الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. وَإِخْوَةً جَعَلُونِي بَعْدَ فَقْدِ أَبِي
…
أَبًا لآمَالِهِمْ رَوْضٌ وَأَزْهَارُ
أَسْتَوْدِعُ اللهَ صَحْبًا كُنْتَ أَذْخَرُهُمْ
…
لِلنَائِبَاتِ لَنَا أُنْسٌ وَأَسْمَارُ
الْمُلْتَقَى فِي جِنَا الْخُلْدِ إِنْ قُبِلَتْ
…
مِنَّا صَلاةٌ وَطَاعَاةٌ وَأَذْكَارُ
وَفَّقَنَا اللهُ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيهِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حَدَّهِ، وَالْفَكُرِ فِي أَمْثَالِهِ وَمُعْجِزهِ، وَالتَّبَصَّرُ فِي نُورِ حِكَمِهِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قِصَّةٌ لِصُهَيْبُ الرُّومِي
لانْتِسَابِ صُهَيْبٍ إِلى الرُّومِ قِصَّةٌ مَا تَزَالُ تَعِيهَا ذَاكِرَةُ التَّارِيخِ، وَتَرْوِيهَا أَسْفَارُه.
فَقَبْلَ الْبِعْثَةِ بِحَوَالِي عَقْدَيْنِ مِن الزَّمَانِ كَانَ يَتَوَلَّى مُلْكَ (الأَبُلَّةِ) سَنَّانُ بن مَالِكٍ النُّمَيْرِيُّ، مِنْ قَبْلِ كِسْرَى مَلِكَ الْفُرْسِ.
وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلادِهِ إِلَيْهِ طِفْلٌ لَمْ يُجَاوِزِ الْخَامِسَةِ مِنْ عُمُرِه، دَعَاهُ صُهَيْبًا. كَانَ صُهَيْبٌ أَزْهَرَ الْوَجْهِ، أَحْمَرَ الشَّعْرِ، مُتَدَفِّقَ النَّشَاطِ ذَا عَيْنَيْنِ تَتَّقِدَانِ فِطْنَةً وَنَجَابَةً.
وَكَانَ إِلى ذَلِكَ مِمْرَاحًا، عَذْبَ الرُّوحَ، يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِ أَبِيهِ وَيَنْتَزِعُ مِنْهُ هُمُومَ الْمُلْكِ انْتِزَاعًا.
مَضَتْ أُمُّ صُهَيْبٍ مَع ابْنِهَا الصَّغِير وَطَائِفَةٍ مِنْ حَشَمِهَا وَخَدَمِهَا إِلى قَرْيَةِ (الثَّنِيِّ) مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ وَالاسْتجمام، فأغارت على القريةِ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا جَيْشِ الرُّومِ، فَقَتَلَتْ حُرَّاسَها، وَنَهَبَتْ أَمْوَالَهَا، وَأَسَرَتْ ذَرَارِيَّهَا.
فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَتْهُمْ صُهَيْبٌ.
بِيعَ صُهَيْبٌ فِي أَسْوَاقِ الرَّقِيقِ بِبِلادِ الرُّومِ، وَجَعَلَتْ تَتَدَاوَلُهُ الأَيْدِي فَيَنْتَقِلُ
مِنْ خِدْمَةِ سَيِّدٍ إِلى آخَرَ شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ كَشَأْنِ الآلافِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ الأَرِقَّاءِ الذِينَ كَانُوا يَمْلأُونَ قُصُورَ بِلادِ الرُّومِ.
وَقَدْ أَتَاحَ ذَلِكَ لِصُهَيْبٍ أَنْ يَنْفُذَ إِلى أَعْمَاق الْمُجْتَمَعِ الرُّوِمِيِّ، وَأَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ مِنْ دَاخِلِه، فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ مَا يُعَشِّشُ فِي قُصُورِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمُوبقات وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ مَا يُرْتَكَبُ فِيهَا مِنْ الْمَظَالِمِ وَالْمَآثِمِ. فَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ وَازْدَرَاه.
وَكَانَ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ:
إِنَّ مُجْتَمَعًا كَهَذَا لا يُطَهِّرُهُ إِلا الطُّوفَانُ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ صُهَيْبًا قَدْ نَشَأَ فِي بِلادِ الرُّومِ وَشَبَّ عَلَى أَرْضِهَا وَبَيْنَ أَهْلِيهَا.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَسِيَ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ كَادَ يَنْسَاهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْ بَالِهِ قَطُّ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحْرَاءِ، وَلَمْ تَفْتُرْ أَشْوَاقُهُ لَحْظَةً إِلى الْيَوْمِ الذِي يَتَحَرَّرُ فِيهِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَيَلْحَقُ بِبَنِي قَوْمِهِ.
وَقَدْ زَادَهُ حَنِينًا إِلى بِلادِ الْعَرَبِ فَوْقَ حَنِينِهِ، أَنَّهُ سَمِعَ كَاهِنًا مِنْ كَهَنَةِ النَّصَارَى يَقُولُ لِسَيِّدٍ مِنْ أَسْيَادِهِ:
لَقَدْ أَطَلَّ زَمَانٌ يَخْرُجُ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ فِي جَزِيزَةِ الْعَرَبِ نَبِيٌّ يُصَدِّقُ رِسَالَةَ عِيسَى بن مَرْيَمَ، وَيُخْرِجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ.
ثُمَّ أُتِيحَتِ الْفُرْصَةُ لِصُهَيْبٍ فَوَلَّى هَارِبًا مِنْ رِقِّ أَسْيَادِهِ، وَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى وَمَوْئِلِ الْعَرَبِ، وَمَبْعَثِ النَّبِيِّ الْمُرْتَقِبَ.
وَلَمَّا أَلْقَى عَصَاهُ فِيهَا أَطْلَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ اسْمَ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ لِلُكْنَةِ لِسَانِهِ وَحُمْرَةِ شَعْرِهِ.
وقد حالَفَ صُهَيْبٌ سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ مَكَّةَ هُوَ عَبْدُ الله بنُ جُدْعَانٍ وَطَفِقَ يَعْمَلُ فِي التِّجَارَةِ، فَدَرَّتْ عَلَيْهِ الْخَيْرَ الْوَفِيرَ وَالْمَالَ الْكَثِيرَ.
غَيْرَ أَنَّ صُهَيْبًا لَمْ تُنْسِهِ تجارَتُهُ وَمَكَاسِبُهُ حَدِيثَ الْكَاهِنِ النَّصْرَانِي فَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ كلامُه بِخَاطِرِهِ يُسَائِلُ نَفْسَهُ فِي لَهْفَةٍ: مَتَّى يَكُونُ ذَلِكَ؟! وَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى جاءَهُ الجوابُ.
فَفِي ذَاتِ يَوْمٍ عَادَ صُهَيْبٌ إِلى مَكَّةَ مِنْ إِحْدَى رَحَلاتِهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدَ بن عَبْدِ الله قَدْ بُعِثَ وَقَامَ يَدْعُو النَّاسَ إِلى الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَيَحُضَّهُمْ عَلَى الْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
فَقَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الذِي يُلَقِّبُونَهُ بِالأَمِين؟!
فَقِيلَ لَهُ: بَلَى.
فَقَالَ: وَأَيْنَ مَكَانَهُ.
فَقِيلَ لَهُ: فِي دَارِ الأَرْقَمِ بن أَبِي الأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا
…
وَلَكِنْ حَذَارِ مَنْ أَنْ يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنْ رَأَوْكَ فَعَلُوا بِكَ
…
وَفَعَلُوَا، وَأَنْتَ رَجُلٌ غَرِيبٌ لا عَصَبِيَّةَ لَهُ تَحْمِيهِ، وَلا عَشِيرَةَ عِنْدَهُ تَنْصُرُه.
مَضَى صُهَيْبٌ إِلى دَارِ الأَرْقَمِ حِذَرًا يَتَلَّفَتُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا وَجَدَ عِنْدَ الْبَابِ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلَ، فَتَرَدَّدَ لَحْظَةً ثُمَّ دَنَا مِنْهُ وَقَالَ: مَا تُرِيدُ يَا عَمَّار؟
فَقَالَ عَمَّارٌ: بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ؟
فَقَالَ صُهَيْبٌ: أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَأَسْمَعَ مِنْهُ مَا يَقُولُ. فَقَالَ عَمَّارٌ: وَأَنَا أُرِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا.
فَقَال صُهَيْبٌ: إِذَنْ نَدْخُلُ مَعًا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.
دَخَلَ صُهَيْبُ بن سَنَّانٍ الرُّومِيُّ وَعَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ عَلَى رَسُولِ الله ? وَاسْتَمَعا إِلى مَا يَقُولُ، فَأَشْرَقَ نُورُ الإِيمَانِ فِي صَدْرَيْهِمَا، وَتَسَابَقَا فِي مَدِّ أَيْدِيهِمَا إِلَيْهِ، وَشَهِدَا أَنْ لا إِلهَ إِلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، وَأَمْضَيَا سَحَابَةَ يَوْمِهِمَا عِنْدَهُ، يَنْهَلانِ مِنْ هَدْيِهِ وَيَنْعُمَانِ بِصُحْبَتِهِ.
ولما أَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَهَدَأَتَ الْحَرَكَةُ، خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ تَحْتَ جُنْحِ الظَّلامِ، وَقَدْ حَمَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِن النُّورِ فِي صَدْرِهِ مَا يَكْفِي لإِضَاءَةِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا.
تحمَّلَ صُهَيْبٌ نَصِيبَهُ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ مَعَ بِلالٍ وَعَمَّارٍ وَسُمَّيَةَ وَخَبَّابٍ وَغَيْرِهم مِنْ عَشَرَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَاسَى مِنْ نَكَالِ قُرَيْشٍ مَا لَوْ نَزَلَ بِجَبَلِ لِهَدَّه، فَتَحَمَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ صَابِرَةٍ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ طَرِيقَ الْجَنَّةِ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِه.
ولما أَذِنَ الرسولُ لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلى الْمَدِينَةِ، عَزَمَ صُهَيْبٌ عَلَى أَنْ يَمْضِيَ فِي صُحْبَةِ الرَّسُولِ وَأَبِي بَكْر، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا شَعَرَتْ بِعَزْمِهِ عَلَى الْهِجْرَةِ فَصَدَّتْهُ عَنْ غَايَتِه، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ الرُّقَبَاءِ حَتَّى لا يَفْلِتَ مِنْ أَيْدِيهم، وَيَحْمِلَ مَعَهُ مَا دَرَّتْهُ عَلَيْهِ التِّجَارَةُ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ.
ظَلَّ صُهَيْبٌ بَعْدَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ وَصَاحِبِه يَتحَيَّنُ الْفُرَصَ لِلَّحَاقِ بِهِمَا فَلَمْ يُفْلِحْ إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ سَاهِرَةً عَلَيْهِ مُتَيَقِّظَةً لَهُ، فَلَمْ يَجِدْ سَبِيلاً غَيْرَ اللُّجُوءِ إِلى الْحِيلَةِ.
فَفِي ذَاتِ لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ أَكْثَرَ صُهَيْبٌ مِنْ الْخُرُوجِ إِلى الْخَلاءِ كَأَنَّهُ يَقْضِي الْحَاجَةَ، فَكَانَ لا يَرْجِعُ مِنْ قَضَاءَ حَاجَتِهِ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا.
فَقَالَ بَعْضُ رُقَبَائِهِ لِبَعْضٍ: طَيِّبُوا نَفْسًا فَإِنَّ اللاتَ وَالْعُزَّى شَغَلاهُ بِبَطْنِهِ، ثُمَّ أَوَوْا إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَأَسْلَمُوا عُيُونَهم إِلى الْكَرَى.
فَتَسَلَّلَ صُهَيْبٌ مِنْ بَيْنِهِمْ وَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَدِينَةِ.
لَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ عَلَى رَحِيلِ صُهَيْبٍ حَتَّى فَطِنَ لَهُ رُقَبَاؤُهُ، فَهَبُّوا مِنْ نَوْمِهِمْ مَذْعُورِين، وَامْتَطَوْا خُيُولَهُمْ السَّوَابِقَ، وَأَطْلَقُوا أَعِنَّتَهَا خَلْفَهُ حَتَّى أَدْرَكُوه.
فَلَمَّا أَحْسَّ بِهِمْ، وَقَفَ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ وَأَخْرَجَ سِهَامِهِ مِنْ كِنَانَتِهِ وَوَتَرَ قَوْسَهُ وَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ عَلِمْتُمْ - وَاللهِ - أَنِّي مَنْ أَرْمَى النَّاسِ وَأَحْكَمِهِمْ إِصَابَةً.
وَوَاللهِ لا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَ بِكُلِّ سَهْمٍ مَعِيَ رَجُلاً مِنْكُمْ.
ثُمَّ أَضْرِبُكُمْ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدِيِ شَيْءٌ مِنْهُ.
فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: وَاللهَ لا نَدَعُكَ تَفُوزُ مِنَّا بِنَفْسِكَ وَبِمَالِكَ
…
لَقَدْ أَتَيْتَ مَكَّةَ صُعْلُوكًا فَقِيرًا فَاغْتَنَيْتَ وَبَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ.
فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ تَرَكْتُ لَكُمْ مَالِي، أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟
قَالُوا: نَعَمْ.
فَدَلَّهم عَلَى مَوْضِعِ مَالِهِ فَأَخْذُوهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَطْلَقُوا سَرَاحَهُ.
أَخَذَ صُهَيْبٌ يُعِدُّ السَّيْرَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَارًّا بِدِينِهِ إِلى الله.
غَيْرَ آسِفٍ عَلَى الْمَالِ الذِي أَنْفَقَ فِي جَنْيِهِ زَهْرَةَ الْعُمْر.
وَكَانَ كُلَّمَا أَدْرَكَهُ الْوَنَى وَأَصَابَهُ التَّعَبُ اسْتَفَزَّهُ الشَّوْقُ إِلى رَسُولِ اللهِ ? فَيَعُودُ إِلَيْهِ نَشَاطُه، وَيُوَاصِلُ سَيْرَهُ.
فَلَمَّا بَلَغَ قُبَاءَ رَآه الرَّسُولُ صَلَواتُ الله عليه وسلامُه مُقْبلاً فَهَشَّ لَهُ وَبَشَّ وَقَالَ:
«رَبِحَ الْبَيْعُ يَا أَبَا يَحْيَى رَبِحَ الْبَيْعُ» . وَكَرَّرَهَا ثَلاثًا.
فَعَلَتِ الْفَرْحَةُ وَجْهَ صُهَيْبٍ وَقَالَ: وَاللهِ مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ يَا رَسُولَ الله.
وَمَا أَخْبَرَكَ بِهِ إِلا جِبْرِيلٌ.
حَقًّا لَقَدْ رَبِحَ الْبَيْعُ
…
وَصَدَّقَ ذَلِكَ وَحْيُ السَّمَاء
…
وَشَهِدَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ
…
حَيْثُ نَزَلَ فِي صُهَيْبٍ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} فَطُوبَى لِصُهَيْبِ بن سنَّانٍ الرُّومِيِّ، وَحُسْنُ مَآبٍ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا قَبْلَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْنَا الْجَوَارِحَ وَنَبِّهْنَا مِنْ رَقَدَاتِ الْغَفَلاتِ فَأَنْتَ الْحَلِيمُ الْمُسَامِحُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةٌ: عِبَادَ اللهِ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَانَتْ بِفِرَاق فَيَا وَيْحَ مَنْ كَانَ بِهَا جُلَّ اشْتِغَالِهِ، كَيْفَ يَطْمَئِنُّ الْعَاقِلُ إِلَيْهَا مَعَ تَحقَّقِهِ بِدُنُوِّ ارْتِحَالِهِ. كَيْفَ يَنْخَدِعُ الْيَوْمَ بِبَوَارِقَهَا مَنْ هُوَ غَدًا مُرْتَهِنٌ بَأَعْمَالِهِ كَيْفَ يَغْتَرُّ فِيهَا بِإِمْهَالِهِ وَإِمْهَاله لَمْ يَنْشَأْ إِلا عَنْ إِهْمَالِهِ.
كَيْفَ يَبِيتُ آمِنًا فِي تَوَسَّعِ آمَالِهِ. وَهُوَ لا يَدْرِي مَا يَطْرُقُ مِنْ بَغْتَةِ آجَالِهِ أَفَمَا تَرَوْنَ طَيْفَ الشَّبِيبَةَ قَدْ رَحَلَ؟ وَكَثِيرًا مَا حَلَّ بِالشَّبَابِ الْمَنُونِ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
مَوْعِظَة: الْعُمْرُ أَمَانَةٌ أَتْلَفَتَ شَبَابَهِ فِي الْخِيَانَةِ، وَكُهُولَتَهُ فِي الْبَطَالةِ، وَفِي الشَّيْخُوخَةِ تَبْكِي وَتَقُولُ: عُمْرِي قَدْ ضَاعَ، مَتَى أَفْلَحَ الْخَائِنُ فِيمَا اشْتَرَى أَوْ
بَاعَ، أَنْتَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا صَحِيحَ الْجِسْمِ، وَفِي طَلَبِ الآخِرَةِ بِكَ أَوْجَاعِ كَمْ تُعُرِّجْ عَنْ سُبُل التَّقْوَى يَا أَعْرَجَ الْهِمَّةِ، يَا مَنْ يَبْقَى فِي الْقَاعِ، يَا مَنْ عَلَى عُمْرِهِ لَيْلُ الْغَفْلَةِ طَلَعَ فَجْرُ الْمَشِيبِ.
أَمَا تَرَوْنَ الشَّيْبَ قَدْ نَزَلَ وَقَبِيحٌ مَعَ الشَّيْبِ الْمُجُونُ. أَمَا تَرَوْنَ سَيْفَ الأَجَلِ قَدْ قَطَعَ الأَمَلَ فَإِلى مَتَى تُؤَمَّلُونَ فِي الْبَقَاءِ وَتَطْمَعُونَ.
أَمَا تَرَوْنَ رِيَاحَ الرَّحِيلَ تَهُبُّ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ وَسَبِيلٍ فَلِمَ لا تَرْكَبُونَ سُفنَ التَّوْبَةِ وَتُقْلِعُونَ.
أَمَا تَرَوْنَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ فِي كُلِّ حَال تُنَادِي بِفَصِيحِ الْمَقَالِ: يَا أَهْلَ الدُّنْيَا لا مَقَامَ لَكُمْ فَإِلى مَتَى لا تَرْجِعُونَ. هَلْ الأَعْمَارُ فِي الاعْتِبَارِ إِلا أَعْوَامٌ. وَهَلْ الأَعْوَامُ إِلا أَيَّامٌ.
وَهَلْ الأَيَّامُ إِلا سَاعَاتٌ كَالسُّفُُنُ يُنَادِي لِسَانُ سَيْرَهَا: يَا أَهْلَ الدُّنْيَا لا مَقَامَ. وَهَلِ السَّاعَةُ إِلا أَنْفَاسٌ تُحْصِيهَا الْحَفَظَةُ بِأَمْرِ الْمَلِكِ الْعَلام.
فَمَنْ كَانَ هَذَا أَسَاسَهُ كَيْفَ يَفْرَحُ بِدَار عَمَارُهَا فِي الْحَقِيقَةِ خَرَابٌ.
فَالسَّعِيدُ مَنْ أَضْمَرَ نُفْسَهُ مِنَ الْمَحْوِ وَأَخَفَّ ظَهْرَهُ مِنَ الأَوْزَارِ وَالتَّبِعَاتِ وَاعْتَبَرَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أُوْلى النَّجْدَةِ وَالْهِمَمِ الْعَالِيَةَ.
نُثِرَ: وَالله سِلْكُهمْ بَعْدَ انْتِظَامِهِ. وَتَفَرَّقَ شَمْلُهُمْ بَعْدَ إِلْتِئَامِهِ وَعَادُوا كَمَنْ مَضَى مِنَ الأَقْرَانِ كَأَنَّمَا يَقْظَتُهُمْ كَانَتْ مَنَام. هَكَذَا الدُّنْيَا {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
فَرَحِمَ اللهُ عَبْدًا أَقْبَلَ عَلَى الْبَاقِي وَأَعْرَضَ عَن الْفَانِي مِنَ الْحُطَامِ. وَجَعَلَ لِشَارِدِ النَّفْسِ مِنَ التَّقْوَى أَقْوَى زِمَام. وَاجْتَنَبَ الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْمَ يُخْرُجُ مِنَ النُّورِ إِلى الظَّلامِ. فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ تَوْفِيقًا يُقَرِّبُنَا مِنَ الْحَلالِ وَيُبْعِدُنَا عَن الْحَرَامِ. وَطَرِيقًا إِلى الْخَيْرَاتِ لِنَتَمَسَّكَ بِالزَّمَامِ. وَأَمْنًا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يُبَلِّغُنَا غَايَةَ الْمُنَى. قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} .
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُزُيلُ مَا حَدَثَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيُقِيمُ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
شِعْرًا:
…
فِيمَ الرُّكُونُ إِلى دَارِ حَقِيقَتُهَا
كَالطَّيْفِ فِي سِنَةٍ وَالظِّلِّ مِنْ مُزَنِ
دَارِ الْغُرُورِ وَمَأْوَى كُلِّ مُرْزِيَةٍ
وَمَعْدِنِ الْبُؤْسِ وَاللَّوَاءِ وَالْمِحَنِ
الزُّورُ ظَاهِرُهَا وَالْغَدرُ حَاضِرُهَا
وَالْمَوْتُ آخِرُها وَالْكَوْنُ في الشَّطَّنِ
تُبِيدُ مَا جَمَعَتْ تُهِينُ مَنْ رَفَعْتَ
تَضرُّ مَنْ نَفَعَتْ فِي سَالِفِ الزَّمَنِ
النَّفْسُ تَعْشِقُهَا وَالْعَيْنُ تَرْمُقَها
لِكَوْنِ ظَاهِرهَا فِي صُورَةِ الْحَسَنِ
سَحَّارةٌ تُحْكِمُ التَّخْيِيلَ حَتَّى يُرَى
كَأَنَّهُ الْحَقُّ إِذْ كَانَتْ مِنْ الْفِتَنِ
إِنَّ الإِله بَرَاهَا كَيْ يُمَيْزُ بِهَا
بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلَ الْحُمْقِ وَالْفِطَنِ
فَذُو الْحَمَاقَةِ مَنْ قَدْ ظَلَّ يَجْمَعُهَا
يُعَانِيَ السَّعْيَ مِنْ شَامٍ إِلى يَمَنِ
مُشَمِّرًا يَرْكَبُ الأَخْطَارَ مُجْتَهِدًا
لأَجْلِهَا يَسْتَلِينُ الْمَرْكَبَ الْخَشِنِ
وَذُو الْحِجَا يَقْلِهَا زُهْدًا وَيَنْبُذُهَا
وَرَاءَه نَبْذَةَ الأَقْذَارِ فِي الدِّمَنِ
يَرْمِي بِقَلْبٍ بَصِيرٍ فِي مَصَائِرِهَا
فَلا يُصَادِفُ غَيْرَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ
يَجُولُ بِالْفِكْرِ فِي تَذْكَارِ مَنْ صَرَعَتْ
مِنْ مُؤْثِرِيهَا بِسَعْيِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ
مِمَّنْ أَشَادَ مَبَانِيهَا وَأَحْكَمَهَا
لِيَسْتَجِنَّ مِنْ الأَقْدَارِ بِالْجُنَنِ
نَالُوا مَكَارِمَهَا أَحْيَوا مَعَالِمَهَا
سَلُّوا صَوَارِمَهَا لِلْبَغْيِ وَالظَّغَنِ
رَقَوْا مَنَابِرَهَا قَادُوا عَسَاكِرَهَا
بِقُوَّةٍ وَابْتَنَوا الأَمْصَارَ وَالْمُدُنِ
وَعَبَّدُوا النَّاسَ حَتَّى أَصْبَحُوا ذُلُلاً
لأَمْرِهِمْ بَيْنَ مَغْلُوبٍ وَمُمْتَهَنِ
وَجَمَعُوا الْمَالَ وَاسْتَصْفَوا نَفَائِسَهُ
لِمُتْعَةِ النَّفْسِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَنِ
حَتَّى إِذَا امْتَلَئُوا بِشْرًا بِمَا ظَفِرُوا
وَمُكَّنُوا مِنْ عُلاهَا أَبْلَغَ الْمِكَنِ
نَادَاهُمُوا هَادِمُ اللذَّاتِ فَاقتَحَمُوا
.. سُبْلَ الْمَمَاتِ فَأَضْحَوا عِبْرَةَ الْفِطَنِ
تِلْكَ الْقُبُورُ وَقَدْ صَارُوا بِهَا رِمَمًا
بَعْدَ الضَّخَامَةِ في الأَجْسَامِ وَالسِّمَنِ
بَعْدَ التَّشَهِّي وَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ غَدَا
يَأْكُلْهُمْ الدُّودُ تَحْتَ التُّرْبِ وَاللَّبِنِ
تَغَيَّرَتْ مِنْهُمْ الأَلْوَانُ وَانْمَحَقَتْ
مَحَاسِنُ الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْوُجَنِ
خَلَتْ مَسَاكِنَهُمْ عَنْهُمْ وَأَسْلَمَهُمْ
مَنْ كَانَ يَنْصُرُهُمْ في السِّرِّ وَالْعَلَنِ
وَعَافَهُم كُلُّ مَنْ قَدْ كَانَ يَأْلَفُهم
مِنْ الأَقَارِبِ وَالأَهْلِينَ وَالْخِدَنِ
مَا كَانَ حَظُّهُمْ مِنْ عَرْضِ مَا اكْتَسَبُوا
غَيْرَ الْحَنُوطِ وَغَيْرَ الْقُطْنِ وَالْكَفَنِ
تِلْكَ الْقُصُورُ وَتِلْكَ الدُّورُ خَاوِيَةٌ
يَصِيحُ فِيهَا غُرَابُ الْبَيْنِ بِالْوَهَنِ
فَلَوْ مَرَرْتَ بِهَا وَالْبُومُ يَنْدُبُهَا
فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ لَمْ تَلْتَذَّ بِالْوَسَنِ
وَلا تَجَمَّلْتَ بِالأَرْيَاشِ مُفْتَخِرًا
وَلا افْتَتَنْتَ بِحُبِّ الأَهْلِ وَالسَّكَنِ
وَلا تَلَذَّذْتَ بِالْمَطعُومِ مُنْهَمِكَا
وَلا سَعِيت لِدُنْيَا سَعَيَ مُفْتَتَنِ
.. وَلا اعْتَبَرْتَ إِذَا شَاهَدْتَ مُعْتَبَرًا
تَرَاهُ بِالْعَيْنِ أَوْ تَسْمَعْهُ بِالأُذُنِ
إِنَّ الْمَوَاعِظَ لا تُغْنِي أَسِيرَ هَوَى
مُقْفَّلَ الْقَلْبِ فِي حَيْدٍ عَنْ السُّنَنِ
مُسْتَكْبِرًا يَبْطُرُ الْحَقَّ الصَّرِيحَ إِذَا
يُلْقَى إِلَيْهِ لِفَرْطِ الْجَهْلِ وَالشَّنَنِ
يُمَنِّيُ النَّفْسَ أَمْرًا لَيْسَ يُدْرِكُه
إِنَّ الأَمَانِيَّ مِقْطَاعٌ عَنْ الْمِنَنِ
يَكْفِي اللَّبِيبَ كِتَابُ اللهِ مَوْعِظَةً
كَمَا أَتَى فِي حَدِيثِ السَّيِّدِ الْحَسَنِ
مُحَمَّدٍ خَيْرِ خَلْقِ اللهِ قُدْوَتِنَا
مُطَهِّرِ الْجَيْبِ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ دَرَنِ
عَلَيْهِ مِنَّا صَلاةُ اللهِ دَائِمَةً
مَا سَارَتْ الرِّيحُ بِالأَمْطَارِ وَالسُّفُنِ
وَالآلِ وَالصَّحْبِ مَا غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ
وَمَا بَكَتْ عَيْنُ مُشْتَاقٍ إِلى وَطَنِ
قِصَّة لِزَيْدِ بن حَارِثَةْ
مَضَتْ سُعْدَى بِنْتُ ثَعْلَبَةَ تَبْتَغِي زِيَارَةَ قَوْمِهَا بَنِي مَعْنٍ، وَكَانَتْ تَصْحَبُ مَعَهَا غُلامَهَا زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ الْكَعْبِيَّ.
فَمَا كَادَتْ تَحُلُّ فِي دِيَارِ قَوْمِهَا حَتَّى أَغَارَتْ عَلَيْهِمْ خَيْلٌ لِبَنِي الْقَيْنِ فَأَخَذُوا الْمَالَ وَاسْتَاقُوا الإِبْلِ، وَسَبَوْا الذَّرَارِي، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنِ احْتَمَلُوهُ مَعَهُمْ وَلَدُهَا زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ.
وَكَانَ زَيْدٌ - إِذْ ذَاكَ - غُلامًا صَغِيرًا يَدْرُجُ نَحْوَ الثَّامِنَةِ مِنْ عُمْرِهِ، فَأَتَوْا بِهِ سَوْقَ عُكَاظٍ وَعَرَضُوهُ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَاهُ ثَرِيٌّ مِنْ سَادَةِ قُرَيْشٍ هُوَ حَكِيمُ بن حِزَامِ بن خُوَيْلِدٍ بَأَرْبِعِمَائَةِ دِرْهَمٍ.
وَاشْتَرَى مَعَهُ طَائِفَةً مِنْ الْغُلْمَانِ، وَعَادَ بِهِمْ إِلى مَكَّةَ.
فَلَمَّا عَرَفَتْ عَمَّتُهُ خَدِيجَةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ بِمَقْدِمِه، زَارَتْهُ مُسَلِّمَةً عَلَيْهِ، مُرَحِّبَةً بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَمَّة، لَقَدْ ابْتَعْتُ مِنْ سُوقِ عُكاظ طائفةً من الغِلمان فاخْتَارِي أَيًّا منهم تَشَائينَهُ، فهو هَدِيَّةٌ لَكِ.
فَتَفَرَّسَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ وُجُوهَ الْغُلْمَانِ
…
وَاخْتَارَتْ زَيْدَ بن حَارِثَةَ، لِمَا بَدَا لَهَا مِنْ عَلامَاتِ نَجَابَتِهِ، وَمَضَتْ بِهِ.
وَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى تَزَوَّجَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلَدٍ مِنْ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ الله، فَأَرَادَتْ أَنْ تُطْرِفَهُ وَتُهْدِي لَهُ، فلمْ تَجِدْ خيرًا من غلامِها الأثيرِ زيدِ بن حارِثَةَ، فَأَهْدَتْهُ إِلَيْهِ.
وَفِيمَا كَانَ الغلامُ الْمَحْظُوظُ يَتَقَلَّبُ في رِعَايَةِ محمدِ بنِ عَبْدِ الله، وَيَحْظَى بِكَرِيمِ صُحْبَتِهِ، وَيَنْعُمُ بِجَمِيلِ خِلالهِ.
كانت أُمُّهُ المفجوعةُ بفَقْدِهِ لا تَرْفَأْ لَهَا عَبْرَةٌ وَلا تَهْدَأْ لها لَوْعَةٌ وَلا يَطْمَئِنُّ لها جَنْبٌ.
وَكَانَ يُزِيدُهُا أسىً على أساها أنها لا تَعْرِفُ أَحَيٌّ هو فَتَرْجُوهُ أَمْ مَيْتٌ فَتَيْأَسُ مِنْهُ.
أما أبوه فأخذ يَتَحَرَّاهُ في كلِّ أَرْضٍ، وَيُسَائِلُ عنه كلَّ رَكْبٍ ويَصُوغُ حنينَه إليه شِعْرًا حَزِينًا تَتَفَطَّرُ له الأكباد حيث يقول:
بكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ
أَحَيٌّ فَيُرَجَّى أَمْ أَتَى دُونَه الأَجَلْ؟
فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ
أَغَالَكَ بَعْدِي السَّهْلُ أَمْ غَالَكَ الْجَبَلْ
تُذْكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا
وَتُعْرِضُ ذِاكْرَاهُ إِذَا غَرْبُهَا أفَلْ
سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيسِ في الأَرْضِ جَاهِدًا
وَلا أَسْأَمَ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمَ الإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي
فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الأَمَلْ
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ: وَفِي مُوسِمٍ مِنْ مَوَاسِمِ الْحِجِّ قَصَدَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِ زَيْدٍ وَفِيمَا كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، إِذَا هُمْ بِزَيْدٍ وِجْهًا لِوَجْهٍ، فَعَرَفُوهُ وَعَادُوا إِلى دِيَارِهِمْ أَخْبَرُوا حَارِثَةَ بِمَا رَأَوْا وَحَدَّثُوهُ بِمَا سَمِعُوا.
فَمَا أَسْرَعَ أَنْ أَعَدَّ حَارِثَةُ رَاحِلَتَهُ، وَحَمَلَ مِنَ الْمَالِ مَا يَفْدِي بِهِ فَلَذَةَ الْكَبِدِ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ، وَصَحَبَ مَعَهُ أَخَاهُ كَعْبًا، وَانْطَلَقَا مَعًا يُغِذَّانِ السَّيْرَ نَحْوَ مَكَّةَ. فَلَمَّا بَلَغَاهَا دَخَلا عَلَى مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ وَقَالا لَهُ:
يَا ابنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْتُمْ جِيرَانُ الله، تَفُكُّونَ الْعَانِيَ، وَتُطْعِمُونَ الْجَائِعَ، وَتُغِيثُونَ الْمَلْهُوفَ.
وَقَدْ جِئْنَاكَ فِي ابْنِنَا الذِي عِنْدَكَ وَحَمَلْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْمَالِ مَا يَفِي بِهِ. فَامْنُنْ عَلَيْنَا وَفَادِهِ لَنَا بِمَا تَشَاءُ.
فَقَالَ مُحَمَّد: ((وَمَنْ ابْنُكُمَا الذِي تَعْنِيَانِ)) ؟
فَقَالَ: غُلامُكَ زَيْدُ بنُ حَارِثَة.
فَقَالَ: ((وَهَلْ لَكُمَا فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْفِدَاءِ)) ؟
فَقَالا: وَمَا هُوَ؟!
فَقَالَ: ((أَدْعُوهُ لَكُمْ، فَخَيَّرُوهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنْ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ بِغَيْرِ مَالٍ وَإِنْ اخْتَارَنِي فَمَا أَنَا - والله - بِالذِي يَرْغَبُ عَمَّنْ يَخْتَارُه)) .
فَقَالا: لَقَدْ أَنْصَفْتَ وَبَالَغْتَ فِي الإِنْصَافِ.
فَدَعَا مُحَمَّدٌ زَيْدًا وَقَالَ:
((مَنْ هَذَانِ)) ؟
قَالَ: هَذَا أَبِي حَارِثَةُ بنُ شُرَاحِيلَ، وَهَذَا عَمِّي كَعْبٌ.
فَقَالَ: ((قَدْ خَيَّرْتُكَ: إِنْ شِئْتَ مَضَيْتَ مَعَهُمَا، وَإِنْ شِئْتَ أَقَمْتَ مَعِي)) .
فَقَالَ - فِي غَيْرِ إِبْطَاءٍ وَلا تَرَدُّدٍ -: بَلْ أُقِيمَ مَعَكَ.
فَقَالَ أَبُوهُ: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ، أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى أَبِيكَ وَأُمِّكَ؟!
فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا، وَمَا أَنَا بِالذِي يُفَارِقُهُ أَبَدًا.
فَلَمَّا رَأَى مُحَمَّدٌ مِنْ زَيْدٍ مَا رَأَى، أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَخْرَجَهُ إِلى الْبَيْتَ الْحَرَامِ وَوَقَفَ بِهِ بِالْحِجْرِ عَلَى مَلاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالَ:
((يَا مَعْشَرَ قُرَيْش اشْهَدُوا أَنَّ هَذَا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُه))
…
فَطَابَتْ نَفْسُ أَبِيهِ وَعَمِّهِ، وَخَلَّفَاهُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ، وَعَادَ إِلى قَوْمِهِمَا مُطْمَئِنِّي النَّفْسَ مُرْتَاحِي الْبَالِ.
وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَصْبَحَ زَيْدُ بنُ حَارِثَهَ يُدْعَى بِزَيْدِ بن مُحَمَّدٍ، وَظَلَّ يُدْعَى كَذَلِكَ حَتَّى بُعِثَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَأَبْطَلَ الإِسْلامَ التَّبَنِّي حَيْثُ نَزَلَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فَأَصْبَحَ يُدْعَى: زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ.
وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ زَيْدٌ - حِينَ اخْتَارَ مُحَمَّدًا عَلَى أُمِّهِ وَأَبِيهِ - أَيَّ غُنْمٍ غَنِمَهُ.
وَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي أَنَّ سَيِّدَهُ الذِي آثَرَهُ عَلَى أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ هُوَ سَيِّدُ الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ، وَرَسُولُ الله إلى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ.
وَمَا خَطَرَ لَهُ بِبَالٍ أَنَّ دَوْلَةً لِلسَّمَاءِ سَتَقُومُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فَتَمْلأُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِبِ بِرًّا وَعَدْلاً، وَأَنَّهُ هُوَ نَفْسَهُ سَيَكُونُ اللَّبِنَةَ الأُولى فِي بِنَاءِ هَذِهِ الدَّوْلَة العظمى
…
لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَدُورُ فِي خَلَدِ زَيْدٍ
…
وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
…
وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ عَلَى حَادِثَةِ التَّخْيِيرِ هَذِهِ إِلا بِضْعُ سِنِينَ حَتَّى بَعَثَ الله نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا بِدِينِ الْهُدَى وَالْحَقِّ، فَكَانَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ من الرِّجَال.
وَهَلْ فَوْقَ هَذِهِ الأَوَّلِيَّةِ أَوَّلِيَّةٌ يَتَنَافَسَ فِيهَا الْمُتَنَافِسُون؟!
لَقَدْ أَصْبَحَ زَيْدُ بن حَارِثَةَ أَمِينًا لِسِرِّ رَسُولِ اللهِ، وَقَائِدًا لِبُعُوثِهِ وَسَرَايَاهُ وَأَحَدَ خُلَفَائِهِ عَلَى الْمَدِينَةَ إِذَا غَادَرَهَا النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام.
وَكَمَا أَحَبَّ زَيْدٌ النَّبِيَّ وَآثَرَهُ عَلَى أُمِّهِ وَأَبِيهِ، فَقَدْ أَحَبَّهُ الرَّسُولُ الْكَرِيمِ صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ وَخَلَطَهُ بِأَهْلِهِ وَبَنِيهِ، فَكَانَ يَشْتَاقُ إِلَيْهِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، وَيَفْرَحُ بِقُدُومِهِ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ، وَيَلْقَاهُ لِقَاءٌ لا يَحْظَى بِمِثْلِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ.
فَهَا هي ذي عائِشَةُ رِضْوَانُ الله عليها تُصَوِّرُ لنا مَشْهَدًا من مَشَاهِدِ فَرْحَةِ رَسُولِ الله ? بِلِقَاءِ زَيْدٍ فَتَقُولُ: (قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللهِ
فِي بَيْتِي فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ عُرْيَانًا - لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ - وَمَضَى إِلى الْبَابِ يَجُرُّ ثَوْبَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ. وَاللهِ مَا رَأَيْتُ رَسُولُ اللهِ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
وَقَدْ شَاعَ أَمْرُ حُبِّ النَّبِيِّ لِزَيْدٍ بَيْن الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَفَاضَ، فَدَعَوْهُ (بَزِيدِ الْحُبِّ) وَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَقبِ (حِبِّ) رَسُولِ الله، وَلَقَّبُوا ابْنَهُ أُسَامَةَ مِنْ بَعْدِهِ بِحِبِّ رَسُولِ اللهِ وَابْنِ حِبِّه.
وفي السنة الثامنة من الهجرة شاء الله - تَبَارَكَتْ حِكْمَتُه - أن يَمْتَحِنَ الحبيبَ بفراقِ حبيبِه.
ذلك أنَّ الرسولَ صلواتُ الله وسلامُه عليه، بَعَثَ الحارِثَ بن عُمَيْرٍ الأزْدِيَّ بِكِتَابٍ إِلى مَلِكِ بُصْرَى يدعوه فيه إلى الإِسْلامِ، فَلَمَّا بلغَ الحارثُ (مُؤْتَةَ) بشرقي الأردن، عَرَضَ له أحدُ أمراءِ الغساسِنَةِ شُرْحَبِيلُ بنُ عمرو فأخَذَه، وشدَّ عليه وثاقه، ثم قَدَّمَهَ فَضَرَبُ عُنُقَه.
فاشتدَّ ذلك على النبيِّ صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه إذ لم يُقْتَلْ له رسولٌ غَيْرُه.
وَجهَّزَ جَيْشًا مِنْ ثَلاثةِ آلافِ مُقَاتِلٍ لِغَزْوِ مُؤْتَةَ وَوَلَّى على الجيشِ حبيبَه زَيدَ بنَ حارِثَةَ، وَقَالَ: إِنْ أُصِيبَ زيدٌ فَتَكُونُ الْقِيَادَةُ لِجَعْفَرِ بنِ أبي طالب، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرُ كَانتْ إلى عبدِ الله بنِ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ عَبْدُ الله فَلَيَخْتَرَ المسلمون لأنفسهم رجلاً منهم.
مضى الجيشُ حتى وصَلَ إلى (معان) بشرقي الأُرْدُن.
فَهَبَّ هِرْقَلُ ملكُ الرومِ على رأسِ مائةِ ألفِ مُقَاتِلٍ للدفاعِ عَنْ الْغَسَاسِنَة وَانضمَّ إليه مَائةُ أَلْفٍ مِنْ مُشْرِكي العرب، وَنَزَلَ هذا الجيشُ الْجَرَّارُ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ مواقع المسلمين.
باتَ المسلمون في (معان) ليلتين يتشاورون فيما يصنعون.
فقال قائلٌ: نَكْتُبُ إلى رسولِ الله وَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوِّنا وَنَنْتَظِرُ أَمْرَه.
وقال آخر: والله - يا قوم - إِنَّنَا لا نُقَاتِلُ بَعَدَدٍ وَلا قُوَّةٍ وَلا كُثْرَةٍ وَإِنَّمَا نُقَاتِلُ بِهَذَا الدِّينِ.
فَانْطَلِقُوا إِلى مَا خَرَجْتُمْ لَهُ.
وقد ضَمِنَ الله لَكُمْ الْفَوْزَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا الظَّفَرُ وَإِمَّا الشَّهَادة.
ثُمَّ الْتَقَى الجمعان على أرضِ مُؤتَةَ، فقاتَلَ المسلمون قِتَالاً أَذْهَلَ الرُّومَ وَمَلأَ قُلُوبَهُمْ هَيْبَةً لِهَذِهِ الآلافِ الثلاثةِ التي تَصَدَّتْ لِجَيْشِهِمْ الْبَالِغِ مائتي ألفٍ.
وجالَدَ زيدَ بن حارِثَةَ عن رَايَةِ رسولِ الله ? جِلادًا لم يَعْرِفْ له تاريخُ الْبُطُولاتِ مَثِيلاً حَتَّى خَرَّقَتْ جَسَدَهُ مِئَاتُ الرِّمَاحِ فَخَرَّ صَرِيعًا يَسْبَحُ فِي دِمَائِهِ.
فَتَنَاوَلَ مِنْهُ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طالبٍ وَطَفِقَ يَذُودَ عنها أَكْرَمَ الذَّوْدِ حَتى لَحِقَ بصاحبه.
فتناول منه الرايةَ عبدُ الله بنُ رَوَاحَةَ فَنَاضَلَ عنها أَبْسَلَ النِّضَالِ حَتَّى انْتَهَى إلى ما انْتَهَى إليه صاحباه.
فأَمَّرَ النَّاسُ عليهم خالدَ بنَ الْوَلِيدِ - وكان حَدِيثَ إِسْلامٍ - فانْحَازَ بالجيش، وأنقذه من الفناءِ الْمُحَتَّمِ.
بلغت رسولَ الله ? أنباءُ مُؤْتَةَ، وَمَصْرَعُ قَادَتِهِ الثَّلاثَةِ فَحَزِنَ عَلَيْهِمْ حُزْنًا لَمْ يَحْزَنْ مِثْلَهُ قَطُّ.
وَمَضَى إِلى أهليهم يُعَزِّيهِمْ بِهِمْ.
فلما بَلَغَ بَيْتَ زَيْدِ بنِ حارِثَةَ لاذَتْ بِهِ ابْنَتُهُ الصَّغِيرَةُ وَهِيَ مُجْهِشَةٌ بِالْبُكَاءِ فَبَكَى رَسُولُ اللهِ ? حَتَّى انْتَحَب.
فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَة:
مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟!
فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:
((هذا بُكاءُ الحبِيبِ على حبيبِه)) .
اللَّهُمَّ ثَبَّتْ مَحَبَّتِكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صلى الله عليه وسلم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ إِنَّ طَاعَةَ اللهِ صَلاحٌ في الأَرْضِ لِهَذَا أَمَرَ عز وجل بِالطَّاعَاتِ، وَهَذِهِ الطَّاعَاتِ تُرْضِي اللهَ سُبْحَانَهُ لأَنَّهَا شُكْرٌ لَهُ عَلَى نِعَمِهِ الْمُتَوَالِيَاتِ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَحُثَّ عَلَيْهَا وَأَنْ نَأْمُرَ مَنْ تَرَكَ الطَّاعَةَ أضنْ يَعُودَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَأَنْ نَنْكِرَ عَلَى مَنْ رَأَيْنَاهُ يَقْتَرِفُ مَعْصِيَةَ مِنْ الْمَعَاصِي، لأَنَّ الْمَعَاصِي بِكُلِّ أَنْوَاعِهَا شُرُورٌ وَأَضْرَارٌ
وَفَسَادٌ وَلَهَا شُؤْمٌ قَدْ يَعُمُّ الدُّنْيَا وَيَفْعَلُ الأَفَاعِيلَ الْعِظَامِ فِي بَنِي الإِنْسَانِ وَمِنْ آثَارِهَا الْمُضرَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ: أَنَّهَا إِفْسَادٌ لِلْعَقْلِ فَإِنَّ الْعَقْلَ نُورٌ وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْعَقْلِ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِي مَدَدٌ مِنْ الإِنْسَانِ يَمُدُّ بِهَا عَدُوَّهُ عَلَيْهِ وَجَيْشٌ يُقَوِّيهِ بِهِ عَلَى حَرْبِهِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُوهِنُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ وَمِنْهَا أَنَّهَا تَزْرَعُ أَمْثَالهَا مِنْ الْمَعَاصِيَ وَمِنْهَا أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الْعُمْرِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسَبِّبُ شَمَاتَةَ الأَعْدَاءِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُعَسِّرُ عَلَى الإِنْسَانِ أُمُورَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسَبِّبُ الْوَحْشَة بَيْنَ الْعَاصِي وَبَيْنَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُذْهِبُ الْحَيَاءَ وَمِنْهَا أَنْ تَسْتَدْعِي نِسْيَانَ اللهِ لِعَبْدِهِ وَتَرْكِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُطْفِئُ مِنْ الْقَلْبَ نَارَ الْغَيرَةِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ وَتَطْمِسُ نُورَهُ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسْقِطُ الْجَاهَ وَالْمَنْزِلَةَ عِنْدَ اللهِ إِلى مَالا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ الأَضْرَارِ لِهَذَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَنْهَي عَنِ الْمَعَاصِي لاسِيَّمَا إِذَا كَانَتْ مِنْ كِبَارِ الْمَعَاصِي، وَلا تَنْسَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَعَنَهُمْ اللهُ لَمَّا فَقَدُوا الْغَيرَةَ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرمَاتِ وَلا تَنَاهَوْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَتَأَمَّل أَحْوَالَ الأُمَم وَمَا حَلَّ بِهَا مِنْ الْعُقُوبَاتِ بِأَسْبَابِ الذُّنُوبِ قاَلَ تَعَالى:{فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
وَذَكَرَ ابنُ كَثِيرٍ أَنَّ فِي سَنَةِ سَبْع وَتِسْعِينَ وَخَمْسُمائة 597 اشْتَدَّ الْغَلاءُ بَأَرْضِ مَصْرَ فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدّاً مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالأَغْنِيَاءِ ثُمَّ أَعْقَبَهُ فَنَاءٌ عَظِيمٌ حَتَّى حَكَى الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي الذَّيْلِ أَنَّ الْعَادِلَ كَفَّنَ مِنْ مَالِهِ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ نَحْواً مِنْ مَائَتَيْ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ مَيِّتٍ (220000) وَأُكِلَتِ الْكِلابُ وَالْمَيْتَاتُ فِيهَا بِمَصْرَ وَأُكِلَ مِنْ الصِّغَارِ وَالأَطْفَالِ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَشْوِي الصَّغِيرَ وَالِدَاهُ وَيَأْكُلانِهِ وَكَثُرَ فِي النَّاسَ هَذَا جِدّاً حَتَّى صَارَ لا يُنْكَرُ بَيْنَهُمْ،
فَلَمَّا فَرَغَتِ الأَطْفَالُ وَالْمَيْتَاتُ غَلَبَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ فَذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ وَكَانَ الرَّجُلُ يَحْتَالُ عَلَى الْفَقِيرِ فَيَأْتِي بِهِ لِيُطْعِمَهُ أَو لِيُعْطِيَهُ شَيْئاً ثُمَّ يَذْبَحَهُ وَيَأْكُلهُ وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَذْبَحُ امْرَأَتَهُ وَيَأْكُلُهَا وَشَاعَ هَذَا بَيْنَهُمْ بِلا إِنْكَارٍ وَلا شَكْوَى بَلْ عَذَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَرْبَعُمِائَةِ رَأْسٍ وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ الأَطِبَّاءِ الذِينَ يُسْتَدْعَونَ إِلى الْمَرْضَى فَكَانُوا يُذْبَحُونَ وَيُؤْكَلُونَ كَانَ الرَّجُلُ يَسْتَدِعي الطَّبِيبَ ثُمَّ يَذْبَحُه وَيَأْكُلُه. وَقَدْ اسْتَدْعَى رَجُلٌ طَبِيباً حَاذِقاً وَكَانَ الرَّجُلُ مُوسِراً مِنْ أَهْلِ الْمَالِ فَذَهَبَ الطَّبِيبُ مَعَهُ عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَصَدَّقُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ وَيَذْكُرَ اللهَ وَيُسَبِّحُه وَيُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ فَارْتَابَ بِهِ الطَّبِيبُ وَتَخَيَّلَ مِنْهُ وَمَعَ هَذَا حَمَلَهُ الطَّمَعُ عَلَى الاسْتِمْرَارِ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ دَارَهُ فَإِذَا هِيَ خَرِبَةٌ فَارْتَابَ الطَّبِيبُ أَيْضاً فَخَرَجَ صَاحِبُه فَقَالَ لَهُ:
وَمَعَ الْبُطْءِ جِئْتَ لَنَا بِصَيْدٍ فَلَمَّا سَمِعَهَا الطَّبِيبُ هَرَبَ فَخَرَجَا خَلْفَهُ سِرَاعاً فَمَا خَلَصَ إِلا بَعْدَ جَهْدٍ وَشَرٍّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةَ 597 وَقَعَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ بِبِلادِ عَنْزَةَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَكَانُوا عِشْرِينَ قَرْيَةً فَبَادَتْ مِنْهَا ثَمَانِيَة عَشَرَ لَمْ يَبْقَ دَيَّارٌ وَلا نَافِخُ نَارٍ وَبَقِيَتْ أَنْعَامُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لا قَانِيَ لَهَا. وَلا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَسْكُنَ تِلْكَ الْقُرَى وَلا يُدْخِلَهَا. بَلْ كَانَ مَنْ اقْتَرَبَ إِلى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُرَى هَلَكَ مِنْ سَاعَتِه.
نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ بَأْسِهِ وَعَذَابِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ أَمَّا الْقَرْيَتَانِ الْبَاقِيَتَانِ فَلَمْ يَمُتْ مِنْهَا أَحَدٌ وَلا عِنْدَهُمْ شُعُورٌ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ حَوْلَهُمْ بَلْ هُمْ عَلَى حَالِهِمْ لَمْ يُفْتَقَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ. انْتَهَى كَلامُه.
وذكر السيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء أن في سنة 524 ارتفع سحابٌ
أَمْطَرَ بَلَدَ الْمَوْصِلِ نَاراً أَحْرَقَتْ من الْبَلَد مَوَاضِعَ كَثِيرَةً وَدُوراً كَثِيرَةً وَظَهَرَ فِيهَا بِبَغْدَاد عِقَابٌ طَيَّارة لَهَا شَوْكَتَانَ وَخَافَ النَّاسُ مِنْهَا وَقَدْ قَتَلَتْ جَمَاعَةَ أَطْفَالٍ.
هَذَا كُلَّهُ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} وَمَنْ نَظَرَ إِلى الْحَالَةِ الْيَوْمَ وَمَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ مِنَ الْمَعَاصِي انْتَشَارَ الْوَبَاءِ وَرَأَى النِّعَمَ فِي الْمَزَابِلِ وَرَأَى الْكُتُبَ الدِّينِيَّةِ تُطْرَحُ كَذَلِكَ مَعَ الْقُمَامَةِ وَفِي الشَّوَارِع تُدَاسُ وَلا آمِرَ وَلا نَاهِي مَلأَ الْخَوْفُ مِنْ الْعُقُوبَةِ صَدْرَهُ وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الدِّينِ وَعِنْدَهُ غَيْرَةٌ لِدِينِهِ مَرَضَ مِمَّا رَأَى وَسَمِعَ نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَخُصَّ بِالْعُقُوبَةِ مَنْ فَعَلَهَا وَمَنْ رَضَى بِهَا وَمَنْ عَلِمَ بِهَا وَقَدِرَ عَلَى إِزَالَتِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ.
اللَّهُمَّ ابْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ طَاعَتِكَ وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلَ مَعْصِيَتِكَ وَيُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُزَالُ فِيهِ مَا حَدَثَ مِنْ بِدَعِ وَمُنْكَرَاتٍ وَمَعَاصِي وَيُحْيَا بِهِ بَدَلُهَا مَا أُمِيتَ مِنْ سُنَّةٍ وَغيرَةٍ وَشِيمَةٍ كَرِيمَةٍ وَمُرُوءَةٍ جَمِيلَةٍ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ وَبِالإِجَابَةِ جَدِيرٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وقال الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن مُعَمَّر
يَرْثِي أَهْلَ الدَّرْعِيَّةِ بَعْدَ مَا هَدَمَهَا الظَّالِمُ الطَّاغِيَةُ وَجُنُودُهُ إِبْرَاهِيمُ بَاشَا جَازَاهُ اللهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ هُوَ وَأَعْوَانَهُ.
إِلَيْكَ إِلَهَ الْعَرْشِ أَشْكُو تَضَرُّعَا
وَأَدْعُوكَ فِي الضَّرَّاءِ رَبِّي لِتَسْمَعَا
فَكَمْ قَتَلُوا مِنْ فِتْيَةِ الْحَقِّ عُصْبَةً
هُدَاةً وَضَاةًَ سَاجِدِينَ وَرُكَّعَا
وَكَمْ دَمَّرُوا مِنْ مَرْبَع كَانَ آهِلاً
وَقَدْ تَرَكُوا الدَّارَ الأَنِيسَةَ بَلْقَعَا
فَأَصْبَحَتْ الأَمْوَالُ فِيهِمْ نَهَائِباً
وَأَصْبَحَتْ الأَيْتَامُ غَرْثىً وَجُوَّعَا
وَفَرَّ عَنْ الأَوْطَانِ مِنْ كَانَ قَاطِناً
وَفُرِّقَ إِلْفٌ كَانَ مُجْتَمِعاً مَعَا
مَضَوْا وَانْقَضَتْ أَيَّامُهُمْ حِينَ أَوْرَدُوا
ثَنَاءً وَذِكْراً طِيبُه قَدْ تَضَوَّعَا
فَجَازَاهُمْ اللهُ الْكَرِيمُ بِفَضْلِهِ
جِنَاناً وَرِضْوَاناً مِنْ اللهِ رَافِعَا
فَإِنْ كَانَتْ الأَشْبَاحُ مِنَّا تَبَاعَدَتْ
فَإِنَّ لأَرْوَاحِ الْمُحِبِّينَ مَجْمَعَا
عَسَى وَعَسَى أَنْ يَنْصُرَ اللهُ دِينَهُ
وَيَجْبرَ مِنَّا مَأْمَناً قَدْ تَصَدَّعَا
وَيُظْهِرَ نُورَ الْحَقِّ يَعْلُو ضِيَاؤُه
فَيُضْحِي ظَلامُ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ مُقْشِعَا
إِلَهِي فَحَقِّقْ ذَا الرَّجَاءَ وَكُنْ بِنَا
رَؤُفاً رَحِيماً مُسْتَجِيباً لَنَا الدُّعَا
أَلا أَيُّهَا الإِخْوَانِ صَبْراً فَإِنَّنِي
أَرَى الصَّبْرَ لِلْمَقْدُورِ خَيْراً وَأَنْفَعَا
فَلا تَيْأَسُوا مِنْ كَشْفِ ثَابَ إِنَّهُ
إِذَا شَاءَ رَبِّي كَشَفَ كَرْبٍ تَمَزَّعَا
وَمَا قُلْتُ إِذَا أَشْكُو إِلى الْخَلْقِ نَكْبَةً
وَلا جَزَعاً مِمَّا أَصَابَ فَأَوْجَعَا
فَمَا كَانَ هَذَا الأَمْرُ إِلا
بِهَا قَهَرَ اللهُ الْخَلائِقَ أَجْمَعَا
وَذَلِكَ عَنْ ذَنْبٍ وَعِصْيَانِ خَالِقٍ
أُخِذْنَا بِهِ حَيْناً فَحِينَا لِنَرْجِعَا
وَقَدْ آنَ أَنْ نَرْجُو رِضَاهُ وَعَفْوَهُ
وَأَنْ نَعْرِفَ التَّقْصِيرَ مِنَّا فَنُقْلِعَا
فَيَا مُحْسِناً قَدْ كُنْتَ تُحْسِنُ دَائِماً
وَيَا وَاسِعاً قَدْ كَانَ عَفْوُكَ أَوْسَعَا
نَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ سُوءِ صُنْعِنَا
فَإِنَّ لَنَا فِي الْعَفْوِ مِنْكَ لَمَطْمَعَا
أَغِثْنَا أَغِثْنَا وَارْفَعْ الشِّدَّةَ الَّتِي
أَصَابَتْ وَصَابَتْ وَاكْشِفِ الضُّرَّ وَارْفَعَا
وَجُدْ وَتَفَضَّلْ بِالذِي أَنْتَ أَهْلُهُ
مِنْ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَا
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ أَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ وَجَعَلْتَهُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ فَاعِلِينَ لَهُ، وَنَاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَمُجْتَنِبِينَ لَهُ.
اللَّهُمَّ مَكِّنْ حُبَّكَ فِي قُلُوبِنَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ طَاعَتِكَ وَأَمْرِكَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
نُبْذَةٌ مِنْ حَيَاةِ جَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ
جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ هُوَ أَخُو عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ سُمُوِّ شَرَفِهِ فِي قُرَيْشٍ وَعُلوَ مَنْزِلَتِهِ فِي قَوْمِهِ رَقِيقُ الْحَالِ كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ ازْدَادَتْ حَالُهُ سُوءاً بِسَبَبِ تِلْكَ السَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ الَّتِي نَزَلَتِ بِقُرَيْش فَأَهْلَكَتْ الزَّرْعَ وَأَيْبَسَتْ الضَّرْعَ وَأَكَلَ بَعْضُ النَّاسِ الْعِظَامَ الْبَالِيَةَ.
وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي هَاشِمٍ يَوْمَئِذٍ أَيْسَرُ مِنْ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ وَمِنْ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ فَقَالَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: ((يَا عَمُّ إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِب كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ شِدَّةِ الْقَحْطِ وَمَضَضِ الْجُوعِ فَانْطَلَقْ بِنَا إِلَيْهِ حَتَّى نَحْمِلَ عَنْهُ بَعْضَ عِيَالِهِ فآخُذُ أَنَا فَتَىً مِنْ بَنِيهِ وَتَأْخُذُ أَنْتَ فَتَىً آخرَ فَنَكْفِيهَماَ عَنْهُ)) .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لَقَدْ دَعَوْتَ إِلى خَيْر وَحَضَضْتَ عَلَى بِرٍّ ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ فَقَالا لَهُ: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عَنْكَ بَعْضَ مَا تَحْمِلُه مِنْ عِبْءِ عَيَالِكَ حَتَّى يَنْكَشِفَ هَذَا الضُّرُّ الذِي مَسَّ النَّاسِ فَقَالَ لَهُمَا: إِذَا تَرَكْتُمَا عَقِيلا فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا.
فَأَخَذَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلِياً وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفراً وَجَعَلَهُ فِي عِيَالِهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلَيَّ مَعَ مَحْمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَعَثَهُ اللهُ بِدِينِ الْحَقِّ وَالْهُدَى فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنِ بِهِ مِنْ الْفِتْيَانِ.
وَبَقِيَ جَعْفَرُ مَعَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ حَتَّى شَبَّ وَأَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ، انْضَمَّ جَعْفَرُ إِلى رَكبِ النُّورِ هُو وَزَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُنْذُ أَوَّلَ الطَّرِيقِ فَقَدْ أَسْلَمَا عَلى يَدَيْ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَعَنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم دَارَ الأَرْقَم وَلَقِيَ جَعْفَرُ وَزَوْجَتُهُ مِنْ أَذَي قُرَيْشٍ وَنَكَالِهَا مَا لَقِيَهُ
الْمُسْلِمُونَ الأَوَّلُونَ فَصَبَرا عَلَى الأَذَى لأَنَّهُمَا كَانَ يَعْلَمَانِ أَنَّ طَرِيقَ الْجَنَّةِ مَفْرُوشٌ بِالأَشْوَاكِ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِهِ.
وَلَكِنْ الذِي كَانَ يَنْغِّصُهُمَا وَيُنَغِّصُ عَلَى إِخْوَانِهِمَا فِي اللهِ أَنَّ قُرَيْشاً كَانَتْ تَحُولُ دُونَهُمْ وَدُونَ شَعَائِرِ الإسْلامِ وَتَحْرِمُهم مِنْ أَنْ يَتَذَوَّقُوا لَذَّة الْعِبَادَةِ فَقَدْ كَانَتْ تَقِفُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَرْصَدٍ.
عِنْدَ ذَلِكَ اسْتَأْذَنَ جَعْفَرُ بن أَبِي طَالِبٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَأَنْ يُهَاجِرَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَنَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إِلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَأَذِنَ لَهُمْ وَهُوَ حَزِينٌ فَقَدْ كَانَ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يُرْغَمَ هَؤُلاءِ الأَطْهَارِ عَلَى مُفَارَقَةِ دِيَارِهِمْ وَمُبَارَحَةِ مَرَاتِعِ طَفَولِتِهِمْ وَدِيَارِهِمْ دُونَ ذَنْبٍ جَنُوهُ إِلا أَنَّهُمْ قَالُوا: رَبُّنَا اللهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكْ مِنْ الْقُوَّةُ مَا يَدْفَعُ بِهِ أَذَى قُرَيْشٍ.
مَضَى رَكْبُ الْمُهَاجِرِينَ إِلى أَرْضِ الْحَبَشِةِ وَعَلى رَأْسِهِمْ جَعْفَرُ بن أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَاسْتَقَرُّوا عِنْدَ النَّجَاشِيّ الْمَلِكِ الصَّالِحِ فَتَذَوَّقُوا مِنْذُ أَسْلَمُوا طَعْمَ الأَمْنِ وَاسْتَمْتَعُوا بِحَلاوَةِ الْعِبَادَةِ دُونَ أَنْ يُكَدِّرَ عَلَيْهِمْ مُكَدِّرٌ.
لَكِنْ قُرَيْشٌ مَا كَادَتْ تَعْلَمُ بِرَحِيلِ هَذَا النَّفَرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلى أَرْضِ الْحَبَشِة وَتَقَف عَلَى مَا نَالُوهُ فِي حِمَى مَلِيكِهَا مِنْ الطَّمَأْنِينَةِ عَلَى دِينِهِمْ، وَالأَمْنِ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ، حَتَّى جَعَلَتْ تَأْتَمِرُ بِهِمْ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ لَقِينَا فِيهَا خَيْرَ جِوَارٍ فَأمِنَّا عَلَى دِينَنَا وَعَبَدْنَا اللهَ تَعَالى مِنْ غَيْرِ أَنْ نُؤْذَى.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ ائْتَمَرَتْ بِنَا فَأَرْسَلَتْ إِلى النَّجَاشِيّ رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ منْ رِجَالِهَا أَحَدُهُمَا عَمْرُو بنِ الْعَاص وَالثَّانِي عَبْدُ اللهِ بن أَبِي رَبِيعَةَ وَبَعَثَتْ
قُرَيْشٌ مَعَهُمَا بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ لِلنَّجَاشِيِّ وَلِبَطَارِقَتِهِ - الْبِطْرِيقُ رَجُلُ الدِّينِ عِنْدَ النَّصَارَى -
ثُمَّ أَوْصَتْهُمَا بِأَنْ يَدْفَعَا لِكُلٍّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّةً قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا مَلِكَ الْحَبَشِةِ فِي أَمْرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو وَعَبْدُ اللهِ عَلَى الْحَبَشَةِ لَقِيَا بَطَارِقَةَ النَّجَاشِيّ وَدَفَعَا إِلى كلٍ بِطْرِيقٍ هِدِيَّتَهُ.
وَقَالا: إِنَّهُ قَدْ حَلَّ فِي أَرْضِ الْمَلِكِ غِلْمَانٌ مِنْ سُفَهَائِنَا صَبَؤُا عَنْ دِينِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ وَفَرَّقُوا كَلِمَةَ قَوْمَهُمْ فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِي أَمْرِهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بَأَنْ يُسَلِّمهُمْ إِلَيْنَا دُونَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ دِيِنِهِمْ فَإِنَّ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ أَبْصَرُبِهِمْ وَأَعْلَمُ بِمَا يَعْتَقِدُونَ.
فَقَالَ الْبَطَارِقَةُ لَهُمَا: نَعَمْ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ أَكْرَهُ لِعَمْرٍو وَصَاحِبِه مَنْ أَنْ يَسْتَدْعِي أَحَداً مِنَّا وَيَسْمَعَ كَلامَهُ ثُمَّ أَتَيَا النَّجَاشِيّ وَقَدَمَا إِلَيْهِ الْهَدَايَا فَاسْتَحْسَنَهَا وَأُعْجِبَ بِهَا.
ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالا: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلى مَمْلَكَتِكَ طَائِفَةٌ مِنْ شِرَارِ غِلْمَانِنَا قَدْ جَاؤُا بِدِينٍ لا نَعْرِفَهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ فَفَارَقُوا دِينَنَا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ وَقَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسَ بِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ فِتْنَةٍ.
فَنَظَرَ النَّجَاشِيّ إِلى بَطَارِقَتِهِ فَقَالَ الْبَطَارِقَةُ: صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَبْصَرُ بِهِمْ وَأَعْلَمُ بِمَا صَنَعُوا فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِمْ لِيَرَوا رَأَيْهَمْ فِيهِمْ فَغَضَبَ النَّجَاشِيّ غَضَباً شَدِيداً مِنْ كَلامِ بَطَارِقَتِهِ.
وَقَالَ: لا وَالله لا أُسَلِّمَهُمْ لأَحَدٍ حَتَّى أَدْعُوهُمْ وَأَسْأَلَهُمْ عَمَّا نُسِبَ إِلَيْهِمْ
فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولُ هَذَانِ الرَّجُلانِ أَسْلَمْتُهُم لَهُمَا وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَمَيْتُهُمْ وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَيْنَا يَدْعُونَا لِلِقَائِهِ فَاجْتَمَعْنَا قَبْلَ الذِّهَابِ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْض: إِنَّ الْمَلِكَ سَيَسْأَلُكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَاصْدَعُوا بِمَا تُؤْمِنُونَ بِهِ وَلِيَتَكَلَّمَ عَنْكُمْ جَعْفَرُ بن أَبِي طَالِبٍ وَلا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ غَيْرُه.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: ثُمَّ ذَهَبْنَا إِلى النَّجَاشِيّ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ دَعَا بَطَارِقَتَهُ فَجَلَسُوا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَدْ لَبِسُوا طَيَالِسَتَهُمْ وَاعْتَمَرُوا قَلانِسَهُمْ وَنَشَرُوا كُتُبَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَوَجَدْنَا عَمْرَو بن الْعَاصِ وَعَبْدَ اللهِ بن رَبِيعَةَ.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِنَا الْمَجْلِسُ الْتَفَتَ إِلَيْنَا النَّجَاشِيّ وَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الذِي اسْتَحْدَثْتُمُوهُ لأَنْفُسِكُمْ وَفَارَقْتُم بِسَبَبِهِ دِينَ قَوْمِكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي؟
فَتَقَدَّمَ مِنْهُ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ وَبَقِينَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ.
فَلَمَّا دَعَانَا إِلى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَع مَا كُنَّا نَعْبُدُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ.
وَقَدْ أَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَحَقْنِ الدِّمَاءِ - أَيْ حِفْظِهَا وَعَدَم سَفْكِهَا.
نَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِش وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ
وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَنْ نُقِيمَ الصَّلاةِ وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةِ وَنَصُومَ رَمَضَانَ.
فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَحَلَّلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا فَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِنَا أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلا أَنْ عَدَوْا عَلَيْنَا فَعَذَّبُونَا أَشَدَّ الْعَذَابِ لِيَفْتِنُونَنَا عَنْ دِينِنَا وَيَرَدُّونَا إِلى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ.
فَلَمَا ظَلَمُونَا وَقَهَرُونَا وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلى بِلادِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لا نُظْلَمَ عِنْدَكَ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَالْتَفَتَ النَّجَاشِيِّ إِلى جَعْفَرِ بن أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ عَنْ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَرَأْ عَلَيْهِ {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} حَتَّى أَتَمَّ صَدْراً مِنَ السُّورَةِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَبَكَى النَّجَاشِي حَتَّى أَخْضَلَ لِحَيْتَهُ بِالدُّمُوعِ - أَيْ تَبَلَّلْتَ - وَبَكَى أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى بَلَّلُوا كُتُبَهُمْ لِمَا سَمِعُوا مِنْ كَلامِ اللهِ وَهَنَا قَالَ النَّجَاشِيّ: إِنَّ هَذَا الذِي جَاءَ بِهِ نَبِيَّكُمْ وَالذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ الْتَفَتَ النَّجَاشِيّ إِلى عَمْرو وَصَاحِبهِ وَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا فَلا وَاللهِ لا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا أَبداً، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدَ النَّجَاشِيّ تَوَعَّدَنَا عَمْرو بن الْعَاصِ وَقَالَ لِصَاحِبِهِ: وَاللهِ لآتِيَنَّ الْمَلِكَ غَداً وَلأَذْكُرَنَّ لَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا يَمْلأُ صَدْرَهُ غَيْظاً مِنْهُمْ وَيَشْحَن فُؤَادَهُ كُرْهاً لَهُمْ وَلأَحْمِلَنَّه عَلَى أَنْ يَسْتَأْصِلَهُم مِنْ جُذُورِهِمْ.
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بن رَبِيعَةَ: لا تَفْعَلْ يَا عَمْرو فَإِنَّهُمْ مِنْ ذَوِي قُرْبَانَا وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا فَقَالَ لَهُ عَمْرُو: دَعْ عَنْكَ هَذَا وَاللهِ لأَخْبِرَنَّهُ بِمَا يُزَلْزِلُ أَقْدَامَهم وَاللهِ
لأَقُولَنَّ لَهُ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى بن مَرْيمَ عَبْدٌ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَ عَمْرُو عَلَى النَّجَاشِيّ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ هَؤُلاءِ الذِينَ آوَيْتَهُمْ وَحَمْيَتَهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَهُ فِيهِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَلَّما عَرفنَا ذَلِكَ نَزَلَ بِنَا مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ مَا لَمْ نَتَعَرَّضْ لِمِثْلِهِ وَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابن مَرْيَم إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ.
فَقُلْنَا: وَاللهِ لا نَقُولُ فِيهِ إِلا مَا قَالَ اللهُ وَلا نَخْرُجُ فِي أَمْرِهْ قَيْدَ أَنْمُلةٍ عَمَّا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا وَلْيَكُنْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَكُونُ.
ثُمَّ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ يَتَوَلى الْكَلامَ عَنَّا جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِب فَلَمَّا دَعَانَا النَّجَاشِيّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا عِنْدَهُ بَطَارِقَتَه عَلَى الْهَيْئةِ الِّتِي رَأَيْنَاهُمْ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ.
وَوَجَدْنَا عِنْدَهُ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ وَصَاحِبَهُ فَلَمَّا صِرْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ بَادَرَنَا بِقَوْلِهِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بن أَبي طَالِبٍ: إِنَّمَا نَقُولُ مَا جَاءِ بِهِ نَبِينا فَقَالَ النَّجَاشِيّ: وَمَا الذِي يَقُولُ فِيهِ؟
فَأَجَابَهُ جَعْفَرُ يَقُولُ عَنْهُ: «إِنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولِهِ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمْ الْعَذْرَاءَ الْبَتُولَ» . فَلَمَّا سَمِعَ النَّجَاشِيّ قَوْلَ جَعْفَرٍ ضَرَبَ بِيَدِهِ الأَرْضَ وَقَالَ: وَالله مَا خَرَجَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيَّكُمْ مِقْدَارَ شَعْرَةٍ.
فَتَنَاخَرَتْ الْبَطَارِقَةُ مِنْ حَوْلِ النَّجَاشِيّ اسْتِنْكَاراً لِمَا سَمِعُوا مِنْهُ فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا وَقَال: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ آمِنُونَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ وَمَنْ تَعَرَّضَ لَكُمْ عُوقِبَ وَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ وَأَنْ يُصَابَ أَحَدٌ مِنْكُمْ.
ثُمَّ نَظَرَ إِلى عَمْرو وَصَاحِبِهِ وَقَالَ: رُدُّوا عَلَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ هَدَايَاهُمَا فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَخَرَجَ عَمْرُو وَصَاحِبُه مَكْسُورِينَ مَقْهُورِينَ يَجُرَّانِ أَذْيَالَ الْخَيْبَةِ، أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ أَقَمْنَا عِنْدَ النَّجَاشِيّ بِخَيْرِ دَارٍ مَعْ أَكْرَمِ جَارٍ.
أَمضَى جعْفَرُ بن أبي طَالِبٍ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فِي رِحَابِ النَّجَاشِي عَشْرَ سَنَوَاتٍ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ وَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ غَادَرُوا بِلادَ الْحَبَشَةِ مَعَ نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا بَلَغُوهَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَائِداً مِنْ خَيْبَر بَعْد أَنْ فَتَحَهَا اللهُ لَهُ فَفَرِحَ بِلِقَاءِ جَعْفَرَ فَرَحاً شَدِيداً حَتَّى قَالَ: «مَا أَدْرِي بَأَيُّهَمَا أَنَا أَشَدُّ فَرَحاً أَبِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ» .
وَلَمْ تَكُنْ فَرْحَةُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُقَرَاءِ خَاصَةً بِعَوْدَةِ جَعْفَرٍ بَأَقَلَّ مِنْ فَرْحَةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَانَ جَعْفَرُ شَدِيدَ الْحَدْبِ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَثِيرَ الْبِرِّ بِهِمْ حَتَّى كَانَ يُلْقَّبُ بَأَبِي الْمَسَاكِينِ.
أَخْبَرَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ: كَانَ خَيْرَ النَّاسِ لَنَا مَعْشَرَ الْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ كَانَ يَمْضِي بِنَا إِلى بَيْتِهِ فَيُطْعِمُنَا مَا يَكُونُ عِنْدَهُ حَتَّى نَفَدَ طَعَامُهُ أَخْرَجَ لَنَا الْعُكَّةَ الَّتِي يُوضَعُ فِيهَا السَّمْنُ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ فَنَشُّفُهَا وَنَلْعَقُ مَا عَلِقَ بِدَاخِلِهَا.
وَفِي أَوَائِلِ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ جَهَّزَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَيْشاً لِمُنَازَلَةِ الرُّومِ فِي بِلادِ الشَّامِ وَأَمَّرَ عَلَى الْجَيْشِ زَيْدَ بنَ حَارِثة وَقَالَ: «إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ فَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ ابن رَوَاحَةَ فَإِنْ قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بن رَوَاحَةِ فَلَيْخَتَرْ الْمُسْلِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ أَمِيراً مِنْهُمْ» .
فَلَمَّا وَصَلَ إِلى مُؤْتَةَ وَهِيَ قَرْيَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى مَشَارِفِ الشَّامِ فِي الأُرْدَن وَجَدُوا أَنَّ الرُّومَ قَدْ أَعَدُّوا لَهُمْ مائَةَ أَلْفٍ تُعَاونُهم مَائةُ أَلْفٍ أُخْرَى مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ قَبَائِلِ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَقُضَاعَة وَغَيْرِهَا.
أَمَّا جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ ثَلاثَةَ آلافٍ وَمَا أَنْ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَدَارَتْ رَحى الْحَرْبِ حَتَّى خَرَّ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ صَرِيعاً مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ.
فَمَا أَسْرَعَ أَنْ وَثَبَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ظَهْرِ فَرَسِهِ ثُمَّ عَقَرَهَا حَتَّى لا يَنْتَفِعَ بِهَا الأَعْدَاءُ بَعْدهُ ثُمَّ حَمَلَ الرَّايَةِ وَدَخَلَ فِي صُفُوفِ الرُّومِ وَهُوَ يَنْشِدُ:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا
طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْدَنَا عَذَابُهَا
كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا
عَلَيَّ إِذْ لاقَيْتُهَا ضرَابُهَا
وَظَلَّ يَجُولُ بِسَيْفِهِ فِي صُفُوفِهِمْ وَيَصُولُ حَتَّى أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ قَطَّعَتْ يَمِينَهُ فَأَخَذَ الرَّايةَ بِشِمَالِهِ فَمَا لَبِثَ أَنْ أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ أُخْرَى قَطَعَتْ شِمَالَهُ فَأَخَذَ الرَّايَةَ بِصَدْرِهِ وَعَضُدَيْهِ فَمَا لَبِثَ أَنْ أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ ثَالِثَةٌ قَسَمَتْهُ نِصْفَيْنِ.
فَأَخَذَ الرَّايَةُ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ حَتَّى لَحِقَ بِصَاحِبَيْهِ.
بَلَغَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَصْرَعَ قُوَّادِهِ الثَّلاثَةِ فَحزِنَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْحُزْنِ وَأَمَضَّهُ وَانْطَلَقَ إِلى بَيْتِ ابن عَمِّهِ جَعْفَرِ بن أَبِي طَالِبٍ فَوَجَدَ زَوْجَتَهُ أَسْمَاءَ تَتَأَهَّبُ لاسْتِقْبَالِ زَوْجِهَا الْغَائِبِ قَدْ عَجَنَتْ عَجِينَهَا وغسلتْ بَنِيهَا وَدَهَنَتْهُمْ وَأَلْبَسَتْهُمْ.
قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَيْتُ غُلالَةً مِنْ الْحُزْنِ تُوَشِّحُ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.
فَسَرَتْ الْمَخَاوِفُ فِي نَفْسِي غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَشَأْ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ جَعْفَرَ مَخَافَةَ أَنْ أَسْمَعَ مِنْهُ مَا أَكْرَهُ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَهَبُّوا نَحْوَهُ فَرِحِينَ وَأَخَذُوا يَتَزَاحَمُونَ عَلَيْهِ كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ.
فَأَكَبَّ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ يَشُمُّهُم وَعَيْنَاهُ تَذْرَفَانِ مِن الدَّمْعِ فَقُلْتَ: يَا رَسُولُ بَأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا يُبْكِيكَ أَبَلَغَكَ عَنْ جَعْفَرٍ وَصَاحِبَيْه شَيْءٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ لَقَدْ اسْتَشْهَدُوا هَذَا الْيَوْمَ» .
عِنْدَ ذَلِكَ غَاضَتْ الْبَسْمَةُ مِنْ وُجُوهِ الصِّغَارِ لَمَّا رَأَوْا وَسَمِعُوا أُمَّهُمْ تَبْكِي وَتَنْشَجُ وَجَمَدُوا أَمَاكِنَهُمْ كَأَنَّ عَلَى رُؤْسِهِمْ الطَّيْرَ.
أَمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَضَى وَهُوَ يُكَفْكفُ عَبَرَاتِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اخْلِفْ جَعْفَراً فِي وَلَدِه اللَّهُمَّ اخْلِفْ جَعْفَراً فِي أَهْلِهِ» . ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ رَأَيْتُ جَعْفَراً فِي الْجَنَّةِ لَهُ جَنَاحَانِ مُضَرَّجَانِ بِالدِّمَاءِ» .
اللَّهُمَّ ارْحَمْ غُرْبَتَنَا فِي الْقُبُورِ وَآمِنَّا يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
انْتَهَى مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ
قصة أسيد بن الحضير
قَدِم الْفَتَى الْمَكِّيّ مُصْعَبُ بنُ عَمَيْرٍ إِلى يَثْرِبَ فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدِ بن زُرَارَةَ أَحَدِ أَشْرَافِ الْخَزْرَج وَاتَّخَذَ دَارَهُ مَقَاماً لِنَفْسِهِ وَمُنْطَلِقاً لِبَثِّ دَعْوَتِه إِلى اللهِ
وَالتَّبْشِيرِ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَخَذَ أَبْنَاءُ يَثْربَ يُقْبَلُونَ عَلَى مَجَالِس الدَّاعِيَةِ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ إِقْبَالاً كَبِيراً وَكَانَ يُرَغِّبَهُمْ فِيهِ عُذوبةُ حَدِيثِهِ ووُضُوحُ حُجَّتِه وَرِقَّةُ شَمَائِلِه وَوَضَأةُ الإِيمَان الَّتِي تُشْرَقْ فِي وَجْهِهِ.
وَكَانَ يَجْذِبُهم إِلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي كَانَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ السَّاعَةِ بَعْدَ السَّاعَةِ بَعْضاً مِنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ بِصَوْتِهِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ الرَّخِيمِ وَنَبَرَاتِهِ الْحُلْوَةِ الآسِرَةِ فَيَسْتَلِينُ بِهَا الْقُلُوبَ الْقَاسِيَةَ وَيَسْتَدِرَّ بِهَا الدَّمُوعَ الْعَاصِيَةَ فَلا يَنْفَضُّ الْمَجْلِسُ مِنْ مَجَالِسِهِ إِلا عَنْ أُنَاسٍ أَسْلَمُوا وَانْضَمُّوا إِلى كَتَائِبِ الإِيمَانِ.
وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ خَرَجَ سَعْدُ بنُ زُرَارَة بِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْر لِيَلْقَى جَمَاعَة مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَل وَيَعْرُضَ عَلَيْهِمْ الإِسْلامَ فَدَخَلا بُسْتَاناً مِنْ بَسَاتِينَ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلَ وَجَلَسَا عِنْدَ بِئْرِهَا الْعَذْبِةِ فِي ظِلالِ النَّخِيلِ فَاجْتَمَع عَلَى مُصْعَبٍ جَمَاعَةٌ قَدْ أَسْلَمُوا وَآخَرُون يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوا فَانْطَلَقَ يَدْعُو وَيُبَشِّرُ وَالنَّاسُ إِلَيْهِ مُنْصِتُونَ.
فَجَاءَ مَنْ أَخْبَرَ أُسَيْدَ بنَ الْحَضَيْر وَسَعْدَ بنَ مُعَاذٍ وَكَانَا سَيِّدَا الأَوْسِ بَأَنَّ الدَّاعِيَةَ الْمَكِّيَّ قَدْ نَزَلَ قَرِيباً مِنْ دِيَارِهِمَا وَأَنَّ الذِي جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ مُسْتَغِلاً قَرَابَتَهُ مِنْ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ إِذْ كَانَ ابْنَ خَالَتِه.
فَقَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ لأُسَيْدِ بنِ الْحُضَيْرِ: لا أَبَا لَكَ يَا أُسَيْدُ انْطَلِقْ إِلى هَذَا الْفَتَى الْمَكِّيّ الذِي جَاءَ إِلى بُيُوتِنَا لِيُغْرِيَ ضُعَفَاءَنَا وَيُسَفِّه آلِهَتَنَا وَازْجُرْهُ وَحَذِّرْهُ مِنْ أَنْ يَطَأْ دِيَارِنَا بَعْدَ الْيَوْم.
ثُمَّ أَرْدَفَ يَقُولُ: وَلَوْلا أَنَّهُ فِي ضِيَافَةِ ابنِ خَالِي أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ لَكَفَيْتُكَ
ذَلِكَ وَأَخَذَ أُسَيْدٌ حَرْبَتَه وَمَضَى نَحْوَ الْبُسْتَانِ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدُ بنُ زُرَارَةٍ قَالَ لِمُصْعَبٍ: وَيْحَكَ يَا مُصْعَبُ هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلاً وَأَكْمَلُهُمْ كَمَالاً أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ فَإِنْ يُسْلِمْ يَتْبَعْه فِي إِسْلامِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَأَصْدَقِ اللهِ فِيهِ وَأَحْسِنْ التَّأَتِي لَهُ - أَيْ عَرْضَ الأَمْرِ عَلَيْهِ -.
وَقَفَ أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْر عَلَى الْجَمْعِ وَالْتَفَتَ إِلى مُصْعَبٍ وَصَاحِبِه وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلى دِيَارِنَا وَأَغْرَاكُمَا بِضُعَفَائِنَا اعْتَزِلا هَذَا الْحَيَّ إِنْ كَانَتْ لَكُمَا حَاجَةٌ بِنَفْسَيْكُمَا.
فَالْتَفَتْ مُصْعَبُ إِلى أُسَيْدٍ بَوَجْهِهِ الْمُشْرِقِ بِنُورِ الإِيمَانِ وَخَاطَبَهُ بِلَهْجَتِهِ الصَّادِقَةِ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيَّدَ قَوْمِه هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْلِسُ إِلَيْنَا فَتَسْمَعَ مِنَّا فَإِنْ رَضِيتَ مَا قُلْنَاهُ قَبلْتَهُ وَإِنْ لَمْ تَرْضَهُ تَحَوَّلَنَا عَنْكُمْ وَلَمْ نَعُدْ إِلَيْكُمْ فَقَالَ أُسَيْدٌ: لَقَدْ أَنْصَفْتَ وَرَكزَ رُمْحَهُ فِي الأَرْضِ وَجَلَسَ.
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ يَذْكُرُ لَهُ حَقِيقَةَ الإِسْلامِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ شَيْئاً مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَأَشْرَقَتْ أَسَارِيرُهُ وَأَشْرَقَ وَجْهُه وَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الذِي تَقُولُ وَمَا أَجْمَلَ الذِي تَتْلُو كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ الدُّخُولَ فِي الإِسْلام.
فَقَالَ مُصْعَبُ: تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثِيَابَكَ وَتَشْهَدُ أَنْ لا إِله إِلا اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولَ اللهِ وَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ إِلى الْبِئْرِ فَتَطَهَّرَ بِمَائِهَا وَشَهِدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولَ اللهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَانْضَمَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلى كَتَائِبِ الإِسْلامِ.
وَكَانَ فَارِساً قَارِئاً كَاتِباً فِي مُجْتَمَع نَدَرَ فِيهِ مَنْ يَقْرَأْ أَوْ يَكْتُبُ وَكَانَ إِسْلامُه سَبَباً فِي إِسْلامِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ وَكَانَ إِسْلامُهُمَا سَبَباً فِي أَنْ تُسْلِمَ جمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الأَوْسِ وَأَنْ تُصْبِحَ الْمَدِينَةِ مُهَاجِراً لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَوْئِلاً وَقَاعِدَةً لِدَوْلَةِ الإِسْلامِ الْعُظْمَى.
وَقَدْ أُولِعَ أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْر بِالْقُرْآنِ مُنْذُ سَمَعَهُ مِنْ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ وَلَعَ الْمُحِبِّ بِحَبِيبِهِ وَأَقَبْلَ عَلَيْهِ إِقْبَالَ الظَّامِئ عَلَى الْمَوْرِدِ الْعَذْبِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِض وَجَعَلَهُ شُغْلَهُ الشَّاغِلَ فَكَانَ لا يُرَى إِلا مُجَاهِداً غَازِياً فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ عَاكِفاً يَتْلُو كِتَابَ اللهِ.
وَكَانَتْ تَطِيبُ لَهُ الْقِرَاءَةُ أَكْثَرَ مَا تَطِيبُ إِذَا سَكَنَ اللَّيْلُ وَنَامَت الْعُيُونُ وَصَفَت النُّفُوسُ وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَحَيَّنُونَ أَوْقَاتَ قِرَاءَتِهِ وَيَتَسَابَقُونَ إِلى سَمَاعِ تِلاوَتِه وَقَدْ اسْتَعْذَبَ أَهْلُ السَّمَاءِ قِرَاءَتَهُ كَمَا اسْتَعْذَبَهَا أَهْلُ الأَرْضِ.
فَفِي جَوْفِ لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي كَانَ أُسَيْدُ بن الْحُضَيْرِ جَالِساً فِي مِربَدِه وَابْنُه يَحْيَى نَائِمٌ جَانِبه وَفَرَسُهُ قَدْ أَعَدَّهَا لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مُرْتَبَطَة غَيْرَ بَعِيدَةٍ عَنْهُ وَكَانَ اللَّيْلُ سَاجِياً فَتَاقَتْ نَفْسُ أُسَيْدِ بن الْحُضَيْرِ لِلْقِرَاءَةِ.
فَإِذَا بِهِ يَسْمَعُ فَرَسَهُ وَقَدْ جَالَتْ جَوْلَةً كَادَتْ تُقَطِّعُ بِسَبَبِهَا رِبَاطَهَا فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ الْفَرَسُ وَقَرَّتْ فَعَادَ يَقْرَأْ: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَجَالَتْ جَوْلَةً أَشَدَّ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ فَخَافَ عَلَى ابْنِهِ يَحْيَى أَنْ تَطَأَهُ.
فَمَضَى إِلَيْهِ لِيُوُقِظَهُ وَهُنَا حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ السَّمَاءِ فَرَأى غَمَامَةً كَالْمِظَّلةِ لَمْ تَرَ الْعَيْنُ أَرْوَعَ وَلا أَبْهَى مِنْهَا قَطُّ وَقَدْ عُلِّقَ بِهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَمَلأَت الآفَاقَ ضِيَاءً وَسَنَاءً وَهِيَ تَصْعَدُ إِلى السَّمَاءِ حَتَّى غَابَتْ عَنْ عَيْنَيْهِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ مَضَى إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَ
مَا رَأَىَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((تِلْكَ الْمَلائِكَةَ تَسْتَمِعُ لَكَ يَا أُسَيْدُ وَلَوْ أَنَّكَ مَضَيْتَ فِي قِرَاءَتِكَ لَرَآهَا النَّاسُ)) . وَكَانَ يُحِبُّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم حُبّاً شَدِيداً وَكَانَ كَثِيراً مَا يَتَمَنَّى أَنْ يَمَسَّ جَسَدُهُ جَسَدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ أُتِيحَ لَهُ ذَلِكَ مَرَّةً فَفِي ذَاتَ يَوْمٍ كَانَ أُسَيْدُ يُطْرِفُ النَّاسَ بِمُلَحِهِ فَغَمَزَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَاصِرَتِهِ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ مَا يَقُولُ فَقَالَ أُسَيْدٌ: أَوْجَعْتَنِي يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: ((اقْتَصَّ مِنِّي)) . فَقَالَ أُسَيْدٌ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصاً وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ قَمِيصٌ حِينَ غَمَزْتَنِي.
فَرَفَعَ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ عَنْهُ فَاحْتَضَنَهُ أُسَيْدٌ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ مَا بَيْنَ إبطِهِ وَخَاصِرَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا لَبُغْيَتِي أَتَمَنَّاهَا مُنْذُ عَرِفْتُكَ وَقَدْ بَلَغْتُهَا الآنَ.
وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُبَادِلُ أُسْيَداً حُبّاً بِحُبٍّ وَيَحْفَظُ لَهُ سَابِقَتَه فِي الإِسْلامِ وَذَوْدَهُ عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى إِنَّهُ طُعِنَ سَبْعَ طَعَنَاتٍ مُمِيتَاتٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَعْرِفُ لَهُ قَدْرَهُ وَمَنْزِلَتَه فِي قَوْمِهِ فَإِذَا شَفَعَ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ شَفَّعَهُ فِيهِ حَدَّثَ أُسَيْدٌ قَالَ: جِئْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الأَنْصَارِ فِيهِمْ حَاجَة وَجُلُّ ذَاكَ الْبَيْتِ نِسْوَةٌ.
فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَقَدْ جِئْتَنَا يَا أُسَيْدُ بَعْدَ أَنْ أَنْفَقْنَا مَا بَأَيْدِينَا فَإِذَا سَمِعْتَ بِشَيْءٍ قَدْ جَاءَنَا فَاذْكُرْ لَنَا أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ.
فَجَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ مِنْ خَيْبَر فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَعْطَى الأَنْصَارَ وَأَجْزَلَ وَأَعْطَى أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَأَجْزَلَ فَقُلْتُ لَهُ: جَزَاكَ اللهُ عَنْهُمْ خَيراً يَا نَبِيَّ اللهِ فَقَالَ: ((وَأَنْتُمْ مَعْشَر الأَنْصَارِ جَزَاكُمْ اللهُ أَطْيَبَ الْجَزَاءِ فَإِنَّكُمْ مَا عَلِمْتُ أَعِفَّةٌ صُبَّرٌ وَإِنَّكُمْ سَتَلقَونْ أَثَرَةً بَعْدِي فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكم الْحَوْضُ)) .
قَالَ أُسَيْدُ فَلَمَّا آلَت الْخِلافَةُ إِلى عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَسَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَالاً وَمَتَاعاً فَبَعَثْ إِلى بِحُلَّةٍ فَاسْتَصْغَرْتُهَا فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ مَرَّ بِي شَابٌّ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ حُلةٌ سَابِغَةٌ مِنْ تِلْكَ الْحُلَلِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إِلى عُمَرَ وَهُوَ يَجُرُّهَا عَلَى الأَرْضِ جَرَّا.
فَذَكَرْتُ لِمَنْ مَعِي قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكُمْ سَتَلقَونْ أَثَرَةً مِنْ بَعْدِي)) . وَقُلْتُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلى عُمرَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قُلْتُ فَجَاءَنِي مُسْرِعاً وَأَنَا أُصَلِّي فَقَالَ: صَلِّ يَا أُسَيْدُ فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلاتِي أَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: مَاذَا قُلْتَ؟ .
فَأَخْبَرْتُه بِمَا رَأَيْتُ وَبِمَا قُلْتُ فَقَالَ: عَفَا اللهُ عَنْكَ تِلْكَ حُلَّةٌ بَعَثْتُ بِهَا إِلى فُلانٍ وَهُوَ أَنْصَارِي عَقبيّ بَدْرِيّ أُحُدِيّ فَشَرَاهَا مِنْهُ هَذَا الْفَتَى الْقُرَشِيّ وَلَبِسَهَا فَقَالَ أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ: وَاللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ فِي زَمَانِكَ وَلَمْ يَعِشْ أُسَيْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ طَوِيلاً فَقَدْ اخْتَارَهُ اللهُ إلى جِوَارِهِ فِي عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنهما. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ.
ولشيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله
وَكُنْ ذَاكِراً للهِ فِي كُلِّ حَالِةٍ
فَلَيْسَ لِذِكْرِ اللهِ وَقْتٌ مُقَيَّدُ
فَذِكْرُ إِلَهِ الْعَرْشِ سِرّاً وَمُعْلِناً
يُزِيلُ الشَّقَا وَالْهَمَّ عَنْكَ وَيَطْرُدُ
وَيَجْلِبُ لِلْخَيْرَاتِ دُنْياً وَآجِلاً
.. وَإِنْ يَأْتِكَ الْوَسْوَاسُ يَوْماً يُشَرِّدُ
فَقَدْ أَخْبَرَ الْمُخْتَارُ يَوْماً لِصَحْبِهِ
بَأَنَّ كَثِيرَ الذِّكْرِ فِي السَّبْقِ مُفْرَدُ
وَوَصَّى مُعَاذاً يَسْتَعِينُ إِلهَهُ
عَلَى ذِكْرِهِ وَالشُّكْرِ بِالْحُسْنِ يَعْبَدُ
وَأَوْصَى لِشَخْصٍ قَدْ أَتَى لِنَصِيحَةٍ
وَقَدْ كَانَ فِي حَمْلِ الشَّرَائِعِ يَجْهَدُ
بَأَنْ لا يَزَلْ رَطْْباً لِسَانُكَ هَذِهِ
تُعِينُ عَلَى كُلِّ الأُمُورِ وَتُسْعِدُ
وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ غَرْسٌ لأَهْلِهِ
بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَالْمَسَاكِنُ تُمْهَدُ
وَأَخْبَرَ أَنَّ اللهَ يَذْكُرُ عَبْدَهُ
وَمَعْهُ عَلَى كُلِّ الأُمُورِ يُسَدِّدُ
وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ يَبْقَى بِجَنَّةٍ
وَيَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ حِينَ يُخَلَّدُ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ غَيْرُ أَنَّهُ
طَرِيقٌ إِلى حُبِّ الإِلهِ وَمُرْشِدُ
وَيَنْهَى الْفَتَى عَنْ غِيْبَةٍ وَنَمِيمَةٍ
وَعَنْ كُلِّ قَوْلٍ لِلدِّيَانَةِ مُفْسِدُ
لَكَانَ لَنَا حَظٌّ عَظِيمٌ وَرَغْبَةٌ
بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ نِعْمَ الْمُوَحَّدِ
وَلَكِنَّنَا مِنْ جَهْلِنَا قَلَّ ذِكْرُنَا
كَمَا قَلَّ مِنَّا لِلإلهِ التَّعَبُّدُ
اللَّهُمَّ أَذِقْنَا عَفْوَكَ وَغُفْرَانَكَ وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ مَرْضَاتِكَ، وَعَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَاقْطَعْ عَنَّا مَا يُبْعِدُ عَنْ طَاعَتِكَ، اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوّهَا وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصة أبي الدرداء
أَبُو الدَّرْدَاءِ كُنْيَةُ عُوَيْمِر بن مَالِك الْخَزْرَجِيّ وَمِن قصته أنه كان له صَنَمٌ نَصَبَهُ في أَشْرَفِ مَكَانٍ مِن بَيْتِهِ فَنَهَضَ إليه يَوْماً فَحَيَّاهُ وَضَمَّخَهُ بَأَنْفس مَا حَوَاهُ مَتْجَرُه الْكَبِيرُ مِنْ الطَّيْبِ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْباً جَدِيداً مِنْ فَاخِرِ الْحَرِيرِ.
وَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ غَادَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْزِلَهُ يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلى مَحَلِّ تَجَارَتِه فَإِذَا شَوَارِعُ الْمَدِينَةِ وَطُرُقَاتُهَا تَضِيقُ بِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ عَائِدُونَ مِنْ بَدْرٍ وَأَمَامَهم أَفْوَاجُ الأُسَرَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ.
فَأَعْرَضَ أَبُو الدَّرْدَاءَ عَنْهُمْ وَأَقْبَلَ عَلَى فَتَىً مِنْهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن رَوَاحَةَ فَطَمَّنَهُ الْفَتَى عَلَيْهِ لَمِا كَانَ يَعْلَمُه مِنْ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ بَادَرَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ وَظَلَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى شِرْكِهِ وَلَمْ يَقْطَعْ ابنُ رَوَاحَةَ الصِّلَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بَلْ ظَلَّ يَتَعَهَّدَهُ بِالزِّيَارَةِ وَيَدْعُوهُ إِلى الإِسْلامِ وَيَحَثُّهُ عَلَيْهِ وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ.
وَعِنْدَمَا وَصَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِلى مَتْجَرِهِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي اتَّجَهَ عَبْدُ اللهِ بن رَوَاحَةَ إِلى مَنْزِلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَلَمَّا وَصَلَهُ رَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ فِي الْفِنَاءِ - أَيْ سَاحَةِ الْبَيْتِ - فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكِ يَا أَمَةَ اللهِ فَقَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا أَخَا أَبي الدَّرْدَاءِ.
فَقَالَ: أَيْنَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَقَالَتْ: ذَهَبَ إِلى مَتْجَرِهِ فَقَالَ: أَتَأَذَنِينَ؟ فَقَالَتْ: عَلَى الرَّحْبِ وَالسَّعَةِ وَأَفْسَحَتْ لَهُ الطَّرِيقَ وَمَضَتْ إِلى حُجْرَتِهَا وَانْشَغَلَتْ عَنْهُ بِإِصْلاحِ شَأْنِ بَيْتِهَا وَرِعَايَةِ أَطْفَالِهَا.
دَخَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ إِلى الْحُجُرَةِ الَّتِي وَضَعَ فِيهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ صَنَمَهُ وَأَخْرَجَ قَدُّوماً أَحْضَرَهُ مَعَهُ وَمَالَ إِلى الصَّنَمِ وَقَطَّعَهُ بِهِ وَكَسَّرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَلا كُلُّ مَا يُدْعَى مَعَ اللهِ بَاطِلُ.
ثُمَّ غَادَرَ الْبَيْتَ ثُمَّ دَخَلَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ إِلى الْحُجُرَةِ الَّتِي فِيهَا الصَّنَمُ فَرَأَتْهُ مُكَسّراً عَلَى الأَرْضِ فَقَالَتْ: أَهْلَكْتَنِي يَا ابْنَ رَوَاحَةَ.
وَلَمَّا عَادَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَأَى امْرَأَتَهُ جَالِسَةً عِنْدَ بَابِ الْحُجُرَةِ الَّتِي فِيهَا الصَّنَمُ وَهِيَ تَبْكِي خَائِفَةً مِنْهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ جَاءَنَا فِي غَيْبَتِكَ وَكَسَرَ الصَّنَمَ.
فَنَظَرَ إِلى الصَّنَم فَوَجَدَهُ حُطَاماً فَغَضِبَ وَهَمَّ أَنْ يَسْتَنْصِرَ لَهُ لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ إِلا قَلِيلاً حَتَّى سَكَتَ غَضَبَهُ ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ فِي الصَّنَمِ خَيْرٌ لَدَفَعَ عَنْهُ الأَذَى.
ثُمَّ انْطَلَقَ فَوْراً إلى ابن رَوَاحَةَ وَمَضَيَا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَنَ دُخُولَهُ فِي الإِسْلامِ وَنَدِمَ كَبِيراً عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَدْرَكَ إدْرَاكاً عَمِيقاً مَا سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ فِقْهٍ لِدِينِ اللهِ وَحِفْظٍ لِكِتَابِ اللهِ وَعِبَادَةٍ ادَّخَرُوهَا لأَنْفُسِهِمْ عِنْدَ اللهِ.
فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ بِالْجُهْدِ الْجَاهِدِ وَأَنْ يُوَاصِلَ كَلالَ اللَّيْلِ بِكَلالِ النَّهَارِ حَتَّى يَلْحَقَ بِالرَّكْبِ فَانْصَرَفَ إِلى الْعِبَادَةِ انْصِرَافَ مُتَبَتِّل - أَيْ مُنْقَطِعٌ عَنْ الدُّنْيَا - وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ إِقْبَالَ الظَّمْآنِ وَأَقْبَلَ عَلَى كِتَابِ اللهِ يَحْفَظُ كَلِمَاتِهِ وَيَتَعَمَّقَ فِي فِهْمِ آيَاتِهِ.
وَلَمَّا رَأَى التِّجَارَةَ تُنَغِّصُ عَلَيْهِ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ وَتُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَجَالِسَ الْعِلْمِ تَرَكَهَا غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ وَلا آسِفٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ سَائِلٌ فَأَجَابَ لَقَدْ كُنْتَ تَاجِراً قَبْلَ عَهْدِي بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَسْلَمْتُ وَدِدْتُ أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ التِّجَارَةِ وَالْعِبَادَةِ فَلَمْ يَسْتَقِمْ لي مَا أَرَدْتَ فَتَرَكْتُ التِّجَارَةَ وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْعِبَادَةِ.
ثُمَّ الْتِفَتَ إِلى سَائِلهِ وَقَالَ: إِنِّي لا أَقُولُ إِنَّ اللهَ عز وجل حَرَّمَ الْبَيْعَ وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنَ الذِينَ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَلَمْ يَتْرُكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ التِّجَارَةَ فَحَسْبُ وَإِنَّمَا تَرَكَ الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنْ زِينَتِهَا وَزُخْرُفِهَا وَاكْتَفَى مِنْهَا بِلُقْمَةٍ خَشِنَةٍ تُقِيمُ صُلْبَهُ وَثَوْبٍ صَفِيقٍ يَسْتَرُ بِهِ جَسَدَهُ.
وَفِي يَوْمٍ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَة فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ طَعَاماً سَاخِناً وَلَمْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ لُحُفاً فَلَمَّا أَرَادُوا النَّوْمَ جَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرِ طَلَبِ اللَّحْفِ لَهُمْ فَقَالَ وَاحِدٌ: أَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ وَأُكَلِّمُهُ.
فَقَالَ لَهُ آخَرُ: دَعْهُ فَأَبَى حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ الْحُجُرَةِ فَرَآهُ قَدْ اضْطَجَعَ وَامْرَأتُه جَالِسَة قَرِيباً مِنْهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وَلا عَلَيْهِ إِلا ثَوْبٌ خَفِيفٌ لا يَقِي مِنْ حَرٍّ وَلا يَدْفَعُ الْبَرْدَ.
فَقَالَ لأَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا أَرَاكَ إِلا كَمَا بِتْنَا أَيْنَ مَتَاعُكُمْ؟ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَنَا دَارٌ هُنَاك نُرْسِلُ إِلَيْهَا تِبَاعاً كُلَّ مَا نَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعٍ وَلَوْ كُنَّا اسْتَبْقَيْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ شَيْئاً لَبَعَثْنَا بِهِ إِلَيْكُمْ.
ثُمَّ إِنَّ فِي طَرِيقِنَا الذِي نَسْلُكُه إِلى تِلْكَ الدَّارِ عَقَبَةٌ كَؤُودٌ الْمُخِفُّ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمثقِل فَأَرَدْنَا أَنْ نُخَفِّفَ مِنْ أَثْقَالِنَا لَعَلَّنَا نَجْتَازُ، ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ فَقَالَ: نَعَمْ فَهِمْتُ وَجُزِيتَ خَيْراً.
وَفِي خِلافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه أَرَادَ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنْ يَلِيَ لَهُ عَمَلاً فِي الشَّام فَأَبَى فَأَصَرَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِذَا رَضِيتَ مِنِّي أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِمْ لأَعَلِّمَهُمْ كِتَابَ رَبِّهِمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ وَأُصَلِّي بِهِمْ ذَهَبْتُ.
فَرَضَى منْهُ عُمَرُ بِذَلِكَ وَمَضِىَ هُوَ إِلى دِمَشْقَ فَلَمَّا بَلَغَهَا وَجَدَ النَّاسَ قَدْ أُولِعُوا بِالتَّرَفِ وَانْغَمَسُوا فِي النَّعِيمِ فَهَالَهُ ذَلِكَ وَدَعَا النَّاسَ إِلى الْمَسْجِدِ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَوَقَفَ فِيهِمْ.
وَقَالَ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ أَنْتُمْ الإِخْوَانُ فِي الدِّينِ وَالْجِيرَانُ فِي الدَّار ِوَالأَنْصَارُ عَلَى الأَعْدَاءِ يَا أَهْلَ دِمَشْقَ مَا الذِي يَمْنَعُكم مِنْ مَوَدَّتِي وَاسْتِجَابَة لِنَصِيحَتِي وَأَنَا لا أَبْتَغِي مِنْكُمْ شَيْئاً فَنَصِيحَتِي لَكُمْ وَمَؤُنَتِي عَلَى غَيْرِكُمْ.
مَالِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ وَجُهَّالَكُمْ لا يَتَعَلَّمُونَ وَأَرَاكُمْ قَدْ أَقْبَلْتُمْ عَلَى مَا تَكَفَّلَ اللهُ لَكُمْ بِهِ عز وجل وَتَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مَالِي
أَرَاكُمْ تَجْمَعُونَ مَالاً تَأْكُلُونَ وَتُبْنُونَ مَالا تَسْكُنُونَ وَتُؤْمَّلُونَ مَالا تَبْلُغُونَ.
لَقَدْ جَمَعَتِ الأَقْوَامُ الَّتِي قَبْلَكُمْ وَأَمَّلَتْ فَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى أَصْبَحَ جَمْعُهم بُوراً وَأَمْلُهُمْ غُرُوراً وَبُيُوتُهم قُبُوراً هَذِهِ عَادٌ يَا أَهْلَ دِمَشْق قَدْ مَلأَتْ الأَرْضَ مَالاً وَوَلَداً فَمَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تِركةَ عَادٍ بِدِرْهَمَيْنِ.
فَجَعَلَ النَّاسُ يَبْكُونَ حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهم مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.
وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ طَفِقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَؤُمُّ مَجَالِسَ الْقَوْمِ فِي دِمَشْقَ وَيُطُوفُ أَسْوَاقَهُمْ فَيُجِيبُ السَّائِلَ وَيُعَلِّمُ الْجَاهِلَ وَيُنَبّهُ الْغَافِلَ مُغْتَنِماً كُلَّ فُرْصَةٍ مُسْتَفِيداً مِنْ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ.
وَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِجَمَاعَةٍ قَدْ تَجَمْهَرُوا عَلَى رَجُل وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَشْتِمُونَهُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ قَالُوا: رَجُلٌ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ كَبِيرٍ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ أَفَلا تَكُونُوا تَسْتَخرجُونَه مِنْهُ؟ قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: لا تَسُبُّوهُ ولا تَضْرِبُوهُ وِإِنَّمَا عِظُوهُ وَبَصِّرُوهُ وَاحْمِدُوا اللهِ الذِي عَافَاكُمْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي ذَنْبِهِ، قَالُوا: أَفَلا تُبْغِضُهُ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُبْغِضُ فِعْلَهُ فَإِذَا تَرَكَهُ فَهُوَ أَخِي فَأَخَذَ الرَّجُلُ يَنْتَحِبُ وَيُعْلِنُ تَوْبَتَهُ.
وَجَاءَ شَابٌّ إِلى أَبِي الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ أَوْصِنِي فَيَقُولُ لَهُ: يَا بُنَيَّ اذْكُرِ اللهَ فِي السَّرَّاءِ يَذْكُرْكَ فِي الضَّرَّاءِ يَا بُنِيَّ كُنْ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً أَوْ مُسْتَمِعاً وَلا تَكُنْ الرَّابعَ فَتَهْلَكَ.
يَا بُنَيَّ لِيَكُنْ الْمَسْجَدُ بَيْتُكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْمَسَاجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيّ وَقَدْ ضَمِنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ
لِمَنْ كَانَتْ الْمَسَاجِدُ بُيُوتُهُمْ الرَّوْحَ وَالرَّحْمَةَ وَالْجَوَازَ - أي الْمُرُورَ - عَلَى الصِّرَاطِ إِلى رِضْوَانِ اللهِ عز وجل.
وَفِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِدِمَشْق بَعثَ إِلَيْهِ وَإِلَيْهَا مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ الدَّرْدَاءَ لابْنِهِ يَزْيدَ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا لَهُ وَأَعْطَاهَا لِشَابٍّ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ رَضِيَ دِينَه وَخَلَقَهُ.
فَسَارَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: خَطَبَ يَزِيدُ بنُ مُعَاوِيَةَ بِنْتَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَرَدَّهُ وَزَوَّجَهَا لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
فَسَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاءِ سَائِلٌ عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا تَحَرَّيْتُ فِيمَا صَنَعْتُهُ صَلاحَ أَمْرِ الدَّرْدَاءِ فَقَالَ السَّائِلُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا ظَنُّكُمْ بِالدَّرْدَاءِ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهَا الْعَبِيدُ يَخْدِمُونَهَا وَوَجَدَتْ نَفْسَها فِي قُصُورٍ يَخْطِفُ لألأؤُهَا الْبَصَرَ أَيْنَ يُصْبِحُ دِينُهَا يَوْمَئِذٍ.
وَفِي خَلالِ وُجُودِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي بِلادِ الشَّامِ قَدِمَ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِِنينَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّاب مُتَفَقّداً أَحْوَالَهَا فَزَارَ صَاحِبَهُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَنْزِلِهِ لَيْلاً فَدَفَعَ الْبَابَ فَإِذَا لَيْسَ غَلَقٌ فَدَخَل فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لا ضَوْءَ فِيهِ.
فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ حِسَّهُ قَامَ إِلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَجْلَسَهُ وَأَخَذَ الرَّجُلانِ يَتَفَاوَضَانِ الأَحَادِيثَ وَالظَّلامُ يَحْجِبُ كُلاً مِنْهُمَا عَنْ عَيْنَيْ صَاحِبِهِ.
فَجَسَّ عُمَرُ وِسَادَةَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَإِذَا هِيَ بَرْذَعَةٌ - كِسَاءٌ يُلْقَى عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ - وَجَسَّ فِرَاشَهُ فَإِذَا هُوَ حَصَى وَجَسَّ دِثَارَهُ - غِطَاءَهُ - فَإِذَا هُوَ كِسَاء رَقِيقٌ لا يَقِي شَيْئاً فِي الْبَرْدِ فِي دِمَشْقَ.
فَقَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَتَذْكُرْ يَا عُمَرُ حَدِيثاً حَدّثَنَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّ حَدِيثٍ؟ قَالَ: أَلَمْ يَقُلْ: ((لِيَكُنْ بَلاغُ أَحَدِكُمْ مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ)) .
قَالَ: بَلَى قَالَ: فَمَاذَا فَعَلْنَا بَعْدَهُ يَا عُمَرُ فَبَكَى عُمَرُ وَبَكَى أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمَا زَالا يَتَجَاوَبَانِ بِالْبُكَاءِ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْهِمَا الصُّبْحُ.
ظَلَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي دِمَشْقَ يَعِظُ أَهْلَهَا وَيُذَكِّرُهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ.
وَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ دَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي قَالُوا: وَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: عَفْوَ رَبِّي ثُمَّ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: لَقِّنُونِي لا إِلهَ إِلا اللهُ مُحَمَّد رَسُولُ اللهِ فَمَا زَالَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى فَارَقَ الْحَيَاةَ.
وَلَمَّا لَحِقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِجِوَارِ رَبِّهِ رَأَى عَوْفُ بنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَرْجاً أَخْضَرَ. فَسِيحَ الأَرْجَاءِ وَارِفَ الأَفْيَاءِ فِيهِ قُبّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ أَدَمٍ - أَيّ جِلْدٍ - حَوْلَهَا غَنَمٌ رَابِضَةٌ لَمْ تَر الْعَيْنُ مِثْلَهَا قَطُّ.
فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لِعَبْدِ الرَّحْمَن بنِ عَوْفٍ فَطَلَعَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْفٍ مِنَ الْقُبَّةِ وَقَالَ لَهُ: يَا ابنَ مَالِك هَذَا مَا أَعْطَانَا اللهُ عز وجل بِالْقُرْآنِ وَلَوْ أَشْرَفْتَ عَلَى هَذِهِ الثَّنِيَّةِ رَأَيْتَ مَا لَمْ تَرَ عَيْنُكَ وَسَمِعْتَ مَا لَمْ تَسْمَعْ أُذُنُكَ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِكَ فَقَالَ ابنُ مَالِكٍ: وَلِمَنْ ذَلِكَ كُلَّهُ يَا أَبَا مُحَمَّدِ؟ فَقَالَ: أَعَدَّهُ اللهُ عز وجل لأَبِي الدَّرْدَاءِ لأَنَّهُ كَانَ يَدْفَعُ عَنْهُ الدُّنْيَا بِالَّراحَتَيْنِ وَالصَّدْرِ. انْتَهَى مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِن التَّالِينَ وَلَكَ بِهِ مِن الْعَامِلِينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيَاتِ مُنْتَفِعِينَ، وَإِلى لَذِيذِ خِطَابِهِ مُسْتَمِعِينَ، وَلأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعِينَ
وَبِالأَعْمَالِ مُخْلِصِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحياء منهم والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ بَعْضُهُمْ نَاظِماً لِمَا ذَكر ابنُ الْقَيِّمِ مِنْ مَفَاتِيح الْخَيْرِ وَالشَّرِّ:
حَمِدْتُ الذِي يُولِي الْجَمِيلَ وَيُنْعِمُ
لَهُ الْفَضْلُ يُؤْتِي مَنْ يَشَاءُ وَيُكْرِمُ
وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ
عَلَى خَيْرِ مَخْلُوقٍ عَلَيْهُ يُسَلِّمُ
مُحَمَّدٍ الْهَادِي وَأَصْحَابِهِ الأَلى
بِحُسْنِ اجْتِهَادٍ عَلَّمُوا وَتَعَلَّمُوا
وَبَعْدُ فَقَدْ عَنَّ الْوَفَاءُ لِسَائِلِ
بِوَعْدِيَ إِيَّاهُ بِأَنِّي أَنْظِمُ
مَفَاتِيحَ كَانَتْ لِلشُّرُورِ وَضِدِّهَا
فَقَدْ فَازَ مَنْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَعْلَمُ
وَأَضْحَى بِمَا يَدْرِي مِنْ الْحَقِّ عَامِلا
فَكُنْ عَامِلاً بِالْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
وَقَدْ جَعَلَ الْمَوْلَى لَهُنَّ مَفَاتِحاً
تَنَالُ بِهَا وَاللهُ بِالْحَقِّ أَعْلَمُ
فَمِفْتَاحُ شَرْعِيّ الصَّلاةِ طَهُورُنَا
وَيَفْتَحُ حَجّاً مُحْرِمٌ حِينَ يُحْرِمُ
وَبِالصِّدْقِ فَتْحُ الْبِرِّ وَالْعِلْمُ فَتْحُهُ
بِحُسْنِ سُؤَالٍ عَنْ فَتَىً يَتَعَلَّمُ
وَمُسْتَحْسِنُ الإِصْغَاءِ وَالنَّصْرُ فَتْحُه
مَعَ الظَّفِرَ الْمَحْمُودِ بِالصَّبْرِ فَاعْلَمُوا
وَتَوْحِيدُنَا للهِ مِفْتَاحُ جَنَّةِ النَّـ
نَعِيمِ فَبِالتَّوْحِيدِ دِينُوا تُنَعمُّوا
وَبِالشُّكْرِ لِلنَّعْمَاءِ فَتْحُ زِيَادَةً
وَيَحْصُلُ حُبٌّ وَالْوِلايَةَ تُغْنَمُ
بِمِفْتَاحِهِ الذِّكْرِ الشَّرِيفِ وَذُو التَّقَى
يَنَالُ بِتَقْوَاهُ الْفَلاحَ وَيُكْرَمُ
وَمِفْتَاحُ تَوْفِيقِ الْفَتَى صِدْقُ رَغْبَةٍ
وَرَهْبَتِهِ ثُمَّ الدُّعَاءُ الْمُكَرَّمُ
لَدَى اللهِ مِفْتَاحُ الإِجَابَةِ وَاعْلَمَنْ
بَأَنَّ جَمِيلَ الزُّهْدِ لِلْعَبْدِ مَغْنَمُ
وَيُفْتَحُ لِلْعَبْدِ التَّجَلِّي بِرَغْبَةٍ
بِدَارِ الْبَقَاءِ فَازْهَدْ لَعَلَّكَ تَغْنَمُ
وَمِفْتَاحُ إِيمَانِ الْعِبَادِ تَفَكّرٌ
بِمَا كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَعَاهُمْ
إِلى نَظَرٍ فِيهِ وَأَنْ يَتَفَكَّرُوا
بِهِ وَدُخُولُ الْعَبْدِ ذَاكَ الْمُفَخَّمُ
عَلَى رَبِّهِ مِفْتَاحُ ذَاكَ سَلامَةٌ
وَإِسْلامُ قَلْبٍ لِلإِلهِ فَأَسْلِمُوا
وَمَعْ ذَاكَ إِخْلاصٌ بِحُبِّ وَبُغْضِهِ
.. وَفِعْلٌ وَتَرْكٌ كُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ
وَيُحْيِ قُلُوبَ الْعَارِفِينَ تَضَرُّعٌ
بَأَوْقَاتِ أَسْحَارٍ فَكُنْ أَنْتَ مِنْهُمْ
كَذَا الْوَحْيُ إِذْ يُتْلَى بِحُسْنِ تَدَبُّر
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَهِيَ لِلْقَلْبِ تُؤْلِمُ
وَإِحْسَانُ عَبْدٍ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ
وَنَفْعُ الْعِبَادِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِمُ
لإِصْلاحِهِمْ مِفْتَاحُ تَحْصِيلِ رَحْمَةِ الْـ
إِلهِ فَلازِمْ ذَا لَعَلَّكَ تُرْحَمُ
وَمِفْتَاحُ رِزْقِ الْعَبْدِ سَعْيٌ مَعَ التُّقَى
وَكَثْرَةُ الاسْتِغْفَارِ إِذْ هُوَ مُجْرِمُ
وِمِفْتَاحُ عِزِّ الْعَبْدِ طَاعَةُ رَبِّهِ
وَطَاعَةُ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ فَعَظِّمُوا
وَمِفْتَاحُ الاسْتِعْدَادِ مِنْكَ لِمَا لَهُ
تَصِيرُ مِنْ الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ
هُوَ الْقَصْرُ لِلآمَالِ وَالْخَيْرُ كُلُّه
مِفْتَاحُهُ رَغْبٌ مِنْ الْعَبْدِ يُعْلَمُ
بِمَوْلاهُ وَالدَّارِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ
وَمِفْتَاحُ كُلِّ الشَّرِّ إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ
إِطَالَتْكُ الآمَالُ فَاحْذَرْ غُرُورَهَا
وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا الَّتِي تَتَصَرَّمُ
.. وَمِفْتَاحُ نَارِ الْخُلْدِ شِرْكٌ بِرَبِّنَا
وَكِبْرُ الْفَتَى فَالْكِبْرُ حُوبٌ مُعَظَّمُ
وَإِعْرَاضُهُ عَمَّا عَنْ اللهِ قَدْ أَتَى
بِهِ الْمُصْطَفَى الْهَادِي النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ
وَغَفْلَتُه عَنْ ذِكْرِهِ وَقِيَامِهِ
بِحَقٍّ لِذِي الْعَرْشِ الْمَلِيكِ يُحَتِّمُ
وَمِفْتَاحُ إِثْمٍ يُوبِقُ الْعَبْدَ مُسْكِرٌ
مِنْ الْخَمْرِ فَاحْذَرْهَا لَعَلَّكَ تَسْلَمُ
وَمِفْتَاحُ ذِي الْمَقْتِ الزَّنَا سِيِّءُ الْغِنَا
وَذَلِكَ قُرْآنُ اللَّعِينِ وَمَأْثَمُ
وَإِطْلاقُ طَرْفِ الشَّخْصِ مِفْتَاحُ عِشْقِهِ
لِمُسْتَحْسَنِ الأَشْبَاحِ فَهُوَ مُحَرَّمُ
وَبِالْكَسَلِ الْمَذْمُومِ مَعْ رَاحَةِ الْفَتَى
يَخِيبُ وَكُلُّ الْخَيْرِ لا شَكَّ يُحْرَمُ
وَمِفْتَاحُ كُفْرَانِ الْفَتَى وَبَرِيدُهُ
مَعَاصِيهِ وَالْعَاصِي قَرِيباً سَيَنْدَمُ
وَبَابُ نِفَاقِ الْعَبْدِ يَفْتَحُهُ إِذَا
يَكُونُ كَذُوباً وَالْكَذُوبُ مُذَمَّمُ
وشُحُّ الْفَتَى وَالْحِرْصُ مِفْتَاحُ بُخْلِهِ
وَمِفْتَاحُ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ
بَأَنْ لَيْسَ حِلاً مَعْ قَطِيعَةِ رَحْمِهِ
.. وَكُلُّ ابْتِدَاعٍ فِي الْخَلِيقَةِ يُعْلَمُ
فَمِفْتَاحُهُ الأَعْرَاضُ عَمَّا أَتَى بِهِ
نَبِيُّ الْهُدَى مِنْ سُنَّةٍ نَتَعَلَّمُ
وَأَخْتِمْ قَوْلِي فِي الْقَرِيضِ بَأَنَّنِي
أُصُلِّي عَلَى خَيْرِ الْوَرَى وَأُسَلِّمُ
وَآلٍ مَعَ الصَّحْبِ الْكِرَامِ الذِينَ هُمْ
لِمُقْتَبِسٍ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ أَنْجُمُ
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
صُوَر مِنْ حَيَاةِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم
قَالَ فِي صُورٍ مِنْ حَيَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَتْ أَمُّ الْقُرَى مَعْقِلَ الْوَثِنِيَّةِ فِي جِزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا وَكَانَتْ مَجْمَعَ الأَصْنَام وَقِبْلَةَ الأَنْضَارِ وَمَطْمَعَ آمَالِ الْقَبَائِل قَرِيبَهَا وَبَعِيدَهَا وَكَانَتْ قُرَيْشٌ حَارِسَةَ الْكَعْبَةِ وَسَادِنةَ الْبَيْتِ وَإِلَيْهَا الرِّيَاسَةُ وَالْقِيَادَةُ.
وَكَانَتْ مَنْزِلَةُ الْقَبَائِل مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ مَنْزِلَةُ الْمَسُودِ مِنْ السَّيْدِ وَالتَّابِعِ مِنْ الْمَتْبُوعِ وَمِنْ هُنَا كَانَتْ الْقَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ تَنْظُرُ إِلى الْمَعْرَكَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقُرَيْشٍ نَظْرَةَ الْجِدِّ وَالاهْتِمَامِ وَتُتَابِعُ حَرَكَاتِهَا وَخُطُوَاتِهَا مُتَابَعةً دَقِيقَةً.
وَكَانَتْ كُلُّ حَرَكَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ وَخُطْوَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخُطَى تَتْرُكُ فِي اتِّجَاهَاتِ الْقَبَائِلِ أَثَراً بَارِزاً مِنْ حَيْثُ إِقْبَالِهَا عَلَى الإِسْلام أَوْ إِعْرَاضِهَا عَنْهُ وَمِنْ حَيْثُ اجْتِمَاعِهَا لَهُ أَوْ اجْتِمَاعِهَا عَلَيْهِ.
وَمَعَ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالْمَعَارِكَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْجَزِيرَةِ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ وَقُرَيْش وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودَ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَبَائِلَ الْعَرَبِ فِي نَوَاحِي الْجَزِيرَةِ كَانَتْ ذَاتَ أَثَرٍ فِي ظُهُورِ الإِسْلامِ وَانْتِشَارِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْقَبَائِلِ.
فَإِنَّ بَقَاءَ مَكَّةَ عَلَى شِرْكِهَا وَهِيَ أَمُّ الْقُرَى وَمَعْقلُ الْوَثَنِيَّةِ ظَلَّ سَدّاً حَائِلاً دُونَ خلُوصِ الْجَزِيرَةِ الْعَرِبِيَّةِ لِلإِسْلامِ وَحْدَهُ وَظَلَّتْ هِيَ الْعَقَبَةُ الْكَؤُودُ فِي طَرِيقِهِ.
وَكَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ السَّادِسَةِ أَوَّل مَفَاتِيحِ هَذَا الْمَعْقِلِ الْعَتِيدِ فَقَدْ اعْتَرَفَتْ قَرَيْشٌ فِي ذَلِكَ الصُّلْح بَأَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم صَاحِبُ مَذْهَبٍ جَدِيدٍ وَأَنَّهُ لا بَأْسَ مِنْ أَنْ تُقِيمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَهْداً يَسْتَقِرُّ بِهِ السَّلْمُ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بَعْدَ مَا عَجَزَتْ كُلَّ الْعَجْزِ وَفَشَلَتْ عَنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَذْهَبِهِ لَقَدْ ظَلَّتْ قُرَيْشٌ دَهْراً طَوِيلاً لا تَعْتَرِفُ بِمُحَمَّدٍ وَلا بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ الذِي خَالَفَ بِهِ دِينَهَا وَعَقَائِدَهَا وَخَرَجَ بِهِ عَلَى تَقَالِيدِهَا وَتَقَالِيدِ آبَائِهَا وَقَلَبَ بِهِ أَوْضَاعِهَا رَأْساً عَلَى عَقِبٍ وَظَلَّتْ قُرَيْشٌ فِي كِبْرِيَائِهَا وَتَعَاظُمِهَا تَفْتَرِي عَلَيْهِ الأَكَاذِيبَ وَتَصِفُهُ بِمَا تَشَاءُ مِنْ الأَوْصَافِ الَّتِي تُشَوِّهُ سُمْعَتَهُ وَدَعْوَتَهُ بَيْنَ الْعَرَبِ فَلَمَّا عَجَزَتْ وَانْقَطَعَتْ بِكُلِّ وَسَائِلِهَا أَنْ تَقْضِي عَلَيْهِ وَعَلَى دَعْوَتِهِ اضْطَرَّتْ أَنْ تُنْزِلَهُ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ النِّدِّ مِنْ النِّدِّ وَأَنْ تُصَالِحَه وَلَو إلى حِينٍ لِتَتَّقِي خَطَرَهُ وَتَأْمَنَ جَانِبَهُ فَكَانَ هَذَا الصُّلْحُ أَوَّلَ مِفْتَاحٍ فَكَّ اللهُ بِهِ إِغْلاقَ مَكَّةَ.
ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَامٍ هِيَ الْمِفْتَاحُ الثَّانِي مِنْ
مَفَاتِيحِ ذَلِكَ الْحِصْنِ فَقَدْ كَانَ مَظْهَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْعُمْرَةِ وَهُمْ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَفِي ائْتِلافِهِمْ وَتَضَامُنِهم وَفِي حُسْنِ انْقِيَادِهِمْ وَدِقَّةِ نِظَامِهِمْ وَفِي صِدْقِ مَحَبَّتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي عَظِيمِ حَمَاسَتِهِمْ لِدِينِهم وَشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِآدَابِهِ وَفِي بَالِغِ تَقْدِيسِهِمْ لِلْبَيْتِ وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَفِي كُلِّ مَا كَانُوا يُؤدُّونهُ مِنْ شَعَائِرِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَمَاسَةِ وَهَذِهِ الأَلْفَةِ وَهَذَا النِّظَامِ وَهَذَا التَّرَفُّع عَنْ كُلِّ مَا يَشِينُ أَخْلاقَ الرِّجَالِ كَانَ مَظْهَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ هَذَا مَظْهَراً هَزَّ نُفُوسَ أَهْلِ مَكَّةِ هَزّاً عَنِيفاً وَلَمَسَ مَكَانَ الْعَقِيدَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَزَلْزَلَهَا زِلْزَالاً شَدِيداً فَأَخَذُوا يَنْظُرُونَ إِلى الْمُسْلِمِينَ نَظْرَةَ الإِعْجَابِ وَالإِكْبَارِ وَالإِعْظَامِ وَيَنْظُرُونَ إِلى الإِسْلامِ نَظْرَةَ التَّفْكِيرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمْ وَجَعَلُوا يُقَارِنُونَ بَيْنَ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ دِين وَعَقِيدَةٍ وَمِنْ تَقَالِيدَ لا يَقْبَلُهَا عَقْلٌ سَلِيمٌ ولا يُقِرُّهَا مَنْطِقٌ وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ هَذِهِ الشَّعَائِر الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْمُسْلِمُونَ فِي خُشُوعٍ وَانْسِجَامٍ وَخُضُوعٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَبَيْنَ مَا يَفْعَلُونَ هُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ مِنْ لَغْوٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ وَبَاطِلٍ وَمَا يَقُومُونَ بِهِ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ مِنْ مُكَاءٍ وَتَصْدِيَةٍ - أَي صَفِيرٍ وَتَصْفِيقٍ -.
نَعَمْ أَخَذُوا يَنْظُرُونَ وَيَتَفَكَّرُونَ فَوَجَدُوا فَرْقاً شَاسِعاً، وَبَوْناً بَعِيداً بَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الضَّلالِ وَمَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ النُّورِ فَلانَتْ قُلُوبُهُمْ لِلإِسْلامِ.
وَصَغَتْ إِلَيْهِ أَفْئِدَتُهم فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْهَرَ بِإسْلامِهِ. وَأَسَرَّ الإِسْلامَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِظْهَارِه، وَتَهَيَّأَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لأَنْ يُسْلِمُوا لَوْلا بَعْضُ الْمَوَانِع الَّتِي قَدَّرَهَا اللهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ الَّتِي أُصِيبَتْ
بِهَا عَقِيدَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مِفْتَاحاً آخَرَ فَكَّ اللهُ بِهِ أَغْلاقَ مَكَّةَ، ثُمَّ أَرَادَ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَفُكَّ كُلَّ مَا بَقِيَ مِنْ أَغْلاقِ هَذَا الْحِصْن، فَكَانَ مَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ مِنْ نَقْضِ قُرَيْشٍ لِعَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَبِيلَتِي بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ دَماً وَتِرَاتاً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَخَلَتْ بَكْرٌ فِي عَهْدِ قُرَيْش هَدَأَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَأَمِنَ كُلُّ فَرِيقٍ جَانِبَ عَدُوَّهِ. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ: فَلَمَّا اسْتَمَرَّتْ الْهُدْنَةُ اغْتَنَمَهَا بَنُو بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ الثَّأْرَ الْقَدِيمَ فَخَرَجَ نَوْفَلُ بنُ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي بَكْر فَبَيَّتَ خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى الْوَتِيرِ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رِجَالاً وَتَنَاوَشُوا وَاقْتَتَلُوا وَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَني بَكْرٍ بِالسِّلاحِ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ قَاتلَ مُسْتَخْفِياً.
فَلَجَأَتْ خُزَاعَةُ إِلى الْحَرَمِ لِتَحْتَمِي بِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ رِجَالَ بَكْرٍ مِنْ مُتَابَعَتِهَا حَتَّى قَتَلُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلاً فَلَمَّا دَخَلَتْ خُزَاعَة مَكَّةَ لَجَؤُوا إِلى دَارِ بُدَيلِ ِبْن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ وَمُوْلَى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: رَافِعُ وَخَرَجَ عَمْرُو بن سَالِمٍ الْخَزَاعِي حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى الْمَدِينَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانِي أَصْحَابِهِ.
فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداً
حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمُوا وِلْداً وَكُنَّا وَالِدَا
ثُمَّ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنَزَعْ يَدَ
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أَيَّداً
وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا
أَبْيَضُ مِثْلُ الْبَدْرِ يَسْمُو صُعُدَا
إِن سِيمَ خَسْفاً وَجْهُه تَرَبَّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا
إِنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءَ رَصَدَا
وَزَعَمُوا أَنَّ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا
وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
هم بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا
وَقَتَّلُونَا رُكَّعاً سُجَّدَاً
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بنَ سَالِم» . ثُمَّ عَرَضَتْ سَحَابَةٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ)) . ثُمَّ خَرَجَ بَدِيلُ بن وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ فِيهِمْ وَبِمَظَاهِرِ قُرَيْشٍ لِبَنِي بَكْر ثُمَّ رَجَعُوا إِلى مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَأَنَّكُمْ بَأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ
لِيَشُدَّ فِي الْعَقْدِ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ» . وَوَقَعَ طِبْقَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ وَقَدْ أَحَسَّتْ قُرَيْشٌ بِمَا وَرَاءَ غَدْرِهَا ذَاكَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فَأَوْفَدَتْ إِلى الْمَدِينَةِ زَعِيمَهَا أَبَا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ لَعَلَّهُ يَتَلاقَى هَذِهِ الْغَلْطَةَ وَنَتَائِجَهَا وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَحِسُّ خَطَرَ هَذَا الأَمْرِ الذِي هُوَ مُقْدِمٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَشَأْ الذِّهَابَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَّأَ، بَلْ لابُدَّ مِنْ تَمْهِيدِ الطَّرِيقِ لِلِقَائِهِ.
فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشْفِعُ بِهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَوَتْهُ عَنْهُ أُمِّ حَبِيبَةَ.
فَعَجِبَ أَبُو سُفْيَانَ لِمَا رَأَى مِنْ فِعْلِ ابْنَتِهِ وَقَالَ لَهَا: بُنَيَّةُ مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي فَجَابَهَتْهُ ابْنَتُه فِي صَرَاحَةٍ تَقُولُ: بَلْ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجَسٌ فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ هَذِهِ صَدْمَة شَدِيدَة الْوَقْعِ عَلَى نَفْسِ أَبِي سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُهَا مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ.
فَلَمْ يَمْلِكْ أَنْ قَالَ لابْنَتِهِ مُعَبِّراً عَمَّا نَالَهُ مِنْ الإهَانَةِ: وَاللهِ لَقَدْ أَصَابَكَ بَعْدِي يَا بُنَيَّة شَرٌّ ثُمَّ خَرَجَ خَجِلاً مُضَعْضَعَ النَّفْسِ مَكْلُومَ الْفُؤادِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئاً فَكَانَتْ هَذِهِ الصَّدْمَةُ أنَكْىَ مِنْ الأَوْلَى.
اللَّهُمَّ يَا مَنَّ عَمَّ الْبَرِيَّةِ جُودُهُ وَإِنْعَامُه نَسْأَلُكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانك، وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَشَدَّ مَا يَكُونُ خَجَلاً وَإنْكِسَاراً وَذَهَبَ يَسْتَشْفِعُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ إِلى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ وَذَهَبَ إِلى عُمَرَ فَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ وَرَدَّ عَلَيْهِ فِي جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ.
فَقَالَ: أَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إِلى رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم فَوَاللهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا الذََّّر لَجَاهَدْتكم بِهِ وَهِذِهِ صَدْمَةٌ عَظِيمَةٌ حَطَّمَتْهُ زِيَادَةً، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ وَحَسَنٌ غُلامٌ يَدِبُّ بَيْنَ يَدَيْهِمَا فَقَالَ: يَا عَلِيَّ إِنَّكَ أَمَسَّ الْقَوْمِ بِي رَحِمَاً وَإِنِّي قَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ فَلا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبَا اشْفَعْ لِي إِلى مُحَمَّدٍ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَاللهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ.
فَالْتَفَتْ إِلى فَاطِمَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَأْمُرِي ابْنَكِ هَذَا فَيُجِيرُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ سَيِّدَ الْعَرَبِ إِلى آخِرِ الدَّهْرِ؟ .
قَالَتْ: (وَاللهِ مَا يَبْلُغ ابْنِي ذَاكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنِّي أَرَى الأُمُورَ قَدْ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ، فَانْصَحْنِي، قَالَ: (وَاللهِ مَا أَعْلَمُ لَكَ شَيْئاً يُغْنِي عَنْكَ، وَلِكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجْرِ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ الْحَقْ بَأَرْضِكَ) .
قَالَ: أَوَ تَرَى ذَلِكَ مُغْنِياً عَنِّي شَيْئاً؟ قَالَ: (لا، وَاللهِ مَا أَظُنُّه، وَلَكِنِّي مَا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ) فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي
قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ، فَانْطَلَقَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟
قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّداً فَكَلَّمْتُه، فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئاً ثُمَّ جِئْتُ ابنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْراً، ثُمَّ جِئْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ فَوَجَدتُه أَوْفَى الْعَدُو، ثُمَّ جِئْتُ عَلِيّاً فَوَجَدْتُه أَلْيَنَ الْقَوْمِ. قَدْ أَشَارَ عَلَيّ بِشَيْءٍ صَنَعْتُه، فَوَاللهِ مَا أَدْرِي: هَلْ يُغْنِي عَنِّي شَيْئاً، أَمْ لا؟ .
قَالُوا: وَبِمَ أَمَرَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، فَفَعَلْتُ، فَقَالُوا: فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لا، قَالُوا: وَيْلَكَ، وَاللهِ إِنْ زَادَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِكَ، قَالَ: لا وَاللهِ مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَأَمَرَ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِالْجِهَاز، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهِّزُوهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَهِيَ تُحَرِّكُ بَعْضَ جِهَازِ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، أَمَرَكُنَّ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم بِتَجْهِيزِهِ؟ .
قَالَتْ: نَعَمْ، فَتَجَهَّزَ، قَالَ: فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ؟ قَالَتْ: لا وَاللهِ، مَا أَدْرِي. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلى مَكَّة، فَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالتَّجَهُّزِ، وَقَالَ:«اللَّهُمَّ خُذْ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا» . فَتَجَهَّزَ النَّاسُ، فَكَتَبَ حَاطِبُ بنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلى قُرَيْشٍ كِتَاباً يُخْبِرُهُمْ فِيهِ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً، وَجَعَل لَهَا جُعْلاً عَلَى أَنْ تبَلِّغَهُ قُرَيْشاً، فَجَعَلَتْهُ فِي قُرُونِ رَأْسِهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ. وَأَتَى
رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ فَبَعَثَ عَلِيّاً وَالزُّبَيْر.
وَغَيْرُ ابنِ إِسْحَاق يَقُولُ: بَعَثَ عَلِيّاً وَالْمِقْدَادَ - فَقَالَ: «انْطَلِقَا حَتَّى تَأْتِيَا رَوْضَةَ خَاخ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ إِلى قُرَيْشٍ، فَانْطَلَقَا تَعَادَى بِهِمَا خَيْلُهَمَا، حَتَّى وَجَدَا الْمَرْأَةَ بِذَلِكَ الْمَكَانَ، فَاسْتَنْزَلاهَا، وَقَالا: مَعَكِ كِتَابٌ؟ فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَفَتَّشَا رَحْلَهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئاً، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: أَحْلِفُ بِاللهِ، مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلا كَذِبْنَا، وَاللهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرَّدَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدّ مِنْهُ.
قَالَتْ: أَعْرِضْ. فَأَعْرَضَ. فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِمَا، فَأَتَيَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا فِيهِ (مِنْ حَاطِب بنِ أَبِي بَلْتَعَة إِلى قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهم بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ) .
فَدَعَا رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم حاطباً، فَقَالَ:((مَا هَذَا يَا حَاطِب)) ؟ فَقَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا ارْتَدَدْتُ وَلا بَدَّلْتُ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ لَسْتُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلِي فِيهِمْ أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ وَوَلَدٌ، وَلَيْسَ لِي فِيهِمْ قُرَابَةٌ يَحْمُونَهُمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ لَهُمْ قُرَابَاتٌ يَحْمُونَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ: أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي.
فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّهُ
قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَقَدْ نَافَقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ؟ لَعَلَّ الله قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . فَذَرَفَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمْ.
ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ صَائِمٌ وَالنَّاسُ صَائِمُونَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْكُدَيْدِ - وَهُوَ الذِي يُسَمِّيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ قُدَيْداً - أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَهُوَ بَطْنُ مَرٍّ، وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلافٍ، وَعَمَّى اللهُ الأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ، فَهُمْ عَلَى وَجَلٍ وَارْتِقَابٍ.
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَخْرُجُ يَتَجَسَّسُ الأَخْبَارَ، فَخَرَجَ هُوَ وَحَكِيمُ بن حزَامٍ وَبُدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ يَتَجَسَّسُونَ الأَخْبَارَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ قَدْ خَرَجَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ مُسْلِماً مُهَاجِراً، فَلَقِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجُحْفَةِ - وَقِيلَ: فَوْقَ ذَلِكَ - وَكَانَ مِمَّنْ لَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ ابنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بنُ الْحَرْثِ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ، لَقِيَاهُ بِالأَبْوَاءِ، وَهُمَا ابنُ عَمِّهِ وَابنُ عَمَّتِهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا لِمَا كَانَ يَلْقَاهُ مِنْهُمَا مِنْ شِدَّةِ الأَذَى وَالْهَجْوِ.
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: (لا يَكُنْ ابنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ أَشْقَى النَّاسِ بِكَ) وَقَالَ عَلِيٌّ لأَبِي سُفْيَانَ - فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بنُ عَبْدِ الْبَرِّ – (إئْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقَلْ لَهُ مَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسَفَ لِيُوسُفَ (12: 91) : {تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فَإِنَّهُ لا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلاً، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو
سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {لَا تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ بنُ الْحَرْثِ أَبْيَاتاً، مِنْهَا:
لَعَمْرُكَ إِنِّي حِينَ أَحْمِلُ رَايَةً
لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكَ الْمُدْلِجِ الْحَيْرَانَ أَظْلَمَ لَيْلُهُ
فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أَهْدِي فَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرَ نَفْسِي وَدَلَّنِي
عَلَى اللهِ مَنْ طَرَّدْتَهُ كُلَّ مَطْرَدِ
فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ، وَقَالَ:«أَنْتَ طَرَدْتَنِي كُلَّ مَطْرَدِ» ؟ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُقَالَ: إِنَّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمَ، حَيَاءً مِنْهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ:«أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَلَفاً مِنْ حَمْزَةَ» وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: (لا تَبْكُوا عَلَيَّ فَوَاللهِ مَا نَطَقْتُ بِخَطِيئَةٍ مُنْذُ أَسْلَمْتُ) .
(فَصْلٌ) عَادَ الْحَدِيثُ: فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظَّهْرَانِ نَزَلَهُ عِشَاءً فَأَمَرَ الْجَيْشَ فَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ فَأوْقِدَتْ عَشَرَةُ آلافِ نَارٍ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَرَسِ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ، وَرَكِبَ الْعَبَّاسُ بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْضَاءَ، وَخَرَجَ يَلْتَمِسُ، لَعَلَّهُ يَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابَةِ، أَوْ أَحَداً يُخْبِرُ قُرَيْشاً لِيَخْرُجُوا يَسْتَأْمِنُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَنْوَةً.
قَالَ: (وَاللهِ إِنِّي لأَسِيرُ عَلَيْهَا إِذْ سَمِعْتُ كَلامَ أَبِي سُفْيَانَ بن حَرْبٍ وبديل بن وَرْقَاءَ، وَهُمَا يَتَرَاجَعَان، وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ نِيرَاناً قَطْ وَلا عَسْكَراً. قَالَ: يَقُول بُدَيْلُ: هَذِهِ وَاللهِ خُزَاعَةُ خَمَشَتْهَا الْحَرْبُ، فَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَقَل وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانها وَعَسْكَرُهَا. قَالَ: فَعَرَفْتُ صَوْتَهَ فَقُلْتُ: أَبَا حَنْظَلَةَ؟ فَعَرَفَ صَوْتِي، فَقَالَ: أَبَا الْفَضْلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: مَالَكَ؟ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: قُلْتَ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، وَاصبَاحَ قُرَيْشٍ وَاللهِ، قَالَ: فَمَا الْحِيَلَةُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قُلْتُ: وَاللهِ لَئِنْ ظَفَرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنَقَكَ، فَارْكَبْ فِي عَجُز هَذِهِ الْبَغْلَةِ، حَتَّى آتِي بِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْتَأْمِنْهُ لِكَ، فَرَكَبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ.
قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِهِ عَلَى نَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوا بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَيْهَا، قَالُوا: عَمُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ، حَتَّى مَرِرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ وَقَامَ إِلَيَّ.
فَلَمَّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدَّابَّةِ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ عَدُّوُ اللهِ، الْحَمْدُ للهِ الذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلا عَهْدٍ، ثُمَّ خَرَجَ يَشْتَدُّ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكَضْتُ الْبَغْلَةَ، فَسَبَقْتُ فَاقْتَحَمْتُ عَنِ الْبَغْلَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعْنِي أَضْرِبُ عُنَقَهُ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ، ثُمَّ
جَلَسْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ دُونِي.
فَلَمَّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ، قُلْتُ: مَهْلاً يَا عُمَرُ، فَوَاللهِ لَوْ كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي عُدي بن كَعْبٍ مَا عَمِلْتَ مِثْلَ هَذَا، قَالَ: مَهْلاً يَا عَبَّاسُ، فَوَاللهِ لإِسْلامُكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اذْهَبْ بِهِ يَا عَبَّاسُ إِلى رَحْلِكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ» . فَذَهَبْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ بِهِ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ» ؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! ! لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللهِ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئاً بَعْدُ.
قَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ» ؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! ! أَمَّا هَذِهِ: فَإِنَّ فِي النَّفْسِ حَتَّى الآن مِنْهَا شَيْءٌ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُكَ، فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئاً، قَالَ:«نَعَمْ، مَنْ دَخَل دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُو آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ» . وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا، فَفَعَلَ فَمَرَّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ
بِهِ قَبِيلَةٌ قَالَ أَبُو سُفْيَان: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَذِهِ؟ فَأَقُولُ: سُلَيْمٌ. قَالَ: فَيَقُولُ مَالِي وَلِسُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُر بِهِ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُولُ: مَالِي وَلِمُزَيْنَةَ، حَتَّى نَفَذَتْ الْقَبَائِلُ، مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إِلا سَأَلَنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ بِهِمْ قَالَ: مَالِي وَلِبَنِي فُلانٍ، حَتَّى مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ، فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، لا يُرَى مِنْهُمْ إِلا الْحَدَقُ مِنْ الْحَدِيدِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
قَالَ: مَا لأَحَدٍ بِهَوُلاءِ قِبَلٌ وَلا طَاقَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابنِ أَخِيكَ الْيَوْمَ عَظِيماً. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سُفْيَان، إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، قَالَ: فَنِعَمْ إِذاً.
قَالَ: قُلْتُ: النَّجَاء إِلى قَوْمِكَ، وَكَانَتْ رَايَةُ الأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بن عُبَادَةَ فَلَمَّا مَرَّ بَأَبِي سُفْيَانَ قَالَ لَهُ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحَرْمَةُ، الْيَوْمَ أَذَلَّ اللهُ قُرَيْشاً.
فَلَمَّا حَاذَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَان قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدٌ؟ قَالَ:«وَمَا قَالَ)) ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا فَقَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ الْيَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، الْيَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشاً» . ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى سَعْدٍ، فَنَزَعَ مِنْهُ اللِّوَاءَ وَدَفَعَهَ إِلى قَيْسِ ابْنِهِ وَرَأَى أَنَّ اللِّوَاءَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سَعْدٍ، إِذْ صَارَ إِلى ابْنِهِ،
قَالَ أَبُو عُمَر: وَرُوِي (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَعَ مِنْهُ الرَّايَةَ دَفَعَهَا إِلى الزُّبَيْرِ) .
وَمَضَى أَبُو سُفْيَانَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ قُرَيْشاً صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ فَقَالَتْ: اقْتُلُوا الْحُمَيْتَ الدَّسِمَ الأَحْمَشَ السَّاقَيْنِ، قُبِّحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ.
قَالَ: وَيْلَكُمْ، لا تَغُرَّنَكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللهُ، وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ؟ قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُو آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ فَهُوَ آمِنٌ.
فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلى دُورِهِمْ، وَإِلى الْمَسْجِدِ، وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ مَكَّة مِنْ أَعْلاها، وَضُرِبَتْ لَهُ هُنَالِكَ قُبَّةٌ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بنَ الْوَلِيد أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا. وَكَانَ عَلَى الْمَجْنَبَةِ الْيُمْنَى وَفِيهَا أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ، وَقَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الرِّجَالَةِ وَالْحُسَّرِ، وَهُمْ الذِينَ لا سِلاحَ مَعَهُمْ، وَقَالَ لِخَالِدِ وَمَنْ مَعَهُ:(إِنْ عَرَضَ لَكُمْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْداً، حَتَّى تُوَافُونِي عَلَى الصَّفَا) فَمَا عَرَضَ لَهُمْ أَحَدٌ إِلا أَنَامُوهُ. وَتَجَمَّعَتْ سُفَهَاءُ قُرَيْش وَأَخفَّاؤُهَا مَعَ عِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانِ بن أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بن عَمْروٍ بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ ثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَجَنِّبْنَا الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ الْمُوبِقَاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْركَ فِي
جَمِيع الأَوْقَاتِ وَزَحْزِحْنَا عَنْ النَّارِ وَأَدْخِلْنَا فَسِيحَ الْجَنَّاتِ يَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَمَ تَسْلِيْماً كَثِيْرَاً.
(فَصْلٌ) : وَكَانَ حَمَاسُ بنُ قَيْسِ بن خَالِدٍ أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلاحاً قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَاذَا تُعِدُّ مَا أَرَى؟ قَالَ: لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَتْ: وَاللهِ مَا يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْئاً، قَالَ: إِنِّي وَاللهِ لأَرْجُو أَنِّي أُخْدِمُكَ بَعْضَهُمْ، ثُمَّ قَالَ:
إِنْ يَقْبَلُوا الْيَوْمَ فَمَالِي عِلَّهْ
هَذَا سِلاحٌ كَامِلٌ وَإِلَّهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعَ السَّلهَ
ثُمَّ شَهِدَ الْخَندَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَعِكْرِمَةَ وَسُهَيْلِ بن عَمْرو، فَلََمَّا لَقِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ نَاوَشُوهُمْ شَيْئاً مِنْ قِتَالٍ، فَقُتِلَ كُرْزُ بنُ جَابِرٍ الْفِهْرِي، وَخُنَيْسُ بنُ خَالِدِ بنِ رَبِيعَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بنِ الْوَلِيدِ، فَشَذَّا عَنْهُ، فَسَلَكَا طَرِيقاً غَيْرَ طَرِيقِهِ فَقُتِلا جَمِيعاً فَأُصِيبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ نَحْو اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، ثُمَّ انْهَزَمُوا، وَانْهَزَمَ حَمَّاسٌ صَاحِبُ السِّلاحِ، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي، فَقَالَتْ: وَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟
فَقَالَ: إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَةْ
إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَةْ
وَأَبُو يَزِيدٍ قَائِمٌ كَالْمُؤْتَمَهْ
وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
ضَرْباً، فَلا يُسْمَعُ إِلا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَهْ
لَمْ تَنْطَقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمَجْنَبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ عَلَى الْمَجْنَبَةِ الأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ عَلَى الْحُسَّرِ، وَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَتِيبَتِهِ.
قَالَ: وَقَدْ وَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشاً لَهَا، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلاءِ، فَإِنْ كَانَ لِقُرَيْشٍ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الذِي سُئِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ)) . فَقُلْتُ: لَبَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، فَقَالَ:((اهْتِفْ لِي بِالأَنْصَارِ، وَلا يَأْتِينِي إِلا أَنْصَارِيٌ)) . فَهَتَفَ بِهِمْ، فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((أَتَرَوْنَ إِلى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ)) ؟ ثُمَّ قَالَ بِيَدِيهِ - إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى احْصُدُوهُمْ حَصْداً حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا، فَانْطَلَقْنَا، فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْْتُلَ مِنْهُمِ إِلا شَاءَ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ وَجَّهَ إِلَيْنَا شَيْئاً وَرَكَزْتُ رَايَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُجُونِ عِنْدَ مَسْجِدِ الْفَتْحِ.
ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَلْفَهُ وَحَوْلَهُ، حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَأَقْبَلَ إِلى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ وَحَوْلَ الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ ثَلاثُمَائَةُ وَسِتُّونَ صَنَمَا، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِالْقُوسِ، وَيَقُولُ:{جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} جَاءَ الْحَقُّ، وَمَا
يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدْ، وَالأَصْنَامُ تَتَسَاقَطُ عَلَى وُجُوهِهَا.
وَكَانَ طِوَافُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمَاً يَؤْمَئِذٍ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الطَّوَافِ، فَلَمَّا أَكْمَلَهُ دَعَا عُثْمَانَ بن طَلْحَة، فَأَخَذْ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَأَمَرَ بِهَا فَفُتِحَتْ، فَدَخَلَهَا بِالأَزْلامِ، فَقَالَ:«قَاتَلَهُمْ اللهُ، وَاللهِ إِنْ اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُ» . وَرَأَى فِي الْكَعْبَةِ حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَّرَهَا بِيَدِهِ وَأَمَرَ بِالصُّوَرِ فَمُحِيَتْ، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ، وَعَلى أُسَامَةَ وَبِلالٍ فَاسْتَقْبَلَ الْجِدَارَ الذِي يُقَابِلُ الْبَابَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرُ ثَلاثَةِ أَذْرُعٍ وَقَفَ وَصَلَّى هُنَاكَ، ثُمَّ دَارَ فِي الْبَيْتِ وَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَوَحَّدَ اللهَ، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ وَقُرَيْشٌ قَدْ مَلأَتِ الْمَسْجِدَ صُفُوفاً، يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يَصْنَعُ، فَأَخَذَ بعِضَادَتَى الْبَابِ، وَهُمْ تَحْتَهُ، فَقَالَ: «لا إِلَهَ إِلا اللهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ألا كلُ مَأْثَرَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دَمٍ: فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِيَّ هَاتَيْنِ، إِلا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ، أَلا وَقَتْلُ الْخَطَأ شِبْهُ الْعَمْدِ: السَّوْطُ وَالْعَصَا، فَفِيهِ الدِّيَّةُ مُغْلَّظَةٌ (مَائَةٌ مِنْ الإِبِلِ) أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا.
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نِخْوَةَ الْجَاهِلَيَّةِ وَتَعْظُمَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ تَلا:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ)) ؟ قَالُوا: خَيْراً أَخٌ كَرِيمٌ، وَابنُ أَخٍ كَرِيم.
قَالَ: ((فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسفُ لإِخْوَتِهِ (12: 92) : {لَا
تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} اذْهَبُوا، فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ)) . ثُمَّ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ.
فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ وِمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةَ صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((أَيْنَ عُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ)) ؟ فَدُعِي لَهُ، فَقَالَ لَهُ:«هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاء» .
وَذَكَر ابنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ عُثْمَانَ بن طَلْحَةَ قَالَ: (كُنَّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأَقْبَلَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ مَعَ النَّاسِ، فَأَغْلَظْتُ لَهُ، فَنِلْتُ مِنْهُ، فَحَلُمَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا عُثْمَانُ لَعَلَّكَ سَتَرى هَذَا الْمفْتَاحَ يَوْماً بِيَدِي، أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ)) . فَقُلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وذَلَّتْ، فَقَالَ:((بَلْ عَمَرَتْ وَعَزَّتْ يَوْمَئِذٍ)) . وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنِّي مَوْقعاً، ظَنَنْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلى مَا قَالَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَالَ: ((يَا عُثْمَانُ، ائْتِنِي بِالْمِفْتَاحِ)) . فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ مِنِّي، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلِيَّ، وَقَالَ:«خذوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظَالِمٌ، يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ، فَكَلُوا مِمَّا يَصِلُ إِلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ بِالْمَعْرُوفِ)) . قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ نَادَانِي، فَرَجِعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَلَمْ يَكُنْ الذِي قُلْتُ لَكَ)) ؟ قَالَ: فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِي بِمَكَّةَ قَبِيلَ الْهِجْرَةِ: «لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ» . فَقُلْتُ: بَلَى، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ.
وَذَكَرَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الْعَبَّاسَ تَطَاوَلَ يَوْمَئِذٍ لأَخْذِ الْمِفْتَاحِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى
عُثْمَانَ بن طَلْحَةَ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
بِلالاً: أَنْ يَصْعَدَ فَيُؤَذِّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بنُ أُسَيْدٍ، وَالْحَارِثُ ابنُ هِشَامٍ، وَأَشْرَافٌ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابٌ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ أُسَيَّداً أَنْ لا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا، فَيَسْمَعَ مِنْهُ مَا يُغِيظُهُ، فَقَالَ الْحَارِثُ: أَمَا وَاللهِ، لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ لاتَّبَعْتُهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَمَا وَاللهِ، لا أَقُولُ شَيْئاً، لَوْ تَكَلَّمْتُ لأَخْبَرَت عَنِّي الْحَصَبَاءُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمْ:((قَدْ عَلِمْتُ الذِي قُلْتُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ)) . فَقَالَ الْحَرْثُ وَعَتَّابٌ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَاللهِ مَا اطَّلعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا، فَنَقُولُ: أَخْبَرَكَ وَهِذِهِ مُعْجِزَةٌ حَيْثُ أَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالُوا صلى الله عليه وسلم.
اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذَ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ، وَاجْعَلْنَا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ آمِنِينَ، وَأَوْصِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَكَرَمِكَ إِلى جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَارَ أُمّ هَانِئ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، فَاغْتَسَلَ، وَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي بَيْتِهَا وَكَانَ ضُحَى، فَظَنَّها مَنْ ظَنَّهَا صَلاةَ الضُّحَى، وَإِنَّمَا هَذِهِ صَلاةُ الْفَتْحِ، وَكَانَ أُمَرَاءُ الإِسْلامِ إِذَا فَتَحُوا حِصْناً أَوْ بَلَداً صَلُّوا عَقِيبَ الْفَتْحِ هَذِهِ الصَّلاةَ اقْتِدَاءً برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي الْقِصَّةِ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِسَبَبِ الْفَتْحِ، شُكْراً للهِ عَلَيْهِ فَإِنَّ أُمَّ هَانِئٍ قَالَتْ:(مَا رَأَيْتُهُ صَلاهَا قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا) وَأَجَازَتْ أُمُّ هَانِئٍ حَمْوَيْنِ لَهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ أُجِرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» .
(فَصْلٌ)
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْفَتْحُ أَمَّنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ كُلَّهُمْ، إِلا تِسْعَةَ نَفَرٍ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُمْ: عَبْدُ اللهِ بنُ سَعْدِ أَبِي سَرْحٍ، وَعِكْرِمَةُ ابنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ الْعَزَّى بنُ خَطَلٍ، وَالْحَارِثُ بنُ نُفَيْلٍ بنُ وَهْبٍ، وَمَقْيَسُ بنُ صُبَابَةَ، وَهَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ، وَقَيْنَتَانِ لابنِ خَطَلٍ، كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَارَةُ مَوْلاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدُ الْمُطَّلِبِ.
فَأَمَّا ابنُ أَبِي سَرْحٍ، فَأَسْلَمَ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبِلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ رَجَاءَ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَيَقْتُلََهُ.
وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَاجَرَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَرَجَع إِلى مَكَّةَ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ أَنْ فَرَّ فَأَمَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَدِمَ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ وَأَمَّا ابنُ خَطَلٍ وَالْحَارِثُ وَمِقْيَسُ وَإِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ، فَقُتِلُوا وَكَانَ مَقِيسُ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَقَتَلَ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينِ، وَأَمَّا هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ فَهُوَ الذِي عَرَضَ لِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ هَاجَرَتْ، فَنَخَسَ بَطْنَهَا حَتَّى سَقَطَتْ عَلَى صَخْرَةٍ وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا فَفَرَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ.
وَاسْتُؤمِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسَارَةَ وَلإِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ فَأَمَّنَهُمَا فَأَسْلَمَتَا.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيباً، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِمَا هُوَ أَهْلُه ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَماً أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فَلْيُبَلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)) .
وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ - وَهِيَ بَلَدُهُ وَوَطَنُهُ وَمَوْلِدُهُ - قَالَ الأَنْصَارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ، يُحِبُّ أَنْ يُقِيمَ بِهَا وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الصَّفَا، رَافِعًا يَدَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ:«مَاذَا قُلْتُمْ)) ؟ قَالُوا: لا شَيْء يَا رَسُول اللهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى اخْبَرُوه فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَعَاذَ اللهِ، الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مِمَاتُكُمْ» .
شِعْرًا:
…
إِذَا كُنْتَ في دَارٍ وَضَامَكَ أَهْلُهَا
…
وَقَلْبُكَ مَشْغُوفٌ بِهَا فَتَغَرَّبِ
فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ
…
بِمَكَّةَ أَمْرٌ فَاسْتَقَامَ بِيَثْرِبِ
وَقَالَ آخر مُتَذَكِّراً وَطَنَهُ وَمَسْقطَ رَأْسِهِ في الْقَصِيم في عُنَيْزَةَ:
وَأَذْكُرُ أَيَّامَ الْقَصِيمِ فَأَنْثَنِي
…
عَلَى كَبَدِي مِنْ خَشْيِةَ أَنْ تَصَدَّعَا
بَكَتْ عَيْنِي الْيُمْنَى فَلَمَّا نَهَيْتُهَا
…
عَنِ الْجَهْلَ بَعْدَ الْحِلْم أَسْبَلَتَا مَعَا
فَلَيْتَ عَشِيَّاتِ الْقَصِيمِ رَوَاجِعٌ
…
عَلَيَّ وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعَا
وَلا سِسَّمَا دَاراً تُسَمَّى عُنَيْزَةً
…
قَضَيْتَ بَهَا عَشْراً وَأَرْبَعَا
آخر:
…
إِذَا خِفْتَ مِنْ دَارٍ هَوَاناً فَوَلِّهَا
…
سِوَاكَ وَعَنْ دَارِ الأَذَى فَتَحَوَّلِ
وَهُمَّ فَضَالَةُ بنُ عُمَيْرِ بنِ الْمُلَوِّحِ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «أَفَضَالَةَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَضَالَةَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:((مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ)) ؟ قَالَ: لا شَيْءَ كُنْتُ أَذْكُرُ اللهَ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:((اسْتَغْفِر اللهِ)) . ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَسَكَنَ قَلْبُهُ.
وَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ: (وَاللهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتَّى مَا خَلَقَ اللهُ شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ) قَالَ فَضَالَةُ: فَرَجَعْتُ إِلى أَهْلِي، فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: هَلُمَّ إِلى الْحَدِيث، فَقُلْتُ: لا، وَانْبَعَثَ فضالة يقولُ:
قَالَتْ: هَلُمَّ إِلى الْحَدِيثِ، فَقُلْت: لا
يَأْبَى عَلَيْكِ اللهُ وَالإِسْلامُ
لَوْ قَدْ رَأَيْتِ مُحَمَّداً وَقَبِيلَهُ
بِالْفَتْحِ يَوْمَ تَكُسَّرُ الأَصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللهِ أَضْحَى بَيِّناً
وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الإِظْلامُ
وَفَرَّ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، فَأَمَّا صَفْوَانُ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ الْجُمَحِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّنَهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَكَّةَ، فَلَحِقَهُ عُمَيْرٌ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ، فَرَدَّهُ فَقَالَ: اجْعَلْنِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ، فَقَالَ: أَنْتَ باِلْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرْ.
وَكَانَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بنِ هَشَامٍ تَحْتَ عِكْرَمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ
فَأَسْلَمَتْ، وَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّنَهُ، فَلَحِقَتْهُ بِالْيَمَن، فَأَمَّنَتْهُ فَرَدَّتْهُ، وَأَقَرَّهَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَصَفْوَانُ عَلَى نِكَاحِهَا الأَوَّل.
ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَمِيمَ بنَ أُسَيْدٍ الْخُزَاعِيَّ فَجَدَّدَ أَنْصَابَ الْحَرَم.
وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرَايَاهُ إِلى الأَوْثَانِ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَكُسِّرَتْ كُلُّهَا مِنْهَا اللاتُ، وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الأُخْرَى، وَنَادَى مُنَادِيه بِمَكَّةَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَدَعْ فِي بَيْتِهِ صَنَماً إِلا كَسَرَهُ) .
وَبَعَثَ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ إِلى الْعُزَّى لِخَمْسِ لَيَالٍ بِقَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِيَهْدِمَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهَا فِي ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى انْتَهُوا إِلَيْهَا فَهَدَمَهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ:«هَلْ رَأَيْتُ شَيْئاً)) ؟ قَالَ: لا قَالَ: ((فَإِنَّكَ لَمْ تَهْدِمْهَا، فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَاهْدِمْهَا)) . فَرَجَعَ خَالِدُ - وَهُوَ مُتَغَيِّظٌ - فَجَرَّدَ سَيْفَهُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ نَاشِرَةٌ الرَّأْسَ، فَجَعَلَ السَّادِنُ يَصِيحُ بِهَا فَضَرَبَهَا خَالِدُ، فَجَزَلَهَا بِاثْنَتيْنِ، وَرَجَعَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ((نَعَمَ، تِلْكَ الْعُزَّى، وَقَدْ أَيَسَتْ أَنْ تُعْبَدَ فِي بِلادِكُمْ أَبَداً» . وَكَانَتْ بِنَخْلَة، وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ وَجَمِيعِ بَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَتْ أَعْظَمَ أَصْنَامِهِمْ، وَكَانْ سَدَنَتُهَا مِنْ بَنِي شَيْبَانَ. فَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ بَعَثَ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ إِلى سُوَاعٍ - وَهُوَ صَنَمٌ لِهَذِيلٍ - لِيَهْدِمَهُ، قَالَ عَمْرٌو: (فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ السَّادِنُ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَمَرَنِي
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُهْدِمَهُ، فَقَالَ: لا تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: تُمْنَعُ، قُلْتُ حَتَّى الآنَ أَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ؟ وَيْحَكَ، فَهَلْ يَسْمَعَ أَوْ يُبْصِرُ؟ قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَكَسَّرْتُهُ، وَأَمَرْتُ أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خَزَّانَةَ، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ شَيْئاً، ثُمَّ قُلْتُ لِلسَّادِنْ: كَيْفَ رَأَيْت؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ للهِ.
ثُمَّ بَعَثَ سَعْدَ بنَ زَيْدٍ الأَشْهَلِي إِلى مَنَاة وَكَانَتْ بِالْمُشَلَّلِ، عِنْدَ قُدَيْدٍ لِلأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَغَسَّانَ وَغَيْرِهِمْ، فَخَرَجَ فِي عِشْرِينَ فَارِس، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهَا، وَعِنْدَهَا سَادِنٌ، فَقَالَ السَّادِنُ: مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَهْدِمُ مَنَاةَ، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، فَأَقْبَلَ سَعْدٌ يَمْشِي إِلَيْهَا، وَتَخْرُجُ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ عِرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ، ثَائرَةٌ الرَّأْسَ، تَدْعُو بِالْوَيْلِ، وَتَضْرِبُ صَدْرَهَا، فَقَالَ لَهَا السَّادن: مَنَاةُ، دُونَكَ بَعْضُ عَصَاتِكَ، فَضَرَبَهَا سَعْدٌ فَقَتَلَهَا وَأَقْبَلَ إِلى الصَّنَمِ فَهَدَمَهُ وَكَسَّرَهُ وَلَمْ يَجِدُوا فِي خِزَانَتِهِ شَيْئاً.
شِعْراً فِي الْحَثِّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَتَدَبُّرِهِ وَتَفَهَّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ:
وَبِالتَّدْبُرِ وَالتَّرْتِيلِ فَاتْلُ كِتَا
ب اللهِ لاسِيَّمَا فِي حِنْدِسِ الظُّلْمِ
حَكِّمْ بَرَاهِينَهُ وَاعْمَلْ بِمُحْكَمِهِ
حِلاً وَحَظْراً وَمَا قَدْ حَدَّهُ أَقِمِ
وَاطْلُبْ مَعَانِيهِ بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ وَلا
تَخُضْ بِرَأَيْكَ وَاحْذَرْ بَطْشَ مُنْتَقِمِ
فِيمَا عَلِمْتَ بِمَحْضِ النَّقْلِ مِنْهُ فَقُلْ
وَكِلْ إِلى اللهِ مَعْنَى كُلِّ مُنْبَهِمِ
ثُمَّ الْمِرَا فِيهِ كُفْرٌ فَاحْذَرَنْهُ وَلا
يَسْتَهْوِيَنَّكَ أَقْوَامٌ بِزَيْغِهِمِ
وَعَنْ مَنَاهِيهِ كُنْ يَا صَاحِ مُنْزِجِراً
وَالأَمْرَ مِنْهُ بِلا تَرْدَادَ فَالْتَزِمِ
وَمَا تَشَابَهَ فَوِّضْ لِلإلَهِ وَلا
تَخُضْ فَخَوْضُكَ فِيهِ مُوْجِبُ النَّقَمِ
وَلا تُطِعْ قَوْلَ ذِي زَيْغٍ يُزَخْرِفُهُ
مِنْ كُلَّ مُبْتَدِعٍ فِي الدِّينِ مُتَّهَمِ
جَيرَانَ ضَلَّ عَنْ الْحَقِّ الْمُبِينِ فَلا
يَنْفَكُّ مُنْحَرِفاً مُعَوّجَ لَمْ يَقُمِ
هُوَ الْكِتَابُ الذِي مَنْ قَامَ يَقْرَؤُهُ
كَأَنَّمَا خَاطَبَ الرَّحْمَنَ بِالْكَلِمِ
هُوَ الصِّرَاطُ هُوَ الْحَبْلُ الْمَتِينُ هُوَ الْـ
مِيزَانُ وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَى لِمُعْتَصِمِ
هُوَ الْبَيَانُ هُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ هُوَ التَّـ
تَفْصِيلُ فَاقَنَعْ بِهِ فِي كُلِّ مُنْبَهِمِ
هُوَ الْبَصَائِرُ وَالذِّكْرَى لِمُدَكِّرٍ
هُوَ الْمَوَاعِظُ وَالْبُشْرَى لِغَيْر عَمِي
هُوَ الْمُنَزَّلُ نُوراً بَيِّناً وَهُدَى
وَهُوَ الشِّفَاءُ لِمَا في الْقَلْبِ مِنْ سَقَمِ
لَكِنَّهُ لأُولِي الإِيمَانِ إِذْ عَمِلُوا
.. بِمَا أَتَى فِيهِ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ حِكَمِ
أَمَّا عَلَى مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ فَهُوَ عَمَى
لِكَوْنِهِ عَنْ هُدَاهُ الْمُسْتَنِيرُ عَمِي
فَمَنْ يُقِمْهُ يَكُنْ يَوْمَ الْمَعَادِ لَهُ
خَيْرُ الإِمَامِ إِلى الْفِرْدَوْسِ وَالنِّعَمِ
كَمَا يَسُوقُ أُولِي الأَعْرَاضِ عَنْهُ إِلى
دَارِ الْمَقَامِعِ وَالأَنْكَالِ وَالأَلَمِ
وَقَدْ أَتَى النَّصُّ فِي الطُّوْلَيْنِ أَنَّهُمَا
ظِلاً لِتَالِيْهِمَا فِي مَوْقِفِ الْغَمَمِ
وَأَنَّهُ فِي غَدٍ يَأْتِي لِصَاحِبِهِ
مُبَشِّراً وَحَجِيجاً عَنْهُ إِنْ يُقِمِ
وَالْمُلْكَ وَالْخُلْدَ يُعْطِيهِ وَيُلْبِسُه
تَاجَ الْوَقارِ الإِلهُ الْحَقُّ ذُو الْكَرَمِ
يُقَالُ اقْرَأْ وَرَتِّلْ وَارْقَ فِي غرَفِ الْـ
جَنَّاتِ كَيْ تَنْتَهِي لِلْمَنْزِلِ النَّعِمِ
وَحُلَّتَانِ مِنْ الْفِرْدَوْسِ قَدْ كُسِيتْ
لِوَالِدَيْهِ لَهَا الأَكْوَانُ لَمْ تَقُمْ
قَالا بِمَاذَا كَسَيْنَاهَا فَقِيلَ بِمَا
أَقْرَأْتُمَا ابْنَكُمَا فَاشْكُرْ لِذِي النِّعَمِ
كَفَى وَحَسْبُكَ بِالْقُرْآنِ مُعْجِزةً
دَامَتْ لَدَيْنَا دَوَاماً غَيْرَ مُنْصَرِمِ
.. لَمْ يَعْترِهْ قَطُّ تَبْدِيلٌ وَلا غِيْرٌ
وَجَلَّ فِي كَثْرَةِ التَّرْدَادِ عَنْ سَأْمِ
مُهَيْمِناً عَرِبِياً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
مُصَدِّقاً جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ فِي الْقِدَمِ
فِيهِ التَّفَاصِيلُ لِلأَحْكَامِ مَعْ نَبَأٍ
عَمَّا سَيَأْتِي وَعَنْ مَاضٍ مِنْ الأُمَمِ
فَأنْظُرْ قَوَارِعَ آيَاتِ الْمَعَادِ بِهِ
وَانْظُرْ لِمَا قَصَّ عَنْ عَادَ وَعَنْ إِرْمِ
وَانْظُرْ بِهِ شَرْحَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ هَلْ
تَرَى بِهَا مِنْ عَوِيصٍ غَيْرِ مُنْفَصِمِ
أَمْ مِن صَلاحٍ وَلَمْ يَهْدِ الأَنَامَ لَهُ
أَمْ بَابِ هُلْكٍ وَلَمْ يَزْجُرْ وَلَمْ يَلُمِ
أَمْ كَانَ يُغْنِي نَقِيراً عَنْ هِدَايَتِهِ
جَمِيعُ مَا عِنْدَ أَهْلِِ الأَرْضِ مِنْ نُظُمِ
أَخْبَارُهُ عِظَةٌ أَمْثَالُهُ عِبَرٌ
وَكُلُّهُ عَجَبٌ سُحْقاً لِذِي صَمِمِ
لَمْ تَلْبِثِ الْجِنُّ إِذْ أَصْغَتْ لِتسْمَعَهُ
أَنْ بَادَرُوا نُذْراً مِنْهُمْ لِقَوْمِهِمِ
اللهُ أَكْبَرُ مَا قَدْ حَازَ مِنْ عِبَرٍ
وَمِنْ بَيَانٍ وَإِعْجَازٍ وَمِنْ حِكَمِ
وَاللهُ أَكْبَرُ إِذْ أَعْيتْ بَلاغَتُهُ
.. وَحُسْنُ تَرْكِيبِهِ لِلْعُرْبِ وَالْعَجَمِ
كَمْ مُلْحِدٍ رَامَ أَنْ يُبْدِي مُعَارَضَةً
فَعَادَ بِالذُّلِّ وَالْخُسْرَانِ وَالرَّغَمِ
هَيْهَاتَ بُعْداً لِمَا رَامُوا وَمَا قَصَدُوا
وَمَا تَمَنَّوْا لَقَدْ بَاؤُوا بِذُلِّهِمِ
خَابَتْ أَمَانِيهُمُ شَاهَتْ وُجُوهُهُمْ
زَاغَتْ قُلُوبُهُمُ عَنْ هَدِيهِ الْقَيمِ
كَمْ قَدْ تَحَدَّى قُرَيْشاً فِي الْقدِيمِ وَهُمْ
أَهْلُ الْبَلاغَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمِ
بِمِثْلِهِ وَبِعَشْرٍ ثُمَّ وَاحِدَةٍ
فَلَمْ يَرُومُوهُ إِذْ ذَا الإِمْرَ لَمْ يُرَمِ
الْجِنُّ وَالإِنْسُ لَمْ يَأْتُوا لَوْ اجْتَمَعُوا
بِمِثْلِهِ وَلَوْ انْضَمُّوا لِمِثْلِهِمِ
أَنَّى وَكَيْفَ وَرَبُّ الْعَرْشِ قَائِلُهُ
سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ شِبْهٍ لَهُ وَسَمِي
مَا كَانَ خَلْقاً وَلا فَيْضاً تَصَوَّرَهُ
نَبِيُّنَا لا وَلا تَعْبِيرَ ذِي نَسَمِ
بَلْ قَالَهُ رَبُّنَا قَوْلاً وَأَنْزَلَهُ
وَحْياً عَلَى قَلْبِهِ الْمُسْتَيْقِظِ الْفَهِمِ
وَاللهُ يَشْهَدُ وَالأَمْلاكُ شَاهِدَةٌ
وَالرُّسْلُ مَعْ مُؤْمِنِي الْعُرْبَانِ وَالْعَجَمِ
اللَّهُمَّ ارزقْنَا عِلْماً نَافِعاً وَعَمَلاً مُتَقبَّلاً وَرِزْقًا وَاسِعاً نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ وَقَلْباً خَاشِعاً وَلِسَاناً ذَاكِراً وَإيمَاناً خَالِصاً وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ الْمُخْلِِصِينَ وَخُشُوعَ الْمُخْبِتِينَ وَأَعْمَالَ الصَّالِحِينَ وَيَقِينَ الصَّادِقِينَ وَسَعادَةَ الْمُتَّقِين وَدَرَجَاتِ الْفَائِزِينَ يَا أَفْضَلَ مَنْ رُجِي وَقُصِدَ وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصة عبد الله بن مسعود
كَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٌ فَتَىً لَمْ يُجَاوِز الْحُلُمَ وَكَانَ يَسْرَحُ فِي شِعَابِ مَكَّةَ بَعِيداً عَنِ النَّاسِ وَمَعَهُ غَنَمٌ يَرْعَاهَا لِعُقْبَةَ بنِ مُعَيْطٍ وَكَانَ النَّاسُ يُنَادُونَهُ (ابنَ أُمَّ عَبْدٍ) .
أَمَّا اسْمُهُ فَهُو عَبْدُ اللهِ وَأَمَّا اسْمُ أَبِيهِ فَمَسْعُودٌ كَانَ الْغُلامُ يَسْمَعُ بِأَخْبَارِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَلا يَأْبَهُ لَهَا لِصِغَرِ سِنِّهِ مِنْ جِهَةٍ وَلِبُعْدِهِ عَنْ الْمُجْتَمَعِ الْمَكِّي مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَقَدْ دَأَبَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ بِغَنَمِ عُقْبَةَ مُبَكِّراً ثُمَّ لا يَعُودُ بِهَا إِلا إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ.
وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ أَبْصَرَ عَبَدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ كَهْلَيْنِ عَلَيْهِمَا الْوَقَارُ يَتَّجِهَانِ نَحْوَهُ مِنْ بَعِيدٍ وَقَدْ أَخَذَ الْجُهْدُ مِنْهُمَا كُلَّ مَأْخَذٍ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الظَّمَأُ حَتَّى جَفَّتْ مِنْهُمَا الشِّفَاهُ وَالْحُلُوقُ.
فَلَمَّا وَقَفَا عَلَيْهِ سَلَّمَا وَقَالا: يَا غُلامُ احْلِبْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الشِّيَاهِ مَا نُطْفِئُ بِهِ ظَمَأَنَا وَنَبُلُّ بِهِ عُرُوقَنَا فَقَالَ: لا أَفْعَلُ فَالْغَنَمُ ليَسْتَ لِي وَأَنَا عَلَيْهَا مُؤْتَمَنٌ فَلَمْ يُنْكِرَ الرَّجُلانِ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَبَدَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا الرِّضَاءُ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: دُلَّنِي عَلَى شَاةٍ لَمْ يَنْزُو عَلَيْهَا فَحْلٌ فَأَشَارَ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ إِلى شَاةٍ صَغِيرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ وَاعْتَقَلَهَا وَجَعَلَ يَمْسَحُ
ضَرْعَهَا بِيَدِهِ وَهُوَ يَذْكُرُ عَلَيْهَا اسْمَ اللهِ فَنَظَرَ عَبْدُ اللهِ فِي دَهْشَةٍ قَائِلاً فِي نَفْسِهِ: وَمَتَى كَانَتْ الشَّاةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَنْزُو عَلَيْهَا الْفُحُولُ تُدِرُّ لِبَناً.
لِكِنَّ ضَرْعَ الشَّاة لَمْ يَلْبَثْ أَنْ انْتَفَخَ مِنْ اللَّبَنِ وَطَفِقَ اللَّبَنُ يَنْبَثِقُ مِنْهُ ثَراً غَزِيراً.
فَأَخَذَ الرَّجُلُ الآخَرُ حَجَراً مُجَوَّفاً مِنْ الأَرْضِ وَمَلأَهُ بِاللَّبَنِ وَشَرِبَ مِنْهُ هُوَ وَصَاحِبُهُ ثُمَّ سَقَيَانِي مَعَهُمَا وَأَنَا لا أَكَادُ أُصَدِّقُ مَا أَرَى، فَلَمَّا ارْتَوَيْنَا قَالَ الرَّجُلُ الْمُبَارِكُ لِضَرْعِ الشَّاةِ: انْقَبِضْ فَمَا زَالَ يَنْقَبِضُ حَتَّى عَادَ إِلى مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ قُلْتُ لِلرَّجُلُ الْمُبَارِكْ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الذِي قُلْتَهُ فَقَالَ لِي: إِنَّكَ غُلامٌ مُعَلَّمٌ.
كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةُ قِصَّةِ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ مَعَ الإِسْلام وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمُبَارَكَ فَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الذِي مَعَهُ فَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فَقَدْ نَفََرَا فِي ذَلِكَ إِلى شِعَابِ مَكَّةَ لِفَرْطِ مَا أَرْهَقَتْهُمَا قُرَيْشٌ وَلِشِدَّةِ مَا أُنْزِلَتْ بِهِمَا مِنْ الْبَلاءِ.
وَكَمَا أَحَبَّ الْغُلامُ الذِي هُوَ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَهُ وَتَعَلَّقَ بِهِمَا فَقَدْ أَعْجَبَ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ بَعَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ وَأَكْبَرَا أَمَانَتَهُ وَحَزْمَهُ وَتَوَسَّمَا فِيهِ الْخَيْرَ وَلَمْ يَمْضِ إِلا مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ حَتَّى أَسْلَمَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِيَخْدِمَهُ فَقَبِلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَوَضَعَهُ فِي خِدْمَتِهِ.
وَلَزِمَ عَبْدُ الله بنُ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ يُرَافِقُهُ فِي حِلِّهِ وَتِرْحَالِهِ يُوقِظُهُ إِذَا نَامَ وَيَسْتُرُهُ عِنْدَ الْغُسْل وَيُلْبِسُهُ نَعْلَيْهِ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ وَيَخْلَعَهُا مِنْ قَدَمَيْهِ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ وَيَحْمِلُ لَهُ عَصَاهُ وَسِوَاكَهُ وَيَلِجُ الْحَجَرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِذَا آوَى إِلى حُجْرَتِهِ.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا بِهُدَاكَ إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ يَا كَرِيمِ وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِمَّنْ أَتَاكَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا
وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَتَرَبَّى عَبْدُ اللهِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِِ صلى الله عليه وسلم فَاهْتَدَى بِهَدْيِهِ وَتَخَلَّقَ بِشَمَائِلِهِ وَتَابَعَهُ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ وَتَعَلَّمَ ابنُ مَسْعُودٍ فِي مَدْرَسَةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ مِنْ أَقْرَأِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَأَفْقَهِهِمْ لِمَعَانِيهِ وَمِنْ أَعْلَمِهِمْ بِشَرْعِ اللهِ.
وَلا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الذِي أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ وَاقفٌ بِعَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ: جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكُوفَةِ - وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلاً يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضَبَ عُمَرُ غَضَباً شَدِيداً وَقَالَ: مَنْ هُوَ وَيْحَكَ؟ قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُود فَمَا زَالَ عُمَرُ يَنْطَفِي غَضَبُهُ وَيُسَرَّى عَنْهُ حَتَّى عَادَ إِلى حَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ وَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْهُ وَسَأْحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمُرُ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ - أي يَتَحَدَّثَان وَيَتَفَاوَضَانِ فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَكُنْتُ مَعَهُمَا ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ لَمْ نَتَبَيَّنْهُ فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ إِلَيْهِ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا وَقَالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رَطْباً كَمَا نَزَلَ فَلْيَقْرَأ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ)) . ثُمَّ جَلَسَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُو فَجَعَلَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ: ((سَلْ تُعْطَهْ سَلْ تُعْطَهْ)) . قَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي وَاللهِ لأَغْدُوَنَّ عَلَى عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ لأُبَشِّرَّنَهُ بِتَأْمِين رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى دُعَائِهِ فَغَدَوْتَ عَلَيْهِ فَبَشَّرْتُهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقِنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ.
لا وَاللهِ مَا سَابَقْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلى خَيْرٍ قَطُ إِلا سَبَقَنِي إِلَيْهِ وَلَقَدْ بَلَغَ مِنْ عِلْمِ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ بِكِتَابِ اللهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاللهِ الذِي لا آلهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ
مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلا وَأَنَا أَعْلمُ أَيْنَ نَزَلَتْ وَأَعْلَمُ فِيمَا نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَداً أَعْلَمُ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تَنَالُهُ الْمَطِيُّ لأَتَيْتُهُ.
وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ مُبَالِغاً فِيمَا قَالَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَلْقَى رَكْباً فِي سَفَرٍ مِنْ أَسْفَارِهِ وَاللَّيْلُ مُخَيِّمٌ يَحْجِبُ الرَّكْبَ بِظَلامِهِ وَكَانَ فِي الرَّكْبِ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ فَأَمَرَ عُمَرُ رَجُلاً أَنْ يُنَادِيهِمْ مَنْ أَيْنَ الْقَوْمِ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: مِنْ الْفَجِّ الْعَمِيقِ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ فِيهِمْ عَالِماً وَأَمَرَ رَجُلاً فَنَادَاهُمْ أَيُّ الْقُرْآنِِ أَعْظَمُ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللهِ بِنُ مَسْعُودٍ {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآيةَ قَالَ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَحْكَمُ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} .
فَقَالَ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَجْمَعُ فَقَالَ عَبْدُ الله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} فَقَالَ عُمَرُ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَخْوَفُ فَقَالَ عَبْدُ الله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية.
فَقَالَ عُمَرُ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَرْجِي فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فَقَالَ: نَادِهِمْ أَفِيكُمْ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ قَارِئاً عَالِماً عَابِداً زَاهِداً فَحَسْبِ وَإِنَّمَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَوِيّاً حَازِماً مُجَاهِداً مِقْدَاماً شُجَاعاً إِذَا جَدَّ الْجِدُّ فَحَسْبُهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مُسْلِمٍ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فَقَدْ اجْتَمَعَ يَوْماً أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
فِي مَكَّة وَكَانُوا قِلَّةً مُسْتَضْعَفِينَ فَقَالُوا: وَالله مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا الْقُرْآنَ يُجْهَرُ بِهِ قَطْ فَمَنْ رَجُلٌ منْكُمْ يُسْمِعُهُمْ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: أَنَا أَسْمِعُهُمْ إِيَّاهُ فَقَالُوا: إِنَّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْكَ إِنَّمَا نُرِيدُ رَجُلاً لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيه وَتَمْنَعِهُ مِنْهُمْ إِذَا أَرَادُوهُ بِشَرٍ.
فَقَالَ: دَعُونِي فَإِنَّ اللهَ سَيَمْنَعُنِي وَيَحْمِينِي ثُمَّ غَدَا إِلى الْمَسْجِدِ حَتَّى أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فِي الضُّحَى وَقُرَيْشٌ جُلُوسٌ فَوَقَفَ عِنْدَ الْمَقَامِ وَقَرَأَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَافِعاً صَوْتَهُ {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
وَمَضَى يَقْرَؤُهَا فَتَأَمَّلَتْهُ قُرَيْشٌ وَقَالَتْ: مَاذَا قَالَ ابنُ أُمَّ عَبْدٍ تَبّاً لَهُ
…
إِنَّهُ يَتْلُو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَقَامُوا إِلَيْهِ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَهُوَ يَقْرَأُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَبْلُغَ.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلى أَصْحَابِهِ وَالدَّمُّ يَسِيلُ مِنْهُ فَقَالُوا لَهُ: هَذَا الذِي خَشَيْنَا عَلَيْكَ فَقَالَ: وَاللهِ مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللهِ أَهْوَنَ فِي عَيْنِي مِنْهُمْ الآنَ وَإِنْ شِئْتُمْ لأُغَادِيَنَّهُمْ بِمِثْلِهَا غَداً قَالُوا: لا حَسْبُكَ لَقَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ.
وَمِنْ كَلامِهِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينِهِ فَيَخْرُجُ وَلا دِينَ مَعَهُ لأَنَّهُ مُعَرَّضٌ أَنْ يَعْصِي اللهَ تَعَالى إِمَّا بِفِعْلِهِ وَإِمَّا بِسُكُوتِهِ وَإِمَّا بِاعْتِقَادِهِ.
وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً قَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالى سَبْعِينَ سَنَةً وَهُوَ يُحِبُّ ظَالِماً لَبَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ يُحِبُّ وَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَصْحَاب
الْيَمِينَ فَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: هَا هُنَا رَجُلٌ يَوَدُّ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لا يُبْعَثُ يَعْنِي نَفسَه رضي الله عنه.
وَخَرَجَ مَرَّة مَعَهُ نَاسٌ يُشَيِّعُونَهُ فَقَالَ لَهُمْ: أَلَكُمْ حَاجَةٌ؟ قَالُوا: لا. فَقَالَ: ارْجَعُوا فَإِنَّهُ ذُلٌّ لِتَابِعٍ وَفِتْنَه لِلْمَتْبُوعِ وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرِةِ الرِّوَايَةِ إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالْخَشْيَةِ.
وَكَانَ يَقُولُ ذَهَبَ صَفْوُ الدُّنْيَا وَبَقِيَ كَدْرُهَا وَالْمَوْتُ الْيَوْمَ تُحْفَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَمِنْ كَلامِهِ إِنِّي لا أَبْغَضُ الرَّجُلَ أَنْ أَرَاهُ فَارِغاً لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا وَلا عَمَلِ الآخِرَةِ.
مَنْ لَمْ تَأْمُرْهُ الصَّلاةُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِن اللهِ إِلا بُعْدَاً، إِنَّكُمْ تَرَوْنَ الْكَافِرَ مِنْ أَصَحِّ النَّاسِ جِسْماً وَأَمْرَاضِهِمْ قَلْباً وَتَلْقَوْنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَصَحِّ النَّاسِ قَلْباً وَأَمْرَضِهِمْ جِسْماً وَأَيْمُ اللهِ لَوْ مَرِضَتْ قُلُوبُكُمْ وَصَحَّتْ أَبْدَانُكُمْ لَكُنْتُمْ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِن الْجُعْلانِ.
يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ أَفْضَلُ أَعْمَالِهِمْ التَّلاوُمُ بَيْنَهُمْ يُسَمَّوْنَ الأَنْتَانَ.
عَاشَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ إِلى زَمَنِ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَلَمَّا مَرَِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ جَاءَهُ عُثْمَانُ عَائِداً فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي. قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةُ رَبِّي. قَالَ: أَلا آمُرُ لَكَ بِعَطَائِكَ الذِي امْتَنَعْتَ عَنْ أَخْذِهِ مُنْذُ سِنِينَ.
فَقَالَ: لا حَاجَة لِي بِهِ. فَقَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ فَقَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ إِنِّي أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَقْرَأْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَنْ قَرَأَ الْوَاقِعَةَ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَداً)) .
وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ تُوِفِِّي عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَلِسَانُهُ رَطْبٌ
بِذِكْرِ اللهِ نَدِيّ بِآيَاتِهِ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ وَصَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ وَلَهُ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً رضي الله عنه.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلوكِ سَبِيلِ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَارْزُقْنَا الثَّبَاتَ عَلَيْهِ وَالاسْتِقَامَةَ وَعَافِنَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ وَأَمِّنَّا مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْراً: فِيمَا جَرَى عَلَى الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ مِنْ الظُّلْمَةِ وَالطُّغَاة وَالْمُجْرِمِينَ: جَازَاهمُ اللهُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ:
وَدَارَتْ عَلَى الإِسْلامِ أَكْبَرُ فِتْنَةٍ
وَسُلَّتْ سُيُوفُ الْبَغْيِ مِنْ كُلِّ غَادِرِ
وَذُلَّتْ رِقَابُ مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ
وَكَانُوا عَلَى الإِسْلامِ أَهْلََ تَنَاصُرِ
وَأَضْحَى بَنُو الإِسْلامِ فِي كُلِّ مَأْزِقٍ
تَزُورُهُمُوا غَرْثَى السِّبَاعِ الضَّوَامِرِ
وَهُتِّكَ سِتْرٌ لِلْحَرَائِرِ جَهْرَةً
بَأَيْدِي غُوَاتٍ مِنْ بَوَادٍ وَحَاضِرِ
وَجَاءُوا مِنْ الْفَحْشَاءِ مَا لا يَعُدُّهُ
لَبِيبٌ وَلا يُحْصِيهِ نَظْمٌ لِشَاعِرِ
وَبَاتَ الأَيَامَى فِي الشِّتَاءِ سَوَاغِباً
يَبْكِينَ أَزْوَاجاً وَخَيْرَ الْعَشَائِرِ
وَجَاءَتْ غِوَاشٍ يَشْهَدُ النَّصُّ أَنَّهَا
بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الْغُوَاةِ الْغَوَادِرِ
وَجَرَّ زَعِيمُ الْقَوْمِ لِلتُّرْكِ دَوْلَةً
عَلَى مِلَّةِ الإِسْلامِ فِعْلَ الْمُكَابِرِ
وَوَازَرَهُ فِي رَأْيِهِ كُلُّ جَاهِل
يَرُوحُ وَيَغْدُو آثِماً غَيْرَ شَاكِرِ
وَآخَر يَبْتَاعُ الضَّلالةَ بِالْهُدَى
وَيَخْتَالُ فِي ثَوْبٍ مِنْ الْكِبْرِ وَافِرِ
وَثَالِثُهُمْ لا يَعْبُؤُ الدَّهْرِ بِالَّتِي
تَبِيدُ مِنْ الإِسْلامِ عَزْمَ الْمَذَاكِرِ
وَلَكِنَّهُ يَهْوَى وَيَعْمَلُ لِلْهَوَى
وَيُصْبِحُ فِي بَحْرٍ مِنْ الرَّيْبِ عَامِرِ
وَقَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا مَضَى خَيْرُ نَاصِحٍ
إِمَامُ هُدىً يَبْنِي رَفِيعَ الْمَفَاخِرِ
وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ قَعْرِ ظَلْمَا مُضِّلِّةٍ
لِسَالِكِهَا أَوْ مِنْ لَظَى وَالْمَسَاعِرِ
وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ السَّلامَةَ فِي الَّتِي
عَلَيْهَاَ خِيَارُ الصَّحْبِ مِنْ كُلِّ شَاكِرِ
فَلَمَّا أَتَاهُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ وَاحْتَوَى
أَكَابِرُهُمْ كَنْزَ اللُّهَى وَالذَّخَائِرِ
سَعَوْا جُهْدَهُمْ فِي هَدْمِ مَا قَدْ بَنَى لَهُمْ
مَشَائِخُهُمْ وَاسْتَنْصَرُوا كُلَّ دَاغر
وَسَارُوا لأَهْلِ الشِّرْكِ وَاسْتَسْلَمُوا لَهُمْ
وَجَاؤُا بِهِمْ مِنْ كُلِّ إِفْكٍ وَسَاحِرٍ
وَمُذْ أَرْسَلُوهَا أَرْسَلُوهَا ذَمِيمَةً
تُهَدِّمُ مِنْ رَبْعِ الْهُدَى كُلَّ عَامِرِ
وَبَاؤُا مِنْ الْخُسْرَانِ بِالصَّفَقَةِ الَّتِي
يَبُوءُ بِهَا مِنْ دَهْرِهِ كُلَّ خَاسِرِ
وَصَارَ لأَهْلِ الرُّفْضِ وَالشِّرْكِ صَوْلَةٌ
وَقَامَ بِهِمْ سُوقُ الرَّدَى وَالْمَنَاكِرِ
وَعَادَ لَدَيْهِمْ لِلَّوَاطِ وَلِلْخَنَا
مَعَاهِدُ يَغْدُو نَحْوَهَا كُلَّ فَاجِرِ
وَشُتِّتَ شَمْلُ الدِّينِ وَانْبِتَّ حَبْلُهُ
وَصَارَ مُضَاعاً بَيْنَ شَرِّ الْعَسَاكِرِ
وَأُذَّنَ بِالنَّاقُوسِ وَالطَّبْلِ أَهْلُهَا
وَلَمْ يَرْضَ بِالتَّوْحِيدِ حِزْبُ الْمَزَامِرِ
وَأَصْبَحَ أَهْلُ الْحَقِّ بَيْنَ مُعَاقَبٍ
وَبَيْنَ طَرِيدٍ فِي الْقَبَائِلِ صَائِرِ
فَقَلْ لِلْغَوِّي الْمُسْتَجِيرِ بِظُلْمِهِمْ
سَتُحْشَرُ يَوْمَ الدِّينِ بَيْنَ الأَصَاغِرِ
وَيَكْشَفُ لِلْمُرْتَابِ أَيَّ بِضَاعَةٍ
أَضَاعِ وَهَلْ يَنْجُو مُجِيرُ أُمِّ عَامِرِ
.. وَيَعْلَمُ يَوْمَ الْجَمْعِ أَيَّ جِنَايَةٍ
جَنَاهَا وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ مَكْرِ مَاكِرِ
فَيَا أُمَّةً ضَلَّتْ سَبِيلَ نَبِيَّهَا
وَآثَارَهُ يَوْمَ اقْتِحَامِ الْكَبَائِرِ
يَعِزُّ بِكُمْ دِينُ الصَّلِيبِ وَأَهْلِهِ
وَأَنْتُمْ بِهِمْ مَا بَيْنَ رَاضٍ وَآمِرِ
وَتُهْجَرُ آيَاتُ الْهُدَى وَمَصَاحَفٌ
وَيُحْكَمُ بِالْقَانُونِ وَسْطَ الدَّسَاكِرِ
هَوَتْ بِكُمُ نَحْوُ الْجَحِيمِ هَوَادَةٌ
وَلَذَّاتُ عَيْشٍ نَاعِمٍ غَيْرَ شَاكِرِ
سَيَبْدُوا لَكُمْ مِنْ مَالِكِ الْمُلْكِ غَيْرُ مَا
تَظَنُّونَهُ بَعْدَ الثَّوَى فِي الْمَقَابِرِ
يَقُولُ لَكُمْ مَاذَا فَعَلْتُمْ بِأُمَّةٍ
عَلَى نَاهِجٍ مِثْلَ النُّجُومِ الزَّوَاهِرِ
سَلَلْتُمْ سَيُوفَ الْبَغْي فِيهِمْ وَعُطِّلَتْ
مَسَاجِدُهُمْ مِنْ كُلِّ دَاعٍ وَذَاكِرِ
وَوَالَيْتُمُ أَهْلَ الْجَحِيمِ سَفَاهَةً
وَكُنْتُمِ بِدِينِ اللهِ أَوَّلَ كَافِرِ
نَسِيتُمْ لَنَا عَهْداً أَتَاكُمْ رَسُولُنَا
بِهِ صَارِخاً فَوْقَ الذُّرَى وَالْمَنَابِرِ
فَسَلْ سَاكِنَ الأَحْسَاءِ هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ
.. بِهِذَا وَمَا يَجْرِي صَحِيحُ الدَّفَاتِرِ
وَهَلْ نَافِعٌ لِلْمُجْرِمِينَ اعْتِذَارُهُمْ
إِذَا دَارَ يَوْمَ الْجَمْعِ سُوءُ الدَّوَائِرِ
وَقَالَ الشَّقِيُّ الْمُفْتَرِي كُنْتُ كَارِهاً
ضَعِيفاً مُضَاعاً بَيْنَ تِلْكَ الْعَسَاكِرِ
أَمَانِيَّ تَلْقَاهَا لِكُلِّ مُتَبَّرٍ
حَقِيقَتُهَا نَبْذُ الْهُدَى وَالشَّعَائِرِ
تَعُودُ سَرَاباً بَعْدَ مَا كَانَ لامِعاً
لِكُلِّ جَهُولٍ فِي الْمَهَامهِ حَائِرِ
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُحَضْى بِكُلِّ فَضِيلَةٍ
وَتَظْهَرَ فِي ثَوْبٍ مِنْ الْمَجْدِ بَاهِرِ
وَتَدْنُوا مِنْ الْجَبَّارِ جل جلاله
إِلى غَايَةٍ فَوْقَ الْعُلَى وَالْمَظَاهِرِ
فَهَاجِرْ إِلى رَبِّ الْبَرِيَّةِ طَالِباً
رِضَاهُ وَرَاغِمْ بِالْهُدَى كُلَّ جَائِرِ
وَجَانِبِ سَبِيلَ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ
ذَوِي الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ مَعَ كُلِّ غَادِرِ
وَبَادِرْ إِلى رَفْعِ الشِّكَايَةِ ضَارِعاً
إِلى كَاشِفِ الْبَلْوَى عَلِيمِ السَّرَائِرِ
وَكَابِدْ إِلى أنْ تَبَلُغَ النَّفْسُ عُذْرَهَا
وَتُرْفَعَ فِي ثَوْب مِن الْعَفْوِ سَاتِرِ
.. وَلا تَيْأَسَنْ مِنْ صُنْع رَبِّكَ إِنَّهُ
مُجِيبٌ وَإِنَّ اللهَ أَقْرَبُ نَاصِرِ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُبْدِي بِلُطْفِهِ
وَيُعَقِّبُ بَعْدَ الْعُسْرِ يُسْراً لِصَابِرِ
وَأَنَّ الدِّيَارَ الْهَامِدَاتِ يَمُدُّهَا
بِوَبْلٍ مِنْ الْوَسْمِي هَامٍ وَمَاطِرِ
فَتُصْبِحُ فِي رَغْدٍ مِنْ الْعَيْشِ نَاعِمٍ
وَتَهْتَزُ فِي ثَوْبٍ مِنْ الْحُسْنِ فَاخِرِ
اللَّهُمَّ يَا مَنْ فَتَحَ بَابَهُ لِلطَّالِبِينَ وَأَظَهْرَ غِنَاءَهُ لِلرَّاغِبِينَ أَلْهِمْنَا مَا أَلْهَمْتَ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ إِنَّكَ أَكْرَمُ مُنْعِمٍ وَأَعَزُّ مُعِين وَاغْفِرْ لَنَا اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمِّنَّا مِنْ الْفَزَعِ الأَكْبَر يَوْمَ الرَّحْفِ وَالزَّلْزَلالْ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصة عبد الله بن عباس
عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسِ بنُ عَمِّ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم اجْتَمَعَ لَهُ رضي الله عنه مَجْدُ الصُّحْبَةِ وَمَجْدُ الْقَرَابَةِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَجْدُ الْعِلْمِ وَمَجْدُ التُّقَى، فَقَدْ كَانَ صَوَّاماً بِالنَّهَارِ قَوَّاماً بِاللَّيْلِ بَكَاء مِنَ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ الدَّمْعَ حَفَرَ خَدَّيْهِ أَعْلَمُ الأُمَّةِ بِكِتَابِ اللهِ وَأَفْقَهُهَا بِتَأْوِيلِهِ وَأَقْدَرُهَا عَلَى النُّفُوذِ إِلى أَغْوَارِهِ وَإِدْرَاكِ مَرَامِيهِ وَأَسْرَارِهِ.
وُلِدَ رضي الله عنه قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلاثِ سَنَوَاتٍ وَلَمَّا تُوِفِّي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ ثَلاثَ عَشْرَة سَنَةَ فَقَطْ وَمَعْ ذَلِكَ فَقَدْ حَفِظَ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَلْفاً وَسِتِّمَائَةً وَسِتِّينَ حَدِيثاً أَثْبَتَهَا الْبُخَارِيُ وَمُسْلِمُ فِي صَحِيحِهِمَا.
وَلَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ حَمَلَتْهُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَحَنَّكَهُ بِرِيقِهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُلازَمَةَ الْعَيْنِ لأُخْتِهَا.
فَكَانَ يُعِدُّ لَهُ مَاءَ وُضُوئِهِ إِذَا هَمَّ أَنْ يَتَوَضَأَ وَيُصَلِّي خَلْفَهُ إِذَا وَقَفَ لِلصَّلاةَ وَيَكُونُ رَدِيفَه إِذَا عَزَمَ عَلَى سَفَرٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَلْباً وَذِهْناً صَافِياً.
حَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: هَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْوُضَوءِ ذَاتَ مَرَّةٍ فَمَا أَسْرَع أَنْ أَعْدَدْتُ لَهُ الْمَاءَ فَسُرَّ بِمَا صَنَعْتُ وَلَمَّا هَمَّ بِالصَّلاةِ أَشَارَ إِلى أَنْ أَقِفَ بَازَائِهِ فَوَقَفْتُ خَلْفَهُ.
فَلَمَّا انْتَهَتِ الصَّلاةُ مَالَ عَلَيَّ وَقَالَ: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكُونَ بَازِائِي ياَ عَبْدَ اللهِ)) . فَقُلْتُ: أَنْتَ أَجَلُ فِي عَيْنِي وَأَعَزُّ مِنْ أُوَارِيكَ يَا رَسُولَ الله.
فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِهِ الْحِكْمَةَ» . وَقَدْ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَةَ نَبِيِّهِ فَآتَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ مَا فَاقَ بِهِ أَسَاطِينَ الْحُكَمَاءِ.
مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اعْتَزَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وَخَذَلُوهُ فِي نِزَاعِهِ مَعَ مُعَاوَيَةَ رضي الله عنهما قَالَ عَبْدُ اللهِ بن عَبَّاسٍ لِعَلِّي رضي الله عنه: ائْذَنْ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ آتِي الْقَوْمَ وَأَكَلِمَهُمْ فَقَالَ: إِنِّي أَتَخَوَّفَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ فَقَالَ: كَلا إِنْ شَاءَ اللهُ.
ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرَ قَوْماً أَشَدَّ اجْتِهَاداً مِنْهُمْ فِي الْعِبَادَةِ فَقَالُوا: مَرْحَباً بِكَ يَا ابنَ عَبَّاسٍ مَا جَاءَ بِكَ فَقَالَ: جِئْتُ أُحَدِّثُكُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تُحَدِّثُوهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَسْمَعُ مِنْكَ.
فَقَالَ أَخْبِرُونِي مَا تَنْقِمُونَ عَلَى ابنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَزَوْجِ ابْنَتِهِ وَأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ قَالُوا: نَنْقِمُ عَلَيْهِ ثَلاثَةَ أُمُورٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَاتَلَ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ وَلَمْ يَأْخُذْ غَنَائِمَ وَلا سَبَايَا وَثَالِثُهَا أَنَّهُ مَحَا عَنْ نَفْسِهِ لَقبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ بَايَعُوهُ وَأَمَّرُوهُ.
فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ، إِنْ أَسْمَعْتُكُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ مَالا تُنْكِرُونَهُ أَفَتَرْجُعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَّا قَوْلُكُمْ أَنَّهُ حَكَمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللهِ فَاللهُ سبحانه وتعالى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} .
أَنْشُدُكُمْ اللَه أَفَحُكْمَ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ فِي أَرْنَب ثَمَنُهَا رُبْعُ دِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا: بَلْ فِي حَقْنِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ. فَقَالَ: أَخَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ عَلِيّاً قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ - أَيْ لَمْ يَأْخُذْ سَبَايَا كَمَا سَبَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفَكُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْبُوا أُمَّكُمْ عَائِشَةَ كَمَا تُسْتَحَلُّ السَّبَايَا فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ كَفَرْتُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمِّكُمْ كَفَرْتُمْ أَيْضاً فَاللهُ سبحانه وتعالى يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ مَا شِئْتُمْ ثُمَّ قَالَ: أَخَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ عَلِيّاً مَحَا عَنْ نَفْسِهِ لَقَبَ إمْرَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ طَلَبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَكْتُبُوا فِي الصُّلْحِ الذِي عَقَدَهُ مَعَهُمْ هَذَا مَا قَاضَى
عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، قَالُوا: لَوْ كُنَّا نُؤْمِنْ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنْ أُكْتُبْ مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللهِ فَنَزَلَ عِنْدَ طَلَبِهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنِّي لِرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي فَهَلْ خَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ» ؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَكَانَ مِنْ ثَمَرَةِ هَذَا اللَّقَاءِ وَمَا وَفَّقَ اللهُ فِيهِ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ مِنْ حِكْمَةٍ وَحُجَّةٍ أَنْ عَادَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفاً إِلى صُفُوفِ عَلِي وَأَصَرَّ أَرْبَعَةُ آلافٍ عَلَى خُصُومَتِهِمْ لِعَلي، وَلَمَّا لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِجِوَارِ رَبِّهِ اتَّجَه عَبْدُ اللهِ بن عَبَّاسٍ إِلى الْبَقِيَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ يَأْخُذُ عَنْهُمْ الْعِلْمَ وَيَتَلَقَّى عَنْهُمْ.
وَحَدَّثَ ابنُ عَبَّاسٍ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: كَانَ إِذَا بَلَغَنِي الْحَدِيثَ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَيْتُ بَابَ بَيْتِهِ فِي وَقْتِ قَيْلُولَتِهِ وَتَوَسَّدْتُ رِدَائِي عِنْدَ عُتْبَةِ دَارِهِ فَتَسْفِي عَليَّ الرِّيحُ مِنْ التُّرَابِ مَا تَسْفِي وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَسْتَأَذِنَ عَلَيْهُ لأَذِنَ لِي.
وَإِنَّمَا كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ لأُطَيِّبَ نَفْسَهُ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ رَآنِي عَلَى هَذِهِ الْحَالَ وَقَالَ: «يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا جَاءَ بِكَ هَلا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ فَأَقُولُ أَنَا أَحَقُّ بِالْمَجِيءِ إِلَيْكَ فَالْعِلْمُ يُؤْتَى وَلا يَأْتِي ثُمَّ أَسْأَلُهَ عَنْ الْحَدِيثِ» .
وَكَمَا كَانَ ابنُ عَبَّاسِ يُذِلُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَقَدْ كَانَ يُعْلِى مِنْ قَدرِ الْعُلَمَاءِ فَهَا هُوَ ذَا زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ كَاتِبُ الْوَحِي وَرَأْسُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْقَضَاءِ وَالْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْفَرَائِضِ يَهَمُّ بِرِكُوبِ دَابَّتِهِ فَقَالَ: «دَعْ عَنْكَ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» . فَقَالَ ابنْ ُعَبَّاس: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا.
اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) وَقَدْ اجْتَهد ابْنُ عَبَّاسٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى بَلَغَ فِيهِ مَبْلَغاً وَأَدْهَشَ الْفُحُولَ فَقَالَ فِيهِ مَسْرُوقُ بنُ الأَجْدَعِ أَحَدُ التَّابِعِينَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: أَجْمَلُ النَّاسِ فَإِذَا نَطَقَ قُلْتُ: أَفْصَحُ النَّاسَ فَإِذَا تَحَدَّثَ قُلْتُ: أَعْلَمُ النَّاسِ.
وَلَمْ يَكُنْ ابنُ عَبَّاسٍ مِنْ الذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ وَيَنْهَوْنَ وَلا يَنْتَهُون وَإِنَّمَا كَانَ صَوَّاماً بِالنَّهَارِ قَوَّاماً بِاللَّيْلِ.
أَخْبَرَ عَنْهُ عُبْدُ اللهِ بنُ مُلَيْكَةَ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ مَكَّةَ إِلى الْمَدِينَةِ فَكُنَّا إِذَا نَزَلْنَا مَنْزلاً قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ مِنْ شِدَّةَ التَّعَبِ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍِ يَقْرَأ: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} فَظَلَّ يُكَرِّرُهَا وَيَنْشُجُ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ.
وَحَسْبُنَا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ نَعْلَمْ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بن عَبَّاسٍ كَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ وَجْهاً فَمَا زَالَ يَبْكِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى أَحْدَثَ الدَّمْعُ عَلَى خَدَّيْهِ مَجْرَيَيْنِ شَبَّهَهُمَا بَعْضُهُمْ بِشَرَاكِي النَّعْلِ.
وَقَدْ بَلَغَ ابنُ عَبَّاسٍ مِنْ مَجْدِ الْعِلْمِ غَايَتَه ذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ خَرَجَ ذَاتَ سَنَةٍ حَاجّاً وَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ حَاجّاً أَيْضاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْلَةٌ وَلا أَمَارَةٌ فَكَانَ لِمُعَاوِيَةَ مَوْكِبٌ مِنْ رِجَالِ دَوْلِتِه وَكَانَ لِعَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ مَوْكِبٌ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ يَفُوقُ مَوْكِبَ مُعَاوِيَةَ.
رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجْلِساً لَوْ أَنَّ جَمِيعَ قَرَيْشٍ افْتَخَرَتْ بِهِ لَكَانَ لَهَا مَفْخَرَةٌ فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ اجْتَمَعُوا فِي الطَّرُقِ الْمُؤَدِيَةِ إِلى بَيْتِهِ حَتَّى ضَاقَتْ بِهِمْ وَسَدُّوهَا فِي وَجُوهِ النَّاسِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ بِاحْتِشَادِ النَّاسِ عَلَى بَابِهِ.
فَقَالَ: ضَعْ لِي وُضُوءاً فَتَوَضَأَ وَجَلَسَ وَقَالَ: أَُخْرُجْ وَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْقُرْآنِ وَحُرُوفهِ فَلْيَدْخَلْ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَأَكْثَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: افْسَحُوا الطَّرِيقَ لإِخْوَانِكِمْ فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: أَُخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرَآنِ وَتَأْوِيلِهِ فَلَيْدْخُلْ فَقُلْتُ لَهُمْ: فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَأَكْثَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: افْسَحُوا الطَّرِيقَ لإِخْوَانِكِمْ فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: أَُخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْفَرَائِضَ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَيْدَخُلْ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَأَكْثَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: افْسَحُوا الطَّرِيقَ لإِخْوَانِكِمْ فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: أَُخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَغَرِيبِ كَلامِ الْعَرَبِ فَلَيْدَخُلْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ رَاوِي الْخَبَرِ: فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشاً كُلَّهَا فَخَرَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ لَهَا فَخْراً.
وَكَانَ ابنُ عَبَّاسٍ رَأَى أَنْ يُوَزِّعَ الْعُلُومَ عَلَى الأَيَّامِ حَتَّى لا يَحْدُثَ عَلَى بَابِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الزَّحَامِ فَصَارَ يَجْلِسُ فِي الأُسْبُوع يَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا التَّفْسِيرَ وَيَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا الْفِقْهَ وَيَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا الْمَغَارِي وَيَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا أَيَّامَ الْعَرَبِ.
وَقَدْ غَدَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِفَضْلِ مَا وَهَبَهُ اللهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقهِ مُسْتَشَاراً لِلْخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِهِ فَكَانَ إِذَا عَرَضَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ أَمْرٌ وَوَاجَهَتْهُ مُعْضِلَةٌ دَعَا جِلَّةَ الصَّحَابَةِ وَدَعَا مَعَهُمْ عَبْدَ اللهِ بن عَبَّاسٍ فَإِذَا حَضَرَ رَفَعَ مَنْزِلَتَهُ وَأَدْنَى مَجِلِسَهُ وَقَالَ لَهُ: لَقَدْ أَعْضَلَ عَلَيْنَا أَمْرٌ أَنْتَ لَهُ وَلأَمْثَالِهِ.
وَقَدْ عُوتِبَ عُمَرُ مَرَّةً فِي تَقْدِيمِهِ لابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلِهِ مَعَ الشُّيُوخِ وَهُوَ مَا زَالَ فَتَىً فَقَالَ: إِنَّهُ فَتَىَ الْكُهُولِ لَهُ لِسَانٌ وَقَلْبٍ عَقُول أ. هـ.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَأَذِنَ لَهُمْ يَوْماً وَأَذِنَ لِي مَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالُوا: أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم إِذْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَأَنْ يَتُوبَ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ بِحُضُورِ أَجَلِهِ فَقَالَ: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَتْحُ مَكَّةَ وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} أَيْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَلامَةُ مَوْتِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} .
فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَلُومُونَنِي عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَرَوْنَهُ وَقِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّى أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمِ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَؤوْلٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ مُجَاهِدُ كَانَ ابِنُ عَبَّاسٍ يُسَمَّى الْبَحْرَ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ.
عَلَى أَنَّ ابنَ عَبَّاسٍ حِينَ انْصَرَفَ إِلى الْخَاصَّةِ لِيُعَلِّمَهُمْ وَيُفَقِّهَهُمْ لَمْ يَنْسَ حَقَّ الْعَامَّةِ فَكَانَ يَعْقِدُ لَهُمْ مَجَالِسَ الْوَعْظِ وَالإِرْشَادِ وَالتَّذْكِيرِ.
فَمِنْ مَوَاعِظِهِ قَوْلُهُ مُخَاطِباً أَصْحَابَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لا تَأْمَنَ عَاقِبَةَ ذَنْبِكَ وَأَعْلَمْ أَنَّ مَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ نَفْسِهِ فَإِنَّ عَدَمَ اسْتِحْيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى يَمِينِكَ وَعَلَى شِمَالِكَ وَأَنْتَ تَقْتَرِفُ الذَّنْبِ لا يَقِلُّ عَنْ الذَّنْبِ.
وَإِنْ ضِحْكَكَ عَنْدَ الذَّنْبِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ وَإِنَّ حُزْنَكَ عَلَى الذَّنْبَ إِذَا فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبَ وَإِنَّ خَوْفَكَ مِنْ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَكَ وَأَنْتَ تَرْتَكِبُ الذَّنْبِ مَعَ كَوْنِكَ لا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ.
يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ عليه السلام فَابْتَلاهُ اللهُ عز وجل بِجَسَدِهِ وَمَالِهِ إِنَّمَا كَانَ ذَنْبُهَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ لِيَدْفَعَ عَنْهُ الظُّلْمَ فَلَمْ يُعِنْهُ.
وَكَانَ يَقُولُ: أَعُولُ أَهْلَ بَيْتٍ مِن الْمُسْلِمِينَ شَهْراً أَوْ جُمْعَةً أَوْ مَا شَاءَ اللهُ أَحِبُّ إِِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ وَلَطَبَقٌ بِدَانِقٍ أَهْدِيهِ إِلى أَخٍ لِي فِي اللهِ أَحَبَّ إِلِيَّ مِنْ دِينَارٍ أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَكَانَ يَقُولُ آخِرُ: شِدَّةً يَلْقَاهَا الْمُؤْمِنُ الْمَوْتَ وَيَقُولُ: خُذْ الْحِكْمَةَ مِمَّنْ سَمِعْتَ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ وَلَيْسَ بِحَكِيمٍ فَتَكُونُ كَالرَّمِيَةِ خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ رَامِي، عُمِّرَ ابنُ عَبَّاسٍ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً مَلأ فِيهَا الدُّنْيَا عِلْماً وَفِهْماً وَحِكْمَةً وَزُهْداً وَتُقَىً.
وَلَمَّا سَقَطَ فِي عَيْنَيْهِ الْمَاءُ وَذَهَبَ بَصَرُهُ قِيلَ لَهُ: خَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَيْنَيْكَ نُسِيلُ مَاءَهُمَا وَلَكِنَّكَ تُمْسِكْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ لا تَسْجُدُ فَقَالَ: لا وَاللهِ وَلا رَكْعَةً وَاحِدَةً إِنِّي حُدِّثْتُ أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّداً لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ.
قَالَ مَيْمُونُ بِنُ مِهْرَانَ: شَهِدْتُ جَنَازَةَ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَلَمَّا وُضِعَ ليُصَلَّى عَلَيْهِ جَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ حَتَّى دَخَلَ فِي أَكْفَانِهِ فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ فَلَمَّا سُوِيَ عَلَيْهِ التُّرَابُ سَمِعْنَا صَوْتاً وَلا نَرَى شَخْصاً {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} . أ. هـ. بِتَصَرُّف بِزِيَادَة وَنَقْص. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قِصَّةُ سَلْمَان الْفَارِسِي
قَالَ سَلْمَانُ: كُنْتُ رَجُلاً فَارِسِيّاًًً مِنْ أَهْلِ أَصْبهَانِ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جَيَّانِ، وَكَانَ أَبِي دَهْقَانُ الْقَرْيَةِ وَأَغْنَى أَهْلِهَا وَأَعْلاهُمْ مَنْزِلَةً، وَكُنْتُ أَحَبُّ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ مُنْذُ وَلِدْتُ ثُمَّ مَا زَالَ حُبُّه لِي يَشْتَدُّ وَيَزْدَادُ حَتَّى حَبَسَنِي فِي الْبَيْتِ خَشْيَةً عَلَيَّ كَمَا تُحْبَسُ الْفَتَيَاتُ.
قَالَ سَلْمَانُ: وَقَدْ اجْتَهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى غَدَوْتُ قِيَمَ النَّارِ الَّتِي كُنَّا نَعْبُدُهَا قَالَ سَلْمَانُ: وَأَنِيطَ بِي أَمْرُ إِضْرَامِهَا حَتَّى لا تَخْبُو سَاعَةً في
لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَكَانَ لأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ - الأَرْضُ الْمُغِلَّةُ - تُدِرُّ عَلَيْنَا غَلَّةً كَبِيرَةً وَكَانَ أَبِي يَقُومُ عَلَيْهَا وَيَجْنِي غَلَّتَهَا.
وَفِي ذَات مَرَّةٍ شَغَلَهُ عَنْ الذَّهَابِ إِلى الْقَرَيْةِ شَاغِلٌ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ عَنْ الضَّيْعَةِ بِمَا تَرَى فَاذْهَبْ إِلَيْهَا وَتَوَلَّى الْيَوْمَ عَنِّي شَأْنَهَا فَخَرَجْتُ أَقْصُدُ ضَيْعَتَنَا.
وَبَيْنَمَا أَنَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ فَلَفَتَ ذَلِكَ انْتِبَاهِي وَذَلِكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَعْرَفُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى وَلا أَمْرَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الأَدْيَانِ لِطُولِ مَا حَجَبَنِي أَبِي عَنْ النَّاسِ فِي بَيْتِنَا.
فَلَمَّا سَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ لأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا تَأَمَّلْتُهُمْ أَعَجَبَتْنِي صَلاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي دِينِهِمْ وَقُلْتُ: وَاللهِ هَذَا خَيْرٌ مِن الذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ أَذْهَبْ إِلى ضَيْعَةِ أَبِي ثُمَّ سَأَلْتُهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: فِي بِلادِ الشَّامِ.
وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ عُدْتُ إِلى بَيْتِنَا فَتَلَقَّانِي أَبِي يَسْأَلُنِي عَمَّا صَنَعْتُ فَقْلُتْ: يَا أَبَتِ إِنِّي مَرَرْتُ بأُنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ وَمَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَذُعِرَ أَبِي مِمَّا صَنَعْتٌ.
وَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قُلْتُ: كَلا - وَاللهِ - إِنَّ دِينَهُمْ لِخَيْرٌ مِنْ دِينَنَا، فَخَافَ أَبِي مِمَّا أَقُولُ وَخَشِيَ أَنْ أَرْتَدَّ عَنْ دِينِي وَحَبَسَنِي بِالْبَيْتِ وَوَضَعَ قَيْداً فِي رِجْلِي.
وَلَمَّا أُتِيحَتْ لِي الْفُرْصَةُ بَعَثْتُ إِلى النَّصَارَى أَقُولُ لَهُمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلى بِلادِ الشَّامِ فَأَعْلِمُونِي فَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ
حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مُتَّجِهَةٌ إِلى الشَّامِ فَأَخْبَرُونِي بِهِ فَاحْتَلْتُ عَلَى قَيْدِيْ حَتَّى حَلَلْتُهُ وَخَرَجْتُ مَعَهُمْ مُتَخَفِّياً حَتَّى بَلَغْنَا بِلادَ الشَّامِ.
فَلَمَّا نَزَلْنَا فِيهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ قَالُوا الأَسْقُفْ - مَرْتَبَةٌ فَوْقَ الْقِسِيسِ عِنْدَ النَّصَارَى - رَاعِي الْكَنِيسَةِ فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي رَغِبْتُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَلْزَمَكَ وَأَخْدِمَكَ وَأَتَعَلَّمَ مِنْكَ، وَأُصَلِّي مَعَكَ، فَقَالَ: أُدْخُلْ فَدَخَلْتُ عِنْدَهُ وَجَعَلْتُ أَخْدِمُهُ.
ثُمَّ مَا لَبِثْتُ أَنْ عَرَفْتُ أَنَّ الرَّجُلَ رَجُلُ سُوءٍ فَقَدْ كَانَ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ بِثَوَابِهَا فَإِذَا أَعْطُوهُ مِنْهَا شَيْئاً لِيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ مِنْهُ شَيْئاً، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلالٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَبْغَضْتُهُ بُغْضاً شَدِيداً لِمَا رَأَيْتُهُ مِنْهُ.
ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ النَّصَارَى لِدَفْنِهِ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ صَاحِبَكُمْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئاً، قَالُوا: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ.
قَالُوا: نَعَمْ دُلَّنَا عَلَيْهِ فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَباً وَفِضَّةً فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللهِ لا نَدْفُنُهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ وَرَمُوهُ بِالْحِجَارِةِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى نَصَّبُوا رَجُلاً آخِرَ مَكَانَهُ، فَلَزِمْتُهُ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَزْهَدَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلا أَرْغَبَ مِنْهُ فِي الآخِرَةِ وَلا أَدْأَبَ مِنْهُ عَلَى الْعِبَادَةِ لَيْلاً وَلا نَهَاراً فَأَحْبَبْتُهُ حُبّاً جَمّاً وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَاناً.
فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: إِلى مَنْ تُوصِي بِي وَمَعَ مَنْ تَنْصَحُنِي أَنْ أَكُونَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ لا أَعْلَمُ أَحَداً عَلَى مَا كُنْتُ
عَلَيْهِ إِلا رَجُلاً بِالْمُوصِلِ هُوَ فُلانٌ لَمْ يُحَرِّفْ وَلَمْ يُبَدِّلْ فَألحَقْ بِهِ فَلَمَّا مَاتَ صَاحِبِي لَحَقْتُ فِي الْمُوصِلِ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَيْهِ قَصَصْتُ عَلَيْهِ خَبَرِي وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ فُلاناً أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقُ بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ مُتَمَسِّكٌ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى خَيْرِ حَالٍ.
ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ لَقَدْ جَاءَكَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا تَرَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ مِنْ أَمْرِي مَا تَعْلَمُ فَإِلى مَنْ تُوصِي فَإِلى بِي وَمَنْ تَأْمُرُنِي بِاللِّحَاقِ بِهِ فَقَالَ: أَيْ بُنَيّ وَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَنَّ رَجُلاً عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلا رَجُلاً بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلانٌ فَأَلْحَقْ بِهِ فَلَمَّا غيبَ الرَّجُلُ فِي لَحْدِهِ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدَنَا فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى مَا كَانَ صَاحِبَاهُ مِنْ الْخَيْرِ.
فَوَاللهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: لَقَدْ عَرَفَتْ مِنْ أَمْرِي مَا عَرَفْتَ فَإِلى مَنْ تُوصِي بِي؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللهِ إِنِّي مَا أَعْلَمُ أَحَداً بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا إِلا رَجُلاً بِعَمُورِيَّةَ هُوَ فُلانٌ فَألْحَقْ بِهِ فَلَحِقْتُ بِهِ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَ رَجُلٍ كَانَ - وَاللهِ - عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَقَدْ اكْتَسَبْتُ وَأَنَا عِنْدَهُ بَقَرَاتٍ وَغَنِيمَةً.
ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ مَا نَزَلَ بَأصْحَابِهِ مِنْ أَمْرُ اللهِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ قُلْتُ لَهُ: إِنِّكَ تَعْلَمْ مِنْ أَمْرِي مَا تَعْلَمْ فَإِلَى مَنْ تُوصِى بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَاللهِ - مَا أَعْلَمُ أن هُناكَ أَحَداً مِنَ النَّاسِ بَقِيَ عَلى ظَهْرِ الأرْض مًسْتَمْسِكًا بِمَا كَنَّا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانٌ يَخْرُجُ فِيهِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ نَبِيٌّ يبْعَثُ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ يُهَاجِرُ مِنْ أَرْضِهِ إِلَى أَرْضٍ
ذَات نَخْلٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ وَلَهُ عَلامَاتٌ لَا تَخْفَى فَهُو يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ فَافْعَلْ.
ثُمَّ وَافَاهُ الأَجَلُ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ زَمَناً إِلَى أَنْ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ تُجَّار الْعَرَبِ مِنْ قَبِيلَةِ كَلْبٍ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ حَمَلْتُمُونِي مَعَكُمْ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ أَعْطِيتُكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي فَقَالُوا: نَعَمْ نَحْمِلُكَ فَأَعْطَيْتُهُم إِيَّاهَا وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا وَادي الْقُرَى غَدَرُوا بِي وَبَاعُونِي لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودَ فالْتَحَقْتُ بِخِدْمَتِهِ.
ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ زَارَهُ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ بَنِي قُرَيْظَةَ فاشْتَرَانِي مِنْهُ وَنَقَلنِي مَعَهُ إلَى يَثْرِبَ فَرَأيتُ النَّخْلَ الذي ذَكَرَهُ لِي صَاحِبِي بِعَمُّورِيَّةَ وَعَرَفْتُ الْمَدِيَنةَ بالْوَصْفِ الذي نَعَتَهُا بِهِ فَأَقَمْتُ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ حِينَئِذٍ يَدْعُو قَوْمَهُ بِمَكَّةَ لَكَنِّ لَمْ أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ لانْشِغَالِي بِمَا يُوجِبُهُ عَلَيَّ الرِّقِّ.
ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ هَاجَرَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَثْرِبَ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهَا بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ تَحْتَهَا إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ الْيَومَ مِنْ مَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
فَمَا إِنْ سَمِعْتُ مَقَالَتَهُ حتَّى مَسَّنِي مَا يُشْبِهُ الْحُمَّى واضْطَرَبْتُ اضْطِرَاباً شَدِيداً حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَسْقُطَ عَلَى سَيِّدِي وَبَادَرْتُ إِلَى النُّزُولِ عَنِ النَّخْلَةِ وَجَعَلْتُ أَقُولُ للرَّجَل: مَاذَا تَقُولُ؟ أَعِدْ عَلَيَّ الْخَبَرَ فَغَضِبَ
سَيِّدِي وَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً وَقَالَ لِي: مَالَكَ وَلِهَذَا؟ عُدْ إِلَى مَا كُنْتَ فِيهِ مِنْ عَمَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ أَخَذْتُ شَيْئاً مِنْ تَمَراتٍ كُنْتُ جَمَعْتُهُ وَتَوَجَّهْت إِلَى حَيْثُ يَنْزِلُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ وَهَذَا كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِليهِ.
فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: «كُلُوا» . وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ انْصَرَفْتُ وَأَخذْتُ أَجْمَعُ بَعْضَ التَّمْرِ فَلَّمَا تَحَوَّلَ الرَّسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ جِئْتُه فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا فأَكَلَ مِنْهَا وأَمَر أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ الثَّانِيَةُ.
ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ حَيْثُ كَانَ يُوارِي أَحَدَ أَصْحَابِهِ فَرَأيْتُهُ جَالِساً وَعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ فَسَلَّمْتُ عَليهِ ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي فِي عَمُّورِيَّةَ.
فَلَمَّا رَآنِي أَنْظُرُ إلى ظَهْرِهِ عَرَفَ غَرَضِي فألْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَبَرُكَ» ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قَصَّتِي فَأَعْجَبَ بِهَا وَسُرُّوا بِهَا أَنْ يَسْمَعْهَا أَصْحَابُهُ فأَسْمَعْتُهُمْ إِيَّاهَا فَعَجِبُوا مِنْهَا أَشَّدَ الْعَجَبِ وسُرُّوا بِهَا أَعْظَمَ السُّرور. أ. هـ. بِتَصَرِّفَ يَسِير.
اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا
مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كُلَّ ذَنْبٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ بَدْرٌ وَأُحُدٌ ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ» . فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقَرِ وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ» . فَأَعَانُونِي حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاثُمَائَةٌ.
قالَ سَلْمَان: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبْ فَفَقِّرْ لَهَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ» . قال: فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَوَالَّذِى نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَبَقِيَ عَلَىَّ الْمَالُ.
فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ حَيْثُ لَمْ يَمُتْ مِمَّا غَرَسَهُ صلى الله عليه وسلم وَلا وَاحِدَةٌ قَالَ سَلْمَانُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: «مَا فَعَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسيُّ الْمُكَاتَبُ» ؟ فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ: «هَذِهِ أَدِّبِهَا مَا عَلَيْكَ» . قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَىَّ؟ قَالَ: «خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ» .
فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَعُتِقْتُ فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَنْدَقَ ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ واحدٌ وَهَذِه أيضاً مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَكَانَ سَلْمَانُ رضي الله عنه وَرِعاً زَاهِداً قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ عَطَاءُ سَلْمَانَ خَمْسَةُ آلافٍ وَكَانَ أَمِيراً عَلَى زُهَاء ثَلاثِينَ أَلْفاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ
وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي عَبَاءَةٍ يَفْتَرِشُ بَعْضَهَا وَيَلْبَسُ بَعْضَهَا فَإِذَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ أَمْضَاهُ - يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِوَصِيفَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَيَأْكُلُ مِنْ سَفِيفِ يَدَيْهِ أَيْ يَسِفُ الْخُوْصَ وَيَأْكُلُ مِنْ قِيمَتِهِ إِذَا بَاعَهُ.
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: اشْتَرِي خُوصاً بِدِرْهَمٍ فَأَعْمَلُهُ فَأَبِيعُهُ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ فَأُعِيدُ دِرْهَماً فِيهِ وَأُنْفِقُ دِرْهَماً عَلَى عِيَالِي وَأَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ وَكَانَ سَلْمَانُ أَمِيراً عَلَى الْمَدَائِنِ فَجَاءَ رَجُلٌ مَعَهُ حِمْلُ تِبْنٌ وَعَلَى سَلْمَان عَبَاءَةٌ فَقَالَ لَهُ: تَعَالَ احْمِلْ وَهُوَ لا يَعْرِفُهُ فَحَمَلَ فَرَآهُ النَّاسُ فَقَالُوا: هَذَا الأَمِيرُ فَقَالَ الرَّجُلُ لِسَلْمَانَ: لَمْ أَعْرِفْكَ؟ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنِّي قَدْ نَوَيْتُ فِيهِ نِيَّةً فَلَنْ أَضَعَهُ حَتَّى أَبْلُغَ بَيْتَهُ، هَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْ سِيرَةِ سَلْمَانَ الْفَارِسِي رضي الله عنه.
كَمْ ذَا أُؤمِّلُ عَفْواً لَسْتُ أَكْسَبُهُ
…
وَيْلٌ لِجِلْدِيَ يَوْمَ النَّارِ مِنْ أَمَلِي
قَوْلٌ جَمِيلٌ وَأَفْعَالٌ مُقَبَّحَةٌ
…
يَا بُعدَ ذَا الْقَوْلِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعَمَلِ
يَا بُؤْسَ لِلْعَيْشِ غُرَّ الْعَالِمُونَ بِهِ
…
وَالْجَاهِلُونَ مَعاً فِي الأَعْصُرِ الأُوَلِ
مَضَوْا جَمِيعاً فَلا عَيْنٌ وَلا أَثَرٌ
…
حَانُوا وَحَالُوا وَهَذَا الدَّهْرُ لَمْ يَحُلِ
كَأَنَّهَمْ بَعْدَ مَا اسْتَمْطَوْا جَنَائِزَهُمْ
…
لَمْ يَمْتَطُوا صَهَوَاتِ الْخَيْلِ وَالإِبْلِ
قَالُوا فَرَغْتَ مِنْ الأَشْغَالِ قُلْتُ لَهُمْ
…
لَوْ لَمْ أَكُنْ باِنْتِظَارِ الْمَوْتِ فِي شُغُلِ
إِنِّي لأَعْلَمُ عِلْماً لا يُخَالِجُه
…
شَكٌّ فَأَطْمَعُ لِلدُّنْيَا وَيُطْمَعُ لِي
بَأَنَّه لا مَحِيصٌ عَنْ مَدَى سَفَرِي
…
وَلا دَوَاءٌ لِمَا أَشْكُوهُ مِنْ عِلَلِي
وَأَنَّنِي سَوْفَ أَلْقَى مَا يُطِيحُ بِهِ
…
كَيْدِي وَتَذْهَبُ عَنْهُ ضُلَّلاً حِيَلي
وَكَيْفَ يُطْبِقُ جَفْناً بِالْكَرَى رَجَلٌ
…
وَرَاءَهُ لِلرَّدَى حَادٍ مِنْ الأَجَلِ؟
أَمْ كََيْفَ يُصْبِحُ جَذْلاناً وَلَيْسَ لَهُ
…
عِلْمُ الإلهِ بِعُقْبَى ذَلِكَ الْجَذَلِ؟
يَا رَاقِداً وَنِدَاءُ الله يُوقظُهُ
…
ألا تَزَوَّدتَ فِينَا زَادَ مُرْتَحِلِ؟
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا،
وَتَلُمُّ بِهَا شَعْثَنَا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدَنَا، وَتَحْفَظُ بِهَا غِائِبَنَا، وَتُزكِّي بِهَا أَعْمَالِنَا، وَتُلْهِمْنَا بِهَا رُشْدَنَا، وَتَعْصِمْنَا بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.
اللَّهُمَّ قَوِ إِيمَانَنَا بِكَ وبملائكتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَثَبِّتْنَا عَلى قَولِكَ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ الْمُسْلمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصة: كَانَ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَكَانَتْ الْوِلايَةُ فِي الْيَمَنِ إِذْ ذَاكَ لِمُحَمَّدِ بن يُوسُفَ الثَّقَفِي أَخِي الْحَجَّاجِ بن يُوسُفُ أَرْسَلَهُ الْحَجَّاجُ وَالِياً عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ عَظُمَ أَمْرُه
…
وَقَوِيَتْ شَوْكَتهُ
…
وَاشْتَدَّتْ هَيْبَتُهُ إِثْرَ قَضَائِهِ عَلَى حَرَكَةِ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ يَجْمَعُ فِي ذَاتِهِ كَثِيراً مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ الْحَجَّاجِ وَلَكِنَّهُ مَا يَتَحَلَّى بِشَيْءٍ مِنْ حَسَنَاتِهِ.
وَفِي غَدَاةِ يَوْمٍ بَارِدٍ مِنْ أَيَّامِ الشِّتَاءِ دَخَلَ عَلَيْهِ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ وَمَعَهُ وَهْبُ بنُ مُنَبِّه.
فَلَمَّا أَخَذَا مَجْلَسَيْهِمَا عِنْدَهُ طَفِقَ طَاوُوسٌ يََعِظُهُ وَيُرَغِّبُهُ وَيُرَهِّبُهُ. وَالنَّاسُ جُلُوسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ.
فَقَالَ الْوَالِي لأَحَدِ حُجَّابه: يَا غُلامُ أَحْضِرْ طَيْلَسَاناً وَأَلْقِهِ عَلَى كَتِفَيْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
فَعَمَدَ الْحَاجِبُ إِلى طَيْلَسَانٍ ثَمِينٍ وَأَلْقَاهُ عَلَى كَتِفَي طَاوُوس فَظَلَّ طَاوُوسٌ مُتَدَفِّقاً فِي مَوْعِظَتِهِ.
وَجَعَلَ يُحَرِّكُ كَتِفَيْهِ فِي تُؤَدَةٍ حَتَّى أَلْقَى الطَّيْلَسَانَ عَنْ عَاتِقِهِ، وَهَبَّ وَاقِفاً وَانْصَرَف
…
فَغَضِبَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ غَضَباً ظَهَرَ فِي احْمِرَارِ عَيْنَيْهِ وَاحْتِقَانِ وَجْهِهِ.. غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئاً.
فَلَمَّا صَارَ طَاوُوسٌ وَصَاحِبُهُ خَارِجَ الْمَجْلِس قَالَ وَهْبٌ لِطَاوُوس: وَاللهُ لَقَدْ كُنَّا فِي غِنَى عَنْ إِثَارَةِ غَضَبِهِ عَلَيْنَا فَمَاذَا كَانَ يُضِيُركَ لَوْ أَخَذْتَ الطَّيْلَسَانَ مِنْهُ ثُمَّ بِعْتَهُ وَتَصَدَّقْتَ بِثِمَنِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين؟!
فَقَالَ طَاوُوسٌ: هُوَ مَا تَقُولُ.
لَوْلا أَنّنِي خَشِيتُ أَنْ يَقُولُ الْعُلَمَاءُ مِنْ بَعْدِي: نَأْخُذُ كَمَا أَخَذَ طَاوُوسٌ
…
ثُمَّ لا يَصْنَعُونَ فِيمَا أَخَذُوه مَا تَقُولُ.
وَكَأَنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ أَنْ يَرُدَّ لِطَاوُوسٍ الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ
…
فَنَصَبَ لَهُ شَرَكاً مِنْ شِرَاكِهِ حَيْثُ أَعَدَّ صُرَّةً فِيهَا سُبْعُمَائَةِ دِينَارٍ ذَهَباً.
وَاخْتَارَ رَجُلاً حَاذِقاً مِنْ رِجَالِ حَاشِيَتِهِ وَقَالَ لَهُ: امْضِ بِهَذِهِ الصُّرَّةِ إِلى طَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ وَاحْتَلْ عَلَيْهِ فِي أَخْذِهَا فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْكَ أَجْزَلْتُ عَطِيَّتَكَ وَكَسَوْتُكَ وَقَرَّبْتُكَ.
فَخَرَجَ الرَّجُلُ بِالصُّرَّةِ حَتَّى أَتَى طَاوُوساً فِي قَرْيَةٍ كَانَ يُقِيمُ بِهَا بِالْقُرْبِ مِنْ صَنْعَاءَ يُقَالُ لَهَا: (الْجَنَد) فَلَمَّا ثَارَ عِنْدَهُ حَيَّاهُ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَذِهِ نَفَقَةُ بَعْثَ بِهَا الأَمِيرُ إِلَيْكَ فَقَالَ: مَا لِي بِهَا مِنْ حَاجَةٍ.
فَاحْتَالَ عَلَيْهِ بِكُلَّ طَرِيقٍ لِيَقْبَلَهَا فَأَبَى
…
وَأَدْلَى لَهُ بِكُلِّ حُجَّةٍ فَرَفَضَ.
فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلا أَنْ اغْتَنَمَ غَفْلَةً مِنْ طَاوُوسِ وَرَمَى بِالصُّرَّةِ فِي كُوَّةٍ كَانَتْ بِجِدَارِ الْبَيْتِ وَعَادَ رَاجِعاً إِلى الأَمِيرِ وَقَالَ: لَقَدْ أَخَذَ طَاوُوسٌ الصُّرَّةَ أَيَّهُا الأَمِيرُ فَسُرَّ لِذَلِكَ مُحَّمَدُ بنُ يُوسُفَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا مَضَتْ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامٌ عِدَّةٌ أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ أَعْوَانِهِ، وَمَعَهُمَا الرَّجُلُ الذِي حَمَلَ إِلَيْهِ الصُّرَّةِ
…
وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقُولا لَهُ: إِنَّ رَسُولَ الأَمْيَرِ قَدْ أَخْطَأَ فَدَفَعَ إِلَيْكَ الْمَالَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ لِغَيْرِكَ، وَقَدْ أَتَيْنَا لِنَسْتَرِدَّهُ مِنْكَ وَنَحْمِلَهُ إِلى صَاحِبِهِ.
فَقَال َطاَوُوسٌ: مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِ الأَمِيرِ شَيْئاً حَتَّى أَرُدَّهُ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: بَلْ أَخَذْتَهُ.
فَالْتَفَتَ إِلى الرَّجُلِ الذِي حَمَلَ إِلَيْهِ الصُّرَّةِ وَقَالَ لَهُ: هَلْ أَخَذْتَ مِنْكَ شَيْئاً؟!
فَأَصَابَ الرَّجُلُ ذُعْرٌ وَقَالَ: كَلا، وَإِنَّمَا وَضَعْتُ الْمَالَ فِي هَذِهِ الْكُوَّةِ فِي غَفْلَةٍ مِنْكَ. فَقَالَ طَاوُوسٌ: دُونَكُمَا الْكُوَّةَ فَانْظُرَا فِيهَا: فَنَظَرَا فِي الْكَوَّةِ، فَوَجَدَا فِيهَا الصُّرَّةَ كَمَا هِيَ وَقَدْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهِ فَأَخَذَاهَا وَعَادَا بِهَا إِلى الأَمِيرُ.
حَدَّثَ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي مَكَّةَ حَاجّاً بَعَثَ إِلَيَّ الْحَجَّاجُ بِنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِي وَأَدْنَى مَجْلِسِي مِنْهُ
…
وَطَرَحَ لِي وِسَادَةً وَدَعَانِي لأَنْ أتَّكِئُ عَلَيْهَا
…
ثُمَّ رَاحَ يَسْأَلُنِي عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا.
وَفِيمَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعَ الْحَجَّاجُ مُلَبِّياً يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ وَلَهُ نَبْرَةٌ تَهُزُّ الْقُلُوبَ هَزّاً.
فَقَالَ: عَلَيَّ بِهَذَا الْمُلَبِّي.
فَأُتِيَ لَهُ بِهِ فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ الرَّجُلُ؟
فَقَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
فَقَالَ: لَمْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا، وَإِنَّمَا سَأَلْتُكَ عَنْ الْبَلَدِ؟
فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ.
فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ أَمِيرَكُمْ (يَعْنِي أَخَاهُ) ؟
فَقَالَ: تَرَكْتُهُ عَظِيماً، جَسِيماً
…
لَبَّاساً، رَكَّاباً
…
خَرَّاجاً، وَلاجاً
…
فَقَالَ: لَيْسَ عَنْ ذَا سَأَلْتُكَ؟
فَقَالَ: عَمَّ سَأَلْتَنِي إِذَنْ؟
فَقَالَ: سَأَلْتُكَ عَنْ سِيرَتِهِ فِيكُمْ؟
فَقَالَ: تَرَكْتُهُ ظَلُوماً غَشُوماً
…
مُطِيعاً لِلْمَخْلُوقِ عَاصِياً لِلْخَالِقِ.
فَاحْمَرَّ وَجْهُ الْحَجَّاجِ خَجَلاً مِنْ جُلَسَائِهِ وَقَالَ لِلرَّجُلُ:
مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ فِيهِ مَا قُلْتَهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَكَانَهُ مِنِّي؟!
فَقَالَ: أَتَرَاهُ بِمَكَانِهِ مِنْكَ أَعَزَّ مِنِّي بِمَكَانِي مِنَ اللهِ عز وجل؟
وَأَنَا وَافِدُ بَيْتِهِ
…
وَمُصَدِّقُ نَبِيِّهِ
…
وَقَاضِي دِينِهِ
…
فَسَكَتَ الْحَجَّاجُ وَلَمْ يُحِرْ جَوَاباً.
قَالَ طَاوُوسٌ: ثُمَّ مَا لَبِثَ الرَّجُلُ أَنْ قَامَ، وَانْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَوْ يُؤْذَنَ لَهُ.
فَقُمْتُ فِي إِثْرِهِ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ الرَّجُلَ صَالِحٌ فَاتْبَعْهُ وَاظْفَرْ بِهِ قَبْلَ أَنْ تُغَيِّبَه عَنْ عَيْنَيْكَ جُمُوعُ النَّاسِ.
فَتَبِعْتُهُ فَوَجَدْتُه قَدْ أَتَى الْبَيْتَ وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى جِدَارِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِكَ أَعُوذُ
…
وَبِجَنَابِكَ أَلُوذُ
…
اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي الاطْمِئْنَانِ إِلى جُودِكَ وَالرِّضَا بِضَمَانِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ مَنْعِ الْبَاخِلِينَ وَغِنَىً عَمَّا فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ
…
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَرَجَكَ الْقَرِيب
…
وَمَعْرُوفَكَ الْقَدِيم وَعَادَتَكَ الْحَسَنَة يَا رَبَّ الْعَالَمِين.
ثُمَّ ذَهَبَتْ بِهِ مَوْجَةٌ مِنَ النَّاسِ وَأَخْفَتْهُ عَنْ عَيْنِي فَأَيْقَنْتُ أَنَّهُ لا سَبِيلَ إِلى لِقَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ عَرَفَة رَأَيْتُهُ وَقَدْ أَفَاضَ مَعَ النَّاسِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَقْبَلْ حِجِّي، وَتَعَبِي، وَنَصَبِي، فَلا تُحْرِمْنِي الأَجْرَ عَلَى مُصِيبَتِي، بِتَرْكِكَ الْقَبُولَ مِنِّي ثُمَّ ذَهَبَ فِي النَّاسِ، وَسَتَرَهُ الظَّلامُ عَنِّي فَلَمَّا يَئِسْتُ مِنْ لِقَائِهِ قُلْتُ:
اللَّهُمَّ اقْبَلْ دُعَائِي وَدُعَاءَهُ وَاسْتَجِبْ رَجَائِي وَرَجَاءَهُ وَثَبِّتْ قَدَمِيَّ وَقَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزلُّ الأَقْدَامِ، وَاجْمَعْنِي مَعَهُ عَلَى حَوْضِ الْكَوْثَرِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.
اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (قِصَّة لِطَاوُوس) .
قِصَّة لِطَاوُوس
مَا كَادَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكَ يُلْقِي رِحَالَهُ فِي أَكْنَافِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
…
وَيُقِلُّ أَشْوَاقَهُ إِلى الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ حَتَّى الْتَفَتَ إِلَى حَاجِبِهِ وَقَالَ:
ابْتَغْ لَنَا عَالِماً يُفَقِّهُنَا فِي الدِّينِ وَيُذَكِّرُنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الأَغَرِّ مِنْ أَيَّامِ اللهِ عز وجل.
فَمَضَى الْحَاجِبُ إِلى وُجُوهِ أَهْلِ الْمُوسِمِ وَطَفَقَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ بُغْيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقِيلَ لَهُ:
هَذَا طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ سَيِّدُ فُقَهَاءِ عَصْرِهِ
…
وَأَصْدَقُهُمْ لَهْجَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلى اللهِ
…
فَعَلَيْكَ بِهِ.
فَأَقْبَلْ الْحَاجِبُ علَىَ طَاوُوسِ وَقَالَ: أَجِبْ دَعْوَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّهَا الشَّيْخُ فَاسْتَجَابَ طَاوُوسٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِبْطَاء.
ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُؤْمِنُ بَأَنَّ عَلَى الدُّعَاةِ إِلى الله تَعَالى أَلا تَعْرِضَ لَهُمْ فُرْصَةٌ إِلا اغْتَنَمُوهَا
…
وَأَلا تَسَنْحَ لَهُمْ بَادِرَةٌ إِلا ابْتَدَرُوهَا.
وَكَانَ يُوقِنُ أَنَّ أَفْضَلَ كَلِمَةٍ تُقَالُ هِيَ كَلَمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا تَقْوِيمُ اعْوِجَاجِ ذَوِي السُّلْطَانِ
…
وَتَجْنيبُهُمْ الْحَيْفَ وَالْجُور
…
وَتَقَرِيبُهُمْ مِنْ الله تعالى
…
مَضَى طَاوُوسٌ مَعَ الْحَاجِبِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَيَّاهُ فَرَدَّ الْخَلِيفَةُ التَّحِيَّةَ بِأَحْسَنَ مِنْهَا
…
وَأَكْرَمَ اسْتِقْبَالَ زَائِرِه، وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ ثُمَّ أَخَذَ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَيَنْصِتُ إِلَيْه فِي تَوْقِيرٍ وَإِجْلال.
قَالَ طَاوُوس: فَلَمَّا شَعَرْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَلَغَ بُغَيْتَهِ وَلَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ قُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ هَذَا الْمُجْلِسَ لِمَجْلِسٌ يَسْأَلُكَ اللهَ عَنْهُ يَا طَاوُوس.. ثُمَّ تَوَجَّهْتُ إِلَيْهِ وَقُلْتُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ صَخْرَةً كَانَتْ عَلَى شَفِيرِ بِئْرٍ فِي قَعْرِ جَهَنَّم
…
وَقَدْ ظَلَّتْ تَهْوِي فِي هَذِهِ الْبِئْرِ سَبْعِينَ خَرِيفاً حَتَّى بَلَغَتْ قَرَارَهَا.
أَتَدْرِي لِمَنْ أَعَدَّ الله هَذِهِ الْبِئْرَ مِنْ آبَارِ جَهَنَّمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمَنِينَ؟
فَقَالَ: مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ: لا.
ثُمَّ عَادَ إِلى نَفْسِهِ وَقَالَ:
وَيْلَكَ لِمَنْ أَعَدَّهَا؟!
فَقَالَ: أَعَدَّهَا اللهَ جَلَّ وَعَزَّ لِمَنْ أَشْرَكَهُ فِي حُكْمِهِ فَجَارَ
…
فَأَخَذَتْ سُلَيْمَانَ لِذَلِكَ رَعْدَةٌ ظَنَنْتُ مَعَهَا أَنَّ رُوحَهُ سَتَصْعَدُ مِنْ بَيْنِ جَنْبِيهِ.
وَجَعَلَ يَبْكِي، وَلِبُكَائِهِ نَشِيجٌ يُقَطِّعُ نِيَاطَ الْقُلُوبَ
…
فَتَرَكْتُهُ وَانْصَرَفْتُ
…
وَهُوَ يَجْزِينِي خَيْراً.
وَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلافَةَ بَعَثَ إِلى طَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ يَقُولُ: أَوْصِنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ طَاوُوسٌ رِسَالَةً فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ قَالَ فِيهَا: (إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُكَ خَيْراً كُلَّهُ فَاسْتَعْمِلْ أَهْلَ الْخَيْرِ، وَالسَّلام) .
فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الرِّسَالَةَ قَالَ: كَفَى بِهَا مَوْعِظَةً كَفَى
…
بِهَا مَوْعِظَةً.
وَلَمَّا آلَتِ الْخِلافَةُ إِلى هِشَامِ بنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَتْ لِطَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ مَعَهُ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ مَأْثُورَة
…
مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هِشَاماً قَدِمَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ حَاجّاً فَلَمَّا صَارَ فِي الْحَرَمِ قَالَ لِخَاصَّتِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: الْتَمِسُوا لَنَا رَجُلاً مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام.
فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ - يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - قَدْ تَلاحَقُوا بِرِبِّهِمْ وَاحِداً إِثْرَ آخَرَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَد.
فَقَالَ: إِذَنْ فَمِنَ التَّابِعِينَ.
فَأُتِيَ بِطَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ خَلَعَ نَعْلَيْهِ بِحَاشِيَةِ بِسَاطِهِ
…
وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
…
وَخَاطَبَهُ بِاسْمِهِ دُونَ أَنْ يُكَنِّيهِ
…
وَجَلَسَ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْجُلُوسِ
…
فَاسْتَشَاطَ هِشَامٌ غَضَباً حَتَّى بَدَا الْغَيْظُ فِي عَيْنَيْهِ.
ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي تَصَرُّفَاتِهِ تِلْكَ اجْتِرَاءً عَلَيْهِ، وَنَيْلاً مِنْ هَيْبَتِهِ أَمَامَ جُلَسَائِهِ، وَرِجَالِ حَاشِيَتِهِ
…
بَيْدَ أَنَّهُ مَا لَبِثَ أَنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي حَرَمِ اللهِ عز وجل.
فَرَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَقَالَ لِطَاوُوس: مَا حَمَلَكَ يَا طَاوُوسُ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟!
فَقَالَ: وَمَا الذِي صَنَعْتُهُ؟!
خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ بِحَاشِيَةِ بِسَاطِي
…
وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيَّ بِإمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ
…
وَسَمَّيْتَنِي بِاسْمِي وَلَمْ تُكَنِّنِي
…
ثُمَّ جَلَسْتُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِي.
فَقَالَ طَاوُوسٌ بِهُدُوء: أَمَّا خَلْعُ نَعْلِي بِحَاشِيَةِ بِسَاطِكَ فَأَنَا أَخْلَعُهُمَا بَيْنَ يَدَيْ رِبِّ الْعِزَّةِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّات
…
وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنِّي لَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْكَ بِإمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ
…
فَلأَنَّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا رَاضِينَ بِإمْرَتِكَ
…
وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ كَاذِباً إِذَا دَعَوْتُكَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا مَا أَخَذْتَهُ عَلَيَّ مِنْ أَنِّي نَادَيْتُكَ بِاسْمِكَ وَلَمْ أُكَنِّكَ
…
فَإِنَّ اللهَ عز وجل نَادَى أَنْبِيَاءَهُ بِأَسْمَائِهِمْ فَقَالَ: يَا دَاوُود
…
يَا يَحْيَى
…
يَا عِيسَى
…
وَكَنَّى أَعْدَاءَهُ فَقَالَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .
وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنِّي جَلَسْتُ قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي فَإِنِّي سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بنِ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ:
(إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلى رَجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَانْظُرْ إِلى رَجُلٍ جَالِسٍ، وَحَوْلَهُ قَوْمٌ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ) .
فَكَرِهْتُ أَنْ تَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الذِي عُدَّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
فَأَطْرَقَ هِشَامٌ إِلى الأَرْضِ خَجَلاً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: عِظْنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَقُولُ: (إِنَّ فِي جَهَنَّمَ حَيَّاتٍ كَالْقَلال
…
وَعَقَارِبَ كَالْبِغَال
…
تَلْدَغُ كُلَّ رَاعٍ لا يَعْدِلُ فِي رَعِيَّتِهِ) .
ثُمَّ قَامَ وَانْصَرَفَ.
وَكَمَا كَانَ طَاوُوسٌ يُقْبِلُ عَلَى بَعْضِ أُوِلي الأَمْرِ تَذْكِيراً لَهُمْ وَتَوْجِيهاً
…
فَقَدْ كَانَ يُعْرِضُ عَنْ بَعْضِهِمْ الآخَرَ تَبْكِيتاً وَتَأْنِيباً.
حَدَّثَ ابْنُهُ قَالَ: خَرَجَّنَا ذَاتَ سَنَةٍ مَعَ أَبِي حُجَّاجاً مِنْ الْيَمَنِ فَنَزَلْنَا فِي بَعْضَ الْمُدُنِ وَعَلَيْهَا عَامِلٌ يُقَالُ لَهُ: ابنُ نَجِيح وَكَانَ مِنْ أَخْبَثِ الْعُمَّالِ، وَأَكْثَرِهِمْ جُرْأَةٌ عَلَى الْحَقِّ، وَأَشَدِّهِمْ إِيغَالاً فِي الْبَاطِلِ.
فَأَتَيْنَا مَسْجِدَ الْبَلَدِ نُرِيدُ أَدَاءَ الْمَكْتُوبَةِ، فَإِذَا ابْنُ نَجِيحٍ قَدْ عَلِمَ بِقُدُومِ أَبِي فَجَاءَ إِلى الْمَسْجِدِ وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ.
فَلَمْ يُجِبْهُ أَبِي، وَأَدَارَ لَهُ ظَهْرَه
…
فَأَتَاهُ عَنْ يَمِينِهِ وَكَلَّمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعَدَلَ إِلى يَسَارِهِ وَكَلَّمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَيْضاً فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُمْتُ إِلَيْهِ، وَمَدَدْتُ يَدِي نَحْوَه وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبِي لَمْ يَعْرِفْكَ.
فَقَالَ: بَلْ إِنَّ أَبَاكَ يَعْرِفُنِي
…
وَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ بِي هِيَ الِّتِي جَعَلَتْهُ يَصْنَعُ مَا رَأَيْتُ
…
ثُمَّ مَضَى وَهُوَ سَاكِتٌ لا يَقُولُ شَيْئاً فَلَمَّا عُدْنَا إِلى الْمَنْزِلِ الْتَفَتَ إِلِيَّ أَبِي وَقَالَ: يَا لُكَع
…
تَسْلِقُ هَؤُلاءِ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ فِي غَيْبَتِهِمْ
…
فَإِذَا حَضَرُوا خَضَعْتَ لَهُمْ بِالْقَوْلِ، وَهَلْ النِّفَاقُ غَيْرُ هَذَا؟!
لَمْ يَخُصَّ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ الْخُلَفَاءَ وَالْوُلاةَ بِمَوَاعِظِهِ وَِإِنَّمَا بِذَلَهَا لِكُلِّ مِنْ أنسَ بِهِ حَاجَةً إِلَيْهَا أَوْ رَغْبَةً فِيهَا.
مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بنُ رَبَاحٍ قَالَ: رَآنِي طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ فِي مَوْقِفٍ لَمْ يَرْتَحْ لَهُ فَقَالَ:
يَا عَطَاءُ إِيَّاكَ أَنْ تَرْفَعَ حَوَائِجَكَ إِلى مَنْ أَغْلَقَ فِي وَجْهِكَ بَابَه
…
وَأَقَامَ دُونَكَ حُجَّابه وَإِنَّمَا أَطْلُبُهَا مِمَّنْ أَشْرَعَ لَكَ أَبْوَابَهُ
…
وَطَالَبَكَ أَنْ تَدْعُوهُ
…
وَوَعَدَكَ بِالإِجَابَة.
وَكَانَ يَقُولُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ صَاحِبِ الْعُقَلاءَ تُنْسَبْ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ
…
وَلا تُصَاحِبِ الْجُهَّالَ فَإِنَّكَ إِنْ صَحِبْتَهُمْ نُسِبْتَ إِلِيْهَمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ
…
وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ غَايَة وَأَنَّ غَايَةَ الْمَرْءِ تَمَامُ دِينِهِ وَكَمَالُ خُلُقِهِ.
وَقَدْ نَشَأ ابْنُهُ عَبْدُ الله عَلَى مَا رَبَّاهُ عَلَيْهِ وَتَخَلَّقَ بِأَخْلاقِهِ، وَسَارَ بِسَيرتَه.
مِنْ ذَلَكِ أَنْ الْخَلِيفَةَ الْعَبَّاسِيَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ اسْتَدْعَى وَلَدَهُ عَبْدَ الله، وَمَالِكَ بنَ أَنَسٍ لِزيَارَتِهِ فَلَمَّا دَخَلا عَلَيْهِ وَأَخَذَا مَجْلِسَيْهِمَا عِنْدَهُ الْتَفْتَ إِلى عَبْدِ الله بن طَاوُوسِ وَقَالَ: ارْوِ لِي شَيْئاً مِمَّا كَانَ يُحَدِّثُكَ بِهِ أَبُوكَ.
فَقَالَ: (حَدَّثِنِي أَبِي أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَشْرَكَهُ الله عز وجل فِي سُلْطَانِهِ فَأَدْخَلَ الْجَوْرَ فِي حُكْمِهِ) .
قَالَ مَالِكُ بنُ أَنَسِ: فَلَمَّا سَمِعْتَ مَقَالَتَهُ هَذِهِ ضَمَمْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي خَوْفاً مِنْ أَنْ يُصِيبَنِي شَيْءٌ مِنْ دَمِهِ.
بَيْدَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ أَمْسَكَ سَاعَةً لا يَتَكَلَّم
…
ثُمَّ صَرَفَنَا بِسَلام.
وَقَدِ امْتَدَّتِ الْحَيَاةُ بِطَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ حَتَّى بَلَغَ الْمَائَةَ أَوْ جَاوَزَهَا قَلِيلاً غَيْرَ أَنَّ الْكِبَرَ وَالشَّيْخُوخَةَ لَمْ يَنَالَا شَيْئاً مِنْ صَفَاءِ ذِهْنِهِ وَحِدَّةِ خَاطِرِهِ وَسُرْعَةِ بَدِيهَتِهِ.
حَدَّثَ عَبْدُ الله الشَّامِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ طَاوُوساً فِي بَيْتِهِ لآخُذَ عَنْهُ، وَأَنَا لا أَعْرِفُهُ فَلَمَّا طَرَقْتُ الْبَابَ خَرَجَ إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ فَحَيَّيْتُهُ وَقُلْتُ: أَأَنْتَ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَان؟
فَقَالَ: بَلْ أَنَا ابْنُهُ
…
فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتُ ابْنُهُ فَلا آمَنُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ قَدْ هَرِمَ وَخَرِفَ وَإِنِّي قَصَدْتُهُ مِنْ أَمَاكِنَ بِعِيدَةٍ لأفِيدَ مِنْ عِلْمِهِ.
فَقَالَ: وَيْحَكَ
…
إِنَّ َحَمَلَةَ كِتَابِ الله لا يَخْرَفُون.
أُدْخُلْ عَلَيْهِ.
فَدَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ، وَقُلْتُ:
لَقَدْ أَتَيْتُكَ طَالِباً عِلْمَكَ رَاغِباً فِي نُصْحِكَ.
فَقَالَ: سَلْ وَأَوْجِزْ.
فَقُلْتُ: سَأَوجِزُ مَا وَسِعَنِي الإِيجَاز إِنْ شَاءَ الله.
فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ أَجْمَعَ لَكَ صَفْوَةَ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالزَّبُورِ، وَالإِنْجِيلِ، وَالْقُرْآن؟
فَقُلْتُ: نَعَم.
فَقَالَ: خِفِ الله تَعَالى خَوْفاً بِحَيْثُ لا يَكُونُ شَيْءٌ أَخْوَفَ لَكَ مِنْهُ
…
وَارْجُهُ رَجَاءً أَشَدَّ مِنْ خَوْفِكَ إِيَّاهُ
…
وَأحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ.
وَفِي لَيْلَةِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَمائَة أَفَاضَ الشَّيْخُ الْمُعَمَّرُ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ مَعَ الْحَجِيجِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلى الْمُزْدَلِفَةِ لِلْمَرَّةِ الأَرْبَعِينَ فَلَمَّا حَطَّ رِحَالَهُ فِي رِحَابِهَا الطَّاهِرَةِ، وَأَدَّى الْمَغْرِبَ مَعَ الْعِشَاءِ، وَأَسْلَمَ جَنْبَيْهِ إِلى الأَرْضِ يَلْتَمِسُ شَيْئاً مِنْ الرَّاحَةِ، أَتَاهُ الْيَقِينُ، فَلَمَّا طَلَعَ عَلَيْهِ الصُّبْحُ وَأَرَادُوا دَفْنَهُ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِخْرَاجِ جَنَازَتِهِ لِكَثْرَةِ مَا ازْدَحَمَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ مَكَّةَ حَرَساً لِيَذُودوا النَّاسَ عَنِ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُتَاحَ لَهُمْ دَفْنُهَا.
وَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لا يحْصِي عَدَدَهُمْ إِلا الله، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْمُصَلِّينَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ هِشَامُ بن عَبْدِ الْمَلِكِ.
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنِ الْمخالفةِ وَالْعِصْيَانِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّان وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(غَزْوَةُ تَبُوك)
أَوِ الْعُسْرَةِ
تَبُوكُ مَوْضِعُ بَيْنَ وَادِي الْقُرَى وَالشَّامِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَة وَبَيْنَ دِمَشْقٍ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرْحَلَةً وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ أَخَذاً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} .
وَكَانَتْ فِي رَجَبَ سَنَةَ 9 هـ مِنْ الْهِجْرَةِ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ الَّتِي افْتَضَحَ الْمُنَافِقُونَ فِيهَا وَكَانَ الْوَقْتُ حِينَ خُرُوجِهِ صلى الله عليه وسلم حَرّاً شَدِيداً وَقَحْطاً شَدِيداً وَكَانُوا مِنْ
شِدَّةِ الْعَطَشِ وَالْحَرِّ يَنْحُرُونَ الْبَعِيرَ فَيَعْصِرُونَ فَرْثَهُ الذِي فِي الْكِرْشِ وَيَشْرَبُونَهُ فَلِذَا سُمِّيَتْ غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ أَيْ الشَّدَّةِ وَالضَّيْقِ.
وَسَبَبُهَا أَنَّ الرُّومَ قَدْ جَمَعَتْ جُمُوعاً كَثِيرَةً بِالشَّامِ وَأَنَّ هِرَقْلَ قَدْ رَزَقَ أَصْحَابَهُ لِسَنَةٍ وَأَجْلَبَتْ مَعَهُ لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ وَزَحَفُوا وَقَدَّمُوا مُقَدِّمَاتِهِمْ إِلى الْبَلْقَاءِ وَعَسْكَرُوا بِهَا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَدَبَ النَّاسَ إِلى الْخُرُوجِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ الأَمْرَ لِيَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَتَهُمْ وَأَخْبَرَهَمُ بِالْوَجْهَ الذِي يُرِيدُ وَبَعَثَ إِلى الْقَبَائِلِ مَكَّةَ يَسْتَنْفِرُهُمْ إِلى عَدُّوِهِمْ وَخَطَبَ عليه الصلاة والسلام فِي النَّاسِ فَحَضَّ عَلَى الْجِهَادُ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَى النَّفَقَةِ وَرَغَّبَ أَهْلَ الثَّرْوَةِ بِالْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ وَحَثَّ الْمُوسِرِينَ عَلَى تَجْهِيزِ الْمُعْسِرِينَ.
فَتَبَادَرَ الْمُسْلِمُونَ وَجَاءُوا بِصَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ وَتَنَافَسُوا فِي تَجْهِيز جَيْشِهِمْ فَكَانَ أَوَّل مَنْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه جَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَرْبَعَةُ آلافِ دِرْهَمٍ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ شَيْئاً)) ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللهَ وَرَسُولَهُ. وَجَاءَ عُمَرُ رضي الله عنه بِنِصْفِ مَالِهِ فَسَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ شَيْئاً)) ؟ قَالَ: نَعَمْ نِصْفَ مَالِي. وَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْفٍ رضي الله عنه بِمَائَةِ أَوْقِيَة فِضَّةً.
وَجَاءَ الْعَبَّاسُ بِمَالٍ كَثِيرٍ وَجَاءَ طَلْحَةُ بِمَالٍ وَجَهَزَّ عُثْمَانُ بن عَفَّانَ ثُلُث الْجَيْشِ وَجَاءَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ بِمَالٍ وَجَاءَ مُحَمَّد بنُ مَسْلَمَةَ بِمَالٍ وَجَاءَ عَاصِمُ بنُ عُدِيٍ بِتِسْعِينَ وَسقَا مِنْ تَمْرٍ وَبَعَثَ النِّسَاءُ كُلَّ مَا قَدِرْنَ عَلَيْهِ مِنْ مِسْكٍ وَحُلِيٍ مَعَاضِدَ وَخَلاخِلَ وَأَقْرَاطٍ وَخَوَاِتَم.
قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ فَذَكَرَ لَنَا الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا يُحَدَّثُ بَعْضٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَشِدَّةٍ مِنْ الْحَرِّ وَجُدْبٍ مِنْ الْبِلادِ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَلَى حَالٍ مَنَ الزَّمَانِ الذِي هُمْ عَلَيْهِ.
وَكَانَ رَسُولٌُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّ مَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلا كَفَا عَنْهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْوَجْهِ الذِي يَعْمِدُ إِلَيْهِ إِلا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ لِبُعْدِ الْمَشَقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الذِي يَعْمِدُ لَهُ لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ.
فَأَمَرَ النَّاسِ بِالْجِهَازِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِ بنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلَمَةَ: ((يَا جَدُّ هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جَلادِ بَنِي الأَصْفَرِ)) .
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَ تَأْذَنُ لِي وَلا تَفْتِنِي، فَوَاللهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ أَشَدَّ عُجْباً بِالنِّسَاءِ مِنِّي وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الأَصْفَر أَنِّي لا أَصْبِرُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:((قَدْ أَذَنْتُ لَكَ)) . فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. زَهَادَةً فِي الْجِهَادِ وَشَكّاً فِي الْحَقِّ وَارْجَافاً بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} .
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَدَّ فِي سَفَرِهِ وَعَجِزَ نَفَرٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَجْهِيزِ أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ الْبَكَّاؤُونَ وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِن الأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَمْرو بن عَوْفٍ وَسَالِم بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُلَيَّة بن زَيْدٍ، أَحَد بَنِي حَارِثَةَ، وَأَبُي لَيْلَى عَبْد الرَّحْمَن أَخُي بَنِي مَازِنْ بنِ النَّجَّارِ، وَعَمْرُو بن الْحُمَامِ، وَعَبْد اللهِ بن مُغَفَّلٍ الْمَازِنِي وَبَعْض النَّاسِ يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْروٍ الْمَازِنِي وَهِرْمِيُ بنُ عَبْدُ اللهِ وَعِرْبَاضُ بنُ سَارِيَةَ.
فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَقَالَ: ((لا أَجِدُ مَا أُحَمِّلُكُمْ عَلَيْهِ)) . فَتَوَلَوُا يَبْكُونَ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حُزْناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ.
وَقَامَ عُلَيَّةُ بنُ يَزِيد فَصَلَّى مِنْ اللَّيْلِ وَبَكَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَبَّتْ فِيهِ ثُمَّ لَمَ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَّوَى بِهِ مَعَ رَسُولِكَ وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ.
ثُمَّ أَصْبَحَ مَعَ النَّاسِ فَقَالَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ)) ؟ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ قَالَ: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ)) . فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَبْشِرْ فَوَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ)) . فَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ الْمُتَصَدِّق.
فَلَقَيَ اثْنَانِ مِنْهُمَا يَامِينَ بن عُمَيْرِ بنِ كَعْبِ النَّفَرِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكمَا؟ قَالا: جِئْنَا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْمِلَنَا فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ وَنَحْنُ نَكْرَهُ أَنْ تَفُوتَنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحاً لَهُ،
الْبَعِيرَ الذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَارْتَحَلاهَ وَزَوَّدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ وَحَمَلَ الْعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلب رَجُلَيْنِ وَحَمَلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ مِنْهُمْ ثَلاثَةً.
أَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ أَخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ وَيَنْتَحِلُونَ الأَعْذَارَ لِيَتَخَلَّفُوا عَنْ الرَّكْبِ وَكَانُوا مِنْ الأَغْنِيَاءِ الْقَادِرِينَ عَلَى تَجْهِيزِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَلَكِنَّ النِّفَاقَ ضَرَبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَجَأوُا إِلى الْحِيلَةِ يَعْتَذِرُونَ وَجَعَلُوا يَسْتَأْذَنُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُعُودِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ وَيُعْرِضْ عَنْهُمْ.
وَلَمْ يَقْتَصِرِ الْمُنَافِقُونَ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ وَقُعُودِهِمْ بَلْ بَثُّوا شُرُورَهُمْ وَجَعَلُوا يُثَبِّطُونَ النَّاسَ وَيُخَوِّفُونَهُمْ لِقَاءَ الرُّومِ وَيُرْجِفُونَ برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ فِيمَا يَقُولُونَ: يَغْزُو مُحَمَّدٌ بَنِي الأَصْفَرِ مَعَ جُهْدِ الْحَالِ وَالْحَرِّ وَالْبَلَدِ الْبَعِيدِ أَيَحْسَبُ مُحَمَّدٌ أَنَّ قِتَالَ بَنِي الأَصْفَرِ بَسِيطٌ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضَا وَاللهِ لَكَأَنَّكُمُ بِأَصْحَابِهِ غَداً مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ.
وَكَانَ الْعَرَبُ يَنْظُرُونَ إِلى دَوْلَةِ الرُّومِ حِينَذَاكَ كَنَظَر كَثِيرٍ مِن النَّاسِ الْيَوْمَ إِلى دُوَلِ الْكُفْرِ دُوَلَ أُورُبَّا وَأَمْرِيكَا وَرُوسِيَا، قَالَ اللهُ تَعَالى:{وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ} وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يُعِدُّوا لِلْخُرُوجِ عُدَّتَهُ.
وَتَتَابَعَ النَّاسُ يَتَوَافَدُونَ عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ حَتَّى زَادَ عَدَدُهُمْ عَلَى ثَلاثِينَ أَلْفاً وَضَرَبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بنَ مَسْلَمَةْ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ الذِينَ نَوَّرْتَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ، وَحَرَسْتَهُمْ مِنْ عَدُوِّكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ
يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِهِ عَليَّ بنَ أَبِي طَالِب وَأَمَرَهُ بِالإِقَامَةِ فِيهِمْ فَأُرْجِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلا اسْتِشْقَالاً لَهُ وَتَخَفُفاً مِنْهُ فَلَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ ذَلِكَ أَخَذَ عَلِيٌّ سِلاحَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجُرْفِ مَوْضِعٌ عَلَى ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ.
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي أَنَّكَ اسْتَثْقَلْتَنِي وَتَخففْتَ مِنِّي فَقَالَ: ((كَذِبُوا وَلَكِنِّي إِنَّمَا خَلَّفْتُكَ لِمَا وَرَائِي فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ أَفَلا تَرْضَي يَا عَلِيّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلا أَنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي)) . فَرَجَعَ عَلِيٌّ.
وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ وَالرَّايَاتِ فَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلى أَبِي بَكْرٍ وَدَفَعَ رَايَتَهُ إِلى الزُّبَيْرِ وَدَفَعَ رَايَةَ الأَوْسِ إِلى أُسَيْدِ بنِ خُضَيْرٍ وَرَايَةَ الْخَزْرَجِ إِلى الْحَبَّاب بن الْمُنْذِرِ وَأَمَرَ كُلَّ بَطْنٍ مِنْ الأَنْصَارِ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ أَنْ يَتَّخِذُوا لِوَاءً أَوْ رَايَةً.
وَخَرَجَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ قَاصِداً نَاحِيَةَ الشَّامِ فِي ثَلاثِينَ أَلْفاً مِنْ النَّاسِ وَالْخَيْلُ عَشْرَةُ آلافِ فَرَسٍ وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ رَئِيسَ الْمُنَافِقِينَ خَرَجَ فِي حُلَفَائِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ فَعَسْكَرَ بِهِمْ إِزَاءَ عَسْكَرِ رَسُولِ ِاللهُ صلى الله عليه وسلم.
فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّيْرِ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بِنُ أُبَيّ وَمن كَانَ مَعَهُ كَمَا تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي غَزْوَة أُحُدٍ وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ سَهْلاً وَلا السَّفَرُ قَرِيباً وَلا الْوَقْتُ مُلائِماً لِلسَّيْرِ إِنَّمَا كَانَ كَمَا تَقَدَّمَ زَمَانُ عُسْرَةٍ وَشِدَّةِ حَرٍّ وَجُدْبٍ وَحِينَ طَابَتِ الثَّمَارُ وَالظِّلالَ فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلالِهِمْ.
وَلَكِنَّ الْجِهَادَ لِدَفْعِ عَدُوِّ مُهَاجِمٍ وَرَدِّ خَطَرٍ جَاثِمٍ عَلَى الأَبْوَابِ فَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ أَهْلُ الدَّعْوَةِ وَحُمَاتُهَا لِيَنْكُلُوا عَنْ الْجِهَادِ مَهْمَا تَكُنِ الأَسْبَابُ غَيْرَ مُوَاتِيَةٍ وَمَهْمَا تَكُنِ الظُّرُوفُ غَيْرُ مُلائِمَةِ قَالَ تَعَالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلَاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
وَقَدْ قَاسَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً وَعَنْتاً وَنَصْباً كَثِيراً قَالَ قَتَادَةٌ: خَرَجُوا إِلى الشَّامِ عَامَ تَبُوكَ فِي لَهَبَانِ الْحَرِّ عَلَى مَا يَعْلمُ اللهُ مِنْ الْجُهْدِ فَأَصَابَهُمْ فِيهَا جُهْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا يَشُقَّانِ التَّمْرَةِ بَيْنَهُمَا وَكَانَ النَّفَرُ يَتَدَاوَلُونَ التَّمْرَةِ بَيْنَهُمْ يَمُصُهَا هَذَا ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَمُصُهَا هَذَا ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ عُمَرُ: خَرَجْنَا إِلى تَبُوكَ فِي قَيْضٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً وَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبَهُ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْراً فَادْعُ اللهَ لَنَا فَقَالَ: ((أَوَ تُحِبُّ ذَلِكَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتْ السَّمَاءُ - أَيْ