَمْرِي بِمَشْهَدٍ مِنْ عَبِيدِي.
فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنْ لمِ يَعْجَل الْمَلكُ عَلَيَّ أَرَيْتُهُ وَجْهَ نُصْحِي لَهُ وَشَفَقَتِي عَلَيْهِ فِيمَا أَتَيْتُهُ فَقَالَ الْمَلِكُ: أَرِنِي ذَلِكَ فَإِنِّي لا أَعْجَلُ عَلَيْكَ.
فَقَالَ الْوَزِيرُ أَسْاَلُ الْمَلكَ أَنْ يَخْتَبِئ فِي مَجْلِسه هَذَا خَلْفَ حِجَاب بِحَيْثُ أَنَّهُ لا يَرَى وَيَسْمَع مَا يَكُونُ مِنِّي فَقَعَدَ الْمَلِكُ لِذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ أَحْضَرَ قَوْساً جَيِّدَةً صَنَعَهَا لِلْمَلِكِ بَعْضُ خَدَمِِهِ وَكَتَبَ الصَّانِعُ اسْمَهُ عَلَيْهَا فَأَعْطَى الْقُوسَ غُلاماً لَهُ.
وَقَالَ لَهُ: إِنِّي سَأَحْضِرُ صَانِعَ هَذِهِ الْقَوْسِ فَإِذَا حَضَرَ وَحَادَثْتُهُ فَاقْرَأ أَنْتَ اسْمَ صَاحِبِهَا جَهْراً حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَكَ ثُمَّ اكْسُرْهَا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْكَ.
فَحَضَّرَ الْقَوْسَ وَفَعَلَ الْغُلامُ مَا أُمَرَهُ بِهِ الْوَزِيرُ فَلَمَّا كَسَرَ الْقَوْسَ لَمْ يَتَمَالَكْ صَانِعُ الْقَوْسِ أَنْ ضَرَبَ الْغُلامَ فَشَجَّهُ.
فَقَالَ الْوَزِيرُ أَتَضْرِبُ غُلامِي بِحَضْرَتِي؟ قَالَ: نَعَمْ لأَنَّهُ كَسَرَ الْقَوْسَ الَّتِي هِيَ صَنْعَتِي وَعَمَلِي وَهِيَ فِي نِهَايَةِ الْجَوْدَة وَالْحُسْنِ فَلأَيّ شَيْءٍ كَسَرَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا صَنْعَتِي.
فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: فَلَعَلَّهُ مَا يَعْلَمْ أَنَّها صَنْعَتَكَ؟ قَالَ: بَلَى إِنَّ الْقَوْسَ قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّهَا صَنْعَتِي.
قَالَ الْوَزِيرُ: أَرَأَيْتَ قَوْساً تُخْبِرُ قَالَ: نَعَمْ إِنَّ اسْمِي مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا وَقَدْ قَرَأَهُ وَأَنَا أَسْمَعُ ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ صَرَفَ الصَّانِعَ وَالْغُلام.
ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: قَدْ أَوْضَحْتُ نُصْحِي وَإِشْفَاقِي عَلَيْكَ وَذَلِكَ أَنَّكَ لَمَّا رَأَيْتَ الْبَطْشَ بالشَّيْخِ أَخْبَركَ أَنَّ الله رَبَّهُ فَخِفْتُ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّهَ أَنْ يَغْضَبَ لَهُ كَمَا غَضِبَ هَذَا الْقَوَّاسُ لِقَوْسِهِ. فَقَالَ الْمَلِكُ: وَهَلْ لِلشَّيْخ رَبٌّ غَيْرِي.
قَالَ الْوَزِيرُ: أَلَمْ يَرَهْ الْمَلِكُ شَيْخاً وَالْمَلِكُ شَابٌّ فَهَلْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُولَد الْمَلَكُ لا رَبَّ؟ فَقَالَ الْمَلِكُ إِنَّ أَبِي كَانَ رَبَّهُ.
قَالَ الْوَزِيرُ: فَمَا بَالُ الرَّبِّ هَلَكَ وَالْمَرْبُوبُ بَقِيَ فَسَكَتَ الْمَلِكُ سَاعَةً ثُمَّ قَالََ: الآنَ عَلِمْتُ أَنَّ لِلْمَلِكِ وَالْمَمْلُوكِ رَبّاً لا يَزُولُ فَهَلْ تَعْرِفُهُ؟
قَالَ الْوَزِيرُ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ. قَالَ: صِفْهُ لِي وَدُلَّنِي عَلَيْهِ فَشَرَعَ الْوَزِيرُ يَشْرَحُ لَهُ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَأَوْضَحَ لَهُ الدَّلالَةَ عَلَى ذَلِكَ فَانْشَرَحَ صَدْرُ الْمَلِكِ للإِيمَانِ فَآمَنَ بِاللهِ تَعَالى.
فَلَمَّا رَسَخَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِهِ قَالَ: أَمَّا لِرَبِّنَا خَدْمَةُ نَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهَا؟ قَالَ: إِنَّ اللهَ غَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ: فَهَلْ أَمَرَنَا بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْنَاهُ حُظِينَا عِنْدَهُ؟
قَالَ: بَلَى إِنَّ لَهُ عَلَيْنَا وَضَائِفَ أَمَرَنَا بِهَا وَرَضِيَ لَنَا فِعْلَهَا وَوَعَدَنَا رِضْوَانَهُ وَالْقُرْبَ مِنْهُ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَذَكَرَ لَهُ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الشَّرَائِعَ فَعَرَفَهَا الْمَلِكُ وَرَاضَ نَفْسَهُ بِهَا حَتَّى رَسَخَ فِي عِلْمِهَا وَتَمَرَّنَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا.
ثُمَّ قَالَ يَوْماً لِلْوَزِير: مَالَكَ لا تَدْعُوا النَّاس إلى الله تعالى كَمَا دَعَوْتَنِي؟ فَقَالَ: لأَنَّ الأَمَّةَ ذَاتَ قُلُوبٍ قَاسِيَةٍ وَفِهُومٍ قَصِيَّةٍ وَنُفُوسٍ عَصِيَّةٍ وَلَسْتَ آمَنُهُم عَلَى نَفْسِي.
فَقَالَ الْمَلِكُ: أَنَا أَفْعَلُه إِنْ تَفْعَلْهُ أَنْتَ، فَقَالَ الْوَزِيرُ: لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ تَرُدَّهُمْ هَيْبَتُهُ عَنِّي لَمْ تَرُدَّهُمْ عَنْهُ وَسَأقِيهِ بِنَفْسِي أَيِساً مِنَ النَّجَاةِ فَلْيَجْذَرهم الْمَلِكُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ اجْتَرَؤُا بِالْقَتْلِ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ أَحْضَرَ وَجُوهَ أَهْلِ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ وَوُلاة أَحْكَام رَعَايَاهُ وَأَفَاضِلَهَا فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي مَنْزِلِهِ قَامَ فِيهِمْ خَطِيباً ثُمَّ بِالدَّعْوَةِ إِلى التَّوْحِيدِ فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوه.
ثُمَّ أَتوا إِلى الْمَلِكِ فَأَخْبَرُوه بِمَا كَانَ مِنْ وَزِيرِهِ فَأَظْهَرَ لَهُمْ الرِّضَا بِقَتْلِهِ فَانْقَلَبُوا عَنْهُ رَاضِينَ ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ ضَاقَ صَدْرُهُ عَلَى وَزِيرِهِ.
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ لبِسَ مُسْحَ الشَّعَر وَالتَحَقَ بالرُّهْبَانِ وَنَبَذَ مَا كَانَ مِنَ الْمَلِكِ وَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدِ الله حَتَّى قَضَى نَحْبَهُ.
مَوْعِظَةِ: إِخْوَانِي أُبْسطُوا الأَيْدِيَ إِلى الْمَوْلَى الْكَرِيم بِالذُّلَلِ وَالضَّرَاعَةَ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ بِالذُّلِ وَالانْكِسَارِ فِي هَذِهِ السَّاعَة وَنَادُوا اللَّطِيف الْخَبِيرَ: يَا مَنْ لا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ، نَسْأَلُكَ أَنْ تُبَدِلَ مِنَّا الْفَسَادَ بِالصَّلاحِ، وَالْخُسْرَانَ بالأَرْبَاحِ وَأَنْ تُعَامِلَنَا بِالْعَفْوِ وَالسَّمَاحِ يَا مَنْ مَثْلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحْ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَرْحَمَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وقال بعضهم:
وَمَالِي وَلِلدُّنْيَا وَلَيْسَتْ بِبُغْيَتِي
وَلا مُنْتَهَى قَصْدِي وَلَسْتُ أَنَالَهَا
وَلَسْتُ بِمَيَّالٍ إِلَيْهَا وَلا إِلى
رِيَاسَتِهَا تَباً وَقُبْحاً لِحَالِهَا
هِيَ الدَّارُ دَارُ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْعَنَا
سَرِيعٌ تَقْضِيهَا وَشِيكٌ زَوَالُهَا
مَيَاسِرُهَا عُسْرٌ وَحُزْنٌ سُرُورُهَا
وَأَرْبَاحُهَا خُسْرٌ وَنَقْصٌ كَمَالُهَا
إِذَا أَضْحَكَتْ أَبْكَتْ وَإِنْ رَامَ وَصْلَهَا
غَبِيٌ فَيَا سِرْعَ انْقِطَاع وِصَالِهَا
فَأَسْئَلُ رَبِّي أَنْ يَحُولَ بِحَوْلِهِ
وَقُوَّتِهِ بَيْنَ وَبَيْنَ اغْتِيَالِهَا
فَيَا طَالِبَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ جَاهِداً
أَلا أَطْلُبْ سِوَاهَا إِنَّهَا لا وَفَالَهَا
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ حَرِيصٍ وَمُشْفِقٍ
عَلَيْهَا فَلَمْ يَظْفُر بِهَا أَنْ يَنَالَهَا
لَقَدْ جَاءَ فِي آيِ الْحَدِيدِ وَيُونُسٍ
وَفِي الْكَهْفِ إِيضَاحٌ بِضَرْبِ مِثَالِهَا
وَفِي آلِ عمْرَانَ وَسُورَةِ فَاطِرٍ
وَفِي غَافِرٍ قَدْ جَاءَ تِبْيَانُ حَالِهَا
وَفِي سُورَةِ الأَحْقَافِ أَعْظَمُ وَاعِظٍ
وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ مَوْجِبٍ لإِعْتِزَالِهَا
لَقَدْ نَظَرَ أَقْوَامٌ بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ
إِلَيْهَا فَلَمْ تَغْرُرْ همُوا بِاخْتِيَالِهَا
أُولَئِكَ أَهْلُ اللهِ حَقّاً وَحِزْبُهُ
.. لَهُمْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ إِرْثاً فِيَا لَهَا
وَمَالَ إِلَيْهَا آخَرُونَ بِجَهْلِهِمْ
فَلَمَّا اطْمَأَنُوا أَرْشَقَتْهُمْ نِبَالَهَا
أُولَئِكَ قَوْمٌ آثَرُوهَا فَأَعْقِبُوا
بِهَا الْخِزْيَ فِي الأخْرَى فَذَاقُوا وَبَالَهَا
فَقُلْ لِلذِينَ اسْتَعْذَبُوهَا رُوَيْدَكُمْ
سَيَنْقَلِبُ السُّمُ النَّقِيعُ زِلالَهَا
لِيَلْهُوا وَيَغْتَرُّوا بِهَا مَا بَدَا لَهُمْ
مَتَى تَبْلُغُ الْحُلْقُومَ تَصْرِمْ حِبَالِهَا
وَيَوْمَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ بِكَسْبِهَا
تَوَدُّ فِدَاءُ لَوْ بَنِيهَا وَمَالَهَا
وَتَأْخُذُ إِمَّا بِالْيَمِينِ كِتَابِهَا
إِذَا أَحْسَنَتْ أَوْ ضِدَّ ذَا بِشِمَالِهَا
وَيَبْدُو لَدَيْهَا مَا أَسَرَّتْ وَأَعْلَنَتْ
وَمَا قَدَّمَتْ مِنْ قَوْلِهَا وَفِعَالِهَا
بَأَيْدِي الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ مُسَطَّرٌ
فَلَمْ يُغَنْ عَنْهَا عُذْرَةٌ وَجِدَالُهَا
هُنَاكِ َتَدْرِي رِبْحَهَا وَخَسَارَهَا
وَإِذْ ذاَكَ تَلْقَى مَا عَلَيْهَا وَمَالَهَا
فَإِنْ تَكُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالتُّقَى
فَإِنَّ لَهَا الْحُسْنَى بِحُسْنِ فِعَالِهَا
.. تَفُوُز بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَحُورِهَا
وَتُحْبَرُ فِي رَوْضَاتِهَا وَظِلالِهَا
وَتُرْزَقُ مِمَّا يَشْتَهِي مِنْ نَعِيمِهَا
وَتَشْرَبُ مِنْ تَسْنِيمِهَا وَزِلالِهَا
فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمَ الْمَزِيدِ لَمَوْعِداً
زِيَارَةُ زُلْفَى غَيْرُهُمْ لا يَنَالَهَا
وَجُوهٌ إِلى وَجْهِ الإِلَهِ نَوَاظِرٌ
لَقَدْ طَالَ بِالدَّمْعِ الْغَزِيرِ ابْتِلالُهَا
تَجَلَّى لَهُمْ رَبُّ رَحِيمٌ مُسْلِماً
فَيَزْدَادُ مِنْ ذَاكَ التَّجَلِي جَمَالُهَا
بِمَقْعَدِ صِدْقٍ حَبْذَا الْجَارُ رَبُّهُمْ
وَدَارُ خُلُود لَمْ يَخَافُوا زَوَالَهَا
فَوَاكِهُهَا مِمَّا تَلَذُّ عُيوَنُهمْ
وَتَطَّرُد الأَنْهَارُ بَيْنَ خِلالِهَا
عَلَى سُرِرٍ مَوْضُونَةً ثُمَّ فُرْشُهُمْ
كَمَا قَالَ فِيهَا رَبُّنَا وَاصِفاً لَهَا
بَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ كَيْفَ ظَنُّكُمْ
ظَوَاهِرَهَا لا مُنْتَهَى لِجَمَالِهَا
وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَوَيْلٌ وَحَسْرَةٌ
وَنَارُ جَحِيمٍ مَا أَشَدَّ نَكَالِهَا
لَهُمْ تَحْتَهُمْ مِنْهَا مِهَادٌ وَفَوْقَهُمْ
.. غَوَاشِي وَمِنْ يَحْمُومِ سَاءَ ظِلالُهَا
طَعَامُهُمُ الْغِسْلِينُ فِيهَا وَإِنْ سُقُوا
حَمِيماً بِهِ الأَمْعَاءُ كَانَ انْحِلالُهَا
أَمَانِيهُمُوا فِيهَا الْخُرُوجُ وَمَالَهُمْ
خُرُوجٌ وَلا مَوْتٌ كَمَا لا فَنَى لَهَا
مَحَلَّيْنِ قُلْ لِلنَّفْسِ لَيْسَ سِوَاهُمَا
لِتَكْتَسِبَنْ أَوْ تَكْتَسِبْ مَا بَدَا لَهَا
فَطُوبَى لِنَفْسٍ جَوَّزَتْ فَتَخَفَّفَتْ
فَتَنْبَحُوا كَفَافاً لا عَلَيْهَا وَلا لَهَا
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جُهْدِ الْبَلاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ اللَّهُمَّ حَبِبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا.
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَارْزُقْنَا الاسْتَقَامَةِ طَوْعَ أَمْرِكَ وَتَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِعَافِيَتِكَ وَجَزِيلِ عَفْوِكَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
فِي ذِكْرِ بَعْضِ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِي نَصَرَهُ اللهُ
عِبَادَ اللهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى - وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً} أَكْمَلَ الدِّينَ، بِالنَّصْرِ، وَالإِظْهَارِ عَلَى الأَدْيَانِ كُلِّهَا، فَنَصَرَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ، وَخَذَلَ أَهْلَ الشِّرْكِ انْخِذَالاً عَظِيماً، بَعْدَ مَا كَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى صَدِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ، طَامِعِينَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا عِزَّ الإِسْلامِ وَانْتِصَارِهِ يَئِسُوا كُلَّ الْيَأْسِ
مِن الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَرْجِعُوا إِلى دِينِهِمْ، وَصَارُوا يَخَافُونَ مِنْهُمْ وَيَخْشَوْن: وَأَتَمَّ جَلَّ وَعَلا عَلَى عِبَادِهِ نِعْمَتَه بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَالْعزِ ِّواَلتَّأَيِيدِ، وَرَضِيَ الإسْلامَ لَنَا دِيناً، أخْتَارَهُ لَنَا مِنْ بَيْنِ الأَدْيَانِ، فَهُوَ الدِّينُ عِنْدَ اللهِ لا غَيْر، قَالَ تَعَالَى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} عِبَادَ اللهِ نَظَرَ أَصْحَابُ الأَفْكَارِ الْبَرِيئَةِ السَّلِيمَةِ فِي أَحْكَامِ الإِسْلام ِ، فَاعْتَنَقُوهُ، وَتَأَمَّلُوا فِي حُكْمِهِ الْجَلِيلَةِ فَأَحَبُّوهُ وَمَلَكَتْ قُُلُوبَهُم مَبَادِئُهُ الْحَكِيمَةُ فَعَظَّمُوه، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَرْءُ سَلِيمَ الْعَقْلِ، نَيِّرَ الْبَصِيرَةِ، مُسْتَقِيمَ الْفِكْرِ، اشْتَدَّ تَعَلُقُه بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ جَمِيلِ الْمَحَاسِن، وَجَلِيلِ الْفَضَائِلِ، جَاءَ الدِّينُ الإِسْلامِيُ بِعَقَائِدِ التَّوْحِيدِ، الَّتِي يَرْتَاحُ لَهَا الْعَقْلُ السَّلِيمُ وَيُقرُهَا الطَّبْعُ الْمُسْتَقِيمُ، يَدْعُوا إِلى اعْتِقَادِ أَنَّ لِلْعَالَم إِلَهاً وَاحِداً لا شَرِيكَ لَهُ، أَوَّلاً لا ابْتِدَاءَ لَهُ، وَآخِراً لا انْتِهَاءَ لَهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} لَهُ الْقُدْرَةُ التَّامَةُ، وَالإِرَادَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَالْعِلْمُ الْمُحِيطُ، يَلْزِمُ الْخَلْقَ الْخُضُوعِ لَهُ وَالانْقِيَادُ، وَالْعَمَلَ عَلَى مَرْضَاتِهِ، بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ سُبْحَانَهُ، عَلَى النَّظرِ وَالاسْتِدلالِ، لِتَصلَ بِالْبُرْهَان إلى مَعْرِفَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، فَتَرَاهُ تَارَةً يَلْفِتُ نَظَرَكَ إِلى أَنَّهُ لا يُمْكنُ أَنْ توجِدَ نَفْسَكَ، وَلا أَن تُوجدَ مِنْ دُونِ مُوجِدٍ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أَمَّا كَوْنُ الإنْسَانِ مَوْجِداً لِنَفْسِهِ فَهَذَا أَمْرٌ مَا ادَّعَاهُ الْخَلْقُ، وَأَمَّا وُجُودُ الإِنْسَانِ هَكَذَا مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ، فَأَمْرٌ يُنْكرُهُ مَنْطِقُ الْفِطْرَةِ ابْتِدَاءً وَلا يَحْتَاجُ إِلى جَدَلٍ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَانِ الْفَرْضَانِ بَاطِلِين، فَإِنَّهُ لا يَبْقَى إِلا الْحَقِيقَةُ، الَّتِي يَقُولُهَا الْقُرْآنُ، وَهِيَ أَنَّ الْخَلْقَ خَلَقَهُ اللهُ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وَتَارَةً يَلْفُتُ النَّظَرَ إِلى
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَهَلْ هُمْ خَلَقُوهَا، فَإِنَّها لَمْ تَخْلُقْ نَفْسَهَا كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْلَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَارَةً يَفْتَحُ أَمَامَ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ صَحِيفَةَ السَّمَاءِ وَمَا حَوَتْ مِن شَمْسٍ مُشْرِقَةٍ، وَقَمَرٍ مُنِيرٍ، وَنَجْمٍ مُضِيء فَيَقُولُ:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} وَفِي الآيَةِ الأُخْرَى يَقُولُ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وَيَقُولُ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وَيَقُولُ: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} وَيَقُولُ: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ} وَيَقُولُ: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} وَمَرَّةً يَلْفُتُ النَّظَرَ إِلى الأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ أَشْجَارٍ مُتَنَوِّعَةٍ {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} فَتُشَاهِدُ شَجَرَ الْعِنَبِ بِجِوَارِ شَجَرِ الْحَنْظَلِ فِي قِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ جَعَلَ لَكُلِّ شَجَرِةٍ جُذُوراً، تَمْتَصُّ بِهَا مِنْ الأَرْضِ مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْغِذَاء الذِي بِهِ قِوَامُهَا وَحَيَاتُهَا وَتَنْفَتِحُ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَنْ ثَمَرَةٍ تُخَالِفَ الأُخْرَى فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ، وَكَذَلِكَ بَاقِي الأَشْجَارِ الْمُتَجَاوِرَةِ الَّتِي أَرْضُهَا وَاحِدَةٌ وَمَاؤُهَا وَاحِدٌ، أَلا يَدُلُّ هَذَا عَلَى وُجُودِ صَانِعٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةِ) وَمَرَّةً يَلْفِتُ النَّظَرَ إِلى مَا يُنَزِّلُه مِنَ السَّمَاءِ، مِنَ الْمَاءِ الذِي بِهِ قِوَامُ الْحَيَاةِ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ أَجَاجاً لا نَفْعَ فِيهِ، وَمَرَّةً يَتَحَدَّثُ عَنْ وَحْدَانِيَتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}
الآية وَفِي الآيةِ الأُخْرَى يَقُولُ فِي جَزَالَةِ لَفْظٍ وَفَخَامَةِ مَعْنَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَدِلَّةِ وَشَرَعَ لِعِبَادِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا يُهَذِّبُ النُّفُوسَ ويُصَفِيهَا وَيُنَظِّمُ الْعِلاقَاتِ ويُقَوِّيهَا وَيَجْمَعُ الْقُلُوب ويُزكِّيهَا وَهَذا الذِي جَاءَ بِه الإِسْلام اتَّقَقَتْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ كُلُّ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} .
اللَّهُمَّ نَوَّر قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وأعِذْنا مِن شَرِ نُفُوسِنَا والشيطان وَوَفَّقْنَا لِطَاعَتِك اللهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبادِكَ الْمُفِلحينَ واحْشَرْنَا مَعَ الذينَ أنْعَمْتَ عليهم مِن النَّبِيين والصَّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : فَقَدِ اعْتَرَفَ الْمُحَقِّقُونَ الْمُنْصِِفُونَ: أَنْ كُلَّ عِلْمٍ نَافِعٍ دِينِي أَوْ دُنْيَوِي أو سِيَاسِي قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دَلالةً لا شَكَ فيها فَلَيْسَ فِي شَرِيعَةِ الإِسْلام ما تُحِيلهُ العقُولُ وإنما فيه ما تشهدُ العُقولُ السَّلِيمَةُ الزَّكِيَّةُ بصِدْقِهِ وَنَفْعِهِ وَصَلاحِهِ وَكَذَلِكَ أَوَامِرُهُ كَلُّهَا عَدْلٌ، لا حَيْفَ فِيهَا وَلا ظُلْمَ فَمَا أَمَرَ بِشَيْءٍ إِلا وَهُوَ خَيْرٌ خَالصٌ أَوْ رَاجِحٌ، وَمَا نَهَى عَنْ شِيْءٍ إِلا وَهُو شِرٌ خَالِصٌ، أَوْ مَا تَزِيدُ مَفْسِدَتُهَ عَلى مَصْلَحَتِهِ، وَكُلَّمَا تَدَبَرَ الْعَاقلُ اللَّبِيبُ أَحكامَ الإِسْلامِ قَويَ إِيمَانُه وإخْلاصُهُ، وَعِنْدَمَا يَتَأَمَّلُ مَا يَدْعُو إِليهِ هَذَا الدِّينُ الْقويمُ يَجِدُه يَدْعُو إِلى مَكَارِمِ الأخْلاقِ يَدْعُو إلى الصِّدْقِ والْعَفَافِ والْعَدْلِ، وَحِفْظِ
الْعُهُودِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَاتِ، وَالإِحْسَانِ إِلى الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِين، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَالتَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، يَدْعُو إِلى تَحْصِيلِ التَّمَتُّعِ بِلَذَائِذِ الْحَيَاةِ فِي قَصْدٍ وَاعْتِدَالٍ يَدْعُو إِلى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالإِثْمِ وَالْعِدْوَانِ، لا يَأْمِرُ إِلا بِمَا يَعُودُ عَلَى الْعَالَم بِالسَّعَادَةِ وَالْفَلاحِ، وَلا يَنْهَى إِلا عَمَّا يَجْلِبُ الشَّقَاءِ وَالْمَضَرَّةِ لِلْعِبَادِ.
وَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَ شَرَائِع الإِسْلامِ الْكِبَارِ الَّتِي هِيَ إِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، فَعَنْدَمَا تتَأَمْلَ الَّصلاةَ الَّتِي هِيَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، تَجِدْ فِيهَا الإِخْلاصَ للهِ، وَالإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالأَدَبَ، وَالاحْتِرَامِ، وَالثَّنَاءَ، وَالدُّعَاءَ، وَالْخُضُوعَ لَهُ، وَمَظْهَرُ الإِجْلالِ مِنَ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدِيْ سِيِّدِهِ يَقِفُ الْمَرْءُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَيَبْتَدِئُ بِالاعْتِرَافِ للهِ بَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْء، وَأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لأَنْ يُعَظَّمَ وَيُجَلَّ وَيُقَدَّرْ (اللهُ أَكْبَرُ) ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَخُصُه بِالْعِبَادَةِ، وَطَلَبِ الْمَعُونَةِ ضَارِعاً إِلَيْهِ بَأَنْ يَهْدِيهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَأَنْ يُجَنَّبَهُ عَنْ طَرِيقِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لانْحِرَافِهِمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ بَعْدَ أَنْ عَرَفُوا وَأَنْ يُبْعِدَه عَنْ طَرِيقِ الضَّالِينَ الْمُنْحَرِفِينَ الذِينَ عَبَدُوا أَهْوَاءَهُمْ وَشَيَاطِينَهُمْ.
وَعِنْدَئِذٍ تَمْتَلِئُ النَّفْسُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ وَهِيبَتِهِ وَجَلالِهِ فَيَخُر الْمَرْءُ سَاجِداً للهِ عَلَى أَشْرَفِ أَعْضَائِهِ، مُظْهِراً لِلذَّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلى مَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَمَزَايَا الصَّلاةِ مِنْ نَاحِيةِ الدِّينِ خُضُوعٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَخُشُوعٌ وَاعْتِرَافٌ بِعَظَمَةِ الْقَاهِرِ الْقَادِرِ، وَمَتَى اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ ذَلِكَ. وَامْتَلأت النَّفْسُ مِنْ هَيْبَةِ اللهِ، كَفَّ عَنِ الْمُحَّرمَاتِ، وَلا عَجَبَ مِنْ
ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ عَنِ الصَّلاةِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وَهِيَ أَكْبَرُ عَوْنٌ لِلْعَبْدِ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} .
أَمَا عونُها على مصالِح دِينِهِ فَلأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَاوَمَ عَلَى الصَّلاةِ وَحَافَظَ عَلَيْهَا قَويَتْ رَغْبَتُه فِي الْخَيْرِ، وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ الطَّاعَاتِ وَبَذْلُ الإِحْسَانِ بِطَمَأْنِينَةِ نَفْسَ، وَاحْتِسَابِ، وَرَجَاءٍ لِلثَّوَابِ، وَأَمَّا عَوْنُهَا عَلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا تُهَوِّنُ الْمَشَاقَ وَتُسَلِّي عَن الْمَصَائِبِ وَاللهُ سُبْحَانه لا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً فَيُجَازِيِهِ بِتَيْسِيرِ أُمُورِهِ وَيُبَارِكْ فِي مَالِهِ وَأَعْمَالِهِ.
وَفِي تَأْدِيتِهَا جَمَاعَةً يَحْصُلُ التَّعَارِفُ وَالتَّوَاصِلُ وَالتَّوَاددُ وَالتَّعَاطَفُ وَالتَّرَاحُمْ وَيَسُودُ الْوَقَارُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ تَعْلِيمُ فِعْلِيٌّ لِصِفَةِ الصَّلاةِ.
وَانْظرْ إِلى مَا أَوْجَبَهُ اللهَ مِن الزَّكَاةِ تَرَى مَحَاسِنَ جَمَّةً مِنْهَا إِصْلاحُ حَالِ الْفُقَرَاءِ وَسَدِّ حَاجَةِ الْمِسْكِين، وَقَضَاءِ دَيْنِ الْمَدِينِ، وَمِنْهَا التَّخَلُقُ بَأَخْلاقِ الْكِرَامِ، مِنَ السَّخَاءِ وَالجْوُد ِوَالْبُعْدِ عَنْ أَخْلاقِ اللِّئَامِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا بِبَذْلِ الْيَسِيرِ وَمِنْهَا حِفْظِ الْمَالِ مِنْ الْمُكَدِّرَاتِ وَالْمُنَغِصَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَمِنْهَا الاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَالْمَصَالِحِ الْكُلِّيَةِ الَّتِي لا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْمُسْلِمُونَ وَمِنْهَا دَفْعُ صَوْلَةِ الْفُقَرَاءِ وَمِنْهَا أَنَّهَا دَوَاءٌ لِلْمُجْتَمَعِ وَطِبٌ لِلنُّفُوسِ بِهَا يَطْهُرُ الْمَرْءُ مِنْ رَذِيلَةِ الشُّحِ قَالَ تَعَالى:{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا الأَغْنِيَاءُ لانْقَطَعَ دَابِرُ الاشْتِرَاكِيَّةِ الْمُتَطَرِفَةِ وَالشُّيُوعِيَّةِ الْمُسْرِفَةِ، وَمِنْهَا أَنَّها لَوْ أُدِيتَ تَمَاماً لَحَصَلَ بِذَلِكَ رَاحَةُ الْحُكَّامِ وَصَرْفُ مَجْهُودَاتِهِمْ إِلى مَا يَعُودُ عَلَى الأُمَم بِالْفَلاحِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ.
قَصِيدَةٌ تَتَضَمَّنُ التَّضَرعَ للهِ جَلَّ وَعَلا:
يَا فَاطِرَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ وَكَافِلاً
أَرْزَاقَ مَنْ هُوَ صَامِتٌ أَوْ سَائِلُ
أَوْسَعْتَهُم جُوداً فِيَا مَنْ عِنْدَهُ
رِزْقُ الْجَمِيعِ سَحَابُ جُودِكَ هَاطِلُ
يَا مُسْبِغَ الْبَرِّ الْجَزِيلِ وَمُسْبِلَ الْعَفْوِ
الْعَظِيمِ عَظِيمُ فَضْلِكَ وَابِلُ
يَا صَاحِبَ الإِحْسَانِ يَا مُرْخٍ لَنَا السِّتْرِ
الْجَمِيلَ عَمِيمُ طَوْلِكَ طَائِلُ
يَا عَالِمَ السِّر الْخَفِيّ وَمُنْجِزَ الْـ
مِيعَادِ صِدْقٌ قَدْ حَكَاهُ الْفَاصِلُ
يَا مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يَا صَادِقَ الْـ
وَعْدِ الْوَفِي قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ
عَظُمَتْ صِفَاتُكَ يَا عَظِيمُ فَجَلَّ أَنْ
يَأْتِي الْمُشَبُّهُ ظَالِماً وَيُشَاكِلُ
جَلَّتْ فَضَائِلُكَ الْعِظَامُ فَلَمْ نَجِدْ
يُحْصى الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيهَا قَائِلُ
الذَّنْبُ أَنْتَ لَهُ بِمَنِّكَ غَافِرٌ
مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكاً فَفَضْلُكَ حَاصِلُ
يَعْصِيكَ جَمٌّ ثُمَّ تَصْفَحُ عَنْهُمْ
وَلِتَوْبَةِ الْعَاصِي بِحِلْمِكَ قَابِلُ
.. رَبٌّ يُرَبِّي الْعَالَمِينَ بِبِرَّهِ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَيُوَاصِلُ
يُعْطِيهمُوا مَا أَمَّلُوا مِنْ جُودِهِ
وَنَوَالِهِ أَبَداً إِلَيْهِمْ وَاصِلُ
تَعصِيهِ وَهُوَ يَسُوقُ نَحْوَكَ دَائِماً
نِعَماً وَعَنْ شُكْرٍ لَهَا أَنْتَ غَافِلُ
سَتَرَ الذُّنُوبَ وَزَادَ فِي بَذْلِ الْعَطَا
مَا لا تَكُونُ لِبَعْضِهِ تَسْتَاهِلُ
مُتَفَضِّلٌ أَبَداً وَأَنْتَ لِجُودِهِ
تَنْسَى وَتَغْفَلُ هَلْ تَعِي يَا غَافِلُ
يَدْنُوا وَتُبْعِدُ ثُمَّ أَنْتَ لِفَضْلِهِ
بِقَبَائِحِ الْعِصْيَانِ مِنْكَ تُقَابِلُ
وَإِذَا دَجَى لَيْلُ الْخُطُوبِ وَأَظْلَمَتْ
طُرُقُ السَّلامَةِ بَلْ قَلاكَ النَّازِلُ
وَعَلِمْتَ أَنْ لا مَنْجِي ثُمَّ تَلاحَمَتْ
سُبُلُ الْخَلاصِ وَخَابَ فِيهَا الآمِلُ
وَأَيِسَتْ مِنْ وَجْهِ النَّجَاةِ فَمَالَهَا
طُرُقُ وَقَدْ عَظُمَ الْبَلا الْمُتَنَازِلُ
وَقَنِطْتَ مِنْ ضُعْفِ الْيَقِينِ وَلَمْ يَكُنْ
سَبَبٌ وَلا يَدْنُو لَهَا مُتَنَاوِلُ
يَأْتِيكَ مِنْ الْطَافِهِ الْفَرَجُ الذِي
.. فِيهِ نَجَاتُكَ لَيْسَ يَشْغَلُ شَاغِلُ
فِي لَحْظَةٍ يَأْتِيكَ لُطْفٌ فَارِجٌ
لَمْ تَحْتَسِبه وَأَنْتَ عَنْهُ غَافلُ
يَا مُوجِدَ الأَشْيَاءِ مَنْ أَلْقَى إِلى
أَحَدٍ سِوَاكَ فَإِنَّ ذَلِكَ بَاقِلُ
يَا طَيِّبَ الأَسْمَاءِ مَنْ يَقْصُدْ إِلى
أَبْوَابِ غَيْرِكَ فَهُوَ غِرٌّ جَاهِلُ
وَمَنِ اسْتَرَاحَ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ أَوْ رَجَا
مِن غَيْرِكُمْ فَضْلاً فَذَاكَ الْمَائِلُ
وَمَنِ اسْتَظَلَّ بِغَيْرِ ظِلَّكَ رَاجِياً
أَحَداً سِوَاكَ فَذَاكَ ظِلٌّ زَائِلُ
وَمَن اسْتَعَاذَ إِذَا عَرَّتْهُ مُلِمَّةٌ
بِجَلالِكُمْ ذَا الرَّئْيُ رَائْيٌ بَاسِلُ
وَالرَّائْيُ فِي عَكْسِ الذِي حَبَّرْتُهُ
بِسِوَى جَنَابِكَ فَهُوَ رَائْيٌ مَائِلُ
عَمَلٌ أُرِيدَ بِهِ سِوَاكَ فَإِنَّهُ
عَمَلٌ يُرِدُّ عَلَى الذِي هُوَ عَامِلُ
لَوْ صَلَّى ذَاكَ وَصَامَ حَجَّ فَإِنَّ ذَا
عَمَلٌ وَإِنْ زَعُمَ الْمُرَائِيَ بَاطِلُ
وَإِذَا رَضِيتَ فَكُلُّ شَيْءٍ هَيِّنٌ
حَسْبِي رِضَاكَ فَكُلُّ شَيْءٍ زَائِلُ
.. أَنْتَ الْمُنَى وَرِضَاكَ سُؤْلِي فِي الدُّجَى
وَإِذَا حَصَلْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ حَاصِلُ
أَنَا عَبْدُ سُوءٍ آبِقٌ كُلٌّ عَلَى
مَعْبُودِهِ يَا بِئْسَ مَا أَنَا فَاعِلُ
وَلَقَدْ أَتَى الْعَبْدُ الْمُسِيءُ مُيَمِّماً
مَوْلاهُ أَوْزَار الْكَبَائِرِ حَامِلُ
قَدْ أَثْقَلْت ظَهْرِي الذُّنُوبُ وَسَوَّدَتْ
وَجْهِي الْمَعَاصِي ثُمَّ ذَا أَنَا سَائِلُ
مَا لِي سِوَاكَ وَلَسْتُ أَرْجُو غَافِراً
صُحُفَ الْعُيُوِب وَسِتْرُ عَفْوِكَ شَامِلُ
هَا قَدْ أَتَيْتَ وَحُسْنُ ظَنِّي شَافِعِي
إِذْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ لَدَيَّ يُقَابِلُ
وَلَبِسْتُ ثَوْبَ الْخَوْفِ مِنْكَ مَعَ الرَّجَى
وَوَسَائِلِي نَدَمٌ وَدَمْعٌ سَائِلُ
فَاغْفِرْ لِعَبْدِكَ مَا مَضَى وَارْزُقْهُ تَوْ
بَةَ مُقْلِعٍ فِيهَا الشُّرُوطُ كَوَامِلُ
وَارْزُقْهُ عِلْماً نَافِعاً وَارْزُقْهُ تَوْ
فِيقاً لِمَا تَرْضَى فَفَضْلُكَ كَامِلُ
وَافْعَلْ بِهِ مَا أَنْتَ أَهْلُ جَمِيلِهِ
يَا مَنْ لَهُ اسْماً حِسَانُ فَوَاضِلُ
فَإِذَا فَعَلْتَ فَحُسْنُ ظَنِّي صَائِبٌ
.. وَالظَّنُّ كُلَّ الظَّنِّ أَنَّكَ فَاعِلُ
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا شَاكِرِينَ وَاجْعَلْنَا لَكَ مِن الذَّاكِرِينَ وَاجْعَلْنَا مِنَ عِبَادِكَ الصَّابِرِينَ الْمُحْسِنِينَ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَهَّلْتُهُمْ لِخِدْمَتِكَ وَوَفَّقْتُهُمْ لِمَحَبَّتِكَ وَطَاعَتِكَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ يَا عَظِيمَ الْعَفْوِ، يَا وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ، يَا قَرِيبِ الرِّحْمَةِ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، هَبْ لَنَا الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اللَّهُمَّ يَا حَيُّ وَيَا قَيُّومُ فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا لَهُ، وَلا تُشْغِلْنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ، وَيَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَيَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، وَيَخْشَاكَ حَقَّ خَشْيَتِكَ. اللَّهُمَّ اكْتُبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، اللَّهُمَّ وَافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإِجَابَةِ وَاْغِفرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَة إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) وَتَأَمَّلَ الصِّيَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُ يُبْعَثُ فِي الإِنْسَانِ فَضِيلَةَ الرَّحْمَةِ بِالْفُقَرَاءِ، وَالْعَطْفِ عَلَى الْبَائِسِينَ فَإِنْ الإِنْسَانَ إِذَا جَاعَ تَذَكَّرَ الْفَقِيرِ الْجَائِعِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الأَكْلِ يَعْرفُ فَضْلَ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ فَيَشْكُرَهَا، وَمِنْهَا أَنَّ الصِّيَامَ يَقُوِّيِ النَّفْسَ عَلَى الصَّبْرِ وَالْحُلُمِ، وَهُمَا تَجَنُّبُ كُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ إِثَارَةُ الْغَضَبِ، لأَنَّ الصَّوْمَ نِصْفُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْفِي الْجِسْمُ مِنْ الأَخْلاطِ الرَّدِيئَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ مُهَذَّبٌ لِلنُّفُوسِ، وَمُصَفَى لِلأَرْوَاحِ، وَمُطَهِّر للأَجْسَام، فَلَهُ الأَثَرُ الْعَجِيبُ فِي حِفْظِ الْقُوَى الْبَاطِنَةِ، وَحِمَايَتِهَا مِمَّا يَضُرُّهَا ثُمَّ هُوَ عِبَادَةٌ وَامْتِثَالٌ لأَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الصَّوْمِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ فِي جَانِبِ رِضَى اللهِ، طَمَعاً في الثَّوَابِ، وَالزُّلْفي وَالأَجْرِ الْعَظِيمِ، إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِنِ.
وَتَأَمَّلْ مَا فِي حَجِّ بَيْتِ اللهِ مِنْ الْمَحَاسِنِ، الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُ مُجْمَعٌ لِسُرَاةِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْتَمِعُونَ فِيهِ مِنْ مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَعْبُدُونَ إِلَهاً وَاحِداً! قُلُوبُهم مُتَّحِدَةٌ، وَأَرْوَاحُهُمْ مُؤْتَلِفَة فِي الْحَجِّ، يَتَذَكَّرُ الْمُسْلِمُونَ الرَّابِطَةَ الدِّينِيَّةِ، وَقُوَّةَ الْوِحْدَةِ
الإِسْلامِيَّةِ، وَفِي الْحَجِّ تَذَكُّرٌ لِحَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَقَامَاتِ الأَصْفِيَاءِ الْمُخْلَصِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالى:{وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} وَتَذْكِيرٌ بِحَالِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامهم، وَمَقَامَاتِه فِي الْحِجِّ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَقَامَاتِ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّذْكِيرَاتِ، فَإِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِأَحْوَالِ عُظُمَاءِ الرُّسُلِ، إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمَآثِرَهُمْ الْجَلِيلَةِ، وَتَعَبُّدَاتِهِمْ الْجَمِيلَةِ وَالْمُتَذَكِّرُ بِذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِالُّرُسِل، مُعَظِّمٌ لَهُمْ، مُتَأَثِّرٌ بِمَقَامَاتِهِمْ السَّامِيَةِ، مُقْتَدٍ بِهِمْ، وَبَآثَارِهِمْ الْحَمِيدَةِ، ذَاكِرٌ لِمَنَاقِبِهم وَفَضَائِلِهِمْ، فَيَزْدَادُ بِهِ الْعَبْدُ إِيمَاناً وَيَقِيناً.
وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ تَصْفِيَةُ النَّفْس، وَتَعْوِيدُهَا الْبَذْلَ وَالإِنْفَاقَ، وَتَحَمُّلَ الْمَشَاقِ، وَتَرْكَ الزِّينَةِ وَالْخُيَلاءِ، وَمِنْهَا شُعُورُ الْمَرْءِ بِمُسَاوَاتِهِ لِغَيْرِهِ، فَلا مَلِكَ وَلا مَمْلُوكَ، وَلا غَنِيٌّ وَلا فَقِيرٌ، بَلْ الْكُلُّ هُنَاكَ سَوَاءٌ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ التَّنَقُل في الْبِلادِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهَا، وَعَادَاتِ سُكَّانِهَا، وَزِيَارَةِ مَهْبَطِ الْوَحْي، وَالرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ تَذَكِّرُ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي، وَيَنْفِذُهُمْ الْبَصَرُ، وَذَلِكَ فِي الْمَحْشَرِ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حُفَاةً عُرَاةً غُرّاً، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى فِرَاقِ الأَهْلِ وَالْوَلَدِ، إِذْ لا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، فَلَوْ فَارَقَهُمْ فَجْأَةً حَصَلَ صَدْمَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْفِرَاقِ، وَمِنْ مَحَاِسِن الْحَجِّ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَهُ يَتَزَوَّدُ لِسَفَرِهِ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، مُدَّةَ ذِهَابِهِ وَإِيَابِهِ، فَيَتَزَوَّدَ لِلْعُقْبَى، وَهِيَ السَّفَرَةُ الطَّوِيلَةُ، الَّتِي لا رُجُوعَ بَعْدَهَا، حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ.
وَفِي سَفَرِ الْحِجِّ قَدْ يَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَلا يَجِدُ فِي الْعُقْبَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ، إِلا إِذَا تَزَوَّدَهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالى:{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّ الإِنْسَانَ يَعْتَادُ التَّوَكُلَ عَلَى اللهِ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنُه أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ لِلْحَجِّ، فَلابُدَّ مِنَ التَّوَكُلِ عَلَى اللهِ تَعَالى فِيمَا حَمَلَهُ، وَفِيمَا لَمْ يَحْمِلْهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَيَعْتَادُ تَوَكُّلَهُ إِلى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ نَزَعَ الْمَخِيطَ الذِي هُوَ لِبَاسُ الأَحْيَاءِ، وَيَلْبِسُ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَشْبَهُ بِلِبَاسِ الأَمْوَاتِ، فَيَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ فِي الاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَهُ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي يَصْعُبُ حَصْرُهَا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ الإِيمَانِ هَادِماً لِلسَّيِّئَاتِ، كَمَا جَعَلْتَ الْكُفْرَ هَادِماً لِلْحِسَابِ وَوَفِّقْنَا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ وَاسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتُهُ وَدَعَاكَ فَأَجَبْتُهُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) ثُمَّ تَأَمَّلْ مَحَاسِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِذْ فِيهِ قَمْعُ أَعْدَاءِ اللهِ، وَنَصْرُ أَوْلِيَائِهِ، وَإِعْلاءُ كَلَمَةِ الإِسْلامِ، وَحَمْلُ الْكَافِرِ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الذِي هُوَ أَقْبَحُ الأَشْيَاءِ، وَالإِقْبَالُ عَلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ الأَشْيَاءِ، وَفِيهِ إِخْرَاجُ الْبَشَرِ عَنْ دَرَجَةِ الأَنْعَامِ، قَالَ تَعَالى - فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وَمِنْ مَحَاسِنِهِ اكْتِسَابُ حَيَاةِ الأَبَدِ، فَإِنَّهُ إِنْ قَتَلَ فَقَدْ أَعْلَى دِينَ اللهِ، وَإِنْ قُتِلَ فَقَدْ أَحْيَا نَفْسَهُ، قَالَ تَعَالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} .
وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِن الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَمِنْهَا تَكْثِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْلِيلُ الْكَفَرَةِ، وَمِنْهَا وَهُوَ أَعْلاهَا امْتِثَالُ أَمْرِ الله حَيْثُ يَقُولُ:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} .
وَمِنْ مَحَاسِنِ الْجِهَادِ أَنَّهُمْ فِي الانْتِصَارِ يَغْنَمُونَ وَيَشْكُرُونَ وَيَقْتَوُوْن وَإِن أدِيلَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ عَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَعْصِيَتِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، وَفَشَلِهِمْ وَتَنَازُعِهِمْ، فَيَلْجَؤا إِلى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ تَائِبِينَ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ سَبَبٍّ لِلذُّلّ، لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ بأَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاود، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْجِهَادِ السَّلامَةِ مِنَ النِّفَاقِ، لِحَدِيثِ:«مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ به مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» . رواه أبو داود والنسائي، وفي الحديث الآخرِ: «مَنْ
لَقِيَ اللهَ بِغَيْرُ أَثَرِ جِهَادٍ لَقِيَ اللهَ وَفِيهِ ثَلْمَةٌ)) . وفي الحديث الآخر: ((مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْجِهَادَ إِلا عَمَّهُمُ اللهُ بِالْعَذَابِ)) . وَمِنْ مَحَاسِنِهِ اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيَّةِ أَوْلِيَاءِ اللهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَفِيمَا يُحِبُّونَ وَيَكْرَهُونَ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَدِلَّةِ الدَّالَة عَلَى مَحاسِنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لإِعْلاءِ كَلِمَةِ اللهِ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْمُعَامَلاتِ فَمِنْ مَحَاسِنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وُصُولُ الإِنْسَانِ إِلى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ قَطْعُ مَسَافَةِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ الشَّيْءَ مِنْ مَعْدَنِهِ يَحْتَاجُ إِلى الأَسْفَارِ، وَرُكُوبِ الْمَرْكُوبِ، وَتَحملِ الأَخْطَارِ، وَمَتَى وَجَدَهُ بِالْبَيْعِ سَلِمَ من الأخطار وَسَقَطَ عَنْهُ مَؤْنَةُ الأَسْفَارِ، فَانْظُرْ إِلى الْعُودِ وَالْمِسْكِ، وَالسَّيَّارَاتِ وَالْمَكَائِنِ وَالأَقْمِشَةِ وَالْهِيلَ وَالسُّكَّرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، مَعَادِنُهَا بَعِيدَةٌ، فَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِعِبَادِهِ أَنْ سَخَّرَ بَعْضَ النَّاسِ لِبَعْضٍ، وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ بِحَلِّ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلاتِ كَالإِجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ، إِلا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ ظُلْمٌ أَوْ جَهَالَةٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَأَمَّلَ الْمُعَامَلاتِ الشَّرْعِيَّةَ، رَأَى ارْتِبَاطَهَا بِصَلاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَشَهِدَ للهِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، وَحِكْمَتِهِ حَيْثُ أَبَاحَ لِعِبَادِهِ جَمِيعَ الطَّيِّبَاتِ. وَلَمْ يَمْنَع مِنْ ذَلِكَ إِلا كُلَّ خَبِيثٍ ضَارٍ عَلَى الدِّينِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْبَدَنِ أَوِ الْمَالِ.
فَمِنْ مَحَاسِنِ الإِجَارَةِ دَفْعُ حَاجَاتِ الْعِبَادِ بِقَلِيلِ مِن الإِبْدَالِ وَيَسِيرٍ مِنَ الأَمْوَالِ فَلا كُلُ أَحَدٍ يَمْلِكُ دَاراً يَسْكُنُهَا، وَلا سَيَّارَةً يَرْكَبُهَا، وَلا طَائِرَةً يَرْكَبُهَا، وَلا طَاحُونَةً يَطْحَنُ فِيهَا، وَلا مَخْزَناً لأَمْوَالِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ فَجُوِّزَتِ الإِجَارَةُ وَلا حَاجَةَ إِلى ذِكْرِ مَحَاسِن الصُّلْحِ فَهُوَ كِمَا ذَكَرَهُ الله خير قال الله تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} الآية.
وَأَمَّا الْوَكَالَةُ والكفالةُ ففيهما مِنَ الإِحْسَانِ مَا لا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ اعْتَقَدَ الشَّرْعَ وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِد، وَعَقَلَ الشَّرَائِعَ، أَوْ لَمْ يَعْقَلِ، احْتَاجَ إِلى
الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ فَإِنَّ اللهُ تَعَالى خَلَقَ الْخَلائِقَ، وَجَعَلَهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي الْقَصْدِ وَالْهِمَمِ فَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْغَبُ أَنْ يُبَاشِرَ الأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ وَلا كُلٌّ يَهْتَدِي إِلى الْمُعَامَلات فَمَنْ لُطْفِ اللهِ بِخَلْقِهِ إِبَاحَتُهَا، فَلا يَلِيقُ بِأَصْحَابِ الْمُرُوآتِ وَأَوْلِيَاءِ الأُمُورِ مُبَاشَرَةُ الْبِيَاعاتِ كُلِّهَا بِأَنْفسِهِمْ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَاشَرَ بَعْضَ الأُمُورِ إِلى غَيْرِهِ، وَبَاشَرَ ذَبْحَ الأَضْحِيَةِ بِنَفْسِهِ، وَفَوَّضَ إِلى عَلِيِّ ذَبحَ قِسْمٍ مِنْ هَديهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا الْحُسْنُ فِي الْكِفَالَةِ فَإِنَّ فِيهَا إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَمُرَاعَاةُ الأَخُوَّةِ يَبْذُلُ الذَّمةَ لِيَضُمَّهَا إلى الذِّمةِ فَيَنْفَسِحَ وَجْهُ الْمُطَالَبَةِ، وَيَسْكُنُ قَلْبُ الْمَطَالِبِ بِسَبَبِ السَّعَة قَالَ اللهُ تَعَالى:{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} إِلى أَنْ جَعَلَ كَافِلَها زَكَرِيَّا كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وَإِذَا عَلِمْتَ مَحَاسِنَ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، فَالْحَوَالةُ وَاضِحَةٌ مَحَاسِنُهَا فَفِي الْحَوَالةِ كَفَالَةٌ وَوَكَالَةٌ وَزِيَادَةُُ فَرَاغِ ذِمةِ الأَصِيلِ عَنْ الْحُزْنِ الطَّوِيلِ فَإِذَا قُبِلْتَ حَوَالَتَهُ أدْخَلْتَ عَلَى قَلْبِ أَخِيكَ - بِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ - سُرُوراً، وَلا يَخْفَى مَا فِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الأَجْرِ.
وَمِنْ مَحَاسِنِ الشُّفْعَةِ أَنْ الْجَارَ رُبَّمَا يَكُون فِي حَاجَةٍ إِلى هَذِهِ الْحِصَّةِ الْمَبِيعَةِ كَأَنْ يَكُونَ بَيْتُه ضَيِّقاً، وَيُرِيدُ اتِّسَاعَهُ، أَوْ تَكُونَ الأَرْضَ الْمُشْتَرَكَةُ بِجِوَارِ مَزَارِعِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ حَقِّ الْجَارِ وَالشَّرِيكِ حَيْثُ أَنَّ لَهُ الْحَقُّ فِي التَّقدُّم على غَيْرِهِ فِي الشِّرَاءِ إِلا إِذَا أَسْقَطَ حَقَّه بامْتِنَاعِهِ عَنْ الشِّرَاءِ وَمِنْهَا دَفْعُ ضَرَرِ الْجَارِ، وَهُوَ مَادَةُ الضَّرَرِ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ " فِي الإِسْلامِ)) . وَلا شَكَّ عِنْدَ أَحَدٍ فِي حُسْنِ دَفْعِ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ إِيقَادِ
نِيرَانٍ، وَإِعْلاءِ جِدَارٍ، وَإِثَارَةِ غُبَارٍ وَدُخَّانٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ سَمَاعُ التَّلفِزْيُون وَالمذياع وَإِحْدَاثُ أَشْيَاءَ تَضُّر بِمُلْكِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ.
وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ فَمَحَاسِنُهَا ظَاهِرَةٌ، إِذْ فِيهَا إِعَانَةُ عِبَادِ اللهِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَوَفَاءِ الأَمَانَةِ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْخِصَالِ عَقْلاً وَشَرْعاً، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا إِحْسَانٌ إِلى عِبَادِ اللهِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنْهَا أَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّآلُفِ وَالتَّآخِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَبَبٌ لِمحبةِ بَعْضِهم لِبَعْضٍ.
13-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ النَّهْيُّ عَنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَارِنَ بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئ، فَإِذَا كَانَ مُنْصِفاً غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَسَاوِئ إِذَا كَانَتْ مَحَاسِنُهَا تَغْمُرهَا لاضْمِحْلالِهَا فِيهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرُكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا الْفَرَائِضُ وَتَوْزِيعُ الْمَالِ عَلَى الْوَرَثَةِ فَقَدْ وَضَعَهُ اللهُ بِنَفْسِهِ بِحَسَب مَا يَعْلَمُه مِنْ قُرْبٍ وَبُعْدٍ وَنَفْع، وَمَا هُو أَوْلَى بِبِرِّ الْعَبْدِ وَرَتَّبَهُ تَرْتِيباً تَشْهَدْ لَهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ بِالْحُسْنِ وَأَنَّهُ لَوْ وُكِّلَ الأَمْرُ إِلى آرَاءِ النَّاسِ وَأَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ لَحَصَل بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْخَلَلِ وَالاخْتِلالِ، وَزَوَالِ الانْتِظَامِ، وَسُوءِ الاخْتِيَارِ فَوْضَى، وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ أَنَّ أَلْحَقَ السَّبَبَ بِالنَّسَبِ فَالسَّبَبُ الْمُنَاكَحَةُ وَالْوَلاءُ وَلَمَّا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَقْد النِّكَاحِ ذَرِيعَةَ الْمَحَبَّةِ وَالأُلْفَةِ، وَالازْدِوَاجِ، وَالاسْتِئْنَاسِ بَيْنَ النَّاسِ فَلا يُحْسُنُ أَنْ يَلْحَقَها عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا مَضَاضَةُ أَلَمِ الْفِرَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْتَفِقَ أَحَدُهُمَا بِمَا فَضُلَ عَنْهُ نَوْعَ ارْتِفَاقٍ، ثُمَّ جَعَلَ لِلزوْجِ ضِعْفَ مَا لِلْمَرْأَةِ مِن الزَّوْج.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ أَنَّهُ لَمْ يُوَرِّث عِنْدَ اخْتِلافِ الدِّينِ، إِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ فَالْكَافِرُ لا يُورَّثُ مِنْهُ لأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ قَرِيباً نَسَباً، فَهُوَ بَعِيدٌ دِيناً، لأَنَّ
الْكَافِرُ مَيْتٌ لا يَرِثُ الْمَيِّتَ قَالَ اللهُ تَعَالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} الآية، وقَالَ تعالى:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَرِثُ الْكَافرَ لاستواء حَالَيْهِمَا وَمَالَيْهِمَا.
15-
وَأَمَّا الْهِبَةُ فَمُسْتَحَبَّةٌ إِذَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ، وَالأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الإِجْمَاعِ قَوْلُهُ تَعَالى:{فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} قَوْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} وَاللهُ سُبْحَانَهُ كَرِيمٌ جَوَّادُ وَهَّاب، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّحَابِّ وَالتَّوَادِّ كَمَا فِي الْحَدِيث:«تَهَادُوا تَحَابُّوا» . وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا تَسُلُ السَّخِيمَةَ. وَفِي الْحَدِيث: «تَهَادُوا فَإِنَّ الْهِدِيَّةَ تَسُلُ السَّخِيمَةَ» . وَقَدْ أَهْدَى صلى الله عليه وسلم لِلنَّجَاشِي حُلَّةً وَأَوَاقِي مِنْ مِسْكٍ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا تُقَوِّي الصِّلَةَ وَمَتَى قَوِيَتْ الصِّلَةُ سَارَتْ الأُمَّةُ بِقَدَمٍ ثَابِتٍ فَحُسْنُ الصِّلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُمَّةِ سِرُّ نَجَاحِهَا وَمِنْ مَحَاسِنِهَا وَفْرَةُ الثِّقَةُ بَيْنَ الْمُتَهَادِينَ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِن.
16-
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَمُسْتَحَبٌّ، وَمَحَاسِنَهُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا تَحْصِينُ الْفَرْجِ، وَمِنْهَا تَحْصِينُ الزَّوْجَةِ، وَمِنْهُ حِفْظُهَا وَالْقِيَامُ بِهَا، وَمِنْ مَحَاسِنِه أَنَّهُ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ، وَمِنْ مَحَاسِنِه تَكْثِيرُ الأُمَّةِ، وَتَكْثِيرُ النَّسْلِ، وَمِنْهَا تَحْقِيقُ مُبَاهَاةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهَا قَضَاءُ حَوَائِجهِ مِنْ طَبْخٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهَا حِفْظُ بَيْتِهِ وَأَوْلادِهِ وَمِنْهَا سُكُونُهُ وَطُمَأْنِينَتُه إِلَيْهَا، وَاسْتِئْنَاسُهُ بِهَا، وَمُعَاشَرَتُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي لا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِعَدِّهَا.
17-
وَأَمَّا الطَّلاقُ فَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنْ جَعَلَ اللهُ عز وجل مُلْكَ الطَلاقِ إِلى الزَّوْجِ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنْ حَكَمَ بِالْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ بَعْدَ الطَّلقاتِ الثَّلاثِ، لأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ ثَلاثاً رَأَى الصَّلاحَ فِي الْفِرَاقِ وَعَلَّقَ الشَّرْعُ حِلَّ الْمُطَلَقةِ ثَلاثاً بِالتَّزْوِيجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَالدُّخُولِ بِهَا لِيَصِيرَ هَذَا الشَّرْطُ مَانِعاً لَهُ مِنْ الْعَوْدِ إِلَيْهَا وَيَثْبُتَ عَلَى رَأَيٍ مِنْ الصَّلاحِ فِي مُفَارَقَتِهَا، وَمِنْ الْمَحَاسِنِ أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِحُرْمَتِهَا عَلَى وَجْهٍ لا رُجُوعَ فِيهِ أَصْلاً، فَإِنَّهُ رُبَّمَا لا يَصْبِرُ عَنْهَا فَيَهْلِكُ فِي ذَلِكَ فَالشَّرْعُ جَعَلَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ سَبِيلاً لَكِن بَعْدَمَا يَذُوقُ الآخَرُ عُسَيْلَتَهَا، وَتَذُوقُ عُسَيْلَتَهُ، وَلا يَجُوزُ عَنْ طَرِيقِ التَّحْلِيلِ لِحَدِيثِ:«لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِلَ وَالْمُحَلَلَ لَهُ» . وَمِنْ مَحَاسِنِ الطَّلاقِ أَنْ يَكُونَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ هَذَا هُوَ السُّنةُ، فَإِنَّهُ إِذَا قَضَى وَطَرُهُ مِنْهَا انْتَقَصَ مَيْلُه إِلَيْهَا طَبْعاً فَيُبَادِرُ إِلى مُفَارَقَتِهَا بِقَلِيلِ دَاعِيَةٍ وَيَسِير أَذِيَّةٍ فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا شَبَعَ مِنْ شَيْءٍ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ، وَهَانَ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَاعَ قَوِيَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَلا يَحْصُلُ الطَّلاقُ عَنْ رَوِيَّةٍ، وَرُبَّمَا يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إِلى نَقْضِ الطَّلاقِ، فَكَانَ الطَّلاقُ الْحَسَنُ الْمَسنُونُ، أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالُ حَالَةُ كَمَالِ الرَّغْبَةِ وَتَمَامِ الْمَيْلِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا يُقْدِمُ عَلَى الطَّلاقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلا لِحَاجَةٍ دَاعِيَةٍ فَرُخِّصَ لَهُ فِي الطَّلاقِ.
18-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنْ جَعَلَ هَزْلَهُ جِدّاً قَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهنَّ جِدٌّ، الطَّلاقُ، وَالْعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ)) . فَإِذَا عَرَفَ الإنْسَانُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُظِهِ بِهِ، وَلَوْ مَازِحاً يَقَعُ، امْتَنَعَ بإِذْنِ اللهِ إِذَا كَانَ عَاقِلاً.
19-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الْقِصَاصِ، وَفَرْضِ الْعُقُوبَاتِ، زَجْرُ النُّفُوسِ الْبَاغِيَةِ، وَرَدْعُ الْقُلُوبِ الْقَاسِيَةِ، الْخَالِيَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَمِنْ مَحَاسِنِه تَأْدِيبُ الْجَمَاعَاتِ الطَّاغِيَةِ فَحَكَمَ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ، وَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، لِيَحْقِنَ الدِّمَاءَ قَالَ تَعَالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآيَةُ، وَالْقَطْعُ
لِحِفْظِ الأَمْوَالِ، فَيَعِيشُ النَّاسُ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ قَالَ تَعَالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَحَرَّمَ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ، كَالنَّظَرِ إِلى الأَجْنَبِيَّةِ، وَالْخُلْوَةِ بِهَا، وَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَأَمَرَ بِرَجْمِ الزَّانِي وَقَتْلِ اللُّوطِيّ عَلَى رُؤوسِ الأَشْهَادِ وَحَكَمَ بِجَلْدِ الزَّانِي الْبِكْرِ، مَائَةَ جَلْدَةً وَالتَّغْرِيبِ كُلُّ ذَلِكَ مُحَافَظَةً عَلَى الأَنْسَابِ، وَالأَعْرَاضِ، وَحِمَاَيةً لِلأَخْلاقِ، وَصِيَانَةً لِلأُمَّةِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَالْفَسَادِ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ، وَعَدَّهَا أَمَّ الْخَبَائِثِ، وَحَكَمَ عَلَى مُتَعَاطِيهَا بِالْجِلْدِ لارْتِكَابِهِ النَّقَائِصَ وَالْخَسَائِسَ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَبْقَى الْعَقْلُ سَلِيماً، وَيَظَلَّ الْمَالُ مَصُوناً، وَيَدُومَ الشَّرَفُ وَالْخُلُقُ طَاهِراً نَقِيّاً.
شِعْراً:
لَقَدْ أَيْقَظَ الإِسْلامُ لِلْمَجدِ وَالْعُلَى
بَصَائِرَ أَقْوَامٍ عَنْ الْمَجْدِ نُوَّمِ
فَأَشْرَقَ نُورُ الْعِلْمِ مِنْ حُجُرَاتِهِ
عَلَى وَجْهِ عَصْرٍ بِالْجَهَالَةِ مُظْلِمِ
وَدَكَّ حُصُونَ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْهُدَى
وَقَوَّضَ أَطْنَابَ الضَّلالِ الْمُخَيِّمِ
وَأَنْشَطَ بِالْعِلْمِ الْعَزَائِمَ وَابْتَنَى
لأَهْلِيْهِ مَجْداً لَيْسَ بِالْمُتَهَدِّمِ
وَأَطْلَقَ أَذْهَانَ الْوَرَى مِنْ قُيُودِهَا
فَطَارَتْ بأَفْكَارٍ عَلَى الْمَجْدِ حُوَّمِ
وَفَكَّ أُسَارَ الْقَوْمِ حَتَّى تَحَفَّزُوا
نُهوضاً إِلى الْعَلْيَاءِ مِنْ كُلِّ مجْثِمِ
وَعَمَّا قَلِيلٍ طَبَّقَ الأَرْضَ حُكْمُهُمْ
بِأَسْرَعَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلى الْفَمِ
اللَّهُمَّ رَبَّ قُلُوبُنَا عَلَى مَحَبَّتِكَ وَطَاعَتِكَ وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
20-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْحَثُّ عَلى الْمَشُورَةِ وَالأَخْذِ بِهَا مَتَى كَانَتْ صَائِبَةً مُتَّفقةً مَعَ الْعَقْلِ وَالْمَنْطِقِ وَالتَّجْرِبَةِ قَالَ تَعَالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .
21-
وَمِنْ مَحَاسِنِه أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ أَكْثَرُهُمْ صَلاحاً وَتَقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} .
22-
وَمِنْ مَحَاسِنِه الْحَثُّ عَلَى الْعِتْقِ، وَتَحْرِير الأَرِقَّاءِ، وَالإِحْسَانِ إِلى الْمَمْلوُكِ.
23-
وَمِنْ مَحَاسِنِه الْحَثُّ عَلَى الإِحْسَانِ إِلى الْجَارِ وَالضَّيْفِ وَالْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ.
24-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ أَنَّهُ يَدْعُو إِلى تَبَادُلِ الإِلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّصَافِي وَالتَّعَاونِ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنُ كَالْبُنْيَان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضاً» .
25-
وَمِنْ مَحَاسِنِه أَنَّهُ يَذم النِّزَاعَ وَالْكَرَاهِيَةَ وَالتَّفْرِقَةَ، قَالَ تَعَالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ} وَقَالَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» .
26-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ النَّمِيمَةِ وَالْغِيْبَةِ، وَالْحَسَدِ وَالتَّجَسُّسِ، وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ الدَّالَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدّاً، فَتَذَكَّرْ لَهَا تَجِدْهَا.
27-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنِ الظُلْمِ، وَالأَمْرِ بِالْعَدْلِ، مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، قَالَ تَعاَلى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ} وَقَالَ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} .
28-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْمُعْتَدِي، قَالَ تَعَالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} وقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَقَالَ: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
29-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الدَّعْوَةُ إِلى الصُّلْحِ بَيْنَ الأَخَوَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْهُجْرَانِ، قَالَ تَعَالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وَقَالَ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .
30-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا» . الْحَدِيث.
31-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ الاسْتِهْزَاءِ بِالنَّاسِ، وَذِكْرِ عُيُوبِهِمْ قَالَ تَعَالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} والآية.
شِعْرًا:
…
إِذَا مَا ذَكَرَتَ النَّاسَ فَاتْرك عُيُوبَهُمْ
…
فَلا عَيْبَ إِلا دُونَ مَا مِنْكَ يُذْكَرُ
فَإِنْ عِبْتَ قَوْماً بِالذِي هُوَ فِيهِمُ
…
فَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ مُنْكَرُ
32-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَالْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ، إِلا أَنْ يَأْذَنُ أَوْ يُرَدَّ، لِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالتَّقَاطُعِ.
33-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ مَشْرُوعِيَّةُ السَّلامِ عَلَى الْمُسْلِمِ، عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفَهُ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ بِرَدِّ التَّحِيَّةِ بِأَحْسَن مِنْهَا أَوْ رَدِّهَا قَالَ تَعَالى:{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} الآية.
34-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ بِالتَّثْبِت ِفِيمَا نَسْمَعُه، قَالَ تَعَالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وَقَالَ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية.
35-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ الْبُولِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِد، وَفِي ذَلِكَ الْعِنَايَةُ بِالنَّاحِيَةِ الصِّحِيَّةِ، وَالْوِقَايَةُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالأَمْرَاضِ بِإِذْنِ اللهِ.
36-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ إِيذَاء الْمُؤْمِنِين وَالإضْرَار بِهِمْ، قَالَ تَعَالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» .
37-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ الأَكْلِ بِالشِّمَالِ، وَالشَّرُبِ بِهَا، لأَنَّهَا لإِزَالَةِ مَا يَسْتَقْذَرُ، وَلأَنَّ الشَّيْطانَ يَأْكُل بِشِمَالِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيث.
38-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ بِاتِّبَاعِ جَنَازَة الْمُسْلِم لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّرَحُمِ عَلَيْهِ، وَالصَّلاةِ عَلَيْهِ، وَجَبْرِ خَوَاطِرِ أَهْلِهِ الْمُؤْمِنِين.
39-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإبْرَارُ الْمُقْسِمِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّآلُفِ وَالتَّآخِي، وَالدُّعَاءِ لأَخِيكَ بِالرَّحْمَةِ، وَلِمَا فِي إِبْرَارِ الْقَسَمِ مِنْ جَبْرِ خَاطِرِهِ، وَإِجَابَةِ طَلَبِهِ، مَا لَمْ يَكُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ.
40-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، وَلا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِعُرْسٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، أَوْ يَخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَالإِنْسَانِيَّةِ كَمَا تَرَاهُ الْيَوْمَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ، لأَنَّ فِي حُضُورِهِ وَالْحَالََةُ هَذِهِ تَشْجِيعٌ لِلْفَسَقَةِ وَأَهْلِ الْمَجُونِ، وَإِعَانَةٌ عَلَى نَشْرِ الْمَعَاصِي، وَعَدَمِ الْمُبَالاةِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ كَإِزَالَةِ التلفزيون ونحوه حَضَرَ وَأَزَالَه وَإِلا أَمْتَنَعَ.
41-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِ تَرْوِيعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، إِمَّا بِإِخْبَارِهِ بِخَبَرٍ يُفْزِعُهُ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِسِلاحٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
42-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَشَبِّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَبِالْعَكْسِ بَأَن تَتَشَبَّهَ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ، الَّتِي مِنْهَا التَّخْنِثُ فِيمَنْ يَتَشَبَّه بِهِنَّ، فِي مَلابِسِهِنَّ وَحَركَاتِهِنَّ وَكَلامِهِنَّ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُنْحَلِّينَ، الْمَغْرُورِينَ أَصْحَاب الْخَنَافِس وَالتَّوَالِيتَات مَحْلُوقِي اللِّحَا.
43-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلام اتِّقَاءُ مَوَاضِع التُّهَمِ وَالرِّيَبِ، كَيْ يَصُونَ أَلْسِنَةَ النَّاسِ وَقُلُوبَهُمْ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ، وَوَرَدَ أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتِكَفِِ فَقَامَ مَعَهَا مُوَدِّعاً، حَتَّى بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ، فََرَآهُ رَجُلَانِِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ فَقَالَ:«عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» . فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئاً» . فَهَذَا أَشْرَفُ الْخَلْقِ وَأَزْكَاهُمْ، وَأَبْعَدَ التُّهْمةَ وَالشَّكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: مَنْ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ التُّهَم فَلا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنِ، وَمَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ يُكَلِّمُ إِمْرَأَتَه عَلَى ظَهْرِ
الطَّرِيقِ، فَعَلاهُ وَضَرَبَهُ بِالدُّرَةِ، فقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهَا امْرَأَتِي فَقَالَ عُمَرُ: هَلا كَلَّمْتَهَا حَيْثُ لا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.
فالإِسْلام مِنْ مَحَاسِنِه الابْتِعَادُ عَنْ مَوَاضِع التهم والشُّبُهاتِ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى مَنْ تَدَخَّلَ عَلَى الْخَيَّاطِ، يُفَصِّلُ عَلَى بَدَنِهَا وَحْدَهُ، خَالِياً بِهَا، أَوْ رَأَى مِنْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُصَوِّرِ وَحْدَها، أَوْ رَأَى مَنْ تَرْكَبْ مَعْ مَنْ لَيْسَ مَحْرَماً لَهَا أَوْ سَافَرَتْ مُسْلِمَةٌ إِلى بِلادِ الْكُفْرِ بِدُونِ مَحْرَمٍ، أَوْ دَخَلَتْ عَلَى الدُّكْتُورِ وَحْدَهَا بِاسْمِ الْكَشْفِ الطِّبِّي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا حَدَثَ فِي زَمَنِنَا الذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْفِتَنْ، وَقَلَّ فِيهِ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَرَدْعُ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ الذِينَ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَسَانَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، مِنَ التَّفَكُّك وَالتَّخَاذُلِ وَالْمُصَانَعَاتِ، فالله المستعان.
أَيَا عُلَمَاءُ الدِّينِ مَالِي أَرَاكُمْ
تَغَاضَيْتُم عَنْ مُنْكَرَاتِ الأَوَامِرِ
أَمَا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ فَرْضُكُمْ
فَأَعْرَضْتُمُ عَنْ ذَاكَ إِعْرَاضَ هَاجِرِ
أَمَّا أَخْذَ الْمِيثَاقَ رَبِّي عَلَيْكُمْ
بَأَنْ تَنْصَحُوا بِالْحَقِّ أَهْلَ الْمَنَاكِرِ
فَإِنْ هُمُ عَصَوْكُمُ فَاهْجُرُوهُمْ وَهَاجِرُوا
تَنَالُوا بِنَصْرِ الدِّينِ أَجْرَ الْمُهَاجِرِ
إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ قَاضٍ وَعَالِمٍ
وَحَالُ وَزِيرٍ أَوْ أَمِيرٍ مُظَاهِرِ
وَلَمْ تَنْهَوُا عَنْ غَيِّكُمْ فَتَرَقَّبُوا
صَوَاعِقَ قَهَّارٍ وَسَطْوَةَ قَاهِرِ
فَمَا اللهُ عَمَّا تَعْمَلُونَ بِغَافِلٍ
وَلَكِنَّهُ يُمْلِي لِطَاغٍ وَفَاجِرِ
وَقَدْ أَرْسَلَ الآيَاتِ مِنْهُ مُخَوِّفاً
وَلَكِنْ غَفَلْتُمْ عَنْ سَمَاعِ الزَّوَاجِرِ
أَجِيبُوا عِبَادَ اللهِ صَوْتَ مُنَاصِحٍ
دَعَاكُمْ بِصَوْتٍ مَالَهُ مِنْ مُنَاصِرِ
وَقُومُوا سِرَاعاً نَحْوَ نَصْرَةِ دِينكُمْ
إِذَا رُمْتُمُ فِي الْحَشْرِ غُفْرَانَ غَافِرِ
وَحُسْنُ خِتَامِ النَّظْمِ أَزْكَى صَلاتِنَا
عَلَى الْمُصْطَفَى وَالآلِ أَهْلِ الْمَفَاخِرِ
اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا وَأَصْلِح ذَاتَ بَيْنِنَا وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبَنَا وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلامِ وَنَجِّنَا مِنْ الظُّلَُمَاتِ إِلى النُّورِ وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ َ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
44-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا ابْتُلِيَ بِشَرِّيرٍ مِنَ الأَشْرَارِ، أَوْ فَاجِرٍ مِنَ الْفُجَّارِ، أَوْ مُحِبٍّ لِلإِجْرَامِ، يَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَهُ وَيَبْتَعِدَ عَنْ شَرِّهِ، وَيُدَارِيهِ وَيَتَجَنَّبَه مَا أَمْكَنَ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَبَشُّ فِي وُجُوهِ قَوْمٍ، وَإِنَّ
قُلُوبَنَا لِتَلْعَنَهُمْ، وَمَعْنَى هَذَا مُدَارَاةُ الأَشْرَارِ الذِينَ لا تَقْدِرُ عَلَى رَدْعِهِمْ وَالإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، لِخَوْفِكَ مِنْ شَرِّهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ، وَإِجْرَامِهِمْ، وَتُنْكِرُ بِقَلْبِكَ.
45-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الأَمْرُ بِإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ كَثِيرَةٌ مُتَظَاهِرَة.
46-
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ ِبسَتْرِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُيوبِهِمْ وَنَقَائِصهم قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قَلْبِهِ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ» . الْحَدِيثُ وَتَقَدَّم.
47-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ الْمُسْلِمِ، وَمُسَاعَدَةِ الْمُحْتَاجِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لا يُؤْمِنْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَقَالَ: «وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ» .
48-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَوْقِيرُ الْمُسْلِمِ، وَلاسِيَّمَا ذِي الشَّيْبَةِ، وَرَحْمَةُ الصِّبْيَان، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرُ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ عز وجل إِكْرَامَ ذِى الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ» . الْحَدِيث.
49-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ النَّهْيُ عَنْ الْفُحْشِ، وَبَذَاءَةِ اللِّسَانِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِىءِ» .
50-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ النَّهْيُ عَنْ التَّكَلُّمِ سِرّاً بَيْنَ اثْنَيْنِ، مَعَ وُجُودِ ثَالِثٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُ الثَّاِلَث، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ بِهِ، فَهَذَا يُنَافِي الأَدَبِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِن الأَدَبِ أَنْ تَتَحَدَّثَ بِلُغَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ لا
يَعْرِفُهَا، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَ اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أَجْلَ أَنْ ذلك يُحْزِنَهُ» .
51-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنْ يَتَدَخَّلَ الإِنْسَانُ فِيمَا لا يَعْنِيهِ، وَهَذِهِ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الْحَدِيثِ:«مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» . أَخَذَهُ بَعْضُهُمْ وَصَاغَهُ بِعِبَارَةِ: (ابْحَثْ عَنْ عَمَلِكَ الْخَاصِّ) . وَلَوْ تَتَبَعَّ الْمُسْلِمُونَ إِرْشَادَاتِ نَبِيِّهِمْ، وَنَصَاِئِحِه صلى الله عليه وسلم، لاسْتَرَاحُوا وَأَرَاحُوا غَيْرَهُمْ، وَلَوْ تَتَبَّعْت أَكْثَرَ الْمَشَاكِلَ، وَالْمُنَازَعَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ وَالْمُجَادَلاتِ، لَوجَدْتَ سَبَبَها الْوَحِيدَ التَّدَخُلُ فِيمَا لا يَعْنِي.
52-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ عَنْ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعَرُّضِ لِمَا لا يَنْبَغِي، وَلِمَا يَلْزَمُ الإِنْسَانَ الْقِيَامُ بِهِ وَرُبَّمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ مِنَ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَرَدْعِ الظَّالِمِ، وَذَلِكَ نَصْرُهُ، وَإِعَانَةِ الْمُسْلِمِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ وَرَدِّ السَّلامِ، وَكَفِّ الأَذَى.
53-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّ مَن استعاذَنَا بِاللهِ عَلَيْنَا أَنْ نُعِيذَهُ وَأَنَّ مَنْ سَأَلَنَا بِاللهِ نُعْطِيهُ، وَنُكَافِئَ مَنْ صَنَعَ إِلَيْنَا مَعْرُوفاً إِنْ اسْتَطَعْنَا، فَإِنْ لَمْ نَسْتَطِع نَدْعُو لَهُ أَنْ يَجْزِيَه اللهَ جَزَاءً حَسَناً، عَلَى مَا أَسْدَاهُ إِلَيْنَا مِنَ الْمَعْرُوفِ، عَمَلاً بِالْحَدِيثِ «مَنِْ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ» . الْحَدِيث.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الأَعْظَمِ الأَعَزِّ الأَجَل الأَكْرَمِ الذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ، وَنَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْكَرِيم أَكْرَمَ الْوُجُوه وَأَعَزَّ الْوُجُوه، يَا مَنْ عَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ،
وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتُ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّوم يَا مَالِكَ الْمُلْكِ يَا مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم، وَبِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيط، يَا مَنْ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَر إِلا فِي كِتَابٍ مُبِين، نَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِر سَيِّئَآتِنَا وَتُبَدِّلَهَا بِحَسَنات يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَأَجْوَدَ الأَجْوَدِين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
54-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنْ تُنْصِفَ مِنْ نَفْسِكَ، وَأَنْ تُحِبَّ للنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَضَعَ نَفْسَكَ مَوْضِعَ إِخْوَانِكَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُعَامِلَهُمْ الْمُعَامَلَةَ الَّتِي تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهَا، وَتُؤَدِّيَ حُقُوقَهُمْ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((لا يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الإِيمَانَ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ، الإِنْفَاقُ مِنْ الإِقْتَارِ، وَالإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَبَذْلُ السَّلامِ» . وَقَالَ تَعَالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «طَعَامُ الاِثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَة» . إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَفِي الْحَدِيثِ الآخر: «وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلٌ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مَنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مِنْ لَا زَادَ لَهُ» . فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، قَالَ أَبُو سَعِيد: حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِى فَضْلٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
55-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلام، وَأَخْلاقِهِ السَّامِيَةِ، أَنْ يَصُونَ الإِنْسَانُ ِعْرَض أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَنَفْسَه وَمَالَه، مِنْ ظُلْمٍ أَصَابَهُ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِه، وَيَرُدَّ عَنْهُ الظُّلْمِ وَالْعِدْوَانَ، وَيُدَافِعَ وَيُنَاضِلَ عَنْهُ حَسَبَ قُدْرَتِهِ، فَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاًٌ نَالَ مِنْ رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ كَانَ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّارِ» . وَوَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
56-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الأَمْرُ بِالتَّوَسُطِ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالإِسْرَافِ، قَالَ تَعَالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} بَيْنَ تَبْذِيرٍ وَبُخْلٍ رُتْبَةٌ وَكِلا هَاذَيْنِ إِنْ زَادَ قَتَلْ.
57-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلاثَةِ الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتَّى يُؤَدِّيهَا، وَالصَّبْرُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ حَتَّى يَتْرُكَهَا، وَالصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمَةِ.
58-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْعَطْفُ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالرَّأْفَةِ بِالْيَتَامَى، وَالْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ، وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَدَفعِ الأَذَى عَنْهُمْ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ، وَالتَّوَاضُعِ مَعَهُمْ، وَمُلاطَفَتِهِمْ وَخَفَضْ الْجَنَاحِ لَهُمْ، وَلِيْنِ الْجَانِبِ مَعَهُمْ، قَالَ تَعَالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وَقَالَ:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَقَالَ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} وَقَالَ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} وَقَالَ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} الآية.
59-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الرَّأْفَةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالشَّفْقَةُ، لا الْقَسْوَةُ
وَالْغِلْظَةُ وَالتَّعْذِيبُ، حَتَّى فِي حَقِّ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمَيَّةِ عَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِى هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعاً: «أَنَّ رَجُلاً دَنَا مِنْ بِئْرٍ فَنَزَلَ وَشَرِبَ مِنْهَا، وَعَلَى الْبِئْرِ كَلْبٌ يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ، فَرَحِمَهُ فَنَزَعَ أَحَدَ خُفَّيْهِ فَسَقَاهُ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» .
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الذِي وَسَمَهُ» .
شِعْراً:
أَنَا الْعَبْدُ الذِي كَسَبَ الذُّنُوبَا
وَصَدَّتْهُ الأَمَانِي أَنْ يَتُوبَا
أَنَا الْعَبْدُ الذِي أَضْحَى حَزِيناً
عَلَى زَلاتِهِ قَلِقاً كَئِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الذِي سُطِرَتْ عَلَيْهِ
صَحَائِفُ لَمْ يَخَفْ فِيهَا الرَّقِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُسِيءُ عَصَيْتُ سِرّاً
فَمَا لِي الآنَ لا أُبْدِي النَّحِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُفَرِّطُ ضَاعَ عُمْرِي
فَلَمْ أَرْعَ الشَّبِيبَةَ وَالْمَشِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْغَرِيقُ بِلُجِّ بَحْرٍ
أَصِيحُ لَرُبَّمَا أَلْقَى مُجِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ السَّقِيمُ مِنَ الْخَطَايَا
وَقَدْ أَقْبَلْتُ التَمِسُ الطِّبِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُخَلَّفُ عَنْ أُنَاسٍ
حَوَوْا مِنْ كُلِّ مَعْرُوفٍ نَصِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الشَّرِيدُ ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَقَدْ وَافَيْتُ بَابَكُمْ مُنِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْفَقِيرُ مَدَدْتُ كَفِّي
إِلَيْكُمْ فَادْفَعُوا عَنِّي الْخُطُوبَا
أَنَا الْغَدَّارُ كَمْ عَاهَدْتُ عَهْداً
وَكُنْتَ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ كَذُوبَا
أَنَا الْمَقْطُوعُ فَارْحَمْنِي وَصِلْنِي
وَيَسِّر مِنْكَ لِي فَرَجاً قَرِيبَا
أَنَا الْمُضْطَرُّ أَرْجُو مِنْكَ عَفْواً
وَمَنْ يَرْجُو رِضَاكَ فَلَنْ يَخِيبَا
فَيَا أَسَفِي عَلَى عُمْرٍ تَقْضِّي
وَلَمْ أَكْسِبْ بِهِ إِلا الذُّنُوبَا
وَأَحْذَرُ أَنْ يُعَاجِلُنِي مَمَاتٌ
يُحَيِّرُ هَوْلُ مَصْرَعِهِ اللَّبِيبَا
وَيَا حُزْنَاهُ مِنْ حَشْرِي وَنَشْرِي
بِيَوْمٍ يَجْعَلِ الْوِلْدَانَ شِيبَا
تَفَطَّرَتْ السَّمَاءُ بِهِ وَمَارَتْ
وَأَصْبَحَتِ الْجِبَالُ بِهِ كَثِيبَا
إِذَا مَا قُمْتُ حَيْرَاناً ظَمِيئاً
حَسِيرَ الطَّرْفِ عُرْيَاناً سَلِيبَا
وَيَا خَجْلاهُ مِنْ قُبْحِ اكْتِسَابِي
إِذَا مَا أَبْدَتْ الصُّحُفُ الْعُيُوبَا
وَذِلَّةُ مَوْقِفٍ وَحِسَابِ عَدْلٍ
أَكُونُ بِهِ عَلَى نَفْسِي حَسِيبَا
وَيَا حَذْرَاهُ مِنْ نَارِ تَلَظَّى
إِذَا زَفَرَتْ وَأَقْلَقَتِ الْقُلُوبَا
تَكَادُ إِذَا بَدَتْ تَنْشَقُّ غَيْظاً
عَلَى مَنْ كَانَ ظَلاماً مُرِيبَا
فَيَا مَنْ مَدَّ فِي كَسْبِ الْخَطَايَا
خُطَاهُ أَمَا يَأْنِي لَكَ أَنْ تَتُوبَا
أَلا فَاقْلِعْ وَتُبْ وَاجْهَدْ فَإِنَّا
رَأَيْنَا كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبَا
وَأَقْبِلْ صَادِقاً فِي الْعَزْمِ وَاقْصُدْ
جَنَاباً لِلْمُنِيبِ لَهُ رَحِيبَا
وَكُنْ لِلصَّالِحِينَ أَخاً وَخِلا
.. وَكُنْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرِيبَا
وَكُنْ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ جَبَاناً
وَكُنْ فِي الْخَيْرِ مِقْدَاماً نَجِيبَا
وَلاحِظْ زِينَة الدُّنْيَا بِبُغْضٍ
تَكُنْ عَبْداً إِلى الْمَوْلَى حَبِيبَا
فَمَنْ يَخْبُرْ زَخَارِفَهَا يَجِدْهَا
مُخَالِبَةً لِطَالِبِهَا خَلُوبَا
وَغُضَّ عَنِ الْمَحَارِمِ مِنْكَ طَرْفاً
طَمُوحاً يَفْتِنُ الرَّجُلَ الأَرِيبَا
فَخَائِنَةُ الْعُيُونِ كَأُسْدِ غَابٍ
إِذَا مَا أَهْمَلْتَ وَثَبْتَ وَثُوبَا
وَمَنْ يَغْضُضْ فُضُولَ الطَّرَفِ عَنْهَا
يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رُوحاً وَطِيبَا
وَلا تُطْلِقْ لِسَانَكَ فِي كَلامٍ
يَجُرُّ عَلَيْكَ أَحْقَاداً وَحُوبَا
وَلا يَبْرَحْ لِسَانُكَ كُلَّ وَقْتٍ
بِذِكْرِ اللهِ رَيَّاناً رَطِيبَا
وَصَلِّ إِذَا الدُّجَى أَرْخَى سُدُولاً
وَلا تَضْجَرْ بِهِ وَتَكُنْ هَيُوبَا
تَجِدْ أُنْساً إِذَا أُودِعْتَ قَبْراً
وَفَارَقْتَ الْمَعَاشِرُ وَالنَّسِيبَا
.. وَصُمْ مَا تَسْتَطِيعُ تَجِدْهُ رِيّاً
إِذَا مَا قُمْتَ ظَمْآناً سَغِيبَا
وَكُنْ مُتَصَدِّقاً سِرّاً وَجَهْراً
وَلا تَبْخَلْ وَكُنْ سَمْحاً وَهُوبَا
تَجِدْ مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ ظِلا
إِذَا مَا اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْكُرُوبَا
وَكُنْ حَسَنِ السَّجَايَا وَذَا حَيَاءٍ
طَلِيقَ الْوَجْهِ لاشَكْساً غَضُوبَا
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوْفِيقاً يَقِيناً عَنْ مَعَاصِيكَ، وَأَرْشِدْنَا بِرُشْدِكَ إِلى السَّعْي فِيمَا يُرْضِيكَ وَأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ، وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
60-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلام مراعاةُ الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ أَنْ نَضَعَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَنْزِلَتِهِ، وَنُرَاعِي كَرَامَتَهُ وَشُعُورَهُ وَنَجْعَلَهُ فِي الْمَكَانِ الذِي يَلِيقُ بِهِ.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ مُسَافِرَةً فَنَزَلَتْ مَنْزِلاً تَسْتَرِيحُ فِيهِ وَتَتَنَاوَلُ طَعَامَهَا فَجَاءَ سَائِلٌ فَقِيرٌ
فَقَالَتْ: نَاوِلُوا هَذَا الْمِسْكِينَ قُرْصاً، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ يَرْكَبُ فَرَساً، فَقَالَتْ: ادْعُوهُ إِلى الطَّعَامِ. فَقِيلَ لَهَا: لِمَاذَا تَعْطِينَ الْمِسْكِينَ قُرْصاً، وَتَدْعِينَ هَذَا الْغَنِيَّ إِلى الطَّعَام، فَأَجَابَتْ إِنَّ اللهَ تَعَالى أَنْزَلَ النَّاسَ مَنَازِلَ لا بُدَّ لَنَا أَنْ نُنْزِلَهُمْ تِلْكَ الْمَنَازِلَ، هَذَا الْمِسْكِينُ يَرْضَى بِقُرْصٍ، وَقِبيِحٌ بِنَا أَنْ نُعْطِي هَذَا الْغَنِيَّ - وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ - قُرْصاً. فَرَحِمَهَا اللهُ مَا أَحْسَنَ هَذَا مِنْ جَوَابِ رَدٍّ دَلَّ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَحُسنِ الذُّوقِ، وَنَُبْلِ الْخُلُقِ، وَكَرَمِ الْمُعَامَلَةِ، وَالإِقْتِدَاءَ التَّامِ بِإِرْشَادَاتِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بَيْتاً مِنْ بُيُوتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ حَتَّى امْتَلأَ الْمَجْلِسُ، فَجَاءَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ، فَلَمْ يَجِدْ مَكَاناً فَقَعَدَ عَلَى الْبَابِ فَلَفَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رِدَاءَهُ وَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ:«اجْلِسْ عَلَى هَذَا» . فَأَخَذَ جَرِيرٌ الرِّدَاءَ، وَوَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يُقَبِّلُه وَيَبْكِي، مُتَأَثِّراً مِنْ إِكْرَامِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَهُ، ثُمَّ لَفَّهُ وَرَدَّه إِلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَاكِراً مُقَدِّراً، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لأَجْلِسَ عَلَى ثَوْبِكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَكْرَمَكَ اللهُ يَا رَسُولَ اللهِ كَمَا أَكْرَمْتَنِي، فَنَظَر الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم يَمِيناً وَشِمَالاً ثُمَّ قَالَ:«إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوه» .
فَانْظُرْ إِلى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْجَمِيلَةِ، تَجِدِ الْمَثَلَ الْكَاملَ فِي مُعَامَلَةِ الرَّسُولِ لَهُ، حَيْثُ رَاعَى شُعُورَ جَرِيرٍ وَأَكْرَمَهُ، وَكَيْفَ تَأَثَّرَ جَرِيرٌ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْكَرِيمَةِ النَّبِيلَةِ اللَّطِيفَةِ.
61-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِلزَّوْجَاتِ عَلَى الأَزْوَاجِ حُقُوقاً مِثْلُ
الْحُقُوقِ الَّتِي لِلرِّجَالِ بِالْمَعْرُوفِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَتَرْكِ الإِضْرَارِ، وَجَعل {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أَيْ فِي الْفَضِيلَةِ فِي الْخُلُقِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَطَاعَةِ الأَمْرِ، وَالإِنْفَاقِ، وَأَدَاءِ الْمَهْرِ، وَالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ، وَالْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
62-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ أنَّ الْمَرْأَةَ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُعَدُّ جُزْأً مِنْ ثَرْوَةِ أَبِيهَا أَوْ زَوْجِهَا، وَكَانَ ابنُ الرجلِ يَرِثُ أَرْمَلَةَ أَبِيهِ بَعْدَ وَفَاتِهَا، وَكَانَ الْعَرَبُ قَبْلَ الإِسْلامِ يَرِثُونَ النِّسَاءَ كُرْهاً، بَأَنْ يَأْتِي الْوَارِثُ وَيُلْقِي ثَوْبَه عَلَى زَوْجَةِ أَبِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: وَرِثْتُهَا كَمَا وَرِثْتُ مَالَ أَبِي، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا تَزَوَّجَهَا بِدُونِ مَهْرٍ، أَوْ زَوَّجَهَا لأَحَدٍ مِنْ عِنْدَهُ وَتَسلَّمَ مَهْرَهَا مِمَّنْ يَتَزَوَّجَهَا، أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ كَيْ يَرِثَهَا، فَمَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّة هَذَا الظُّلْمِ وَهَذَا الإِرْثَ قَالَ تَعَالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً} وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ مِنَ الزَّوَاجِ، فَالابْنُ الْوَارِثُ كَانَ يَمْنَعُ زَوْجَةَ أَبِيهِ مِنَ التَّزوْجِ، كَيْ تُعْطِيَه مَا أَخَذَتْهُ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ، وَالأَبُ يَمْنَعُ ابْنَتَهُ مِنْ التَّزوُجِ حَتَّى تَتْرُكَ لَهُ مَا تَمْلِكُه، وَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَيَمْنَعُهَا مِنَ الزَّوَاجِ، حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ. وَالزَّوْجُ الْمُبْغِضُ لِزَوْجَتِهِ يُسِيءُ عِشْرَتَهَا، وَيُمَلِّلُهَا، وَلا يُطَلِّقُهَا حَتَّى تَرُدَّ إِلَيْهِ مَهْرَهَا، فَالْعَرَبُ قَبْلَ الإِسْلام يَظْلِمُونَ الْمَرْأَةَ وَيَتَحَكَّمُونَ فِيهَا، قَالَ تَعَالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} وَكَانُوا لا يَعْدِلُونَ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، فَأَمَرَ الإِسْلامُ بِالْعَدَالَةِ بَيْنَهُنَّ قَالَ تَعَالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، وَقَالَ:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} ، وَقَالَ:{وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وَقَالَ فِي نَاحِيَةِ الدِّينِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
وَفِي نَاحِيَةِ الأَهْلِيَّةِ وَالْمُلْكِ قَالَ تَعَالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} ، وَقَالَ:{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} .
وَحَسبُ الإِسْلامِ مَا كَفَلَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ مُسَاوَاةٍ دِينِيَّةٍ، وَمِنْ مُسَاوَاةٍ فِي التَّمَلُكِ وَالْكَسْبِ، وَمَا حَقَّقَ لَهَا مِنْ ضَمَانَاتٍ فِي الزَّوَاجِ بِإِذْنِهَا وَرِضَاهَا دُونَ إِكْرَاهٍ وَلا إِهْمَالٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لا تُنْكَحُ الثَّيبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنْ، وَإِذْنُهَا الصُّمُوت» . وَفِي مَهْرِهَا قَالَ: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} .
63-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ أَنَّ الْعَرَبَ قَبْلَ الإِسْلامِ يَئدُونَ الْبَنَاتِ، وَيَدْفِنُونَهُنَّ وَهُنَّ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ خَوْفاً مِنَ الْعَارِ، يُهِلُ عَلَى ابْنَتِهِ التُّرَابَ حَتَّى تَمُوتَ، فَجَاءَ الإِسْلامُ وَحَرَّمَ وَأْدَهُنَّ وَقَتْلُهنَّ تَحْرِيماً قَاطِعاً، وَمَنَحَهُنَّ الْحَقَّ فِي الْحَيَاةِ، وَبِهَذَا أَنْصَفَ الإِسْلامُ الْمَرْأَةَ كُلَّ الإِنْصَافِ وَحَافَظَ عَلَى حَيَاتِهَا وَحُقُوقِهَا الإِنْسَانِيَّةِ.
اللَّهُمَّ أَعِذْنَا مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَغَلَبَةِ الدِّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَحْيِ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَزَيِّنْهَا بِمَحَبَّتِكَ وَجَمِّل أَلْسِنَتَنَا بِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحَسِّنْ أَعْمَالَنَا وَوَفِّقْنَا لِحِفْظِ أَوْقَاتِنَا وَأَحْيينَا حَيَاةً طَيِّبَةً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ.
فَصْلٌ 64- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ إِبْطَالُ الْكِهَانَةِ وَتَحْرِيمُهَا، وَتَحْرِيمُ زَجْرِ الطَّيْرِ،
وَتَحْرِيمُ الْمَيْسِرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقِمَارِ، وَمِنْهَا الأَزَلامُ وَالْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي.
65-
وَمِنْهَا رَمْيُ الْبَعْرَةِ، كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا دَخَلَتْ حُشِفاً وَلَبَسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طَيْباً حَتَّى تَمْضِي عَلَيْهَا سَنَة، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَةٍ حِمَارٍٍ أَوْ طَيْرٍ أَوْ شَاةٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ مَا شَاءَتْ.
66-
وَمِنْهَا قَتْلُ الأَوْلادِ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَهُ إِلى أَنْ نَهَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً} .
67-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ حَوَّلَ الْوَثِنِّيينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارَ إِلى مُؤْمِنِينَ صَالِحِينَ، أَتْقِيَاءَ زُهَّاداً وَرِعِينَ يَخَافُونَ اللهَ، وَيَعْبُدُونه وَحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، وَيَقِفُونَ بِجَانِبِ الْحَقِّ، لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
68-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ تَحْرِيمُ الْغَدْرِ، قَالَ تَعَالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالى:{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} ؟ وَوَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لِكلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فلانُ» . وَقَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ خَالِصاً» وَعَدَّ مِنْهَا: «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرْ» . وَقَالَ: «يَقُولُ اللهُ ثَلاثةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِي.
69-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ، وَكَسْبِ الرِّزْقِ، وَتَرْكُ الْكَسَلِ، وَسُؤَالَ النَّاسِ إِلا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَالإِسْلامُ دِينُ سَعْيٍ
وَعَمَلٍ وَاجْتِهَادٍ، لا دِينُ كَسَلٍ وَعَجْزٍ وَتَوَانٍ، دِينٌ يُحَافِظُ عَلَى الْعِزَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَالْكَرَامَةِ الشَّخْصِيَّةِ، قَالَ تَعَالى:{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ، وَقَالَ:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} وَيَحثُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَمَلِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، وَيَقُول:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} .
70-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ الْقَصْدُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا:{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وَعَنْ الْمِقْدَادِ بن مَعْدِي كَرْبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَاعِلاً فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفْسِهِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَة.
71-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ النَّهْيُ عَنْ الْمُمَاطَلَةِ فِي الْحُقُوقِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي، وَمُسْلِم.
72-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الأَمْرُ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، قَالَ تَعَالى:{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَاينُ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِراً، قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ» .
73-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ النَّهْيُ عَن الرِّشْوَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَوَرَدَ:«لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِيَ، وَالرَّائِشُ الذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا» .
74-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى إِقَالَةِ النَّادِمِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ وَجَبْرِ خَاطِرِهِ، فَفِي الْحَدِيث:«مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً أَقَالَ اللهُ عثْرُتَه» . وَفِي رِوَايَةِ: «مِنْ أَقَالَ نَادِماً أَقَالَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَصَلَّى.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمَنّا مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الرَّجْفِ وَالزلْزَال، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
75-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ بَذْلُ النَّصِيحَةُ للهِ، وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ. فَالنَّصِيَحَةُ للهِ الإِيمَانُ بِهِ، وَنَفْي الشَّرِيكِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَوَصْفِهِ بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَتَنْزِيهِه عَنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، وَطَاعَةِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيهِ، وَمُوَالاةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ لَهُ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللهِ، فَالإِيمَانُ بِأَنَّهُ كَلامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَتَحْلِيلُ مَا حَلَّلَهُ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ، وَالإِهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ وَالتَّدَبُّرُ لِمَعَانِيهِ، وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِهِ، وَالإِتِّعَاظُ بِمَوَاعِظِهِ، وَالاِعْتِبَارُ بِزَوَاجِرِهِ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَمَحَبَّتُهُ، وَتَقْدِيمُهُ فِيهَا عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَتَوْقِيرُهُ حَياً وَمَيِّتاً، وَمَعْرِفَةُ سُنَّتِهِ وَنَشْرُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا، وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ عَلَى قَوْلِ كُلِّ أَحَدٍ كَائِناً مَا كَانَ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ إِعَانَتُهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَأَمْرُهُمْ بِهِ، وَتَذْكِيرُهم بِحِوَائِجِ الْعِبَادِ وَنُصْحُهم بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَعَدْلٍ وَاعْتِقَادُ ولايَتِهِمْ وَالسَّمِعُ وَالطَّاعَةُ لَهُمْ فِي غَيْرِ
مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحثُّ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَبَذْلُ مَا تَسْتَطِيعُهُ مِنْ إِرْشَادِهِمْ وَتَنْبِيهِهُمْ إِلى مَا يَنْفَعُهم، وَيَنْفَعُ النَّاسَ وَالْقِيَامُ بِوَاجِبِهِم، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ إِرْشَادُهُمْ لِمَصَالِحِهم فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَكَفُّ الأَذَى عَنْهُم، وَتَعْلِيمُهُم مَا جَهِلُوا مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَأَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُم عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ حَسَبَ الإِمْكَان.
76-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ قَطِيعَةِ الرَّحَمِ، قَالَ اللهُ تَعَالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«الرَّحِمُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي أَوْفَى عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ» .
77-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنِ التَّشَدُّدِ فِي الدِّينِ، وَعَنْ الزُّهْدِ فِي الطِّيبَاتِ، لأَنَّ الإِسْلامَ دِينُ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ وَالاعْتِدَالِ، فَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا فَأصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ الآخَرُ: وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَداً. فَجَاءَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَنْتُمْ الذِينَ قُلْتُمْ كَذَا، وَكَذَا؟ أَمَّا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمُ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . رَوَاهُ الشَّيْخَانُ.
قصيدة في غربة الإسلام:
أَقُولُ وَأَوْلَى مَا يُرَى فِي الدَّفَاتُرِ
وَأَحْسَنُ فَيْضاً مِنْ عُيُونِ الْمَحَابِرِ
هُوَ الْحَمْدُ لِلْمَعْبُودِ وَالشُّكْرُ وَالثَّنَاء
تَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِ الْغُوَاةِ الْغَوَادِرِ
وَجَلَّ عَنْ الأَنْدَادِ لا رَبَّ غَيْرُهُ
وَعَنْ شَافِعٍ فِي الابْتِدَا أَوْ مُوَازِرِ
وَصَلَّى عَلَى مَنْ قَامَ للهِ دَاعِياً
وَشَيَّدَ أَعْلامَ الْهُدَى وَالشَّعَائِرِ
وَأَوْضَحَ دِينَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا سَفَتْ
عَلَيْهِ السَّوَافِي فِي الْقُرَى وَالْجَزَائِرِ
وَعَادَا وَوَالَى فِي رِضَى اللهِ قَوْمَهُ
وَلَمْ يَثْنِه عَنْ ذَاكَ صَوْلَةُ قَاهِرِ
مُحَمَّدٌ الْمُبْعُوثُ لِلنَّاسِ رَحْمةً
نِذَارَتُهُ مَقْرونَةٌ بِالْبَشَائِرِ
وَبَعْدُ فَإِنْ تَعْجَب لِخَطْبٍ تَبَلْبَلَتْ
لِفَادِحِهِ أَهْلُ النُّهَى وَالْبَصَائِرِ
فَلا عَجَبًا يَوْمٌ مِنَ الدَّهْرِ مِثْلَ مَا
أَنَاخَ بِنَا مِنْ كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
وَمَا ذَاكَ إِلا غُرْبَةُ الدِّينِ يَا لَهَا
مُصِيبَةُ قَوْمٍ مِنْ عِظَامِ الْفَوَاقِرِ
تَرَى أَهْلَهُ مُسْتَضْعَفِينَ أَذِلَّةً
فَمَا بَيْنَ طَعَّانٍ عَلَيْهِمْ وَنَافِرِ
وَمُسْتَهْزِءٍ مِنْهُمْ فَيُنْغِضُ رَأْسَهُ
وَيَرْمُونَهُمْ شَزْرَ الْعُيُونِ النَّوَاضِرِ
وَعَادَاهُمُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ وَالْحِجَى
وُكَلُّ خَلِيلٍ أَوْ قَرِيبٍ مُصَاهِرِ
فَمَا شِئْتَ مِنْ شَتْمٍ وَقَذْفٍ وَغِيبَةٍ
وَتَنْقِيصُهِم فِي كُلِّ نَادٍ لِفَاجِرِ
وَأَعْيُنُهُمْ فِي فِعْلِ ذَاكَ قَرِيرَةٌ
فَمِنْ صَامِتٍ فِي فِعْلِهِ أَوْ مُجَاهِرِ
وَمَنْ قَامَ بِالإِنْكَارِ فَهُوَ مُشَدِّدٌ
يَكَادُونَ أَنْ يُبْدُوهُ فَوْقَ الْمَنَابِرِ
فَإِنْ يَحْكُموا بِالسَّوْطِ ضَرْباً فَإِنْ يَكُنْ
رُجُوعٌ وَإِلا بِالضُّبَا وَالْخَنَاجِرِ
وَأَصْبَحَ ذُو الإِيمَانِ فِيهِمْ كَقَابِضٍ
عَلَى الْجَمْرِ أَوْ فِي الْجَنْبِ صَلي الْمَجَامِرِ
وَإِخْوَانُه النُّزَّاعُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
لَدَى أَهْلِهَا فِي ذُلِّهِمْ كَالأَصَاغِرِ
وَمَا زَادَهُمْ إِلا ثَبَاتاً مَعَ الرِّضَى
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لِلْمُهَيْمِنِ شَاكِرِ
فَأَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ عُصْبَةِ الْحَقِّ إِنَّهُمْ
.. لِحِفْظِ نُصُوصِ الدِّينِ أَهْلُ تَنَاصِرِ
إِذَا مَا بَدَا نَصَّ الْكِتَابِ وَسُنَّةٍ
تَنَادَوا عِبَادَ اللهِ هَلْ مِنْ مُثَابِرِ
وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ فَاهْتَدُوا
وَمَا رَغِبُوا عَنْهَا لِخِرْصِ الْخَوَاطِرِ
عَلَيْكَ بِهَاتَيْكَ الصِّفَاتِ مُنَافِساً
فَللهِ مَا أَسْنَا سَنَاهَا لِسَائِرِ
هُمْ الْقَوْمُ لا يَثْنِيهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ
مَلامَةُ لُوَّامٍ وَخُذْلانُ نَاصِرِ
بِنَفْسِي فَتَى مَا زَالَ يَدْأَبُ دَائِماً
إِلى رَبِّهِ أَكْرِمْ بِهِ مِنْ مُهَاجِرِ
مُكِبّاً عَلَى أَيِ الْكِتَابِ وَدَرْسِهِ
بِقَلْبٍ حَزِينٍ عِنْدَ تِلْكَ الزَّوَاجِرِ
فَيَا لَيْتَنِي أَلْقَاهُ يَوْماً لَعَلَّهُ
يُخَبِّرُنِي عَمَّا حَوَى فِي الضَّمَائِرِ
وَنَرْفَعُ أَيْدِينَا إِلى اللهِ بِالدُّعَا
لِيَنْصُرَ دِينَ الْمُصْطَفَى ذِيِ الْمَفَاخِرِ
وَيَنْصُرَ أَحْزَابَ الشَّرِيعَةِ وَالْهُدَى
وَيَقْمَعَ أَهْلَ الزَّيْغِ مِنْ كُلِّ فَاجِرِ
فَآهٍ عَلَى تَفْرِيقِ شَمْلٍ فَهَلْ لِمَا
مَضَى عَوْدَةٌ نَحْوَ السِّنِينِ الْغَوَابِرِ
.. عَسَى نَصْرَةٌ لِلدِّينِ تَجْمَعُ شَمْلَنَا
تَقرُّ بِهَا مِمَّا تَرَى عَيْنُ نَاظِرِ
فَيَرْتَاحُ أَهْلُ الدِّينِ فِيهَا أَعِزَّةً
وَأَعْدَاؤُهُ تَحْتَ الْقَنَا وَالْحَوَافِرِ
وَأَخْتِمُ نَظْمِي بِالصَّلاةِ مُسَلِّماً
مَدَى الدَّهْرِ مَا نَاضَتْ بُرُوقُ الْمَوَاطِرِ
عَلَى أَحْمَدٍ وَالآلِ وَالصَّحْبِ الذِي
لَهُمْ تَابِعٌ يَسْعَى بِفِعْلِ الأَوَامِرِ
اللَّهُمَّ لا تَجْعَل الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا إِلى النَّارِ مَصِيرَنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لا يَخَافُكَ وَلا يَرْحَمُنَا وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقوِّهَا وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَارْزُقْنَا التَّأَهُّبَ وَالاسْتِعْدَادَ لِلِقَائِكَ وَاجْعَلْ خِتَامَ صَحَائِفِنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
78-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ التَّرْغِيبُ فِي الدَّعْوَةِ إِلى الْخَيْرِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ دَعَا إِلى هُدَى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَنْقُص ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثُمَّ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً» . رَوَاهُ مُسْلِم، وَأَبُو دَاودَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
79-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ حَثُّ الْمَرْءِ عَلَى انْتِهَازِ فُرْصَةِ الْحَيَاةِ لِعَمَلِ مَا يَنْفَعُهُ فِي الآخِرَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم. وَقَالَ اللهُ تَعَالى: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} .
80-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى وُجُوبِ الاعْتِمَادِ عَلَى اللهِ، ثُمَّ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِح، لا عَلَى مَالِهِ مِنْ صِلَةٍ بِالْمُقَرَّبِينَ إِلى اللهِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللهُ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، فَقَالَ:«يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَيَا صَفِيَّةُ عمةُ رَسُولِ اللهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً» . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
81-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ الأَمْرُ بِتَعَهُّدِ النَّفْسِ بِالإِصْلاحِ فَيُلْزِمُهَا بِأَدَاءِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَالآيَاتُ فِي الْحَثِّ عَلَى التَّقْوَى كَثِيرَةٌ.
82-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ أَنَّهُ يَجْعَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صِلَةٍ دَائِمَةٍ بِرَبِّهِ، حِينَ تَفِدُ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ، وَحِينَ تَنْزِلُ بِهِ الشِّدَّةُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِن إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم.
شِعْرًا:
…
أَيَا ابْنَ آدمَ لا تَغْرُرْكَ عَافِيَةٌ
…
عَلَيْكَ شَامَلةٌ فَالْعُمْرُ مَعْدُودُ
مَا أَنْتَ إِلا كَزَرْعٍ عِنْدَ خُضْرَتِهِ
…
بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأَوْقَاتِ مَقْصُودُ ِ
فَإِنْ سَلِمْتَ مِن الآفَاتِ أَجْمَعِهَا
…
فَأَنْتَ عِنْدَ كَمَالِ الأَمْرِ مَحْصُودُ
83-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ أَنَّهُ يَحُثُّ الْخَلْقَ، وَيُوَجِّههم إِلى إِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ وَيُرْشِدُهُمْ وَيُبَيِّن لَهُمْ كَيْفَ يُحَرِّرُونَ عُقُولَهم، وَيَسْمُونَ بِهَا عَنْ مَهَاوِي الضَّلالِ، إِلى أَنْ يَخُصُوا اللهَ جَلَّ وَعَلا بِالْعِبَادَةِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ كَيْفَ يَصْقُلُونَ نُفُوسَهُمْ، وَيُغذُّونَ أَرْوَاحَهُمْ بِالصَّلاةِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَيُوَضِّحَ لَهُمْ كَيْفَ يُطَهِّرُونَ أَمْوَالَهُمْ بِأَدَاءِ حَقِّ اللهِ، وَكَيْفَ يَبْنُونَ الأُسْرَةَ الْمُسْلِمَةَ الَّتِي هِيَ نَوَاةُ الْمُجْتَمَعِ عَلَى أُسُسِ سَلِيمَةٍ قَوِيَّةٍ وَذَلِكَ بِتَوَاصُلِهم، وَمَعْرِفَتِهِمْ لِحَقِّ قَرَابَتِهِمْ، وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَالَهُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرَبٌ مَالَهُ تَعْبِدُ اللهِ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ» . الْحَدِيث رَوَاهُ الشَّيْخَان.
84-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ لِمَنْ يَعْلَمُ، وَتَحْرِيمُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي تُعَطِّلُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ وَتَحْرِيمُ الْقَوْلِ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَمِنَ الْغَايَاتِ الَّتِي حَرَصَ الإِسْلامُ عَلَى تَحْقِيقِهَا أَنْ يُقِيمَ الْمُجْتَمَعَ الإِنْسَانِي عَلَى أُسُسٍ قَوِيَّةٍ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالتَّرَاحُمِ، وَأَنْ تَسُودَ أَعْضَاءَهُ رُوحُ الْمَوَدَّةِ وَالتَّعَاونِ الْمُثْمِرِ، وَيَسْلَمُ مِنْ عَوَامِلِ الضَّعْفِ. فَعَنْ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ فَقَدْ ضَادَّ اللهَ عز وجل، وَمَنْ خَاصَمَ فِي الْبَاطِلِ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزَعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ، وَيَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ يَا غَافِرَ الذَّنْبِ وَقَابِلَ التَّوْبِ شَدِيدَ الْعَقَابِ ذِا الطَّوْلِ لا إِله إِلا أَنْتَ إِلَيْكَ الْمَصِير.
نَسْأَلُكَ أَنْ تُذِيقَنَا برْدَ عَفْوِكَ، وَحَلاوَة رَحْمَتِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَأَرْأَفَ الرَّائِفِينَ وَأَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.
اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلقَائِكَ، وأهلنَا لِوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ الْمَرْحُومِينَ مِن أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفّنَا مُسْلِمِين وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ.
(فَصْلٌ)
85-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ شِهَادَةِ الزُّورِ، وَقَوْلِ الزُّورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الأَضْرَارِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي مِنْهَا بَيْعُهُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُه إِلى مَنْ شَهِدَ لَهُ بِإِعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتَهُ إِلى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِإِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُهُ إِلى الْقَاضِي بِإِضْلالِهِ عَنِ الْمَحَجَّةِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُهُ إِلى الأُمَّةِ بِزَلْزَلَةِ الْحُقُوقِ فِيهَا، وَعَدَمِ الاطْمِئْنَانِ عَلَيْهَا.
86-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ إِبْطَالُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَحْرِيمُهُ، وَهُمَا الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» .
87-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ فِي الْمُصِيبَاتِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعاَ بِدَعْوَى الْجَاهِليَّةِ» .
88-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ الإِسْتِيلاءِ عَلَى الْمَاءِ الذِي لا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ، وَمَنْعِهِ ابنَ السَّبِيلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلاةٍ يَمْنَعُه ابنَ السَّبِيلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ فِيهِ: «وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ،
فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي، كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» .
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ واجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ الإِيمَانَ هَادِماً لِلسَّيِّئَاتِ كَمَا جَعَلْتَ الكُفْرَ هَادِماً لِلْحَسَنَاتِ وَوَفِّقْنَا للأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلْيَكَ فَكَفيتَهُ، واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأجَبْتَهُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) 89- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يُحَرِّمُ الاعْتِدَاءِ أَوْ النَّيْلَ مِنَ النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْعقلِ، وَكُلَّ جَرِيمَةٍ مِنْ جَرَائِمِ الاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا عُقُوبةٌ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ، وَالأَخْلاقُ الإِسْلامِيَّةُ مِنْ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ وَالْعِفَّةِ وَغَيْرِهَا، لَيْسَتْ أُمُوراً كَمَالِيَّةً فِي نَظَرِ الإِسْلامِ، كَمَا يَتَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ هِيَ وَاجِبَاتٌ يَحْرِصُ عَلَيْهَا وَمُعَرَّضٌ كُلُّ مَنْ يَخْرُجُ عَنْ دَائِرَتِهَا بِأَنَّهُ سَيَقْتَصُّ مِنْهُ فِي الآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتُبْ وَيَتَدَارَكْ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَدْرُونَ مِنَ الْمُفْلِسُ)) ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاع. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسِ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَل مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَىَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) . رَوَاهُ مُسْلِم.
90-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يُرْشِدُ مُعْتَنِقَهُ إِلى أَنَّ صَلاحَ حَيَاتِهِ يَتَطَلَّبُ مِنْهُ أَنْ يَكُوَن عَفّاً فِي كَلامِهِ، فَلا يَغْتَابُ، وَلا يُنِمُّ، وَلا يَسُبُّ، وَلا يُقْذِفُ مُسْلِماً، وَلا يَلْعَنُهُ، وَلا يَسْتَهْزِئُ بِهِ، وَلا يَفْتَرِي، وَلا يَكْذِبُ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» .
91-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يَحُثُّ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِه، وَأَنْ لا يَدَّخِرَ جُهْداً فِي تَوْجِيهِ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَأَقْرِبَائِهِ وَجِيرَانِهِ، وَكُلِّ مَنْ تَرْبُطُهُمْ بِهِ صِلَةٌ وَثِيقَةٌ إِلى الْخَيْرِ، وَوَسِيلَتُهُ إِلى هَذَا التَّوْجِيهِ هِيَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ.
92-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الأَمْرُ بِالْحَيَاءِ الذِي هُوَ أَصْلُ كُلُّ فَضِيلَةٍ، وَعِصْمةٌ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اسْتَحْيُوا مِن اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» . قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْتَحِي وَالْحَمْدُ للهِ. قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنْ الاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكر الْمَوْتَ وَالْبَلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَد صَحِيح.
93-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ شَيْءٍ فِيهِ رُوحٌ غَرَضاً يُرْمَى إِلَيْهِ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ نَصَبُوا طَيْراً وَهُمْ يَرْمُونَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ابنَ عُمَر تَفَرَّقُوا، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَل هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئاً فِيهِ الرُّوحُ غَرَضاً.
94-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ بِيعِ الْحُرِّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تَعَالى ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ
غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرّاً ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوفِّهِ أَجْرَهُ» .
95-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً وَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَل، وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ. للحديث المتقدم.
96-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ السِّحْرِ، وَتَحْرِيمُ تَصْدِيقِ الْكَاهِنِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطِيِّر لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكِهَّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» .
97-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ الْقِيَادَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّة سَوَاءً كَانَ الْجَامِعُ رَجُلاً أَوْ امْرَأَةٌ.
98-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَحْرِيمُ السِّعَايَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِمَضَرَّةِ مُسْلِمٍ.
99-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَحْرِيمُ غَصْبِ الْمَالِ، لأَنَّهُ نُوعٌ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ.
100-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَحْرِيمُ غَصْبِ الْمَالِ، لأَنَّهُ نُوعٌ مِنَ الظُّلْمِ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
101-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى الاسْتِقَامَةِ، الَّتِي هَيِ الاعْتِدَالُ فِي جَمِيعِ الأُمُورِ، مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِ الأَحْوَالِ، الَّتِي تَكُونُ بِهَا النَّفُسُ عَلَى أَفْضَلِ حَالَةٍ وَأَكْمَلِهَا، فَلا يَظْهَر مِنْهَا قَبِيح، وَلا يَتَوَجَّه إِلَيْهَا ذَمٌّ، وَلا لَومٌ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ الْقَوِيم، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ مَعَ التَّخَلُّقِ بِالأَخْلاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسُفْيَانَ بنِ عَبْدِ اللهِ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» .
102-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ مَا حَرَّمَ شَيْئاً عَلَيْهِمْ إِلا عَوَّضَهُمْ خَيْراً مِنْهُ مِمَّا يَسُدُّ مَسَدَّهُ وَيُغْنِي عَنْهُ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ ابنُ الْقَيِّم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الاسْتِقْسَامَ بِالأزْلامِ، وَعَوَّضَهُمْ مِنْهُ دُعَاءَ الاسْتِخَارَةِ.
103-
وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الرِّبَا، وَعَوَّضَهُمْ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ.
104-
وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْقِمَارَ، وَأَعَاضَهُمْ مِنْهُ أَكْلَ الْمَالِ بِالْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ وَالإِبْلِ وَالسِّهَامِ.
105-
وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْحَرِيرَ، وَأَعَاضَهُمْ مِنْهُ أَنْوَاعَ الْمَلابِسِ الْفَاخِرَةِ مِن الصُّوفِ وَالْكِتَّانِ وَالْقِطْنِ.
106-
وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُرْبَ الْمُسْكِراتِ، وَأَعَاضَهُمْ عَنْهُ بِالأَشْرِبَةِ اللَّذِيذَةِ، النَّافِعَةِ لِلرِّوْحِ وَالْبَدَنِ.
107-
وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ مِن الْمَطْعُومَاتِ، وَأَعَاضَهُمْ عَنَّهَا بِالْمَطَاعِمِ الطَّيباتِ، وَهَكَذَا إِذَا تَتَبَّعْنَا تَعَالِيمَ الإِسْلامِ كُلَّهَا، وَجَدْنَا أَنَّهُ جَلَّ وَعَلا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى عِبَادِهِ فِي جَانِبٍ، إِلا وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي جَانِبٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تَائِبِينَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
108-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يُقَدِّرُ الْبَوَاعِثَ الْكَرِيمَةَ وَالْقَصْدَ الشَّرِيفَ وَالنِّيَةَ الطِّيبةَ، في تَشْرِيعَاتِهِ وَتَوْجِيهَاتِهِ كُلِّهَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَبِالنِّيَةِ الطَّيِّبَةِ تَنْقَلِبُ الْمُبَاحَاتُ وَالْعَادَاتُ إِلى طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ إِلى اللهِ، فَمَنْ تَنَاوَلَ غَذَاءَهُ بِنِيَّةِ حِفْظِ حَيَاتِهِ وَتَقْوِيَةِ جَسَدِهِ لِيَسْتَطِيعَ الْقِيَامَ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ رَبِّهِ مِنْ حُقُوقٍ وَتَكَالِيفَ لأَهْلِهِ وَأَوْلادِهِ، كَانَ طَعَامُه وَشَرَابُه مَعَ النِّيَةِ الصَّالِحَةِ عِبَادَةً وَمَنْ أَتَى شَهْوَتَهُ مَعَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ لَهُ يَقْصِدُ إِعْفَافَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَابْتِغَاءَ ذُرِيَّةً صَالِحَةً، كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً تَسْتَحِقُّ الْمَثُوبَةَ وَالأَجْرَ مِنَ اللهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» . قَالُوا: يَا رَسُولُ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ إِنْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها فِي حَلالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» .
109-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِ شِرَاءَ مَا غُصِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ أُخِذَ مِنْ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقِّ لأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُعِيناً لِلْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَالآخِذِ، وَهَذَا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا سِرْقَةٌ، وَلَوْ طَالَ زَمَنُ غَصْبِهِ أَوْ سِرْقَتِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوِ السَّارِقِ أَوِ النَّاهِبِ، فَإِنَّ طُولَ الزَّمَنِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِسْلامِيَّةِ، لا يَجْعَلُ الْحَرَامَ حَلالاً، وَلا يُسْقِطُ حَقَّ الْمَالِكِ الأصلي بالتَّقَدُّم. وَهَذَا أَيْضاً مِنْ مَحَاسِنِهِ.
110-
وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ الرِّبَا، لأَنَّ الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَالِ الإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ عِوَض، لأَنَّ مَنْ يَبِيعُ دِرْهَماً بِدِرْهَمَيْنِ يَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَض، وَمَالُ الإِنْسَانِ مُتَعَلِّقُ حَاجَتِهِ، وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. ثَانِياً: اسْتِعمَالُ الرِّبَا يُفْضِي إلى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ. ثَالِثاً: يَمْنَعُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ تِجَاهَ الاكْتِسَابِ، فَلا يَكَادُ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الْكَسْبِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلى انْقِطَاعِ مِنَافِعِ الْخَلْقِ،
وَتَكْسِيلِهِمْ عَنِ الْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ فِي الطَّلَبِ، وَقَدْ لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَه وَكَاتِبَه وَشَاهِدَيْه.
مَوْعِظَة:
عِبَادَ اللهِ إِنَّ مَا سَمِعْتُمْ مِنْ الْمَحَاسِنِ نُقْطَةٌ مِنْ بَحْرِ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِي الذِي جَمَعَ اللهُ بِهِ فِرْقَةَ الْعَرَبِ وَشَتَاتَهُمْ وَوَحَّد بِهِ قُلُوبَهُمْ وَصُفوفَهم، وَهَذَّبَ طِبَاعَهُم وَأَخْلاقَهُم، حَتَّى أَوْجَدَ مِنْهُمْ أمةً شَدِيدَةَ الْبَأْسِ، وَاسِعَةَ السُّلْطَانِ، مَلَكَتْ نَاصِيَةَ الأَرْضِ، وَنَشَرَتْ عَلَّمَ الإِسْلامِ فِي نَوَاحِيهَا، قَالَ اللهُ تَعَالى:{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} ، وَقَالَ:{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} .
دِينٌ نَشَرَهُ اللهُ فِي أَرْجَاءِ الْمَعْمُورَةِ كَالشَّمْسِ الضَّاحِيَةِ، لا يُحْجَبُ شَعَاعُهَا، وَكَالْقَمَرِ الزَّاهِرِ، لا يَخْفَى ضَوْءُهُ، وَلا يَخْسُفُ نُورُه.
دِينٌ تَرَى أَعْدَاءَهُ مُبْغِضِيهِ يَقْتَرِبُونَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُونَ وَمِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونُ، لأَنَّهُمْ بِمُخْتَرَعَاتِهِمْ وَعُلُومِهِمْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنَّهُمْ بِهِ يَشْهَدُونَ، قَالَ تَعَالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} دِينٌ يَكِيدُ لَهُ أَعْدَاؤُهُ وَحُسَّادُهُ مِنْ يَوْمِ أُنْزِلَ، وَهُوَ كَمَا تَرَى لَمْ يُطْفَأْ لَهُ نُورٌ، وَلَمْ يَضْعُفْ لَهُ بُرْهَانٌ قَالَ تَعَالى:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُ حَسْبُكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الدِّينَ الإِسْلامِي يَحْتَوِي عَلَى خَيْري الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَنَعِيمِ الَْاجِلَةِ وَالآجِلَةِ، فَمَا مِنْ فَضِيلَةٍ إِلا حَثَّ عَلَيْهَا، وَمَا مِنْ رَذِيلَةٍ إِلا نَفَرَ مِنْهَا، فَإِذَا اعْتَصَمْتَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ، وَحَرِصْتَ عَلَى الْعَمَلِ
بِأَحْكَامِهِ، وَالتَّحَلِّي بِآدَابِهِ، عِشْتَ سَعِيداً، وَمُتَّ سَعِيداً حَمِيداً.
وَقَالَ ابن الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى:
هَذَا وَنَصْرُ الدِّينِ فَرْضٌ لازِمٌ
لا لِلْكِفَايَةِ بَلْ عَلَى الأَعْيَانِ
بِيَدٍ وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَإِنْ عَجَزْ
تَ فَبِالتَّوَجُّهِ وَالدُّعَا بِجِنَانِ
مَا بَعْدَ ذَا وَاللهِ للإِيمَانِ حَبَّـ
ـةُ خَرْدَلٍ يَا نَاصِرَ الإِيمَانِ
بِحَيَاةِ وَجْهِكَ خَيْرَ مَسْؤُولٍ بِهِ
وَبِنُورِ وَجْهِكَ يَا عَظِيمَ الشَّانِ
وَبِحَقِّ نَعْمَتِكَ الَّتِي أَوْلَيْتَهَا
مِنْ غَيْر مَا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ
وَبِحَقِّ رَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ جَمِيـ
ـعَ الْخَلْقِ مُحْسِنَهُمْ كَذَاكَ الْجَانِي
وَبِحَقِّ أَسْمَاءٍ لَكَ الْحُسْنَى مَعاً
فِيهَا نُعُوتُ الْمَدْحِ لِلرَّحْمَنِ
وَبِحَقِّ حَمْدِكَ وَهُوَ حَمْدٌ وَاسِعُ الْـ
أَكْوَانِ بِلْ أَضْعَافُ ذِي الأَكْوَانِ
وَبِأَنَّكَ اللهُ الإِلَهُ الْحَقُّ مَعْـ
ـبُودُ الْوَرَى مُتَقَدِّسٌ عَنْ ثَانِ
بَلْ كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاكَ فَبَاطِلٌ
مِنْ دُونِ عَرْشِكَ لِلثَّرَى التَّحْتَانِي
.. وَبِكَ الْمُعَاذُ وَلا مَلاذَ سِوَاكَ أَنْـ
ـتَ غِيَاثُ كُلِّ مُلَدَّدٍ لَهْفَانِ
مَنْ ذَاكَ لِلْمُضْطَرِ يَسْمَعُهُ سِوَا
كَ يُجِيبُ دَعْوَتَهُ مَعَ الْعِصْيَانِ
إِنَّا تَوَجَّهْنَا إِلَيْكَ لِحَاجَةٍ
تُرْضِيكَ طَالِبُهَا أَحَقَّ مُعَانِ
فَاجْعَلْ قَضَاهَا بَعْضَ أَنْعُمِكَ الَّتِي
سَبَغَتْ عَلَيْنَا مِنْكَ كُلَّ زَمَانِ
انْصُرْ كِتَابَكَ وَالرَّسُولَ وَدِينَكَ الْـ
ـعَالِي الذِي أَنْزَلْتَ بِالْبُرْهَانِ
وَاخْتَرْتَهُ دِيناً لِنَفْسِكَ وَاصْطَفَيْـ
ـتَ مُقِيمَهُ مِنْ أمَّةِ الإِنْسَانِ
وَرَضِيتَهُ دِيناً لِمَنْ تَرْضَاهُ مِنْ
هَذَا الْوَرَى هُوَ قَيِّمُ الأَدْيَانِ
وَأَقِرَّ عَيْنَ رَسُولِكَ الْمَبْعُوثِ بِالدِّ
ينِ الْحَنِيفِ بِنَصْرِهِ الْمُتَدَانِ
وَانْصُرْهُ بِالنَّصْرِ الْعَزِيزِ كَمِثْلِ مَا
قُدْ كُنْتَ تَنْصُرُهُ بِكُلِّ زَمَانِ
يَا رَبُّ وَانْصُرْ خَيْرَ حِزْبَيْنَا عَلَى
حِزْبِ الضَّلالِ وَعَسْكَرِ الشَّيْطَانِ
يَا رَبُّ وَاجْعَلْ شَرَّ حِزْبَيْنَا فِداً
.. لِخِيَارِهِمْ وَلِعَسْكَرِ الْقُرْآنِ
يَا رَبُّ وَاجْعَلْ حِزْبَكَ الْمَنْصُورَ أَهْـ
ـلَ تَرَاحُمٍ وَتَوَاصُلٍ وَتَدَانِ
يَا رَبُّ وَارْحَمْهُمُ مِن الْبِدَعِ الَّتِي
قَدْ أُحْدِثَتْ فِي الدِّينِ كُلَّ زَمَانِ
يَا رَبُّ جَنِّبْهُمْ طَرَائِقَهَا الَّتِي
تُفْضِي بِسَالِكِهَا إِلى النِّيرَانِ
يَا رَبُّ وَاهْدِهِمْ بِنُورِ الْوَحْيِ كَيْ
يَصِلُوا إِلَيْكَ فَيَظُفَرُوا بِجِنَانِ
يَا رَبُّ كُنْ لَهُمْ وَلِيّاً نَاصِراً
وَاحْفَظْهُمُ مِنْ فِتْنَةِ الْفَتَّانِ
وَانْصُرْهُمْ يَا رَبُّ بِالْحَقِّ الذِي
أَنْزَلْتَه يَا مُنْزِلَ الْقُرْآنِ
يَا رَبُّ إِنَّهُمُ الْغُرَبَاءُ قَدْ
لَجَؤُا إِلَيْكَ وَأَنْتَ ذُو الإِحْسَانِ
يَا رَبُّ قَدْ عَادُوا لأَجْلِكَ كُلَّ هَـ
ـذَا الْخَلْقِ إِلا صَادِقَ الإِيمَانِ
قَدْ فَارَقُوهُمْ فِيكَ أَحْوَجَ مَا هُمُ
دُنْياً إِلَيْهِمْ فِي رِضَى الرَّحْمَنِ
وَرَضُوا وَلايَتَكَ الَّتِي مِنْ نَالَهَا
نَالَ الأَمَانَ وَنَالَ كُلَّ أَمَانِ
.. وَرَضُوا بِوَحْيِكَ مِنْ سِوَاهُ وَمَا ارْتَضَوْا
بِسوَاهُ مِنْ آرَاءِ ذِي الْهَذَيَانِ
يَا رَبُّ ثَبِّتْهُمْ عَلَى الإِيمَانِ وَاجْـ
ـعَلْهُمُ هُدَاةَ التَّائِهِ الْحَيْرَانِ
وَانْصُرْ عَلَى حِزْبِ النَّفَاةِ عَسَاكِرَ الْـ
إِثْبَاتِ أَهْلَ الْحَقِّ وَالْعِرْفَانِ
وَأَقِمْ لأَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الـ
أَنْصَارَ وَانْصُرْهُمُ بِكُلِّ زَمَانِ
وَاجْعَلْهُمُ لِلْمُتَّقِينَ أَئِمَّةً
وَارْزُقْهُمُ صَبْراً مَعِ الإِيقَانِ
تَهْدِي بِأَمْرِكَ لا بِمَا قَدْ أَحْدَثُوا
وَدَعَوْا إِلَيْهِ النَّاسَ بِالْعُدْوَانِ
وَأَعِزَّهُمْ بِالْحَقِّ وَانْصُرْهُمْ بِهِ
نَصْراً عَزِيزاً أَنْتَ ذُو السُّلْطَانِ
وَاغْفِرْ ذُنُوبَهُمُ وَأَصْلِحْ شَأْنَهُمْ
فَلأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ
وَلَكَ الْمَحَامِدُ كُلَّهَا حَمْداً كَمَا
يُرْضِيكَ لا يَفْنَى عَلَى الأَزْمَانِ
مِمَّا تَشَاءُ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ
حَمْداً بِغَيْرِ نِهَايَةٍ بِزَمَانِ
وَعَلَى رَسُولِكَ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَالتَّـ
.. ـسْلِيمِ مِنْكَ وَأَكْمَلِ الرِّضْوَانِ
وَعَلَى صَحَابَتِهِ جَمِيعاً وَالأَلى
تَبَعُوُهمُ ُمِنْ بَعْدُ بِالإِحْسَانِ
وختاماً فإليك كلمة موجزة قالها أحد العلماء
أَرْسِلْ طَرْفَكَ إِلى نَشْأَةِ الأُمَّةِ وَتَبَيَّنْ أَسْبَابَ نُهُوضِهَا الأَوَّلَ فَتَرَى أَنَّ مَا جَمَعَ كَلِمَتَهَا وَأَنْهَضَ هِمَمَ آحَادِهَا وَلَحَّمَ بَيْنَ أَفْرَادِهَا وَصَعَدَ بِهَا إِلى مَكَانَةٍ
تُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى رُؤُوسِ الأُمَمِ وَتَسْوسُهُمْ وَهِيَ فِي مَقَامِهَا بِدَقِيقِ حِكْمَتِهَا إِنَّمَا هُوَ (دِينٌ) قَوِيمُ الأُصُولِ مُحْكِمُ الْقَوَاعِدِ شَامِلٌ لأَنْوَاعِ الْحكْمِ بَاعِثٌ عَلَى الألفَةِ دَاعٍ إِلى الْمَحَبَّةِ مُزَكٍّ لِلنُّفُوسِ مُطَهِّرٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ أَدْرَانِ الْخَسَائِسِ مُنُوِّرٌ لِلْعُقُولِ بِإِشْرَاقِ الْحَقِّ مِنْ مَطَالِعِ قَضَايَاهُ كَافِلٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ مِنْ مَبَانِي الاجْتِمَاعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَحَافِظٌ وُجُودَهَا وَيُنَادِي بِمُعْتَقَدِيهِ إِلى جَمِيعِ فُرُوعِ الْمَدِينَةِ الصَّحِيحَةِ، انْظُرْ إِلى التَّارِيخِ قَبْلَ بِعْثَةِ الدِّينِ وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهَمَجِيَّةِ وَالشَّتَاتِ وَإِتْيَانِ الدَّنَايَا وَالْمُنْكَرَاتِ حَتَّى إِذَا جَاءَهَا الدِّينُ وَحَّدَهَا وَقَوَّاهَا وَهَذَّبَهَا وَنَوَّرَ عُقُولَهَا وَقَوَّمَ أَخْلاقَهَا وَسَدَّدَ أَحْكَامَهَا فَسَادَتْ عَلَى الْعَالَمِ وَسَاسَتْ مَنْ تَوَلَّتْهُ بِالْعَدْلِ وَالإِنْصَافِ. أهـ.
اللَّهُمَّ عَافِنَا مِنْ مَكْرِكَ وَزَيِّنَّا بِذِكْرَكَ وَاسْتَعْمِلْنَا بَأَمْرِكَ وَلا تَهْتِكَ عَلَيْنَا جَمِيلَ سِتْرِكَ وَامْنُن عَلَيْنَا بِلُطْفِكَ وَبِرِّكَ وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا مِنْ عَذَابِكَ وَآمِنَّا مِنْ عَقَابِكَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلاسْتِقَامَةِ وَالْعَدْلِ فِيمَا وَلَيْتَنَا عَلَيْهِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ دُنْيَا تَمْنَعُ خَيْرَ الآخِرَة وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ حَيَاةٍ تَمْنَعُ خَيْرَ الْمَمَاتْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ أَمَلٍ يَمْنَعُ خَيْرَ الْعَمَلْ وَنَسْأَلَكَ أَنْ تَنَوِّرَ قُلُوبَنَا وَتُثَبِّتَنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
في ذكر بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
عِبَادَ اللهِ لَما كَانَتْ مُعْجِزَاتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنْوَارٌ
تُشْرِقُ عَلَى الْقُلُوبِ الطَّافِحَةِ بِالإِيمَانِ وَتَزِيدُهَا قُوَّةً وَثَبَاتاً وَاسْتِقَامَةً أَحْبَبْتُ أَنْ أَذْكُرَ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا وَاللهُ الْمَسْؤُولُ أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَنَا خَالِصاً لِوَجْهِهِ الْكَرِيم.
وَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنّ اللهَ قَدْ جَمَعَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْخَوَارِقِ. أَمَّا الْعِلْمُ وَالأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ وَالسَّمَاعُ وَالرُّؤْيَةُ.
1-
فمثل إِخْبَارِه صلى الله عليه وسلم عَنِ الأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينْ وَأُمَمِهِمْ.
2-
وَمُخَاطَبَتِهِ لَهُمْ وَأَحْوَالِهِ مَعَهُمْ.
3-
وَكَذَلِكَ إِخْبَارِه عَنْ أُمُورِ الرَّبوية وَالْمَلائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِمَا يُوَافِقُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ مِنْهُمْ، وَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِنَقُول الأَنْبِيَاءِ تَارَةً بِمَا فِي أَيدِيهِمْ مِن الْكُتُبِ الظَّاهِرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ.
4-
وَتَارَةً بِمَا يَعْلَمُهُ الْخَاصَّةُ مِن عُلَمَائِهِمْ.
5-
فَإِخْبَارُهُ عَن الأُمُورِ الْغَائِبَةِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ.
6-
وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنِ الأُمُورِ الْمثسْتَقْبَلَةِ.
7-
مِثْلَ مَمْلَكَةِ أُمَّتِهِ.
8-
وَزَوَالِ مَمْلَكَةِ فَارِسَ.
9-
وَالرُّومِ.
10-
وَقِتَالِ التُّرْكِ وَأُلُوف مُؤلَّفَةٍ مِنَ الأَخْبَارِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ وَالتَّأْثِيرْ.
11-
فَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ.
12-
وَكَذَا مِعْرَاجُهُ إِلى السَّمَاوَاتِ.
13-
وَكِثْرَةُ الرَّمْي بِالنُّجُومِ عِنْدَ ظُهُورِهِ.
14-
وَكَذَا إِسْرَاؤُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى.
15-
وَتَكْثِيرُ الْمَاءِ فِي عَيْنِ تَبُوكَ.
16-
وَعَيْنِ الْحُدَيْبِيَةِ.
17-
وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
18-
وَكَذَا تَكْثِيرُ الطَّعَامِ. وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ بَعْضُهَا مُوَضَّحاً مُفَصَّلاً قَرِيباً.
19-
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلْنَا وَادِياً أَفْيَحَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرَ شَيْئاً يَسْتَتِرُ بِهِ فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» .
فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُومِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» . فَانْقَادَتْ كَذَلِكَ
حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْتَصَف فِيمَا بَيْنَهُمَا فلآمَ بَيْنَهُمَا حَتَّى جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: «الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» . فَالْتَأَمَتَا عَلَيْهِ.
فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقُرْبِي فَتَبَاعَدَتْ فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلاً وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدْ افْتَرَقَتَا فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ) . وَذَكَرَ الْحَدِيث.
20-
وَمِنْهَا أَنَّهَا انْكَسَرَتْ رِجْلُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتَيْك رضي الله عنه بَعْدَمَا قَتَلَ أَبَا رَافِعٍ الذِي يُؤْذِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ فقَالَ لِي: «ابْسِطْ رِجْلَكَ» . فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُ.
21-
وَقِصَّةُ أمِّ مَعْبَدٍ مَشْهُورَةٌ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ مَرَّ بِهَا طَلَبَ لَبَناً أَوْ لَحْماً يَشْتَرُونَهُ وَكَانُوا مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئاً قَطُ فَنَظَرَ إِلى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخِيمَةِ خَلَّفَهَا الْجُهْدُ عَن الْغَنَمِ، فَسَأَلَهَا:«هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ» ؟ فَقَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ، فقَالَ:«أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا» ! فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْباً.
فَدَعَا بِالشَّاةِ فَاعْتَقَلَهَا وَمَسَحَ ضَرْعَهَا فَدَرَّتْ وَاجْتَرَّتْ وَدَعَا بِإِنَاءٍ يُشْبِعُ الرَّهْطَ فَحَلَبَ حَتَّى مَلأَهُ وَسَقَى الْقَوْمَ حَتَّى زَوَوْا ثُمَّ شَرِبَ آخِرُهُمْ ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى عَللاً بَعْدَ نهلٍ ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا وَذَهَبُوا فَجَاءَ أَبُو مَعْبَدٍ فَلَمَّا رَأَى اللَّبَنَ قَالَ: مَا هَذَا يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ أَنَّى لَكِ هَذَا وَالشَّاةُ عَازِبٌ حِيَالٌ وَلا حَلُوبَةَ بِالْبَيْتِ فَقَالَتْ: لا وَاللهِ إِلا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ فقَالَ: صِفِيهِ فَوَصَفَتْهُ لَهُ، وَذَلِكَ فِي طَرِيقِ هِجْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ الأَبْيَاتُ الْمَشْهُورَةُ قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرِفْنَا حَيْثُ وَجَّه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تُشِيرُ إِلى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنِّ مِنْ أَسَفْلِ مَكَّةَ يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ وَأَنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ يَسْمَعُونَ صَوْتَه وَمَا يَرَوْنَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَهُوَ يَقُول:
جَزَى اللهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ
رَفِيقَيْنِ حَلا خَيْمَتِي أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزلا بالْبِرِّ ثُمَّ تَرَوَّحَا
فَأَفْلَحَ مِنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانَ فَتَاتِهِمْ
وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمِرْصَدِ
سَلُو أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا
فَإِنَّكُمُوا إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ
دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فَتَحَلَّبَتْ
لَهُ بِصَرِيحِ ضَرَّةِ الشَّاةِ مُزْبِدِ
فَغَادَرَهُ رَهْناً لَدَيْهَا لِحَالِبٍ
يُدِرُّ لَهَا فِي مَصْدَرِ ثُمَّ مَوْرِدِ
فَلَمَّا سَمِعَ حَسَّانُ بنُ ثَابت أَنْشَأَ يَقُولُ مُجِيباً لِلْهَاتِفِ:
لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ زَالَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُم
وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي
تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَظَلَّتْ عُقُولُهُمْ
وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ
هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضَّلالَةِ رَبُّهُمْ
وَأَرْشَدَهُمْ مَن يَتْبَعِ الْحَقَّ يَرْشُدِ
وَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ عَلَى أَهْل يَثْرِب
رِكَابُ هُدىً حَلّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِِ
نَبِيُّ يَرَى ما لا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ
وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ
فَتَصْدِيقَهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جِدِّه
بِصُحْبَته مَنْ يُسْعِدِ اللهُ يَسْعَدِ
22-
وفي الترمذي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلا جَبَلٌ إِلا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ) . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحه.
23-
وَجاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: بِمَ أَعْرَفُ أَنَّكَ نَبِي؟ قَالَ: «إِنْ دَعَوْتُ هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولَ اللهِ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِن النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ» . فَعَادَ فَأَسْلَم الأَعْرَابِيُّ.
شِعْرًا:
…
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الأَرْضِ وَانْظُرْ
…
إِلى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ
آخر:
…
عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنَ شَاخِصَاتٌ
…
بأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهِبُ السَّبِيكُ
عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ
…
بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَأَنَّ مُحَمَّداً خَيْرُ الْبَرَايَا
…
إِلى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ الْمَلِيكُ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأصْلِحْ نَيَّاتِنَا وَذُرَّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعاً لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صلى الله عليه وسلم وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
24-
وَلَمَّا بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ بَدْرٍ فَفَدَى كُلُّ قَوْمٍ أَسِيرَهُمْ بِمَا رَضُوا وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَسِيراً قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كُنْتُ مُسْلِماً فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَعْلَمُ بِإِسْلامِكَ فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَإِنَّ اللهَ يَجْزِيكَ وَأَمَّا ظَاهِرُكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا فَافْتَدِ نَفْسَكَ وَابْنِي أَخَوَيْكَ» . قَالَ الْعَبَّاسُ: مَا ذَاك عِنْدِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَأَيْنَ الْمَالُ الذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأَمُّ الْفَضْلِ فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَهَذَا الْمَالُ الذِي دَفَنْتُهُ لِبَنِي الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللهِ وَقُثَمّ» .
قَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ أُمِّ الْفَضْلِ.. إلخ.
25-
وَقِصَّةُ ارْتِجَافِ أُحُدٍ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَعَدَ أُحُداً وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَثْبتْ أُحُدٌ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَان)) .
26-
وَقِصَّةُ مَاءِ الرَّكْوَةِ وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ يتَوَضَّأَ فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ: «مَا لَكُمْ» ؟ قَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ جَابِرِ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا قَالَ سالِم: قُلْتُ لِجَابِرِ كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً (1500) .
27-
وَقِصَّةُ مَوْتِ النَّجَاشِيِّ وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيْبَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: «إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ لِلنَّجَاشِيِّ أَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ وَحُلَّةً وَإِنِّي لَا أَرَاه إِلَّا قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى إِلَّا الهَدِيَّة إِلا سَتُرَدُّ إليَّ، فَإِذا رُدَّتْ إِليَّ فَهِيَ لَكِ» . فكَانَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم، مَاتَ اِلنَّجَاشِيّ ِوَرُدَّتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم هَدِيَّتُهُ فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ المِسْكِ وَأَعْطَى سَائِرَهُ أُمَّ سَلَمَةَ.
28-
وَقِصَّةُ عُكَّاشَةَ بنِ مِحْصَن بنِ حَرْثَانِ الأَسَدِيِّ حِينَمَا انْدَفَعَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيحَصْدُ ُفِيهِمْ حَصْداً حَتَّى انْكَسَرَ سَيْفُهُ فَلَمْ يَثْنِهِ ذَلِكَ عَنْ خَوْضِ الْمَعْرَكَةِ وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ كَسْرِ سَيْفِهِ مَعْذِرَةً عَن الْقِتَالِ فَجَاءَ إِلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُهُ بِكَسْرِ سَيْفِهِ وَإِرَادَةِ غَيْرِهِ
فَدَفَعَ صلى الله عليه وسلم لَهُ جَذْلاً مِنْ حَطَبٍ فقَالَ لَهُ: ((قَاتِلْ بِهَذَا يَا عُكَّاشَةُ)) .
فَلَمَّا أَخَذَهُ عُكَّاشَةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَزَّهُ فَعَادَ فِي يَدِهِ سَيْفاً صَارِمَ القَامَةِ شَدِيدَ الْمَتْنِ أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ فَقَاتَلَ بِهِ رضي الله عنه حَتَّى فَتَحَ اللهُ تَعَالى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ ذَلِكَ السَّيْفُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي قِتَالِ الرِّدَةِ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه.
29-
وَقِصَّةُ عُمَيْرِ بنِ وَهْبٍ الْجُمَحِي وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ وَكَانَ عُمَيْرٌ شَيْطَاناً مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ وَمِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَيَلْقُون مِنْهُ عِنَاءً وَهُوَ بِمَكَّةَ وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بنُ عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى بَدْرٍ قَالَ: فَذَكَرَ عُمَيْرٌ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ فَقََالَ صَفْوَانُ: وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ.
قَالَ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ وَاللهِ أَما وَاللهِ لَوْلا دَينٌ عَلَيَّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ الضَّيْعَة بَعْدِي لَرَكِبْتُ إِلى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ فَإِنْ لِي قِبَلَهُمْ عِلَّةٌ ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ قَالَ: فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ وَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ أَنَا أَقْضِيهِ عَنْكَ وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا لا يَسَعُنِي شَيْءٌ يَعْجَزُ عَنْهُمْ.
فقَالَ عُمَيْرٌ: فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأْنَكَ قَالَ: أَفْعَلُ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَبَيْنَمَا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ
بَدْرٍ وَمَا أَكْرَمَهُمْ اللهُ بِهِ وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ إِذ نَظَرَ عُمَرُ إِلى عُمَيْرٍ بنُ وَهْبٍ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَه عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، مُتَوَشِّحاً السَّيْفَ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُ اللهِ وَاللهِ مَا جَاءَ إِلا لِشَر.
ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ هَذَا عَدُوُ اللهِ عُمَيْرُ ابنُ وَهْبٍ، قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحاً سَيْفَهُ. قَالَ:((فَأَدْخِلْْهُ عَلَيَّ)) . فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحَمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ فَلَبَّبَهُ بِهَا.
وَقَالَ لِرَجَالٍ مِنَ الأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاجْلِسُوه عِنْدَهُ وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَ الْخَبِيثِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَرْسِلْهُ)) . فَدَنَا عُمَيْرٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَمَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ» ؟ قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الذِي فِي أَيْدِيكُمْ فَأَحْسِنُوا فِيهِ يَعْنِي وَلَدَهُ قَالَ: ((فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنِقِكَ)) ؟ قَالَ: قَبَّحَهَا اللهُ مِنْ سُيُوفٍ وَهَلْ أَغَنَتْ عَنَّا شَيْئاً قَالَ: «أُصْدُقْنِي مَا الذِي جَاءَ بِكَ» ؟ قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا لِذَلِكَ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلا دِينٌ عَلَيَّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّداً فَتَحَمَّل لَكَ صَفْوَانُ بِدَيْنِكَ وِعِيَالِكَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ، وَاللهُ حَائِلٌ بِيَنْكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ» .
فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنْ الْوَحْيِ وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ
يَحْضُرْهُ إِلا أَنَا وَصَفْوَانُ فَوَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ إِلا اللهُ فَالْحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانِي لِلإِسْلامِ وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ. ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ وَاقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ» . فَفَعَلُوا الخ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
شِعْراً:
فُؤادٌ مَا يَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ
وَأَجْفَانٌ مَدَامِعُهَا غِزَارُ
وَلَيْلٌ طَالَ بالأَنْكَادِ حَتَّى
ظَننتُ اللَّيْلَ لَيْسَ لَهُ نَهَارُ
وَلِمَ لا والتُّقَى حَلَّتْ عُرَاهُ
وَبَانَ عَلَى بَنِيهِ الإنْكِسَارُ
لِيَبْكِ مَعِي عَلى الدِّيْنِ الْبَوَاكِي
فَقَدْ أَضْحَتْ مَوَاطِنُه قِفَارُ
وَقَدْ هُدَّتْ قَوَاعِدُهُ اعْتِدَاءً
وَزَالَ بِذَاكُمُوا عَنْهُ الْوَقَارُ
وأَصْبَحَ لا تُقَامُ لَهُ حُدُودٌ
وَأَمْسَى لا يُبَنَّ لَهُ شِعَارُ
وَعَادَ كَمَا بَدَا فِينَا غَرِيباً
هُنَالِكَ مَالَهُ فِي الْخَلْقِ جَارُ
فَقَدْ نَقَضُوا عُهُودَهُمُوا جِهَاراً
وَأَسْرَفُوا فِي الْعَدَاوَةِ ثُمَّ سَارُوا
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتَنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرَهُ وَيُزِيلَ مَا حَدَثَ مِن الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيَقِيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعَ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
30-
وَقِصَّةُ حَنِينِ الْجَذْعِ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئاً تَقْعُدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ لِي غُلاماً نَجَّاراً قَالَ: ((إِنْ شِئْتِ)) . قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرَ الذِي صُنِعَ فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطِبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ فَجَعَلَتْ تَئِنُ أَنِينَ الصَّبِيِّ الذِي يَسْكُتْ.
31-
وَقِصَّةُ عُكَّةِ أُمِّ سُلَيِم لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَ: كَانَتْ لَنَا شَاةٌ جَمَعت مِنْ سَمْنِهَا فِي عُكَّةٍ فَمَلأَتِ الْعُكَّةِ ثُمَّ بَعَثَتَ بِهَا مَعَ رَبِيبَةٍ فَقَالَتْ: يَا رَبِيبَةُ فَبَلِّغِي هَذِهِ الْعُكَّةَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتَدِمْ بِهَا فَانْطَلَقَتْ بِهَا الرَّبِيبَةُ حَتَّى أَتَتْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ عُكَّةُ سَمْنٍ بَعَثَتْ بِهَا إِلَيْكَ أُمُّ سُلَيْم فَقَالَ: ((أَفْرِغُوا لَهَا عُكَّّتَهَا)) . فَفُرِّغَتْ الْعُكَّةُ فَدُفِعَتْ إِلَيْهَا فَأَنْطَلَقَتْ بِهَا.
وَجَاءَتْ وَأُمُّ سُلَيْم لَيْسَتْ فِي الْبَيْتِ فَعَلَّقَتْ الْعُكَّةَ عَلَى وَتَدٍ فَجَاءَتْ أُمُّ سَلَيْمٍ فَرَأَتْ الْعُكَّةَ مُمْتَلِئَةً تَقْطُرُ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْم: يَا رَبِيبَةُ أَلَيْسَ أَمَرْتُكِ أَنْ تَنْطَلِقِي بِهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقِينِي فَسَلِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَانْطَلَقَتْ وَمَعَهَا الرَّبِيبَةُ.
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ مَعَهَا إِلَيْكَ بِعُكَّةٍ فِيهَا سَمْنٌ قَالَ: ((قَدْ فَعَلَتْ قَدْ جَاءَتْ)) . قَالَتْ: وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ وَدِينِ الْحَقِّ إِنَّهَا لَمُمْتَلِئَةٍ تَقْطُرُ سَمْناً قَالَ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَتَعْجَبِينَ إِنْ كَانَ اللهُ أَطْعَمَكِ كَمَا أَطْعَمَ نَبِيَّهُ كُلِي وَأَطْعِمِي» . قَالَتْ: فَجِئْتُ إِلى الْبَيْتِ فَقَسَمْتُ فِي قُعْبٍ لَنَا كَذَا وَكَذَا وَتَرَكْتُ فِيهَا مَا ائْتَدَمْنَا بِهِ شَهْرَيْنِ.
32-
وَقِصَّةُ طِيْبِ عُتْبَةَ صَاحِبِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أُمُّ عَاصِمٍ امْرَأَةُ عُتْبَةَ بن فَرْقَد كُنَّا عِنْدَ عُتْبَةَ ثَلاثَ نِسْوَةٍ مَا مِنَّا وَاحِدَةٌ إِلا وَهِيَ تَجْتَهِدُ فِي الطِّيبِ لِتَكُونَ أَطْيَبَ مِنْ صَاحِبَتِهَا وَمَا يَمَسَّ عُتْبَةُ بنُ فَرْقَدٍ طِيباً إِلا أَنْ يَلْتَمِسَ دُهْناً وَكَانَ أَطْيَبَ رِيحاً مِنَّا فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ.
فَقَالَ أَصَابَنِي الشَّرَى (حَكَّةٌ فِي الْجِلْدِ) عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْعَدَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَجَرَّدْتُ وَأَلْقَيْتُ ثِيَابِي عَلَى عَوْرَتِي فَنَفَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَفِّهِ ثُمَّ دَلَّكَ بِهَا الأُخْرَى ثُمَّ أَمَرَهُمَا عَلَى ظَهْرِي فَعَبَقَ بِهَا مَا تَرَوْنَ.
33-
وَقِصَّةُ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِصَلاةِ الْعِشَاءِ وَهَاجَتْ الظُّلْمَاءُ مِنْ السَّمَاءِ وَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتَادَةَ بنَ النُّعْمَانِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((قَتَادَةُ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ عَلِمْتُ إِنَّ شَاهِدَ الصَّلاةِ اللَّيلةِ قَلِيلٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَشْهَدَهَا.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا انْصَرَفْتَ فَأْتِنِي)) . فَلَمَّا انْصَرَفَ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِرْجُوناً وَقَالَ: «خُذْهُ فَسَيُضِيءُ أَمَامَكَ عَشْراً وَخَلْفَكَ عَشْراً» .
34-
وَقِصَّةُ أَبِي جَابِرٍ وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: تُوفِّيَ أَبِي شَهِيداً فِي أُحُدٍ وَعَلَيْهِ دِيْنٌ فَاسْتَعَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى غُرَمَائِهِ فَلَمْ يَفْعَلُوا فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافاً الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَة وَعِذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ» .
(أَنْوَاعُ التَّمْرِ) .
«ثُمَّ أَرْسِلْ إِليَّ» . قَالَ جَابِرُ: فَفَعَلْتُ ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاهُ أَوْ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ قَالَ: ((كِلْ لِلْقَوْمِ)) . قَالَ جَابِرٌ: فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ الذِي لَهُمْ وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنْ لَمْ يَنْقَصْ مِنْهُ شَيْءٌ.
35-
وَقِصَّةُ حَاطِبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلى مَكَّةَ وَأَمَرَهُمْ بِالْجَدِّ وَالتَّهَيؤُ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا» .
فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَسِيرِ، كَتَبَ حَاطِبٌ كِتَاباً إِلى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِالذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَمْرِ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ أَعْطَاه امْرَأةً وَجَعَلَ لَهَا عَطَاءً عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشاً فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا (جَدَائِلَهَا) .
وأتى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما فقَالَ: ((أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابٍ إِلى قُرَيْشٍ يُحَذِّرُهُمْ مَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِمْ)) .
فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا بِالْخَلِيقَةِ (اسْمُ مَوْضِعٍ) فَاسْتَنْزَلاهَا فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئاً فَقَالَ لَهَا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنِّي أَحْلِفُ بِاللهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلا كَذَبْنَا وَلَتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ.
فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُمَا قَالَتْ: أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِباً فَقَالَ: ((يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا)) .
فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ مَا غَيَّرتُ
وَلا بَدَّلْتُ وَلَكِنِّي امْرُؤٌ لَيْسَ لي في الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلا عَشِيرَةٍ وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ فَصَانَعْتُهم عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي فَلأَضْرِبُ عُنَقَهُ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّ اللهَ قَدْ اطَّلَعَ إِلى أَصْحَابِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} الآية.
اللَّهُمَّ نُوِّرْ قُلُوبَنَا وَاشْرَحْ صُدُورَنَا وَيَسِّرْ أُمُورَنَا وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَارْفَعْ مَنَازِلَنَا فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
36-
وَقِصَّةُ لَبَنِ أَهْلِ الصُّفَةِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَعَدَ يَوْماً عَلَى الطَّرِيقِ فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآهُ وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» . قَالَ: قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِلْحِقْ)) . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَناً فِي قَدَحٍ فَقَالَ: ((مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ)) ؟ قَالُوا: مِنْ فُلانٍ أَوْ فُلانَةٍ.
قَالَ: ((أَبَا هِرّ)) . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِلْحِقْ إِلى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهمْ لِي)) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاؤُوا أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ.
قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ فَقَالَ: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ)) . قُلْتُ: لَبْيَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((خُذْ فَأَعْطِهِمْ)) .
قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أَعْطِي الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ. حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقَدْ رَوَى الْقومُ كُلُّهُمْ.
فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: ((أَبَا هِرّ)) . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ)) . قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((أَقْعُدْ فَاشْرَبْ)) . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ: ((اشْرَبْ)) . فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ: ((اشْرَبْ)) . حَتَّى قُلْتُ: وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكاً.
قَالَ: ((فَأَرِنِي)) . فَأَعْطَيْتُه الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ صلى الله عليه وسلم.
37-
وَقِصَّةُ طَعَامِ جَابِرٍ وَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الْخُنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِي صلى الله عليه وسلم خَمْصاً شَدِيداً فَانْكَفَأْتُ إِلى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي برَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمْصاً شَدِيداً.
فَأَخْرَجَتِ إِلَيَّ جِرَاباً فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنْ فَذَبَحْنَاهَا وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ فَفَرَغَتْ إِلى فَرَاغِي وَقَطَّعَتْهَا فِي بُرْمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَا صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ.
فَصَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِراً قَدْ صَنَعَ سُؤْراً فَحَيَّ هَلا بِكُمْ)) . فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا
تَنْزِلَنَّ بِرْمَتَكُمْ وَلا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُم حَتَّى أَجيءَ)) . وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَقَدَّمَ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلَ الذِي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِيناً فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ.
ثُمَّ قَالَ: ((ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلا تُنْزِلُوهَا)) . وَهُمْ أَلْفٌ فَأَقْسِمُ بِاللهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ.
38-
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ شَاكِياً فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ فَأَرِحْنِي وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّراً فَارْفَعْنِي وَإِنْ كَانَ بَلاءً فَصَبِّرْنِي.
فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((كَيْفَ قُلْتَ)) ؟ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَا قَالَ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وقَالَ: ((اللَّهُمَّ عَافِهِ)) أَوْ اشْفِهِ شَكَّ شُعْبَةُ قَالَ: فَمَا اشْتَكَيْتُ وَجَعِي بَعْدَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيث حَسَن صَحِيح.
39-
وَمِنْ ذَلِكَ رَدُّ عَيْنِ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ فَقَدْ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِه فَرَدَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْه وَأَحَدَهُمَا نَظَراً وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُهُ:
أَنَا ابْنُ الذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدِّ عَيْنُهُ
فَرُدَّتْ بِكَفِّ الْمُصْطَفَى أَحْسَنَ الرَّدِ
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُؤةً بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتَنَا رَطْبَةً بِذِكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةً لأَمْرِكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأُخْرَانَا وَأَهْلِنَا وَمَا لَنَا اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوَراتِنَا وَأَمِّنْ رَوْعَاتِنَا وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفَنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلَنَا وَمِنْ فَوْقِنَا وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ
أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
وَمِنْ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ يَمْدَحْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
وَهُوَ مِنْ قَصِيدَةٍ لأَبِي طَالِبٍ قَالَهَا تَمَالأَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشُ وَنَفَرُوا عَنْهُ وَأَوُّلُهَا:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لا وِدَّ عِنْدَهُمْ
وَقَدْ قَطَّعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ جَاهَرُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالأَذَى
وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُّوِ الْمُزَائِلِ
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ
وَأَبْيَضَ غَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي
وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ
عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ
لَدَيْنَا وَلا يَعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ
كَذِبْتُمْ وَرَبِّ الْعَرْشِ نَبْزِي مُحَمَّداً
وَلَمَّا نُطَاعِنْ عِنْدَهُ وَنُنَاضِلِ
وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ دُونَهُ
وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلائِلِ
.. وَيَنْهَضُ قَوْمٌ بِالْحَدِيدِ إِلَيْكُمْ
نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلاصِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ نَحْوَكُمْ غَيْرَ عُزَّلٍ
بِبِيضٍ حَدِيثٍ عَهْدُهَا بالصَّيَاقِلِ
وَمَا تَركُ قَوْمٍ لا أَبَالَكَ سَيِّداً
يَحُوطُ الذَِّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهَلاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاصِلِ
لَعُمْرِي لَقَدْ كُلِّفْتُ وَجْداً بِأَحْمَدٍ
وَإِخْوَتِهِ دَأَبَ الْمُحِبِّ الْمُوَاصِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ مُؤَمَّلٍ
إِذَا قَاسَهُ الْحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ
يُوَالِي إِلَهاً لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
وَمِيزَانُ حَقٍّ مَا يَعُولُ شَعِيرَةً
وَوَزَّانُ حَقٍّ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ
فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ
تَجُرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ
لَكِنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ
مِنَ الدَّهْرِ جِداً غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدٌ ذُو أَرُومَةٍ
تُقَصِّرُ عَنْهَا سُورَةُ الْمُتَطَاوِلِ
حَدَبتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْتُهُ
وَدَافَعْتُ عَنْهُ بِالذُّرَى وَالْكَلاكِلِ
فَأَيَّدَهُ رَبُّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ
وَأَظْهَرَ ُديِناً حَقَّهُ غَيْرُ بَاطِلِ
41-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلى عَلِيَّ وَهُوَ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيهِ فَبَرِئَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ.
42-
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ، ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالَ: مَالَكَ؟ قَالَ: ((فَعَلَ هَؤُلاءِ وَفَعَلُوا)) . قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: ((نَعَمْ)) . فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي فَقَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَكَانِهَا فَقَالَ لَها: ((ارْجِعِيْ)) . فَرَجَعَتْ حَتَّى عادَتْ إِلَى مَكَانِهَا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((حَسْبِي)) . وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى
عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّظَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُزيلُ مَا حَدَثَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيُقِيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) 43- وَمِنْهَا إِطْعَامُهُ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ يَحْفِرُونَ الْخُنْدَقَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِتَمَرَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَفِي كُتُبِ السِّير وَغَيْرِهَا أَنَّ ابْنَةً لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ أُخْتَ النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَتْ: دَعَتْنِي أُمّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ، فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي، ثُمَّ قَالَتْ: أَيْ بُنَيّةُ اذْهَبِي إلَى أَبِيك وَخَالِك عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا.
قَالَتْ: فَأَخَذْتهَا، فَانْطَلَقْت بِهَا، فَمَرَرْت بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي، فَقَالَ:«تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ، مَا هَذَا مَعَك» ؟ قَالَتْ: قُلْت يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا تَمْرٌ بَعَثَتْنِي بِهِ أُمّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَخَالِي عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدّيَانِهِ. قَالَ: «هَاتِيهِ» . قَالَتْ: فَصَبَبْته فِي كَفّي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا مَلأْتهمَا.
ثُمَّ أَمَرَ بِثَوْبِ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمَّ دَحَا بِالتّمْرِ عَلَيْهِ فَتَبَدّدَ فَوْقَ الثّوْبِ ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانِ عِنْدَهُ:«أُصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ، أَنْ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ» . فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مَنه، وَجَعَلَ يَزِيدُ، حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ، وَإِنّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ.
44-
وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ قَبْلَ مَسِيرِهِمْ إِلى فَتْحِ مَكَّةَ وَهُمْ يَتَجَهَّزُونَ لِلْمَسِيرِ أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ دَمَاءٌ قَلِيلَةٌ، فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ
وَقَعَ بَيْنَ بَعْضِ كَتَائِبِهِ حِينَ دُخُولِهم مَكَّةَ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَعَدُوا بِالْخَنْدَمَة، لِيَردُّوا النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِزَعْمِهِمْ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ مُنَاوَشَةٌ قَلِيلَةٌ. وَقُتِلَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَقَدْ مَلَكَهُمُ الرُّعْبُ وَالذُّعْرُ وَجَلَّلَهُمْ الْخَوْفُ، وَحَدِيثُهُمْ فِي خَبَرِ الْفَتْحِ مَشْرُوحٌ.
45-
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ لَمَّا رَجَعَ الأَحْزَابُ خَائِبِينَ: «الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا» . فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ قُرَيْشاً بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجَعُوا إِلى غَزْوِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَجَّه إِلى مَكَّة عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَصَالَحُوه وَهَادَنُوهُ، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ قَابِلْ مَعَ أَصْحَابِهِ آمِنِينَ، ثُمَّ فَتَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
46-
وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحُوقاً بِهِ، فَكَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا رضي الله عنها تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ يَوْماً، أَوْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ يَوْماً، أَوْ سِتَّةِ أَشْهُر، عَلَى اخْتِلافِ الرِّوَايَاتِ، وَلَمْ يُتَوَفِّ قَبْلَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.
47-
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَامِرَ بنَ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدَ بنَ قَيْسٍ، وَهُوَ أَخُو لُبَيْدِ بنِ رَبِيعَةِ، وَفَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَامِر فَقَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: إِذَا قَدِمْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ، فَإِنِّي شَاغِلٌ عَنْكَ وَجْهَهُ، فَاعْلُهُ أَنْتَ بِالسَّيْفِ، حَتَّى تَقْتُلَهُ، قَالَ أَرْبَدُ: أَفْعَلُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَامِرٌ يَمْشِي، وَكَانَ رَجُلاً جَمِيلاً، حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ، مَا لِي إِنْ أَسْلَمْتَ، فَقَالَ:((لَكَ مَا لِلإِسْلامِ وَعَلَيْكَ مَا عَلَى الإِسْلامِ)) . قَالَ: أَلا تَجْعَلْنِي الْوَالِي مِنْ بَعْدِكَ.
قَالَ: ((لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ وَلا لِقَوْمِكَ وَلَكِنْ لَكَ أَعِنَّةُ الْخَيْلِ تَغْزُو بِهَا)) . قَالَ: أَوَ لَيْسَتْ لِي الْيَوْمُ، وَلَكِن اجْعلْ لِي وَلَكَ الْمَدَدَ، قَالَ:((لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ)) . فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ، إِلى هَا هُنَا فَقَامَ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ عَامِرٌ يَدَهُ بَيْنَ منكبَيْه، ثُمَّ أَوْمَأَ إِلى أَرْبَدَ أَنِ أَضْرِبْ، فَسَلَّ أَرْبِدُ سَيْفَهُ قَرِيباً مِنْ ذِرَاعٍ، ثُمَّ أَمْسَكَ اللهُ يَدَهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسُلَّه، وَلا يُغْمِدَهُ.
فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى أَرْبَدَ، فَرَآهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فقَالَ:((اللَّهُمَّ اكْفِينِهِمَا بِمَا شِئْتَ اللَّهُمَّ اهْدِ بَنِي عَامِر، وَاغْنِ الدِّينَ عَنْ عَامِر)) . فَانْطَلَقَا وَعَامِرٌ يَقُولُ: وَاللهِ لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلاً دُهْماً وَوِرْداً. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَأَبْنَاءُ قَيْلَةَ)) . يَعْنِي الأَنْصَارُ، ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: وَيْلَكَ لِمَاذَا أَمْسَكْتَ عَنْهُ؟ فَقَالَ: وَاللهِ مَا هَمِمْتُ بِهِ مَرَّةً، إِلا رَأَيْتُكَ وَلا أَرَى غَيْرَكَ أَفَاَضْرِبُكَ بِالسَّيْفِ.
وَسَارَ عَامِرٌ فَطَرَحَ اللهُ عَلَيْهِ الطَّاعُونَ فِي عُنُقِهِ، فَقَتَلَهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ، وَجَعَلَ يَقُولُ يَا آلَ عَامِرٍ، غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَمَوْتُ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ. وَانْتَهَتْ حَيَاتُهُ لَعَنَهُ اللهُ وَأَمَّا أَرْبَدُ فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَرْبَدُ. فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ دَعَانَا مُحَمَّدٌ إِلى عِبَادَةِ شَيْءٍ، لَوَدِدْتُ أَنَّهُ عِنْدِي الآنَ فَأَرْمِيهِ بَنَبْلِي هَذَا حَتَّى أَقْتُلَهُ.
ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَمَعَهُ جِمَالٌ لَهُ تَتْبَعُه فَأَرسَلَ اللهُ عَلَيْهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُ، وَقِيلَ نَزَلَ فِي صَاعِقَتِهِ {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إِلى قَوْلِهِ {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ} .
48-
وَمِنْهَا إِطْعَامُه صلى الله عليه وسلم بَنِي الْمُطَّلِب بِذِرَاعِ جَزُورٍ وَعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ، فَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ النَّقْلِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم {وأنذر عشيرتك الأقربين} أَمَرَ عَلِيّاً فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْذِرْ عَشِيرَتِي الأَقْرَبِينَ فَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعاً وَعَرِفْتُ أَنِّي مَتَى أُبَادِيهِمْ بِهَذَا الأَمْرِ أَرَى مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ فَصَمَّتُ علَيَهْاَ حَتَّى جَاءَنِي جِبْرِيلُ فقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ إِلا تَفْعَل مَا تُؤْمَرُ بِهِ يُعَذِّبكَ رَبُّكَ. فَاصْنَعْ لَنَا صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، وَاجْعَلْ عَلَيْهَا رِجْلُ شَاةٍ، وَامْلأَ لَنَا عُساً مِنْ لَبَنٍ.
ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ مَا أُمِرْتُ بِهِ)) . فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ، ثُمَّ دَعَوْتُهُمْ لَهُ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلاً يَزِيدُونَ رَجُلاً أَوْ يَنْقُصُونَهُ فِيهِمْ أَعْمَامُهُ أَبُو طَالِب وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ رضي الله عنهما وَأَبُو لَهَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، دَعَانِي بِالطَّعَامِ الذِي صَنَعْتُهُ فَجِئْتُ بِهِ.
فَلَمَّا وَضَعْتُه تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَذْبَةً مِنَ اللَّحْمِ فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي نَوَاحِي الصَّحْفَةِ ثُمَّ قَالَ:((خُذُوا بِاسْمِ اللهِ)) . فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ حَاجَةٍ، وَايْمُ اللهِ
إِن كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَ مَا قَدَّمْتُ لِجَمِيعِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: ((اسْقِ الْقَوْمَ)) . فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ الْعُسِّ فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا جَمِيعاً وَايْمُ اللهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ.
فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، بَدَرَهُ أَبُو لَهَب فَقَالَ: سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ. فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فقَالَ الْغَدِ: «يَا عَلِيٌّ إِنَّ هَذَا الرَّجُلِ قَدْ سَبَقَنِي إِلى مَا سَمِعْتَ فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَهُمْ فَعُدَّ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ مِثْلَ مَا صَنَعْتَ ثُمَّ اجْمَعْهُمْ» . فَفَعَلْتُ ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ فَدَعَانِي بِالطَّعَامِ فَقَرَّبْتُهُ فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالأَمْسِ. فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا.
ثُمَّ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْري الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَقَدْ أَمَرَنِي اللهُ أَنْ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ)) . وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ مُؤآزَرَتَه عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يُجِبْهُ إِلا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَهَذَا مِنْ الأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم تَصْدِيقاً لَهُ.
49-
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ فِي أَعْلامِ النُّبُوَّةِ أَنَّ مَعْمَرَ بنَ يَزِيد وَكَانَ أَشْجَعَ قَوْمِهِ اسْتَغَاثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ وَشَكُوا إِلَيْهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ بَنُو كِنَانَة تَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ وَتُطِيعُ
أَمْرَهُ فَلَمَّا شَكَوْا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَادِمٌ إِلى ثَلاثٍ وَأُرِيحُكُمْ مِنْهُ وَعِنْدِي عِشْرُونَ أَلْفِ مُدَجَّجٍ فَلا أَرَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْدِرُ عَلَى حَرْبِي.
وَإِنْ سَأَلُونِي الدِّيَّةَ أَعْطَيْتُهُمْ عَشْرَ دِيَاتٍ فَفِي مَالِي سِعَةٌ وَهُو مَشْهُورٌ بِالشَّجَاعَةِ وَالْبَأْسِ فَلَبِسَ يَوْمَ وَعْدِهِ قُرَيْشاً سِلاحَهُ وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ فَوَافَقَهُمْ بِالْحَطِيمِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحِجْرِ يُصَلِّي وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ فَمَا الْتَفَتَ وَلا تَزَعْزَعَ وَلا قَصَّرَ فِي صَلاةٍ.
فَقِيلَ: هَذاَ مُحَمَّدٌ سَاجِدٌ فَأَهْوَى إِلَيْهِ وَقَدْ سَلَّ سَيْفَهُ وَأَقْبَلَ نَحْوَهُ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَمَى بِسَيْفِهِ وَعَادَ فَلَمَّا صَارَ إِلى بَابِ الصَّفَا عَثَرَ فِي دِرْعِهِ فَسَقَطَ فَقَامَ وَقَدْ أَدْمَى وَجْهَهُ بِالْحِجَارَةِ يَعْدُو كَأَشَدِّ الْعَدْوِ حَتَّى بَلَغَ الْبَطْحَاءَ مَا يَلْتَفِتُ إِلى خَلْفٍ فَاجْتَمَعُوا وَغَسَّلُوا عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ وَقَالُوا: مَاذَا أَصَابَكَ. قَالَ: وَيْحَكُمْ الْمَغْرُورُ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ. قَالُوا: مَا شَأْنَكَ. قَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ دَعُونِي تَرْجِعُ إِليَّ نَفْسِي. فَتَرَكُوهُ سَاعَةً وَقَالُوا: مَا أَصَابَكَ يَا أَبَا اللَّيْثِ. قَالَ: إِنِّي لَمَّا دَنَوْت مِنْ مُحَمَّدٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَهْوِي بِسَيْفِي إِلَيْهِ أَهْوَى إِلَيَّ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ شُجَاعَانِ أَقْرَعَانِ يَنْفُخَانِ النِّيرَانِ تَلْمَعُ مِنْ أَبْصَارِهِمَا فَعَدَوْتُ فَمَا كُنْتُ لأَعُودَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاءَةِ مُحَمَّدٍ.
50-
قَالَ: وَمِنْ أَعْلامِهِ:
أَنَّ كِلْدَةَ بنَ أَسَدٍ أَبَا الأَشَدِّ وَكَانَ مِنَ الْقُوَّةِ بِمَكَانٍ خَاطَرَ قُرَيْشاً يَوْماً فِي قَتْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْظَمُوا لَهُ الْخَطَرَ إِنْ هُوَ كَفَاهُمْ فَرَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّرِيقِ يُرِيدُ الْمَسْجِدَ مَا بَيْنَ دَارِ عَقِيلٍ وَعِقَالَ فَجَاءَ كِلْدَةُ وَمَعَهُ الْمِزْرَاقُ فَرَجَعَ الْمِزْرَاقُ فِي صَدْرِهِ فَرَجَعَ فَزِعاً فقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: مَا لَكَ يَا أَبَا الأَشَدِّ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ مَا تَرَوْنَ الْفَحْلَ خَلْفِي؟ قَالُوا: لا مَا نَرَى شَيْئاً. قَالَ: وَيْحَكُمْ فَإِنِّي أَرَاهُ. فَلَمْ يَزَلْ يَعْدُو حَتَّى بَلَغَ الطَّائِفَ فَاسْتَهْزَأَتْ بِهِ ثَقِيفٌ فَقَالَ: أَنَا أَعْدُرُكم لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَهَلَكْتُمْ.
القصيدة الوعظية
لَيْسَ الْمَقَامُ بِدَارِ الذُّلِّ مِنْ شِيَمِي
…
وَلا مُعَاشَرَةُ الأَوْبَاشِ مِنْ هَمِّي
وَلا مُخَالَطَةُ الأَرْذَالِ تَصْلُحُ لِي
…
كَذَلِكَ الْبَازُ لا يَأْوِي إِلى الرَّخَمِ
يَا سَائِلِي عَنْ عُلُومٍ لَيْسَ يَفْهَمُهَا
…
اسْمَعْ كَلامَاً كَنَظْمِ الدُّرِّ مُحْتَكِمِ
إِنْ الْوُعَيْظِي لَهُ فِي الشِّعْرِ نَافِلَةٌ
…
يَحَارُ فِيهَا ذَوُو الأَلْبَابِ وَالْفُهُمِ
خَيْرُ الصَّنَائِعَ تَقْوَى اللهِ فَاتَّقِهِ
…
يَكْفِيكَ فِي الْحَشْرِ مَا تَخْشَى مِنَ النَّدَمِ
وَالْوَالِدَيْنِ فَلا تَنْهَرْهُمَا أَبَداً
…
قَدْ رَبَّيَاكَ صَغِيراً غَيْرَ مُنْفَطِمِ
قَدْ طَالَ مَا سَهرَتْ بِاللَّيْلِ أَعْيُنُهُمْ
…
خَوْفاً عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ
ثُمَّ الصَّلاةُ الَّتِي بَيْنَ الْفَتَى صِلَةٌ
…
وَبَيْنَ خَالِقِهِ تَنْهَى عَنِ الإِثْمِ
أَدِّ الزَّكَاةَ عَنِ الأَمْوَالِ تَغْسِلُهَا
…
كَالثَّوْبِ يُغْسَلُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الدَّسَمِ
وَالصَّوْمُ فَرْضَ مِنَ الرَّحْمَنِ أَوْجَبَهُ
…
عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ أَدْرَكَهُ فَلْيَصُمِ
وَالْحجُّ فَرْض عَلَى الإِسْلامِ كُلِّهِمْ
…
مَنْ لَمْ يَحُجَّ كَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَصُمِ
مَنِ اسْتَطَاعَ عَلَى زَادٍ وَرَاحِلَةٍ
…
وَمَسْلَكٍ آمِنٍ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ
فَإِنَّ حَجَجْتَ احْفَظْنَهَا كَيْ تَفُوزَ بِهَا
…
وَاذْكُرْ مَسِيرَكَ مِنْ طَامٍ إِلَى أَكُمِ
وَلا تُضَيِّعْهَا تَصْلَى لَهِيبَ لَظَى
…
وَتُحْرَمُ الشُّرْبَ مِنْ حَوْضٍ لِكُلِّ ظُمِ
وَكَمْ أَصَابَكَ مِنْ جُوعٍ وَمِنْ عَطَشٍ
…
وَكَمْ تَعِبْتَ وَكَمْ جَاوَزْتَ مِنْ إِضَمِ
وَفِي الْجِهَادِ ثَوَابٌ إِنَّ صَاحِبَهَا
…
فِي الْخَيْرِ وَالْحُورِ مَقْصُور مَعَ الْخِيَمِ
وَإِنْ ظَفَرْتَ فَمَشْكُورٌ وَمُفْتَخِرٌ
…
وَإِنْ قُتِلْتَ جَزَاكَ اللهُ بِالنِّعَمِ
فَأَبْشِرْ بِجَنَّاتِ عَدْنِ غَيْرَ فَانِيَةٍ
…
إِنْ أَنْتَ مُتَّ شَهِيدًا غَيْرَ مُنْهَزِمِ
وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مَطْلُوبٍ فَطَالِبُهُ
…
يَنَالُ دُنْيَا وَدِينَا غَيْرَ مُتَّهَمِ
قَدْ شَرَّفَ اللهُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَافْتَخَرُوا
…
بِأَنَّهُمُ أُمَنَاءُ اللهِ فِي الأُمَمِ
وَالْكَيْلَ أَوْفِهِ وَلِلْمِيزَانِ أَرْجِحُهُ
…
كَمْ أَهْلَكَ اللهُ فِي هَذَيْنِ مِنْ أُمَمِ
وَأمر بِأَهْلِكَ يَا هَذَا وَحُضُّهُمْ
…
عَلَى الصَّلاةِ فَفِيهَا كُلُّ مُغْتَنَمِ
وَاجْهَرْ بِخَيْرٍ إِذَا مَا مَعْشَرٌ حَضَرُوا
…
وَانْطِقْ بِخَيْرٍ تَنَالَ حُسْنَ خَيْرِهِمْ
مَنْ طَابَ مَوْلِدُهُ طَابَتْ مَحَاضِرُهُ
…
كَذَاكَ قَدْ قِيلَ فِي بَيْتٍ مِنَ الْقِدَمِ
وَلِلْبَنِينَ حُقُوقٌ لا تُضَيِّعُهَا
…
حَالٌ كَرِيمٌ وَاسْمٌ غَيْرَ مُنْعَجِمِ
وَخُصُّهُمْ بِأَدِيبٍ فَاضِلٍ فَهِمٍ
…
فَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ
وَأَقْرأْهُمُ النَّحْوَ وَالشِّعْرَ الْفَصِيحَ فَفِي
…
ذَاكَ فَضِلَةٌ لَيْس الْفَضْلُ لِلْعَجَمِ
وَالضَّيْف أَكْرِمَهُ إِنَّ الضَّيْفَ مُرْتَحَلٌ
…
يُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أُوِتيتَ مِنْ كَرَمِ
لَيْسَ الْكَرَامَةُ فِي طِيبِ الطَّعَامِ لَهُ
…
وَلا تَكَلُّفَ مِنْ لَحْمٍ وَمِنْ أَدُمِ
بَلِ الْكَرَامَةُ أَنْ تَلْقَاهُ مُبْتَسِمًا
…
لا خَيْرَ عِنْدَ مَضِيفٍ غَيْرَ مُبْتَسِمِ
أُوصِيكَ بِالرُّمْحِ وَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ فَفِي
…
هَذَيْنِ عِزٌّ وَمّجْدٌ غَيْرَ مُنْهَمِ
.. وَسَابِقْ الْخَيْلِ أَكْرِمْهَا مُحَافَظَةً
…
فَإِنَّهَا عِدَّةٌ لِلْمَاجِدِ الْفَهِمِ
وَلا تُوَاكِلْ إِمَارَةً تَقُومُ بِهَا
…
عَنْدَ الْعَلِيقِ وَلا وَغْدًا مِنَ الْخَدَمِ
وَإِنْ مَلَكْتَ فَكُنْ بِالْعَدِلِ مُتَزِرًا
…
وَاحْذَرْ سِهَامَ الدُّجَى فِي حَنْدَسِ الظُّلَمِ
فَرُبَّ دَعْوَةِ مَظْلُومٍ تُصَادِفُهَا
…
إِجَابَةٌ بِزَوالِ الْمُلْكِ وَالنِّعَمِ
وَاحْفَظْ نَصِيحَةَ مَنْ تَنْفَعْ نَصِيحَتُهُ
…
وَالْبَدْلَ جَازِيهِ بِالتَّأْدِيبِ وَالْكَرَمِ
وَإِنْ دَنَوْتَ مِنْ السُّلْطَانِ وَارْتَفَعَتْ
…
بِكَ الْمَرَاتِبُ لا تَأْمَنْ مِنَ النِّقَمِ
إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا حَبَوْكَ وَاجْتَهَدُوا
…
هُمْ يُتْبِعُوكَ لَهُمْ فِي سَائِرِ الْخَدَمِ
وَإِنْ جَفَوْتَ سَقُوكَ السُّمَّ وَاحْتَقَرُوا
…
مَا كُنْتَ تَصْنَعُ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ كَلِمِ
وَاحْذَرْ مِنْ الْبَغْيِ إِنَّ الْبَغْيَ مَنْقَصَةٌ
…
عَوَاقِبُ الْبَغْيَ لا تُبْقِي وَلا تَدُمِ
وَإِنْ نَبَا مَنْزِلٌ يَوْمًا فَفَارِقُهُ
…
لا خَيْرَ فِي الْمَنْزِلِ الْمُسْتَوْبِلِ الْوَخَمِ
أَرْضٌ بِأَرْضٍ وَإِخْوَانٍ بِمِثْلِهِمِ
…
وَالرِّزْقُ يَأَتِي لَمَنْ يَسْعَى وَمَنْ يَقُمِ
وَانْهَضْ فَإِنَّ بِلادَ اللهِ وَاسِعَةٌ
…
طٌولاً وَعَرْضًا وَمَا ضَاقَتْ لِمُقْتَحِمِ
وَإِنْ تَغَيَّرَ يَوْمًا مَنْ تُصَاحِبُهُ
…
عَنْ وِدِّهِ وَبَدَا بِالصَّدِّ وَالصَّمَمِ
فَلا تُعَاتِبُهُ يَوْمًا بَلْ فَفَارِقُه
…
لَيْسَتْ مُعَاشَرَةِ الأَرْذَالِ بِاللَّزَمِ
لا خَيْرَ فِي صَاحِبٍ تَبْدُو قَبَائِحُهُ
…
بَعْدَ الْجَمِيلِ بِوَجْهٍ عَابِسٍ وَخِمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرِّبَا فِي الْمَالِ يَمْحَقُهُ
…
وَالرِّبْحُ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ غَيْر مُتَّهَم
وَلا تُعَامِل لِمَخْلُوقٍ مُعَامَلَةٍ
…
إِلا بِخَط شُهُودٍ يُقْتَدَى بِهِمُ
وَلِلدَّرَاهِيمِ فِي الْحَاجَاتِ مَنْفَعَةٌ
…
نِعْمَ الصَّدِيقُ وَلا يُخْشَى مِنْ الْعَدَمِ
وَإِنْ تَدَايَنْتَ دَيْنًا لا تَكُنْ مَطِلاً
…
فَإِنَّ حُسْنَ الْوَفَا مَقْرُونٌ بِالكَّرَمِ
أَتَأْخُذُ الدَّينَ حُلْوًا عِنْدَ حَاجَتِهِ
…
وَعِنْدَ وَقْتِ الْقَضَاةَ فيه بِالْكَظِمِ
لا تَحْمِدَنَّ امْرِأ حَتَّى تُجِرِّبه
…
وَلا تَذُمَّنهُ فِي الْعُسْرِ وَالْعَدَمِ
.. وَابْنُ عَمِّكَ لا تَقْطَعْ مَوَدَّتُهُ
…
وَصَلْ قَرَابَتُهُ فِي اللهِ وَالرَّحِمِ
وَإِنْ أَتَاكَ إِذَا نَابَتْكَ ناَئِبَةٌ
…
مَطْلَعِ الرَّأْسِ عَارِ مٌحْتَشِمِ
فَذَاكَ أَفْضَلُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ وَلَدٍ
…
تَعْزُو بِهِ النَّفْس وَالأَمْوَال وَالْهِمَمِ
وَالْمَجْدُ لا يَنْبَغِي إِلا بِأَرْبَعَةٍ
…
بِالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَالأَمْوَالِ وَالْفِهْمِ
وَإِنْ تَقَدَّمْتَ يَا هَذَا عَلَى نَفَرٍ
…
فَكُنْ عَلَيْهُمْ كَمِثْلِ الْوَالِدِ الرَّحِمِ
وَاطْلُبْ رِضَاهُمْ إِذَا طَاعُوكَ وَاجْتَهَدُوا
…
وَإِنْ عَصَوْكَ فَفَارِقْهُمْ وَلا تُقِمِ
وَاقْبَلْ مَعَاذِيرِ مَنْ أَتَاكَ مُعْتَذِرًا
…
فَالْعُذْرِ يُقْبَلُ عِنْدَ السَّيِّدِ الْحُثَمِ
مَا كُلُّ مَنْ وَلَدَتْهُ الأُمِ قِيلَ أَخٌ
…
وَلَوْ أَفَادَكَ بِالدِّيَاتِ وَالْخَدَمِ
أَخُوك فِي النَّاسِ مَنْ وَافَاكَ فَاحْفَظْهُ
…
وَمَنْ يُوَاسِيكَ عِنْدَ الْعُسْرِ وَالْعَدَمِ
وَإِنْ مَدَحْتَ فَلا تَهْدِ الْقَرِيضَ إِلَى
…
بَخِيلِ قَوْمٍ وَضِيعٍ غَيْرِ مُحْتَشِمِ
إِنْ جِئْتَ تَقْصُدُهُ أَرْخَى مَشَافِرَهُ
…
كَأَنَّ شِدْقَيْهُ مَنْفُوذَيْنَ بِالْوَرَمِ
اقْصُدْ بِمَدْحِكَ ذَا فَضْلٍ وَذَا كَرَمٍ
…
يَلْقَاكَ والْوَجْهِ بَسَّامٍ بِلا قَتَمِ
يَكْفِيكَ مِنْهُ الْقَلِيل أَنْتَ قَابِلَهُ
…
مَعَ الْبَشَاشَةِ وَالأَرْزَاقِ بِالْقَسَمِ
وَإِنْ وَعَدْتَ فَاوَفْ مَا وَعَدْتَ بِهِ
…
فَالْوَعْدُ دِينٌ عَلَى ذِي نَخْوَةِ لَزِمِ
واصْدُقْ فَإِنَّ حَدِيثَ الصِّدْقِ مَكْرَمَةٌ
…
فاَلصِّدْقِ يُنَجِّيكَ عِنْدَ الله ِوَالأُمَمِ
وَلِلْكَذُوبِ عُيُوبٌ إِنَّ صَاحِبَهَا
…
وَإِنْ تَحَدَّثَ صِدْقًا بِالتُّهَمِ
وَلا تَفَرِّطُ فِي جَارٍ وَلا نَسَبٍ
…
واَعْلَمْ أَنَّهُمَا فِي أَكْبَرِ الأُمَمِ
وَالسَّيْفُ وَالرُّمْحُ مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ
…
وَالسَّيْفُ أَصْدَقُ أَنباءِ مِنَ الْحِكَمِ
وَإِنْ خَشِيتَ مِنَ السُّلْطَانِ نَائِبَةً
…
فَالْبُعْدُ أَسْلَمُ لِلأَعْنَاقِ وَالْهِمَمِ
فَالنَّارُ تُحْرَقُ مَنْ يَدْنُو بِجَانِبِهَا
…
وَإِنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا فَازَ بِالسَّلَمِ
وَإِنْ تَزَوَجْتَ يَا هَذَا فَكُنْ حَفِظًا
…
وَكُنْ غَيُورًا وَلا تُفْسِحْ لَهَا قِدَمِ
.. وَلا تُمَكِّنُهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا
…
وَلا الْخُرُوجُ مَعَ الدِّيَّاتِ وَالْخَدَمِ
وَإِنْ ظَنَنْتَ بِهَا سُوءً فَطَلِّقْهَا
…
وَخُذْ سِوَاهَا وَلا تَعْتَادَ بِالنَّدَمِ
فَالْمَرْأَةُ السُّوءِ كَالضِّرْسِ الْعَلِيلِ فَإِنْ
…
أَزَلْتَهُ زَالَ عَنْكَ الْبَأَسَ وَالأَلَمِ
وَاحْذَرْ عَجُوزًا تُوَلِّيهَا عَلَى حُرَمٍ
…
فاَلذِّئْبُ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ عَلَى الْغَنَمِ
وَلا تُخَادِعَنَّكَ الأُنْثَى فَتَأْمَنُهَا
…
يَوْمًا وَحَاذِرْ ذَوَاتَ الْمَكْرِ وَالتُّهَمِ
هُنَّ الْكَوَاذِيبُ لا قَوْلَ لَهُنَّ وَلا
…
يَحْفَظْنَ عَهْدًا وَلا يُوفِينَ بِالذِّمَمِ
مَا فِي الرِّجَالِ عَلَى النِّسْوَانِ مِنْ ثِقَةٍ
…
وَلا أَمِين فَلا تَصْغُوا لِكَيْدِهِمْ
يَا مَنْ يُخَالِطُ فِي أُنْثَى وَفِي ذَكَرٍ
…
إِذَا خَلا بِهَمَا إِبْلِيس فِي الظُّلَمِ
هَلْ تَأْمَنُ النَّار إِنْ أَوْدَعْتَهَا حَطَبًا
…
كَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ في طَلْحَ مِنَ الرَّتْمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ النِّسَا أَصْحَابُ مَيْسَرَةٍ
…
لا يَسْتَحِينَ وَلا يَصْبِرْنّ لِلْعَدَمِ
إِذَا دَعَتْهُنَّ أَغْرَاضٌ لَهُنَّ فَلا
…
يَفْرِقْنَ بَيْنَ كَرِيمِ الْجَدِّ وَاللَّمَمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الزِّنَا عَارٌّ وَمَنْقَصَةٌ
…
فِي الدِّينِ وَالْمَالِ وَالأَهْلِينَ وَالْحَرَمِ
وَفِي الْحَلالِ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِرَةٌ
…
يَصُونُ عِرْضِكَ مِنْ لَوْمٍ وَمِنْ إِثْمٍ
لا تَقْتُلْ النَّفْسَ وَالرَّحْمَنُ حَرَّمَهَا
…
كَمِثْلِ تَحْرِيمِهِ لِلْبَيْتِ وَالْحَرَمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَرْشِ مُطَّلَعٌ
…
عَلَيْكَ وَاحْذَرْ مِنَ الْجَبَارِ وَاحْتَثِمِ
لا يَرْجِعُ السَّهْمُ يَوْمًا إِنْ رَمَيْتَ بِهِ
…
كَالدَّرِّ لَيْسَ بِمَرْدُودٍ إِلَى الْحُلُمِ
وَإِنْ بَدَأْتَ بِخَيْرٍ لا تَمُنَّ بِهِ
…
وَكُنْ بِخَيْرِكَ بَيْنَ النَّاسِ مُحْتَثِمِ
فَالْمَنُّ يُفْسِدُ مَا تُبْدِيهِ مِنْ كَرَمٍ
…
إِنَّ الْعَطَا وَالسَّخَا مِنْ أَفْضَلِ الشِّيَمِ
وَمَنْ بَدَا لَكَ مَعْرُوفًا فَعَارِضُهُ
…
شُكْرًا كَشُكْرِ نَبَاتِ الأَرْضِ لِلدِّيَمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ عَارِيَةٌ
…
وَقْتًا يَكُونُ وَوَقْتَا عَنْكَ مُنْهَزِمِ
وَلِلْوَدِيعَةِ حَقٌّ لا تُضَيِّعُهَا
…
إِنَّ الْوَفَى حَسَنُ فِي سَائِرِ الأُمَمِ
.. هِيَ الأَمَانَةُ أَعْطِيهَا لِصَاحِبِهَا
…
تَنَالُ دِينًا وَتَنْجُو مِنْ أَذَى التُّهَمِ
وَإِنْ شَهِدتَ بِشَيْءٍ لا تُضَيِّعُهُ
…
وَاصْدُقْ بِقَوْلِكَ بَيْنَ الْخَصْمِ وَالْحِكَمِ
إِنَّ الشَّهَادَةَ فَرْض لَيْسَ يَكْتُمَهَا
…
إِلا لَئِيمٌ قَلِيلُ الدِّينِ ذُو تُهَمِ
وَلا تُصَاهِرْ بَخِيلاً فِي عَشِيرَتِهِ
…
وَلَوْ أَتَاكَ بِمَالِ الْفَارِسِ السَّلَمِ
وَإِنْ خَطَبْتَ فَلا تَخْطُبْ وَإِنْ حَسُنَتْ
…
إِلا كَبِيرَةَ بَيْتٍ غَيْرِ مُتْهَمِ
إِيَّاكَ تَشْتُمْ وَلا تَبْدُو بِفَاحِشَةٍ
…
لِوَالِدَيْكَ وَابْذُلْ طَيِّبَ الْكَلِمِ
لا تَرْكَنَنَّ إِلَى بَيْت الزُّنَاةِ وَلَوْ
…
جَاءَتْ بِمَالِ جَزِيلٍ وَاحْذَرْ قَطْعَتَ الرَّحِمِ
وَلا تَغُرَّنَّكَ سَوْدَاء فَتُودِعُهَا
…
جَوَاهِرَ الصُّلْبِ لَيْسَ النُّورُ كَالظُّلَمِ
وَإِنْ جَمِعْتَ نِسَاءَ لا تُضَارِرُهُنْ
…
فَإِنَّهُنْ وَدِيعَاتٌ لِذِي كَرَمِ
فَمَنْ تُطِيعُكَ أَكْرِمْهَا وَاحْفَظَهَا
…
وَمَنْ عَصَتْكَ فَفَارِقْهَا وَلا تُقِمِ
إِيَّاكَ إِيّاكَ قَذْفَ الْمُحْصِنَاتِ بِلا
…
ذَنْبٍ فَتُصْبِحَ فِي بَحْرٍ مِنَ الإِثْمِ
وَلا تَجَرَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ تَضْرِبُهُ
…
وَأَحْسِنْ إِذَا كُنْتَ ذَا حُسْنٍ وَذَا كَرَمِ
وَاسْتَغْفِر الله مِنْ ذَنْبِ خَلَوْتَ بِهِ
…
فَاللهُ يَنْظُرُهُ فِي حِنْدِسِ الظُّلَمِ
وَاحْفَظْ وَصِيَّةَ مَنْ وَصَّاكَ مُجْتَهِدًا
…
وَخُذْ قَصِيدًا كَنَظْمِ الدُّرِّ مُحْتَكِمِ
وَإِنْ هَمَمْتَ بِقَوْمٍ أَنْ تُجَاوِرَهُمْ
…
قَسَلْ عَنِ الْفَاضِلِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَرَمِ
مَعْرُوفَ بِالْخَيْرِ مَأْمُونًا عَوَاقِبُهُ
…
لا يُنْكِرُ الْجَارَ إِلا مَعْشَرُ الْؤُمِ
لا خَيْرَ فِي الْجَارِ إِلا أَنْ يَكُونَ تَقِي
…
عَنِ الْعَزِيزَيْنِ مِنْ مَال وَمِنْ خَدَمِ
مَا أَقْبَحَ الْجَارَ إِذْ يَزْنِي بِجَارَتِهِ
…
فِي جُنْحِ لَيْلِ وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْخَدَمِ
وَاكْتُمْ أَحَادِيثَ سِرٍّ أَنْ تُبَرِّزَهَا
…
فَكَاتِمُ السِّرِّ مَأْمُونٌ مِنَ النَّدَمِ
وَالصَّمْتُ أَجْمَلُ ثَوْبٍ أَنْتَ لابِسُهُ
…
كَمْ هَامَةٍ قُطَعِتْ مِنْ عَثْرَةٍ بِفَمِ
وَالْحُرٌ أَوْلَى بِسِرِّ النَّاسِ يَكْتُمُهُ
…
بَعْدَ الثَّلاثَةِ مَا سِرٌ بِمُكَتِتمِ
.. وَإِنْ كَسَاكَ كَرِيمٌ مِنْ صَنَائِعِهِ
…
ثَوْبًا فَأَنْشِرَهُ فِي سَائِرِ الأُمَمِ
وَإِنْ حَظِيتَ بِجَاهِ لا تَشُحَّ بِهِ
…
يَوْمًا عَلى عُرُبٍ لا لا وَلا عَجَمِ
وَافْعَلْ جَمِيلاً إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا
…
فَالْمَالُ يَفْنَى وَلا خَيْرُ بِمُنْصَرِمِ
وَلا تُشَاوِرْ وَإِنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ
…
إِلا نَصُوحًا شَفِيقًا غَيْرَ مُتَّهَمِ
لا تَنْتَهِرَنَّ يَتِيمًا مَاتَ وَالدُهُ
…
إِنَّ الْيَتِيمَ ضَعِيفُ الْقَلْبِ ذُو أَلَمِ
وَإِنْ أَتَى سَائِلاً يَوْمًا فَأَطْعِمُهُ
…
مِمَّا رُزِقْتَ بِوَجْه غَيْرَ مُنْفَطِمِ
إِيَّاكَ لا تَنْهَرُهُ إِن لَجَّ فِي طَلَبِ
…
ادْفَعْ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَيْلاً بِلا نَدَمِ
إِنَّ الْغَرِيبَ ذَلِيلٌ أَيْنَمَا سَلَكَتْ
…
بِهِ الرِّكَابُ غَزِيرُ الدَّمْعِ مُنْسَجِمِ
إِنَّ مَاتَ يَوْمًا فَلا تُبْكِيهِ بَاكِيَةُ
…
وَلا تُعَلِّلِهُ الأَوْصَافُ مِنْ سَقَمِ
وَإِنْ دُعِيتَ إِلَى قَوْمٍ لِتُصْلِحَهُمْ
…
فَانْهَضْ فَإِنَّكَ مَأْجُورٌ بِصُلْحِهِمِ
وَإِنْ دَعَا بِكَ مَظْلُومٌ فَأَنْصِرُه
…
بِقَوْلِكَ الْحَقْ أَوْ بِالصَّارِمِ الْحَكَمِ
وَإِنْ أَتَاكَ مَخِيفُ الْقَلْبِ أَمِّنَهُ
…
فَالْخَوْفُ مُمْتَزجِ فِي لَحْمِهِ وَالدَّمِ
وَلا تَكُنْ شَرِهًا فِي الأَكْلِ كَمْ شَرِهِ
…
كَانَتْ مَنِيَّتُهُ مُمْتَزِجِ فِي أَصْغَرِ اللُّقَمِ
وَكُثْرَةُ الأَكْلِ تُؤْذِي جِسْمَ صَاحِبَهَا
…
حَتَّى يُصَبَّحَ مَضْرُورًا مِنَ الْبَثَمِ
وَغَسْلُ قَبْلِ صَعَامِ الأَكْلِ فِيهِ غِنَى
…
وَالْعَسَلُ مِنْ بَعْدِهِ حِرْزٌ مِنَ اللَّمَمِ
وَكَثْرَةُ الْمَزْحَ مَذْمُومُ عَوَاقِبُهَا
…
كَمْ مُزَاحِ دَعَا لِلشَّرَّ وَالشَّتَمِ
وَاحْذَرْ عَدُوَّكَ لا تَرْكَنْ لَهُ أَبَدًا
…
وَلا يُخَادِعْكَ بِالأَيْمَانِ وَالْقَسَمِ
وَكُلَّمَا زَادَ إِحْسَانًا فَأَبْعِدُهُ
…
وَانْظُرْ بِقَلْبِكَ إِنَّ الْقَلْبَ غَيْرُ عَمِ
كَمْ مِنْ عَدُوَّ رَمَى بِالإِفْكِ صَاحِبَهُ
…
فَبَاتَ مُرْتَهِنًا فِي لَحْفِ مُنْتَقِمِ
وَإِنْ حَذَرْتَ عَدُوَّا مِنْكَ وَاحِدَةً
…
فَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفًا لا تَكُنْ دَهِمِ
فَرُبَّمَا انْقَلَبَتْ يَوْمًا صَدَاقَتُهُ
…
فَصَارَ يَخْبِرُ بِالأَسْرَارِ لِلنَّقَمِ
.. وَلا تُصَادِقْ صَدِيقًا لَمْ تُجَرِّبَهُ
…
فِي النَّائِبَاتِ وَكُنْ بِاللهِ مُعْتَصِمِ
فَمَا صَدِيقُ الرَّخَا وَالنَّائِبَات سِوَى
…
وَلا يُقَاسُ قَوِيُّ الْقَلْبِ بِالْهَرَمِ
كَمْ مِنْ صَدِيقٍ ضَحُّوكِ السِّنِّ مُبْتَسِمٍ
…
وَفِي الشَّدَائِدِ يَأْتِي غَيْرَ مُبْتَسِمِ
كَمْ مِنْ صَدِيقٍ مَنْ عَادَى أَبَاكَ وَلا
…
يَغُرَّكَ الدَّهْرُ فِي أَعْدَائِكَ الْقِدَمِ
لا يَنْجَلِي صَارِمٌ فِي جَنْبِهِ حُرَبٌ
…
لا بُدَّ مِنَ أَثَرِ بِالسَّيْفِ كَالْقَلَمِ
وَلا تَخَالِفُ قَوْمًا إِنَّهُمْ عُرِفُوا
…
بِالْعَدْلِ وَاقْطَعْ جَمَالَ الْحِلفِ وَانْصَرِمِ
لا تَجْرَأَنَّ أَنَّ عَلَى الأَيْمَانِ كَاذِبَةَ
…
وَلا يَغُرَّنَّكَ الشَّيْطَانُ فِي الْقَسَمِ
وَأَعْلَمْ بِأَنَّ دِيَارَ الْحَالِفِينَ تُرَى
…
بَلاقِعًا مَسْكَنًا لِلْبُومِ وَالرَّخَمِ
وَحْفَظْ وَصِيَّةَ مَنْ أَوْصَاكَ مُجْتَهِدًا
…
وَخُذْ قَصِيدًا كَنَظْمِ الدُّرِّ مُحْبَكِمِ
قَوْلُ الْهُمَامِ الْوُعَيْظِي الَّذِي شُهِرَتْ
…
أَشْعَارُهُ فِي بِلادِ الْعُرْبِ وَالْعَجَمِ
إِنَّ الْقَصَائِدَ جَلَّتْ فِي مَفَاخِرِهَا
…
أُرِيتَ شِعْرِي مُنِيفَ الْجَدِّ كَالْعِلْمِ
مَا قَالَ مِثْلَ قَصِيدِي شَاعِرٌ أَبَدًا
…
وَلا يُؤَلِّفُهَا أَوْ يَنْطِقُ الصَّمِمِ
أَلْفَتْ جَوَاهِرُهَا كَالدَّرِّ مُحْتَكِمًا
…
بَانَتْ مَحَاسِنُهَا بِالْوَعْظِ وَالْحِكَمِ
مَا قَالَ شَاعِرُ قَوْمٍ مِثْلَهَا أَبَدًا
…
أَوْ يَنْطِقُ الْحَجَرُ الْمَنْعُوتُ بِالصَّمَمِ
وَدِيعَتِي لِلْمَنَايَا سَوْفَ يَطْرُقُهَا
…
وَالْمَوْتُ حَتْمٌ وَعِنْدَ الله مُحْتَكَمِي
يَا رَبَّ يَا رَبَّ يَا رَحْمَنُ فَارْحَمُنَا
…
بِصَبْوَةِ شَابَ مِنْهَا الرَّأْسُ وَاللَّمَمِ
وَاغْفِرْ ذُنُوبَ الْوَعيظِي إِنَّهُ رَجُلٌ
…
عَاصِ وَمُعْتَرِفٌ بِالذَّنْبِ مُجْتَرِمِ
قَصَدْتُ بَابَكَ يَا رَحْمَنُ فَارْحَمُنَا
…
وَاصْفَحْ بِعَفْوِكَ عَنْ ذَنْبِي وَعَنْ جُرْمِي
رَبِّي قَدِيرُ رَحِيمٌ وَاحِدٌ أَحَدٌ
…
مُهَيْمِنٌ قَاهِرٌ بِالْبَطْشِ وَالنَّقَمِ
وَوَارِثُ الأَرْضَ لانِدٌ يُعَانِدُهُ
…
وَلا شَرِيكٌ لَهُ بَلْ جَلَّ فِي الْعِظَمِ
مُحْيِ الْقُلُوبَ وَمُنْشِئُمْ وَرَازِقهُمْ
…
حَتَّى الْمَمَاتِ وَمُحْيِ دَارِس الرُّمَمِ
.. وَبَاعِثُ الْخَلْقِ لِلْمِيقَاتِ أَجْمَعِهِمْ
…
وَالْعَدْلُ يَنْشُرُهُ فِي سَائِرِ الأُمَمِ
وَجِيءَ بِالْجَنَّةِ الْعُلْيَا مُزْخَرْفَةً
…
قَدْ خَصَّهَا اللهُ بِالأَمْلاكِ وَالنِّعَمِ
وَلِلصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ إِذْ نُصِبَا
…
كَرْبٌ وَكُلُّ الْوَرَى لِلْكَرْبِ مُلْتَزِمِ
وَلِلصَّحَائِفِ أَهْوَالٌ إِذَا نُشِرَتْ
…
وَالنَّاسُ قَدْ شَخَصُوا مِنْ خَوْفِ رَبِّهِمِ
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَلَيْسَ الدَّهْرُ يُخْبِرُنِي
…
أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يَنْجُو يَوْمَ مُحْتَكَمِ
لَكِنَّ ظَنِّي بِرَبِّي أَنَّهُ مَلِكٌ
…
يَعْفُو بِرَحْمَتِهِ عَنْ كُلِّ مُجْتَرِمِ
مَوْلايَ مَوْلايَ لا رَبٌّ سِوَاكَ فَعْفُ
…
ذَنْبِي فَإِنَّكَ ذُو عَفْوٍ وَذُو كَرَمِ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ سِيِّدِنَا
…
مُحَمَّدِ الْمُصْطَفَى لِلْعُرْبِ وَالْعَجَمِ
(فَصْلٌ)
51-
ومنها إرسال الريح الشديدة على الأحزاب وهم قريش ومن معهم يوم الخندق أرسلها الله عليهم ليلاً قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بليل، وكانت الريح التي أرسلها الله عليهم الصبا، ففروا لشدتها عن بعض أثقالهم وأمتعتهم، ولو أقاموا إلى الصباح لهلكوا جميعاً. وهو المدلول عليه بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . ففي خبر القصة أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما رأى من أصحابه الجزع لطول الحصار، صعد إلى الجبل فدعا الله وكان فيما دعاه أن قَالَ ((واصرف عنا شر هؤلاء القوم بقوتك وحولك وقدرتك)) . فنزل جبريل يخبره عن الله بأنه استجاب له وأمر الله الريح والملائكة أن يهزموا قريشاً والأحزاب تلك الليلة، فأمر صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان أن يدخل معسكرهم أي قريش، ويأتي بأخبارهم، قَالَ له إن الله عز وجل قد أخبرني أنه أرسل على قريش الريح، وهزمهم. قَالَ: فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً، ولا بناء، فقطعت أصناب الفسطاط، وقلعت الأوتاد، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر.
قَالَ: وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالخفّ وَلَقِينَا مِنْ شِدَّةِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ فَرُدُوْا بِغَيْظِهِمْ {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} .
فالباري جل وعلا أرسل الريح على أولئك المشركين، نصراً لنبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وتصديقاً لدعوته، واستجابة لدعائه، لعلمه تعالى أن أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم لا يقومون بقتال أولئك ففي هذه معجزة عظيمة فتأمل.
52-
وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ
لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ ((اجْمَعُوا ِلَيَّ مَنْ كَانَ هُنَا مِنْ يَهُودَ)) فَجُمِعُوا، فَقَالَ لَهُم ((إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ)) ؟ قَالُوا نَعَمْ، يَا أبًا القَاسِم، فَقَالَ لَهُمْ ((مَنْ أَبُوكُمْ)) ؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ:((كَذَبْتُمْ، أَبُوكُمْ فُلَانٌ)) قَالُوا صَدَقْتَ، وَبَرَرْتَ، قَالَ ((فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكمْ عَنْهُ)) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ، كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، قَالَ لَهُمْ ((مَنْ أَهْلُ النَّارِ)) ؟ قَالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. قَالَ ((اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً)) قَالَ ((هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ)) ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالَ ((هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً؟)) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ((مَا حَمَلَكُمْ
عَلَى ذَلِكَ)) ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِباً نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقاً لَمْ يَضُرَّكَ، رواه البخاري.
53-
وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عن صفوان بن عسال:
مسند أحمد - (ج 37 / ص 56)
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ
بَعْض الْيَهُودِ لِصَاحِبه، اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، لَا تَقُلْ نَبِيٌّ لَوْ سَمِعَهَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آياتٍ بَيَّنَاتٍ.
فَقَالَ ((لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ،
وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ولا تَسْحَرُوا وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً وَلَا تُوَلُوا الأدْبَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً اليَهُودُ أَنْ تَعْدُوا يَومَ السَّبْتِ)) فَقَبلا يدَهُ، ورجْلَهُ، وَقَالا: نَشْهَدُ إِنَّكَ نَيِيّ.
فَقَالَ ((مَا يَمْنَعُكُمْا أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالَا إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ اتَّبَعْنَاكَ، تَقْتُلَنَا يَهُودُ. للترمذي والنسائي.
54-
عَنْ جَابِرِ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَنَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي القَائِلةِ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا.
وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَأَخَذَ السَّيْفَ، فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، وَالسَّيْفُ صَلْتاً فِي يَدِهِ، فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قُلْتُ اللَّهُ، فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ)) ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَكَان مَلِكَ قَوْمِهِ، فانْصَرَفَ حِيْنَ عَفى عَنْهُ، فَقَالَ لا أَكُوْنُ فيِ قَوْمٍ هُمْ حَرْبٌ لَكَ، متفق عليه.
55-
ومنها إخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم أن الْأَرَضَةَ أَكَلَتْ مِنْ صَحِيْفَةِ قريشٍ ما فيه ظُلْمُ، وَقَطِيْعَةُ رَحِمٍ.
وأبْقَتْ ما فِيْهَا مِنْ أسْمَاءِ الله تعالى.
ومن حديثها أن قريشاً كتبوا فيما بينهم صحيفة بأن لا يبيعوا بني هاشم، ولا يبتاعوا منهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، أو يدفعوا إليهم محمداً ليقتلوه، ودفنوها في الكعبة، فَقَامَ أبو طالب ومن معه بحماية النبي صلى الله عليه وسلم، فبقوا محصورين في الشعب سنتين أو ثلاثاً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمّ، إنّ اللهَ قَدْ سَلّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْماً هُوَ لِلّهِ إلّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهُ الظّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ، فَقَالَ أَرَبِكَ أَخْبَرَك بِهَذَا، قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَوَاَللهِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ.
ثُمّ خَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا، فَهَلُمّ صَحِيفَتُكُمْ، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ أَخِي فَانْتَهُوا عَنْ
قَطِيعَتِنَا، وَانْزِلُوا عَمّا فِيهَا، وَإِنْ يَكُنْ كَاذِباً، دَفَعْت إلَيْكُمْ ابْنَ أَخِي، فَقَالَ الْقَوْمُ رَضِينَا، فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ
ثُمّ نَظَرُوا، فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرّاً. فَعِنْدَ ذَلِك صَنَعَ الرّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا.
56-
ومنها ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ لِعَليَّ يَوْمَ أحُد بعد انجلاء الهيجاء، إن قريشاً لن يصيبوا منا مثلها بعد هذا، حتَّى يفتح الله علينا مكة، فكان الأمر كما قَالَ، فإنه لم تصب قريش من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بعد أحد ما أصابت منهم يوم أحد
وما زال أمر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يعلو عليهم حتَّى غزاهم في عقر دارهم، ومحل قرارهم، ولم يستطيعوا دفعه، بل استأسروا له راغمين، فمن عليهم فاطلقهم من حبالة القتل، واعتقهم من رق الأسر وناداهم وهم مرعوبون ((اخرجوا فأنتم الطلقاء)) وبذلك يوم فتح مكة بالسنة الثامنة من الهجرة.
57-
وَمِنْ ذَلِكَ ما وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ، وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عليه السلام، فَنَادَانِي، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ
فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبِكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أُطْبِقَتُ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ)) فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ((بَلْ أَرْجُو، أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً)) متفق عليه.
58-
وَمِنْ ذَلِكَ ما وَرَدَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
صَعِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِرَاءً، فَتَحَرَّكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْكُنْ حِرَاءُ، ومَعَه َأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وعبدُ الرحمن بنُ عوف، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وسعيد فَتَحَرَّكَ الجبلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْكُنْ حِرَاءُ،
فَلَيسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ، فَسَكَنَ الجَبَلُ.
59-
ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه بعث خالد بن الوليد من تبوك، في أربع مائة وعشرين فارساً إلى أكيدر دومة الجندل، من كندة فَقَالَ خالد يَا رَسُولَ اللهِ، كيف لي به وسط بلاد كلب، وإنما أنا في عدد يسير، فَقَالَ ستجده يصيد البقر، فتأخذه فخرج خالد حتَّى إذا كان من حصنه بمنظر العين، في ليلة مقمرة صافية، وهو على سطح له، من شدة الحر، مع امرأته، فأقبلت البقر، تحك بقرونها باب الحصن، فَقَالَ أكيدر دومة: والله ما رأيت بقراً جاءتنا ليلاً غير هذه الليلة، لقد كنت أضمر لها الخيل، إذا أردتها شهراً أو أكثر، ثم نزل فركب بالرجال، والآلة، فلما فصلوا من الحصن، وخيل خالد تنظر إليهم، لا يصهل منها فرس، ولا يتحرك، فساعة فصل، أخذته الخيل، فاستؤسر أكيدر دومة.
اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأرزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا لشغلها بالباقيات الصالحات
وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
قَالَ ابن القيم رحمه الله تعالى:
يَا قَوْمُ فَرْضُ الْهِجْرَتَيْنِ بِحَالِهِ
واللهِ لَمْ يُنْسَخْ إِلَى ذَا الآنِ
فَالْهِجْرَةُ الأُولَى إِلَى الرَّحْمَنِ بِالْ
إِخْلاصِ فِي سِرٍّ وَفِي إِعْلانِ
حَتَّى يَكُونَ الْقَصْدُ وَجْهُ اللهِ بِالْ
أَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ وَالإِيمَانِ
وَيَكُونُ كُلُّ الدِّينِ لِلرَّحْمَنِ مَا
لِسِوَاهُ شَيْءٌ فِيهِ مِنْ إِنْسَانِ
وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ اللَّذَيْنِ هُمَا لِكُلِّ م
وَلايَةٍ وَعَدَاوَةٍ أَصْلانِ
للهِ أَيْضًا هَكَذَا الإِعْطَاءُ وَالـ
ـمَنْعُ اللَّذَانِ عَلَيْهِمَا يَقِفَانِ
وَاللهِ هَذَا شَطْرُ دِينِ اللهِ وَالتَّـ
ـحْكِيمِ لِلْمُخْتَارِ شَطْرٌ ثَانِ
وَالْهِجْرَةُ الأُخْرَى إِلَى الْمَبْعُوثِ بِالْ
إِسْلامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ
أَتَرَوْنَ هَذي هِجْرَةَ الأَبْدَانِ لا
وَاللهِ بَلْ هِيَ هِجْرَةٌ الإِيمَانِ
قَطْعُ الْمَسَافَةِ بِالْقُلُوبِ إِلَيْهِ فِي
.. دَرْكِ الأُصُولِ مَعَ الْفُرُوعِ وَذَانِ
أَبَدًا إِلَيْهِ حُكْمَهَا لا غَيْرُهُ
فَالْحُكْمُ مَا حَكَمَتْ بِهِ النَّصَانِ
يَا هِجْرَةً طَالَتْ مَسَافَتُهَا عَلَى
مَنْ خَصَّ بِالْحُرْمَانِ وَالْخُذْلانِ
يَا هِجْرَةً طَالَتْ مَسَافَتُهَا عَلَى
كَسْلان مَنْخُوبِ الْفُؤَادِ جَبَانِ
يَا هِجْرَةً وَالْعَبْدُ فَوْقَ فِرَاشِهِ
سَبَقَ السُّعَاةَ لِمَنْزِلِ الرِّضْوَانِ
سَارُوا أَحَثَّ السَّيْرِ وَهُوَ فَسَيْرُهُ
سَيْرُ الدَّلالِ وَلَيْسَ بِالذَّمِلانِ
هَذَا وَتَنْظُرُه أَمَامَ الرَّكْبِ كَالْـ
ـعِلْمِ الْعَظِيمِ يُشَافُ فِي الْقِيعَانِ
رُفِعَتْ لَهُ أَعْلامُ هَاتِيكَ النُّصُو
صِ رُؤُوسُهَا شَابَتْ مِنَ النِّيرَانِ
نَارٌ هِيَ النُّورُ الْمُبِينُ وَلَمْ يَكُنْ
لِيَرَاهُ إِلا مَنْ لَهُ عَيْنَانِ
مَكْحُولَتَانِ بِمِرْوَدِ الْوَحْيَيْنِ لا
بِمَرَاوُدِ الآرَاءِ وَالْهَذَياَنِ
فَلِذَاكِ شَمَّرَ نَحْوَهَا لَمْ يَلْتَفِتْ
لا عَنْ شَمَائِلِهِ وَلا أَيْمَانِ
.. يَا قَوْمُ لَوْ هَاجَرْتُمُوا لَرَأَيْتُمُ
أَعْلامَ طَيْبَةَ رُؤْيَةً بِعِيَانِ
وَرَأَيْتُمُ ذَاكَ اللِّوَاءَ وَتَحْتَهُ الرُّ
سْلُ الْكِرَامُ وَعَسْكَرُ الْقُرْآنِ
أَصْحَابَ بَدْرٍ وَالأُولَى قَدْ بَايَعُوا
أَزْكَى الْبَرِيَّةِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ
وَكَذَا الْمُهَاجِرَةُ الأُولَى سَبَقُوا كَذَا الْ
أَنْصَارُ أَهْلُ الدَّارِ وَالإِيمَانِ
وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَا
لِكُ هَدْيِهِمْ أَبَدًا بِكُلِّ زَمَانِ
لَكِنْ رَضِيتُمْ بِالأَمَانِي وَابْتُلِيتُمْ
بِالْحُظُوظِ وَنَصْرَةِ الإِخْوَانِ
بَلْ غَرَّكَمْ ذَاكَ الْغُرُورُ وَسَوَّلَتْ
لَكُمْ النُّفُوسُ وَسَائِسَ الشَّيْطَانِ
وَنَبَذْتُمْ غِلَّ النُّصُوصِ وَرَاءَكُمْ
وَقَنِعْتُمُ بِقَطَارَةِ الأَذْهَانِ
وَتَرَكْتُمُ الْوَحْيَيْنَ زُهْدًا فِيهِمَا
وَرَغِبْتُمُ فِي رَأْيِ كُلِّ فُلانِ
وَعَزَلْتُمُ النَّصَّيْنِ عَمَّا وُلِّيَّا
لِلْحُكْمِ فِيهِ عَزْلَ ذِي عُدْوَانِ
وَزَعَمْتُمُ أَنَّ لَيْسَ يَحْكُم بَيْنَنَا
.. إِلا الْعُقُولُ وَمَنْطِقُ الْيَوْنَانِ
حَتَّى إِذَا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَحُصِّلَتْ
أَعْمَالُ هَذَا الْخَلْقِ بِالْمِيزَانِ
وَإِذَا انْجَلَى هَذَا الْغُبَارُ وَصَارَ مَيْـ
ـدَانُ السِّبَاقِ تَنَالُهُ الْعَيْنَانِ
وَبَدَتْ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهُ سِمَاتُهَا
وَسْم الْمَلِيكِ الْقَادِرِ الدَّيَّانِ
مُبْيَضَّةً مِثْلَ الرِّيَاضِ بِجَنَّةٍ
وَالسُّودُ مِثْلَ الْفَحْمِ لِلنِّيرَانِ
فَهُنَاكَ يَعْلَمُ رَاكِبٌ مَا تَحْتَهُ
وَهُنَاكَ يُقْرَعُ نَاجِذُ النَّدْمَانِ
وَهُنَاكَ تَعْلَم كُلُّ نَفْسٍ مَا الَّذِي
مَعَهَا مِن الأَرْبَاحِ وَالْخُسْرَانِ
وَهُنَاكَ يَعْلَمُ مُؤْثِرُ الآرَاءِ وَالشَّـ
ـطَحَاتِ وَالْهَذَيَانِ وَالْبُطْلانِ
أَيَّ الْبَضَائِعِ قَدْ أَضَاعَ وَمَا الَّذِي
مِنْهَا تَعَوَّضَ فِي الزَّمَانِ الْفَانِ
سُبْحَانَ رَبِّ الْخَلْقِ قَاسمِ فَضْلِهِ
وَالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمِيزَانِ
لَوْ شَاءَ كَانَ النَّاسُ شَيْئًا وَاحِدًا
مَا فِيهِمْ مِنْ تَائِهٍ حَيْرَانِ
.. لَكِنَّهُ سُبْحَانَه يَخْتَصُّ بِالْـ
ـفَضْلِ الْعَظِيمِ خُلاصَة الإِنْسَانِ
وَسِوَاهُمُ لا يَصْلَحُونَ لِصَالِحٍ
كَالشَّوْكِ فَهُوَ عِمَارَةُ النِّيرَانِ
وَعِمَارَةُ الْجَنَّاتِ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى
اللهُ أَكْبَرُ لَيْسَ يَسْتَوِيَانِ
فَسَلِ الْهِدَايَةَ مَنْ أَزَمَّه أَمْرِنَا
بِيَدَيْهِ مَسْأَلَةَ الذَّلِيلِ الْعَانِ
وَسَلِ الْعِيَاذِ مِن اثْنَتَيْنِ هُمَّا اللَّتَا
نِ بِهُلْكِ هَذَا الْخَلْقِ كَافِلَتَانِ
شَرِّ النُّفُوسِ وَسَيِّءِ الأَعْمَالِ مَا
وَاللهِ أَعْظَمُ مِنْهُمَا شَرَّانِ
وَلَقَدْ أَتَى هَذَا التَّعَوُّذُ مِنْهُمَا
فِي خُطْبَةِ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ
لَوْ كَانَ يَدْرِي الْعَبْدُ أَنَّ مُصَابَهُ
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الشَّرَّانِ
جَعَلَ التَّعَوُّذُ مِنْهُمَا دَيْدَانَهُ
حَتَّى نَرَاهُ دَاخِلَ الأَكْفَانِ
اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ووفقنا لشكرك وذكرك وارزقنا التأهب والاستعداد للقائك واجعل ختام صحائفنا كلمة التوحيد وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
60-
ومنها أخذ الله المشركين المستهزئين بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بما شغلهم عنه وأزال منعهم إياه عن تبليغ الرسالة، وهو المشار إليه بقوله تعالى {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} .
وهم خمسة نفر من رؤساء قريش، الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان رأسهم، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن زمعة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه، فَقَالَ:((اللَّهُمَّ أعْمِ بصره واثْكله بولده)) والأسود بن عبد يغوث بن وهب، والحارث بن قيس بن الطُّلاطلة.
فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، والمستهزئون يطوفون بالبيت.
فَقَامَ جبريل إلى جنبه، فمرَّ به الوليد بن المغيرة، فَقَالَ جبريل: يا مُحَمَّد كيف تجد هذا، فَقَالَ: بئس عَبْدُ الله، فَقَالَ: قد كُفِيْتَه، وأومأ إلى ساق الوليد، فمر برجل من خزاعة نبَّال يريش نباله، وعليه بُرْد يمان، وهو يجرُّ إزاره، فتعلقت شظية من نَبْلٍ بإزاره، فمنعه الكبر أن "يطاطئ رأسه فينزعها، وجعلت تضرب ساقه، فخدشته، فمرض منها فمات.
ومرَّ به العاص بن وائل، فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا مُحَمَّد، قال: بئس عبد الله، فأشار جبريل إلى أخمص رجليه، وَقَالَ: قد كفيته، فخرج على راحلته ومعه ابنان له يتنزه، فنزل شعباً من تلك الشعاب، فوطئ على شبرقةٍ، فدخلت منها شوكة في أخمص رجله، فَقَالَ: لدغت لدغت، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً، وانتفخت رجله حتَّى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه.
فمرَّ به الأسود بن المطلب، فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا مُحَمَّد، قَالَ بئس عبد الله، فأشار بَيّدِهِ إلى عينيه، وَقَالَ: قد كفيته، فعمي.
قال ابن عباس رماه جبريل بورقة خضراء، فعمي فذهب بصره ووجعت عيناه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك.
ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث، فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا محمد، قَالَ: بئس عبد الله على أنه ابن خالي)) فَقَالَ: قد كفيته، وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات
ومرَّ به الحارث بن قيس
فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا مُحَمَّد؛ فَقَالَ: عبد سوء فأومأ إلى رأسه وَقَالَ: قد كفيته، فامتخط قيحاً فقتله. وقِيلَ أكل حوتاً مالحاً فلم يزل يشرب عليه من الماء حتَّى انقد بطنه.
61-
ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، ما روي أن الحطم واسمه شريح بن صبيعة البكري - أتى المدينة، وخلف خيله خارج المدينة، ودخل وحده، على النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إلام تدعو الناس فَقَالَ: ((إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)) .
فَقَالَ: حسن، ولكن أنظرني، فلي من أشاوره، فلا أقطع أمراً دونهم، ولعلي أسلم، وآتي بهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قَالَ لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان، ثم خرج شريح من عنده، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرجل بمسلم، فمر بسرح المدينة، فاستاقه، وانطلق، فاتبعوه فلم يُدركوه.
فلما كان العام القابل، خرج حاجاً، في حجاج بكر بن وائل، من اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلد الهدي، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا الحطم قد خرج حاجاً، فخلِّ بيننا وبينه. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إنه قد قلد الهدي، فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ َلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ} الآية.
62-
ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، قوله في ليلة الإسراء، حين أصبح ((إن من آية ما أقول لكم، أني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيراً لهم، فجمعه لهم فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل آدم، عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان)) فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتَّى كان قريب من نصف النهار حتَّى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الَّذِي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان كما أخبر.
63-
وَمِنْ ذَلِكَ دعاؤه صلى الله عليه وسلم على أفراد من المشركين أصحاب القليب، فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌه، جُلُوسٌ وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَاجَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَضَعُهُ بَيْنَ كَتِفَيْ مُحَمَّد إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَأَخَذَهُ.
فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِه، والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ إلى فَاطِمَةَ رضي الله عنها.
فَجَاءَتْ وهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ صلى الله عليه وسلم، رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا، دَعَا ثَلَاثَ مَراتٍ وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا فَقَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ، ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَذَكَرَ السَّابِعَ، وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ (قَلِيبِ بَدْرٍ) أخرجه الشيخان والنسائي تيسير الوصول ج 4 ص 216.
64-
وَمِنْ ذَلِكَ ما في صحيح البخاري، عن يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ، فَقَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ فَأَتَيْتُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حتَّى السَّاعَةِ.
65-
وَمِنْ ذَلِكَ أنه صلى الله عليه وسلم لما أَرَادَ الهجرة خرج من مكة، ومعه أبو بكر، فدخل غاراً في جبل ثور، ليستخفي من قريش، وقد طلبته، وبذلت لمن جاء به مائة ناقة، فأعانه الله بإخفاء أثره، ونسجت العنكبوت على باب الغار.
ولما خرج، لحقه سراقة بن مالك بن خعشم، وهو من جملة من توجه لطلبه، فَقَالَ أبو بكر هذا سراقة قد قرب، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اللَّهُمَّ أكفنا سراقة)) فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها، فَقَالَ سراقة يا مُحَمَّد ادع الله أن يطلقني، ولك على أن أرد من جاء يطلبكَ ولا أعين عَلَيْكَ أبداً، فَقَالَ ((اللَّهُمَّ إن كان صادقاً فأطلق عن فرسه)) فأطلق الله عنه، ثم أسلم سراقة، وحسن إسلامه.
شِعْرًا:
…
أَشْكُو إِلَيْكَ ذُنُوبًا لَسْتُ أُنْكِرُهَا
…
وَقَدْ رَجَوْتُكَ يَا ذَا الْمَنِّ تَغْفِرُهَا
مِنْ قَبْلِ سُؤْلِك لِي فِي الْحَشْرِ يَا أَمَلِي
…
يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الأَهْوَالِ تَذْكُرُهَا
أَرْجُوكَ تَغْفِرُهَا فِي الْحَشْرِ يَا أَمَلِي
…
إِذْ أَنْتَ سُؤْلِي كَمَا فِي الأَرْضِ تَسْتُرُهَا
آخر:
…
مَوْلايَ إِنِّي عَبْدٌ ضَعِيفْ
…
أَتَيْتُكَ أَرْغَبُ فِيمَا لَدَيْكْ
أَتَيْتُكَ أَشْكُو مَصَابَ الذُّنُوبْ
…
وَهَلْ يُشْتَكَى الضُّرُّ إِلا إِلَيْكْ
فَمُنَّ بِعَفْوِكَ يَا سَيِّدِي
…
فَلَيْسَ اعْتِمَادِي إِلا عَلَيْكْ
66-
وَمِنْ ذَلِكَ ما ذكره الماوردي في أعلام النبوة، من أن أبا لهب، خرج يوماً، وقد اجتمعت قريش، فقَالُوا له يا أبا عتبة، إنك سيدنا، وأنت أولى بمُحَمَّد منا، وإن أبا طالب، هو الحائل بيننا وبينه، ولو قتلته لم ينكره أبو طالب، ولا حمزة، منك شيئاً، وأنت برئ من دمه، نؤدي نحن الدية، وتسود قومك، فَقَالَ فإني أكفيكم، ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم.
فلما كان في تلك الليلة، وكان مشرفاً عليه، نزل أبو لهب وهو يصلي وتسلقت امرأة أبي لهب، وأم جميل الحائط، حتَّى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد فصاح به، أبو لهب، فلم يلتفت إليه، وهما كانا لا ينقلان أقدامهما، ولا يقدران على شيء، حتَّى تفجر الصبح، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ له أبو لهب يا مُحَمَّد، أطلق عنا، فَقَالَ:((ما كنت لأطلق عنكما، أو تضمنا إنكما لا تؤذياني)) قالا: قد فعلنا، فدعا ربه فرجعا.
67-
وَمِنْ ذَلِكَ أن الناس لما انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وهو معتزل عنهم، رآه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فَقَالَ اليوم أدرك ثأري من مُحَمَّد، فأقتله، لأن أبا شيبة قتل يوم أحد في جماعة إخوته وأعمامه، قَالَ شيبة فلما أردت قتله، أقبل شيء حتَّى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك فعلمت أنه ممنوع.
شِعْرًا:
…
لا تَرْكَنَنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا
…
فَأَنْتَ مِنْ عَاجِل الدُّنْيَا سَتَنْتَقِلُ
أَصْبَحْتَ تَرْجُو غَدًا يَأْتِي وَبَعْدَ غَدٍ
…
وَرُبَّ ذِي أَمَلٍ قَدْ خَانَهُ الأَمَلُ
شِعْرًا:
…
هَذَا شَبَابُك قَدْ وَلَّتْ بَشَاشَتُهُ
…
مَا بَعْدَ شَيْبِكَ لا لَهْوٌ وَلا جَدَلُ
مَاذَا التَّعَلُّلُ بِالدُّنْيَا وَقَدْ نَشَرَتْ
…
لأَهْلِهَا صِحَّةً فِي طِيِّهَا عِلَلُ
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك، وخلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك.
اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك علي كل شيء قدير ولله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
68-
وَمِنْ ذَلِكَ قصة أبي جهل وحجره ففي السيرة النبوية أن أَبُا جَهْلٍ قَالَ يَوْماً يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ مُحَمّداً قَدْ أَبَى إلّا مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَشَتْمِ آلْهِتَتَا، وَإِنّي أُعَاهِدُ اللهَ لَأَجْلِسَنّ لَهُ غَداً بِحَجَرٍ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ امْنَعُونِي، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ قَالُوا: وَاَللهِ لَا نُسْلِمُك لِشَيْءِ أَبَداً، فَامْضِ لِمَا تُرِيدُ.
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره. وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو،
فَقَامَ يصلى، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتَّى إذا دنا منه، رجع منهزماً منتقعاً لونه مرعوباً، قد يبست يداه على حجره، حتَّى قذف الحجر من يده.
وقام إليه رجال من قريش فقَالُوا له: ما لك يا أبا الحكم، قَالَ: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه، فحل من الابل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه، لفحل قط، فهم أن يأكلني، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ ذلك جبريل لو دنا لأخذه.
69-
ومنها قصة أخرى مع أبي جهل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّد وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلَّي كذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ فَمَا فَجِأهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ.
قَالَ فَقِيلَ لَهُ مَا لَكَ، فَقَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقاً مِنْ نَارٍ، وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْواً عُضْواً)) قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَا أدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لا {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} إلى آخر السورة.
70-
ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، ما يلي: قَالَ مُحَمَّد بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، حُدّثْت أَنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، كَانَ سَيّداً حَلِيْماً، قَالَ يَوْماً وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمَّد وَأُكَلّمَهُ، وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُوراً لَعَلّهُ يَقْبَلُ منا بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ وَيَكُفّ عَنّا، وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُونَ، وَيَكْثُرُونَ.
فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ فقُمْ إلَيْهِ فَكَلّمْهُ، فَقَامَ عُتْبَةُ حتَّى جَلَسَ
إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، مِنْ البسّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النّسَبِ وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ، فَرّقْت بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْت آلِهَتَهُمْ، وَكَفّرْت مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنّي، أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُوراً تَنْظُرُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ) فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْت تُرِيدُ شَرَفاً سَوّدْنَاك عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالاً بِمَا جِئْتَ بِهِ جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا، وإن كَانَ الَّذِي بِكَ رَئِيَّاً، لا نَسْتَطِيعُ رَدَّه، طَلَبْنَا لَك الطّبّ وَلَعَلَّ هَذَا شِعْرٌ جَاشَ بَصَدْرِكَ، فإنكمُ لَعمْرِي، بَنِي المطَّلِب، تَقْدُرُوْنَ من ذلكَ مَا لَا يَقْدِرٌ عليه غَيرُكُمْ، حتَّى إذَا فَرَغَ مَا عَنْدَه، مِن سَائِر الأمُوْرِ التي يَزْعُمُ أنَّها تَرُدهُ عَمَّا يّقُولُ،، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ ((أَوَ قَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ)) ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ ((فَاسْمَعْ مِنّي)) قَالَ فَافْعَلُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم (بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ثُمّ مَضَى يَقْرَأ، فَلَمّا سَمِعَهَا عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، مُعْتَمِداً عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ، حتَّى انْتَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلَى السّجْدَةِ فَسَجَدَ ثُمّ قَالَ ((قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْت وَذَاكَ)) فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ نَحْلِفُ بِاَللهِ، لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. فَلَمّا جَلَسَ فِيْهِم، قَالُوا: مَا وَرَاءَك، يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقَالَ وَرَائِي أَنّي سَمِعْتُ قَوْلاً، وَاَللهِ مَا سَمِعْت بمِثْلَهُ قَطّ، مَا هُوَ بِالشّعْرِ وَلَا بِالسّحْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ! يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي، وَخَلّوا بَيْنَ هَذَا
الرّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاَللهِ لَيَكُونَنّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزّهُ عِزّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ، فقَالُوا: سَحَرَك وَاَللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ قفَالَ هَذَا رَأْيِي لكُم فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ.
71-
ومنها ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من أن ابن ابنته فاطمة الحسين بن علي يقتل بالعراق فكان الأمر كما أخبر فقتل الحسين رضي الله عنه في كربلاء سنة إحدى وستين وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف الشهر.
72-
ومنها دُعَاؤُه صلى الله عليه وسلم لأَنَسٌ بنِ مَالِكٍ واسْتِجَابَةُ الله لدٌعَائِه، فَعَن أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ جَاءَتْ بِي أُمِّي أُمُّ أَنَسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَزَّرَتْنِي بِنِصْفِ خِمَارِهَا، وَرَدَّتْنِي بِنِصْفِهِ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أُنَيسٌ ابْنِي أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ، فَادْعُ اللَّهَ لَهُ، فَقَالَ:((اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ)) .
قَالَ أَنَسٌ فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي كَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ أخرجه مسلم، وعن أبي خَلْدةَ خَالِدِ بن دِيْنَار، قَالَ قُلْتُ لأبي العالية، سَمِعَ أَنَسٌ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ خَدَمَةُ عَشْرَ سِنِيْنَ، وَدَعَا لَهُ، وكان لَهُ بُسْتَانٌ يَحْمِلُ في السَّنَةِ الفَاكِهَةَ مَرَّتَيْن، وَكَانَ فِيْهِ رَيْحَانٌ، يَجِيء مِنْهُ رِيْحُ المسْكِ، أخرجه الترمذي.
73-
وَمِنْ ذَلِكَ إخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم عن مَقْتَل القُرَاءِ فَعَن
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ.
وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ، فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ فَبَعَثَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ فَقَالُوا اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا، أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا.
قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ حَرَاماً خَالَ أَنَسٍ، مِنْ خَلْفِهِ فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ ((إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا وَإِنَّهُمْ قَالُوا اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا.
74-
وَمِنْ ذَلِكَ ما رُويَ َالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
لما تلا {والنجم إذا هوي} أن عتبة بن أبي لهب، كفرت بالَّذِي دنى فتدلى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((اللَّهُمَّ سلط عليه كلباً من كلابك)) يعني الأسد فخرج عتبة مع أصحابه، في عير إلى الشام، حتَّى إذا كانوا في طريقهم، زأر الأسد، فجعلت فرائض عتبة ترتعد، فَقَالَ أصحابه من أي شيء ترتعد، فوالله ما نحن وأنت إلا سواء، فَقَالَ إن محمداً دعا علي، وما ترد له دعوه، ولا أصدق منه لهجة.
فوضعوا العشاء، فلم يدخل يده فيه، وحاط القوم أنفسهم بمتاعهم، وجعلوا عتبة وسطهم، وناموا، فجاء الأسد يشَمّ رؤوسهم رجلاً رجلاً، حتَّى انتهى إلى عتبة، فهشمه هشمةً أوصلته إلى آخر رمق، فَقَالَ وهو بآخر رمق، ألم أقل لكم إن محمداً أصدق الناس لهجةً.
75-
وَمِنْ ذَلِكَ قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس، وهو يومئذ غلام:((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)) فخرج أفقه الناس في الدين، وأعلمهم بالتاويل، حتَّى سمي البحر، لسعة علمه، رضي الله عنه.
76-
ومنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من أن عَائِشَةَ لَمَّا أَقْبَلَتْ بَلَغَتْ مِيَاهَ بَنِي عَامِرٍ لَيْلاً، نَبَحَتْ الْكِلَابُ، فقَالَتْ أَيُّ مَاءٍ هَذَا، قَالُوا مَاءُ الْحَوْأَبِ، قَالَتْ مَا أَظُنُّنِي إِلَّا أَنِّي رَاجِعَةٌ، قَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهَا بَلْ تَقْدَمِينَ، فَيَرَاكِ الْمُسْلِمُونَ فَيُصْلِحُ اللَّهُ عز وجل ذَاتَ بَيْنِهِمْ، قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ ((كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ، تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ)) وفي حديث ابن عباس قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (0 ليت شعري، أيتكن صاحبة الجمل المدبب، تخرج فينبحها كلاب الحواب، يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثير، ثم تنجو بعدما كادت)) رواه البزار ورجاله ثقات كل ذلك يقع طبق ما أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا من لا تأخده سنة ولا نوم يا ذا الجلال والإكرام يا واحد أحد يا فرد صمد يا بديع السموات والأرض نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلى كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كل من نصر الدين وأن تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وأن تلمهنا ذكرك وشكرك وحمدك.
اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
77-
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم أُمَّ حَرَامٍ عن غَزْوِهَا في البَحْرِ وعُلوِ مَكَانَتِها فَفِي صحيح البخاري عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
فَدَخَلَ يَوْماً فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ ((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكاً عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ قَالَ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ)) شَكَّ إِسْحَاقُ قُلْتُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ! فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وهُوَ يَضْحَكُ، قُالَتْ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) كَمَا قَالَ في الأوْلَى، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:((أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ)) فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم.
78-
ومنها إخباره عن أول زوجاته لحوقاً بِهِ بَعْدَ وفَاتِه،
فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ رَسُولُ الله أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقاً، قَالَ أَطْوَلُكُنَّ يَداً، فَأَخَذُوا قَصَبَةً
يَذْرَ عَنَهَا فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَداً، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقاً بِهِ صلى الله عليه وسلم، أخرجه الشيخان.
79-
وَمِنْ ذَلِكَ إخباره صلى الله عليه وسلم عَامِلَ كِسْرَى مَلِكِ الفُرْس على اليَمَنِ أن الله وعده أن تقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا ومن حديثه أن كسرى كتب إلى عامله على اليمن باذان: إنه بلغني أن رجلاً من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبى، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلا فابعث إلى برأسه.
فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا)) فلما أتى باذان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف لينتظر، وَقَالَ: إن كان نبياً فسيكون ما قَالَ، فقتل كسرى في اليوم الذى قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قتل على يدى ابنه شيرويه.
فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه، وإسلام من معه، ومن الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الرسل من الفرس، إلى من نحن يَا رَسُولَ اللهِ ((أنتم منا وإلينا أهل البيت)) .
80-
وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ، فَقَالَ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقاً سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ يَا
عَجَبِي ذِئْبٌ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ، فَقَالَ الذِّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بِيَثْرِبَ، يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، قَالَ فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ، حتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا.
ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي أَخْبِرْهُمْ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بَيّدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ حتَّى يُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ، بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ.
قَالَ ابن كثير وهذا إسناد على شرط مسلم، وقد صححه البيهقي، ولم يروه إلا الترمذي من قوله: والَّذِي نفسي بَيّدِهِ لا تقوم الساعة حتَّى يكلم السباع الأنس إلى آخره.
81-
وَمِنْ ذَلِكَ توقيته صلى الله عليه وسلم مواقيت الحج المكانية وذلك أنه عينها من قبل فتح بلدانها قَالَ الناظم:
وَإِحْرَامُ حِجٍّ مِنْ مَوَاقِيتٍ خَمْسَةٍ
لِطَيْبَةَ وَقْت ذَا الْحُلَيْفَةِ واقْصِدِ
وَلِلشَّامِ والْمِصْرِ والْغَرْبِ جُحْفَةً
وَلِلْيَمَنِ التَّالِي يَلْمَلَمُّ فَارْصِدِ
وَخُذْ ذَاتَ عِرْقٍ لِلْعِرَاقِ وَوَفْدِهِ
وَقَرْنًا لِوَفْدٍ طَائِفِيٍ وَمُنْجِدِ
وَتَعْيِينُهَا مِنْ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّنَا
لِتَعْيِينِهِ مِنْ قَبْلِ فَتْحِ الْمُعَدَّدِ
82-
ومن ذَلِكَ إنْذَارُهُ صلى الله عليه وسلم بِرِيْح شَدِيْدَةٍ في تَبُوكَ، وَطَلَبَ مِن أصْحَابِهِ أَنْ يَأُخُذُوْا حِذْرَهُم، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ فَأَتَيْنَا وَادِيَ الْقُرَى، عَلَى حَدِيقَةٍ لِامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اخْرُصُوهَا، فَخَرَصْنَاهَا، وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، وَقَالَ: أَحْصِيهَا، حتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَانْطَلَقْنَا حتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((سَتَهُبُّ رِيحٌ شَدِيدَةٌ)) فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ، وَجَاءَ رَسُولُ صَاحِبِ أَيْلَةَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَهْدَى لَهُ بُرْداً، ثُمَّ أَقْبَلْنَا، حتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَرْأَةَ، عَنْ حَدِيقَتِهَا كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا فَقَالَتْ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ،
تماماً كَمَا أخْبَرَ: 83 وَهَذِهِ أيْضَاً مُعْجزَة.
85-
وَمِنْ ذَلِكَ إخْباره صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي زمان ترتحل فيه الظعينة من الحيرة إلى الكعبة، لا تخاف إلا الله ووقع طبق ما أخبر.
ففي صحيح البخاري عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: ((يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ
أُنْبِئْتُ عَنْهَا. قَالَ ((فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، لَا تَخَافُ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ)) قُلْتُ: فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ – أَيْ قُطَّاعُ الطَّريْقِ - الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلَادَ - - ((وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى)) قُلْتُ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، قَالَ: ((كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَداً يقبلهُ مِنْهُ.
وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ فَلَيَقُولَنَّ: لَهُ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولاً فَيُبَلِّغَكَ، فَيَقُولُ بَلَى: فَيَقُولُ أَلَمْ أُعْطِكَ مَالاً، فَيَقُولُ بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ)) قَالَ عَدِيٌّ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)) .
قَالَ عَدِيٌّ فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ فِيمَنْ فْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ، لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ)) .
85-
وَمِنْ ذَلِكَ دعاؤه صلى الله عليه وسلم للنابغة الجعدي، بقوله له ((لا يفضفض الله فاك)) فعمر، وكان أحسن الناس ثغراً، كلما سقطت له سن، نبتت له أخرى.
86-
وَمِنْ ذَلِكَ سقوط الأصنام، بإشارة من قضيب، كان في
يده فإنه كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، أرجلها مثبتة بالرصاص، في الحجارة، تثبيتاً محكماً، فلما دخل عام الفتح إلى المسجد الحرام، جعل يشير بقضيب في يده إلى تلك الأصنام فوقعت لوجوهها، وظهورها، حسب إشارته صلى الله عليه وسلم.
87-
وَمِنْ ذَلِكَ ما روي أن العباس بن عبد المطلب، بعث ابنه عبد الله، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فوجد عنده رجلاً، فرجع ولم يكلمه، من أجل مكان الرجل، فلقيَ العباسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فَقَالَ ((روآه؟)) قَالَ نعم ((قَالَ أَتَدْرِي مَن ذاك الرجل؟)) ذَاكَ جِبْرِيِلُ، ولن يموت حتَّى يذهب بصره، ويؤتى علماً)) وقد مات ابن عباس، سنة ثمان وستين، بعد ما عمي بصره، رضي الله عنه وصار بحراً زاخراً في العلم.
88-
وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه للبيهقي عن خمارة عن أنيسة بنت زيد بن أرقم، عن أبيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على زيد يعوده من مرض كان به، قَالَ:«ليس عَلَيْكَ من مرضك بأس، ولكن كيف بِكَ إذا عمرت بعدي فعميت؟» قَالَ: إذاً أحتسب وأصبر، قَالَ:«إذاً تدخل الجنة بغير حساب» . قَالَ فعمي بعد ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رد الله عليه بصره، ثم مات.
89-
ومن –ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم عن محنة عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ففي صحيح البخاري عَن أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ كَنَت مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فاسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)) فَفَتَحْتُ فَإِذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ، فبَشَّرْتُهُ بمَا قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ الله.
ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فاسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)) فَفَتَحْتُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ فَأَخْبَرَتُهُ بما قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَفْتَحَ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لِيْ ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ)) فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ فَأَخْبَرَتُهُ بما قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَحَمِدَ الله، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
90-
وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ((َبَيْعٌ أَمْ هِبَةٌ؟ قَالَ بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، فأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَأيْمُ اللَّهِ، مَا في الثَّلَاثِينَ وَالمِائَةِ، رَجُلٌ إِلَّا قَدْ حَزَّ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا إِنْ كَانَ شَاهِداً أَعْطَاهُ إيَّاهُ،وَإِنْ كَانَ غَائِباً خَبَّأَ لَهُ، فجَعَلَ مِنْهُمَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلْوا أَجْمَعُونَ، وَشَبِعْنَا وفَضَلَت الْقَصْعَتَانِ فَحَمَلتا عَلَى الْبَعِيرِ رَوَاهُ الشَّيْخَان.
91-
وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عَنْ سَمُرَةَ قَالَ كُنَّا مَعَ َالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَتَدَاوَلُ فِي قَصْعَةٍ، مِنْ غَدْوَةٍ حتَّى اللَّيْلِ، يَقُومُ عَشَرَةٌ، وَيَقْعُدُ عَشَرَةٌ فقُلْنَا فَمِمَّا كَانَتْ تُمَدُّ، قَالَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَعْجَبُ، مَا كَانَتْ تُمَدُّ إِلَّا مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ بَيّدِهِ إِلَى السَّمَاءِ. رواه الترمذي
=92- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ رَجُلًا يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ، وَضَيْفُهُمَا، حتَّى كَالَهُ، فَفَنِيَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:((لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ، وَلَقَامَ لَكُمْ)) . رواه مسلم
93-
وَمِنْ ذَلِكَ دعاؤه صلى الله عليه وسلم على مضر، وأمساك القطر عنهم، فإنهم لما كذبوه، وآذوه، في نفسه، وأصحابه، دعا عليهم، فَقَالَ ((اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسَنِيِّ يُوسُفَ)) صلى الله عليه وسلم، فأمْسك عنهم القطر، حتَّى جف النبات والشجر، وماتت الماشية، وحتَّى اشتتووا القِدَّ، وأكلوا العَلهَرَ، وتفرقوا في البلاد، لشدة الحال.
فوفد حاجب بن زرارة، إلى كسرى فشكا إليه ما نالهم، وسأله أن يأذن له في الرعي، بالسواد ورهنه قوسه.
والقصة مشهورة، يسوقها أهل التفسير، عند قول الله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} .
اللَّهُمَّ أنا نعوذ بِكَ من جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداد وسوء المنظر في الأهل والمال والولد اللَّهُمَّ حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل علينا بعافيتك وجزيل عفوك وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
قَالَ ابن القيم رحمه الله:
يَا قَاعِدًا سَارَتْ بِهِ أنْفَاسُهُ
سَيْرَ الْبَرِيدِ وَلَيْسَ بِالذَّمَلَانِ
حَتَّى مَتَى هَذَا الرُّقَادُ وَقَدْ سَرَى
وَفْدُ الْمَحَبَّةِ مَعْ أُولِي الإِحْسَانِ
وَحَدَتْ بِهِمْ عَزَمَاتُهُمْ نَحْوَ الْعُلَى
لَا حَادِيَ الرُّكْبَانِ وَالأَضْعَانِ
رَكِبُوا الْعَزَائِمَ وَاعْتَلَوا بِظُهُورِهَا
وَسَرَوْا فَمَا حَنُّوا إلَى نُعْمَانِ
سَارُوا رُوَيدًا ثُمَّ جاؤُوا أوَّلاً
سَيْرَ الدَّلِيلِ يَؤُمُّ بِالرُّكْبَانِ
سَارُوا بإثبَاتِ الصِّفَاتِ إلَيْهِ لَا التَّـ
عْطِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالنُّكرَانِ
عَرَفُوهُ بِالأَوْصَافِ فَامتَلأتْ قُلُو
بُهُمُ لَهُ بِالْحُبِّ وَالإِيمَانِ
فَتَطَايَرَت تِلْكَ الْقُلُوبُ إلَيهِ بِال
أَشْوَاقِ إذْ مُلِئَتْ مِنَ العِرفَانِ
وَأشَدُّهُمْ حُبًّا لَهُ أدرَاهُمُوا
بِصِفَاتِهِ وَحَقَائِقِ القُرْآنِ
فَالْحُبُّ يَتْبَعُ لِلشُّعُورِ بِحَسْبِهِ
يَقْوَى وَيَضْعُفُ ذَاكَ ذُو تِبْيَانِ
وَلِذَاكَ كَانَ الْعَارِفُونَ صِفَاتِهِ
أحْبَابَهُ هُمْ أَهْلُ هَذَا الشَّانِ
وَلِذَاكَ كَانَ الْعَالِمُونَ بِرَبِّهِمْ
.. أحْبَابَهُ وَبِشِرْعَةِ الإِيمَانِ
وَلِذَاكَ كَانَ الْمُنْكِرُونَ لَهَا هُمُ ال
أَعْدَاءُ حَقًّا هُمْ أُولُو الشَّنَآنِ
وَلِذَاكَ كَانَ الْجَاهِلُونَ بِذَا وَذَا
بُغَضَاؤهُ حَقًّا ذَوِي شَنَآنِ
وَحَيَاةُ قَلْبِ الْمَرْءِ فِي شَيْئَيْنِ مَنْ
يُرْزَقْهُمَا يَحْيَى مَدَى الأزْمَانِ
فِي هَذِهِ الدُّنيَا وَفِي الأخْرَى يَكُو
نُ الْحَيَّ ذَا الرِّضْوَانِ وَالإِحْسَانِ
ذِكْرُ الإِلَهِِ وَحُبِّهِ مِنْ غَيْرِ إِشْ
رَاكٍ بِهِ وَهُمَا فَمُمْتَنِعَانِ
مِنْ صَاحِبِ التَّعْطِيلِ حَقًّا كَامْتِنَا
عِ الطَّائِرِ الْمَقْصُوصِ مِن طَيَْرَانِ
أَيُحِبُّهُ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ وَصْفَهُ
وَعُلُوَّهُ وَكَلَامَهُ بِقُرْآنِ
لَا وَالَّذِي حَقًّا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
مُتَكَلِّمًا بِالْوَحْيِ وَالْفُرْقَانِ
اللهُ أَكْبَرُ ذَاكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْ
تِيهِ لِمَنْ يَرْضَى بِلَا حُسْبَانِ
وَتَرَى الْمُخَلَّفَ فِي الدِّيَارِ تَقُولُ ذَا
إِحْدَى الأَثَافِي خُصَّ بِالْحِرْمَانِ
.. اللهُ أَكْبَرُ ذَاكَ عَدْلُ اللهِ يَقْـ
ضِيهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ إِنْسَانِ
وَلَهُ عَلَى هَذَا وَهَذَا الْحَمْدُ فِي الْ
أُولَى وَفِي الأخْرَى هُمَا حَمْدَانِ
حَمْدٌ لِذَاتِ الرَّبِّ جل جلاله
وَكَذَاكَ حَمْدُ الْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَيرَوْنَ خُسْرَانًا مُبِينًا بَيْعَهَا
فِي إِثْرِ كُلِّ قَبِيحَةٍ وَمُهَانِ
وَيَرَوْنَ مَيْدَانَ التَّسَابُقِ بَارِزًا
فَيُتَارِكُونَ تَقَحُّمَ الْمَيْدَانِ
وَيَرَونَ أَنْفَاسَ الْعِبَادِ عَلَيْهِمُ
قَدْ أُحْصِيَتْ بِالْعَدِّ وَالْحُسْبَانِ
وَيَرَوْنَ أنَّ أمَامَهُمْ يَوْمَ اللِّقَا
للهِ مَسْأَلَتَانِ شَامِلَتَانِ
مَاذَا عَبَدْتُمْ ثُمَّ مَاذَا قَدْ أَجَبْـ
ـتُمْ مَنْ أَتَى بِالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ
هَاتُوا جَوَابًا لِلسُّؤَالِ وَهَيِّئُوا
أَيْضًا صَوَابًا لِلْجَوَابِ يُدَانِ
وَتَيَقَّنُوا أَنْ لَيْسَ يُنْجِيكُمْ سِوَى
تَجْرِيدِكُمْ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ
تَجْرِيدُكُمْ تَوْحِيدَهُ سُبْحَانَهُ
عَنْ شِرْكَةِ الشَّيْطَانِ وَالأَوْثَانِ
وَكَذَاكَ تَجْرِيدُ إتِّبَاعِ رَسُولِهِ
عَنْ هَذِهِ الآرَاءِ وَالْهَذَيَانِ
وَاللهِ مَا يُنْجِي الْفَتَى مِنْ رَبِّهِ
شَيْءٌ سِوَى هَذَا بِلَا رَوَغَانِ
يَا رَبِّ جَرِّدْ عَبْدَكَ الْمِسْكِينَ رَا
جِي الْفَضْلِ مِنْكَ أَضْعَفَ الْعُبْدَانِ
لَمْ تَنْسَهُ وَذَكَرْتَهُ فَاجْعَلهُ لَا
يَنْسَاكَ أَنْتَ بَدَأْتَ بِالإِحْسَانِ
وَبِهِ خَتَمْتَ فَكُنْتَ أَوْلَى بِالْجَمِيـ
لِ وَبِالثَّنَاءِ مِنَ الْجَهُولِ الْجَانِي
فَالْعَبْدُ لَيْسَ يَضِيعُ بَيْنَ خَوَاتِمٍ
وَفَوَاتِحٍ مِنْ فَضْلِ ذِي الْعِرْفَانِ
أَنْتَ الْعَلِيمُ بِهِ وَقَدْ أَنْشَأتَهُ
مِنْ تُرْبَةٍ هِيَ أَضْعَفُ الأَرْكَانِ
وَالضَّعْفُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْنَا مِنْ جَمِيـ
عِ جِهَاتِنَا سِيمَا مِنَ الإِيمَانِ
يَا رَبُّ مَعْذِرَةٌ إِلَيْكَ فَلَمْ يَكُنْ
قَصْدُ الْعِبَادِ رُكُوبَ ذَا الْعِصْيَانِ
لَكِنْ نُفُوسٌ سَوَّلَتْهَا وَغَرَّهَا
هَذَا الْعَدُوُّ لَهَا غُرُورَ أَمَانِ
فَتَيَقَّنَتْ يَا رَبُّ أَنَّكَ وَاسِعُ الـ
ـغُفْرَانِ ذُو فَضْلٍ وَذُو إِحْسَانِ
وَسَعَت إلَى الأبَوَايْنِ رَحْمَتُكَ الَّتِي
وَسِعَتْهُمَا فَعَلَا بِكَ الأبَوَانِ
هَذَا وَنَحْنُ بَنُوهُمَا وَحُلُومُنَا
فِي جَنْبِ حِلْمِهَا لَدَى الْمِيزَانِ
جُزْءٌ يَسِيرٌ وَالْعَدُوُّ فَوَاحِدٌ
لَهُمَا وَأَعْدَانَا بِلَا حُسْبَانِ
وَمَقَالُنَا مَا قَالهُ الأَبَوَانِ قَبْـ
لَ مَقَالَةِ الْعَبْدِ الظَّلُومِ الْجَانِ
نَحْنُ الأُولَى ظَلَمُوا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ الـ
ـذَّنْبَ الْعَظِيمَ فَنَحْنُ ذُو خُسْرَانِ
يَا رَبُّ فَانْصُرْنَا عَلَى الشَّيْطَانِ لِيـ
سَ لَنَا بِهِ لَوْلَا حِمَاكَ يَدَانِ
اللَّهُمَّ ثبت وقوي إيماننا بِكَ وبملائكتك وبكتبِكَ وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره اللَّهُمَّ عاملنا بعفوك وغفرانك وتمنن علينا بفضلك وإحسانك ونجنا من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك
وكرمك وجودك الجنة دار القرار واجعلنا مع عبادك الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار رضوانك وصلى الله على سيدنا محمد
اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا لشغلها بالباقيات الصالحات وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) 94- ومن إخباره صلى الله عليه وسلم عن محنة المسلمين وتداعي الأمم عليهم ففي سنن أبي داود،ِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)) فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ)) فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ ((حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)) وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده.
95-
وَمِنْ ذَلِكَ إخباره صلى الله عليه وسلم باتساع ملك المسلمين وفوزهم بكنوز كسرى وقيصر واضطراب أمر المسلمين في النهاية.
ففي صحيح مسلم عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ
وَإِنَّ الله قَالَ لِيْ: يَا مُحَمَّد إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي
أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا، حتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضاً، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً.
96-
وَمِنْ ذَلِكَ ما في صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيّاً فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَادَ نَصْرَانِيّاً، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّد إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّد وَأَصْحَابِهِ، لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا، فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ قَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ.
97-
وَمِنْ ذَلِكَ ما روي عَنْ عَلِيٍّ بنِ أبِي طَالِب رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ تَبْعَثَنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ قَالَ: انْطَلِقْ فإن اللَّهَ تَعَالَى سَيَهْدِي قَلْبِكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ)) قَالَ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْن اثنين ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم ((أَقْضَاكُمْ عَلي)) .
98-
وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عن قيس بن أبي حازم عن أبي شهم وكان رجلاً بطالاً فمرت به جارية فأهوى بيدِهِ إلى خاصرتها قَالَ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم من الغد وهو يبايع الناس فقبض يده وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((أصاحب الجبدة أمس؟)) قَالَ فقلت لا أعود يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ((فنعم إذاً)) الحديث أخرجه النسائي.
99-
وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُما، قَالَ كُنْتُ جالساً مَعَ
النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فسلما، ثم قالا، يَا رَسُولَ اللهِ جئنا نسألك، فَقَالَ «إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت» فَقَالَ أخبرنا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ الثقفي للأنصار، سل، فَقَالَ أخبرني يَا رَسُولَ اللهِ.
فَقَالَ «جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام، وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف، وما لك فيها، وعن طوافك بين الصفا والمروة، وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة، وما لك فيه، وعن رميك الجمار، ومالك فيه، وعن نحرك، وما لك فيه، مع الإفاضة)) فَقَالَ: والَّذِي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسالك.
قَالَ ((فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام، لا تضع ناقتك خفاً، ولا ترفعه، إلا كتب الله به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف، كعتق رقبة من بني إسماعيل عليه السلام، وأما طوافك بالصفا والمروة، كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة يقول عبادي جاؤني شعثاً، من كل فج عميق، يرجون جنتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر، لغفرتها، أفيضوا عبادي، مغفوراً لكم وعمَّن شفعتم له.
وأما رميك الجمار، فلك بكل حصاة رميتها، تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمدخور لك عند ربِكَ، وأما حلاقك رأسك، فلك
بكل شعره حلقتها حسنة، ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك يضع يده بين كتفيك فيقول اعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى)) رواه الطبراني في الكبير والبزار واللفظ له ورواه ابن حبان في صحيحه.
100-
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم في مقتل علي بن أبي طالب، وأن قاتله يخضب لحية علي من دم رأسه، فعن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري – وكان ابن فضالة من أهل بدر – قَالَ: خرجت مع أبي عائداً لعلي بن أبي طالب، من مرض أصابه ثقل منه، قَالَ فَقَالَ له أبي ما يقيمك بمنزلك هذا لو أصاب أجلك إلا أعراب جهينة، تحمل إلى المدينة فإن أصابَكَ أجلك وليك أصحابُكَ، وصلوا عَلَيْكَ.
فَقَالَ عليٌّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلىَّ أن لا أموت حتَّى أؤمَّرَ، ثم تخضب هذه، - يعني لحيته من دم هذه – يعني هامته، وعن عثمان بن صهيب عن أبيه، قَالَ قال علي قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((من أشقي الأولين؟)) قلت: لا علم لي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ ((الَّذِي يضربِكَ على هذه – وأشار علي إلى يافوخه بيدِهِ – فيخصب هذه من هذه)) يعني ليحته من دم رأسه، قَالَ: فكان يقول وددت أنه قد انبعث أشقاكم.
وقتل رضي الله عنه ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة 40 هـ عندما خرج يوقظ الناس لصلاة الفجر، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه، فسال دمه على لحيته، رضي الله عنه وأرضاه فوقع طبق ما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم.
101-
وَمِنْهَا إجَابَةُ دُعَائِه صلى الله عليه وسلم لأبِي هُريرةَ في تَحْبِيبهِ إلى الناس وأمِهِ، فَقَدْ وَرَدَ عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِناً يَسْمَعُ بِي أوَ يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي قَالَ إِنَّ أُمِّي كَانَتْ امْرَأَةً مُشْرِكَةً، وَإِنِّي كُنْتُ أَدْعُوهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا يَوْماً، فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَكْرَهُ.
فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ وَإِنِّي دَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ:((اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ)) فَخَرَجْتُ أَعْدُو أُبَشِّرُهَا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَلَمَّا أَتَيْتُ الْبَابَ إِذَا هُوَ مُجَافٍ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةً (خَشْخَشَةَّ) وَسَمِعْتُ خَشْفَ رِجْلٍ - يَعْنِي وَقْعَهَا، فَقَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَمَا أَنْتَ، ثُمَّ فَتَحَتْ الْبَابَ وَقَدْ لَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا أَنْ تَلْبَسَهُ، وَقَالَتْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنْ الْحُزْنِ.
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ، فَقَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ، وَقَدْ هَدَى الله أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْهُمْ
إِلَيْهِمَا)) قَالَ أبُو هرَيْرة، فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِناً يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي أَوْ يَرَى أُمِّي إِلا وَهُوَ يُحِبُّنِي.
102-
وَمنهَا قِصَّةٌ أخرى، مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ وهِي مَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثاً كَثِيراً فَأَنْسَاهُ فَقَالَ ((ابْسُطْ رِدَاءَكَ)) فَبَسَطْتُهُ، ثُمَّ قَالَ ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ حَدَّثَنَا بَعْدَهُ، رواه البخاري.
وَقَالَ الإمام أحمد حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ إِنِّني كُنْتُ امْرَأً مِسْكِيناً، أصْحَبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ في الْأَسْوَاقِ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَحَضَرْتُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْماً مَجْلِساً، فَقَالَ ((مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ إِلَيْهِ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئاً سَمِعَهُ مِنِّي)) فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حتَّى قَضَى مَقَالَتَهُ، ثُمَّ قَبَضْتُهَا إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيدِهِ، مَا نَسِيتُ شَيْئاً سَمِعْتُهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِك.
اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداةً مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين واغفر لنا ولوالدينا
اللَّهُمَّ وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الَّذِي يربح فيه المتقون اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وجُدْ علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ
مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ.
(فَصْلٌ)
103-
وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم أنَّ اِلْحَسَنَ بْنِ عَلِيٍّ وهُوَ ابنُ فاطِمَةَ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، فَتّمَ ذَلِك بِمُصَالَحَةِ الحَسَن لِمُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِثَلاثِينَ سَنَةٍ.
104-
وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم بَأَنَّ عَمَّارَ بنَ يَاسِرٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، وَيَكُونُ آخِرُ زَادِهِ ضِيَاحًا مِنْ لَبَنٍ، فَقَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّين، وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ آخِرَ زَادِهِ مِنْ الدُّنْيَا ضِيَاحًا مِنْ لَبَنْ (وَالضِّيَاحُ) اللَّبَنُ الْخَاثِرُ يُصِبُّ فِيهِ الْمَاءَ ثُمَّ يُخْبَط.
105-
وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَه، وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ بِأَنَّ اللهَ يَفْتَحُ عَلَيْهِ الْيَمَنَ وَالشَّامَ وَالْمَغْرِبَ وَالْمَشْرِقَ، فَفِي السَّيْرِ وَالتَّفَاسِير عَنْ سَلمَانَ الْفَارِسي قَالَ: ضَرَبْتُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْخَنْدَقِ، فَغَلُظَتْ عَلَيَّ صَخْرَةٌ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرِيبٌ مِنِّي.
فَلَمَّا رَآنِي أَضْرِبُ، وَرَأَى شِدَّةَ الْمَكَانِ عَلَيَّ، نَزَلَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ يَدِي، فَضَرَبَ ضَرْبَةً لَمَعَتْ تَحْتَ الْمَعْوَلِ بَرْقَة، قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بَرْقَةً أُخْرَى، قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بَرْقَةٌ أُخْرَى، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا الذِى رَأَيْتُ لَمَعَ تَحْتَ الْمَعْوَلِ وَأَنْتَ تَضْرِبُ قَالَ:((أَوَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ)) ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَم.
قَالَ: " أَمَّا الأُولَى فَإِنَّ اللهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْيَمَن، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ الله فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الشَّامَ وَالْمَغْرِبَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنَّ اللهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْمَشْرِقَ "". فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا فُتِحَ مِنْ الْبُلْدَانِ الْمَذْكُورَةِ الْيَمَنُ، فُتِحَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفُتِحَتْ بَعْدَهَا الشَّامُ وَالْمَغْرِبُ، وَفَتِحَ بَعْدَ الشَّامِ الْمَشْرِقُ، فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
106-
وَمِنْهَا قِصَّةُ جَمَلِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، فَعَنْهُ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَه قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلََهُ، فَقَالَ:((بِعْنِيهِ بِأَوْقِيَّةٍ)) . قُلْتُ: لا. ثُمَّ قَالَ: ((بِعْنِيهِ)) . فَبِعْتُهُ بِأَوْقِيَّةٍ وَاشْتَرَطْتُ حُمْلانَهُ إِلى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغَتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَقَالَ:((أَتَرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
107-
وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ عَمَّا وَقَعَ لِخُبَيْبِ بنِ عَدِي فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم عَشَرَةً عَيْنًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ، جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، حتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَةِ، بَيْنَ عَسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ.
فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ التَّمْرَ فِي مَنْزِلٍ نَزَلُوهُ فَقَالُوا: تَمْرُ يَثْرِبَ فَاتَّبَعُوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَئُوا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَحَاطَ بِهِمْ
الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ: أَيُّهَا الْقَوْمُ أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا، وَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ، أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبَطُوهُمْ بِهَا، قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللهِ لا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي بِهَؤُلاءِ أُسْوَةً، يُرِيدُ الْقَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ، وَعَالَجُوهُ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ.
فَانْطُلِقوا بخُبَيْبٍ وَزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ، حتَّى بَاعُوهُمَا بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ خُبَيْبًا، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، حتَّى أَجْمَعُوا قَتْلَهُ، فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسًى، يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، فدرجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حتَّى أَتَاهُ، فوجَدَتْهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بَيّدِهِ.
قالت: فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فَقَالَ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ خُبَيْبًا.
فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: لَوْلا أَنْ تَحْسِبُوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا وَلَا تُبْقِ
مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ للهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
آخر:
…
(ولا غُروَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهِمْ
كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ)
(فَحَرْبَةُ وَحْشِي سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى
وَمَوْتَ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابنِ مُلْجِمِ)
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ أَبُو سِرْوَعَةَ، عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاةَ، وَأَخْبَرَ َالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ، حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ، أَنْ يُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ، يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلاً عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ، فَبَعَثَ اللهُ لِعَاصِمٍ مِثَالَ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَالشَّاهِدُ فِي إِخْبَارِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا.
108-
وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم بَأَنَّ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يديه خَيْبَرَ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلٌ بْنَ سَعْدٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: ((لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ يُفْتَحُ الله عَلَى يَدَيْهِ)) . فَبَاتَ النَّاسُ يَدوِكُونَ لَيْلَتَهُمْ، أَيُّهُمْ يُعْطَى فَقَالَ:((أَيْنَ عَلِيٌّ بنُ أَبِي طَالِبٍ)) ؟ فَقِيلَ: هُوَ يَشْتَكِي
عَيْنَيْهِ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الراية فَقَالَ:((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالى فِيهِ فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرُ النَّعَمِ)) . فَفَتَحَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ فَكَانَ كَمَا قَالَ.
109-
وَمِنْ ذَلِكَ نَعْيُهُ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا، وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِي عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِي خَبَرُهُمْ فَقَالَ:((أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَها جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَها ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حتَّى أَخَذَ الراية سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ)) . يَعْنِي خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ، حتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ.
شِعْرًا:
…
تَشَاغَلَ قَوْمُ بِدُنْيَا هُمُوا
…
وَقَوْمُ تَخَلَّوْا لِمَوْلاهُمُوا
فَالْزَمَهُمْ بَابَ مَرْضَاتِهِ
…
وَعَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ أَغْنَاهُمُوا
إِذَا ذُكِّرُوا بِالَّذِي أَسْلَفُوا
…
أَذَابَ الْقُلُوبَ وَأَبْكَاهُمُوا
فَمَا يَعْرفُون سوى حُبِّهِ
…
فَوَالَوْا الإِلهَ وَوَالاهُمُوا
يَصُفُّونَ بِاللَّيْلِ أَقْدَمَهُمْ
…
وَعَيْنُ الْمُهَيْمِنِ تَرْعَاهُمُوا
فَطُوبَى لَهُمْ ثُمَّ طُوبَى لَهُمْ
…
إِذَا بِالتَّحِيَّةِ حَيَاهُمُوا
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ وَسَاوِسِ قُلُوبَنَا الْحَامِلَةِ عَلَى التَّورُّطِ فِي هُوَّةِ الْبَاطِلِ وَإِبْتِدَاعِهِ وَاجْعَلْ إِيمَانَنَا إِيمَانًا خَالِصًا صَادِقًا قَوِيًّا وَكُنْ لَنَا مُؤَيَّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ عَيْشَنَا عَيْشًا رَغَدًا. وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا فِي مَحَبَّتِكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبِّلاً وَحِفْظًا كَامِلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا
وَطَبْعًا صَفِيًا وَأَدَبًا مَرْضِيًا وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
110-
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافعٍ، قَالَ: رُمِيتُ بِسَهْمٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَفُقِئَتْ عَيْنِي، فَبَصَقَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَا لِي، فَمَا آذَانِي مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدُ.
111-
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى مَرَّةً، فَقَامَ أَبُو لُبَابَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ التَّمْرَ فِي الْمَرَابِدِ.
فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اسْقِنَا حتَّى يَقُومَ أَبُو لُبَابَةَ عِرْيَانًا فَيَشُدُّ مِرْبَدَهُ بِإِزَارِهِ)) . فَأَمْطَرَتْ فاجْتَمَعُوا: إِلى أَبِي لُبَابَةَ فَقَالُوا: إِنَّهَا لَنْ تُقْلِعَ حتَّى تَقُومَ عُرْيَانًا فَتَشُدَّ ثَعْلَبَ مِرْبَدِكَ بِإِزَارِكَ فَفَعَلَ فَأَقْلَعتِ السَّمَاءُ.
112-
وَمِنْهَا قِتَالُ الْمَلائِكَةِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلانِ يُقَاتِلانِ عَنْهُ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، كَأَشَّدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ.
113-
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ نَافِعِ بنِ جَبِير قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شَهِدْتُ أُحُدًا، فَنَظَرْتُ إِلى النَّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه.
114-
وَمِنْهَا دُعَاؤُه صلى الله عليه وسلم لأَبِي طَلْحَةَ وَأُمّ سَلَمَة وَاسْتِجَابَةُ اللهِ لِدَعْوَتِهِ، فَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لأَبِي طلحة
ابنٌ يَشْتَكِي فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةُ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ الصَّبِيُّ؟ قَالَتْ: أُمُّ سُلَيْمٍ وَهِيَ أُمُّ الصَّبِي: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ فَقَرَّبَتْ لَهُ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:((أَعْرَسْتُمْ اللَّيْلَةَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا)) . فَوَلَدَتْ غُلامًا، فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حتَّى تَأْتِي بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَبَعَثَ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَقَالَ:((أَمَعَهُ شَيْءٌ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ تَمَرَاتٌ. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضَغَهَا ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ الصَّبِي، ثُمَّ حَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدُ اللهِ. وَفِي رواية لِلبخاري قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ تِسْعَةَ أَوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قرؤوا الْقُرْآنَ يَعْنِي مِنْ أَوْلادِ عَبْدِ اللهِ الْمَوْلُودِ.
115-
وَمِنْ ذَلِكَ الْكُدْيَةُ وَهِيَ الصَّخْرَةُ الصَّلْبَةُ الَّتِي لا تَعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ فَشَكَوْهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَفَلَ فِيهِ ثُمَّ دَعَا بِمَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدْعُو بِهِ ثُمَّ نَضَحَ الْمَاءَ عَلَى تِلْكَ الْكُدْيَةِ فَيَقُولُ مَنْ حَضَرَهَا: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لانْهَالَتْ حتَّى عَادَتْ كَالْكَثِيبِ، لا تَرَدُّ فَأْسًا، وَلا مِسْحَاةً.
116-
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ جَابِرٍ بنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ فَزَعَمَ أَنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ:((بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ)) . فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِذَا عَظِيمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ.
117-
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهُ الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَعَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَنِي بِمَالٍ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِمَكَّةَ لِيَقْسِمُهُ فِي قُرَيْشٍ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ: ((الْتَمِسْ صَاحِبًا)) . فَجَاءَنِي عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلى مَكَّةَ فَتَلْتَمِسُ صَاحِبًا، قُلْتُ: أَجَلْ. قَالَ: فَأَنَا لَكَ صَاحِبٌ.
فَجِئْتُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: قَدْ وَجَدْتُ صَاحِبًا قَالَ: ((مَنْ)) ؟ قُلْتُ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، قَالَ:((إِذَا هَبِطْتَ بِلادَ قَوْمِهِ فَاحْذَرْهُ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ الْقَائِلُ أَخُوكَ الْبَكْرِيُّ لا تَأْمَنْهُ)) . فَخَرَجْنَا حتَّى إِذَا كُنَّا بالأَبْوَاءَ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ حَاجَةً إِلَى قَوْمِي وَوَدِدْتُ أَنْ تَلَبَّثْ لِي قَلِيلاً، فَقُلْتُ: انْصَرِفْ رَاشِدًا فَلَمَّا وَلَّى ذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَشَدَدْتُ عَلَى بَعِيرِي فَخَرَجْتُ أُوضِعُهُ حتَّى إِذَا كُنْتُ بَالأَصَافِرِ إِذَا هُوَ يُعَارِضُنِي فِي رَهْطٍ فَأَوْضَعْتُ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي جَاءَنِي فَقَالَ: قَدْ كَانَتْ لِي إِلَى قَوْمِي حَاجَةٌ، قُلْتُ: أَجَلْ وَمَضَيْنَا حتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَدَفَعْتُ الْمَالَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ.
118-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمٌ أَنَّ ابنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ مَنْ آذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ: آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ.
119-
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو رَجَاءَ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَائِطًا لِبَعْضِ الأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ: ((مَا تَجْعَلُ لِي إِنْ أروَيْتُ حَائِطَكَ هَذَا)) ؟ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَجْهَدُ أَرْوِيهُ فََلا أُطِيقُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:((تَجْعَلُ لِي مِائَةَ تَمْرَةٍ اخْتَارُهَا مِنْ تَمْرِكَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ
الْغَرْبَ فَمَا لَبِثَ أَنْ أرْوَاهُ حتَّى قَالَ الرَّجُلُ: غَرِقَتْ عَلَيَّ حَائِطِي، فَاخْتَارَ مِائَةَ تَمْرَةٍ فَأَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حتَّى شَبِعُوا.
ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ مِائَةَ تَمْرَةٍ كَمَا أَخَذَهَا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْكَبِيرِ.
اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتِنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْي الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) 120- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ تَبَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَجَلَسَ قَالَ: فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ، فَقَالَ:((يَا أَبَا ذَرّ: مَا جَاءَ بِكَ)) ؟ قُلْتُ الله وَرَسُوله، فَجَاءَ أَبُو بَكْرِ فَسَلَّمَ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ:((مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْر)) ؟ قَالَ: الله ورسوله، فَجَاءَ عُمَرُ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:((يَا عُمَرُ مَا جَاءَ بِكَ)) ؟ قَالَ: الله ورسوله، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ عُمَرُ، فَقَالَ:((يَا عُثْمَانُ مَا جَاءَ بِكَ)) ؟ قَالَ: الله ورسوله، فَتَنَاوَلَ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ حَصَيَاتٍ، أَوْ تِسْعَ حَصَيَاتٍ، فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ، حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ.
ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ ثُمَّ تَنَاوَلَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُمرَ فَسَبَحَّنَ فِي يَدِهِ، حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ ثُمَّ تَنَاوَلَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ، فَسَبَحَّنَ فِي يَدِهِ، حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ، وَقَالَ الزُّهري يَعْنِي الْخِلافَة.
121-
وَمِنْهَا قِصَّة الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَّطِيحَتَيْنِ فَعَنْ عِمَرانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسَفَارِهِِ وشَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ الْعَطَشَ فَدَعَا فُلانُ وَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: ((اذْهَبَا فَابْغِيَا الْمَاءَ)) . فَانْطَلَقَا فَلَقِيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا.
فَقَالا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءَ، فَقَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةُ وَنَفَرُنَا خُلُوفٌ، قَالا: انْطَلِقِي إِذًا. قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالا: إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ؟ قَالا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ فَانْطَلِقِي فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ، فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، وَدَعَا صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَّطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا، واَطْلَقَ الْعَزَالِي، فَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْقُوا، وَاسْتَقُوا، فَسَقَى مَنْ شَاءَ، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ وَكَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ أَعْطَى رَجُلاً أَصَابَتْهُ جَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ فَقَالَ:((اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ)) . وَهِيَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا.
وَأيْمُ اللهِ لَقَدْ أَقْلَعَ عَنْهَا وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((اجْمَعُوا لَهَا)) . فَجَمَعَوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسُوَيْقَةٍ، حتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، فجَعَلُوهُ فِي ثَوْبٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: ((تَعْلَمِينَ مَا رَزَأْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا.
وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا)) . فَأَتَتْ أَهْلَهَا وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، وَقَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلانَةُ؟ قَالَتْ: الْعَجَبُ، لَقِيَنِي رَجُلانِ فَذَهَبَا بِي إِلَى
هَذَا الصَّابِئُ، فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَوَاللهِ إِنَّهُ لأَسْحَرُ الناس مَنْ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، تَعْنِي السَّمَاءِ إِلَى وَالأَرْضَ أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ حَقًّا، فكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ يُغِيرُونَ عَلَى مَا حَوْلَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلا يُصِيبُونَ الْقَوْمَ الَّذِي هِيَ مِنْه.
فَقَالَتْ: يَوْمًا لِقَوْمِهَا، مَا أَرَى إلا أَنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ يَدَعُونَكُمْ عَمْدًا فَهَلْ لَكُمْ فِي الإِسْلامِ، فَأَطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ. وَفِي رِوَايَة قَالَتْ: لَهُمَا هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لا مَاءَ لَكُمْ، وَفِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّها مُؤْتَمَّةٌ فَأَمَرَ بِرَاوِيَتِهَا، فَأُنِيخَتْ، فَمَجَّ فِي الْعَزَلاوَيْنِ الْعُلْيَاوَيْن.
ثُمَّ بَعَثَ بِرَاويَتِهَا فَشَرِبْنَا، وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً، عِطَاشًا، حتَّى رَوينا وَمَلأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا، وَإِدَاوَةٍ وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا، وَهِيَ تَكَادُ تَتَضَرَّج بِالْمَاءِ، يَعْنِي الْمَزَادتين. رَوَاهُ الشَّيْخَان مطولاً.
122-
وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ سَلَمَةَ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَأَصَابَنَا جَهْدٌ حتَّى هَمَمْنَا أَنْ نَنْحَرَ بَعْضَ ظَهْرِنَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَمَعْنَا أَزَاوِدَنَا، وبَسَطْ لَنَا نِطَعًا، فَاجْتَمَعَ زَادُ الْقَوْمِ عَلَى النِّطَعِ، فَتَطَاوَلْتُ لأَحْزُرَهُ كَمْ هُوَ، فإذَا هُوَ كَرَبْضَةِ الْعَنْزِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً (1400) فَأَكَلْنَا حتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ حَشَوْنَا جُرُبَنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:((فَهَلْ مِنْ وَضُوءٍ)) ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا نُطْفَةٌ من مَاءٍ، فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ، فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا، نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً. رَوَاهُ الشَّيْخَان.
123-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الترمذيُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بِتَمَرَاتٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ فَضَمَّهُنَّ، ثُمَّ دَعَا لِي فِيهِنَ، ثُمَّ قَالَ:((خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدِكَ هَذَا أَوْ فِي الْمِزْوَدِ، فكُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا أَدْخِلْ يَدَكَ فِيهِ، وَخُذْ وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرًا)) . فَفَعَلْتُ فَلقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكُنَّا نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ حِقْوِي، حتَّى كَانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثْمَانَ انْقَطَعَ. وَاللهُ أعلم.
اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَنَجِّنَا مِنْ لَفَحَاتِ الْجَحِيم، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) 124- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَان عن السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ: فَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ: فتَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ، وَقَالَ الْجُعَيْدُ: رَأَيْتُ السَّائِبَ بنَ يَزِيدَ، ابنَ أربع وَتِسْعِين، جَلْدًا مُعْتَدِلاً: فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ مَا مُتِعتْ بِهِ سَمْعِي وَبَصَرِي إِلا بِدُعَاءِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم.
125-
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِي، قَالَ أَبُو زَيْدِ بْنُ أَخْطَبَ: مَسَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيّدِهِ عَلَى وَجْهِي، وَدَعَا لِي، قَالَ عَزْرَةُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَمَا عَاشَ عِشْرِينَ وَمائَةَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي لِحْيَتِهِ إِلا شَعَرَاتٌ تُعدُّ بِيضٌ.
126-
وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِي عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ بَلَغَ
عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلامٍ، مَقْدَمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ وَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاثٍ، لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا نَبِيٌّ، مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:((أخَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ)) . قَالَ عَبْدُ اللهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلائِكَةِ.
((أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ، كَانَ الشَّبَهُ لَهُ وَإِذَا سَبَقَت كَانَ الشَّبَهُ لَهَا)) . قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. الْحَدِيث.
127-
وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أُمَّتُه تَحْذُو حَذْوَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحَذْوَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ الأُمَمِ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقَذَّةِ وَالنَّعْلِ بِالنَّعْلِ.
وَكَانَ الأَمْرُ حَذَتْ حَذْوَهُم فِي الاخْتِلافِ، وَالتَّفَرُّقِ، وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالإِحْدَاثِ فِي الدِّين، وَالْكَذِب، عَلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَذْوَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
128-
وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ هَوَازِنَ بِقَتْلِ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ حُرْقُوصِ بنِ زَهُيَرْ السَّعْدِي، وَأَصْحَابِهِ مَارِقِينَ مِن الدِّينِ، خَارِجِينَ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ مِنْ النَّاس.
وَحَدِيثُهم مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ السِّيْرِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ، وَمَضْمُونُه أَنَّ
ذَا الْخُوَيْصرَةِ قَامَ إِلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ غَنَائِمَ هَوَازَنَ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:((تَرِبَتْ يَدَاكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ أنا)) . فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنه نافق فمرني أَضْرِبْ عُنُقَهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ عِنْدَ صَلاتِهِمْ وَقِرَاءَتَه عِنْدَ قِرَاءَتَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ من الناس، يَقْتُلُهُم أُولَى الطَّائِفَتِين بِالْحَقِّ، آيَتُهُمْ الْمُخَدَّجُ)) . يَعْنِي ذَا الثُّدَيَّةِ، فَكَانَ الأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ بن أبي طالبٍ بَعْدَ حَرْبِ صِفِّينِ.
فَقَتَلَهُم عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي النَّهْرَوَانِ، وَاسْتَخْرَجَ الْمُخَدَّجَ ذَا الثُّدَيَّة، مِنْ الْمَاءِ مَقْتُولاً، حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ عَسْكَرِه وَكَانُوا مَا يَقْرُبُ مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا، فَكَبَّرَ عَلِيٌّ حِينَ وَجَدَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَةَ شُكْرٍ، وَكَبَّر الْعَسْكَرُ الَّذِي مَعَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ خَبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي وَقَع طِبْقَ مَا قَالَ.
129-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ مَأْخُوذُ مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} .
فَأَخْبَرَ أَنَّ عَمَّهُ أَبَا لَهَبٍ سَيَدْخُلُ النَّارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ، وَعَاشَا مُدَّةً،
وَقَدَّرَ اللهُ أَنَّهُمَا مَاتَا عَلَى شِرْكِهِمَا وَلَمْ يُسْلِمَا حَتَّى وَلا ظَاهِرًا وَهَذَا مِنْ دَلائِل النُّبُوَةِ الْبَاهِرَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَتَى بِهِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} وَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ وَبِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَمْ يَقَعَ، وَلَنْ يَقَعَ صَدَقَ اللهُ الْعَظِيم فَهَذَا مِنْ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَة.
130-
وَقَالَ تَعَالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} وَهَكَذَا وَقَعَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ مَكَّنَ اللهُ هَذَا الدِّينَ وَأَظْهَرَهُ وَأَعْلاهُ وَنَشَرَهُ فِي الآفَاقِ وَأَنْفَذَهُ وَأَمْضَاهُ.
131-
وَقَالَ تَعَالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قِيلَ: إِنَّهُمْ فَارِسُ، وَقِيلَ: الرُّومُ، وَقِيلَ: هَوَازِنُ، وَثَقِيفُ، وَغَطَفَانُ، يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَقِيلَ: بَنُو حَنِيفَةَ، قَوْمُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّاب، وَالْمُهِمُّ أَنَّهُ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ.
132-
وَقَالَ تَعَالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} إِلى قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا خَيْبَرَ، أَوْ مَكَّةَ، فَقَدْ فُتِحَتْ وَأخِذَتْ كَمَا وَقَعَ بِهِ الْوَعْدُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
133-
وَقَالَ تَعَالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} فَوَقَعَ إِنْجَازُ هَذَا الْوَعْدِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاء.
134-
وَقَالَ تَعَالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} فَوَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ اللهُ.
135-
وَقَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَهَكَذَا وَقَعَ فَإِنَّ اللهَ عَوَّضَ مَن أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِخَيْرَي الدُّنْيَا وَالآخِرَة.
136-
وَقَالَ تَعَالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وَهَكَذَا وَقَعَ عَوَضَهُم اللهُ عَمَّا كَانَ يَغْدُو إِلَيْهِمْ مَعَ حُجَاجِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَضَربِ الجزية عليهم، وَسَلْبِ أَمْوَالِ مَن قُتِلَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، كَمَا وَقَعَ بِكُفَّارِ أَهْلِ الشَّامِ مِن الرُّومِ، وَمَجُوسِ الْفُرْسِ بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبُلْدَانِ الَّتِي انْتَشَرَ الإِسْلامُ عَلَى أَرْجَائِهَا.
137-
وَقَالَ تَعَالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} الآية. وهكذا وَقَعَ لَمَّا رَجَع صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ بِاللهِ، لَقَدْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَاذِبُونَ،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْرِيَ أَحْوَالَهُمْ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَلا يَفْضَحُهُمْ عَنْدَ النَّاسِ.
138-
وَقَالَ تَعَالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَاّ قَلِيلاً} وَهَكَذَا وَقَعَ لِمَا اشْتَوَرُوا عَلَيْهِ لِيُثْبِتُوهُ أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ الْمُهم أَنَّهُ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ سوَاَءً بِسَوَاءٍ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ رَسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
موعظة: عِبَادَ اللهِ لَقَدْ تَغَيَّرَ النَّاسُ الْيَوْمَ فِي أَحْوَالِهِمْ الدِّينِيَّةِ تَغَيِّرًا يُدْهِشُ النَّاظِرِينَ هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي هِيَ ثَانِي أَرْكَانِ الإِسْلامِ وَهِيَ عَمُودُهُ أَعْرَضَ النَّاسُ عَنْهَا غَيْرَ مُبَالِينَ وَلا نَادِمِينَ جَهِلُوا مَا هِيَ الصَّلاةُ وَأَيُّ قِيمَةٍ قِيمَتُهَا وَمَا مَنْزِلَتُهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الطَّاعَاتِ وَمَا عَلِمُوا أَنَّهَا الصِّلَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَهِيَ خَيْر مَوْضُوع وُضِعَ لِلتَّقَرُّبِ إِلى الرَّحْمَن ِوَلِذَلِكَ هِيَ تُطَهِّرُ الْمُصَلِّي الْمُقِيمِ لَهَا مِنْ ذُنُوبِهِ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ فعَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ أَنْ تَحْرِصْ عَلَيْهَا كُلَّ الْحِرْصِ وَأَنْ تَعْتَنِيَ بِهَا كُلَّ الاعْتِنَاءِ وَلا تُضَيّعْ هَذَا الْوَاجِبَ الْعَظِيمَ الَّذِي بِأَدَائِهِ تَكُونُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْمَرْهُوبِ. وَبِتَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ تَكُونُ مِنْ الْكَافِرِينَ الْمَوْعُودِينَ فِي الْجَحِيمِ أَبَدَ الآبِدِينَ فَإِذَا حَانَ وَقْتُهَا فَاهْتَمُوا بِهَا وَتَهَيَّئُوا لِمُنَاجَاةِ خَالِقِكم الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَخُذُوا زِينَتكُمْ مُمْتَثِلينَ قَوْلُهُ تَعَالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَاعْتَنُوا أَوْلاً بِالطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحُهَا ثُمَّ أَدُّوهَا بِخُضُوعٍ وَخُشُوعٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ يُصَلُّونَ بِأَجْسَامِهِمْ وَيُحَرِّكُونَ أَلْسِنَتهُمْ وَشِفَاهَهُمْ وَيَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ مُكَبِّرِينَ وَيَحْنُون
ظُهُورَهُمْ رَاكِعِينَ وَسَاجِدِينَ وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ لَمْ تَتَحَرَّكْ إِلى اسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ مَوْلاهُمْ وَلَمْ تَتَدَبَّرْ مَعَانِي مَا تَلْفُظُ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ لأنَّهَا فِي أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا سَارِحَةٌ تُفَكِّرُ فِي الْعِقَارَاتِ وَالْمُدَايَانَاتِ وَالْفُلَلِ وَالْعَمَائِرِ الَّتِي عَنْ قَرِيب سَيُخَلِّفُونَهَا رَغْمَ أُنُوفِهِمْ إِذَا نَظَرْتَ إِلى أَحَدِهِمْ وَهُوَ يُصَلِّي لاهِيًا فِي تَفْكِيرِهِ يَعْبَثُ فِي ثَوْبِهِ تَارَةً وَفِي سَاعَتِهِ تَارَةً وَفِي أَنْفِهِ تَارَةً وَيُنَقِّشُ سِنَّهُ تَارَةً وَبَعْضُهُمْ يَلْمَسُ مَكَانَ لِحْيَتِهِ أَوْ يُصَلِّحُ مَيَازِيبَ غُتْرَتِهِ أَوْ يُقَلِّمُ أَظَفَارَهُ بِأَسْنَانِهِ. وَهَكَذَا حَتَّى يَخْرُج مِنْهَا صِفْرًا مَا مَعَهُ مِنْهَا اللهُ أَعْلَمُ إِلا الْعُشْرِ وَلِهَذَا لَوْ تَأَمَّلْتَ الْمُؤَدِي لَهَا هَكَذَا رَأَيْتَ أَنْ الصَّلاةَ هَذِهِ لَمْ تُؤَثِرْ عَلَيْهِ لا فِي تَتْمِيمِ الْوَاجِبَاتِ وَلا فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ بَلْ وَلا فِي تَخْفِيفِهَا لأَنَّ الصَّلاةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي أَقَامَهَا صَاحِبُهَا مِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا تُهَذِّبُ النَّفْسَ وَتُرَقِّقُ الْخُلُقَ وَتَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
فَإِذَا رَأَيْنَا إِنْسَانًا يُصَلِّي لَكِنَّهُ يَأْكُلُ الرِّبَا وَيَحْضُرُ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ أَوْ يَبِيعَهَا أَوْ يَشْتَرِيهَا أَوْ رَأَيْنَاهُ مَعَ السُّفَلِ الَّذِينَ يُلاحِقُونَ النِّسَاءَ فِي الأَسْوَاقِ أَوْ رَأَيْنَاهُ يُجَاهِرُ بِالْمَعَاصِي مِنْ شُرْبِ دُخَّانٍ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ يَحْلِقُ لِحَيَتَهُ أَوْ يَحْلِقُ لِحَاءَ النَّاسِ أَوْ يَجْعَلُ خَنَافِسَ أَوْ يَرْتَشِي أَوْ يَحْمِلُ النِّسَاءَ بِدُونِ مَحْرَمٍ أَوْ يَخْلُو بِهِنَّ بِدُونِ مَحْرَمٍ أَوْ يُصَوِّرْ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، أَوْ يَبِيعَ الصُّوَرَ أَوْ يَسْخَرُ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الصَّلاةِ الَّتِي يُصَلِّي أَنَّهَا لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ فَلَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللهِ إِلا بُعْدًا، وَرُبَّمَا كَانَ الْمُتَّصِفُ بِشَيْءٍ مِن الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ مَعَ صَلاتِهِ أَنَّهُ يَكِيدُ بِهَا النَّاسَ وَيَتَّخِذُهَا أُحْبُولة يَتَصَيَّدُ بِهَا ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْحُصُولِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مُصَلٍّ يَتَصَيَّدُ بِصَلاتِهِ الدُّنْيَا:
ذِئْبٌ رَأَيْتُ مُصَلِّياً
فَإِذَا مَرَرْتُ بِهِ رَكَعْ
يَدْعُو وَجُلُّ دَعَائِهِ
مَا لِلْفَرِيسَةِ لا تَقَعْ
عَجِّلْ بِهَا عَجِّلْ بِهَا
إِنَّ الْفُؤَادَ قَدِ انْصَدَعْ
ويقول الآخر:
إِذَا رَامَ كَيْداً بِالصَّلاةِ مُقِيمُهَا
فَتَارِكُهَا سَهْواً إِلى اللهِ أَقْرَبُ
آخر:
…
مَوَاعِظُ الْوَاعِظِ لَنْ تُقْبَلا
…
حَتَّى يَعِيَهَا قَلْبُهُ أَوَّلاً
يَا قَوم لا أَظْلَمَ مِنْ وَاعِظٍ
…
خَالَفَ مَا قَدْ قَالَهُ فِي الْمَلا
أَظْهَرَ لِلنَّاسِ إِحْسَانَهُ
…
وَبَارَزَ الرَّحْمَنَ لَمَّا خَلا
آخر:
…
أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْداً
…
وَعَلَى الدِّينَارِ دَارُوا
لَوْ يُرَى فَوْقَ الثُّرَيَّا
…
وَلَهُمْ رِيشٌ لَطَارُوا
139-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِ اللهِ تَعَالى: لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخر السورةِ هُوَ أَنَّ رَهْطاً مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ الْحَارِثُ بنُ قَيْسٍ السَّهْمِيّ، وَالْعَاصُ بنُ وَائِلٍ، وَالْوَلِيدُ بنُ الْمُغِيرَة، وَالأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالأَسْوَدُ بِنُ الْمُطَّلِبِ بن أُسد، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَلُّمَ فَاتّبِعْ دِينَنَا وَنَتَّبِعُ دِينَكَ وَنُشْرِككَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سُنَّةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ الَّذِي
جِئْتَ بِهِ خَيْراً كُنَّا قَدْ شَرَكْنَاكَ فِيهِ وَأَخذنا حَظَّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْراً كُنْت قَدْ شَرَكْتَنَا فِيهِ، وَأَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ.
فَقَالَ: ((مَعَاذَ اللهِ أَنْ أُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ)) . قَالُوا: فَاسْتَلِمْ بَعْضَ آلِهَتِنَا نُصَدِّقكَ وَنَعْبُد إِلَهَكَ. فَقَالَ: ((لا حَتَّى أَنْظُرْ مَا يَأْتِينِي مِنْ عِنْدِ رَبِّي)) . فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إِلى آخر السورةِ فَكَانَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَتْبَعْهُمْ وَلَمْ يَتْعَبُوهُ فِي عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
140-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَعَدَ صلى الله عليه وسلم بِهِ أَصْحَابَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي حَالِ ضَعْفِهِمْ، مِنْ أَنَّ اللهَ سَيَنْصُرُهُمْ وَيُمَكِّنُهُمْ وَيُقَوِّيهِمْ، وَيُظْهِرُهُمْ، فَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيَأْمُرونَ بِالْمَعْرُوفَ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَكُونُ الْعُقْبَى لَهُمْ، وَتَلا بِذَلِكَ الْقُرْآنَ.
فَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٍ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} إِلى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} فَتَمَكَّنَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَتْ الْعُقْبَى لَهُمْ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُه عَلَيْهِ.
141-
وَمِنْ ذَلِكَ إِلْقَاءُ النُّعَاسِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَماناً أَمَّنَهُمْ اللهُ بِهِ مِنْ خَوْفِهِمْ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ مِنْ
كثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَقِلَّةِ عَدَدَهِمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ تَعَالى:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً منْهُ} والآية الأخرى.
وَمِنْ ذَلِكَ تَقْلِيلُ الْمُجَاهِدِينَ مَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَعْيُن الْمُشْرِكِينَ وَتَقْلِيلِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُقْدِمَ الْمُؤْمِنُونَ وَيَتَجَرُّؤُا وَيَطْعَمُوا فِيهِمْ ولئلا يَهْرَبَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ تَعَالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} .
142-
وَمِنْ ذَلِكَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَأَطْفَأَ الْغُبَارَ وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الأَرْضُ، حَتَّى ثَبَتَتْ الأَقْدَام، وَتَوَضَؤُا مِنْهُ وَسَقَوا الرِّكَابَ، وَمَلَؤُا الأَسْقِيَةَ وَزَالَتْ عَنْهُمْ وَسَوَسَةُ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى كَثِيبٍ أَعْفَرَ تَسِيخُ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَحَوَافِرُ الدَّوَابِ، وَقَدْ سَبَقَهُمْ الْكُفَّارُ إِلى مَاءِ بَدْرٍ، وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ مُحْدِثِينَ، وَبَعْضُهُمْ مُجْنِبِينَ، وَأَصَابَهُمْ الظَّمَأُ، وَوَسْوَسَ إِلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَفِيكُمْ نَبِيُّ اللهِ، وَأَنَّكُم أَوْلِيَاءُ اللهِ، وَقَدْ غَلَبَكُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ وَمُحْدِثِينَ فَكَيْفَ تَرْجُونَ أَنْ تَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذَلِكَ الْمَطَرِ مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْحَلُوا مَعَهُ.
143-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا نَزَلَ فِي رِجَالٍ بِأَعْيَانِهِمْ، مِنْ أَنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ إِلى أَنْ يَمُوتُوا مِنْ ذَلِكَ مَا نَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَتُوْعِدُنِي يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلا رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئاً وَإِنِّي لأَعَزُّ مَنْ مَشَي بَيْنَ
جَبَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ صَرَعَهُ اللهُ شَرَّ مَصرَعٍ، وَقَتَلَهُ أَسْوَأَ قَتْلَةٍ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((لِكُلِّ أُمَّةٍ فِرْعَوْناً وَإِنَّ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ)) . وَنَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْمُفَسِّرِينَ.
144-
وَمِنْهَا قِصَّةُ الْبَكَّاؤُونَ الَّذِينَ اسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَقَالَ: ((لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)) . فَتَوَلَّوْا يَبْكُونَ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِن الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ.
وَقَامَ عُلَيَّةُ بنُ يَزِيدٍ فَصَلَّى مِنَ اللَّيْلِ وَبَكَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبْتَ فِيهِ ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ مَعَ رَسُولِكَ وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يُحْمِلُنِي عَلَيْهِ وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ.
ثُمَّ أَصْبَحَ مَع النَّاسِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلةَ)) ؟ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ:((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ)) . فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَبْشِرْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بَيّدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ)) . فَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم لأَنَّ هَذَا غَيْبٌ أَعْلَمَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم.
145-
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: خَرَجْنَا إِلى تَبُوكَ فِي قَيْضٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً وَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبَدِهِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهِ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْراً فَادْعُ اللهَ لَنَا، فَقَالَ:((أَوَ تُحِبُّ ذَلِكَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتَ السَّمَاءُ - أَيْ آذَنَتْ بِمَطَرٍ - فَأَطللَّتْ ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَؤُا مَا مَعَهُمْ ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَرَهَا جَاوَزَتْ الْعَسْكَرَ.
146-
وَمِنْهَا حِينَمَا ظَلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا، وَعِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ عَمَارَةُ بنُ حَزْمِ الأنصاري.
وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بنُ لُصَيْتٍ الْقَيْنُقَاعِي وَكَانَ مُنَافِقاً، فَقَالَ زَيْدُ بنُ لُصَيْتٍ وَهُوَ فِي رَحْلِ عَمَارَةَ وَعَمَارَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنْ يُخْبِرَكُمْ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعِمَارَةُ عِنْدَهُ: ((إِنَّ رَجُلاً قَالَ: إِنَّّ مُحَمَّداً يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنْ يُخْبِرَكُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَعْلَمُ إِلا مَا أَعْلَمَنِي اللهُ وَقَدْ دَلَّنِي اللهُ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا قَدْ حَبَسْتَهَا شَجَرةٌ بِزِمَامِهَا فَانْطَلَقُوا حَتَّى تَأْتُوا بِهَا)) .
فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهَا وَقَدْ وَجَدَهَا الْحَارِثُ بنُ خَزْمَةَ الأَشْهَلِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ زَيْدٌ لَكَأَنِي لَمْ أُسْلِمْ إِلا الْيَوْمَ فَقَدْ كُنْتُ شَاكاً فِي مُحَمَّدٍ وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَأَنَا فِيهِ ذُو بَصِيرَةٍ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
147-
وَمِنْهَا أَنَّهُ مَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
سَائِراً فَجَعَلَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ فُلانٌ فَيَقُولُ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» . حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرِه فَقَالَ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» .
وَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ بَعِيرُهُ - أَيْ انْقَطَعَ - أَخَذَ الْمَتَاعَ مِنْ عَلَيْهِ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَاشِياً وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنَازِلَهُ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ» . فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ - وَاللهِ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رَحَمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . وَقَدْ تَحَقَّقَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه لَمَّا نَفَى أَبَا ذَرٍّ نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبْذَةَ فَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتُهُ وَغُلامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنْ غَسِّلانِي وَكَفَّنَانِي.
ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا لَهُ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ.
فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَرَهْطٌ مَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عُمَّاراً فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا جَنَازَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ قَدْ كَادَتْ الإِبْلُ تَطَؤُهَا
وَقَامَ الْغُلامُ فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ.
فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَمْشِي وَحْدَكَ وَتَمُوتُ وَحْدَكَ وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ.
ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَوَارَوهُ ثُمَّ حَدَّثَهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرِهِ إِلى تَبُوكَ وَاسْمُ أَبِي ذَرٍّ (جُنْدُبُ بنُ جُنَادَةَ) وَمَاتَ فِي سَنَة 32 هـ.
وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّةِ وَفَاتِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن الأَشْتَرِ عَنْ أَبِيهِ: عَنْ أُمِّ ذَرٍّ قَالَتْ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ بَكَيْتُ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقُلْتُ: مَا لِي لا أَبْكِي وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ وَلَيْسِ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُكَ كَفَناً وَلا يَدَانِ لِي فِي تَغْيِيبِكَ.
قَالَ: أَبْشِرِي وَلا تَبْكِي فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلا وَقَدْ مَاتَ فِي قَرْيَةٍ وَجَمَاعَةٍ فَأَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ فَوَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ فَأَبْصِرِي الطَّرِيقَ فَقُلْتُ: أَنَّى وَقَدْ ذَهَبَ الْحَاجُ وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ.
فَقَالَ: اذْهَبِي فَتَبَصَّرِي قَالَتْ: فَكُنْتُ أَشْتَدُّ إِلى الْكَثِيبِ أَتَبَصَّرُ ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَمَرِّضَهُ فَبَيْنَا أَنَا وَهُوَ كَذَلِكَ إِذَا أَنَا بِرِجَالٍ عَلَى رِحَالِهِمْ كَأَنَّهُمْ الرَّخْمُ تَخِبُّ بِهِمْ رَوَاحِلُهُمْ قَالَتْ: فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ فَأَسْرَعُوا إِلَيَّ حَتَّى وَقَفُوا عَلَيَّ.
فَقَالُوا: يَا أَمَةَ اللهِ مَا لَكِ؟ قُلْتُ: امْرُؤٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُوتُ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ. قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَفَدَّوْهُ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَر رَجُلٌ إِلا وَقَدْ هَلَكَ فِي جَمَاعَةٍ.
وَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُنِي كَفَناً لِي أَوْ لامْرَأَتِي لَمْ أُكَفَّنْ إِلا فِي ثَوْبٍ هُوَ لِي أَوْ لَهَا وَإِنِّي أنْشُدُكُمْ اللهَ أَنْ لا يُكَفِّنَنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ كَانَ أَمِيراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ بَرِيداً أَوْ نَقِيباً وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ قَارَفَ بَعْضَ مَا قَالَ إِلا فَتَىً مِنَ الأَنْصَارِ.
قَالَ: أَنَا أَكفِنُكَ يَا عَمَّ أُكَفِّنُكَ فِي رِدَائِي هَذَا وَفِي ثَوْبَيْنِ فِي عَيْبَتِي مِنْ غَزْلِ أُمِّي قَالَ: فَأَنْتَ تُكَفِّينُنِي فَكَفَّنَهُ الأَنْصَارِيُّ وَقَامُوا عَلَيْهِ وَدَفَّنُوهُ فِي نَفَرٍ كُلُّهُمْ يَمَان فَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ.
148-
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ مِن أَنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ - بَعْدَ مَا سَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيَّاماً إِلى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍ فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشٍ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيَأتْ لَهُ فِيهِ طَعَاماً.
فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إِلى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فِي الضَّحِّ - لَهَبُ الشَّمْسِ وَحَرَارَتُهَا - وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلِّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأةٍ
حَسْنَاء فِي مَآلِهِ مُقِيمٌ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ وَالْعَدْلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لا أَدخُلَ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهيئا لِي زَاداً فَفَعَلَتَا ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ - أَيْ أَحْضَرَ جَمَلَهُ فَوَضَعَ عَلَيْهِ الرَّحْلَ وَأَعَدَّهُ لِلسَّفَرِ -.
ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ وَكَانَ عِنْدَمَا أَقْبَلَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ» .
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ وَاللهِ أَبُو خَيْثَمَةَ فَلَمَّا أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْراً وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ» . وَفِي هَذِهِ مُعْجِزَة.
149-
وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ وَمِنْهُمْ مَخْشِيٌّ بنُ حِمْيَرَ قَالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً وَاللهِ لَكَأَنَّكُمْ غَداً مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ إِرْجَافاً وَإِرْهَاباً لِلْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ: مَخْشِيُ وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ مِنَّا مَائِةَ جَلْدَةً وَأَنَّا نَنْقَلِبُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْانٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ وَقَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمَّارِ بن يَاسِرٍ: «أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» . فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ.
فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ: كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} . فَقَالَ مَخْشِيُ ابنُ حِمْيَر: يَا رَسُولَ اللهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي فَكَانَ الذِي عَفَا عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيةِ وَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ وسأل اللهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيداً لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ، فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةَ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً.
150-
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَائِذٍ فِي مَغَازِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ تَبُوكَ فِي زَمَانٍ قَلَّ مَاؤُهَا فِيهِ فَاغْتَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَرْفَةً بَيّدِهِ مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا فَاهُ ثُمَّ بَصَقَهُ فِيهَا فَفَارَتْ عَيْنُهَا حَتَّى امْتَلأَتْ فَهِيَ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةَ.
قُلْتُ: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى - عَيْنَ تَبُوكَ وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِىَ النَّهَارُ فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئاً حَتَّى آتِىَ» .
قَالَ: فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيءٍ مِنْ مَائِهَا فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئاً» ؟ قَالَا: نَعَمْ.
فَسَبَّهُمَا وَقَالَ لَهُمََا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ غَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيءٍ ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيْرٍ فاسْتَقَى النَّاسُ. فَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ واضحة.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُنَا إِلى حُبِّكَ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَاحْفَظْنَا مِن الاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَالْهَوَى وَالنَّفْس وَعَدُوِّكَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ إِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) 151- وَمِنْهَا قِصَّةُ أَبِي رِغَالٍ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَعَهُ غُصْناً مِنْ ذَهَبٍ إِنْ رَأَيْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ)) . فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً.
152-
وَمِنْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِارْجَاعِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى مَكَّةَ قَالَ اللهُ تَعَالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِلى مَكَّةَ وَوَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ فَيَكُونُ عَلَماً عَلَى نُبُوتهِ صلى الله عليه وسلم.
153-
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {َقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ إلى قوله وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .
154-
فَفِي هَذِهِ الآيَاتِ إِخْبَارٌ عَنْ غُيُوبٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا تَزْكِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُبَايِعِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَإِعْلانُ الرِّضَا عَنْهُمْ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ.
وَلا شَكَّ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالَ إِذْ لَوْ كَانَ فِي إِيمَانِ أَحدهم دَخَلٌ لَشَكَّ وَارْتَابَ وَأَعْلَنَ ارْتِدَادَهُ وَكُفْرَهُ وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى هَذَا الإِعْلانِ الْخَطِيرِ إِذْ لا يَعْلَم مَا فِي بُوَاطِنِهِمْ إِلا اللهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الإِخْبَار وَأَنَّهَا أَعلام على نبوته صلى الله عليه وسلم.
155-
وَمِنْ ذَلِكَ الإِخْبَارُ بِحَوَادِثَ خَاصَّةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فَفِي هَذَا عَلَم عَلَى نُبُوتِهِ صلى الله عليه وسلم لأَنَّ هَذِهِ
أُمُورٌ غَيْبِيَّةٌ أَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهَا.
156-
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ فَأَرْسَلَ إِلى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلا مَاءٌ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رحمه الله) .
فَقَامَ رَجُلٌ مِن الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلى رَحْلِِهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لا إِلا قُوتُ صِبْيَانِي قَالَ: فَعَلِّلِيهِم بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ)) . فَهَذَا غَيْبٌ مِن الْغُيُوبِ أَعْلَمَ الله نَبِيَّهُ بِهِ فَهُوَ مُعْجِزَةٌ وَاضِحَةٌ.
157-
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابنُ الْمُنْذِر وَابْنُ أَبِي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلاً مُنَافِقاً يَقُولُ الشِّعْرَ
يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَنْحَلُهُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ ثُمَّ يَقُولُ قَالَ فُلانٌ كَذَا وَكَذا فَإِذَا أسَمعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَاللهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إِلا هَذَا الرَّجُلُ الْخَبِيثُ أَوْ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ وَقَالُوا ابْنُ الأُبَيْرِقِ قَالَهَا قَالَ: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلَامِ.
وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنْ الشَّامِ مِنْ الدَّرْمَكِ ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهَا فَخَصَّ بِهَا نَفْسَهُ وَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمْ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ.
فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنْ الشَّامِ فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلاً مِنْ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ وَفِي الْمَشْرَبَةِ سِلاحٌ وَدِرْعٌ وَسَيْفٌ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ فَنُقِبَتْ الْمَشْرَبَةُ وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلاحُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا َفذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا قَالَ: فَتَحَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ.
قَالَ: وَكَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ قَالُوا: وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ وَاللهِ مَا نُرَى صَاحِبَكُمْ إِلا لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ رَجُلٌ مِنَّا لَهُ صَلاحٌ وَإِسْلامٌ. فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ.
وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ وَاللهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ
قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا فَقَالَ لِي عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ.
قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ أَهْلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلاحَهُ وَطَعَامَهُ فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلاحَنَا، فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((سَآمُرُ فِي ذَلِكَ)) .
فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو الأُبَيْرِقِ أَتَوْا رَجُلاً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَيْدُ بْنُ عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلامٍ وَصَلاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلا ثِبْتٍ.
فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ فَقَالَ: ((عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبَتٍ وَلا بَيِّنَةٍ)) .
قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا صَنَعْتَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اللهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} يَعْنِي بَنِي أُبَيْرِقٍ {وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ} مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ
…
فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسِّلاحِ فَرَدَّهُ إِلى رِفَاعَةَ.
158-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي تَبْرِئَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها مِن الإِفْكِ قَالَ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} . الآية.
عَشْرُ آيَاتٍ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْن عَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ رَمَاهَا الإِفْكُ وَالْبُهْتَانُ مِنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا قَالُوا مِنْ الْكَذِبِ الْبَحْتِ وَالْفِرْيَةِ الَّتِي غَارَ اللهُ لَهَا وَلِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهَا صِيَانَةً لِعِرْضِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا بَقِيَتْ الأَلْسِنَةُ لا يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِي وَمُسْلِم - وَهُوَ حَائِرٌ مُتَرَدِّدٌ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ يَسْأَلُ وَيَسْتَشِير.
وَالْمُنَافِقُونَ يُشِيعُونَ الْفَاحِشَةَ حَتَّى وَقَعَ فِيهَا مَنْ وَقَعَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ جَاءَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أَهْلِهَا ثُمَّ قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبْرِئُكِ اللهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِري اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنْ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ)) .
فَوَاللهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أَنْزَلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِن الْبُرَحَاءِ حَتَّى أَنَّهُ لِيَتَحَدُّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ
الْعَرَقِ فِي يَوْمِ شَاتٍ.
فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِي: ((يَا عَائِشَةُ احْمِدِي اللهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللهُ)) . فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: لا وَاللهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إِلا اللهَ.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} الآيَاتِ فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَفَهَّمَهُ فَقَدْ كَانَ مَوْقِفُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَائِشَةَ بَعْدَ إشَاعَةِ الْفِرْيَةِ وَالْبُهْتَانِ مَوْقِفَ التَّرَدُدِ وَالْحَيْرَةِ.
ثُمَّ تَحَوَّلَ بَعْدَ الْوَحْي فُجْاءَةً إِلى مَوْقِفِ الثِّقَةِ وَالاطْمِئْنَانِ وَهَذَا التَّحَوُلُ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاثِقاً بِبَرَائَتِهَا بِإِخْبَارٍ مِن الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ جَلَّ وَعَلا وَتَنَزَهَ وَتَقَدَّسَ.
159-
وَمِنْ ذَلِكَ تَحَدِّي الْيَهُودَ فِي تَمَنِّي الْمَوْتَ مَرَّتَيْن فَقَالَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .
وَوَجْهُ الدَّلالةِ أَنَّهُ طَلَبَ مِن الْيَهُودِ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً فَمَا تَمَنَّاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمُعَارَضَتِهِمْ لَهُ وَكَيْدِهِمْ لَهُ فَقَامَ ذَلِكَ دَلِيلاً صَادِقاً عَلَى نِبُوَّتِهِ وَمُعْجِزَة عَظِيمَة.
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا وَارْحَمْنَا عَنِ الرُّكُونِ إِلى عِدَاكَ وَارْزُقْنَا بُغْضَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ وَوَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ رُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ
وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ: فَأَخْبَرَ عَن الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ أَبَدَاً وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ فَلا يَتَمَنَّى الْيَهُودُ الْمَوْتَ أَبَدَاً وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ إِخْبَارِهِ بَأَنْ لا يَكُونَ أَبَدَاً وَمِنْ جِهَةِ صَرْفِ اللهِ لِدَوَاعِي الْيَهُودِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لَهُمْ وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَهُمْ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ لَمْ تَنْبَعِثْ دَوَاعِيهِمْ لإِظْهَارِ تَكْذِيبِهِ بِإِظْهَارِ تَمَنِيَّ الْمَوْتَ. أ. هـ.
160-
وَمِنْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَهَذَا الإِخْبَارُ إِنَّمَا هُوَ مِن الْغَيْبِ وَوَقَعَ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَحُفِظَ وَتَمَّ وَعْدُ اللهِ بِذَلِكَ.
وَلَمْ يَأْتِهِ تَغْيِيرٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَصَاحِفِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ قَالَ تَعَالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
161-
وَمِنْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِعِصْمَةِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِن النَّاسِ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَقَدْ حَقَّقَ اللهُ وَعْدَهُ فَحَفِظَ نَبِيَّهُ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى قَتْلِهِ مَعَ كَثْرَةِ الْمُحَاوَلاتِ مِنْ أَعْدَائِهِ فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبوته معجزة واضحة.
162-
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَيْ يَكْفِيكَ شَرَّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ كَفَى بِإِجْلاءِ بَنِي النَّضيرِ وَقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. أ. هـ.
وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزاً دَالاً عَلَى صِدْقِهِ حَيْثُ وَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ.
163-
وَمِنْ ذَلِكَ الْمُبَاهَلَةُ قَالَ اللهُ تَعَالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِكَ فَلَا تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} .
قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ هُوَ أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ صَاحِبَيْ نَجْرَانَ جَاءَا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَادَلاهُ فِي أَمْرِ عِيسَى عليه السلام فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ وَالْمُبَاهَلَةُ دُعَاءُ اللهِ وَالابْتِهَالُ إِلَيْهِ أَنْ يُنْزِلَ لَعْنَتَهُ عَلَى الْكَاذِبِينَ فَوَاعَدَاهُ عَلَى أَنْ يُلاعِنَاهُ الْغَدَاةَ.
فَغَدَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنَ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَأَبَيَا أَنْ يُجِيبَاهُ وَأَقَرَا لَهُ بِالْخَرَاجِ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ قَالا لأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ الْوَادِي نَاراً فَفِي هَذَا عِلْمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ فَلَوْلا أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ لِمَا أَحْجَمُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ ثَانِياً وَثُوقُهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.
164-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا قِيلَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الأَخْنَسِ بن شَرِيقٍ {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * َيحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * َلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} فَمَاتَ عَلَى كُفْرِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بنِ الْمُغِيرَةِ كَانَ يَغْتَابُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَنَزَلَ فِيهِ.
آخر: يُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا:
قَطّعْتُ مِنْكَ حَبَائِل الآمَالِ
…
وَحَطَطْتُ عَنْ ظَهَرِ الْمَطي رِحَالي
وَيَئسِتُ أَنْ أَبْقَى لِشَيْءٍ نِلْتُ مِمَّا
…
فِيكَ يَا دُنْيَا وَأَنْ يَبْقَى لِي
فَوَجَدْتُ بَرْدَ الْيَأْسِ بَيْنَ جَوَانِحِي
…
وَأَرَحْتُ مِنْ حَلَى وَمِنْ تَرْحَالي
وَلَئِنْ يَئِسْتُ لَرُبّ بَرْقَةِ خُلّبِ
…
بَرَقَتْ لِذِي طَمَعٍ وَبَرَقْةِ آلِ
مَا كَانَ أَشَامَ إِذْ رَجَاؤكِ قَاتِلِي
…
وَبَنَاتُ وَعْدِكِ يَعْتَلِجْنَ بِبَالِي
فَالآن يَا دُنْيَا عَرَفَتُكِ فَاذْهَبِي
…
يَا دَارَ كُلِّ تَشَتتٍ وَزَوَالِ
وَالآنَ صَارَ لِي الزَّمَانُ مُؤدِّباً
…
فَغَدَا عَلَيَّ وَرَاحَ بِالأَمْثَالِ
وَالآنَ أَبْصَرْتُ السَّبِيلَ إِلى الْهُدَى
…
وَتَفَرّغَتْ هَمِمِي عَنِ الأَشْغَالِ
وَلَقْدَ أَقَامَ لِي الْمَشِيبُ نُعَاتَهُ
…
يُفْضِي إِلَيّ بِمِفْرِقٍ وَقَذَالِ
وَلَقْدَ رَأَيْتُ الْمَوْتَ يُبْرِقُ سَيْفَهُ
…
بِيَدِ الْمَنِيَّةِ حَيْثُ كُنتُ حِيالِي
وَلَقْدَ رَأَيْتُ عُرَى الْحَيَاةِ تَخَرَّمَتْ
…
وَلَقَدْ تَصَدَّى الْوَارِثُونَ لِمَالِي
وَلَقْدَ رَأَيْتُ عَلَى الْفَنَاءِ أَدِلَّةً
…
فِيمَا تَنَكَّرَ مِنْ تَصَرَّفِ حَالِي
وَإِذَا اعْتَبَرْتُ رَأَيْتُ خَطْبَ حَوَادِثٍ
…
يَجْرِينَ بِالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ
وَإِذَا تَنَاسبتِ الرِّجَالِ فَمَا أَرَى
…
نَسَباً يُقَاسُ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
وَإِذَا بَحَثْتُ عَنِ التَّقِيّ وَجَدْتُهُ
…
رَجُلاً يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفَعَالِ
وَإِذَا اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ وَأَطَاعَهُ
…
فَيَدَاهُ بَيْنَ مَكَارِمٍ وَمَعَالِ
وَعَلَى التَّقِيِّ إِذَا تَرَسَّخَ فِي التُّقَى
…
تَاجَانِ تَاجُ سَكِينَةٍ وَجَلالِ
وَاللَّيْلُ يَذْهَبُ وَالنَّهَارُ تَعَاوُراً
…
بِالْخَلْقِ فِي الإِدْبَارِ وَالإِقْبَالِ
وَبِحَسْبِ مَنْ تُنْعَى إِلَيْهِ نَفْسُهُ
…
مِنْهُ بِأَيَّامٍ خَلَتْ وَلَيَالِ
اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ فَأَنْتَ فِي
…
عِبَرٍ لَهُنَّ تَدَارُكٌ وَتَوَالِ
.. يَبْكِي الْجَدِيدُ وَأَنْتَ فِي تَجْدِيدِهِ
…
وَجَمِيعُ مَا جَدَّدْتَ مِنْهُ فَبَالِ
يَا أَيُّهَا الْبَطِرُ الَّذِي هُوَ فِي غَدٍ
…
فِي قَبْرِهِ مُتَفَرَقُ الأَوْصَالِ
حَذَفَ الْمُنَىَ عَنْهُ الْمُشَمِّرُ فِي الْهُدَى
…
وَأَرَى مُنَاكَ طَوِيلَةَ الأَذْيَالِ
وَلَقَلَّ مَا تَلْقَى أَغَرَّ لِنَفْسِهِ
…
مِنْ لاعِبٍ مَرَحٍ بِهَا مُخْتَالِ
يَا تَاجِرَ الْغَيِّ الْمُضِرَّ بِرُشْدِهِ
…
حَتَّى مَتَى بِالْغَيّ أَنْتَ تُغَالِي
الْحَمْدُ للهِ الْحَمِيدِ بِمِنِّهِ
…
خَسِرَتْ وَلَمْ يَرْبَحْ يَدُ الْبَطَّالِ
للهِ يَوْمٌ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ
…
وَتَشِيبُ مِنْهُ ذَوَائِبُ الأَطْفَالِ
يَوَمُ النَّوَازِلِ وَالزَّلازِلِ، وَالْحَوا
…
مِلِ فِيهِ إِذْ يَقذِفْنَ بِالأَحْمَالِ
يَوْمٌ يَنَادَى فِيهِ كُلُّ مَضَلِّلٍ
…
بِمُقَطِّعَاتِ النَّارِ وَالأَغْلالِ
لِلْمُتَّقِينَ هُنَاكَ نَزْلُ كَرَامَةٍ
…
عَلَتِ الْوُجُوهَ بِنَضْرَةٍ وَجَمَالِ
زُمَرٌ أَضَاءَتْ لِلْحِسَابِ وُجُوهُهَا
…
فَلَهَا بَرِيقٌ عِنْدَهَا وَتَلالِي
وَسَوَابِقٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ جَرَتْ
…
خُمْصَ الْبُطُونِ خَفِيفَةَ الأَثْقَالِ
مِنْ كُلِّ أَشْعَثَ كَانَ أَغْبَرَ نَاحِلاً
…
خَلِقَ الرِّدَاءِ مُرَقَّعَ السِّرْبَالِ
حِيَلُ ابنِ آدَمَ فِي الأُمُورِ كَثِيرَةٌ
…
وَالْمَوْتُ يَقْطَعُ حِيلَةَ الْمُحْتَالِ
نَزَلُوا بِأَكْرَمِ سَيِّدٍ فَأَظَلّهُمْ
…
فِي دَارِ مُلْكِ جَلالَةٍ وَظِلالِ
وَمِنَ النَّعَاةِ إِلى ابْنِ آدَمَ نَفْسَهُ
…
حَرَكُ الْخُطَى وَطُلُوعُ كُلِّ هِلالِ
مَا لِي أَرَاكَ لِحُرّ وَجْهِكَ مُخْلِقاً
…
أَخْلَقْتِ يَا دُنْيَا وُجُوهَ رِجَالِ
قِسْتَ السُّؤَالَ فَكَانَ أَعْظَمَ قِيمَةً
…
مِنْ كُلِّ عَارِفَةٍ جَرَتْ بِسُؤُالِ
كُنْ بِالسُّؤَالِ أَشَدَّ عَقْدِ ضَنَانَةٍ
…
مِمَّنْ يَضِنُّ عَلَيْكَ بِالأَمْوَالِ
وَصُنِ الْمَحَامِدَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّهَا
…
فِي الْوَزْنِ تَرْجُحُ بَذْلَ كُلِّ نَوَالِ
وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنَ الْمُثْمِّرِ مَالَهُ
…
نَسِيَ الْمُثَمِّرُ زِينَةَ الإِقْلالِ
.. وَإِذَا امْرُؤٌ لَبِسَ الشُّكُوكَ بِعَزْمِهِ
…
سَلَكَ الطَّرِيقَ عَلَى عُقُودِ ضَلالِ
وَإِذَا ادَّعَتْ خُدَعُ الْحَوَادِث قَسْوَةً
…
شَهِدَتْ لَهُنَّ مَصَارِعُ الأَبْطَالِ
وَإِذَا ابْتُلِيتَ بِبَذْلِ وَجْهِكَ سَائِلاً
…
فَابْذُلْهُ لِلْمُتَكَرِّمِ الْمِفْضَالِ
وَإِذَا خَشِيتَ تَعَذُّراً فِي بَلْدَةٍ
…
فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِعَاجِلِ التِّرْحَالِ
وَأَصْبِرْ عَلَى غَيْرِ الزَّمَانِ فَإِنَّمَا
…
فَرَجُ الشَّدَائِدِ مِثْلُ حَلِّ عِقَالِ
انْتَهَى.
165-
قَوْلُهُ تَعَالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إِلى قَوْلِهِ تَعَالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} فَلَمْ يَزدْهُ اللهُ مَالاً وَلا وَلَداً بَعْدَ هَذَا كَمَا أَخْبَرَ، وَصَارَ فِي نُقْصَانٍ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ إِلى أَنْ مَاتَ كَافِراً، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ نُزُولِ ذَلِكَ حَيّاً سَلِيماً.
166-
وَمِنْهُمْ النَّضْرُ بنُ الْحَارِثِ بنِ كِلْدَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَكَانَ شَدِيدَ الرَّدِّ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ، وَالإرْصَادِ، وَقَدْ كَانَ رَحَلَ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى فَارِسَ، وَطَلَبَ مَا يَكِيدُ بِهِ الإِسْلامَ، فَاشْتَرَى أَخْبَارَ الْعَجَمِ، وَقَدِمَ بِهَا مَكَّةَ يُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشاً وَيَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّداً يُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَنَا أُحَدِثُكُمْ بِحَدِيثِ رُسْتُمْ وَاسْفِنْدِيَار، وَأَخْبَارِ الأَكَاسِرَةِ. فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ، وَيَتْرُكُونَ اسْتِمَاعَ كَلامَ اللهِ.
فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ.
وَقِيلَ: نَزَلَ فِيهِ أَيْضاً غَيْرُهَا وقِيلَ: إِنَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ ذَهَبَتْ بِقُحْفِ رَأْسِهِ وَحَلَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْسُورِينَ وَقَالَ: لا أَذُوقُ طَعَاماً وَلا شَرَاباً مَا دُمْتُ فِي أَيْدِيهِمْ فَمَاتَ مِن الضَّرْبَةِ وَصَارَ إِلى
النَّارِ بَعْدَ أَنْ أَذَاقَهُ اللهُ الْعَذَابَ الْمُهِينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ وَكَمَا أَخْبَرَ عز وجل.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلِزُومِ الطَّرِيقِ الَّذِي يُقَرِّبُنَا إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُوراً نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَاسْتُرْنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ عِبَادِكَ الْمُتَّقِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
167-
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {آلَم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ حِينَ غَلَبَ سَابُورُ مَلِكُ الْفُرْسِ عَلَى بِلادِ الشَّامِ، وَمَا وَالاهَا مِنْ بِلادِ الْجَزِيرَةِ، وَأَقَاصِي بِلادِ الرُّومِ، حَتَّى ألْجَأَهُ إِلى الْقَسْطِنْطِينِيَّةِ، وَحَاصَرَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ عَادَتِ الدَّوْلَةُ إِلى هِرَقَل، كَمَا بَشَّرَ الْقُرْآنُ قَبْلَ سَبْعِ سَنَوَاتٍ، مِنْ انْتِصَارِهِ عَلَى الْفُرْسِ فَوَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ. فَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ مِن الْقُرْآنِ عَلَى رِسَالَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
168-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُهُ مَا جَاءَ
عَنْ آدم ونشأته، وما وسوس به إليه إبليس، وما وقع له من الهبوط إلى الأرض، بعد أن كان في الجنة.
169-
وحدثنا عن نوح أول المرسلين وما لقيه من قومه، من أذى وسخرية، ومدة لبثه فيهم، وما أرشده الله إليه من صنع الفلك وركوبه، وانجائه، ومن مع نوح وهم أصحاب السفينة، ودعوته لابنه، وعصيان ابنه له، وجواب الله له حين ما قَالَ {إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي} وانهمار السماء بالماء، وتفجر الأرض عيوناً، وإغراق الكافرين، ونجاة المؤمنين.
170-
وأخبر القرآن عن موسى عليه السلام وما تم له عند ولادته، وما وقع له في مصر، وما حدث له في مدين، وما رآه في جبل الطور، وما كلف به من أعباء الرسالة، وما دار بينه وبين فرعون من حوار، وما جرى من السحرة، وما انتهى إليه أمر فرعون، وملائه وموسى وقومه.
171-
وأخبر القرآن عن عيسى.
172-
وأمه عليهما السلام، وما وقع لهما من الخوارق، وما صنعه لهما بنوا إسرائيل من مكائد.
173-
وأخبر عن داود.
174-
وسليمان عليهما السلام وذكر الإحسان إليهما وما آتاهما من العلم والفهم قَالَ الله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فأنعم الله على
دواد بتسخير الجبال والطير للتسبيح معه وأخبر أنه جل وعلا علمه صنعة الدروع وأخبر أنه أنعم على سليمان بتسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره وتسخير الشياطين تغوص في البحار وتعمل له أعمالاً أخرى.
175-
وأخبر عن إبراهيم خليل الرحمن، ومحاجته للملك الجبار، وهو نمرود، البابلي، المعطل، المنكر، لرب العالمين، إلى أن وقف، وانقطعت حجته، واضمحلت شبهته، وأخبر عن طلبه لربه، أن يريه كيف يحيي الموتى، وإجابة الله دعوته، وتلبية طلبته، وعن ما ابتلاه به من ذبح ابنه إسماعيل وأخبر عن ما من عليه به من العلم، والدعوة، والصبر وما أكرمه به من الذرية الصالحة، والنسل الطيب، وأنه جعل صفوة الخلق من نسله.
176-
وأخبر عن يوسف عليه السلام، وما جرى له مع أخوته ومقدار لبثه في السجن، ومراودة امرأة العزيز له، وظهور براءته، وبيان صدقه، وايثار الله له على إخوته، وما جرى لأبيه يعقوب.
177-
وأخبر عن لوط، وما قاله لقومه، توبيخاً لهم، وجوابهم السخيف له جزاء نصحه، وانجاء الله له، وأهل بيته إلا امرأته، وأخبر عن مجيء الرسل إليه، وأنه ساءه مجيئهم، وذلك لما يتوقعه من اعتداء قومه عليهم وفعلاً جاؤا يهرولون إليه، وأخبر عن ما أوقعه الله بهم من العقوبة العظيمة، جزاء فعلتهم الشنيعة، التي لم يسبقهم بها أحد
178-
وأخبر عن زكريا، وندائه لربه، وآثاره الصالحة ومناقبه
الجميلة، وتبشير الله له بغلام اسمه يحيى، وطلبه من ربه أن يجعل له آية، يطمئن بها قلبه، وليس شكاً في خبر الله، وإنما هو كما قَالَ الخليل {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وإجابة الله إلى طلبته، ومنعه من الكلام، ثلث ليالٍ سوياً.
179-
وأخبر عن يحيى عليه السلام وأن الله جعله براً بوالديه، ولا يتعالى عن قبول الحق، ووصفه بصفات كلها مناهج للخير، ووسائل الطاعة، أولها قوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} إلى أن ذكر سبحانه جزاءه، على ما قدم من عمل صالح، وأسلف من طاعة ربه.
180-
وأخبر عما أخبر الله به جل وعلا عن مريم ابنه عمران وأنه أنجب منها ولداً من غير أب، ويتقدم الكلام حولها وولدها عليهما السلام، وما لقيا من الابتلاء والامتحان، وما قابلا به ذلك.
181-
وأخبر عن يونس عليه السلام، وإباقه إلى الفلك ومساهمته لأهل الفلك، والتقام الحوت له، وإنه كان من االمسبحين، الَّذِينَ يذكرون الله كثيراً، وعن نبذه في مكان خال لا نبات فيه، وأخبر عن لطفه به ورعايته له، وعنايته به، بانبات شجرة اليقطين، وأنه أرسله {إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وأنهم آمنوا، ومتعهم الله إلى حين.
اللَّهُمَّ عاملنا بلطفك وإحسانك، ووفقنا لطاعتك ومرضاتك وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
عباد الله للعلم الديني آثار جليلة كم جل بها رجل حقير وكلما كان الرجل أعلم بالعلم الديني كان عند الله وعند العقلاء جليل مضى
السلف الصالح الَّذِينَ يطيب المجلس بذكرهم لقدرهم المنقطع النظير كأنوار رجالاً مثلنا ولكن ببركات ما وهبهم مولاهم من العلم الديني وآثاره الجليلة كانوا خير الناس بعد النبيين كانوا أغنى العالم لأنهم رضوا بقسمة مولانا الحكيم الخبير وكانوا أشجع الناس لأنهم علموا أن الأجل لا يطيله الجبن الذميم فكم من قتلة قرنت بالجبن كما قِيلَ:
كَمْ مَخْلَصٍ وَعُلاً فِي خَوْضِ مَهْلَكَةٍ
وَقَتْلَةٍ قُرِنَتْ بِالذَّمِّ فِي الْجُبُنِ
وكانوا في الحلم والعقل كالجبال الرواسي وكانوا محط رحال الجود والكرم لأنهم يعلمون أن البخيل بعيد من الله بعيد من الناس وإن الَّذِي يرضي بالبخل ويحث عليه إبليس لعنه الله وكانوا يستقبلون البلايا مهما قست بالصبر الجميل لعلمهم أنها تصرف الحكيم الخبير وكانوا يستقبلون النعم بالحمد والشكر لجزمهم أنها لله ومن الله وأنه يزيد الشاكرين ويرضي عن الحامدين وكانوا أبعد الناس عن الشر ولا يحبون أهله لعلمهم أن ذلك يغضب الله وكانوا يحبون الخير لإخوانهم المسلمين وكانوا لا يضمرون حسداً ولا شراً لأحد من إخوانهم المؤمنين لعلمهم أن الله يحيط علماً بما يسرون وما يعلنون وكانوا إذا قَالُوا أو فعلوا يتحرون ما يرضي الله تعالى فيما يقولونه ويفعلونه وكانوا لا يشهدون المنكر والزور بل ينكرون على من يحضرون وكانوا يحنون إلى مجالس الذكر حنين الإلف فارقه الإلف وهكذا كانوا إذا أرادوا أن يتحركوا أو يسكنوا باستشارة العلم الديني يتحركون ويسكنون لهذا كانوا لليوم موضع إعجاب الشرق والغرب ونالوا فوق هذا رضي رب العالمين هكذا كانوا ببركات ما وهبهم الله من العلم الديني أما نحن فقد كنا موضع إعجاب من ناحية أن هدفنا
في التعليم هو الحطام الفاني لا غير لهذا كان الواحد منا إذا رسب يكاد ينتحر ويقول فات علي سنة محصول رواتبها لا يقل عن خمسة آلاف ولو كان قصده العلم بما جهله وتوجيه عباد الله عندما ينجح كان عنده يتساوى السرعة والبطء لأجل أن يمهر في المعلومات لهذا القصد ماتت الفضائل وانتزعت بركة العلم وفقدت هيبة العالم عند كل أحد وصار كل يفتي وكل يرشح نفسه للفتيا فوراً ولكن الناس الورعين لا يطمئنون إلا إلى النوادر ممن يوثق بدينهم وأمانتهم ويتركون المرائين والمحبين للظهور والشهرة الَّذِينَ ضاعوا وضيعوا عباد الله.
وختاماً فلو أننا أحيينا طريقة سلفنا في العلم المطابق للعمل لأصبحنا وقد أحيينا عزهم وشرفهم الدفين رحمه الله على تلك الأرواح العاملة بما علمت.
شِعْرًا:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْكِ الْعُلُومَ وَأَهْلَهَا
وَقَدْ غَيَّبْتَهَا فِي التُّرَابِ لُحُودُ
فَأَنْتَ بَهِيمِيُّ الطِّبَاعِ وَإِنَّمَا
قُصَارَاكَ ثَوْبٌ نَاعِمٌ وَثَرِيدُ
سَتَبْكِي الْعُلا قَوْمًا تَسَامَوْا لِنَيْلِهَا
كَأَنَّ لَهُمْ دَمْعَ الْعُيُونِ هُجُودُ
يُعِيدُونَ مِنْهَا مَا تَعَفَّتْ رُسُومُهُ
فَتُضْحِي عَلَيْهَا لِلْفِخَارِ بُرُودُ
كَفَى غُرْبَةً لِلدِّينِ هَذَا الَّذِي نَرَى
فَلَيْسَ عَلَى ذَا الاغْتِرَابِ مَزِيدُ
أَلَمْ تَبْقَ فِي أَهْلِ الدِّيَانَةِ هِمَّةٌ
…
أَلَمْ يَبْقَ شَخْصٌ لِلطَّغَاةِ يَذُودُ
اللَّهُمَّ رضنا بفضائك وأعنا على الدنيا بالعفة والزهد والقناعة وعلى الدين بالسمع والطاعة وطهر ألسنتنا من الكذب وقلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء واحفظ أبصارنا من الخيانة فأنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ووفقنا لما وفقت له عبادك الصالحين من امتثال أو امرك واجتناب نواهيك وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ
بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
182-
وأخبر عن صالح عليه السلام، وإرساله إلى ثمود القبيلة المعروفة، الَّذِينَ يسكنون الحجر، وما حوله، وأنه دعاهم إلى التوحيد، ونهاهم عن الشرك وأنه جاءهم بآية، خارقة من خوارق العادات وهي ناقة شريفة، فاضلة.
وأخبر أنه بوأهم في الأرض ومكن لهم فيها وسهل لهم الأسباب الموصلة إلى ما يريدون وأمدهم بالقوة وأنهم قابلوا إخلاص صالح ونصحه بعقر الناقة، والتحدي بالعذاب، وآخر الأمر {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * َأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} ‘ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
183-
وأخبر عن هود عليه السلام وإرساله إلى عاد الأولى في أرض اليمن يدعوهم إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، وأنهم قابلوا دعوته برميه بالسفاهة، والكذب، واستنكروا التوحيد، واحتجوا عليه بما لا يصلح عقلاً ولا شرعاً أن يكون حجة من تقليد الآباء والأجداد وتحدوه
بإتيانه بالوعيد، وأجابهم هود علة مقالتهم، وآخر الأمر أنجى الله هوداً والَّذِينَ آمنوا معه، وقطع دابر المكذبين بآيات الله.
184-
وأخبر عن شعيب عليه السلام وإرساله إلى مدين وأن لا يبخسوا الناس أشيائهم وأن لا يعثوا في الأرض مفسدين وأن أشرافهم والكبراء منهم قابلوا ذلك بالتهديد باستعمال القوة السبعية ولم يراعوا ديناً، ور ذمةً، ولا حقّاً، بل لتبعوا عقولهم السخيفة، وآخر الأمر أخذتهم الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
185-
وأخبر عن أصحاب الكهف، وأنهم فتية آمنوا بربهم، وأن الله لطف بهم حيث وقفهم للإيمان، وأنهم اعتزلوا قومهم، وآووا إلى الكهف، وبين حالهم بعد أن آووا إلى الكهف وهو أن الشمس تميل عن كهفهم جهة اليمين، وعند الغروب تقرضهم ذات الشمال، فلا تصيبهم الشمس في طلوعها، ولا غروبها، وبين أن هدايتهم، كانت بعناية الله إلى آخر قصتهم.
186-
وأخبر عن أيوب عليه السلام ما أصابه الشيطان به، ونداءه لربه واستجابة الله له، وكشف ما به من ضر، وإعطائه أهله، ومثلهم معهم.
187-
وأخبر عن إسماعيل عليه السلام، وأنه كان صادق الوعد وأنه من وفائه بالوعد لما وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه له، قَالَ ستجدني إن شاء الله صابراً وفي بذلك، ومكن أباه من الذبح، الَّذِي هو أعظم مصيبة تصيب الإنسان، وأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة الخ.
188-
وأخبر عن إدريس عليه السلام وأن الله وصفه بصفات الكمال حيث جمع له بين الصديقية وبين اصطفائه لوحيه وأنه رفعه مكاناً عالياً.
189-
وأخبر عن إسحاق عليه السلام، وأنه ممن اختارهم الله واصطفاهم، وشرفهم بطاعته، وقواهم على العمل لما يرضيه، وآتاهم البصيرة في الدين قَالَ الله تعالى {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} .
190-
وأخبر عن ذي القرنين، وأنه بلغ المشارق والمغارب، وأن الله أعطاه من كل شيء سببا، وأخبر أنه لما بلغ بين السدين، وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفهمون كلام أتباعه ولا كلام غيرهم، وأنهم أخبروه، عن إفساد يأجوج ومأجوج، وأنهم أرادوا أن يجمعوا له ويجعلوا له خرجاً على أن يسد بينهم وبين يأجوج ومأجوج وأنه قَالَ ما أنا فيه خير مِمَّا تبذلونه وأجابهم إلى طلبهم وهو السد على يأجوج ومأجوج بأن يجعل ردماً. بينهم وبين يأجوج وماجوج.
191-
وأخبر عن لقمان وأن الله آتاه الحكمة، وأخبر عن موعظته لابنه، المتضمنة للتحذير من الشرك، والأمر بالإخلاص لله وحده وذكر جل وعلا أمره له بالشكر، وأن شكر الشاكر يعود نفعه عليه، وإن من كفر فالله غني حميد فلا يضر الكفر إلا صاحبه، وأن من وصايا لقمان لابنه الأمر بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والصبر على ما يصيبه، وأن تلك
الوصايا من الأمور المهمة التي يعزم عليها، ويتحتم على العباد فعلها، ولا محيص منها، ثم حذره من أشياء أخر أولها الكبر إلخ
192-
وأخبر عن الخضر، وما اختص به من العلم، وما جرى بينه وبين موسى، عندما اتصل به، وما جرى لموسى وفتاه، في سفره إلى الخضر، وما تزوداه في السفر، إلى آخر القصة.
اللَّهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقِيلَ عثرات العاثرين، نسالك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
193-
وأخبر عن أهل القرية، إذ جاءها المرسلون، وما جرى من أهل القرية، من التكذيب للرسل، وما قاله الرسل، وأن أهل القرية حينما توعدوا الرسل وهموا بقتلهم جاء رجل يسعى من أطراف المدينة، لينصح قومه، ويحضهم على اتباع الرسل، ويذب عن الرسل، وأنه أبان لهم أنه ما اختار لهم إلا ما اختار لنفسه، وهذا يشبه مؤمن آل فرعون الَّذِي دافع عن موسى عليه السلام، وأخبر عن ما حل بأهل القرية، من النكال والعقوبة.
194-
وأخبر عن سبأ، وما أمدهم به من البساتين، والمياه العظيمة والثمار التي بها يتنعمون، ويحصل لهم بها الغبطة، والسرور، وأنهم ظلموا أنفسهم، وكفروا بالله، وبنعمته، فأرسل الله عليهم سيل العرم، وذهب بالبساتين، وأهلك الحرث والنسل، وبدلوا بتلك الجنان، والبساتين الحسنة، بستانين ليس فيهما إلا أشجار تافهة، لا يؤبه لها وَمَا ظْلِمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
195-
وأخبر عن قارون وما أوتيه من كنوز، وأن مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة، وأنه بغى على موسى وقومه، وأن قومه نصحوه، بعدة نصائح، وأنه قابلها بالإباء، وكفران النعمة، وأنه خرج مرة على قومه في زينته، وأخبر عن ما قَالَ له مريدوا الحياة الدنيا، وما قَالَ لهم أولو العلم وذكر مال بطره وأشره، وما حل به من الوبال، والنكال، وهو الخسف به وبداره.
وَقَالَ الله تعالى لنبيه ورَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} وَقَالَ {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وَقَالَ {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وَقَالَ تعالى {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
وَقَالَ تعالى {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ} الآية.
وَقَالَ تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} وَقَالَ {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها عن مشاهدة ولكن أعلمه إياها الَّذِي أحاط بكل شيء علماً الَّذِي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وَقَالَ تعالى: {َلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} وأخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بأمور غيبية غير ما ذكرنا أعلمه الله بها وفي بعض ما
ذكرنا كفاية تامة لمن أحب أن يقرأها ويتأملها ليقوى إيمانه بالله ورسله وبما أخبروا به صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
اللَّهُمَّ بارك في أعمارنا وأصلح أعمالنا ونياتنا وذرياتنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم من آياته وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته وأمته من آياته وكرامات صالحي أمته من آياته.
وذلك يظهر بتدبر سيرته من ولد إلى أن بعث ومن حين بعث إلى أن مات وبتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسباً من صميم سلالة إبراهيم الَّذِي جعل الله في ذرته النبوة والكتاب.
فلم يأت نبي من بعد إبراهيم إلا من ذريته وجعل له ابنين إسماعيل وإسحاق وذكر في التوراة هذا وهذا وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل.
ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولاً منهم ثم هو من قريش صفوة بني إبراهيم من بني هاشم صفوة قريش.
ومن مكة أم القرى وبلده البيت الذب بناه إبراهيم ودعا الناس إلى حجه ولم يزل محجوجاً من عهد إبراهيم مذكوراً في كتب الأنبياء بأحسن وصف وكان من أكمل الناس تربية ونشأة لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم.
مشهوداً له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة وممن آمن به وكفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه ولا جربت عليه كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة.
وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله وكان أمياً من قوم أميين لا يعرف لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب (التوراة والإنجيل) .
ولم يقرأ شيئاً من علوم الناس ولا جالس أهلها ولم يدع بنبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره.
وأخبر بأمر لم يكن في بلده ولا في قومه من يعرف مثله ولم يعرف قبله ولا بعده لا في مصر من الأمصار ولا في عصر من الأعصار من أتى بمثل ما أتى بمثل ما أتى به ولا من ظهر كظهوره.
ولا من أتى من العجائب والآيات بمثل ما أتى به ولا من دعا إلى شريعة أكمل من شريعته، ولا من ظهر دينه على الأديان كلها بالعلم والحجة وباليد والقوة كظهوره.
ثم إنه اتبعه الأنبياء وهم الضعفاء من الناس وكذبه أهل الرئاسة وعادوه وسعوا في هلاكه من تبعه بكل طريق كما كان الكفار يفعلون مع الأنبياء وأتباعهم.
والَّذِينَ اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم
ولا جهات يوليهم إياها ولا كان له سيف بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه وقد آذوا أبتاعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم حلاوة الإيمان والمعروفة.
وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة ويدعوهم إلى الله صابراً على ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم وعرفوه.
فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الَّذِي تخبرهم به اليهود وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عروا به مكانته فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم وعلى الجهاد معه فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظاهر ثم حسن إسلام بعضهم ثم أذن له في الجهاد ثم أمر به.
ولم يزل قائماً بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء لا يحفظ عليه كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأبرهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة.
وهو على ذلك كله ملازم لأكمل الطرق وأتمها حتَّى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ومن أخبار الكهان
وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق وسفك الدماء المحرمة وقطعة الأرحام لا يعرفون آخرة ولا معاذاً.
فصار أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق مابين الأمرين وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلف درهماً ولا ديناراً ولا متاعاً ولا دابة إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسقاً من شعير ابتاعها لأهله.
وكان بيدِهِ عقار ينفق منه على أهله والباقي يصرفه في مصالح المسلمين فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته منه شيئاً وهو في كل وقت يظهر على يديه من الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه.
ويخبرهم بما كان وما يكون ويأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويشرع الشريعة شيئاً بعد شيء.
أكمل الله دينه الَّذِي بعث به وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه.
لم يأمر بشي فقِيلَ ليته لم يأمر به ولا نهى عن شيء فقِيلَ ليته لم ينه عنه وأحل الطيبات لم يحرم شيئاً منها كما حرم في شرع غيره وحرم الخبائث لم يحل منها شيئاً كما استحله غيره.
وجمع محاسن ما عليه الأمم فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور
نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه وأخبر بأشياء ليست في هذه الكتب.
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم وصبرهم على المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهاداً وأشجع قلوباً وهذه الفضائل به نالوها ومنه تعلموها وهو الَّذِي أمرهم بها والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وسلم
«فصل» وَقَالَ آخر: غير شيخ الإسلام
اعلم أن من شاهد أحواله وَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلى ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلى طاعته.
مع ما يحكي من عجائب أجوبته في مضائق الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع التي يعجز الفقهاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم لم يبق له ريب ولا شك في أن ذلك لم يكن مكتسبا بحيلة تقوم بها القوة البشرية.
بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية وأن ذلك كله لا يتصور لكذاب ولا ملبس بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه حتَّى إن العربي القُحَّ كان يراه فيقول: والله ما هذا وجه كذاب.
فكان يشهد له بالصدق بمجرد رؤيته لشمائله فكيف من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جميع مصادره وموارده أهـ.
لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ
…
كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ بِالْخَبَرِ
اللَّهُمَّ يا من خلق الإنسان ويناه واللسان وآجراه، يا من لا يخيب من دعاه، هب لكل منا ما رجاه، وبلغه من الدارين مناه، اللَّهُمَّ اغفر لنا جميع الزلات، واستر علينا كل الخطيئات وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، وانفعنا وجميع المسلمين بما أنزلته من الكلمات يا أرحم الرحمين اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حبِكَ وسهل علينا طاعتك وفرغنا للتفكر في مخلوقاتك واجعل لنا رضاك موئلا وعاقبة وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
إِلَى اللهِ نَشْكُوا قَسْوَةً وَتَوَحّدَا
وَنَرْجُوهُ غُفْرَانًا فَرَبُّكَ أَوْحَدُ
وَدُونَكَ مِنِّي النُّصْحَ يَا ذَا الْمُوَحَّدُ
قُمِ اللَّيْلَ يَا هَذَا لَعَلَّكَ تَرْشُدُ
إِلَى كَمْ تَنَامُ اللَّيْلَ وَالْعُمْرُ يَنْفَدُ
تَيَقَّظْ وَتُبْ فَاللهُ لِلْخَلْقِ رَاحِمٌ
وَإِنِّي لِنَفْسِي نَاصِحٌ وَمُلازِمُ
فَقُمْ لا تَنَمْ فَالشَّهْمُ بِاللَّيْلِ قَائِمٌ
أَرَاكَ بِطُولِ اللَّيْلِ وَيْحَكَ نَائِمُ
وَغَيْرُكَ فِي مِحْرَابِهِ يَتَهَجَّدُ
لَقَدْ فَازَ أَقْوَامٌ وَنَحْنُ نُشَاهِدُ
أَمَا تَسْتَحِي أَوْ تَرْعَوِي أَوْ تُجَاهِدُ
فَلَيْسَ سَوَاءٌ قَائِمٌ ذَا وَرَاقِدُ
وَلَوْ عَلِمَ الْبَطَّالُ مَا نَالَ رَاهدُ
مِنَ الأَجْرِ وَالإِحْسَانِ مَا كَانَ يَرْقُدُ
فَكَمْ قَدْ أَكَلْنَا وَالتَّقِيُّونَ صُوَّمُ
وَنُمْنَا وَهُمْ بِاللَّيْلِ يَبْكُونَ قُوَّمُ
وَلَوْ مُفْلِسٌ يَدْرِي وَهَلْ أَيْنَ خَيَّمُوا
لَصَامَ وَقَامَ اللَّيْلَ وَالنَّاسُ نُوَّمُ
إِذَا مَا دَنَى مِنْ عَبْدِهِ الْمُتَفَرِّدُ
وَأَسْبَلَ فِي الدَّاجِي دُمُوعًا بِعَبْرَةٍ
وَتَابَ وَأَبْدَى الْخَوْفَ مِنْ كُلِّ هَيْبَةٍ
وَقَامَ وَصَلَّى خَائِفًا فِي مَحَبَّةٍ
بِحَزْمٍ وَعَزْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَرَغْبَةٍ
وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ ذُو الْعَرْشِ يُعْبَدُ
فَحَاذِرْ مِن الدُّنْيَا وَمِنْ لَدْغِ صِلِّهَا
فَلَيْسَ لَهَا عَهْدٌ يَفِي لَوْ لِخِلِّهَا
فَسَافِرْ وَطَلِّقَهَا ثَلاثًا وَخَلِّهَا
وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَدُومُ لأَهْلِهَا
لَكَانَ رَسُولُ اللهِ فِيهَا مُخَلَّدُ
أَلَمْ يَأْنِ أَنْ نَخْشَعْ وَأَيْنَ التَّهَجُّدُ
أَفِي سِنَةٍ كُنَّا أَمِ الْقَلْبُ جَلْمَدُ
تَيَقَّظْ أَخِي وَاحْذَرْ وَإِيَّاكَ تَرْفُدُ
أَتَرْقُدُ يَا مَغْرُورُ وَالنَّارُ تُوقَدُ
فَلا حَرُّهَا يَطْفَى وَلا الْجَمْرُ يَخْمُدُ
أَمَا لَوْ عَلِمْنَاهَا نَهَضْنَا إِذَا شَظَى
نَعُجُّ وَبَعْضُ الْقَوْمِ لِلْبَعْضِ أَيْقَظَا
وَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنًا بِتِذْكَارِنَا اللَّظَى
أَلا إِنَّهَا نَارٌ يُقَالُ لَهَا لَظَى
فَتَخْمُدُ أَحْيَانًا وَأَحْيَان تُوقَدُ
عَلَى الْخَمْسِ تَوْدِيعًا بِجِدٍّ فَصَلِّهَا
وَحَافِظْ عَلَى تِلْكَ النَّوَافِلِ كُلِّهَا
وَتُبْ عَنْ ذُنُوبٍ لا تَذِلُّ بِذُلِّهَا
فَيَا رَاكِبَ الْعِصْيَانِ وَيْحَكَ خَلِّهَا
سَتُحْشَرُ عَطْشَانًا وَوَجْهَكَ أَسْوَدُ
أَلا إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي عِلْمِ غَيْبِهِ
لَهُمْ كُلُّ خَيْرٍ مِنْ إِلَهِي بِقُرْبِهِ
سَمَوْ بِالْهُدَى وَالنَّاسُ مِنْ فَوْقِ تُرْبِهِ
فَكَمْ بَيْنَ مَسْرُورٍ بِطَاعَةِ رَبِّهِ
وَآخَرُ بِالذَّنْبِ الثَّقِيلِ مُقَيَّدُ
إِذَا كُوِّرَتْ شَمْسُ الْعِبَادِ وَأَنْجُم
وَقُرِبَتِ النَّارُ الْعَظِيمَةُ تُضْرَمُ
وَكُبْكِبَ هَذَا ثُمَّ هَذَا مُسَلَّمٌ
فَهَذَا سَعِيد فِي الْجِنَانِ مُنَعَّمُ
وَهَذَا شَقِيٌّ فِي الْجَحِيمِ مُخَلَّدُ
وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ رَبِّنَا مَضَى
وَلا بُدَّ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْحَشْرِ يُمْتَضَى
إِلَهِي أَنِلْنِي الْعَفْوَ مِنْكَ مَعَ الرِّضَى
إِذَا نُصِبَ الْمِيزَانُ لِلْفَصْلِ وَالْقَضَى
وَقَدْ قَامَ خَيْرُ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدُ
نَبِيَّ الْهُدَى الْمَعْصُوم عَنْ كُلِّ زَلَّةِ
شَفِيعَ الْوَرَى أكْرم بِهَا مِنْ فَضِيلَة
وَمِلَّتَهُ يَا صَاحِبِي خَيْرُ مِلَّةٍ
عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ فِي كُلِّ لَيْلَة
مَعِ الآلِ وَالأَصْحَابِ مَا دَارَ فرقد
اللَّهُمَّ ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة
وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ الماوردي رحمه الله في ذكر خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم وفضائله وشرف أخلاقه وشمائله المؤيدة لنبوته والمبرهنة على عموم رسالته:
فالكمال المعتبر في البشر يكون من أربعة أوجه: كمال الخلق وكمال الخلق وفضائل الأقوال وفضائل الأعمال.
فأما الوجه في كمال خلقه بعد اعتدال صورته فيكون بأربعة أوصاف أحدها: السكينة الباعثة على الهيبة والتعظيم الداعية إلى التقديم والتسليم.
وكان أعظم مهيب في النفوس حتَّى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع ارتياعهم بصولة الأكاسرة ومكاثرة الملوك الجبابرة.
فكان صلى الله عليه وسلم في نفوسهم أهيب وفي أعينهم أعظم وإن لم يتعاظم بأهبة ولم يتطاول بسطوة بل كان بالتواضع موصوفاً وبالوطأة – أي السهولة – معروفاً.
والثاني: في الطلاقة الموجبة للإخلاص والمحبة الباعثة على المصافاة والمودة.
وقد كان صلوات الله عليه محبوباً استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتَّى لم يقله مصاحب ولم يتباعد منه مقارب وكان أحب إلى أصحابه من الآباء والأبناء وشرب الماء البارد على الظمأ.
والثالث " حسن القبول الجالب لممايلة القلوب حتَّى تسرع إلى طاعته وتذعن بموافقته وقد كان قبول منظره صلى الله عليه وسلم مستولياً على القلوب ولذلك استحكمت مصاحبته في النفوس حتَّى لم ينفر منه معاندٌ ولا استوحش منه مباعد إلا من ساقه الحسد إلى شقوته وقاده الحرمان إلى مخالفته.
والرابع: ميل النفوس إلى متابعته وانقيادها لموفقته وثباته على شدائده ومصابرته، فما شذ عنه معها من أخلص ولا ند عنه فيها من تخصص.
وهذه الأربعة من دواعي السعادة وقوانين الرسالة وقد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها واستحق ما يقتضيها.
وأما الوجه الثاني في كمال أخلاقه فيكون بست خصال:
(إحداهن) : رجاحة عقله وصحة وهمه وصد فراسته وقد دل على وفور ذلك فيه صحة رأيه وصواب تدبيره وحسن تألفه.
وأنه ما استغفل في مكيدة ولا استعجز في شديدة بل كان يلحظ الأعجاز في المبادئ فيكشف عيوبها ويحل خطوبها وهذا لا ينتظم إلا بأصدق وهم وأوضح جزم.
والخصلة الثانية: ثباته في الشدائد وهو مطلوب وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهد الصياصي وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي ويثبت ثبات المستولي.
والخصلة الثالثة: زهده في الدنيا وإعراضه عنها وقناعته بالبلاغ منها فلم يمل إلى غضارتها ولم يله لحلاوتها وقد ملك من أقصى الحجاز إلى عذار العراق ومن أقصى اليمن إلى شحر عمان.
وهو أزهد الناس فيما يفتني ويدخر وأعرضهم عما يستفاد ويحتكر لم يخلف عيناً ولا ديناً ولا حفر نهراً ولا شيد قصراً ولم يورث ولده وأهله متاعاً ولا مالاً ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها فيكونوا على مثل حاله في الزهد فيها.
وحقيق بمن كان في الدنيا بهذه الزهادة حتَّى اجتذب أصحابه إليها أن لا يتهم بطلبها ويكذب على الله تعالى في ادعاء الآخرة ويقنع في العاجل
وقد سلب الآجل بالميسور النزر ورضي بالعيش الكدر.
والخصلة الرابعة: تواضعه للناس وهم أتباع وخفض جناحه لهم وهو مطاع يمشي في الأسواق ويجلس على التراب ويمتزج بأصحابه وجلسائه فلا يتميز عنهم إلا بإطراقه وحيائه، فصار بالتواضع متميزاً، وبالتذلل متغززاً.
ولقد دخل عليه بعض الأعراب فارتاع من هيبته فَقَالَ خفض عَلَيْكَ فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة وهذا من شرف أخلاقه وكريم شيمه فهي غريزة فطر عليها وجبلة طبع بها لم تنذر فتعد ولم تحصر فتجد.
والخصلة الخامسة: حلمه ووقاره عن طيش يهزه أو خرق يستفزه فقد كان أحلم في النفار من كل حليم وأسلم في الخصام من كل سليم.
وقد مني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرة ولم يحفظ عليه بادرة ولا حليم غيره إلا ذو عثرة ولا وقور سواه إلا ذو هفوة فإن الله تعالى عصمه من نزع الهوى وطيش القدرة لهفوة أو عثرة ليكون بأمته رؤوفاً وعلى الخلق عطوفا قد تناولته قريش بكل كبيرة وقصدته بكل جريرة وهو صبور عليهم ومعرض عنهم.
وما تفرد بذلك سفهاؤهم عن حلمائهم ولا أراذلهم دون عظمائهم بل تمالا عليه الجلة والدون، فكلما كانوا عليه من الأمر – ألح كان عنهم أعرض وأصفح حتَّى قهر فعفا، وقدر فغفر.
(وَقَالَ لهم) حين ظفر بهم عام الفتح وقد اجتمعوا إليه ما ظنكم بي قَالُوا ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بِكَ وإن تنقم فقد أسأنا فَقَالَ بل أقول كما قَالَ يوسف لإخوته {لَا تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
وَقَالَ اللَّهُمَّ قد أذقت أول قريش نكالاً فأذق آخرهم توالاً وأتته هند بنت عتبة وقد بقرت بطن عمه حمزة ولاكت كبده فصفح عنها وأعطاها يده لبيعتها.
فإن قِيلَ فقد ضرب رقاب بني قريظة صبراً في يوم واحد وهم نحو سبعمائة فأين موضع العفو والصفح قيل إنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى.
وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل ومن لم تجر عليه استرق فَقَالَ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم: هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة، فلم يجز أن يعفو عن حق وجبَ لله تعالى وإنما يختص عفوه بحق نفسه.
والخصلة السادسة: حفظه للعهد ووفاؤه بالوعد فإنه ما نقض لمحافظ عهداً ولا أخلف لمراقب وعداً يرى الغدر من كبائر الذنوب والإخلاف من مساويء الشيم فيلتزم فيها الأغلظ ويرتكب فيهما الأصعب حفظاً لعهده ووفاء بوعده حتَّى يبتدئ معاهدوه بنقضه فيجعل الله تعالى له مخرجاً كفعل اليهود من بني قريظة وبني النضير وكفعل قريش بصلح الحديبية فيجعل الله تعالى له في نكثهم الخيرة.
فهذه ست خصال تكاملت في خلقه، فضله الله تعالى على جميع خلقه والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى نِبِيّنا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) وأما الوجه الثالث في فضائل أقواله فمعتبر بثمان خصال:
(إحداهن) : ما أوتي من الحكمة البالغة، وأعطى من العلوم الجمة
الباهرة، وهو أمي من أمه أمية لم يقرأ كتاباً ولا درس علماً ولا صحب عالماً ولا معلماً فأتى بما بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما أبان وإحكام ما أظهر فلم يعثر فيه بزلل في قول أو عمل.
وقد شرع من تقدم من حكماء الفلاسفة سنناً حملوا الناس على التدين بها حين علموا أنه «لا صلاح للعالم إلا بدين ينقادون له ويعملون به» فما راق لها أثر ولا فاق لها خبر.
والخصلة الثانية: حفظه لما أطلعه الله تعالى عليه من قصص الأنبياء مع الأمم وأخبار العالم في الزمن الأقدم حتَّى لم يعزب عنه منها صغير ولا كبير ولا شذ عنه منها قليل ولا كثير.
وهو لا يضبطها بكتاب يدرسه ولا يحفظها بعين تحرسه وما ذاك إلا من ذهن صحيح وصدر فسيح وقلب شريح وهذه الثلاثة آلة ما أستودع من الرسالة وحمل من أعباء النبوة فجدير أن يكون بها مبعوثاً وعلى القيام بها محثوثاً
والخصلة الثالثة: إحكامه لما شرع بأظهر دليل وبيانه بأوضح تعليل حتَّى لم يخرج منه ما يوجبه معقول ولا دخل فيه ما تدفعه العقول.
ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً» لأنه نبه بالقليل على الكثير فكف عن الإطالة وكشف عن الجهالة وما تيسر ذلك إلا وهو عليه معان وإليه مقاد.
والخصلة الرابعة: ما أمر به من محاسن الأخلاق ودعا إليه من مستحسن الآداب وحث عليه من صلة الأرحام وندب إليه من التعطف على الضعفاء والأيتام.
ثم ما نهى عنه من التباغض والتحاسد وكف عنه من التقاطع والتباعد لتكون الفضائل فيهم أكثر ومحاسن الأخلاق بينهم أنشر، ومستحسن الآداب عليهم أظهر وتكون إلى الخير أسرع ومن الشر أمنع.
فيتحقق فيهم قول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} فلزموا أمره واتقوا زواجره فتكامل بهم صلاح دينهم ودنياهم عز بهم الإسلام بعد ضعفه وذل بهم الشرك بعد عزه فصاروا أئمة أبراراً وقادة أخباراً.
والخصلة الخامسة: وضوح جوابه إذا سئل وظهور حجاجه إذا جادل لا يحصره عي ولا يقطعه عجز ولا يعارضه خصم في جدال إلا كان جوابه أوضح وحجابه أرجح.
والخصلة السادسة: أنه محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خير يكون إلى الكذب منسوبا وللصديق مجانبا فإنه لم يزل مشهوراً بالصدق في خبره فاشياً وكثيراً حتَّى صار بالصدق مرقوماً والأمانة مرسوماً.
وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه فمنهم من كذبه حسداً ومنهم من كذَّبه عناداً ومنهم من كذبه استبعاداً أن يكون نبياً أو رسولاً.
ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلاً على تكذيبه في الرسالة، ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم ومن عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم وحسبِكَ بهذا دفعاً لجاحد ورداً لمعاند اللَّهُمَّ قابل سيئاتنا بإحسانك، واستر خطيئتنا بغفرانك وأذهب ظلمة ظلمنا بنور رضوانك، واقهر عدونا بعز سلطانك، فما تعودنا منك
إلا الجميل، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) والخصلة السابعة: تحرير كلامه في التوخي به إبان حاجته والاقتصار منه على قدر كفايته فلا يسترسل فيه هذرًا ولا يحجم عنه حصراً وهو فيما عدا حالتي الحاجة والكفاية أجمل الناس صمتًا وأحسنهم سمتاً.
ولذلك حفظ كلامه حتَّى لم يختل وظهر رونقه حتَّى لم يعتل واستعذبته الأفواه حتَّى بقي محفوظاً في القلوب مدوناً في الكتب فلن يسلم الإكثار من الزلل ولا الهذر من الملل.
والخصلة الثامنة: أنه أفصح الناس لساناً وأوضحهم بياناً وأوجزهم كلاماً وأجزلهم ألفاظاً وأصحهم معاني لا يظهر فيه هجنة التكلف ولا يتخلله فيهقة التعسف.
وقد دون كثير من جوامع كلمه ومن كلامه الَّذِي لا يشاكل في فصاحته وبلاغته ومع ذلك ف يأتي عليه إحصاء ولا يبلغه استقصاء.
ولو مزج كلامه بغيره لتميز بأسلوبه ولظهر فيه آثار التنافر فلم يلتبس حقه من باطله ولبان صدقه من كذبه هذا ولم يكن متعاطياً للبلاغة ولا مخالطاً لأهلها من خطباء أو شعراء أو فصحاء وإنما هو من غرائر طبعه وبداية جبلته وما ذاك إلا لغاية تراد وحادثة تشاد.
وأما الوجه الرابع في فضائل أفعاله فمختبر بثمان خصال:
(أحداهن) حسن سيراته وصحة سياسته في دين نقل به الأمة عن مألوف وصرفهم به عن معروف أغلى غير معروف فأذعنت به النفوس طوعاً وانقادت خوفاً وطمعاً وشديد عادة منتزعة إلا لمن كان مع التأبيد الإلهي معاناً بحزم صائب وعزم ثاقب.
وحسبِكَ بما استقرت قواعده على الأبد حتَّى انتقل عن سلف إلى خلف يزداد فيهم حلاوته ويشتد فيهم جدته ويرونه نظاماً لإعصار تنقلب صروفها ويختلف مألوفها أن يكون لمن قام به برهاناً ولمن ارتاب به بياناً.
والخصلة الثانية: أن جمع بين رغبة من استمال ورهبة من استطاع حتَّى اجتمع الفريقان على نصرته وقاموا بحقوق دعوته رغباً في عاجل وآجل ورهباً من زائل ونازل، لاختلاف الشيم والطباع في الانقياد الَّذِي لا ينتظم بأحدهما ولا يستديم إلا فلذلك صار الدين بهما مستقراً والصلاح بهما مستمراً.
والخصلة الثالثة: أنه عدل فيما شرعه من الدين عن الغلو والتقصير إلة التوسط وخير الأمور أوساطها وليس لما جاوز العدل حظ من رشد ولا نصيب من سداد.
والخصلة الرابعة: أنه لم يمل بأصحابه إلى الدنيا ولا إلى رفضها وأمدهم فيها بالاعتداك، وَقَالَ:«خيركم من لم يترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه» وهذا صحيح لأن الانقطاع على أحدهما اختلال والجمع بينهما اعتدال.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «نعم المطية الدنيا فارتحلوها تبلغكم الآخرة» وإنما كان كذلك لأن منها يتزود لآخرته. ويستكثر فيها من طاعته وأنه لا يخلو تاركها من أن يكون محروماً مضاعاً أو مرحوماً مراعى وهو في الأول كل وفي مستدل.
اللَّهُمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك، اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابِكَ يوم تبعث عبادك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) والخصلة الخامسة: تصديه لمعالم الدين ونوازل الأحكام حتَّى أوضح للأمة ما كلفوه من العبادات وبين لهم ما يحل وما يحرم من مباحاث ومخظورات وفصل لهم ما يجوز ويمتنع من عقود ومناكح ومعاملات.
حتَّى احتاج أهل الكتاب في كثير من معاملاتهم ومواريثهم لشرعه ولم يحتج شرعه إلى شرع غيره ثم مهد لشرعته أصولا تدل على الحوادث المغفلة ويستنبط لها الأحكام المعللة فأغنى عن نص ارتفاعه وعن التباس بعد إغفاله ثم أمر الشاهد أن يبلغ الغائب ليعلم بإنذاره ويحتج بإظهاره فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «بلغوا عني ولا تكذبوا علي فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى منه هو أفقه منه» .
فأحكم ما شرع من نص أو تنبيه وعم بما أمر من حاضر وبعيد حتَّى صار لما تحمله من الشرع مؤدياً ولما تقلده من حقوق الأمة موفيًا لئلاً يكون في حقوق الله زلل وذلك في برهه من زمانه لم يستوف تطاول الاستيعاب حتَّى أوجز وأنجز وما ذاك إلا بديع معجز.
والخصلة السادسة: انتصابه لجهاد الأعداد وقد أحاطوا بجهاته وأحدقوا بجنباته وهو في قطب مهجور، وعدد محقور فزاد به من قل وعز به من ذل وصار بإثخانه في الأعداء محذورًا وبالرعب منه منصوراً فجمع بين التصدي لشرع الدين حتَّى ظهر وانتشر وبين الانتصاب لجهاد العدو حتَّى قهر وانتصر والجمع بينهما معوز إلا لمن أمده الله بمعونته وأيده بلطفه والمعوز معجز.
والخصلة السابعة: ما خُصَّ به من الشجاعة في حروبه والنجدة في
مصابرة عدوة فإنه لم يشهد حرباً في فزاع إلا صابر حتَّى انجلت عن ظفر أو دفاع وهو في موقفه لم يزل عنه هرباً ولا حاز فيه رغباً.
بل ثبت بقلب آمن وجأش ساكن قد ولى عنه أصحابه يوم حنين حتَّى بقي بازاء جمع كثير وجم غفير في تسعةٍ من أهل بيته وأصحابه على بغلة مسبوقة إن طلبت غير مستعدة لهرب ولا طلب وهو ينادي أصحابه ويظهر نفسه ويقول إلى عباد الله «أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب» فعادوا أشدادا وأرسالا وهوازن تراه وتحجم عنه فما هاب حرب من كاثرة ولا انكفأ عن مصاولة من صابره والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلّم.
(فصل) وقد عضده الله تعالى بأنجاد وأنجاد فانحازوا وصبر حتَّى أمده الله بنصره وما لهذه الشجاعة من عديل ولقد طرق المدينة فزع فانطلق الناس فتلقوه نحو الصوت فوجدوا رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه فتلقوه عائداً على فرس عري لأبي طلحة الأنصاري وعليه السيف فجعل يقول أيها الناس لم تراعوا لم تراعوا ثم قَالَ لأبي طلحة إنا وجدنا بحراً وكان الفرس يبطئ فما فرس بعد ذلك.
وما ذاك إلا عن ثقة من أن الله تعالى سينصره وأن دينه سيظهره تحقيقاً لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وتصديقاً لقول رَسُولِه اللهُ صلى الله عليه وسلم «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» وكفى بهذا قياماً بحفه وشاهداً على صدقه.
والخصلة الثامنة: ما منح من السخاء والجود حتَّى جاد بكل موجودٍ
وآثر بكل مطلوب ومحبوب ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير لطعام أهله.
وقد ملك جزيرة العرب فيها ملوك وأفيال لهم خزائن وأموال يقتنونها ذخراً ويتباهون بها فخراً ويستمتعون بها أشراً وبطراً وقد حاز ملك جميعهم فما اقتنى ديناراً ولا درهماً لا يأكل إلا الخشن ولا يلبس إلا الخشن.
ويعطي الجزل الخطير ويصل الجم الغفير ويتجرع مرارة الإقلال ويصبر على سغب الاختلال وكان يقول «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك ديناً أو ضياعاً فعليَّ ومن ترك مالاً ترك فلورثته» فهل مثل هذا الكرم والجود كرم وجود أم هل هذا لمثل هذا الإعراض والزهادة إعراض وزهد هيهات.
هل يدرك شأو من هذه شذور من فضائله ويسير من محاسنه التي لا يحصى لها عدداً ولا يدرك لها أمداً لم تكمل في غيره فيساويه ولا كذب بها ضد يناويه ولقد جهد كل منافق ومعاند وكل زنديق وملحدٍ أن يزري عليه في قول أو فعل.
أو يظفر بهفوة في جد أو هزل فلم يجد إليه سبيلاً ود جهد جهده وجمع كيده.
فأي فضل أعظم من فضل شاهده الحسدة والأعداء فلم يجدوا فيه مغمزاً لثالب أو قادح ولا مطعناً لجارح أو فاضح فهو كما قَالَ الشاعر:
شَهِدَ الأَنَامُ بِفَضْلِهِ حَتَّى الْعِدَا
…
وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ الأَعْدَاءُ
وقول لآخر:
مَحَاسِنُ أَصْنَافِ النَّبِيِّينِ جَمَّةُ
…
وَمَا قَصَبَاتُ السَّبْقِ إِلا لأَحْمَدِ
وبالجملة فآية أخلاقه صلوات الله عليه آية كبرى وعلم من أعلام نبوته العظمى وقد أجملها بعضهم بقوله وآية أخرى لا يعرفها إلا الخاصة ومتى ذكرت الخاصة فالعامة في ذلك مثل الخاصة.
وهي الأخلاق والأفعال التي لم تجمتع لبشر قط قبله ولا تجتمع لبشر بعده وذلك أنا لم نر ولم نسمع لأحد قط كصبره ولا كحلمه ولا كوفائه ولا كزهده ولا كجوده ولا كنجدته ولا كصدق لهجته ولا ككرم عشرته ولا كتواضعه ولا كحفظه ولا كصمته إذا صمت ولا كقوله إذا قَالَ ولا كعجيب منشئه ولا كعفوه ولا كدوام طريقته وقله امتنانه.
ولم تجد شجاعاً قط إلا وقد جال جولة وَفَرَّ فَرَّةً وانحاز مرة ولا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهري أن يحدث أنه صلى الله عليه وسلم جال جولة قط ولا فَرَّ فَرَّةً قَطُ وَلا حَامَ عن غزوة ولا هاب حرباً من مكاثرة.
وذلك من أعجب ما آتاه الله نبياً قط مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات إذ أعداؤه جم غفير وجمعهم كثير فخصمهم حين جادلوه وصابرهم حين عاندوه وكابد من الشدائد ما لم يثبت عليها إلا كل معصوم ولم يسلم منها إلا منصور إلى أن علت كلمته وظهرت دعوته.
وكل هذه آيات تنذر بالحق وتلائم الصدق، لأن الله لا يهدي كيد الخائنين ولا يصلح عمل المفسدين، انتهى كلامه.
اللَّهُمَّ اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا
اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ،