المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(قصيدة في غربة الإسلام

اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الأبرار وآتنا في الدنيا حسنه وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

‌(قصيدة في غربة الإسلام

وإهمال نصره)

(ممن ينتسب إليه)

لَهْفِي عَلَى الإِسْلامِ مِنْ أَشْيَاعِهِ

لَهْفِي عَلَى الْقُرْآنِ وَالإِيمَانِ

لَهْفِي عَلَيْهِ تَنَكَّرَتْ أَعْلامُهُ

إِلا عَلَى الْخِرِّيتِ فِي ذَا الشَّانِ

لَهْفِي عَلَيْهِ أَصْبَحَتْ أَنْوَارُهُ

مَحْجُوبَةً عَنْ سَالِكٍ حَيْرَانِ

لَهْفِي عَلَيْهِ أَصْبَحَتْ أَنْصَارُهُ

فِي قِلَّةٍ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ

لَهْفِي عَلَيْهِ أَهْلُهُ فِي غُرْبَةٍ

أَضْحَوْا وَهُمْ فِي الأَهْلِ وَالأَوْطَانِ

لَهْفِي عَلَيْهِمْ أَصْبَحُوا فِي ضَيْعَةٍ

أَنْوَارُهُمْ تَخْفَى عَلَى الْعُمْيَانِ

لَهْفِي عَلَيْهِمْ كَمْ لَنَا قَدْ أَخْلَصُوا

فِي النُّصْحِ لَوْ كَانَتْ لَنَا أُذُنَانِ

لَهْفِي عَلَى مَنْ يَجْلِبُونَ عَلَيْهِمُوا

بِالنُّصْحِ كُلِّ أَذَىً وَكُلَّ هَوَانِ

ص: 571

لَهْفِي عَلَى مَنْ هُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى

مَا بَيْنَنَا لَوْ تُبْصِرُ الْعَيْنَانِ

لَهْفِي عَلَيْهِمْ أُوجِدُوا فِي أُمَّةٍ

قَنِعَتْ مِن الإِسْلامِ بِالْعُنْوَانِ

لا يُعْرَفُ الْمَعْرُوفُ فِيمَا بَيْنَنَا

وَالنَّكْرُ مَأْلُوفٌ بِلا نُكْرَانِ

خَذَلَتْ ذَوِي النُّصْحِ الصَّحِيحِ وَأَصْبَحَتْ

عَوْنًا لِكُلِّ مُضَلَّلٍ فَتَّانِ

يَا وَيْحَ قَوْمٍ لا يُمَيِّزُ جُلُّهُمْ

ذَا الْحَقِّ مِنْ ذِي دَعْوَةِ الْبُطْلانِ

فَتَصَدَّرَ الْجُهَّالُ وَالضَّلالُ فِيـ

ـهِمْ بِادِّعَاءِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ

مِنْ كُلِّ مَنْ يَخْتَالُ فِي فَضَاضِهِ

فَدْمٌ ثَقِيلٌ وَاسِعُ الأَرْدَانِ

مُتَقَمِّشٌ مِنْ هَذِهِ الأَوْضَاعِ وَالْـ

أَرَاءِ إِمَّعَةٌ بِلا فُرْقَانِ

يُبْدِي التَّمَشْدُقَ فِي الْمَحَافِلِ كَيْ يُرَى

للنَّاسِ ذَا عِلْمٍ وَذَا إِتْقَانِ

تَبًّا لَهُ مِنْ جَاهِلٍ مُتَعَالِمٍ

مُتَسَلِّطٍ بِوِلايَةِ السُّلْطَانِ

رَفَعَتْ خَسِيسَتَهُ الْمَنَاصِبُ فَازْدَرَى

ص: 572

.. أَهْلَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَالإِيمَانِ

لَيْسَ التَّرَفُّعُ بِالْمَنَاصِبِ رِفْعَةً

بِالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى عُلُّو الشَّانِ

تَرَكَ الْمَنَابِرَ مَنْ يَقُومُ بِحَقِّهَا

مِنْ كُلِّ ذِي لَسْنٍ وَذِي عِرْفَانِ

وَنَزَا عَلَيْهَا سَفْلَةٌ يَا لَيْتَهُمْ

قَدْ أُدْرِجُوا مِنْ قَبْلُ فِي الأَكْفَانِ

خَطَبُوا التَّفَرُّقَ فَوْقَهَا وَلَطَالمَا

خُطِبَتْ عَلَيْهَا إِلْفَةُ الإِخْوَانِ

كَمْ يَأْمُرُونَ بِمُحْدَثاتٍ فَوْقَهَا

تَقْضِي عَلَى سُنَنٍ سُنِنَّ حِسَانِ

تَبْكِي الْمَنَابِرُ مِنْهُمُوا وَتَوَدُّ لَوْ

تَنْدَكُّ تَحْتَهُمُوا إِلَى الأَرْكَانِ

مَا عِنْدَهُمْ بِالأَمْرِ الأَوَّلِ خِبْرَةُ

بَلْ نَقْلُ آرَاءٍ أَوْ اسْتِحْسَانِ

ثَكِلَتْهُمْ الآبَاءُ إِنَّ حَيَاتَهُمْ

مَوْتٌ لِسُنَّةِ خَاتَمِ الأَدْيَانِ

جَهِلُوا كِتَابَ اللهِ وَهُوَ نَجَاتُهُمْ

وَهُدَى النَّبِي مُبَيِّنِ الْقُرْآنِ

وَجَفَوْا مَنَاهِجَ خَيْرِ أَسْلافٍ لَهُمْ

فِي التَّعْلِمِ وَالتَّقْوَى وَفِي الإِتْقَانِ

ص: 573

.. لا يَرْجِعُونَ لآيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ

أَوْ سِيرَةِ الْمَاضِينَ بِالإِحْسَانِ

بَلْ يَرْجِعُونَ لِرَأْيِ مَنْ أَلْقَوْا لَهُمْ

بِأَزِمَّةِ التَّقْلِيدِ وَالأَرْسَانِ

وَكَذَاكَ يَرْجِعُ مَنْ تَصَوَّفَ فِيهِمُوا

لذَّوْقِ أَوْ لِتَخَيُّلٍ شَيْطَانِي

فَالأَوَّلُونَ أَتَوْا بِأَحْكَامٍ لَنَا

فِيهَا مُخَالِفُ سُنَّةٍ وَقُرْآنِ

وَالآخَرُونَ أَتُوا لَنَا بِطَرَائِقٍ

غَيْرَ الطَّرِيقِ الأَقْوَمِ الْقُرْآنِي

وَمُحَصَّلُ الطُّرُقِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا

أَوْضَاعُ سُوءٍ رَدَّهَا الْوَحْيَانِ

وَكَذا رُؤُوسُهُمُ الطُّغَاةُ فَإِنَّهُمْ

لَمْ يَرْفَعُوا رَأْسًا بِذَا الْفُرْقَانِ

مَا حَكَّمُوا فِيهِمْ شَرَائِعَ دِينِهِمْ

وَالْعَدْلُ فِيهَا قَائِمُ الأَرْكَانِ

بَلْ حَكَّمُوا فِي النَّاسِ آراءً لَهُمْ

مِنْ وَحْيِ شَيْطَانٍ أَخِي طُغْيَانِ

وَيْحَ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَشَايِخِ جُبَّةٍ

وَاللابِسِينَ لَنَا مُسُوكَ الضَّانِ

غَزَوا الْوَرَى بِالزِّيِ وَالسَّمْتِ الَّذِي

ص: 574

.. يُخْفِي مَخَازِي الْجَهْلِ وَالْعِصْيَانِ

وَرُؤُوسُ سُوءٍ لا اهْتِمَامَ بِهِمْ بِدِيـ

نٍ قَامَ أَوْ قَدْ خَرَّ لِلأَذْقَانِ

وَلَرُبَّمَا أَبْدَوْا عِنَايَتَهُمْ بِهِ

بِسِيَاسَةٍ تَخْفَى عَلَى الإِنْسَانِ

تَعْسًا لِمَنْ أَضْحَى يُتَابِعُ قَوْلَ مَنْ

بَخَسَ الْهُدَى وَمَزِيَّةَ الأَذْهَانِ

تَرَكُوا هِدَايَةِ رَبِّهِمْ وَرَسُولِهِمْ

هَذَا وَرَبِّكَ غَايَةَ الْخُذْلانِ

حُرِمُوا هِدَايَةَ دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ

هَذَا وَرَبِّكَ غَايَةَ الْخُسْرَانِ

تَرَكُوا هِدَايَةَ رَبِّهِمْ فَإِذَا بِهِمْ

غَرْقَى مِن الآرَاءِ فِي طُوفَانِ

وَتَفَرَّقُوا شِيَعًا بِهَا عَنْ نَهْجِهِ

مِنْ أَجْلِهَا صَارُوا إِلَى شَنْآنِ

كُلٌّ يَرَى رَأْيًا وَيَنْصُرُ قَوْلَهُ

وَلَهُ يُعَادِي سَائِرَ الإِخْوَانِ

وَلَوْ أَنَّهُمْ عِنْدَ التَّنَازُعِ وُفِقُوا

لَتَحَاكَمُوا للهِ دُونَ تَوَانِ

وَلأَصْبَحُوا بَعْدَ الْخِصَامِ أَحِبَّةً

غَيْظَ الْعِدَا وَمَذَلَّةَ الشَّيْطَانِ

ص: 575

.. لَكِنَّهُمْ إِذْ آثَرُوا وَادِي تَخَيَّـ

ـيَبَ أَصْبَحُوا أَعْدَاءَ هَذَا الشَّانِ

فَالْمُقْتَدِي بِالْوَحْيِ فِي أَعْمَالِهِ

يَلْقَى الأَذَى مِنْهُمْ وَكُلَّ هَوَانِ

لِعُدُولِهِ عَنْ أَخْذِهِ بِمَذَاهِبِ

فِي الرَّأْيِ مَا قَامَتْ عَلَى بُرْهَانِ

جَعَلُوا مَذَاهِبَهُمْ مُسَيْطَرَةً عَلَى

فَهْمِ الْحَدِيثِ وَمَنْزِلِ الْقُرْآنِ

ذَادُوا ذَوِي الأَلْبَابِ عَنْ فِقْهِ الْكِتا

بِ وَفِقْهِ سُنَّةِ صَاحِبِ التِّبْيَانِ

وَغَدَتْ شَرِيعَتُنَا بِمُوجَبِ قَوْلِهِمْ

مَنْسُوخَةٌ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ

حَجَبُوا مَحَاسِنَهَا بِتَأْوِيلاتِهِمْ

فَغَدَتْ مِن الآرَاءِ فِي خُلْقَانِ

وَلَوْ أَنَّهَا بَرَزَتْ مُجَرَّدَةً لَهَا

مَ الأَذْكِيَاءُ بِحُسْنِهَا الْفَتَّانِ

لَكِنَّهُمْ قَامُوا حَوَائِلَ دُونَهَا

كَالأَوْصِيَاءِ لِقَاصِرِ الصِّبْيَانِ

مَا عِنْدَهُمْ عِنْدَ التَّنَاظُرِ حُجَّةٌ

أَنَّى بِهَا لِمُقَلِّدِ حَيْرَانِ

لا يَفْزَعُونَ إِلَى الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا

ص: 576

.. فِي الْعَجْزِ مَفْزَعُهُمْ إِلَى السُّلْطَانِ

لا عُجْبَ إِذْ ضَلُّوا هِدَايَةَ دِينِهِمْ

أَنْ يَرْجِعُوا لِلْجَهْلِ وَالْعِصْيَانِ

هَا قَدْ غَلَوْا فِي الأَوْلِيَاءِ وَقُبُورُهُمْ

أَضْحَتْ يُحَجُّ لَهَا مِن الْبُلْدَانِ

وَبَنَوْا عَلَى تِلْكَ الْقُبُورِ مَسَاجِدًا

وَالنَّصُّ جَاءَ لَهُمْ بِلَعْنِ الْبَانِي

وَكَذَاكَ قَدْ صَنَعُوا لَهَا الأَقْفَاصَ تُو

ضَعُ فَوْقَهَا فِي غَايَةِ الإِتْقَانِ

يَكْسُونَهَا بِمَطَارِفٍ مَنْقُوشَةٍ

قَدْ كَلَّفَتْهُمْ بَاهِظَ الأَثْمَانِ

بَلْ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ تَلْقَى نُصْبَهُ

قَدْ عَمَّمُوهَا عِمَّةَ الشَّيْخَانِ

وَلَسَوْفَ إِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِمْ تَرَى

وَلَهَا يَدَانِ تَلِيهِمَا الرِّجْلانِ

وَدَعَوْهُمُوا شُفَعَاءَهُمْ أَيْضًا كَمَا

قَدْ كَانَ يَزْعُمُ عَابِدُو الأَوْثَانِ

وَتَقَرَّبُوا لَهُمُوا بِتَسْيِيبِ السِّوَا

ثِبِ وَالنُّذُورِ وَسَائِرِ الْقُرْبَانِ

وَتَمَسَّحُوا بِقُبُورِهِمْ وَسُتُورِهِمْ

وَكَذَاكَ بِالأَقْفَاصِ وَالْجُدْرَانِ

ص: 577

.. وَإِذَا رَأَيْتَهُمُوا هُنَاكَ تَرَاهُمُوا

مُتَخَشِّعِينَ كَأَخْبَثِ الْعُبْدَانِ

مَا عِنْدَهُمْ هَذَا الْخُشُوعُ إِذَا هُمُوا

صَلَّوْا لِرَبِّهِمْ الْعَظِيمِ الشَّانِ

وَاسْتَنْجَدُوا بِهِمُوا لِمَا قَدْ نَابَهُمْ

نَاسِينَ فَاطِرَ هَذِهِ الأَكْوَانِ

وَدَعَوْهُمُوا بَرًّا وَبَحْرًا لا كَمَنْ

خَصُّوا الدُّعَاءَ بِرَبِّهِمْ فِي الثَّانِي

فَهُمُوا بِهَذَا الْوَجْهِ قَدْ زَادُوا عَلَى

مَنْ أَشْرَكُوا فِي غَابِرِ الأَزْمَانِ

تَرَكُوا دُعَاءَ الْحَيِّ جل جلاله

لِدُعَاءِ أَمْوَاتٍ بِلا حُسْبَانِ

وَإِلَيْهِمُوا جَعَلُوا التَّصَرُّفَ فِي الْوَرَى

فَهُمُوا مُغِيثُ السَّائِلِ الْحَيْرَانِ

فَكَأَنَّهُمْ أَرْجَى لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ

وَعَلَيْهِمُوا أَحْنَى مِنَ الرَّحْمَنِ

وَكَأَنَّهُمْ وُكَلاؤُهُ فِي خَلْقِهِ

سُبْحَانَهُ عَنْ إِفْكِ ذِي بُهْتَانِ

وَكَأَنَّهُمْ حُجَّابُ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ

هُمْ قَاسِمُوهَا بَيْنَهُمْ بِوِزَانِ

يَا قَوْمُ لا غَوْثٌ يَكُونُ مُغِيثُكُمْ

ص: 578

.. إِنَّ الْمُغِيثَ اللهُ لِلإِنْسَانِ

يَا قَوْمُ فَأدْعُو اللهَ لا تَدْعُوا الْوَرَى

أَنْتُمْ وَهُمْ بِالْفَقْرِ مَوْسُومَانِ

مَا بَالُكُمْ لَمْ تُخْلِصُوا تَوْحِيدَكُمْ

تَوْحِيدُكُمْ وَالشِّرْكُ مُقْتَرَنَانِ

هَا أَنْتُمُوا أَشْبَهْتُمُوا مَنْ قَبْلَكُمْ

فِي شِرْكِهِمْ بِعِبَادَةِ الدَّيَّانِ

إِنْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ لا يُسْمَوْنَهُ

بِعِبَادَةِ فَهِيَ اسْمُهُ الْقُرْآنِي

مَعْنَى الْعِبَادَةِ ثَابِتٌ مُتَحَقَّقٌ

فِي فِعْلِكُمْ شَرْعًا وَعُرْفِ لِسَانِ

إِنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ بَلْ مُخُّهَا

قَدْ قَالَ ذَا مَنْ جَاءَ بِالْفُرْقَانِ

فَإِذَا زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُكُمْ

تَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَى الرَّحْمَنِ

فَالْجَاهِلِيَّةُ كَانَ هَذَا زَعْمُهُمْ

أَيْضًا وَقَدْ نُسِبُوا إِلَى الْكُفْرَانِ

مَا كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَعْتَقِدُونَهُمْ

خَلَقُوا هُمُوا يَا جَاهِلَ الْقُرْآنِ

وَاللهُ مَا شَرَعَ التَّوَسَّلَ لِلْوَرَى

إِلا بِطَاعَتِهِ مَعَ الإِيمَانِ

ص: 579

.. وَالْفِعْلِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ حَتَّى يَجِي

أَمْرٌ بِهِ شَرْعًا إِلَى الإِنْسَانِ

وَالْعَامِلُونَ عَلَى وِفَاقِ الأَمْرِ لا

يَعْدُونَهُ بِالزَّيْدِ وَالنُّقْصَانِ

وَالْعَامِلُونَ بِمُقْتَضَى أَهْوَائِهِمْ

هُمْ مُؤْثِرُونَ لِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ

هَلْ مَا فَعَلْتُمْ جَاءَكُمْ أَمْرٌ بِهِ

مِنْ رَبِّكُمْ عَنْ صَاحِبِ التِّبْيَانِ

أَوْ هَلْ أَتَى مِنْ قُدْوَةٍ فِي الدِّينِ مِنْ

صَحْبِ النَّبِي وَتَابِعِ الإِحْسَانِ

وَهُنَا لَكُمْ عِنْدِي نَصِيحَةُ مُخْلِصٍ

لا يَمْتَرِي فِيمَا يَقُولُ اثْنَانِ

أَنْ تَأْخُذُوا بِالاحْتِيَاطِ لأَمْرِكُمْ

قَبْلَ الْخُلُودِ بِمَوْقِدِ النِّيرَانِ

إِنْ كَانَ مَا تَأْتُونَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ

وَالشِّرْكُ مَخْشِيٌّ لَدَى الإتْيَانِ

فَالابْتِعَادُ عَنْ الْمَخُوفِ مُقَدَّمٌ

عَقْلاً عَلَى الأَقْدَامِ لِلإِنْسَانِ

خاتمة ونداء للعلماء

يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ لَبُّوا دَعْوَةً

تُعْلِي مَقَامَكُوا عَلَى كِيوَانِ

ص: 580

.. يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ هُبُّوا هَبَّةً

قَدْ طَالَ نَوْمَكُو إِلَى ذَا الآنِ

يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ قُومُوا قَوْمَةً

للهِ تُعْلِي كِلْمَةَ الإِيمَانِ

يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ عَزْمَةَ صَادِقٍ

مُتَجَرِّدٍ للهِ غَيْرَ جَبَانِ

يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْتُمْ مُلْتَجَا

لِلدِّينِ عِنْدَ تَفَاقُمِ الْحَدَثَانِ

يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ كُونُوا قُدْوَةً

لِلنَّاسِ فِي الإِسْلامِ وَالإِحْسَانِ

يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْتُمْ حُجَّةٌ

لِلنَّاسِ فَادْعُوهُمْ إِلَى الْقُرْآنِ

يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إِنَّ سُكُوتَكُمْ

مِنْ حُجَّةِ الْجُهَّالِ كُلَّ زَمَانِ

يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ لا تَتَخَاذَلُوا

وَتَعَاوَنُوا فِي الْحَقِّ لا الْعُدْوَانِ

وَتَجَرَّدُوا للهِ مِنْ أَهْوَائِكُمْ

وَدَعُوا التَّنَافُسَ فِي الْحُطَامِ الْفَانِي

وَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا أَنْ تَنْصُرُوا

مُتَعَاضِدِينَ شَرِيعَةَ الرَّحْمَنِ

كُونُوا بِحَيْثُ يَكُونُ نَصْبَ عُيُونِكُمْ

ص: 581

.. نَصْرُ الْكِتَابِ وَسُنَّةُ الإِيمَانِ

قَدْ فَرَّقَتْنَا كَثْرَةُ الآرَاءِ إِذْ

صِرْنَا نُشَايِعُهَا بِلا بُرْهَانِ

وَمِنْ أَجْلِهَا صِرْنَا يُعَادِي بَعْضُنَا

بَعْضًا بِلا حَقٍّ وَلا مِيزَانِ

وَغَدَتْ أُخُوَّةُ دِينِنَا مَقْطُوعَةً

وَالظُّلْمُ مَعْرُوفٌ عَنِ الإِنْسَانِ

وَاللهُ أَلَّفَ بَيْنَنَا فِي دِينِهِ

وَعَلَى التَّفَرُّقِ عَابَ فِي الْقُرْآنِ

عُودُوا بِنَا لِسَمَاحَةِ الدِّينِ الَّذِي

كُنَّا بِهِ فِي عِزَّةٍ وَصِيَانِ

عُودُوا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهُدَى

أَسْلافُكُمْ فِي سَالِفِ الأَزْمَانِ

فَإِلَيْكُمُوا تَتَطَلَّعُ الأَنْظَارُ فِي

تَوْحِيدِ كِلْمَتِنَا عَلَى الإِيمَانِ

فَاللهُ يَنْصُرُ مَنْ يَقُومُ بِنَصْرِهِ

وَاللهُ يَخْذُلُ نَاصِرَ الشَّيْطَانِ

اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك مناهج المتقين، وخصنا بالتوفيق المبين واجعلنا بفضلك من المقربين الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ اللَّهُمَّ ارزقنا حبِكَ وحب من يحبِكَ وحب العمل الَّذِي يقربنا إلى حبِكَ وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بحقك وخلصنا من حقوق خلقك ورضنا باليسير من رزقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه

ص: 582

راج، يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ماسألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ) وَقَالَ الإمام ابن حزم: رهان ضروري لمن تدبره حسي لا محيد عنه وهو أن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أتى إلى قوم لقاح لا يطيعون لأحد ولا ينقادون لرئيس نشأ هذا آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم منذ ألوف منذ ألوف من الأعوام قد سرى الفخر والعز والنخوة والكبر والظلم والأنفة في طباعهم وهم أعداد عظيمة ملأوا جزيرة العرب وهي نحو شهرين في شهرين قد صارت طباعهم طباع السباع وهم ألوف الألوف قبائل وعشائر يتعصب بعضهم لبعض أبداً فدعاهم بلا مالٍ ولا أتباع – بل خذله قومه إلى أن ينحطوا من ذلك العز إلى غرم الزكاة.

ومن الحرية والظلم إلى جزي الأحكام عليهم ومن طول الأيدي يقتل من أحبوا وأخذ مال من أحبوا إلى القصاص من النفس ومن قطع الأعظاء ومن اللطمة من أجل من فيهم لأقل علج فغريب دخل فيهم وإلى إسقاط الأنفة والفخر إلى ضرب الظهور بالسياط وبالنعال إن شربوا خمراً أو قذفوا إنساناً.

وإلى الضرب بالسوط والرجم بالحجارة إلى أن يموتوا إن زنوا فانقاد أكثرهم لكل ذلك طوعًا بلا طمع ولا غليبة ولا خوف ما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة وخيبر فقط وما غزا قط غزوة يقاتل فيها إلا تسع غزوات بعضها له. فصح ضرورة أنهم إنما آمنوا طوعاً لا كرهاً.

ص: 583

وتبدلت طبائعهم بقدرة الله تعالى من الظلم إلى العدل ومن الجهل إلى العلم ومن الفسق والقسوة إلى العدل العظيم الَّذِي لم يبلغه أكابر الفلاسفة وأسقطوا كلهم أولهم عن آخرهم طلب الثأر وصحب الرجل منهم قاتلَ ابنه وأبيه وأعدى الناس له صحبة الأخوة المتحابين دون خوف يجمعهم ولا رياسة ينفردون بها دون من أسلم من غيرهم ولا مال يتعجلونه فقد علم الناس كيف كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكيف كانت طاعة العرب لهما بلا رزق ولا عطاء ولا غلبة.

فهل هذا إلا بغلبة من الله تعالى نفوسهم كما قَالَ {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} ثم بقي عليه الصلاة والسلام كذلك بين أظهرهم بلا حارس ولا ديوان جند ولا بيت مال محروساً معصوماً.

وَقَالَ ابن حزم رحمه الله أيضاً قبل ذلك: كانت العرب بلا خلاف قوماً لقاحاً لا يملكهم أحد كمضر وربيعة وإياد وقضاعة أو ملوكاً في بلادهم يتوارثون الملك كابراً عن كابر كملوك اليمن وعمان وشهر بن آرام ملك صنعا والمنذر بن ساوي ملك البحرين والنجاشي ملك الحبشة وجيفر وعياذ ابني الجلندي وملكي عمان فانقادوا كلهم لظهور الحق وبهوره وآمنوا به صلى الله عليه وسلم طوعاً وهم آلاف آلاف وصاروا إخوة كبني أب وأم وانحل كل من أمكنه الانحلال عن ملكه منهم إلى رسله طوعاً بلا خوف غزو ولا إعطاء مالٍ ولا طمع في عز بل كلهم أقوى جيشاً من جيشه وأكثر مالاً وسلاحاً منه وأوسع بلداً من بلده كذي الكلاع وكان ملكاً ابن ملوك متوجين تسجد له جميع رعيته يركب أمامه

ص: 584

ألف عبد من عبيدِهِ سوى بني عمه من حمير وذي ظليم وذي زود وذي مران وذي عمرو وغيرهم كلهم ملوك متوجون في بلادهم.

هذا كله أمر لا يجهله أحد من حملة الأخبار بل هو منقول كنقل كون بلادهم في مواضعها وهكذا كان إسلام جميع العرب أولاهم كالأوس والخزرج ثم سائرهم قبيلة إنما ثبت عندهم من آياته وبهرهم من معجزاته وما اتبعه الأوس والخزرج إلا وهو فريد نابذه قومه حسداً له.

إذ كان فقيراً يتيماً أمياً لا يقرأ ولا يكتب نشأ في بلاد الجهل والجاهلية يرعى غنم يتقوت بها فعلمه الله تعالى الحكمة دون معلم وعصمه من كل أراده بلا حرس وبلا حاجب ولا بواب ولا قصر يمتنع فيه على كثرة من أَرَادَ قتله من شجعان العرب وفتاكهم كعامر بن الطفيل وأربد بن جزء وغورث بن الحارث وغيرهم مع أقرار أعدائه بنبوته كمسيلمة وسجاح وطليحة والأسود وهو مكذب لهم فهل بعد هذا برهان أو أنذر الأنصار بالأثرة عليهم بعده وتابعوه على الصبر على ذلك.

قام له أصحابه على قدم فمنعهم وأنكر ذلك عليهم وأعلمهم أن القيام لله تعالى لا لخلقه ورضوا بالسجود له فاستعظم ذلك وأنكره إلا لله وحده.

ولا شك في أن هذه ليست صفة طالب دنيا قط أصلاً ولا صفة راغب في غلبة ولا بعد صوت بل هذه حقيقة النبوة الخالصة لمن كان له أدني فهم.

ص: 585

ثم قَالَ الإمام ابن حزم وأيضاً فإن سيرة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة وتشهد له بأنَّهُ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم حقاً فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى وذلك أنه عليه الصلاة والسلام نشأ كما قلنا في بلاد الجهل لا يقرأ ولا يكتب ولا خرج عن تلك البلاد قط إلا خرجتين.

إحداهما إلى الشام وهو صبي مع عمه إلى أول أرض الشام ورجع والأخر أيضاً إلى أول الشام ولم يطل بها البقاء ولا فارق قومه قط ثم أوطأه الله تعالى رقاب العرب كلها فلم تتغير نفسه ولا حالت سيرته إلى أن مات ودرعه مرهونة في شعير لقوت أهله.

أصواع ليست بالكثيرة ولم يبت قط في ملكه دينار ولا درهم وكان يأكل على الأرض ما وجد ويخصف نعله بيدِهِ ويرفع ثوبه ويؤثر على نفسه وقتل رجل من أفاضل أصحابه مثل فقده يهد عسكراً قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم يتسبب إلى دمائهم ولا إلى دم واحد منهم ولا إلى أموالهم بل فداه من عند نفسه بمائة ناقة.

وهو في تلك الحال محتاج إلى بعير واحد يتقوى به وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا من أصحاب بيوت الأموال بوجه من الوجوه ولا يقتضي هذا أيضاًَ ظاهر السيرة والسياسة فصح يقيناً بلا شك أنه إنما كان متبعاً ما أمر به ربه عز وجل سواء كان ذلك مضراً به في دنياه غاية الإضرار أو كان غير مضر به وهذا عجيب لمن تدبره.

ص: 586

ثم حضرته صلى الله عليه وسلم المنية وأيقن بالموت وله عم أخو أبيه هو أحب الناس إليه وابن عم هو من أخص الناس به وهو أيضاً زوج ابنته وكلاهما عنده من الفضل والدين والسياسة في الدنيا والبأس والحلم وخلال الخير ما كان كل واحد منهما حقيقاً بسياسة العالم كله فلم يحابهما وهما من أشد الناس محبة فيه وهو من أحب الناس فيهما.

إذ كان غيرهما متقدماً لهما في الفضل قاصداً أتباع ما أمر به صلى الله عليه وسلم.

ولم يورث ورثته ابنته ونساءه وعمه فلساً فما فوقه وهم كلهم أحب الناس إليه وأطوعهم له، وهذه أمور لمن تأملها كافية مغنية في أنه إنما تصرف بأمر الله تعالى له لا بسياسة ولا بهوى فوضح بما ذكرنا ولله الحمد كثيراً أن نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم حق وأن شريعته التي أتى بها هي التي وضحت براهينها واضطرت دلائلها إلى تصديقها والقطع على أنها الحق الَّذِي لا حق سواه وأنها دين الله تعالى الَّذِي لا دين له في العالم غيره انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

هذه قصيدة جميلة أزلنا ما فيها من الغلو وعوضنا عنه ما بين الأقواس:

كَأَنَّ نُجُومًا أَوْ مَضَتْ فِي الْغَيَاهِبِ

عُيُونُ الأَفَاعِي أَوْ رُؤُوسُ الْعَقَارِبِ

إِذَا كَانَ قَلْبُ الْمَرْءِ فِي الأَمْرِ حَائِرًا

فَأَضْيَقُ مِنْ تِسْعِينَ رَحْبُ السَّبَاسِبِ

وَتَشْغَلُنِي عَنِّي وَعَنْ كُلِّ رَاحَتِي

مَصَائِبُ تَقْفُوا مِثْلَهَا فِي الْمَصَائِبِ

إِذَا مَا أَتَتْنِي أَزْمَةٌ مُدْلَهِمَّةٌ

تُحِيطُ بِنَفْسِي مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ

تَطَلَّبَْتُ هَلْ مِنْ نَاصِرٍ أَوْ مُسَاعِدٍ

أَلُوذُ بِهِ مِنْ خَوْفِ سُوءِ الْعَوَاقِبِ

ص: 587

.. (فَلَسْتُ أَرَى إِلا الَّذِي فَلَق النَّوَى

هُوَ الْوَاحِدُ الْمُعْطِي كَثِيرُ الْمَوَاهِبِ)

(وَمُعْتَصَمُ الْمكْرُوبِ فِي كُلِّ غَمْرَةٍ

وَمُنْتَجَعُ الْغُفْرَانِ مِنْ كُلِّ هَائِبِ)

(مُجِيبُ دُعَا الْمُضْطَّرِ عِنْدَ دُعَائِهِ

وَمُنْقِذُهُ مِنْ مُعْضِلاتِ النَّوَائِبِ)

(مُعِيدُ الْوَرَى فِي زَجْرَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِمْ

لِفَصْلِ حُقُوقٍ بَيْنَهُمْ وَمَطَالِبِ)

فَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَصِيبِ تَرَى الْوَرَى

سُكَارَى وَلا سُكْرٌ بِهِمْ مِنْ مَشَارِبِ

حُفَاةً عُرَاةً خَاشِعِينَ لِرَبِّهِمْ

فَيَا وَيْحَ ذِي ظُلْمٍ رَهِينَ الْمَطَالِبِ

فَيَأْتُوا لِنُوحٍ وَالْخَلِيلِ وَآدَمٍ

وَمُوسَى وَعِيسَى عِنْدَ تِلْكَ الْمَتَاعِبِ

لَعَلَّهُمُ أَنْ يَشْفَعُوا عِنْدَ رَبِّهِمْ

لَتَخْلِيصِهِمْ مِنْ مُعْضِلاتِ الْمَصَاعِبِ

فَمَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمُوا عِنْدَ هَذِهِ

نَبِيٌّ وَلَمْ يُظْفِرْهُمُ بِالْمَآرِبِ

هنَاكَ رَسُولُ اللهِ يَأْتِي لِرَبِّهِ

لِيَشْفَعْ لِتَخْلِيصِ الْوَرَى مِنْ مَتَاعِبِ

ص: 588

فَيَرْجِعُ مَسْرُورًا بِنَيْلِ طِلابِهِ

أَصَابَ مِنَ الرَّحْمَنِ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ

سُلالَةُ إِسْمَاعِيلِ وَالْعِرْقُ نَازِعُ

وَأَشْرَفُ بَيْتٍ من لُؤي بن غَالِبِ

بَشَارَةُ عِيسَى وَالَّذِي عَنْهُ عَبَّرُوا

بِشِدَّةِ بَأْسٍ بِالضَّحُوكِ الْمُحَارِبِ

وَمَنْ أَخْبَرُوا عَنْهُ بِأَنْ لَيْسَ خُلْقُهُ

بِفَظٍّ وَفِي الأَسْوَاقِ لَيْسَ بِصَاخِبِ

وَدَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ بِنَائِهِ

بِمَكَّةَ بَيْتًا فِيهِ نَيْلُ الرَّغَائِبِ

جَمِيلُ الْمَحْيَا أَبْيَضُ الْوَجْهِ رَبْعَةً

جَلِيلُ كَرَادِيسِ أَزَجُ الْحَوَاجِبِ

صَبِيحٌ مَلِيحٌ أَدْعَجُ الْعَيْنِ أَشْكَلٌ

فَصِيحٌ لَهُ الإِعْجَام لَيْسَ بِشَائِبِ

وَأَحْسَنُ خَلْقِ اللهِ خَلْقًا وَخِلْقَةً

وَأَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ عِنْدَ النَّوَائِبِ

وَأَجْوَدُ خَلْقِ اللهِ صَدْرًا وَنَائِلاً

وَأَبْسَطُهُمْ كَفًّا عَلَى كُلِّ طَالِبِ

وَأَعْظَمُ حُرٍّ لِلْمَعَالِي نُهُوضُهُ

إِلَى الْمَجْدِ سَامٍ لِلْعَظَائِمِ خَاطِبٍ

تَرَى أَشْجَعَ الْفُرْسَانِ لاذَ بِظَهْرِهِ

ص: 589

.. إِذَا احْمَرَّ بَأْسٌ فِي بَئِيسِ الْمَوَاجِبِ

وَآذَاهُ قَوْمٌ مِنْ سَفَاهَةِ عَقْلِهِمْ

وَلَمْ يَذْهَبُوا مِنْ دِينِهِ بِمَذَاهِبِ

فَمَا زَالَ يَدْعُو رَبَّهُ لِهُدَاهُمُ

وَإِنْ كَانَ قَدْ قَاسَى أَشَدَّ الْمَتَاعِبِ

وَمَا زَالَ يَعْفُو قَادِرًا مِنْ مُسِيئهِمْ

كَمَا كَانَ مِنْهُ عِنْدَ جَبْذَةَ جَاذِبِ

وَمَا زَالَ طُولَ الْعُمْرِ للهِ مُعْرِضًا

عَن الْبَسْطِ فِي الدُّنْيَا وَعَيْشِ الْمَزَارِبِ

بَدِيعُ كَمَالٍ فِي الْمَعَالِي فَلا امْرؤٌ

يَكُونُ لَهُ مِثْلاً وَلا بِمُقَارِبِ

أَتَانَا مُقِيمَ الدِّينِ مِنْ بَعْدِ فَتْرَةٍ

وَتَحْرِيفِ أَدْيَانٍ وَطُولِ مَشَاغِبِ

فَيَا وَيْلَ قَوْمٍ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ

وَفِيهِمْ صُنُوفٌ مِنْ وَخِيمِ الْمَثَالِبِ

وَدِينُهُمْ مَا يَفْتَرُونَ بِرَأْيِهِمْ

كَتَحْرِيمِ حَامٍ وَاخْتِرَاعِ السَّوَائِبِ

وَيَا وَيْلَ قَوْمٍ حَرَّفُوا دِينَ رَبِّهِمْ

وَأَفْتَوْا بِمَصْنُوعٍ لِحِفْظِ الْمَنَاصِبِ

وَيَا وَيْلَ مَنْ أَطْرَى بِوَصْفِ نَبِيِّهِ

فَسَمَّاهُ رَبَّ الْخَلْقِ إِطْرَاءَ خَائِبِ

ص: 590

.. وَيَا وَيْلَ قَوْمٍ قَدْ أَبَارَ نُفُوسَهُمْ

تَكَلُّفُ تَزْوِيقٍ وَحُبُّ الْمَلاعِبِ

وَيَا وَيْلَ قَوْمٍ قَدْ أَخَفَّ عُقُولَهُمْ

تَجَبُّرُ كِسْرَى وَاصْطِلامُ الضَّرَائِبِ

فَأَدْرَكَهُمْ فِي ذَاكَ رَحْمَةُ رَبِّنَا

وَقَدْ أَوْجَبُوا مِنْهُ أَشَدَّ الْمَعَائِبِ

فَأَرْسَلَ مِنْ عَلْيَا قُرَيْشٍ نَبِيَّهُ

وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْهُ بِكَاذِبِ

وَمِنْ قَبْلَ هَذَا لَمْ يُخَالِطْ مَدَاس الْ

يَهُودِ وَلَمْ يَقْرَأَ لَهُمْ خَطَّ كَاتِبِ

فَأَوْضَحَ مِنْهَاجَ الْهُدَى لِمَنْ اهْتَدَى

وَمَنَّ بِتَعْلِيمٍ عَلَى كُلِ رَاغِبِ

وَأَخْبَرَ عَنْ بَدْءِ السَّمَاءِ لَهُمْ وَعَنْ

مَقَامٍ مَخُوفٍ بَيْنَ أَيْدِي الْمُحَاسِبِ

وَعَنْ حُكْمِ رَبِّ الْعَرْشِ فِيمَا يُعِينُهُمْ

وَعَنْ حِكَمٍ تُرْوَى بِحُكْمِ التَّجَارُبِ

وَأَبْطَلَ أَصْنَافَ الْخَنَى وَأَبَادَهَا

وَأَصْنَافَ بَغْيِ لِلْعُقُوبَةِ جَالِبِ

وَبَشَّرَ مَنْ أَعْطَى الرَّسُولَ قِيَادَةً

بِجَنَّةِ تَنْعِيمٍ وَحُورٍ كَوَاعِبِ

وَأَوْعَدَ مَنْ يَأْبَى عِبَادَةَ رَبِّهِ

ص: 591

.. عُقُوبَةَ مِيزَانٍ وَعِيشَةَ قَاطِبِ

فَأَنْجَى بِهِ مَنْ شَاءَ رَبِّي نَجَاتَهُ

وَمَنْ خَابَ فَلْتَنْدِبْهُ شَرُّ النَّوَادِبِ

فَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ عَبْدَهُ

بِحَقٍّ وَلا شَيْءٍ هُنَاكَ بِرَائِبِ

وَقَدْ كَانَ نُورُ اللهِ فِينَا لِمُهْتَدٍ

وِصِمْصَالمُ تَدْمِيرٍ عَلَى كُلِّ نَاكِبِ

وَأَقْوَى دَلِيلٍ عِنْدَ مَنْ تَمَّ عَقْلُهُ

عَلَى أَنَّ شُرْبَ الشَّرْعِ أَصْفَى الْمَشَارِبِ

تَوَاطُئ عُقُولٍ فِي سَلامَةِ فِكْرِهِ

عَلَى كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ مَطَالِبِ

سَمَاحَةُ شَرْعٍ فِي رَزَانَةِ شِرْعَةٍ

وَتَحْقِيقِ حَقٍّ فِي إِشَارَةِ حَاجِبِ

مَكَارِمُ أَخْلاقٍ وَإِتْمَامُ نِعْمَةٍ

نُبُوة تَأْلِيفٍ وَسُلْطَانُ غَالِبِ

نُصَدِّقُ دِينَ الْمُصْطَفَى بِقُلُوبِنَا

عَلَى بَيِّنَاتٍ فَهْمُهَا مِنْ غَرَائِبِ

بَرَاهِينُ حَقٍّ أَوْضَحَتُ صِدْقَ قَوْلِهِ

رَوَاهَا وَيَرْوِي كُلُّ شَبٍ وَشَائِبِ

وَمِنْ ذَاكَ كَمْ أَعْطَى الطَّعَامَ لِجَائِعٍ

وَكَمْ مَرَّةٍ أَسْقَى الشَّرَابَ لِشَارِبِ

ص: 592

.. وَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ قَدْ شُفِي مِنْ دُعَائِهِ

وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْفَى لِوَجْبَةِ وَاجِبِ

وَدَرَّتْ لَهُ شَاةٌ لَدَى أُمِّ مَعْبَدٍ

حَلِيبًا وَلا تَسْطَاعُ حَلْبَةَ حَالِبِ

وَقَدْ سَاخَ فِي أَرْضِ حِصَانُ سُرَاقَةٍ

وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ بَرَاءِ بنِ عَازِبِ

وَقَدْ فَاحَ طِيبًا كَفُّ مِنْ مَسَّ كَفَّهُ

وَمَاحَلَ رَأْسًا حَبْسُ شِيبِ الذَّوَائِبِ

وَأَلْقَى شَقِيُّ الْقَوْمِ فَرْثَ جَزُورِهِمْ

عَلَى ظَهْرِهِ وَالله لَيْسَ بِعَازِبِ

فَأَلْقُوا بِبَدْرٍ فِي قَلِيبٍ مُخَبَّثٍ

وَعَمَّ جَمِيعَ الْقَوْمِ شُؤْمُ الْمَدَاعِبِ

وَأَخْبَرَ أَنْ أَعْطَاهُ مَوْلاهُ نُصْرَةً

وَرُعْبًا إِلَى شَهْرٍ مَسِيرَةَ سَارِبِ

فَأَوْفَاهُ وَعْدَ الرُّعْبِ وَالنَّصْرِ عَاجِلاً

وَأَعْطَى لَهُ فَتْحَ التَّبُوكِ وَمَارِبِ

وَأَخْبَرَ عَنْهُ أَنْ سَيَبْلُغُ مُلْكُهُ

إِلَى مَا رَأى مِنْ مَشْرِقٍ وَمَغَارِبِ

فَأَسْبَلَ رَبُّ الأَرْضِ بَعْدَ نَبِيِّهِ

فُتُوحًا تُوَارَى مَالَهَا مِنْ مَنَاكِبِ

وَكَلَّمَهُ الأَحْجَارُ وَالْعُجْمُ وَالْحَصَى

ص: 593

.. وَتَكْلِيمُ هَذَا النُّوعِ لَيْسَ بِرَائِبِ

وَحَنَّ لَهُ الْجِذْعُ الْقَدِيمُ تَحَزُّنًا

فَإِنَّ فِرَاقَ الْحُبِّ أَدْهَى الْمَصَائِبِ

وَأَعْجَبُ تِلْكَ الْبَدْرُ يَنْشَقُ عِنْدَهُ

وَمَا هُوَ فِي إِعْجَازِهِ مِنْ عَجَائِبِ

وَشَقَّ لَهُ جِبْرِيلُ بَاطِنَ صَدْرِهِ

لِغَسْلِ سَوَادٍ بِالسُّوَيْدَاءِ لازِبِ

وَأَسْرَى عَلَى مَتْنِ الْبُرَاقِ إِلَى السَّمَا

فَيَا خَيْرَ مَرْكُوبٍ وَيَا خَيْرَ رَاكِبِ

وَرَاعَتْ بَلِيغُ الآيِ كُلَّ مُجَادِلٍ

خَصِيمٍ تَمَادَى فِي مِرَاءِ الْمَطَالِبِ

بَرَاعَةُ أُسْلُوبٍ وَعَجْزُ مُعَارِضٍ

بَلاغَةُ أَقْوَالِ وَأَخْبَارُ غَائِبِ

وَسَمَّاهُ رَبُّ الْخَلْقِ أَسْمَاءَ مِدْحَةٍ

تُبَيِّنُ مَا أَعْطَى لَهُ مِنْ مَنَاقِبِ

رَؤُوفٌ رَحِيمٌ أَحْمَدٌ وَمُحَمَّدٌ

مُقَفَى وَمِفْضَالٌ يُسَمَّى بِعَاقِبِ

إِذَا مَا أَثاَرُوا فِتْنَةً جَاهِلِيَّةً

يَقُودُ بِبَحْرٍ زَاخِرٍ مِنْ كَتَائِبِ

يَقُومُ لِدَفْعِ الْبَأْسَ أَسْرَعَ قَوْمِهِ

بِجَيْشٍ مِن الأَبْطَالِ غُرِّ السَّلاهِبِ

ص: 594

.. أَشِدَّاءُ لِدَفْعِ الْبَأْسِ مِنْ كُلِّ بَاسِلٍ

وَمِنْ كُلَّ قَرْمٍ بِالأَسِنَّةِ لاعِبِ

تَوَارُثُ إِقْدَامًا وَنُبْلاً وَجُرْأَةً

نُفُوسُهُمْ مِنْ أُمَّهَاتٍ نَجَائِبِ

جَزَى اللهُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ

جَمِيعًا كَمَا كَانُوا لَهُ خَيْرَ صَاحِبِ

وَآلُ رَسُولِ اللهِ لا زَالَ أَمْرُهُمْ

قَوِيمًا عَلَى إِرْغَامِ أَنْفِ النَّوَاصِبِ

ثَلاثُ خِصَالٍ منْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا

نَجَابَةُ أَعْقَابٍ لِوَالِدِ طَالِبِ

خِلافَةُ عَبَّاسٍ وَدِينِ نَبِيِّنَا

تَزَايدَ فِي الأَقْطَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ

يُؤيِّدُ دِينَ اللهِ فِي كُلِّ دَوْرَةٍ

عَصَائِبُ تَتْلُو مِثْلَهَا مِنْ عَصَائِبِ

فَمِنْهُمْ رِجَالٌ يَدْفَعُونَ عَدُوَّهُمْ

بِسُمْرِ الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ الْقَوَاضِبِ

وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يَغْلِبُونَ عَدُوَّهُمْ

بِأَقْوَى دَلِيلٍ مُفْحِمٍ لِلْمُغَاضِبِ

وَمِنْهُمْ رِجَالٌ بَيَّنُوا شَرْعَ رَبِّنَا

وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ وَوَاجِبِ

وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يَدْرُسُونَ كِتَابَهُ

ص: 595

.. بِتَجْوِيدِ تَرْتِيلِ وَحِفْظِ مَرَاتِبِ

وَمِنْهُمْ رِجَالٌ فَسَّرُوهُ بِعِلْمِهِمْ

وَهُمْ عَلَّمُونَا مَا بِهِ مِنْ غَرَائِبِ

وَمِنْهُمْ رِجَالٌ بِالْحَدِيثِ تَوَلَّعُوا

وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ صَحِيحٍ وَذَاهِبِ

وَمِنْهُمْ رِجَالٌ مُخْلِصُونَ لِرَبِّهِمْ

بِأَنْفُسِهِمْ خُصْبُ الْبِلادِ الأَجَادِبِ

وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يُهْتَدَى بِعِظَاتِهِمْ

قِيَامٌ إِلَى دِينِ مِنَ اللهِ وَاصِبِ

عَلَى اللهِ رَبِّ النَّاسِ حُسْنُ جَزَاءِهِمْ

بِمَا لا يُوَافِي عَدُّهُ ذِهْنَ حَاسِبِ

فَمَنْ شَاءَ فَلْيَذْكُرْ جَمَالَ بُثَيْنَةٍ

وَمَنْ شَاءَ فَلْيَغْزِلْ بِحُبِّ الرَّبَائِبِ

سَأَذْكُرُ حُبِّي لِلْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ

إِذَا وَصَفُ الْعُشَّاقِ حُبَّ الْحَبَائِبِ

وَيَبْدُو مُحَيَّاهُ لِعَيْنِي فِي الْكَرَى

بِنَفْسِي أَفْدِيهِ إِذَا وَالأَقَارِبِ

وَتُدْرِكُنِي فِي ذِكْرِهِ قَشْعَرِيرَةٌ

مِنَ الْوِجْدِ لا يَحْوِيهِ عِلْمُ الأَجَانِبِ

وَأُلْفِي لِرُوحِي عِنْدَ ذَلِكَ هَزَّةً

وَأُنْسًا وَرَوْحًا فِيهِ وَثْبَةُ وَاثِبِ

ص: 596

.. وَإِنَّكَ أَعْلَى الْمُرْسَلِينَ مَكَانَةً

وَأَنْتَ لَهُمْ شَمْسُ وَهُمْ كَالثَّوَاقِبِ

وَصَلِّ إِلَهِي كَلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ

عَلَى خَاتِمِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ الأَطَايِبِ

اللَّهُمَّ يا من خلق الإنسان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شيء يحيي العظام وهي رميم. نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ)

ومن الأدلة والبراهين والقرائن الدالة على صدق الرسل كلهم ما ذكره صاحب البرهان القاطع رحمه الله.

فأولها أنهم من أعدل الناس طريقة وأصدقهم لهجة وأكثرهم وقاراً وأقلهم طيشاً. وأزهدهم في المال والجاه وأرفضهم لحب الدعة والراحة. قد خبروا على طول الزمن، واشتدت عليهم المحن، واعتورت أحوالهم طوارق الفتن، وتفاقم في الكناية لهم كيد ذوي الإحن. فما لينت الشدائد منهم صلباً لا فترت المكايد لهم عزماً بل كانوا كسبيكة الذهب وفلذة الياقوت. كلما إزدادت النار لها أكلا إزدادت على طول السبِكَ حسناً، لا حافوا في حكم على عدو ولا شهدوا بغير الحق لصديق.

قام نوح عليه ألف سنة إلا خمسين عاماً بين ظهراني قومه وعشيرته وحماته من العدو وملاذه فنابذهم وجانبهم وضللهم وكفرهم، حتَّى كانوا يضربونه ويهينونه ويؤذنه بأنواع الأذى ويمقتونه، ولا يحصل له بذلك غرض دنيوي ولا مقصد عاجل، ولا له في ذلك هوى ولا شهوة. وهذا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ عرضت عليه قريش المال والزوجة والجاه والرياسة ويترك ما يدعيه من تسفيه حلوم آبائه، وتعنيف الأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ من عشيرته. فلم يرفع إلى كلامهم رأساً، ولم يلتفت إلى مقالتهم أصلاً وما أحسن البيت المشهور:

ص: 597

.. وَرَاوَدَتْهُ الْجِبَالُ الشُّمُّ مِنْ ذَهَبٍ

عَنْ نَفْسِهِ فَأَرَاهَا أَيَّمَا شَمَمِ

وكم عسى أن نذكر من فضائل لا تحصى، ومحاسن لا تستقى.

وثانيها: معاداتهم لقراباتهم، وأرحامهم الَّذِينَ جبلت الطباع على محبتهم، وعلى رجاء الاستنصار لهم بحيث تركوا مناهج آبائهم التي ولع الطبع بإتباعها وعادوا عشيرتهم التي يتقى من كل عدو بمحاماتها ولقوا في الصبر عنهم الحتوف ووقعوا في الدنيا لذلك في أعظم مخوف.

هذا نوح عليه السلام ترك ابنه وفلذة كبده وماء سواد عينه وريحانة فؤاده مع الغرقى وأستغفر من دعائه أن لا يهلك مع الهلكى، وهذا إبراهيم عليه السلام تبرأ من أبيه لما تبين له أنه عدو لله وعزم على ذبح ولده الَّذِي هو قرة عينه ومزنة غيثه وأحب الناس إليه، وأعزهم عليه.

وهذا مُحَمَّد الَّذِي شهد العدو والصديق بأنه أبر الخلق بعامة أمته دع عنك خاصة رحامته، حتَّى إن الله عاتبه على كثرة رحمته فَقَالَ {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ترك الثناء على أمه وأبيه والذكر لهما والترحم عليهما، وولع بذكر النجاشي وصلى عليه وأثنى علي سلمان الفارسي وأهدى ثمرات الجميل إليه وأمثالهما ممن لم يلتصق عرقه بعرقه، ولم يلتحم نجره بنجره. وقد أجمع الأصدقاء والأعداء والكفرة والبررة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أعقل الناس، وأوقر الخلق، أما الْمُسْلِمُونَ فعقائدهم فيها ظاهرة، وأما الكفار فيقولون إنهم بحسن تدبيرهم ولطف دهائهم شرعوا شرائع وإستمالوا خلائق، ودان لهم من الناس عوالم.

فكيف ترى هؤلاء العقلاء الحذاق يعادون أرحامهم ويصادقون من لم تتصل وشيجة نسب بينه وبينهم ويتركون ما في موالاة العشيرة من الأنتصار عند الهضم والسلامة من الظلم، ويتحملون مضار عداوتهم، عوضاً من منافع ولا يتهم، لغير غرض يعود عليهم، ولا فائدة ترجع إليهم.

وثالثها: إنهم فقراء مساكين تقتحمهم العيون وتزدريهم القلوب ولا يغلب في ظن عاقل ولا فراس حاذق، أن من الفقر صفته والنزاع لجميع من في العالم طلبته يساعد على إثارة الفتن وتهييج الحروب بين البشر، ولا يبلغ إلى أمل، ولا يزكو له عمل.

ص: 598

كموسى وهرون حين أتيا فرعون لابسين لعباء الصوف ومرقعات المسوح منتقلين من مراعي الغنم إلى معارضات الملوك، مظهرين لمخاشنتهم، مفصحين بالترقع عليهم بغير عدة ولا مال، ولا قوة ولا رجال. فأتياه على هذه الحال التي لا يؤبه لصاحبها ولا تمتلئ عين من النظر إلى من جاء عليها، وجواهر التيجان تلمع على جبينه وأنطاع ضرب الأعناق معدة لمن أغضبه عن شماله ويمينه فأتياه بأعظم ما يوجب ضرب أعناقهما وأكبر ما يجرؤه على قتلهما لا ترتعد لهما فريصة، ولا يخافان من الدنيا نقيصة.

وهذا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ جاء إلى قريش، وقام في جاهلية العرب، وأنوفهم تعط بالكبر وألْسِنَتُهُمْ لا تَنْطِقُ إلَاّ بالفخر يرون أن يبيد أولهم وآخرهم ويفنى أصاغرهم وأكابرهم على أيسر عار يلم بساحاتهم، وأهون نقص يدنو من أنسابهم فجاء وحيداً من الناصر فقيراً من المال يسب ألهتهم، ويلهب أفئدتهم ويسفه أحلامهم.

يتيم قد مات أبواه وأسترضع في غير قومه وكفله من شدة فقر أبيه عمه

فبينما هو يتيم مكفول في حجر من هب فخره مهب الجنوب والقبول إذ قام يعيب على كافله دينه ويسفه رأيه، ولا يستريب من شجعان العرب المشاهير أن عارضهم جميعاً، وأنفرد بعداوتهم وحيدًا.

ورابعها: حصول أغراضهم كما قَالَ تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وكما ثبت في البخاري من حديث ابن عباس {ثُمَّ تَكُونُ لَهم الْعَاقِبَةُ} وكذلك وقع ولله الحمد.

فإن أحداً ممن طلب الدنيا والراحة والملك والرياسة من الفلاسفة والمنجمين والمشعوذين والمرجمين بل من أهل الأموال والعشائر، وأرباب الخدم والعساكر من ملوك حمير والتبابعة والقياصرة والأكاسرة ما بلغ مِمَّا بلغ منه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ المعشار، ولا استدام له بعد موته، ما استدام لمُحَمَّد ?.

ص: 599

وهذا نوح عليه السلام الفقير القليل الناصر الَّذِي كان ضرب ويشتم ويهان فلا يجد ملجأ ولا معاذاً ولا منقذاً ولا مجيراً من الخلق نبعت له الأرضون عيوناً والسموات غيوثاً حتَّى كان من عجيب غرق قومه ما كان. ولم يستطيع دفع ما جاء به إنس ولا جان.

ومن أدل ذلك على الله الخسف بأهل السبت من اليهود قردة وذلك مِمَّا يحصل به العلم الضروري لمن شاهده أو تواتر له، لأن تحول الصورة إلى صورة أخرى لا يكون بالطبع، ولا تدخل فيه شبهة لأهل الكفر.

وخامسها: زهدهم في الدنيا وإطراحهم للأهوى وقلقهم من هول المعاد الأخروي. وتقطع نياط قلوبهم من الخوف للعذاب السرمدي. وهو شيء علم منهم أنه جد لا مزاح فيه ولا هزل وحق لا تصنع فيه ولا تكلف. وكيف والتكلف لا تخفي آثاره.

ولا تستمر أحواله. زفراتهم كانت متصعدة، ونيار خوفهم لم تزل متوقدة، ومدامع عيونهم لم تبرح مترقرقة، وعلى وجنات خدودهم متدفقة، وعيونهم غائرة وعزماتهم باترة، وأجسادهم ناحلة، ونفوسهم عن الدنيا مائلة، وشفاههم من ظمأ الهواجر ذابلة، وألسنة أحوالهم في خطاب مولاهم قائلة:

وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ نَفْسِي كُلِّهَا

وَيَوْمَ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيَامِي

كان عيسى عليه السلام دابته رجلاه وسراجه القمر، وفراشه المدر ومتاعه الشجر داره الأرض، ترى خضرة الشجر من شفيف بطنه. لا تنقص الشدائد عقدة عمه عزمه.

وكان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ يصلي حتَّى تورمت دماه ويسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل فقِيلَ له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبِكَ وما تأخر فَقَالَ: {أَفَلَا أَكُونَ عبدَاً شَكوراً} .

ولما أخطأ داود عليه السلام كان يبكي وينوح حتَّى نبت العشب من دمعه المسفوح، ونقش خطيئته على كفه وحزن حزن الثكلى على ذنبه. فليت شعري أي غرض يقدر أنه يحصل لهم ويظن أنه أربهم حتَّى قطعوا أعمارهم على هذه الطريقة وأداموا تحملهم لهذه

ص: 600

الأعباء الثقيله، أطلب العيش في الدنيا ورجاء الظفر بالأهواء، فقد عاش سقط الناس بأيسر من ذلك ونيلت بأهون سعي ملاذ المعايش وقد ملكوها على ما يأتي بيانه فلم يلتفتوا إليها، ورغبوا عنها ولم يرغبوا فيها. وتنزهت عنها شرائف أحوالهم. وأنشد لسان حالهم:

تَجَرَّدْ عَنِ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا

خَرَجْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدُ

وسادسها: إن جمعاً منهم تمكنوا من الدنيا واستولوا على ما يحب الناس منها فلم تتغير لهم طريقة، ولم تتحول لهم سجية. ملك سليمان عليه السلام ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فخدمته الطير وحشرت له، وحملته الريح على متن الهواء وسخرت له، ودانت له ملوك الإنس.

وخضعت له عفاريت الجن، وكان البساط يحمله في أرجاء الأجواء مستقراً على متن الريح الخفاقة والهواء. وكانت الطير تظلة، وكانت الأرض في يده وكانت أو امره مطاعة، والخلائق له طائعة.

ومع ذلك كان يأكل من كد يده ويتواضع على عظيم ملكه حتَّى إختار من الحرف أهضمها للنفس وأقمعها لجامع الهوى وهو الخوض أي الحصر الَّذِي يرتفع عنه أكثر السوقة ولا يرتضيه من له أدني عزة. فما تراه يريد بهذا وإلى أي شيء من الدنيا يتوصل به.

وسابعها: قوة يقينهم بمواعيد الله وتسليمهم نفوسهم لما أمر الله وإن كان في ظاهره كالجناية على النفس، والإلقاء بها إلى التهلكة كقول نوح وحده لقومه مع كثرتهم وقوتهم «ثم اقضوا إلى ولا تنظرون» ونحو ذلك قَالَ هود وَمِنْ ذَلِكَ إلقاء أم موسى له في البحر وهو طفل.

ومنه نهي رَسُولِ اللهُ لأصحابه عن حراسته بعد قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} .

وثامنها: أنها ظهرت عليهم خوارق العادات وبواهر المعجزات من غير ممارسة لشيء من علوم الطبائعيين والمرتاضين، والمتفلسفين والمنجمين والمتكهنين المصاحبين للجن والشياطين

ص: 601

وأخبروا عن الغيوب ووصلوا في خرق العادات إلى مرتبة قصر عنها أهل الدراية في فنون هذه العلوم.

هذا الكليم فعل مع السحرة ما فعل حتَّى كانوا هم المقرين له والشاهدين بأن الحق معه، وهم ألوف يحص بخبرهم العلم، ويستحيل تواطؤهم على الكذب وكيف وسيف فرعون على أعناقهم مسلول، ودفع كيده بسوى الله غير مأمول. وهذا عيسى عليه السلام أحيا الموتى وأبرأ الأكمة والأبرص وهذا مُحَمَّد جاء بنوع من الإعجاز لا يتصور فيه السحر ولا تعقل فيه التعمية قرآن بلى فشيب الدهر وإعجازه جديد، وهرم شباب الزمان ورنقه إلى مزيد فأسكت به مصاقعة العرب العرباء والمفلقين من البلغاء والفصحاء والشعراء والخطباء

قد مضى الآن إحدى وثمان مائة سنة «قلت وهذا بالنظر إلى زمن صاحب الأدلة والبراهين وأما الآن فقد مضي أربعة عشر قرناً» ولم يأت له فيها معارض على أن هذه المدة الطويلة منذ هاجر صلى الله عليه وآله وسلم مرت على سحرة الكتابة والخطباء ونقضت عن مهرة البرعة أساة أساليب الكلام إذا أعتل وبناة أساسات البيان إذا أختل:

يَرْمُونَ بِالْخَطْبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً

وَحْيَ الْمَلاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ

فانظر كيف تقضت السني والأعوام وتصرمت الليالي والأيام. ولم يأت أحد من هؤلاء البلغاء بمثل هذا القرآن ولا بسورة من مثله. تصديقاً لما جاء به مُحَمَّد من قوله عز سلطانه {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أ.هـ.

اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل النجاة، وبلغ كلامنا ما أمله ورجاه واجعل لنا عندك أعظم قدر وجاه، ولا تحرمنا من فضلك العظيم يا أكرم الأكرمين.

(فَصْلٌ)

وَقَالَ في كتاب الأربعين في أصول الدين: واعلم أن الرسل كانت له معجزات كثيرة سوى القرآن والعلماء أو ردوا في ذكرها كتباً وضبط القول فيها أن نقول معجزاته عليه السلام قسمان حسية وعقلية. أما الحسية فثلاثة أقسام: أحدها أمور خارجة عن ذاته، وثانيها أمور في ذاته، وثالثها أمور في صفاته:

ص: 602

أما القسم الأول: وهو الأشياء الخارجة عن ذاته فهو كانشقاق القمر واجتذاب الشجر إليه، وتسليم الحجر عليه، ونبوع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وحنين الخشب، وشكاية الناقة وشهادة الشاة المشوية، وإظلال السحاب قبل بعثته، وما كان من حال أبي جهل وصخرته حين أَرَادَ أن يضربها على رأسه وما كان من شاة أم معبد حين مسح يده على ضرعها.

وأما القسم الثاني: وهو الأحوال العائدة إلى ذاته فهو مثل النور الَّذِي كان ينتقل من أب فأب إلى أن خرج إلى الدنيا، وما كان من الخاتم، وما شوهد من خلقته وصورته التي يحكم علم الفراسة بأنها دالة على نبوته.

وأما القسم الثالث: وهو ما يتعلق بصفاته فهي كثيرة ونحن نشير إلى بعضها.

فالأول: أن أحداً ما سمع منه لا في مهمات الدين ولا في مهمات الدنيا كذبا البتة ولو صدر عنه الكذب مرة واحدة لاجتهد أعداؤه في تشهيره وإظهاره.

الثاني: أنه ما أقدم على فعل قبيح لا قبل النبوة ولا بعدها وإن عظم الخوف مثل يوم أحد ويوم الأحزاب. وهذا يدل على أنه كان قوي القلب بمواعيد الله حيث قَالَ تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَقَالَ تعالى {حَسْبُكَ اللهُ} وَقَالَ تعالى {إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} .

الرابع: أنه كان عظيم الشفقة والرحمة على أمته قَالَ تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وَقَالَ تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} وَقَالَ تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} وَقَالَ تعالى: {عزيز عليه ما عنِتمُ} .

الخامس: إنه عليه السلام كان في عظم الدرجات في السخاوة.

السادس: أنه ما كان للدنيا في قلبه وقع وأن قريشاً عرضوا عليه المال والزوجة والرياسة حتَّى يترك هذه الدعوى فلم يلتفت إليهم.

السابع: أنه كان في غاية الفصاحة، كما قَالَ «أوتيت جوامع الكلم» .

الثامن: أنه مضى على طريقته المرضية في أول عمره إلى آخره والكذاب المزور لا يمكنه ذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .

ص: 603

التاسع: أنه كان َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ مع أهل الدنيا والثروة في غاية الترفع ومع الفقراء والمساكين وأهل الدين في غاية التواضع.

العاشر: إنه َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ كان في كل واحدة من هذه الصفات والأخلاق في الغاية القصوى من الكمال كان مستجمعاً لها بأسرها ولم يتفق ذلك لأخذ من الخلق فكان اجتماعهما في ذاته من أعظم المعجزات.

وأما المعجزات العقلية فهي ستة أنواع:

النوع الأول: إنه َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ إنما ظهر من قبيلة ما كانوا من أهل العلم بل كان بلدة ما كان فيها أحد من العلماء، بل كانت الجهالة غالبة عليهم، ولم ينفق له سفر من تلك البلدة إلا مرتين إلى الشام وكانت مدة تلك المسافرة قليلة ولن يذهب أحد من العلماء والحكماء إلى تلك البلدة حتَّى يقال إنه تعلم من ذلك الحكيم.

وإذا خرج من مثل هذه البلدة ومثل هذه القبيلة إنسان من غير أن يمارس شيئاً من العلوم ولا تتلمذ لأحد من العلماء البتة ثم بلغ في معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه هذا المبلغ العظيم الَّذِي عجز جميع الأذكياء من العقلاء عن القرب منه بل أقر الكل بأنه لا يمكن أن يزاد في تقرير الدلائل على ما ورد في القرآن.

ثم ذكر قصص الأولين وتواريخ المتقدمين بحيث لم يتمكن أحد من الأعداء أن يقول إنه أخطأ في شيء منها، بل بلغ كلامه في البعد عن الريب والشك إلى أن قَالَ عند مجادلهم إياه {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} وَقَالَ تعالى:{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ} .

ولم يقدر أحد أن يقول إنه طالع كتاباً ولا تتلمذ لأستاذ وكانت هذه الأحوال ظاهرة معلومة للأصدقاء والأعداء على ما قَالَ: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} وَقَالَ: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} وَقَالَ: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

ص: 604

وكل من له عقل سليم وطبع مستقيم علم أن هذه الأحوال لا تتيسر إلا بالتعليم الإلهي الرباني.

النوع الثاني: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ كان قبل إظهار دعواه الرسالة والنبوة ما كان يشرع في هذه المسائل الآلهية وما كان يبحث عنها وما جرى على لسانه قط حديث النبوة والرسالة.

والَّذِي يدل على صحة قولنا أنه لو اتفق له شروع في هذه الطالب والمباحث قبل إظهار إدعاء النبوة لقال الكفار له إنك أفنيت عمرك في التدبر والتأمل وتحصيل الكلمات حتَّى قدرت الآن على إظهارها.

ولما لم يذكر هذا الكلام أحد من الأعداء مع شدة حرصهم على الطعن فيه وفي نبوته علمنا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ ما كان شارعاً قبل إظهار النبوة في شيء من هذه العلوم.

ومعلوم أن من أنقضي من عمره أربعون سنة ولم يخص في شيء من هذه المطالب العلمية ثم إنه خاض فيها واحدة وأتى بكلام عجز الأولون والآخرون عن معارضته بل أنقضي الآن قريب من ستمائة سنة قلت وهذا بالنظر إلى زمن صاحب كتاب الأربعين في أصول الدين وأما الآن فقد مضى أربعة عشر قرناً وما أحد يمكنه إقامة المعارضة، فصريح العقل بأن هذا لا يكون إلا عللا سبيل الوحي والتننزيل أهـ.

شِعْرًا:

تُغَازِلُنِي الْمَنيَّةُ مِنْ قَرِيبِ

وَتَلْحَظُنِي مُلاحَظَةَ الرَّقِيبِ

وَتَنْشُرُ لِي كِتَابًا فِيهِ طَيِّي

بِخَطِّ الدَّهْرِ أَسْطُرُهُ مَشِيبِي

كِتَابٌ فِي مَعَانِيهِ غُمُوضٌ

يَلُوحُ لِكُلِّ أَوَّابٍ مُنِيبِ

أَرَى الأَعْصَارَ تَعْصِرُ مَاءَ عُودِي

وَقِدْمًا كُنْتُ رَيَّانَ الْقَضِيبِ

أَدَالَ الشَّيْبُ يَا صَاحِ شَبابِي

فَعُوِّضْتُ الْبَغِيضَ مِنَ الْحَبِيبِ

ص: 605