الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - الصحابي الجليل أبو ذر
تقديم:
الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه، أصدق الناس لهجة، كان شجاعاً صادقاً جريئاً، دعا قومه إلى الإسلام، فآمنوا شيئاً فشيئاً، صدع بالحق وهو بالشام، فأخرج من الشام، ورجع إلى المدينة، ثم خرج منها إلى الربذة، حتى جاءه الموت، فمات فيها غريباً، وهيأ الله له طائفة من المسلمين، غسلته، وكفنته، وصلّت عليه، ودفنته.
ترجمته:
1 -
التعريف به: قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى فيه: أبون ذر، جندب بن جنادة، كان طوالاً آدم، وكان يتعبد قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم بمكة قديماً، وقال: كنت في الإسلام رابعاً، ورجع إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم قدم المدينة، قال خفاف بن إيماء: كان أبو ذر شجاعاً ينفرد وحده، فيقطع الطريق، ويغيره على الصِّرم (1) كأنه السبع، ثم إن الله تعالى قذف في قلبه الإسلام، وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بمكة فأتاه.
وعن عبد الله بن صامت قال: قال أبو ذر: لقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قال فقلت: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين تتوجه؟ قال: حيث وجهني الله عز وجل. قال: وأصلي عشاءً حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء (2) حتى تعلوني الشمس.
(1) الصِّرم، الجماعة ينزلون بابلهم ناحيةً على ماء.
(2)
الخفاء: الكساء، وكل شيء غطيت به شيئاً فهو خفاء، النهاية (2/ 57).
2 -
أبو ذر يبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة: قال أبو ذر: فانطلقنا حتى نزلت بحضرة مكة، وانطلق أخي أنيس فراث (1) عليّ فقتل: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلاً يزعم أن الله عز وجل أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس فيه؟ قال: يقولون: إنه شاعر وساحر وكاهن.
قال أنيس: قد سمعت قول الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على أقراء الشعراء (2) فو الله ما يلتام، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
3 -
ما أصاب أبا ذر من الأذى حين سأل أهل مكة عن الرسول صلى الله عليه وسلم: قال: فقلت له: هل أنت كافيَّ حتى أنطلق فأنظر؟ قال: نعم فكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا له (3) وتجهموا له. فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت (4) رجلاً منهم فقلت له: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إليّ. قال: الصابئ. قال: فمال أهل الوادي عليّ بكل مدرة (5) وعظم حتى خررت مغشياً عليّ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، فدخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يا بن أخي ثلاثين، من بين ليلة ويوم، ما لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن (6) بطني، وما وجدت في كبدي سخفة (7) جوع.
(1) أبطأ.
(2)
عبارة النهاية: (4/ 31): (لقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فلا يلتئم على لسان أحد) قال: (أي على طرق الشعر وأنواعه وبحوره، وأحدها: قرء، بالفتح).
(3)
أي أبغضوه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
أي: استضعفت.
(5)
المدرة: القطعة من الطين.
(6)
العكنة: ما انطوى وتثنى من لحم البطن، جمع عكن.
(7)
سخفة الجوع: رقّته وهزاله. أو الخفة التي تعتبري الإنسان إذا جاع.
4 -
إغلاظ أبي ذر القول لامرأتين: قال: بينما أهل مكة في ليلة قمراء - أي مضيئةٍ - إضحيانٍ (1) وضرب الله على أصمخة أهل مكة (2) وما يطوف بالبيت غير امرأتين فأتتا عليّ وهما تدعوان إسافاً ونائلة (3)، فقلت: أنكحوا أحدهما الآخر، قال: فما ثناهما ذلك، قال: فأتتا عليّ فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لم أكن، فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا، قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وهما هابطان من الجبل فقالا: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قالا: فما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم.
5 -
مقابلة أبي ذر للرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر: قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر، فطاف بالبيت، ثم صلى ركعتين، قال: فأتيته فكنت أول من حيّاه بتحية الإسلام، فقال:«وعليك السلام ورحمة الله (4) ممن أنت؟» قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده، فوضعها على جبهته. قال: فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، قال: فأردت أن آخذ بيده، فقد عني صاحبه (5) وكان أعلم به مني، قال:«متى أنت هاهنا؟» قال: قلت: كنت هاهنا منذ ثلاثين من بين يوم وليلة. قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنها مباركة، إنها طعامٌ طعم» (6).
(1) ليلة إضحيانٌ: مضيئة مقمرة. ويقال أيضاً: إضحيانة.
(2)
أي أنامهم. والأصمخة: جمع صماخ وهو ثقب الأذن.
(3)
إساف ونائلة: صنمان كانا منصوبين عند الكعبة.
(4)
في صحيح مسلم: وعليك ورحمة الله.
(5)
قدعه: كفه.
(6)
أي أنها تشبع شاربها كما يشبعه الطعام.
6 -
تضييف أبي بكر لأبي ذر: قال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم في طعامه الليلة، قال: ففعل، قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت معهما، حتى فتح أبو بكر باباً، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها.
7 -
الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أبا ذر بالرجوع إلى قومه ودعوتهم إلى الإسلام: فلبثت ما لبثت، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني وجّهت إلى أرض ذات نخل، فلا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله عز وجل ينفعهم بك، ويأجرك فيهم، قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيساً. قال فقال لي: ما صنعت؟ قال: قلت: صنعت أبي قد أسلمت وصدّقت. قال: فما بي رغبة عن دينك، فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت.
فتحملنا حتى أتينا قومنا غفاراً، فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رخصة الغفاري، وكان سيدهم يومئذ. وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم بقيتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«غفار غفر الله، وأسلم سالمها الله» . انفرد بإخراجه مسلم [الحديث صحيح أخرجه مسلم في فضل أبي ذر].
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن أبا ذر لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى قومك حتى يأتيك أمري، فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته:"أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله". وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكبّ عليه فقال: ويلكم ألستم
تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟ يعني عليهم. فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، وثاروا إليه، فضربوه فأكب عليه العباس فأنقذه [الحديث أخرجه البخاري في الفضائل، باب إسلام أبي ذر، وأخرجه مسلم في فضائل أبي ذر].
وعن أبي حرب بن أبي الأسود قال: سمعت عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر» [رواه الإمام أحمد، والحديث أخرجه أيضاً باختلاف يسير الترمذي بسند حسن في مناقب أبي ذر برقم 3803 وابن ماجه في المقدمة برقم 156 والطبراني والبزار].
8 -
خطبة أبي ذر في المسلمين عند الكعبة: وعن سفيان الثوري قال: قام أبو ذر الغفاري عند الكعبة فقال: يا أيها الناس أنا جندب الغفاري، هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق، فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلّغه؟ قالوا: بلى: قال: فإن سفر طريق القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا ما يصلحكم. قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديداً حرُّه لطول النشور، وصلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها أو كلمة شر تسكت عنها لوقوف يوم عظيم، تصدَّق بما لك لعلك تنجو من عسيرها، اجعل الدنيا مجلسين مجلساً في طلب الحلال، ومجلساً في طلب الآخرة، الثالث يضرك ولا ينفعك لا ترده، اجعل المال درهمين درهماً تنفقه على عيالك من حلّه، ودرهماً تقدمه لآخرتك، الثالث يضرك ولا ينفعك لا ترده.
ثم نادى بأعلى صوته: يا أيها الناس قد قتلكم حرصٌ لا تدركونه أبداً.
9 -
أبو ذر يرسل إلى صاحب له أصبح أميراً يعظه: وعن نافع الطاحي قال: مررت بأبي ذر فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: أتعرف
عبد الله بن عامر؟ قلت: نعم. قال: فإنه كان يتقرأ معي ويلزمني، ثم طلب الإمارة. فإذا قدمت البصرة فترايا (1) له، فإنه سيقول: لك حاجة؟ فقل له: أخلني، فقل له: أنا رسول أبي ذر إليك، وهو يقرئك السلام، ويقول لك: إنا نأكل من التمر، ونشرب من الماء، ونعيش كما تعيش.
فلما قدمت تراءيت له فقال: ألك حاجة؟ فقلت: أخلني أصلحك الله، فقلت: أنا رسول أبي ذر إليك، فلما قلتها خشع لها قلبه، وهو يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إنا نأكل من التمر، ونشرب من الماء، ونعيش كما تعيش. قال: فحلل إزاره ثم أدخل رأسه في جيبه، ثم بكى حتى ملأ جيبه بالبكاء.
10 -
أبو ذر العابد الزاهد: عن أبي بكر بن المنكدر قال: بعث حبيب بن مسلمة وهو أمير بالشام إلى أبي ذر بثلاث مائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقال أبو ذر: ارجع بها إليه، أوما وجد أحداً أغرّ بالله عز وجل منا؟ ما لنا إلا ظلٌّ نتوارى به، وثلّة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل.
وعن جعفر بن سليمان قال: دخل رجل على أبي ذر فجعل يقلّب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر أين متاعكم؟ قال: لنا بيت نوجه إليه صالح متاعنا. قال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا، قال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي ذر قال: والله لو تعلمون ما أعلم ما انبسطتم إلى نسائكم، ولا تقاررتم على فرشكم، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني يوم خلقني شجرةً تعضد ويؤكل ثمرها.
(1) أي: تراءى له، أي: تصدى له ليراك.
عن ابن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: قال أبو ذر: الصاحب الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، ومملي الخير خير من الصامت، والصامت خير من مملي الشر، والأمانة خير من الخاتم، والخاتم خير من ظن السوء (1).
روى البخاري في أفراده من حديث زيد بن وهب قال: مررت بالرّبذة فقلت لأبي ذر: ما أنزلك هنا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] فقال: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: فينا وفيهم. فكتب يشكوني إلى عثمان، فكتب عثمان: أقدم المدينة، فقدمت، فكثر الناس عليّ كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكر ذلك لعثمان فقالك: إن شئت تنحّيت، فكنت قريباً، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل.
روى ابن سيرين قال: قدم أبو ذر المدينة، فقال عثمان: كن عندي تغدو عليك تروح اللقاح (2). قال: لا حاجة لي في دنياكم، ثم قال: ائذن لي حتى أخرج إلى الرَّبذة، فأذن له فخرج.
11 -
قصة وفاة أبي ذر: عن إبراهيم الأشتر عن أبيه، عن أم ذر قالت: لما حضر أبا ذر الوفاة بكيت فقال: ما يبكيك؟ فقلت: ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يدان لي بنعشك، وليس معنا ثوب يسعك كفناً، ولا لك. فقال: لا تبكي وأبشري، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبداً» .
(1) يعني إذا كان لك مال فختمت عليه حتى لا تسيء الظن بأهلك وخدمك فهو خير من أن تتركه غير مختوم، وتظن بالناس الظنون.
(2)
مفردها لقحة ولقوح: وهي الناقة الحلوب العزيرة اللبن.
وإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا فيهم: «ليموتن رجل منكم بفلاةٍ من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين» (1). وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية أو جماعة، وإني أنا الذي أموت بالفلاة، والله ما كذبت، ولا كذبت، فأبصري الطريق، قالت: فقلت: أنَّى وقد ذهبت الحاجّ وتقطعت الطرق؟ فقال: انظري، فكنت أشتد إلى الكثيب فأقوم عليه، ثم أرجع إليه فأمرّضه.
قالت: فبينما أنا كذلك إذ أنا برجال على رواحلهم، كأنهم الرُّخم (2). فألحت بهم، فأسرعوا إليّ ووضعوا السياط في نحورها يستبقون إليّ، فقالوا: ما لك يا أمة الله؟ قلت: امرؤ من المسلمين تكفّنوه، يموت. قالوا: وما هو؟ قلت: أبو ذر. قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم.
قالت: ففدَّوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه، حتى دخلوا عليه، فسلموا عليه، فرحب بهم، وقال: أبشروا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبداً» .، وسمعته يقول لنفرٍ أنا فيهم:«ليموتن رجل منكم بفلاةٍ من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين» ، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قرية أو جماعة، وأنا الذي أموت بفلاة من الأرض، والله ما كذبت ولا كذبت، وإنه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً أو لامرأتي ثوب يسعني كفناً لم أكفن إلا في ثوب ولي أو لها، وإني أنشدكم الله لا يكفنّي رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً، قال: فليس من القوم أحد إلا وقد فارق من
(1) الحديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في مسنده في قصة وفاة أبي ذر.
(2)
مفردها رخمة: طائر من الجوارح الكبيرة الجثة الوحشية الطباع.