المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

صَدَفُوا، وَإِذَا دَعَتَهُمْ أَهْوَاؤُهم إِلى أَغْرَاضِهم أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَانْصَرَفُوا فَذَرْهُمْ - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٦

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: صَدَفُوا، وَإِذَا دَعَتَهُمْ أَهْوَاؤُهم إِلى أَغْرَاضِهم أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَانْصَرَفُوا فَذَرْهُمْ

صَدَفُوا، وَإِذَا دَعَتَهُمْ أَهْوَاؤُهم إِلى أَغْرَاضِهم أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَانْصَرَفُوا فَذَرْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْ الْهَوَانِ، وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، فَلا تَثِقُ بعُهُودِهِمْ، وَلا تَطْمَئِنَّ إِلى وُعُودِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِيهَا كَاذِبُونَ، وَهُمْ لِمَا سِوَاهَا مُخَالِفُونَ {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} .

اللَّهُمَّ امْنُنْ عَلَيْنَا بِإِصْلاحِ عُيُوبِنَا وَسَتْرِ زَلاتِنَا وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُهْتَدِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

‌غزوة الأحزاب

وكانت قريش تستعد لهجوم جديد على المدينة لما كان النبي ? مُهْتمًّا في إخماد ثَوراتِ القبائل، قبل أن يَتَطورَ أمرُها فيصبح حربًا عوانًا عليه، وتحالف يهود خيبر مع قريش، وقد نجحوا في إثارة القبائل العربية القاطنة بضواحي مكة، فانضمت إلى المناهضين للإسلام.

وبذلك اتفق اليهود وقريش وسائر قبائل العرب على توجيه الضربة للإسلام، فجمعوا جيشًا عدته عشرة آلاف مقاتل، وكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة. ونكثت القبائل اليهودية القاطنة في داخل المدينة عهدها في اللحظة الأخيرة وانضمت إلى أعداء الإسلام، فأصبح مركز المسلمين حرجًا وبات أملهم في النجاة ضعيف.

ثم تَرَامتِ الأنباءُ إلى النبي ? بخبر هذا الجمع الحاشد الذي لم يسبق له مثيل فدعا أصحابه واستشارهم فيما ينبغي عمله. لقد كانت المدينة محصنة

ص: 164

من جهة تحصينًا طبيعيًا بالصخور، وكانت تحميها أسوار المنازل الحجرية من جهة أخرى، وهذه الأسوار ممتدة فكانت حصنًا متينًا بطبيعتها، فلم يبق إلا جهة واحدة مفتوحة لهجوم العدو، فاقترح سلمان الفارسي، حفر خندق عميق في هذه الجهة، فشرع في حفر الخندق فورًا وقسم المؤمنون إلى فرق، تتكون كل فرقة من عشرة، وعمل النبي ? معهم فكان يضرب الأرض ويحمل التراب ويقول:

((اللَّهُمَّ إن العيش عيش الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة)) .

فيردد المسلمون خلفه:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

شخصية كبيرة سيطرت على شعب عظيم روحيًا وسياسيًا ثم تقوم بما يقوم به الرجل العادي في ساعات الحرج، عندما يتعرض الوطن للخطر، إنه عمل فريد في التاريخ، وإنها لناحية ممتازة في شخصية النبي ?، إنه ليبهر البصر بأعماله، فما قام بعمل إلا أداه بطريقة مُشَرِّفة، وتواضعٍ كريم نبيل، كان أقرب الزعماء قربًا من الرجل العادي، وكان أرفعهم مكانة، وأعزهم نفرًا.

بينما كانوا يحفرون الخندق صادفوا كُدْيَةً شديدة استعصت عليهم فجاءوا النبي فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، واستأذنوه في تغيير مجرى الخندق، فقال:((أنا نازل)) ، وتناول معوله، وأخذ يضربها حتى صارت رملاً لا يتماسك وكان كلما ضربها ضربة تطايرت شرارة فيصوت النبي ?:((الله أكبر)) .

وقال: إنه رأى في الشرارة الأولى أنه أعطى مفاتيح سورية، وأنه رأى في الشرارة الثانية أنه أعطى مفاتيح فارس، وفي الشرارة الثالثة، أنه أعطى مقاليد

ص: 165

اليمن، وشرح لهم كيف شاهد قصور القياصرة، وقصر كسرى وصنعاء، وبشرهم بأنهم سيسيطرون على هذه الممالك جميعها.

فَيَا لَهَا مِن ظَاهِرَةٍ عجيبة! يرى النبي ? من خلال السحب القائمة وجيوش الأعداء تحيط به من كل جانب، عازمة على إبادتهم، مستقبلاً سعيدًا عزيزًا للإسلام! أليس هذا بعجيب، فوق ما يتصور البشر، ومن غير الله علام الغيوب، يستطيع أن يكشف للنبي ? عن المستقبل، وما يدخره لهم من عزة وسلطان، في مثل هذه اللحظة العسيرة، التي يهدد الأعداء فيها الإسلام بالانقراض والدمار؟!

كانت ساعة رهيبة، تلك الساعة التي إنقضت فيها جموع الأحزاب على المدينة، ارتجت المدينة، وقد وصف في القرآن ما انتاب أهلها من قلق وفزع:{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} .

وعلى الرغم من مَنَاظِر الْفَزَعِ والْهَلَع، فإن المسلمين كانوا مطمئنين إلى تحقيق ما وعدهم الله ورسوله، وقد وصف القرآن شعورهم:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .

وفطن المسلمون إلى أن هذه المحاولة هي محاولة يائسة لعدو متهالك، على الرغم من البلايا التي حاقت بهم، ونزلت بساحتهم، وأحسوا أن هذه هي المحاولة الأخيرة، وستختضد شوكة الأعداء بها إلى الأبد، وأنها بداية عهد عز الإسلام، ونشره وانتصاره.

احتاط المسلمون للأمر، فقد كانوا يخشون خيانة اليهود أو هجوم العدو

ص: 166

المفاجئ، فوضعوا نساءهم وأطفالهم في مكان أمين، واستمر الحصار شهرًا ذاق المسلمون خلاله ألوان العذاب والحرمان.

وقد شاركهم النبي ? في مصيرهم، فجاعت بطونهم، وكادوا يهلكون، وعصبوا بطونهم بالحجارة، ولكن روحهم المعنوية لم تهن ولم تتزعزع. ولو أن غطفان أخذت ثلث الثمار لما انضمت إلى الأعداء، ولنقصت قوات الأعداء كثيرًا.

ولكن الأنصار رفضوا على الرغم من جوعهم الشديد الذي بلغ حد الهلاك، فقد أبوا أن يقبلوا عملاً يعتبرونه ماسًا لكرامتهم، فكيف يدفعون خراجًا لغطفان بعد أن شرفهم الله بالإسلام، وما كانوا يدفعون له شيئًا أيام الجاهلية، فليكن ما يكون، وليذودوا عن أنفسهم حتى آخر رجل، وإنهم لصابرون حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

كان اليهود والمنافقون ينتظرون هجوم الأعداء من الخارج، ليثيروا الشغب في الداخل، وابتدأت منازعات فردية داخلية، انتصر فيها المسلمون، وَقَتَلَ عَلِيّ بن أبي طالب عمرو بن عبد ود، الذي كان يزعم أنه كفء لمنازلة ألف رجل والانتصار عليهم، وهجمت قريش بكل قواها ولكنها لم تستطع اجتياز الخندق.

ونزل على المسلمين وابل من السهام والحجارة، ولولا ثباتهم الرائع الذي أمدهم الله به، وإيمانهم العميق الذي ثبته الله، لتمكنت قريش منهم. وأخيرًا جاء الفرج من السماء، وجوزوا على ثباتهم خير جزاء، فبعد أن أخفق جيش الأعداء العظيم في اقتحام الخندق، وبعد أن قلت المئونة، وسئموا الحصار، أرسل الله عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، قلبت قدورهم، واقتلعت خيامهم، فوقع الاضطراب في صفوفهم.

ص: 167

وقد أشار القرآن إلى هذا: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} ونجحت ريح الله بإذن الله فيما عجزت عنه أسلحة المسلمين، فلما رأت الأحزاب أن الطبيعة نفسها التي خلقها الله ودبرها وأجراها قد تألبت عليهم، تطيروا، فدب القنوط في قلوبهم، وملئوا رعبًا. فقفلوا راجعين عن المدينة في نفس الليلة، فلما لاح الصباح، كان سرور المسلمين عظيمًا، فقد رحل الأعداء جميعًا، وما بقي منهم أحد، فهل يتسرب إلى أحد أدنى شك في هذا النصر من عند الله، وأن يد الله العليا هي التي حالت دون أن يتمكن هذا الجيش المتفوق تفوقًا ظاهرًا، من أن ينال من تلك الفئة القليلة ويسحقها، لقد تآمر المنافقون واليهود على الإسلام، وانضموا إلى أعدائه، ولكن الله نصره، وهكذا انتهت أقوى حملة وجهت إلى الإسلام بالخيبة والفشل والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

لشيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله

سَعِدَ الذِينَ تَجَنَّبُوا سُبُلَ الرَّدَى

وَتَيَمَّمُوا لِمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ

فَهُم الذِين قَدْ أَخْلَصُوا فِي مَشِيهِمْ

مُتَشَرِّعِينَ بِشَرْعَةِ الإِيمَانِ

وَهُمْ الذِينَ بَنُوا مَنَازِلَ سَيْرِهِمْ

بَيْنَ الرَّجَا وَالْخَوْفِ لِلدِّيَانِ

وَهُمْ الذِينَ مَلا الإِلَهُ قُلُوبَهُمْ

بِوِدَادِهِ وَمَحَبَّةِ الرَّحْمَنِ

ص: 168

وَهُمْ الذِينَ قَدْ أَكْثَرُوا مِنْ ذِكْرِهِ

فِي السِّرِّ وَالإِعْلانِ وَالأَحْيَانِ

يَتَقَرَّبُونَ إِلى الْمَلِيكِ بِفِعْلِهِمْ

طَاعَاتِهِ وَالتَّرْكِ لِلْعِصْيَانِ

فَعْلُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ دَأْبُهُمْ

مَعْ رُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ وَالنُّقْصَانِ

صَبَّرُوا النُّفُوسَ عَلَى الْمَكَارِهِ كُلِّهَا

شَوْقًا إِلى مَا فِيهِ مِنْ إِحْسَانِ

نَزَلُوا بِمَنْزِلَةِ الرِّضَى فَهُمُوا بِهَا

قَدْ أَصْبَحُوا فِي جُنَّةِِ وَأَمَانِ

شَكَرُوا الذِي أَوْلَى الْخَلائِقَ فَضْلَهُ

بِالْقَلْب وَالأَقْوَالِ وَالأَرْكَانِ

صَحِبُوا التَّوَكُّلَ فِي جَمِيعِ أَمُورِهِمْ

مَعْ بَذْلِ جُهْدٍ فِي رِضَى الرَّحْمَانِ

عَبَدُوا الإِلهَ عَلَى اعْتِقَادِ حُضُورِهِ

فَتَبَوَّءوُا فِي مَنْزِلِ الإِحْسَانِ

نَصَحُوا الْخَلِيقَةَ فِي رِضَى مَحْبُوبِهِمْ

بِالْعِلْمِ وَالإِرْشَادِ وَالإِحْسَانِ

صَحِبُوا الْخَلائِقَ بِالْجُسُومِ وَإِنَّمَا

أَرْوَاحُهُمْ فِي مَنْزِلٍ فَوْقَانِي

ص: 169

عَزَفُوا الْقُلُوبَ عَنِ الشَّوَاغِلِ كُلِّهَا

قَدْ فَرَّغُوهَا مِنْ سِوَى الرَّحْمَانِ

حَرَكَاتُهُمْ وَهُمُومُهُمْ وَعُزُومُهُمْ

للهِ لا لِلْخَلْقِ وَالشَّيْطَانِ

نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبِ السُّبُلِ الَّتِي

تَقْضِي إِلى الْخَيْرَاتِ وَالإِحْسَانِ

اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لِمَا فِيهِ صَلاحُ دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

وَقَالَ رحمه الله:

قَوْلُهُ تَعَالى فِي الْمُصْطَفينَ الذِينَ أَوْرَثُهم اللهُ الْكِتَابَ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} اشْتَرَكَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ فِي أَصْلِ الإِيمَانِ وَفِي اخْتِيَارِ اللهِ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْخَلِيقَةِ وَفِي أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ وَفِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَافْتَرَقُوا فِي تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الإِيمَانِ وَفِي مِقْدَارِ الاصْطِفَاءِ مِن اللهِ وَمِيرَاثِ الْكِتَابِ وَفِي مَنَازِل الْجَنَّةِ وَدَرَجَاتِهَا بِحَسَبِ أَوْصَافِهِمْ.

أَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَهُو الْمُؤْمِنُ الذِي خَلَطَ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَتَرَكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الإِيمَانِ مَا لا يَزُولُ مَعَهُ الإِيمَانُ بِالْكُلِّيَةِ وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ إِلى قِسْمَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: مَنْ يَرِدُ الْقِيَامَةَ وَقَدْ كُفِّرَ عَنْهُ السِّيئَاتِ كُلُّهَا إِمَّا بِدُعَاءٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ آثَارٍ خَيْرِيَّةٍ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ عَذَابٍ فِي الْبَرْزَخِ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ الْعِقَابُ، وَعَمِلَ الثَّوابُ عَمَلَهُ. فَهَذَا مِنْ أَعْلَى هَذَا الْقِسْمَ وَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ.

ص: 170

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ وَرَدَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ سَيِّئَاتٌ فَهَذَا تُوزَنُ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ ثُمَّ هُمْ بَعْدَ هَذَا ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا مَنْ تَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ. فَهَذَا لا يَدْخُلُ النَّارَ بَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَبِحَسَنَاتِهِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ الله.

ثَانِيهِمَا: مَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّاَتُهُمْ فَهَؤُلاءِ هُمْ أَصْحَابُ الأَعْرَافِ وَهِيَ مَوْضِعٌ مُرْتَفَعٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُونَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةِ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن.

ثَالِثُهَا: مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَهَذَا قَدِ اسْتَحَقَّ دُخُولُ النَّارِ إلا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ شَفَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَوْ شَفَاعَةِ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِه أَوْ مَعَارِفِهِ مِمَّنْ جَعَلَ اللهُ لَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ شَفَاعَةً لِعُلُوِّ مَقَامَاتِهِمْ عِنْدَ اللهِ وَكَرَامَتِِهم عَلَيْهِ، أَوْ تُدْرِكُهُ رَحْمَةُ اللهِ الْمَحْضَةِ بِلا وَاسِطَةٍ وَإِلا فَلا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ يُعَذَّبُ فِيهَا بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ.

ثُمَّ مَآلُهُ إِلى الْجَنَّةِ وَلا يَبْقَى فِي النَّارِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدِلٍ مِنْ إِيمَانٍ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الأَحَادِيثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأَمَّةِ وَأَئمَّتُهَا.

وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَهُوَ الذِي أَدَّى الْوَاجِبَاتَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَاتَ وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَإِذَا صَدَرَ مِنْهُ بَعْضُ الْهَفَوَاتِ بَادَرَ إِلى التَّوْبَةِ فَعَادَ إِلى مَرْتَبَتِهِ فَهَؤُلاءِ أَهْلُ الْيَمِينِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فَهَؤُلاءِ سَلِمُوا مِنْ عَذَابِ البَرْزَخِ وَعَذَابِ النَّارِ وَسَلَّمَ اللهُ لَهُمْ إِيمَانِهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ فَأَدْخَلَهُمْ بِهَا الْجَنَّةِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ مَرْتَبَتِهِ.

وَأَمَّا السَّابِقُ إِلى الْخَيْرَاتِ فَهُوَ الذِي كَمَّلَ مَرَاتِبَ الإِسْلامِ وَقَامَ بِمَرْتَبَةِ

ص: 171

الإِحْسَانِ فَعَبَدَ الله كَأَنَّهُ يَرَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاُه فَإِنَّهُ يَرَاهُ، وَبَذَلَ مَا اسْتَطَاعَ مِن النَّفْعِ لِعِِبَادِ اللهِ فَكَانَ قَلْبُهُ مَلآنًا مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ وَالنُّصْحِ لِعِبَادِ اللهِ فَأَدَّى الْوَاجِبَات وَالْمُسْتَحَبَّاتَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولَ الْمُبَاحَاتِ الْمُنَقِّصَةِ لِدَرَجَتِهِ فَهُؤُلاءِ هَمْ صَفْوةُ الصَّفْوَةِ، وَهُمْ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ إِلى اللهِ وَهُمْ أَهْلُ الْفَرْدَوْسِ الأَعْلَى فَإِن اللهَ كَمَا أَنَّهُ رَحِيمٌ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ فَإِنَّهُ حَكِيمُ يُنَزِّلُ الأُمُورَ مَنَازِلَهَا وَيُعْطِي كُلُّ أَحَدٍ بَحَسَبِ حَالِهِ وَمَقَامِهِ فَكَمَا كَانُوا هُمُ السَّابِقِينَ فِي الدُّنْيَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ كَانُوا فِي الآخِرَةِ فِي أَعْلَى الْمَنَازِلِ وَكَمَا تَخَيَّرُوا مِنْ الأَعْمَالِ أَحْسنَهَا جَعَلَ اللهُ لَهُمْ مِن الثَّوَابِ أَحْسَنَهُ وَلِهَذَا كَانَتْ عَيْنُ التَّسْنِيمِ أَعْلَى أَشْرِبَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّتِي لا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ.

كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَهَكَذَا بَقِيَّةِ أَلْوَانِ وَأَصْنَافِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ لِهَؤُلاءِ السَّابِقِينَ مِنْهُ أَعْلاهُ وَأَكْمَلُهُ وَأَنْفَسُهُ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ دَنِي وَلا نَقْصٌ وَلا كَدَرٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بَلْ كَانَ مَنْ تَنَعَّمَ بِأَي نَعِيمٍ مِنْ نَعِيمِهَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ.

فَإِنَّ اللهَ أَعْطَاهُمْ وَأَرْضَاهُمْ وَخِيَارَ هُؤَلاءِ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَرَاتِبهم ثُمَّ الصِّدِيقُونَ عَلَى مَرَاتِبِهم وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا فَسُبْحَانَ مَنْ فَاوَتْ بَيْنَ عِبَادِهِ هَذَا التَّفَاوُتَ الْعَظِيم وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. انْتَهَى.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِتَذْكِيرِكَ مُنْتَفِعِينَ وَلِكِتَابِكَ وَرسولك متبعين وعلى طاعَتِكَ مُجْتَمِعِينَ وَتَوَفَّنَا يَا رَبَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ عِبَادًا غَرَّهُمْ طُولُ إِمْهَالِكَ وَأَطْمَعَهُمْ دَوَامُ إِفْضَالِكَ وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلى كَرَمِ نَوَالِكَ وَتَيَقَّنُوا أَنَّ لا غِنَى لَهُمْ عَنْ سُؤَالِكَ، وَجُدْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 172

قصة عمير بن سعد الأنصاري

وَمِمَّا يَحْسُنُ سِيَاقُه وَيَحْلُو ذِكْرُه قِصَّةُ عُمَيْرٍ بن سَعْدٍ الأَنْصَارِيّ، كَانَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ يَتِيمًا مَاتَ أَبُوهُ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ مَالاً وَلا مُعِيلاً لَكِنَّ أُمَّهُ لَمْ تَلْبَثْ إِلا مُدَّةً يَسِيرَةً ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِالْجُلاسِ بن سُوَيْدٍ فَكَفَلَ ابْنَهَا عُمَيْرًا وَضَمَّهُ إِلَيْهِ.

وَقَدْ لَقِيَ عُمَيْرٌ مِنْ بِرِّ الْجُلاسِ وَرِعَايَتِه وَجَمِيل عَطْفَهِ بِهِ مَا جَعَلَهُ يَنْسَى أَنَّهُ يَتَيمٌ فَأَحَبَّ عُمَيْرٌ الْجُلاسَ حُبَّ الابْنِ لأَبِيهِ وَكَذَلِكَ الْجُلاسُ وَلِعَ بِعُمَيْرٍ وَأَحَبَّهُ حُبَّ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ.

وَكَانَ كُلَّمَا شَبَّ عُمَيْرٌ ازْدَادَ الْجُلاسُ لَهُ حَبًّا وَازْدَادَ بِهِ إِعْجَابًا لِمَا يَتَخَيَّلُ فِيهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْفِطْنَةِ وَالنَّجَابَةِ الَّتِي تَبْدُو فِي كُلِّ عَملٍ مِنْ أَعْمَالِهِ وَتَبْدُو فِي شَمَائِلهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ.

وَقَدْ أَسْلَمُ عُمَيْرُ بِنُ سَعْدٍ وَهُوَ صَغِيرٌ لَمْ يُجَاوِزِ الْعَاشِرَةَ مِنْ عُمْرِهِ إِلا قَلِيلاً فَوَجَدَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ الْغَضِّ مَكَانًا خَالِيًا فَتَمَكنَ مِنْهُ وَأَلْفَى الإِسْلامُ فِي نَفْسِ عُمَيْرٍ الصَّافِيَةِ تُرْبَةً خَصْبَة فَتَغَلْغَلَ فِيهَا.

فَكَانَ عَلَى صِغَر سِنِّهِ لا يَتَأَخَّرُ عَنْ الصَّلاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ أُمُّهُ تُسَرُّ وَتَغْمُرُهَا الْفَرْحَةُ إِذَا رَأَتْهُ ذَاهِبًا إِلى الْمَسْجِد أَوْ رَاجِعًا مِنْهُ.

وَسَارَتْ حَيَاتُه عَلَى هَذَا النَّحْوِ هَانِئَةً هَادِئَةً وَادِعَةً لا يُعَكِّرُ صَفْوهَا مُعَكِّرٌ إِلى أَنْ قَدَرَ اللهُ عَلَى عُمَيْرٍ مِحْنَة مِنْ أَشَدِّ الْمِحَنِ قَلَّماَ مَرَّتْ عَلَى فَتَىً مِثْلِهِ فِي السِّنِّ.

ص: 173

فَفِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ لِمَا رَأَى بَذْلَ الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ عِنْدَمَا حَثَّهُمْ صَلَواتُ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلامُه عَلَى الْجِهَادِ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَى النَّفَقَةِ وَرَغِبَ أَهْلُ الثَّرْوَةِ بِالْخَيْرِ وَحَثَّ الْمُوسِرِينَ عَلَى تَجْهِيزِ الْمُعْسِرِينَ، وَأَبْصَرَ أَبَا بَكْرٍ يَجِيءُ بِمَا عِنْدَهُ، وَعُمَرَ يَأْتِي بِنِصْفِ مَالِهِ، وَعُثْمَانَ يَأْتِي بِجِرَابٍ فِيهِ أَلْفَ دِينَارٍ ذَهَبًا وَيُقَدِّمُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ يَحْمِلُ عَلَى عَاتِقِهِ مَائَتَي أَوْقِيَّةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَيُلْقِيهَا بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَنِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يَنْزِعْنَ حُلِيِّهِنَّ وَيُلْقِينَهُ بَيْنَ يَدِيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُجَهِّزَ بِثَمَنِهِ الْجَيْشَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ رَأَى رَجُلاً يَعْرِضُ فِرَاشَه لِلْبَيْعِ لِيَشْتَرِي بِثَمَنِهِ سَيْفًا يُجَاهِدُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

فَتَعَجَّبَ عُمَيْرٌ مِنْ تَأَخُّر الْجُلاسِ وَتَبَاطِئِهِ عَنْ الاسْتِعْدَادِ لِلرَّحِيلِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَأَخُّرِهِ عَنْ الْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الرَّغْمْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ.

وَأَرَادَ عُمَيْرٌ أَنْ يَسْتَثِيرَ هِمَّةَ الْجُلاسِ وَيَبْعَثَ الْحَمِيَّةَ وَالْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ فَشَرَعَ يَقُصُّ عَلَى الْجُلاسِ أَخْبَارَ مَا رَأَى وَمَا سَمِعَ وَخَاصَّةً الْبَكَّائِينَ الذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْملِهُم وَاعْتَذَرَ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لا يَجِدُ مَا يَحْملِهُم فَتَوَلَّوْا وَأَعْينُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزْنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُبَلِّغُهُم أُمْنِيَّتَهُمْ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

لَكِنَّ الْجُلاسَ مَا كَادَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ عُمَيْرٍ مَا سَمِعَ حَتَّى تَكَلَّمَ

ص: 174

بِكَلِمَةٍ أَطَارَتْ عَقْلَ الْفَتَى عُمَيْرِ مِنْ كِبَرِهَا إِذَا سَمِعَهُ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِهِ: (إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ النُّبُوَّةِ فَنَحْنُ شَرٌّ مِنْ الْحَمِيرِ) لَقَدْ انْدَهَشَ عُمَيْرٌ مِمَّا سَمِعَ فَمَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّ رَجُلاً عَاقِلاً كَبِيرَ السِّنِّ يَنْطِقُ بِمِثْل هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي تُخْرِجُ قَائِلَهَا عَنْ الإِيمَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَتُدْخِلُهُ فِي الْكُفْرِ.

ذَهَبَ عُمَيْرُ بنُ سَعَدٍ يُفَكّرُ فِي تِجَاهِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْفَظِيعَةِ الْمُوبقَةِ فَرَأى أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْجُلاسِ وَالسَّتْرَ عَلَيْهِ خِيَانَةٌ للهِ وَرَسُولِهِ وَإِضْرَارًا بِالإِسْلامِ الذِي يَكِيدُ لَهُ الْمُنَافِقُونَ.

وَرَأَى أَنَّ فِي إِخْبَارِهِ فِيمَا سَمِعَ مِنْ الْجُلاسِ عُقُوقًا بِالرَّجُلِ الذِي يُنْزِلُه مِنْ نَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ فَالْجُلاسُ هُوَ الذِي كَفَلَهُ يَتِيمًا وَرَبَّاهُ وَعَوَّضَهُ عَنْ فَقْدِ أَبِيهِ.

فَاخْتَارَ النَّصِيحَةَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَالْتَفَتَ إِلى الْجُلاسِ: وَقَالَ وَاللهِ يَا جُلاسُ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ، فَأَنْتَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَجَلُّهُمْ إِلَيَّ يَدَا وَأَعْظَمُهم نِعْمَة عَلَيَّ.

وَلَقَدْ قُلْتَ مَقَالَةً إِنْ ذَكَرْتُهَا فَضَحْتُكَ، وَإِنْ أَخْفَيْتُهَا خُنْتَ أَمَانَتِي وَأَهْلَكْتُ نَفْسِي وَدِينِي وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أَمْضِي إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأُخْبِرَه بِمَا قُلْتَ فَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِكَ. ثُمَّ مَضَى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ إِلى الْمَسْجِدِ وَأَخْبَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا سَمِعَ مِنْ الْجُلاسِ بنِ سُوَيْدٍ فَأَقْعَدَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُ وَأَرْسَلَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ إِلى الْجُلاسِ يَدْعُوه أَنْ يَأْتِي.

ص: 175

وَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى جَاءَ الْجُلاسُ فَحَيَّا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مَقَالَةُ سَمِعَهَا مِنْكَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ)) وَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَهُ فَقَالَ: كَذِبَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ وَافْتَرَى فَمَا تَفَوَّهْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَجَعَلَ الصَّحَابَةُ يُدِيرُونَ أَبْصَارَهُم فِي الْجُلاسِ وَعُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَقْرَءُوا عَلَى صَحِيفَتَيْ وَجْهَيْهِمَا مَا يُكُنِّهُ صَدْرَاهُمَا وَجَعَلُوا يَتَهَامَسُونَ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: فَتَىً عَاقٌّ أَبَى إِلا أَنْ يُسِيءَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِنَّهُ غُلامٌ نَشَأَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَإِنَّ مَلامِحَ وَجْهِهِ لَتَنْطِقُ بِصِدْقِهِ، وَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عُمَيْرٍ فَرَأى وَجْهَهُ قَدْ احْتَقَنَ بِالدَّمِ وَالدُّمُوعُ تَنْحَدِرُ مِدْرَارًا مِنْ عَيْنَيْهِ فَتَتَسَاقَطُ عَلَى خَدَّيْهِ وَصَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيِّكَ بَيَانَ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ يُكِرِّرُهَا فَانْبَرَى الْجُلاسُ وَقَالَ: إِنَّ مَا ذَكَرْتُه لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ الْحَقُّ وَإِنْ شِئْتَ تَحَالَفْنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَإِنِّي أَحْلِفُ بِاللهِ أَنِّي مَا قُلْتَ شَيْئًا مِمَّا نَقَلَهُ لَكَ عُمَيْرٌ فَمَا أَنِ انْتَهَى مِنْ حَلِفِه وَأَخَذَتْ عُيُونَ النَّاسِ تَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلى عُمَيرِ بن سَعْدٍ حَتَّى غَشِيَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم السَّكِينَةُ.

فَعَرَفَ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ الْوَحْي فَلَزِمُوا أَمَاكِنَهُمْ وَسَكَنَتْ جَوَارِحُهم وَلاذُوا بِالصَّمْتِ وَتَعَلَّقَتْ أَبْصَارُهمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُنَا ظَهَرَ الْخَوْفُ وَالْوَجَلُ عَلَى الْجُلاسِ وَبَدَا التَّلَهُّفُ وَالتَّشَوُّقُ عَلَى عُمَيْرٍ ثُمَّ سُرَّى عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلا قَوْلَ اللهِ تَعَالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}

ص: 176

إِلى قَوْلِهِ: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} .

فَارْتَعَدَ الْجُلاسُ مِنْ هَوْلِ مَا سَمِعَ وَكَادَ يَنْعَقِدُ لِسَانَهُ مِنْ الْجَزَعِ وَالرَّوْعَةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: بَلْ أَتُوبُ يَا رَسُولَ اللهِ بَلْ أَتُوبُ، صَدَقَ عُمَيْرٌ يَا رَسُولَ اللهِ وَكُنْتُ مِنْ الْكَاذِبِينَ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتِي جُعِلْتَ فِدَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

وَهُنَا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ فَمَدَّ يَدَهُ الشَّرِيفَةُ إِلى أُذُنِهِ وَأَمْسَكَهَا بِرِفْقٍ وَقَالَ: ((وَفَّتْ أُذُنُكَ يَا غُلامُ مَا سَمِعَتْ، وَصَدَّقَكَ رَبُّكَ)) .

لَيْسَ السَّفِيهُ مَنْ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ

هَمِ الْحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلَا

فَأَصَابَ تَوْفِيقًا وَحُسْنَ رِعَايَةٍ

مِنْ رَبِّهِ يَا حُسْنَ هَذَا بَدِيلَا

إِنَّ السَّفِيهَ هُوَ الذِي أَوْقَاتُهُ

عِنْدَ الْمَلاهِي قُتِّلَتْ تَقْتِيلَا

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فَصْلٌ

قِصَّةً لِعُمَيْر: كَانَ أَهْلُ حَمْصٍ شَدِيدِي التَّذَمُّرِ مِنْ وُلاتِهمْ كَثِيرِي الشَّكْوَى مِنْهُمْ، فَمَا جَاءَ مِنْ وَالٍ إِلا ذَكَرُوا لَهُ عُيوبًا وَأَحْصُوا لَهُ ذُنُوبًا وَرَفَعُوا أَمْرَهُ إِلى خَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبُوا مِنْهُ بَدَلَهُ خَيْرًا مِنْهُ.

فَعَزَمَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بِوَالٍ لا يَجِدُونَ فِيهِ مطْعَنًا وَلا يَرَوْنَ فِي سِيرَتِهِ مَغْمَزًا فَاخْتَارَ عُمَيْرَ بنَ سَعْدٍ وَعَهِدَ إِلَيْهِ بِوِلايَةِ حِمْصٍ وَأَمْرَهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فَقَبِلَ الأَمْرَ عَلَى إِغْمَاضٍ مِنْهُ لأَنَّهُ كَانَ لا يُؤْثِرُ شَيْئًا عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

ص: 177

وَلَمَّا بَلَغَ عُمَيْرٌ حِمْصًا جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ وَبَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الإِسْلامَ حِصْنٌ مَنِيعٌ وَبَابٌ وَثِيقٌ وَحِصْنُ الإِسْلامِ الْعَدْلُ، وَبَابُه الْحَقُّ فَإِذَا دُكَّ الْحِصْنُ وَحُطِّمَ الْبَابُ اسْتُبِيحَ حِمَى الدِّينِ.

وَإِنَّ الإِسْلامَ مَا يَزَالُ مَنِيعًا مَا اشْتَدَّ السُّلْطَانُ وَلَيْسَتْ شِدَّةُ السُّلْطَانِ ضَرْبًا بِالسَّوْطِ وَلا قَتْلاً بِالسَّيْفِ، وَلَكِنْ قَضَاءٌ بِالْعَدْلِ وَأَخْذًا بِالْحَقِّ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلى عَمَلِهِ لِيُنَفذَ مَا اخْتَطَّهُ لَهُمْ.

قَضَى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ حَوْلاً كَامِلاً فِي حِمْصَ لَمْ يَكْتُبْ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ كِتَابًا وَلَمْ يَبْعَثْ إِلى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفِيءِ وَلا دِرْهَمًا وَلا دِينَارًا.

فَقَالَ عُمَرُ لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ لِعُمَيْرٍ وَقُلْ: إِذَا جَاءَكَ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَقْبِلْ وَاتْرُكْ حِمْصَ وَأَقْبِلْ عَلَيْهِ وَاحْمِلْ مَعَكَ مَا جَبَيْتَ مِنْ فِيءِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ عُمَر إِلى عُمَيْر أَخَذَ جِرَابَ زَادِهِ وَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَحَمَلَ قَصْعَتَهُ وَوِعَاءَ وُضُوئِهِ وَانْطَلَقَ يَمْشِي إِلى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمَدِينَةِ وَإِذَا لَوْنُهُ مُتَغَيرٌ وبَدَنُهُ مُتَضَعْضِعٌ قَدْ هَزُلَ جِسْمُه وَطَالَ شَعْرُهُ وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ وَعْثَاءُ السَّفَرِ وَكَآبَةُ الْمَنْظَر.

وَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه دَهَشَ وَتَأَلَّمَ مِنْ حَالَتِهِ وَقَالَ: مَا بِكَ يَا عُمَيْرُ؟ فَقَالَ: مَا بِي شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا صَحِيحٌ بِحَمْدِ اللهِ أَحْمِلُ مَعِي الدُّنْيَا كُلَّهَا وَأَجُرُّهَا.

ص: 178

فَقَالَ: وَمَا مَعَكَ مِنْ الدُّنْيَا؟ (وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ مَعَهُ مَالاً يَحْمِلُه لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ) فَقَالَ: مَعِي جِرَابِي وَقَدْ وَضَعْتُ فِيهِ زَادِي وَمَعِي قَصْعَتِي آكُلُ فِيهَا وَأَغْسِلُ عَلَيْهَا ثِيَابِي وَمَعِي قِرْبَةٌ لِوُضُوئِي وَشَرَابِي.

ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَبَعٌ لِهَذَا الْمَتَاع لا حَاجَةَ لِي فِيهَا غَيْرَ هَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: وَهَلْ أَتَيْتَ مَاشِيًا؟ قَالَ: نَعَمُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: أَمَا أُعْطَيْتَ مِنْ الإِمَارَةِ دَابَّةً تَرْكَبَهَا؟ فَقَالَ: هُمْ لَمْ يَعْطُونِي وَأَنَا لَمْ أَطْلُبْ مِنْهُمْ.

فَقَالَ: وَأَيْنَ مَا أَتَيْتَ بِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ؟ فَقَالَ: لَمْ آتِ بِشَيْءٍ. فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ.

فَقَالَ: لِمَّا وَصَلْتُ إِلى حَمْص جَمَعْتُ صُلَحَاءَ أَهْلِهَا وَوَلَّيْتُهُم جَمِيعَ فَيئِهم وَكَانُوا كُلَّمَا جَمَعُوا شَيْئًا اسْتَشَرْتُهُمْ فِي أَمْرِهِ وَوَضَعْتُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَنْفَقْتُه عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْهُمْ.

فَقَالَ عُمَرُ لِكَاتِبِهِ: جَدِّدْ عَهْدًا لِعُمَيْرٍ عَلَى وَلايَةِ حِمْص. فَقَالَ عُمَيْرَ: هَيْهَاتَ فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لا أُرِيدُهْ وَلَنْ أَعْمَلَ لَكَ وَلا لأَحَدٍ بَعْدَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ بِالذِّهَابِ إِلى قَرْيَةٍ فِي ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ يُقِيمُ بِهَا أَهْلُهُ فَأَذِنَ لَهُ، لَمْ يَمْضِ عَلَى عُمَيْرٍ إِلا مُدَّةً يَسِيرَةً بَعْدَ ذِهَابِهِ لِلْقَرْيَةِ حَتَّى أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَخْتَبِرَهُ فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ ثِقَاتِهِ يُقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: انْطَلِقْ إِلى عُمَيْرٍ بن سَعْدٍ وَأَنْزِلْ عِنْدَهُ كَأَنَّكَ ضَيْفٌ فَإِنْ رَأَيْتَ عَلَيِهِ آثَارَ نِعْمَةٍ فَعُدَ كَمَا أَتَيْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَ حَالاً شَدِيدَةً فَأَعْطِهِ هَذِه ِالدَّنَانِيرِ وَنَاوَلَهُ صُرَّةً فِيهَا مَائِةُ دِينَارٍ.

ص: 179

انْطَلَقَ الْحَارِثُ حَتَّى بَلَغَ الْقَرْيَةَ الَّتِي فِيهَا عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَدُلَّ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَّدَ عليه السلام، وَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ قَدِمَ فَقَالَ الْحَارِثُ: مِنْ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: بِخَيْرٍ.

فَقَالَ: كَيْفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: صَحِيحٌ صَالِحٌ. فَقَالَ: أَلَيْسَ يُقِيمُ الْحُدُودَ؟ قَالَ: بَلَى فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْ عُمَرَ فَإِنِّي لا أَعْلَمُهُ إِلا شَدِيدَ الْحُبِّ لَكَ.

أَقَامَ الْحَارِثُ فِي ضِيَافَةِ عُمَيْرٍ ثَلاثَ لَيَالٍ فَكَانَ يُخْرِجُ لَهُ كُلَّ لَيْلَةِ قُرْصًا مِنْ الشَّعِيرِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ لِلْحَارِثُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمَِ: لَقَدْ أَجْهَدْتَ عُمَيْرًا وَأَهْلَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ إِلا هَذَا الْقُرْصُ مِنْ الشَّعِيرِ الذِي يُؤْثِرُونَكَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ أَضَرَّ بِهِمْ الْجُوعُ وَالْجُهْدُ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرْحَلَ عَنْهُمْ فَافْعَلْ.

عِنْدَ ذَلِكَ أَخْرَجَ الْحَارِثُ الدَّنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إِلى عُمَيْر فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ: بَعَثَ بِهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ فَقَالَ: رُدَّهَا إِلَيْهِ وَقُلْ لا حَاجَةَ لِعُمَيْرٍ بِهَا. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: خُذْهَا يَا عُمَيْرُ فَإِنْ احْتَجْتَ إِلَيْهَا أَنْفَقْتَهَا وَإِلا وَضَعْتَهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَالْمُحْتَاجُونَ هُنَا كَثِيرٌ فَلَمَّا سَمِعَ الْحَارِثُ قَوْلَهَا أَلْقَى الدَّنَانِيرَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَيْرٍ. وَانْصَرَفَ.

فَأَخَذَهَا عُمَيْرُ وَجَعَلَهَا فِي صُرَرٍ صَغِيرَةٍ وَلَمْ يَبِتْ تَلْكَ اللَّيْلَةِ إِلا وَقَدْ فَرَّقَهَا عَلَى الْفُقََرَاءِ وَخَصَّ مِنْهُمْ أَبْنَاءَ الشُّهَدَاءِ، وَلَمَا عَادَ الْحَارِثَ إِلى الْمَدِينَةِ وَوَاجَهَ عُمَرُ قَالَ لَهُ: مَا رَأَيْتَ يَا حَارِثُ؟ فَقَالَ: حَالاً شَدِيدَةً يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَدَفَعْتَ إِلَيْهِ الدَّنَانِيرَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَمَا صَنَعَ بِهَا عُمَيْرُ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِي وَمَا أَظُنُّه يُبْقِي لِنَفْسِهِ مِنْهَا شَيْئًا مِنْهَا وَلا دِرْهَمًا.

ص: 180

فَكَتَبَ عُمَرُ إِلى عُمَيْرِ يَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي فَلا تَضَعَهُ مَنْ يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ عَلَيَّ. فَتَوَجَّهَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ إِلى الْمَدِينَةِ وَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ فَحَيَّاهُ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا صَنَعْتَ بِالدَّنَانِيرَ يَا عُمَيْرُ؟ فَقَالَ: وَمَا عَلَيْكَ مِنْهَا يَا عُمَرُ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجْتَهَا لِي عَنْكَ.

فَقَالَ: عَزِمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِمَا صَنَعْتَ بِهَا؟ فَقَالَ: ادَّخَرْتُهَا لِنَفْسِي لانْتَفِعُ بِهَا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٍ وَلا بَنُونَ. فَدَمِعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنَ الذِينَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسْهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.

ثُمَّ أَمَرَ بِوِسَقٍ مِنْ طَعَامٍ وَثَوْبَيْنِ، فَقَالَ: أَمَّا الطَّعَامُ فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ تَرَكْتُ عِنْدَ أَهْلِي صَاعَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ وَإِذَا أَكَلْنَاهُمَا يَأْتِي اللهُ لَنَا بِرِزْقٍ، وَأَمَّا الثَّوْبَيْنِ فَآخُذُهُمَا لأُمِّ فُلانِ يُرِيدُ زَوْجَتَه فَقَدْ بَلِيَ وَخلقَ ثَوْبُهَا وَكَادَتْ تَعْرَى.

فَمَضَى عُمَيْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَرِيقِ الآخِرَةِ وَادِعَ النَّفْسِ وَاثِقَ الْخَطْوِ لا يُثْقِلُه شَيْءٌ مِنْ أَحْمَالِ الدُّنْيَا وَأَمْتِعَتِهَا، وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرُ رضي الله عنه وَفَاةَ عُمَيْرٍ حَزِنَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ لِي رِجَالاً مِثْلَ عُمَيْرِ أَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ بِتَصَرُّفٍ.

اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا:

إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مَدَى الْعُمْرِ

وَتَسْكُنَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي رَوْضَةِ الْقَبْرِ

وَتُبْعَثَ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ آمِنًا

مِنَ الْخَوْفِ وَالتَّهْدِيدِ وَالطَّردِ وَالْخُسْرِ

ص: 181

وَتُعْرَضَ مَرْفُوعًا كَرِيمًا مُبَجَّلاً

تُبَشِّرُكَ الأَمْلاكُ بِالْفَوزِ وَالأَجْرِ

وَتَرْجَحَ عِنْدَ الْوَزنِ أَعْمَالَكَ الَّتِي

تُسَرُّ بِهَا فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ

وَتَمْضِيَ عَلَى مَتْنِ الصِّرَاطِ كَبَارِقٍ

وَتَشْرَبَ مِنْ حَوْضِ النَبِيِّ الْمُصْطَفَى الطُّهْرِ

وَتَخْلُدَ فِي أَعْلَى الْجِنَانِ مُنَعَّمًا

حَظِيًا بِقُرْبِ الْوَاحِدِ الأَحَدِ الْوَترِ

عَلَيْكَ بِتَوْحِيدِ الإِلهِ فَإِنَّهُ

إِذَا تَمَّ فَازَ الْعَبْدُ بِالْقُرْبِ وَالأَجْرِ

وَخُذْ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ حَظًّا مُوَفِّرًا

فَبِالْعِلْمِ تَسْمُو فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْحَشرِ

وَوَاظِبْ عَلَى دَرْسِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ فِي

تِلاوَتِهِ الأَرْبَاحُ وَالشَّرْحُ لِلصَّدْرِ

أَلا إِنَّهُ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَغَيْرَهُ

مِنَ الْكُتُبِ أَنْهَارٌ تَمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ

تَدَبَّرْ مَعَانِيهِ وَرَتِّلْهُ خَاشِعًا

تَفُوزُ مِنَ الأَسْرَارِ بِالْكَنْزِ وَالذُّخْرِ

وَكُنْ رَاهِبًا عِنْدَ الْوَعِيدِ وَرَاغِبًا

إِذَا مَا تَلَوَّتَ الْوَعْدُ فِي غَايَةِ الْبِشْرِ

ص: 182

بَعِيدًا عَنِ الْمَنهِيِّ مُجْتَنِبًا لَهُ

حَرِيصًا عَلَى الْمَأْمُورِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ

وَإِنْ رُمْتَ أَنْ تَحْظَى بِقَلْبٍ مُنَوَّرٍ

نَقِيٍّ مِنَ الأَغْيَارِ فَاعْكُفْ عَلَيَّ الذِّكْرِ

وَوَاظِبْ عَلَيْهِ فِي الظَّلامِ وَفِي الضِّيَا

وَفِي كُلِّ حَالٍ بِاللِّسَانِ وَبِالسِّرِّ

وَصَفِّ مِنْ الأَكْدَارِ سِرَّكَ إِنَّهُ

إِذَا مَا صَفَا أَوْلاكَ مَعْنَى مِنَ الْفِكْرِ

وَبِالْجِدِّ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ تَحِلُّ فِي

فَسِيحِ الْعُلى فَاِسْتَوْصِ بِالْجِدِّ وَالصَّبْرِ

وَكُنْ شَاكِرًا للهِ قَلْبًا وَقالِبًا

عَلَى فَضْلِهِ إِنَّ الْمَزِيدَ مَعَ الشُّكْرِ

تَوَكَلَّ عَلَى مَوْلاكَ وَاِرْضَ بِحُكْمِهِ

وَكُنْ مُخْلِصًا للهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ

قَنُوعًا بِمَا أَعْطَاكَ مُسْتَغْنِيًا بِهِ

لَهُ حَامِدًا فِي حَالِيْ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ

وَكُنْ بَاذِلاً لِلْفَضْلِ سَمْحًا وَلا تَخَفْ

مِنَ اللهِ إِقْتَارًا وَلا تَخْشَ مِنْ فَقْرِ

وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا فَإنَّ حَلالَهَا

حِسَابٌ وَفِي مَحْظُورِهَا الْهَتْكُ لِلسِّرِّ

ص: 183

وَلا تَكُ عَيّابًا وَلا تَكُ حَاسِدًا

وَلا تَكُ ذَا غِشّ وَلا تَكُ ذَا غَدْرِ

وَلا تَطْلُبَنَّ الْجَاهَ يَا صَاحِ إِنَّهُ

شَهِيٌّ وَفِيهِ السُّمُّ مِنْ حَيْثُ لا تَدْرِي

وَإِيَّاكَ وَالأَطْمَاعَ إِنَّ قَرِينَهَا

ذَلِيلٌ خَسِيسُ الْقَصْدِ مُتَّضِعُ الْقَدْرِ

وَإِنْ رُمْتَ أَمْرًا فَأسْأَلِ اللهَ إِنَّهُ

هُوَ الْمُفْضَلُ الْوَهّابُ لِلْخَيْرِ وَالْوَفرِ

وَأُوصِيكَ بِالْخَمْسِ الَّتِي هِنَّ يَا أَخِي

عِمَادٌ لِدِينِ اللهِ وَاسِطَةُ الأَمْرِ

وَحَافِظْ عَلَيْهَا بِالْجَمَاعَةِ دَائِمًا

وَوَاظِبْ عَلَيْهَا فِي الْعِشَاءِ وَفِي الْفَجْرِ

وَقُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ للهِ قَانِتًا

وَصَلِّ لَهُ وَاِخْتِمْ صَلاتَكَ بِالْوِتْرِ

وَكُنْ تَائِبًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ أَتَيْتَهُ

وَمُسْتَغْفِرًا فِي كُلَّ حَيْنٍ مِنَ الْوِزْرِ

عَسَى الْمُفَضِلُ الْمَوْلَى الْكَرِيمُ بِمَنِّهِ

يَجُودُ عَلَى ذَنْبِ الْمُسِيئِينَ بِالْغُفْرِ

فَإِحْسَانُهُ عَمَّ الأَنَامَ وَجُودُهُ

عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ وَإِفْضَالُهُ يَجْرِي

وَصَلِّ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كُلَّهَا

ص: 184

.. مُحَمَّدُ الْمَبْعُوثِ بِالْبِشْرِ وَالنُّذْرِ

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَطَعَ قُلُوبَنَا عَنْ ذِكْرك، وَاعْفُ عَنْ تَقْصِيرنَا فِي طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ وَأَدِمْ لَنَا لُزُومَ الطَّرِيقِ إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُورًا نَهْتِدِي بِهِ إِلَيْكَ وَاسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ أَهْلِ مَرْضَاتِكَ وَاقْطَعْ عنًّا كُلَّ مَا يُبْعِدُنَا عَنْ سَبِيلِكَ، ويَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَحَقِّقْ بِكَرَمِكَ قَصْدَنَا.

اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ وَسَهِّلْ عَلَيْنَا كُلَّ أَمْرٍ عَسِيرٍ، وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ن وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ يَا مَنْ هُوَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجًا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

عبد الرحمن بن عوف

هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةَ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدُ عَمْرو فَلَمَّا أَسْلَمَ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ.

أَسْلَمَ بَعْدَ إِسْلامِ أَبِي بَكْر الصِّدِّيقُ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ وَلَقِيَ مِنْ التَّعْذِيبِ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ الأوَّلُونَ فَصَبَرَ كَمَا صَبَرُوا وَثَبَتَ كَمَا ثَبَتُوا وَصَدَقَ كَمَا صَدَقُوا وَفَرَّ بِدِينِهِ إِلى الْحَبَشَةِ كَمَا فَرَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِدِينِهِ مِنْهُمْ.

وَلَمَّا أُذِنَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلى الْمَدِينَةِ كَانَ فِي طَلِيعَةِ الْمُهَاجِرِينَ الذِينَ هَاجَرُوا إِلى الْمَدِينَةِ وَلَمَّا آخَى صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ وَسَعْدِ بن الرَّبِيعِ الأَنْصَارِي فَقَالَ سَعْدُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: أَيْ أَخِي أَنَا أَكْثَرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مَالاً وَعِنْدِي بُسْتَانَانِ وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيْ بُسْتَانَيَّ أَحَبُّ إِلَيْكَ وَأَيَّ امْرَأَتِيَّ أَرْضَى عِنْدكَ أُطَلِّقْهَا لَكَ.

ص: 185

فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي مَالِكَ وَأَهْلِكَ وَلَكِنْ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ فَدَلَّهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَتَّجِرُ وَبَعْدَ مُدَّة اجْتَمَعَ لَدَيْهِ مَالٌ فَتَزَوَّجَ وَجَاءَ إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ أَثَرُ الطِّيْبِ فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: «مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ» . (وَهِيَ كَلِمَةٌ يَمَانِيَّةٌ تُفِيدُ التَّعَجُّبَ) فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ. فَقَالَ: ((وَمَا أَعْطَيْتَ زَوْجَتَكَ مِنْ الْمَهْرِ)) . قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.

قَالَ: ((أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي مَالِكَ)) . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَقْبَلَتْ الدُّنْيَا عَلَيَّ حَتَّى رَأَيْتُنِي لَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لِتَوَقَّعْتُ أَنْ أَجِدَ تَحْتَهُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَقَدْ جَاهَدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي يَوْمِ أُحُدٍ ثَبَتَ حَتَّى زُلْزِلَتْ أَقْدَامُ الْمُشْرِكِينَ وَصَمَدَ حِينَ فَرَّ الْمُنْهَزِمُونَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ وَفِيهِ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُرْحًا.

وَلَكِنَّ جِهَادَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِنَفْسِهِ قَلِيلٌ إِذَا قِيسَ بِجِهَادِهِ بِمَالِهِ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَهِّزَ سَرِيَّةً وَقَالَ:«تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا» .

فَبَادَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقَ إِلى مَنْزِلِهِ وَعَادَ مُسْرِعًا وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلافٍ أَلْفَانِ مِنْهُمَا أَقْرَضْتُهَا رَبِّي وَأَلْفَانِ تَرَكْتُهُمَا لِعِيَالِي فَقَالَ لََهُ رَسُول اللهُ صلى الله عليه وسلم: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ)) .

وَلَمَا عَزَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكٍ كَانَتْ الْحَاجَةُ إِلى الْمَالِ لا تَقِلُّ عَنْ الْحَاجَةِ إِلى الرِّجَالِ فَجَيْشُ الرُّومِ وَافِرُ الْعَدَدِ كَثِيرُ الْعُدَدِ وَالسَّنَةُ فِي الْمَدِينَةِ سَنَةُ جَدْبٍ وَالسَّفَرُ طَوِيلٌ وَالْمُؤْنَةُ قَلِيلَةٌ وَالرَّوَاحِلُ أَقَلُّ.

حَتَّى إِنَّ نَفَرًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ جَاءُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ فِي حُرْقَةٍ أَنْ يَأْخذَهُمْ مَعَهُ فَرَدَّهُمْ لأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ مَا يُحْمِلهُمْ عَلَيْهِ

ص: 186

وَهُمْ الْبَكَّاءُونَ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزْنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ.

وَأُطْلِقَ عَلَى الْجَيْشِ جَيْشَ الْعُسْرَةِ عِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاحْتِسَابِ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ.

فَهَبَّ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ فِي طَلِيعَةِ الْمُتَصَدِّقينَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ فَتَصَدَّقَ بِمَائتي أَوْقِيَّةٍ ذَهَبًا فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لا أَرَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفِ إِلا مُرْتَكِبًا إِثْمًا فَمَا تَرَكَ لأَهْلِهِ شَيْئًا.

فَقَالَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: ((هَلْ تَرَكْتَ لأَهْلِكَ شَيْئًا)) ؟ فَقَالَ: نَعَمْ تَرَكْتُ لَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا أَنْفَقْتُ وَأَطْيَبُ. قَالَ: ((كَمْ)) ؟ قَالَ: مَا وَعَدَ اللهُ وَرَسُولَهُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْخَيْرِ وَالأَجْرِ.

وَمَضَى الْجَيْشُ إِلى تَبُوكَ وَهَنَاكَ أَكْرَمَ اللهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلاةِ وَرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَائِبٌ فَأَمَّ الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ وَمَا كَادَتْ تَتِمُّ الرَّكْعَةُ الأُولَى حَتَّى لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُصَلِّينَ وَاقْتَدَى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَصَلَّى خَلْفَهُ.

وَلَمَّا لَحِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى جَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ يَقُومُ بِمَصَالِحِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ يَنْهَضُ مَعَهُنَّ وَيَخْرُجُ لِحَاجَتِهِنَّ إِذَا خَرَجْنَ وَيَحُجُّ مَعَهُنَّ إِذَا حَجَجْنَ وَيَجْعَلُ عَلَى هَوَادِجِهِنَّ الطَّيَالِسَةُ وَيَنْزِلُ بِهِنَّ فِي الأَمَاكِنِ الَّتِي تَسُرُّهُنَّ.

وَتِلْكَ مَنْقَبَةٌ مِنْ مَنَاقِبِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ وَلَقَدْ بَلَغَ مِنْ بَرِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ بِالْمُسْلِمِينَ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ بَاعَ أَرْضًا بَأَرْبَعِينَ أَلْفِ

ص: 187

دِينَارٍ فَقَسَمَهَا كُلَّهَا فِي بَنِي زُهْرَةَ وَفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا بَعَثَ إِلى أَمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَنْ بَعَثَ هَذَا الْمَالَ؟ فَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ. فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم: ((لا يَحْنُوا عَلَيْكُنَّ مِنْ بَعْدِي إِلا الصَّابِرُونَ)) .

بَقِيتْ دَعْوةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ بَأَنْ يُبَارِكَ اللهُ لَهُ حَتَّى صَارَ أَغْنَى الصَّحَابَةِ فَقَدْ أَخَذَتْ تِجَارَتهُ تَنْمُو وَتَزْدَادُ وَصَارَتْ قَوَافِلُه تَتَرَدَّدُ ذَاهِبَةً مِنْ الْمَدِينَةِ أَوْ رَاجِعَةً إِلَيْهَا تَحْمِلُ الْبُرَّ وَالدَّقِيقَ وَالدُّهْنَ وَالثِّيَابَ وَالآنِيَةَ وَالطِّيْبَ وَكُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.

وَلا غَرَابَةَ فَقَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَأَنْ يُبَارَكَ لَهُ فِي مَالِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَمْ يَفتِنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يُغَيِّرهُ فَكَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوهُ بَيْنَ مَمَالِيكِه لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَفِي يَوْمٍ مَا أُتِيَ بِطَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي فَمَا وَجَدْنَا لَهُ إِلا كَفنًا إِنْ غَطَّى رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ وَإِنْ غَطَّى رِجْلِيهِ بَدَا رَأْسُهُ ثُمَّ بَسَطَ اللهُ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بَسَطَ وَإِنِّي لأَخْشَى أَنْ يَكُونَ ثَوَابُنَا قَدْ عُجِّلَ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي وَيَنْشَجُ حَتَّى عَافَ الطَّعَامَ طُوبَى لِعَبْدِ الرَّحْمَن بن عَوْفٍ وَأَلْفُ غِبْطَةٍ.

فَقَدْ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ وَحَمَل جَنَازَتَه خَالُ رَسُولِ اللهِ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ.

وَصَلَّى عَلَيْهِ ذُو النُّورَيْنِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانٍ وَشَيَّعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِّي بنْ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَهَا وَسَبَقْتَ زَيْفَهَا يَرْحَمُكَ اللهُ. انْتَهَى.

اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا مَنْ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ مَكِّنْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا

ص: 188

وَقَوِّهَا وألْهِمْنَا ذِكرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَعِنَّا عَلَى الْقِيَامِ بِطَاعَتِكَ وَالاِنْتِهَاءِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقُبُولِ وَالإِجَابَةِ فَإِنَّا نَدْعُوكَ دُعَاءَ مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَتَصَرَّمَتْ آمَالِهِ وَبَقِيَتْ آثَامُهِ وَانْسَبَلَتْ دِمْعَتُه وَانْقَطَعَتْ مُدَّتُهُ دُعَاءَ مَنْ لا يَرْجُو لِذَنْبِهِ غَافِرًا غَيْرَكَ وَلا لِمَا يُؤْمِّلُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ مُعْطِيًا سِوَاكَ، وَلا لِكَسْرِهِ جَابِرًا إِلا أَنْتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

الْمَوْتُ يَفْجَعُ بَعْدَ الْعَيْنِ بِالأَثْرِ

فَمَا الْبُكَاءُ عَلَى الأَشْبَاحِ وَالصُّورِ

أَنْهَاكَ أَنْهَاكَ لا آلُوكَ مَوْعِظَةً

عَنْ نَوْمَةٍ نَابَ اللَّيْثِ وَالظُّفُرِ

فَالْعُمُر يَفْنِى وَإِنْ طَالَتْ مُسَالَمَةً

وَالْبَيْضُ وَالسُّودُ مِثْلَ الْبِيضِ وَالسَّمُرِ

وَلا هَوَادَةَ بَيْنَ الرَّأْسِ تَأْخُذُهُ

يَدُ الضِّرَابِ وَبَيْنِ الصَّارِمِ الذَّكْرِ

فَلا تَغُرَّنْكَ مِنْ دُنْيَاكَ نَوْمَتُهَا

فَمَا صِنَاعَةُ عَيْنَيِهَا سِوَى السَّهَرِ

مَا لِلَّيالِي أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَنا

مِنَ اللَّيَالِي وَغَالَتْهَا يَدُ الْغِيَرِ

فِي كُلِّ حِينٍ لَهَا فِي كُلِّ جَارِحَةٍ

مِنَّا جِرَاحٌ وَإِنْ زَاغَتْ عَنِ النَّظَرِ

تَسُرُّ بِالشَّيْءِ لَكِنْ كَيْ تَغُرَّ بِهِ

كَالأَيْمِ ثَارَ إِلى الْجَانِي مِنَ الزَّهْرِ

كَمْ دَوْلَةٍ وُلِّيَتْ بِالنَّصْرِ خَدْمَتُهَا

لَمْ تَبْقَ مِنْهَا وَسَلْ دُنْيَاكَ عَنْ خَبَرِ

هَوَتْ بِدَارًا وَفَلَّْت غَرْبَ قَاتِلِهِ

وَكَانَ غَصْبًا عَلَى الأَمْلاكِ ذَا أَثَرِ

وَاِسْتَرْجَعَتَ مِنْ بَنِي سَاسَانَ مَا وَهَبَتْ

وَلَمْ تَدَعْ لِبَنِي يُونَانَ مِنْ أَثَرِ

وَأَلْحَقَتْ أُخْتَهَا طَمْسًا وَعَادَ عَلَى

عَادٍ وَجُرْهُمْ مِنْهَا نَاقِضُ الْمِرَرِ

وَمَا أَقَالَتْ ذََوِي الْهَيْئَاتِ مِنْ يَمَنٍ

وَلا أَجَارَتْ ذَوِي الْغَايَاتِ مِنْ مُضَرِ

وَمَزَّقَتْ سَبَأً فِي كُلِّ قَاصِيَةٍ

فَمَا الْتَقَى رَائِحٌ مِنْهُمْ بِمُبتَكِرِ

وَأَنْفَذَتْ فِي كُلَيْبٍ حَكَمَهَا وَرَمَتْ

مُهَلْهِلاً بَيْنَ سَمْعِ الأَرْضِ وَالْبَصَرِ

وَلَمْ تَرُدَّ عَلَى الضَّلِيلِ صِحَّتَهُ

وَلا ثَنَتْ أَسَدًا عَنْ رَبِّهَا حَجَرِ

وَدَوَّخَتْ آلَ ذُبيانٍ وَإِخْوَاتَهُمْ

عَبْسًا وَغَصَّتْ بَنِي بَدْرٍ عَلَى النَّهْرِ

ص: 189

.. وَأَلْحَقَتْ بِعَدِيٍّ بِالْعِرَاقِ عَلَى

يَدِ ابْنِهِ أَحْمَرَ الْعَينَيْنِ وَالشَّعْرِ

وَأَهْلَكَتْ إِبْرَوِيزًا بِابْنِهِ وَرَمَتْ

بِيَزْدَجِرْدٍ إِلى مَروٍ فَلَمْ يُحُرِ

وَبَلَّغتْ يَزْدَجِرْدَ الصِّينَ وَاِخْتَزَلَتْ

عَنْهُ سِوَى الْفُرْسِ جَمْعَ التُّرْكِ وَالْخَزَرِ

وَلَمْ تَرُدَّ مَوَاضِي رُسْتُمٍ وَقَنَا

ذِي حَاجِبٍ عَنْهُ سَعْدًا فِي ابْنَهِ الْغَيْرِ

يَوْمَ الْقَلِيبِ بَنُو بَدْرٍ فَنُوا وَسَعَى

قَلِيبُ بَدْرٍ بِمَنْ فِيهِ إِلى سَقَرِ

وَأَخْفَرَتْ فِي الأَمِينِ الْعَهْدِ وَاِنْتَدَبَتْ

لِجَعْفََرٍ بِابْنِهِ وَالأَغْبُدِ الْغُدُرِ

وَمَا وَفَتْ بِعُهُودِ الْمُسْتَعِينِ وَلا

بِمَا تَأَكَّدَ لِلْمُعتَزِّ مِنْ مِرَرِ

وَأَوْثَقَتْ فِي عُرَاهَا كُلَّ مُعْتَمَدٍ

وَأَشْرَقَتْ بِقَذَاهَا كُلَّ مُقْتَدِرِ

وَرَوَّعَتْ كُلَّ مَأْمُونٍ وَمُؤْتَمَنٍ

بِذَيلِ زَبَّاءَ لَمْ تَنْفِِْر مِنَ الذُّعْرِ

وَأَعثَرَت آلَ عَبَّادٍ لَعالَهُمُ

وَأَسْلَمَتْ كُلَّ مَنْصُورٍ وَمُنْتَصِرِ

بَنِي الْمُظَفَّرِ وَالأَيّامُ - لا نَزَلَتْ

مَرَاحِلٌ وَالْوَرَى مِنْهَا عَلَى سَفََرِ

سُحْقًا لِيَوَمِْكُمُ يَوْمًا وَلا حَمَلَتْ

بِمِثْلِهِ لَيْلَةٌ فِي غَابِرِ الْعُمُرِ

مَنْ لِلأَسِرَّةِ أَوْ مَنْ لِلأَعِنَّةِ أَوْ

مَنْ لِلأَسِنَّةِ يُهْدِيهَا إِلى الثُّغَرِ

مَنْ لِلظِّبَا وَعَوَالِي الْخَطِ قَدْ عُقِدَتْ

أَطْرَافُ أَلْسُنِهَا بِالْعِيِّ وَالْحَصَرِ

وَطَوَّقَتْ بِالْمَنَايَا السُّودِ بِيضَهُمُ

فَأعْجَبْ لِذَاكَ وَمَا مِنْهَا سِوَى الذِّكْرِ

مَنْ لِلْيَرَاعَةِ أَوْ مَنْ لِلْبَرَاعَةِ أَوْ

مَنْ لِلسَّمَاحَةِ أَوْ لِلنَّفْعِ وَالضَّرَرِ

أَوْ دَفْعِ كَارِثَةٍ أَوْ رَدْعِ آزِفَةٍ

أَوْ قَمْعِ حَادِثَةٍ تَعْيِي عَلَى الْبَشَرِ

وَيبْ السَّمَاحِ وَوَيْبَ الْبَأَ لَوْ سَلِمَا

وَحَسْرَةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَلَى عُمَرِ

سَقَتْ ثَرَى الْفَضْلِ وَالْعَبَّاسِ هَامِيَةٌ

تُعْزَى إِلَيْهِمْ سَمَاحًا لا إِلى الْمَطَرِ

ثَلاثَةٌ مَا رَأَى السَّعْدَانُ مِثْلَهُمُ

وَأَخْبَرَ وَلَوْ عَزَّزا فِي الْحُوتِ بِالْقَمَرِ

ثَلاثَةٌ كَذَوَاتِ الدَّهْرِ مُنْذُ نَأَوْا

عَنِّي مَضَى الدَّهْرُ لَمْ يَرْبَعْ وَلَمْ يَحِرِ

ص: 190

.. وَمَرَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ أَطْيَبُهُ

حَتَّى التَّمَتُّعُ بِالآصَالِ وَالْبُكَرِ

أَيْنَ الْجَلالُ الَّذِي غَضّتْ مَهابَتُهُ

قُوُبَنَا وَعُيُونُ الأَنْجُمِ الزُّهُرِ

أَيْنَ الإِبَاءُ الَّذِي أَرْسُوا قَوَاعِدَهُ

عَلَى دَعَائِمَ مَنْ عِزٍّ وَمِنْ ظَفَرِ؟

أَيْنَ الْوَفاءُ الَّذِي أَصْفَوا شَرَائِعِهُ

فَلَمْ يَرِدْ أَحَدٌ مِنْهَا عَلى كَدَرِ

كَانُوا رَوَاسِيَ أَرْضِ اللهِ مُنْذُ مَضُوا

عَنْهَا اِسْتَطَارَتْ بِِمَنْ فِيهَا وَلَمْ تَقِرِ

كَانُوا مَصَابِيحَهَا دَهْرًا فَمُنْذُ خَبَوْا

صَارَ الْخَلِيقَةُ يَاللهِ فِي مَرَرِ

مَنْ لِي مَنْ بِهِمْ إِنْ أَظْلَمَتْ نُوبٌ

وَلَمْ يَكُنَ لَيلُهَا يُفْضِي إِلى سَحَرِ

مَنْ لِي وَلا مَنْ بِهِمْ إِنْ أَطْبَقَتْ مِحَنٌ

وَلَمْ يَكُنْ وِزْرُهَا يَدْعُو إِلى صَدَرِ

عَلَى الْفَضَائِلِ إِلا الصَّبْرُ بَعْدَهُمْ

سَلامُ مُرْتَقِبٍ لِلأَجْرِ مُنْتَظِرِ

يَرْجُو عَسَى وَلَهُ فِي أُخْتِهَا أَمَلٌ

وَالدَّهْرُ ذُو عَتَبٍ شَتَّى وَذُو غِيَرِ

رَرَّطْتُ آذَانَ مَنْ فِيهَا بِفَاضِحَةٍ

عَلَى الْحَِسانِ حَصَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرَرِ

سَيَّارَةٌ فِي أَقَاصِي الأَرْضِ قَاطِعَةً

شَقَاشِقاً هَدَرَتْ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ

مُطَاعَةُ الأَمْرِ فِي الأَلْبَابِ قَاضِيَةٌ

مِنَ الْمَسَامِعِ مَا لَمْ يُقْضَ مِنْ وَطَرِ

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْألُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، يَا أَرْأَفَ الرَّائِفِينَ، وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ.

موعظة:

عن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، أنه قال: سَمِعْتُ رسول الله ? يَقُولُ فِي خُطبة في أحد العيدين: «الدُّنْيَا دَارُ بَلاءٍ ومنزل قَلقٍ وعَناءٍ، وقد نَزَعَتْ عنها نفوسُ السُّعداء، وانتُزعت بالكُرْهِ مِنْ أَيْدي الأَشْقياء، فَأسْعَدُ النَّاس بها أَرْغَبُهُم عنها، وأشقاهُم بها أرغَبُهم فيها، هي الغاشَّةُ لمن انْتَصَحَها، وَالْمُغْوية لِمَنْ أَطَاعَهَا، وَالْخَاتِرَة لمن انقادَ لها. فالفائِز مَنْ أَعْرَضَ عنها، والهالكُ مَنْ رَاغِبٌ فِيهَا. طُوبى لِعَبْدٍ اتَّقى فيها رَبَّه، وناصَحَ نَفْسَه، وقدَّم توبَتَه، وَأَخَّرَ شَهْوَتَه مِنْ قبَل أَنْ تَلْفِظَه الدُّنْيَا إِلى الآخرة، فَيُصْبحَ فِي بَطْنِ مُوحِشَةٍ غَبراء، مُدْلَهِمَّةٍ ظلماء لا يستطيعُ

ص: 191

أن يَزِيدَ في حَسَنَة، وَلا يَنْقُصَ مِنْ سَيِّئَة، ثُمَّ يُنْشَرُ فَيُحْشَرُ إِمَّا إلى جَنَّةٍ يَدُومُ نَعِيمها، وَإِمَّا إِلى نَارٍ لا يَنْفَدُ عَذَابُها.

وعن ابن عمر رضي الله عنه أَنَّهُ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله يقول في خطبته: «يا أَيُّهَا النَّاس إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ دَارُ التواء لا دَارُ استواء، ومَنزل تَرَح، لا منزل فَرَح. مَنْ عَرَفَهَا لَمْ يَفْرَحِ لِرَخَاءٍ، وَلَمْ يحزَن لشقاء أَلا وَإِنَّ الله عز وجل خلَقَ َالدُّنْيَا دَارَ بَلْوَى، والآخرةَ دَارِ عُقْبَى فجعلَ بَلْوَى الدُّنْيَا لِثوابِ الآخرةِ

سَبَبًا وَثَوَابَ الآخرة مِنْ بَلْوَى الدُّنْيَا عِوَضًا، فيأخذ لِيُعْطي، وَيُبْتَلى لِيَجْزي. إِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ، وَشِيكَةُ الانْقِلاب، فاحْذَرُوا حَلاوَةَ رِضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا، وَاهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِها لِكَرِيهِ آجِلِهَا وَلا تَسْعَوا فِي عُمْرَانِ دَارٍ قَدْ قَضَى الله خَرَابَها وَلا تُوَاصِلُوهَا، وَقَدْ أَرَادَ الله مِنْكُمْ اجْتِنَابِهَا، فَتَكُونُوا لِسُخْطِهِ مُتَعَرِّضِينَ، وَلِعُقُوبَتِه مُسْتَحِقِّينَ.

هُوَ الْمَوْتُ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ لِهَارِبٍ

وَهَلْ هَرَبي يَوْمًا مِنْ اللَّيْلِ يَنْفَعُ

وَأَيُّ اجْتِمَاعِ لا يُبَدَّدُ شَمْلُهُ

وَأَيُّ فُؤَادٍ بِالرَّدَى لا يُرَوَّعُ

حَيَاتُكَ كَالأَضْغَاثِ وَالْحِلْم مُزْعِجٌ

وَيَعْقِبُهُ الْمَوْتُ الذِي لَيْسَ يُدْفَعُ

لَقَدْ جِئْتَ مُضْطرًا وَتَرْجَعُ كَارِهًا

وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَأْنًا مَجِيءٌ وَمَرْجِعُ

إِذَا اتَّسَخَ السِّربَالُ أَوْرَثَّ نَسْجُهُ

فَلا بُدَّ لِلسِّرْبَالِ بِالنَّزْعِ يُخْلَعُ

أَرَى الرُّوحَ تَأْوِي الْجِسْمَ مَا دَامَ عَامِرًا

وَتُخْلِيهِ مِنْ بَعْدِ إِنْهِيَارٍ وَتُقْلِعُ

إِذَا طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ طَالَ عَنَاؤُهُ

ص: 192

.. وَأَشْقَاهُ مِنْ أَحْبَابِهِ مَنْ يُوَدِّعُ

وَعَاثَتْ تَصَارِيفُ الزَّمَانِ بِجِسْمِهِ

فَفِي كُلِّ يَوْمٍ جَانِبٌ يَتَضَعْضَعُ

تَسَاقَطُ أَسْنَانٌ وَيَضْعَفُ نَاظِرٌ

وَتَقْصُرُ خُطْوَاتٌ وَيَثْقُلُ مَسْمَعُ

أَرَى الْوَقْتُ وَالدَّاءِ الْعُظَال يَلُوكُنَا

لِتَبْلَعَنَا الأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ تَشْبَعُ

نَوَائِبُهُ الأَنْيَابُ تَفْرِي قُلُوبَنَا

وَفِيهَا أَمَانِينَا سَرَابٌ مُشَعْشِعُ

وَمَاذَا يُرْجِي الْحَيُّ إِنْ جُذَّ أَصْلُهُ

وَشُذِّبَ عَنْهُ فَرْعُهُ الْمُتَفَرِّعُ

وَمَا عُذْرُ مَنْ تُؤْدِي اللَّيَالِي بِبَعْضِهِ

إِذَا كَانَ بِالدُّنْيَا يُغَزُّ وَيُخْدَعُ

وَلَمْ أَرَى كَالدُّنْيَا وَلَمْ أَرَى كَلْبَهَا

تَجُورُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِالأم مُولَعُ

إِذَا عَرَفَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ أَهَانَهَا

وَيَحْيَى حَيَاةَ الزَّاهِدِينَ وَيَقْنَعُ

تَوَالَتْ مَلايينُ الْمَلايينِ قَبْلَنَا

عَلَى سُنَنِ الأَجْيَالِ تَقْفُوا وَتَتْبَعُ

قَوَافِلُ يَحْدُوهَا الزَّمَانُ بِلَحْنِهِ

وَمَا لَحْنُهُ إِلا الأَنِينُ الْمُرَجَّعُ

ص: 193

.. أَرَى الْمَوْتَ لا يَثْنِيهِ نُبْلٌ وَسُؤْدَدُ

وَلا مَحْتَدٌ زَاكٍ وَشَأْن مُرفعُ

وَلا خُلُقٌ زَاكٍ وَلا عَبْقَرِيَّةٌ

وَهَلْ خَلْقٌ عِنْدَ الْمَنِيَّةِ يَشْفَعُ

وَمَا الْمَوْتُ إِلا قُوَّةٌ تَنْحَنِي لَهَا

ظُهُورُ جَمِيعُ الأَقْوِيَاءِ وَتَرْكَعُ

وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قِصَّةٌ لثابت بن قيس الأنصاري

هَوُ أَحَدُ السَّابِقِينَ إِلى الإِسْلامِ فِي يَثْرِبَ إِذْ مَا كَادَ يَسْتَمِعُ إِلى آيِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ يُرَتِّلها الدَّاعِيَةُ الْمَكَّيُّ الشَّابُّ مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ بِصَوْتِهِ الشَّجِيِّ وَجَرْسِهِ النَّدِيَّ حَتَّى أَسَرَ الْقُرْآنُ سَمْعَه بِحَلاوَةَ وَقْعِه، وَمَلَكَ قَلْبَهُ بَرَائِع بَيَانِهِ، وَخَلَبَ لُبَّهُ بِمَا حَفَلَ بِهِ مِنْ هَدْيٍ وَتَشْرِيع.

فَشَرَحَ اللهُ صَدْرَه للإِيمَانِ وَأَعْلَى قَدْرَهُ وَرَفَعَ ذِكْرَهُ بِالإِنْضِوَاءِ تَحْتَ لِوَاءِ نَبِيِّ الإِسْلامِ.

وَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ الله وَسَلامُه عَلَيْهِ إِلى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا اسْتَقْبَلَهُ ثَابِتُ بن قَيْسٍ فِي كَوْكَبَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ فُرْسَانِ قَوْمِهِ أَكْرَمَ اسْتِقْبَالٍ، وَرَحَّبَ بِهِ وَبِصَاحِبِهِ الصِّدِّيقْ أَجْمَلَ تَرْحِيبٍ وَخَطَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ خُطْبَةً بَلِيغَةً افْتَتَحَهَا بِحَمْدِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نَبِيِّه

وَاخْتَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:

(وَإِنَّا نُعَاهِدُكَ - يَا رَسُولُ اللهِ - عَلَى أَنْ نَمْنَعَكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَوْلادَنَا وَنِسَاءَنَا فَمَا لَنَا لِقَاءَ ذَلِكَ) ؟ .

فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:

((الْجَنَّةِ))

ص: 194

فَمَا كَادَتْ كَلِمَةُ «الْجَنَّةِ» تُصَافِحُ آذَانَ الْقَوْم حَتَّى أَشْرَقَتْ وجُوهُهم بِالْفَرْحَةِ وَزَهِتْ قَسَمَاتُهُمْ بِالْبَهْجَةِ، وَقَالُوا:

رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ

رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ

وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَعَلَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ ثَابِتَ بن قَيْسٍ خَطِيبَهُ، كَمَا كَانَ حَسَّانُ بِنْ ثَابِتٍ شَاعِرَه.

فَصَارَ إِذَا جَاءَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبَ لِتَفَاخِرَهُ أَوْ تُنَاظِرَهُ بِأَلْسِنَةِ الْفُصَحَاءِ الْمَقَاوِل مِنْ خُطَبَائِهَا وَشعرائِها نَدَبَ لَهُمْ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ لِمُصَاوَلَةِ الْخُطَبَاءِ وَحَسَّانَ بن ثَابِتٍ لِمُفَاخَرَةِ الشُّعَرَاءِ.

وَلَقَدْ كَانَ ثَابِتُ بن قَيْسٍ مُؤْمِنًا عَمِيقَ الإِيمَانِ تَقِيًّا صَادِقَ التَّقْوَى، شَدِيدَ الْخَشْيَةِ مِنْ رَبِّهِ، عَظِيمَ الْحَذَرِ مِنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ.

فلقد رآه رسولُ الله ? ذاتَ يومٍ هَلِعًا جَزِعًا ترتعِدَ فرائصُهُ خوفًا وخشية.

فقال: ((ما بكَ يا أبا محمد)) ؟!

فقال: أخْشَى أنْ أكونَ قَدْ هَلكتُ يا رسول الله

قال: ((وَلِمَ)) ؟!

قال: لقد نهانا الله جَلَّ وَعَزَّ عن أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَجِدُني أحبُّ الْحَمْدَ

ونهانا عن الْخُيلاءِ وأجِدُني أحبُّ الزَّهْوَ.

فَمَا زَالَ الرَّسُولُ صَلَواتُ الله وَسَلامُه عَلَيْهُ يُهدِّئ مِنْ رَوْعِه حَتَّى قَالَ: ((يَا ثَابِتُ، أَلا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا

وَتُقْتَلَ شَهِيدًا

وَتَدْخُلَ الْجَنَّة))

؟

فَأَشْرَقَ وَجْهُ ثَابِتٍ بِهَذِهِ الْبُشْرَى وَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ الله

بَلَى يَا رَسُولَ الله.

فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ لَكَ ذَلِكَ)) .

ص: 195

وَلَمَّا نَزَل قَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} .

تَجَنَّبَ ثَابِتُ بن قَيْسٍ مَجَالِسَ رَسُولِ الله ? - على الرَّغْمِ مِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ، وَفَرْطِ تَعَلُّقِهِ بِهِ -.

وَلَزِمَ بَيْتَه حَتَّى لا يَكَادُ يَبْرَحه إِلا لأَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ. فَافْتَقَدَه النَّبِيُّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: ((مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِهِ)) ؟

فَقَالَ رَجُلٌ مِن الأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. وَذَهَبَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي مَنْزِلِه مَحْزُونًا مُنْكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ . قَالَ: شَرٌّ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟! قَالَ: إِنَّكَ تَعْرِفُ أَنِّي رَجُلٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، وَأَنَّ صَوْتِي كَثِيرًا مَا يَعْلُو عَلَى صَوْتِ رَسُولِ اللهِ ? وَقَدْ نَزَلِ مِنْ الْقُرْآنِ مَا تَعْلَمُ، وَمَا أَحْسَبُنِي إِلا قَدْ حَبِطَ عَمَلِي وَأَنَّنِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلى الرَّسُولِ صَلَوَاتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَأَخْبرَهُ بِمَا رَأَى وَمَا سَمِعَ فَقَالَ:((اذْهَبْ إِلَيْهِ وَقُلْ لَهُ: لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) . فَكَانَتْ هَذِهِ بِشَارَةً عُظْمَى لِثَابِتٍ ظَلَّ يَرْجُو خَيْرَهَا طُوَالَ حَيَاتِه.

وَقَدْ شَهِدَ ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا سِوَى بَدْرٍ، وَأَقْحَمَ نَفْسَهُ فِي غِمَارِ الْمَعَارِكِ طَلِبًا لِلشَّهَادَةِ الَّتِي بِشَّرَهُ بِهَا النَّبِيِّ، فَكَانَ يخطِئُها فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَهِيَ قَابَ قَوْسَيْنَ مِنْهُ أَوْ أَدْنَى

إِلى أَنْ وَقَعَتْ حُرُوبُ الرِّدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابِ عَلَى عَهْدِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه.

وَلَقَدْ كَانْ ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ إِذْ ذَاكَ أَمِيرًا لِجُنْدِ الأَنْصَارِ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَمِيرًا لِجُنْدِ الْمُهَاجِرِينَ، وَخَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ قَائِدًا لِلْجَيْشِ كُلِّه: أَنْصَارِهِ وَمُهَاجِرِيه وَمَنْ فِيهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْبَوَادِي.

ص: 196

وَلَقَدْ كَانَتْ الرِّيحُ وَالدَّوْلَةُ فِي جُلِّ الْمَعَارِكِ لِمُسَيْلَمَةَ وَرِجَالِهِ عَلَى جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى بَلَغَ بِهِمْ الأَمْرُ أَن اقْتَحَمُوا فُسْطَاطَ خَالِد بن الْوَلِيدِ، وَهَمُّوا بِقَتْلِ زَوْجَتِهِ أُمُّ تَمِيمٍ، وَقَطَعُوا حِبَالَ الْفِسْطَاطِ وَمَزَّقُوه شَرَّ مُمَزِّقٍ.

فَرَأَى ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ يَوْمَذَاكَ مَنْ تَضَعْضُعِ الْمُسْلِمِينَ مَا شَحَنَ قَلْبَهُ أَسَىً وَكَمَدًا وَسَمِعَ مِنْ تَنَابُزِهِمْ مَا مَلأَ صَدْرَهُ هَمًّا وَغَمًّا

فَأَبْنَاءُ الْمُدُنِ يَرْمُونَ أَهْلَ الْبَوَادِي بِالْجُبْنِ، وَأَهْلِ الْبَوَادِي يَصفُونَ أَبْنَاءَ الْمُدُنِ بِأَنَّهُمْ لا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ وَلا يَدْرون مَا الْحَرْبُ

عِنْدَ ذَلِكَ تَحنَّط ثَابِتٌ وتكفَّنَ وَوَقَفَ عَلَى رؤوسِ الأَشْهَادِ.

وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ الله ?. بِئْسَ مَا عَوَّدَتم أَعْدَاءَكُم مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَيْكُمْ

وَبِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْ الانْخِذَالِ لَهُم

ثُمَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأَ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هُؤَلاءِ مِن الشِّرْكِ (يَعْنِي مُسَيْلَمَةَ وَقَوْمَه) . وَأَبْرَأَ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ (يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ) .

ثُمَّ هَبَّ هَبَّة الأَسَدِ الضَّارِي كَتِفًا لِكَتِفٍ مَع الْغُرِّ الميامين: الْبراءِ بن مَالِكٌ الأَنْصَارِي، وَزَيْدِ بن الْخَطَّابِ أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذََيْفَة، وَغَيْرِهم وَغَيْرِهم مِنْ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِين

وَأَبْلَى بَلاءً عَظِيمًا مَلأَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ حَمِيَّةً وَعَزْمًا، وَشحَنَ أَفْئِدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَهْنًا وَرُعْبًا.

وَمَا زَال يُجَالِدُ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ وَيُضَارِبُ بِكُلِّ سِلاحٍ حَتَّى أَثْخَنَتْه الْجِرَاحَ فَخَرَّ صَرِيعًا عَلَى أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ قَرِيرَ الْعَيْنِ بِمَا كَتَبَ الله لَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ الَّتِي بَشَّرَ بِهَا حَبِيبُه رَسُولُ اللهِ ?، مَثْلُوجَ الصَّدْرِ بِمَا حَقَّقَ الله على يَدَيْهِ

ص: 197

لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّصْرِ

وَكَانَتْ عَلَى ثَابِتٍ دِرْعٌ نَفِيسَةٌ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِين فَنَزَعَهَا عَنْهُ وَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ.

وَفِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ لاسْتِشْهَادِهِ رَآهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لِلرَّجُلُ: أنَاَ ثَابِتٍ بنُ قَيْسٍ، فَهَلْ عَرَفْتَنِي؟

فَقَالَ: إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلُمٌ فَتُضَيِّعَهَا

إِنِّي لَمَا قُتِلْتُ أَمْسٍ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صِفَتُه كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذَ دِرْعِي وَمَضَى بِهَا نَحْوَ خِبَائِهِ فِي أَقْصَى الْمُعَسْكَرِ مِنْ الْجِهَةِ الْفُلانِيَّةِ، وَوَضَعَهَا تَحْتَ قِدْرٍ لَهُ، وَوَضَعَ فَوْقَ الْقِدْرِ رَحْلاً فَائْتِ خَالِدَ بن الْوَلِيدَ وَقُلْ لَهُ: أَنْ يَبْعَثَ إِلى الرَّجُلِ مَنْ يَأْخُذُ الدِّرْعَ مِنْهُ فَهِيَ مَا تَزَالُ فِي مَكَانِهَا.

وأوصيكَ بِأُخْرَى، فَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلُمُ نَائِمٍ فَتُضَيِّعَهَا

قُلْ لِخَالِدٍ: إِذَا قَدِمْتَ عَلَى خَلِيفَة رَسُولِ اللهِ ? فِي الْمَدِينَةِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ عَلَى ثَابِتِ بن قَيْسٍ مِنْ الدَّيْنِ كَذَا وَكَذَا

وَإِنَّ فُلانًا وَفُلانًا مِنْ رَقِيقِهِ عَتِيقَان، فَلْيَقْضِ دِينِي وَلْيُحَرِّرْ غُلامَيَّ

فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، فَأَتَى خَالِدَ بن الْوَلِيدِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ وَمَا رَأَى

فَبَعَثَ خَالِدٌ من يُحْضِرُ الدِّرْعَ مِنْ عِنْدِ آخِذِهَا فَوَجَدَهَا فِي مَكَانِهَا وَجَاءَ بِهَا كَمَا هِيَ.

وَلَمَّا عَادَ خَالِدٌ إِلى الْمَدِينَةِ حَدَّثَ أَبَا بَكْر رضي الله عنه بِخَبَرِ ثَابِتِ بنِ قَيْسِ وَوَصِيَّتِهِ فَأَجَازَ الصِّدِّيقُ وَصيَّتَهُ وَمَا عُرِفَ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلا بَعْده أُجِيزَتْ وَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ سِوَاه.

ص: 198

اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِينَ وَأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ وَالْيَقِينَ وَخُصَّنَا مِنْكَ بِالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ الْبَاطِلِ وَابْتِدَاعِهِ وَكُنْ لَنَا مُؤَيِّدَا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عَلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَفَهْمًا ذَكِيًا وَطَبْعًا صَفِيًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قصة للنْعمان بنُ مقرِّنٍ الْمَزَنِيّ

كانت قبيلةُ مُزَينَةَ تَتَخِذوا منازلَها قَرِيبًا مِنْ يَثْرِبْ عَلَى الطَّرِيقِ الممتدة بين المدينةِ ومكة.

وكان الرسولُ صلواتُ الله وسلامُه عليه قد هاجرَ إلى المدينةِ، وَجَعَلَتْ أخبارُه تَصِلُ تِبَاعًا إِلى مُزَيْنَةَ مع الْغَادِينَ وَالرَّائِحينَ فَلا تسمعُ عَنْهُ إِلا خَيْرًا.

وفي ذاتِ عَشِيَّةٍ، جَلَسَ سِيِّدُ الْقَوْمِ، النعمانُ بن مقرِّنٍ الْمَزَنيُّ فِي ناديه مع إخوتِهِ وَمَشْيَخَةِ قَبِيلَتِهِ فَقَالَ لَهُمْ: يا قوم والله ما عَلِمْنا عن محمدٍ إِلا خيرًا، ولا سمعنا من دَعْوَتِهِ إِلا مَرْحَمَةً وَإِحْسَانًا وَعَدلاً، فَمَا بَالُنَا نُبْطئُ عنه والناسُ إليه يُسْرِعُون؟!

ثم أَتْبَعَ يقول: أَمَّا أَنَا فقد عَزَمْتُ عَلَى أَن أَغْدُو عَلَيْهِ، إِذَا أَصْبَحْتُ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ مَعِي فَلْيَتَجَهَّزْ.

وَكَأَنَّمَا مَسَّتْ كلماتُ النُّعْمَانِ وَتِرًا مُرْهَفًا في نفوسِ القوم، فما إن طَلَع الصباحُ حَتَّى وَجَدَ إِخْوَتَهُ الْعَشْرَةَ، وأربعمائة فارسٍ من فرسان مُزَيْنَةَ قَدْ جَهَّزوا أَنْفُسَهُمْ لِلْمُضِيِّ معه إلى يَثْرِبَ لِلِقَاءِ النَّبِيِّ صلواتُ الله وسلامهُ عليه، والدُّخُولِ في دينِ الله.

ص: 199

بَيْدَ أَنَّ النَّعْمَانَ اسْتَحْيَا أَنْ يَفِدَ مَعَ هَذَا الْجَمعِ الْحَاشِدِ عَلَى النَّبِيِّ ? دُونَ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ وَللمسلمين شيئًا في يده.

لَكِنَّ السَّنَةَ الشَّهْبَاءَ الْمُجْدِبَةِ الَّتِي مَرَّتْ بِهَا مُزَيْنَةُ لَمْ تَتْرُكْ لَهَا ضَرْعًا ولا زَرْعًا.

فطاف النُّعْمَانُ بِبَيْتِهِ وَبُيُوتِ إِخْوَتِهِ وَجَمَعَ كُلَّ مَا أَبْقَاهُ لَهُمْ الْقَحْطُ مِنْ غُنِيمَاتٍ وَسَاقَهَا أَمَامَهُ وَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ الله ?، وَأَعْلَنَ هُوَ وَمَنْ معه إسلامَهم بينَ يَدَيْهِ.

اهتَزَّتْ يثربُ من أقصاها إلى أقصاها فَرَحًا بالنُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ وَصَحْبِهِ، إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لِبَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْعَرَبِ أَنْ أَسْلَمَ مِنْهُ أَحَدَ عَشَرَ أَخًا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ ومعهم أربعُمائةِ فارس.

وَسُرَّ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ بِإسْلامِ النَّعْمَانِ أبلغَ السُّرورِ.

انْضَوَى النَّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ تَحْتَ رَايِةِ رَسُولِ اللهِ ?، وَشَهِدَ مَعَهُ غَزَوَاتِهِ كُلِّهَا غَيْرَ وَانٍ وَلا مُقَصِّرٍ.

وَلَمَّا أَلَتِ الْخِلافَةُ إِلى الصِّدِّيقَ وَقَفَ مَعَهُ هُوَ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي مُزَيْنَةَ وَقْفَةً حَازِمَةً كَانَ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي الْقَضَاءِ عَلَى فِتْنَةِ الرِّدَّةِ.

وَلَمَّا صَارَتِ الْخِلافَةُ إِلى الْفَارُوقِ كَانَ لِلنعمانِ بن مقرِّنٍ في عَهْدِهِ شَأْنٌ مَا يَزَالُ التَّارِيخُ يَذْكُرُهُ بِلِسَانٍ نَدِيٍّ بِالْحَمْدِ رَطِيبٍ بِالثَّنَاءِ.

فَقُبَيْلَ الْقَادِسِيَّةِ أَرْسَلَ سَعْدُ بن أَبِي وَقَّاصٍ قَائِدُ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ وَفْدًا إِلى كِسْرَى يَزْدَجُرْدَ بِرِئَاسَةِ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ لِيَدْعُوهُ إِلى الإِسْلامِ.

ص: 200

ولما بلغوا عاصمةَ كِسْرَى في المدائن استأذنوا بالدُّخولِ عليه فأَذِنَ لهم، ثم دَعا التَّرْجُمَانَ فَقَالَ لَهُ: سَلْهُمْ ما الذي جاءَ بِكم إِلى دِيَارِنَا وَأَغْرَاكُمْ بِغَزْوِنَا؟! لَعَلَّكُمْ طَمِعْتُمْ بِنَا وَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيْنَا لأَنَّنَا تَشَاغَلْنَا عنكم، ولم نَشَأْ أَنْ نَبْطِشَ بِكُمْ.

فالْتَفَتَ النَّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ إِلى مَنْ مَعَهُ وَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ أَجَبْتُهُ عَنْكُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ آثَرْتُهُ بِالْكلام.

فَقَالُوا: بَلْ تَكَلَّمْ، ثم الْتَفَتُوا إِلى كِسْرَى وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُل يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِنَا فَاسْتَمِعْ إِلى مَا يَقُول.

فَحَمِدَ النُّعْمَانُ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الله رَحِمَنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً يَدُلُّنَا عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمرُنَا بِهِ، وَيُعَرِّفُنَا الشَّرَّ وَيَنْهَانَا عَنْهُ. وَوَعَدَنَا - إِنْ أَجَبْنَاهُ إِلى مَا دَعَانَا إِلَيْهِ - أَنْ يُعْطِينَا الله خَيْرِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

فَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى بَدَّلَ الله ضِيقَنَا سِعَةً، وَذِلَّتَنَا عِزَّةً، وَعَدَاوَاتِنَا إِخَاءً وَمَرْحَمَةً.

وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَأَنْ نَبْدَأَ بِمَنْ يُجَاوِرُنَا. فَنَحْنُ نَدْعُوكُم إِلى الدُّخُولِ فِي دِينَنَا وَهُوَ دِينٌ حَسَّنَ الْحَسَنَ كُلَّهُ وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَقَبَّح الْقَبِيحَ كُلَّهُ وَحَذَّرَ مِنْهُ، يَنْقُلُ مُعْتَنِقِيهِ مِنْ ظَلامِ الْكُفْرِ وَجُورِه إِلى نُورِ الإِيمَانِ وَعَدْلِهِ.

فَإِنْ أَجْبُتُمونا إلى الإِسْلامِ خَلَّفَنَا فِيكُمْ كِتَابَ الله وَأَقَمْنَاكُمْ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ تَحْكُموا بِأَحْكَامِهِ، وَرَجَعْنَا عَنْكُمْ وَتَرَكْنَاكُمْ وَشَأْنَكم.

فَإِنْ أَبَيْتُمُ الدُّخُولَ فِي دِينِ اللهِ أَخَذْنَا مِنْكُمْ الْجِزْيَةَ وَحَمَيْنَاكُمْ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ حَارَبْنَاكُمْ.

ص: 201

فَاسْتَشَاطَ يَزْدَجُرْدُ غَضَبًا وَغَيْظًا مِمَّا سَمِعَ، وَقَالَ: إِنِّي لا أَعْلَمُ أُمَّةً فِي الأَرْضَ كَانَتْ أَشْقَى مِنْكُمْ وَلا أَقَلَّ عَدَدًا، وَلا أَشَدَّ فُرْقَةً، وَلا أَسْوَأُ حَالاً.

وَقَدْ كُنَّا نَكِلُ أَمْرَكُمْ إِلى وُلاةِ الضَّوَاحِي فَيَأْخُذُونَ لَنَا الطَّاعَةَ منكم

ثُمَّ خَفَّفَ شَيْئًا مِنْ حِدَّتِهِ وَقَالَ: فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ هِي الَّتِي دَفَعَتْكُمْ إِلى الْمَجِيءِ إِلَيْنَا أمَرْنَا لَكُمْ بِقُوتٍ إِلى أَنْ تُخْصِبَ دِيَارُكم، وَكَسَوْنَا سَادَتَكُمْ وَوُجوهَ قَوْمِكم، وَمَلَّكْنَا عَلَيْكُمْ مَلْكًا مِنْ قِبَلِنَا يَرْفِقُ بِكِمْ.

فَرَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْوَفْدِ رَدًّا أَشْعَلَ نَارَ غَضَبِهِ مِنْ جديدٍ فَقَالَ: لَوْلا أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ.

قُومُوا فَلَيْسَ لَكُمْ شَيْءٌ عِنْدِي، وَأَخْبِرُوا قَائِدَكُمْ أَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْهِ (رُسْتُمَ) حَتَّى يَدْفِنَهُ وَيَدْفِنَكُمْ مَعَهُ فِي خَنْدَقِ الْقَادِسِيَّةِ.

ثُمَّ أَمَرَ فَأُتِيَ لَهُ بِحِمْلِ تُرَابٍ وَقَالَ لِرِجَالِهِ: حَمِّلُوهُ عَلَى أَشْرَفِ هَؤُلاءِ وَسُوقُوهُ أَمَامَكم عَلَى مَرأىً مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ أَبْوَابِ عَاصِمَةِ مُلْكِنَا.

فَقَالُوا لِلْوَفْدِ: مَنْ أَشْرَفُكُمْ؟ فَبَادَرَ إِلَيْهِمْ عَاصِمُ بنُ عُمَرَ وَقَالَ: أَنَا فَحَمَّلُوهُ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَدَائِن، ثُمَّ حَمَّلَهُ عَلَى نَاقَتِهِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ لِسَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَبَشَّرَهُ بَأَنَّ الله سَيَفْتَحُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِيَارَ الْفُرْسِ وَيُمَلِّكُهُمْ تُرَابَ أَرضِهِم.

ثُمَّ وَقَعَتْ مَعْرَكَةُ الْقَادُسِيَّةِ، وَاكْتَظَّ خَنْدَقُهَا بِجُثَثِ آلافِ الْقَتْلَى، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ جُنُودِ كِسْرَى.

لَمْ يَسْتَكِنِ الْفُرْسُ لِهَزِيمَةِ الْقَادِسِيَّةِ، فَجَمَعُوا جُمُوعَهُمْ وَجَيَّشُوا جُيُوشَهمْ.

ص: 202

حَتَّى اكْتَمَلَ لَهُمْ مَائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا مِنْ أَشِدَّاءِ الْمُقَاتِلِينَ.

فَلَمَّا وَقَفَ الْفَارُوقُ عَلَى أَخْبَارِ هَذَا الْحَشْدِ الْعَظِيمِ، عَزَمَ عَلَى أَنْ يَمْضِي إِلى مُوَاجَهِةِ هَذَا الْخَطَرِ الْكَبِيرِ بِنَفْسِهِ.

وَلِكِنَّ وُجُوهَ الْمُسْلِمِينَ ثَنوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ قَائِدًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الأَمْرِ الْجَلِيل.

فَقَالَ عمرُ: أَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَجُلٍ أُوَلِّيهِ ذَلِكَ الثَّغْرَ.

فَقَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُ بِجُنْدِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

فَقَالَ: وَاللهِ لأُوَلِّيَنَّ عَلَى جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ رَجُلاً يَكُونُ - إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ - أَسْبَقَ مِنْ الأَسِنَّةِ، وَهُوَ النُّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ.

فَقَالُوا: هُوَ لَهَا.

فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُول:

مِنْ عَبْدِ الله عمَر بنِ الْخَطَّابِ إِلى النُّعْمَانِ بنِ مُقَرِّن.

أَمَّا بَعْد، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ جُمُوعًا مِن الأَعَاجِمِ، كَثِيرَةً قَدْ جَمَعوا لَكُمْ بِمَدِينَةِ (نَهَاوَنْد) فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَسِرْ بَأَمْرِ اللهِ، وَبِعَوْنِ اللهِ، وَبِنَصْرِ اللهِ بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا تُوطِئْهُمْ وَعْرًا فَتُؤْذِيهِمْ

فَإِنَّ رَجُلاً وَاحِدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ.

هَبَّ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ بِجَيْشِهِ لِلِقَاءِ الْعَدِوِّ، وَأَرْسَلَ أَمَامَهُ طَلائِعَ مِنْ فُرْسَانِهِ لِتَكْشِفَ لَهُ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْفُرْسَانُ مِنْ (نَهَاوَنْدَ) تَوَقَّفَتْ خُيُولَهُمْ، فَدَفَعُوهَا فَلَمْ تَنْدَفِعْ، فَنَزَلُوا عَنْ ظُهُورِهَا لِيعَرِفُوا الْخَبَرَ فَوَجَدُوا فِي حَوَافِرِ الْخَيْلِ شَظَايَا مِنْ الْحَدِيدِ تُشْبِهُ رُؤوسَ الْمَسَامِيرِ فَنَظَرُوا فِي الأَرْضِ فَإِذَا الْعَجَمُ قَدْ نَثَرُوا فِي الدُّرُوبِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلى (نَهَاوَنْدَ) حَسَكَ الْحَدِيدِ، لِيَعوقوا الْفُرْسَانَ وَالْمُشَاةَ عَنْ الْوُصُولِ إِلَيْهَا.

ص: 203

أَخْبَرَ الْفُرْسَانُ النُّعْمَانَ بِمَا رَأَوْا، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِرَأْيِهِ، فَأَمَرَهُمْ بَأَنْ يَقِفُوا فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَأَنْ يُوقِدُوا النِّيرَانَ فِي اللَّيْلِ لِيَرَاهُمُ الْعَدُوُّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَظَاهُرُونَ بِالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْهَزِيمَةِ أَمَامَه لِيُغْرُوهُ بِاللِّحَاقِ بِهِمْ وَإِزَالَةِ مَا زَرَعَهُ مِنْ حَسَكِ الْحَدِيدِ.

وَجَازَتْ الْحِيلَةُ عَلَى الْفُرْسِ، فَمَا إِنْ رَأَوْا طَلِيعةَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ تَمْضِي مُنْهَزِمَةً أَمَامَهُمْ حَتَّى أَرْسَلُوا عُمَّالَهُمْ فَكَنَسُوا الطُّرُيَق مِنَ الْحَسَكِ فَكَرَّ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَاحْتَلُّوا تِلْكَ الدُّرُوبَ.

عَسْكَرَ النُّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ بِحَيْشِهِ عَلَى مَشَارِفِ (نهاوند) وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يُبَاغِتَ عَدُوَّهُ بِالْهُجُومِ، فَقَالَ لِجُنُودِهِ: إِنِّي مُكَبَّرٌ ثَلاثًا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الأُولَى فَلْيَتَهَيَّأْ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَهَيَّأ، وَإِذَا كَبَّرْتَ الثَّانِيَةَ فَلْيَشْدُدْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ سِلاحَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا كَبَّرْتَ الثَّالِثَةَ، فَإِنِّي حَامِلٌ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ فاحْمِلُوا مَعِي.

كَبَّرَ النُّعْمَانُ بن مُقَرِّنٍ تَكْبِيرَاتِهِ الثَّلاثِ، وَانْدَفَعَ فِي صِفُوفِ الْعَدُوِّ كَأَنَّهُ الليثُ عَادِيًا، وَتَدَفَّقَ وَرَاءَهُ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ تَدَفُّقَ السَّيْلِ وَدَارَتْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ رَحَى مَعْرَكَةٍ ضَرُوسِ قَلَّمَا شَهِدَ تَارِيخُ الْحُرُوبِ لَهَا نَظِيرًا.

فَتَمَزَّقَ جَيْشُ الْفُرْسِ شَرَّ مُمَزَّقٍ وَمَلأَتْ قَتْلاهُ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ وَسَالَتْ دِمَاؤُهُ فِي الْمَمَرَّاتِ وَالدُّروبِ فَزَلِقَ جوادُ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ بِالدِّمَاءِ فَصُرِعَ وَأُصِيبَ النُّعْمَانُ نَفْسُه إِصَابَةً قَاتِلَةً، فَأَخَذَ أَخُوهُ اللواءَ مِنْ يَدِهِ، وَسَجَّاهُ بِبُرْدَةِ كَانَتْ مَعَهُ وَكَتَمَ أَمْرَ مَصْرَعِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَمَّا تَمَّ النَّصْرُ الْكَبِيرُ الذِي سَمَّاهُ الْمُسْلِمُونَ (فَتْحَ الْفُتُوح)

سَأَلَ الْجُنُودُ الْمُنْتَصِرُونَ عَنْ قَائِدِهِمْ الْبَاسِلِ النَّعْمَانِ بنِ مُقَرِّنٍ، فَرَفَعَ أَخُوهُ الْبُرْدَةَ عَنْهُ وَقَالَ: هَذَا أَمِيرُكُمْ، قَدْ أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ بِالْفَتْحِ، وَخَتَمَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ.

اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَعَمَلَنا مِن الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَأَعْيُنَنَا مِنْ الْخِيَانَةِ وَآذَانَنَا عَنْ الاسْتِمَاعِ إِلى مَا لا يُرْضِيكَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ

ص: 204

وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(وداع راحل)

أَهَاجَكَ الوجد أَمْ شَاقَتْكَ آثَارُ

كَانَتْ مَغَانِي نِعْمَ الأَهْلُ وَالدَّارُ

وَمَا لِعَيْنِكَ تَبْكِي حُرْقَةً وَأَسَى

وَمَا لِقَلِبْكَ قَدْ ضَجَّتْ بِهِ النَّارُ؟

عَلَى الأَحِبَّةِ تَبْكِي أَمْ عَلَى طَلَلٍ

لَمْ يَبْقَ فِيهِ أَحِبَّاءٌ وَسُمَّارُ؟

وَهَلْ مِن الدَّهْرِ تَشْكُو سُوءَ عِشْرَتِهِ

لَمْ يُوفِ عَهْدًا وَلَمْ يَهْدَأْ لَهُ ثَارُ؟

هَيْهَاتَ يَا صَاحِبِي آسَىَ عَلَى زَمَنٍ

سَادَ الْعَبِيدُ بِهِ وَاقْتِيدَ أَحْرَارُ

أَوْ أَذْرِفُ الدَّمْعَ فِي حُبِّ يُفَارُقِنِي

أَوْ فِي اللَّذَائِذِ وَالآمَالُ تَنْهَارُ

فَمَا سَبَتْنِيَ قَبْلَ الْيَوْمِ غَانِيَةٌ

وَلا دَعَانِي إِلى الْفَحْشَاءِ فُجَّارُ

أَمَتُّ فِي اللهِ نَفْسًا لا تُطَاوِعُنِي

فِي الْمَكْرُمَاتِ لَهَا فِي الشَّرِّ إِضْرَارُ

وَبِعْتُ فِي اللهِ دُنْيًا لا يَسُودُ بِهَا

حَقٌّ وَلا قَادَهَا فِي الْحُكْمِ أَبْرَارُ

وَإِنَّمَا حُزْنِي فِي صِبْيَةٍ دَرَجُوا

غُفْلٍ عَنْ الشَّرِّ لَمْ يُوقَدْ لَهُمْ نَارُ

قَدْ كُنْتُ أَرْجُو زَمَانًا أَنْ أَقُودَهُمُ

لِلْمَكْرُمَاتِ فَلا ظُلْمٌ وَلا عَارُ

وَالآنَ قَدْ سَارَعَتْ دَرْبِي إِلى كَفَنٍ

يَوْمًا سَيَلْبَسُهُ بَرَّ وَجَبَّارُ

بِاللهِ يَا صِبْيَتِي لا تَهْلِكُوا جَزَعًا

عَلَى أَبِيكُمْ طَرِيقُ الْمَوْتِ أَقْدَرُ

تَرَكْتُكُمْ فِي حِمَى الرَّحْمَنِ يَكْلَؤُكم

مَنْ يَهْدِهِ اللهُ لا يُوبِقُهُ أَوْزَارُ

وَأَنْتُم يَا أُهَيْلَ الْحَيِّ صِبْيَتُكُمْ

أَمَانَةُ عِنْدَكُمْ هَلْ يُهْمَلُ الْجَارُ؟

أَفْدِي بِنَفْسِيَ أُمًا لا يُفَارِقُهَا

هُمُّ وَتَنْهَارُ حُزْنًا حِينَ أَنْهَارُ

فَكَيْفَ تَسْكُنُ بَعْدَ الْيَوْمِ مِنْ شَجَنٍ

يَا لَوْعَةَ الثُّكْلِ مَا فِي الدَّارِ دَيَّارُ

وَزَوْجَةً مَنَحَتْنِي كُلَّ مَا مَلَكَتْ

مِنْ صَادِقِ الْوِدِّ: تَحْنَانٌ وَإِيثَارً

عِشْنَا زَمَانًا هَنِيًّا مِنْ تَوَاصُلُنَا

فَكَمْ يُؤَرّقُ بَعْدَ الْعِزِّ إِدْبَارُ

ص: 205