الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 -
وفاة خالد: ولما عزله عمر بن الخطاب لم يزل مرابطاً بحمص حتى مرض، فدخل عليه أبو الدرداء عائداً فقال: إن خيلي وسلاحي على ما جعلته في سبيل الله عز وجل، وداري بالمدينة صدقة، قد كنت أشهدت عليها عمر بن الخطاب، ونعم العون هو على الإسلام، وقد جعلت وصيتي وإنفاذ عهدي إلى عمر، فقدم بالوصية على عمر فقبلها، وترحم عليه.
ومات خالد فقير في بعض قرى حمص على ميل من حمص، وموضعه اليوم في وسط المدينة، سنة إحدى وعشرين، فحكى من غسله أنه ما كان في جسمه موضع صحيح من بين ضربةٍ بسيف أو طعنةٍ برمح أو رمية بسهم.
وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد أن خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة بكى فقال: "لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء".
وعن شقيق بن سلمة قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد يبكين عليه، فقيل لعمر: إنهن قد اجتمعن فانههنّ. فقال عمر: وما عليهن أن يرقن دموعهن على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة.
قال وكيع: النقع: الشق، واللقلقة: الصوت رضي الله عنه. [صفة الصفوة: 1/ 650 - 655].
9 - الصحابي الجلي سعيد بن عامر بن حذيم
تقديم:
هذا الصحابي الجليل سيرته سيرة عطرة، تملك عليك نفسك عندما تتأمل فيها، فإنك راءٍ فيها رجلاً جعل الله بين عينيه، وقصد ربّه في كل أفعاله
وأعماله، ولم يجعل للعباد حظاً فيما يقوم به، استعمله عمر بن الخطاب على حمص، فكان خير والٍ، ولم تشغله الولاية عن طاعة الله، وطالبته زوجته وأصهاره بالدنيا التي بين يديه، فأبى إلا أن يجعلها لله، وحسبه أن عمر رضي الله عنه أبكاه ما كان عليه سعيد.
ترجمته:
1 -
التعريف به وزمن إسلامه: قال ابن الجوزي: سعيد بن عامر بن حذيم بن سلامان بن ربيعة الجمحي، أسلم قبل خيبر، وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعدها.
2 -
تولية عمر له حمص: وعن عبد الرحمن بن سابط قال: أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر، فقال: إنا مستعملوك على هؤلاء، فسر بهم إلى أرض العدو، فتجاهد بهم، فقال: يا عمر، لا تفتنّي، فقال عمر: والله لا أدعكم، جعلتموها في عنقي، ثم تخليتم عني.
وعنه قال: دعا عمر بن الخطاب رجلاً من بني جمح يقال له: سعيد بن عامر بن حذيم، فقال له: إني مستعملك على أرض كذا وكذا. فقال: لا تفتني يا أمير المؤمنين، فقال: والله لا أدعك، قلدتموها في عنقي وتركتموني، فقال عمر: ألا نفرض لك رزقاً؟ قال: قد جعل الله تعالى في عطائي ما يكفيني دونه أو فضلاً على ما أريد.
3 -
زهد سعيد في الدنيا: قال: وكان إذا خرج عطاؤه ابتاع لأهله قوته منه وتصدّق ببقيته، فتقول له امرأته: أين فضل عطائك؟ فيقول لها: قد أقرضته، فأتاه ناس فقالوا: إن لأهلك عليك حقاً، وإن لأصهارك عليك حقاً، فقال: ما أنا بمستأثر عليهم، ولا بملتمس رضا أحدٍ من الناس لطلب الحور العين، ولو
اطّلعت خيرة (1) من خيرات الجنة، لأشرقت لها الأرض كما تشرق الشمس، وما أنا بمتخلف عن العنق الأول بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«يجمع الله عز وجل الناس ليوم، فيجيء فقراء المؤمنين فيزفّون كما يزفّ الحمام (2)، فيقال لهم: قفوا عند الحساب. فيقولون: ما عندنا حساب ولا آتيتمونا شيئاً، فيقول ربهم عز وجل: صدق عبادي، فيفتح لهم باب الجنة، فيدخلونها قبل الناس بسبعين عاماً» [قال في مجمع الزوائد: (1/ 261) أخرجه الطبراني، وروى الترمذي في الزهد «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً»].
فبلغ عمر أنه يمر به كذا وكذا لا يدخن في بيته، فأرسل إليه عمر بمال، فأخذه فصرره صرراً، فتصدق به يميناً وشمالاً.
وعن حسان بن عطية قال: لما عزل عمر بن الخطاب معاوية بن أبي سفيان عن الشام بعث سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي. قال: فخرج معه بجارية من قريش نضيرة الوجه، قال: فما لبث إلا يسيراً، حتى أصابته حاجة شديدة، قال: فبلغ ذلك عمر، فبعث إليه بألف دينار، قال: فدخل بها على امرأته فقال: إن عمر بعث إلينا بما ترين، فقالت: لو أنك اشتريت أدماً وطعاماً وادخرت سائرها، فقال لها: أو لا أدلّك على أفضل من ذلك؟ نعطي هذا المال من يتجّر لنا فيه، فنأكل من ربحها وضمانها عليه، قالت: فنعم إذاً، فاشترى أدماً وطعاماً، واشترى غلامين وبعيرين يمتاران عليهما حوائجهم وفرقها على المساكين وأهل الحاجة.
(1) يريد الحورية.
(2)
زف في مشيه وأزف: أسرع.
قال: فما لبث إلا يسيراً حتى قالت له امرأته: إنه قد نفد كذا وكذا، فلو أتيت ذلك الرجل، فأخذت لنا من الربح، فاشتريت لنا مكانه، قال: فسكت عنها، ثم عاودته فسكت عنها، حتى آذته ولم يدخل بيته إلا من ليل إلى ليل.
قال: وكان رجل من أهل بيته ممن يدخل بدخوله. فقال لها: ما تصنعين؟ إنك قد آذيته، وإنه قد تصدق بذلك قال: فبكت أسفاً على ذلك المال.
قال: ثم إنه دخل عليها يوماً فقال: على رسلك إنه كان لي أصحاب فارقوني منذ قريب، ما أحبُّ أني صددت عنهم، وإن لي الدنيا وما فيها، ولو أن خيرة من خيرات الجنان اطّلعت من السماء لأضاءت لأهل الأرض، ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولنصيف تكسى خير من الدنيا وما فيها. فلأنت في نفسي أحرى أن أدعك لهن من أن أدعهن لك، قال: فسمحت ورضيت.
4 -
عمر يتعجب مما عليه سعيد: وعن مالك بن دينار قال: لما أتى عمر رضي الله عنه الشام طاف بكورها (1)، قال: فنزل بحضرة حمص، فأمر أن يكتبوا له فقراءهم قال: فرفع إليه الكتاب، فإذا فيه سعيد بن عامر بن حذيم أميرها فقال: من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا، قال: أميركم؟ قالوا: نعم. فعجب عمر، ثم قال: كيف يكون أميركم فقيراً، أين عطاؤه؟ أين رزقه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين لا يمسك شيئاً. قال: فبكى عمر، ثم عمد إلى ألف دينار، فصرّها ثم بعث بها إليه، وقال: أقرئوه مني السلام، وقولوا: بعث بهذه إليك أمير المؤمنين، تستعين بها على حاجتك، قال: فجاء بها إليه الرسول، فنظر فإذا هي دنانير، قال: فجعل يسترجع، قال: تقول له امرأته: ما شأنك يا فلان أمات
(1) مفردها كورة، وهي المدينة والصقع.
أمير المؤمنين، قال: بل أعظم من ذلك، قالت: فما شأنك؟ قال: الدنيا أتتني، الفتنة دخلت عليّ، قالت: فاصنع فيها ما شئت، قال: عندك عون؟ قالت: نعم. قال فأخذ دريعة (1) فصرّ الدنانير فيها صراراً، ثم جعلها في مخلاة، ثم اعترض جيشاً من جيوش المسلمين، فأمضاها كلَّها. فقالت له امرأته: رحمك الله لو كنت حبست منها شيئاً نستعين به، قال: فقال لها: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى أهل الأرض لملأت ريح مسك» وإني والله ما كنت لأختارك عليهن. فسكتت [أخرجه الطبراني في الأوسط، ورمز له السيوطي بأنه صحح. وقد ورد معناه في حديث آخر أخرجه البخاري في الرقاق، والترمذي].
5 -
عمر يكشف الحال الذي اشتكى أهل حمص من سعيد: عن خالد بن معدان قال: استعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحمص سعيد بن عامر بن حذيم. فلما قدم عمر حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه، وكان يقال لأهل حمص الكويفة الصغرى، لشكايتهم العمّال. قالوا: نشكوه أربعاً: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها، قال: وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: وعظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: له يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال: عظيمة، قال: وماذا؟ قالوا يغنظ الغنظة بين الأيام، أي: تأخذه موتة.
قال: فجمع عمر بينهم وبينه، وقال: اللهم لا تفيل رأيي (2) فيه اليوم، ما تشتكون منه؟ قالوا: لا يخرج حتى يتعالى النهار، قال: والله إن كنت لأكره ذكره، إنه ليس لأهلي خادم، فأعجن عجينهم. ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم.
(1) تصغير الدرع: قميص المرأة.
(2)
فيّل رأيه: قبّحه وخطّأه وضعّفه.