الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسند سليمان عن أبي هريرة وابن عمرو، وابن عباس في خلق كثير من الصحابة.
3 -
وفاته: وتوفي سنة سبع ومائة، وقيل سنة ثلاث ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وأسند عطاء عن أبيّ بن كعب وابن مسعود وأبي أيوب الأنصاري في خلق كثير من الصحابة. توفي سنة ثلاث ومائة وقيل: سنة أربع وتسعين وكان يكنى أبا محمد وهو مولى ميمونة أيضاً رضي الله عنهما [صفة الصفوة: 2/ 82 - 84].
11 - الخليفة الراشد التابعي
عمر بن عبد العزيز بن مروان
تقديم:
هذه نبذة موجزة من سيرة الخليفة الراشد، وهو من علماء التابعين، المسمَّى بعمر بن عبد العزيز بن مروان، ولي الخلافة سنتين وبضعة شهور، فأحيا الدين، وأقام العدل، وأبطل الظلم، وأخذ على يد السفهاء، واعتصم بالله، واتقاه، واشتغل بمصالح المسلمين، وأعرض عن زهرة الدنيا الفانية، وطلب ما عند الله والدار الأخرة، فحمد المسلمون سيرته في حياته وبعد مماته، ولا يزال المسلمون يعطرون مجالسهم بسيرته، ويترحمون عليه، ويترضون عنه، ويعدونه في مصف الخلفاء الراشدين.
ترجمته:
1 -
التعريف بعمر بن عبد العزيز: قال ابن الجوزي فيه: عمر بن عبد العزيز بن مروان، يكنى أبا حفص، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. قال محمد بن سعد: قال: ابن شوذب: لما أراد عبد العزيز بن
مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال لقيِّمه: اجمع لي أربع مائة دينار من طيّب مالي، فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيتٍ لهم صلاح، فتزوج أم عمر بن عبد العزيز.
قال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر ابن عبد العزيز، رضي الله عنهم.
2 -
عمر مجدد القرن الأول: وقال حميد بن زنجويه: قال أحمد بن حنبل: يروى في الحديث: أن الله تبارك وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة دينها، فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز، ونظرنا في المائة الثانية فإذا هو الشافعي.
3 -
زهد عمر بن عبد العزيز بعد أن تولى الخلافة: وعن الضحاك بن عثمان قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز عن قبر سليمان بن عبد الملك صفَّت له مراكب سليمان، فقال:
ولولا التقى ثم النُّهى خشية الردى
…
لعاصيت في حبِّ الصِّبا كلِّ زاجر
قضى ما قضى، فيما مضى، ثم لا يرى
…
له صبوة أخرى الليالي الغوابر
ثم قال: إن شاء الله لا قوة إلا بالله، قدموا إليِّ بغلتي.
وعن سهل بن يحيى بن محمد المروزي قال: أخبرني أبي عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: لما دفن عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك وخرج من قبره سمع للأرض هدّه أو رجّة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين، قرّبت إليك لتركبها. فقال: ما لي ولها؟ نحُّوها عني، قرّبوا إليّ بغلتي. فقرِّبت إليه بغلته، فركبها، فجاءه صاحب الشُّرط يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحَّ عني ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين.
4 -
مقام عمر في المسجد بعد توليه الخلافة: فسار وسار معه الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فقال: يا أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبةٍ له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم.
فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فل (1) أمرنا باليمن والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأت ورضي به الناس جميعاً، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
"أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خلفٌ، فاعلموا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم عليه السلام أباً حيّاً لمعرق في الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها ولا في كتابها، إنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً ولا أمنع أحداً حقاً".
ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: "يا أيها الناس، من أطاع الله فقد وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم".
ثم نزل فدخل، فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت، وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين.
(1) فل: فعل أمر من ولى يلي.
5 -
عبد الملك بن عمر بعظ الخليفة: ذهب عمر بعد ذلك المقام في المسجد يتبوَّأ مقيلاً، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أي بنيّ أقيل، قال: تقيل ولا تردّ المظالم؟ قال: أي بني إني قد سهرت البارحة في أمر عمّك سليمان، فإذا صلّيت الظهر رددت المظالم، قال: يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه، فالتزمه، وقبَّل بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني.
فخرج، ولم يقل، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذميّ من أهل حمص أبيض الرأس واللحية، فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال له: يا عباس ما تقول؟ قال: أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سجلاً.
فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل، فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك، قم فاردد عليه يا عباس ضيعته، فردَّ عليه، فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يده وفي يد أهل بيته من المظالم إلا ردّها مظلمةً مظلمةً.
6 -
بين عمر بن الوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز: فلما بلغت الخوارج سيرة عمر، وما رد من المظالم اجتمعوا، فقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل، فبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم، وسرت بغير سيرتهم بغضاً لهم، وشنئاً لمن بعدهم من أولادهم، قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، فأدخلتها في بيت المال جوراً وعدواناً، ولن تترك على هذا.
فلما قرأ كتابه كتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن الوليد، السلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، أما بعد: فإنه بلغني كتابك، وسأجيبك بنحوٍ منه: أما أول شأنك ابن الوليد كما تزعم فأمُّك "بنانة" أمة السكون، كانت تطوف في سوق حمص وتدخل، وتدور في حوانيتها، ثم الله أعلم بها، اشتراها ذبيان من فيء المسلمين، فأهداها لأبيك، فحملت بك، فبئس المحمول وبئس المولود. ثم نشأت فكنت جباراً عنيداً، تزعم أني من الظالمين، لما حرمتك وأهل بيتك فيء الله عز وجل الذي فيه حقُّ القرابة والمساكين والأرامل، وإنَّ أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبياً سفيهاً على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك، ولم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لك، وويلٌ لأبيك، ما أكثر خصماء كما يوم القيامة، وكيف ينجو أبوك من خصمائه؟
وإنَّ أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف، يسفك الدَّم الحرام، ويأخذ مال الحرام، وإنّ أظلم مني، وأترك لعهد الله من استعمل قرّة بن شريك أعرابياً جافياً على مصر، أذن له في المعازف واللهو والشرب، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهماً في خمس العرب، فرويداً يا بن بنانة، فلو التقى خلقتا البطان، وردَّ الفيء إلى أهله، لتفرغت لك ولأهل بيتك، فوضتعهم على المحجَّة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق، ومن وراء هذا ما أرجو أن أكون رايته بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل، فإنَّ لكلٍّ فيك حقاً والسلام علينا، ولا ينال سلام الله الظالمين.
7 -
وقائع جرت بعد تولي عمر الخلافة:
أ - عن عمر بن ذر قال: مولىً لعمر بن عبد العزيز حين رجع من جنازة سليمان: مالي أراك مغتّماً؟ قال: لمثل ما أنا فيه يغتم، إنه ليس من أمة
محمد صلى الله عليه وسلم أحد في شرق الأرض وغربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه غير كاتبٍ إليّ فيه ولا طالبه مني.
ب - وعن بعض خاصة عمر بن عبد العزيز: أنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاءً عالياً، فسئل عن البكاء فقيل: إن عمر بن عبد العزيز خيَّر جواريه فقال: إنه قد نزل لي أمر قد شغلني عنكن، فمن أحبَّ أن أعتقه أعتقته، ومن أراد أن أمسكه أمسكته، ولم يكن مني إليها شيء، فبكين يأساً منه.
ج - وعن مالك بن دينار قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء في رؤوس الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس؟ قال: فقيل: لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنه إذا قام خليفة صالح كفّت الذئاب والأسد عن شائنا.
د - وعن مسلم قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده كاتب يكتب وشمعةٌ تزهر، وهو ينظر في أمور المسلمين، قال: فخرج الرجل فأطفئت الشمعة، وجيء بسراج إلى عمر، فدنوت منه فرأيت عليه قميصاً فيه رقعة قد طبَّق ما بين كتفيه، قال: فنظر في أمري.
هـ - عن الثقة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم: أما بعد فإنك كتبت إلى سليمان كتباً لم ينظر فيها حتى قبض رحمه الله، وقد بليت بجوابك، كتبت إلى سليمان تذكر أنه يقطع لعمال المدينة من بيت مال المسلمين ثمن شمع كانوا يستضيئون به حين يخرجون إلى صلاة العشاء وصلاة الفجر، وتذكر أنه قد نفد الذي كان يستضاء به، وتسأل أن يقطع لك من ثمنه مثل ما كان للعمّال، وقد عهدتك، وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوحلة بغير سراج، ولعمري لأنت يومئذ خير منك اليوم والسلام.
و - وعن رجاء بن حيوة قال: كان عمر بن عبد العزيز من أعطر الناس وأخيلهم في مشيته، فلما استخلف قوّموا ثيابه اثنى عشر درهماً: كمّته (1) عمامته وقميصه وقباءه وقرطقه (2) ورداءه وخفَّيه.
ز - وعن يونس بن أبي شبيب قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وهو يطوف البيت وإن حجزة إزاره لغائبةٌ في عكنه (3). ثم رأيه بعد ما استخلف ولو شئت أن أعدَّ أضلاعه من غير أن أمسها لفعلت.
ح - وعن مسلمة بن عبد الملك قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة بنت عبد الملك: يا فاطمة، اغسلي قميص أمير المؤمنين، قال: نفعل إن شاء الله، ثم عدت فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين، فإن الناس يعودونه؟ قالت: والله ماله قميصٌ غيره.
ط - وعن الفهري عن أبيه قال: كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاح الفيء، فتناول ابنٌ له صغيرٌ تفاحة، فانتزعها من فيه فأوجعه، فسعى إلى أمه مستعبراً، فأرسلت إلى السوق، فاشترت له تفاحاً، فلما رجع عمر وجد ريح التفاح فقال: يا فاطمة هل أتيت شيئاً من هذا الفيء؟ قالت: لا. وقصّت عليه القصة فقال: والله لقد انتزعتها من ابني لكأنما نزعتها عن قلبي، ولكن كرهت أن أضيع نصيبي من الله عز وجل بتفاحةٍ من فيء المسلمين.
(1) الكمة: القلنسوة المدورة لأنها تغطي الرأس.
(2)
القرطق (بضم القاف وفتح الطاء): قباء ذو طاق واحد، معرب.
(3)
كناية عن السمنة والعكنة: ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمناً
…
جمع: عكن.
ي - وعن شيخ من أهل الشام قال: لما مات عمر بن عبد العزيز كان استودع مولىً له سفطاً (1) يكون عنده، فجاؤوه فقالوا: السفط الذي كان استودعك عمر؟ قال: ما لكم فيه خير، فأبوا حتى رفعوا ذلك إلى يزيد بن عبد الملك، فدعا بالسفط، ودعا بني أمية، وقال: خيركم هذا فقد وجدنا له سفطاً وديعة قد استودعها: ففتحوه، فإذا فيه مقطَّعات من مسوح كان يلبسها بالليل.
ك - عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك قال: بكى عمر بن عبد العزيز، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلّت عنهم العبرة، قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين ممَّ بكيت.؟ قال: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريقٌ في الجنة، وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه.
ل - وعن زياد بن أبي زياد المديني قال: أرسلني ابن عامر بن أبي ربيعة إلى عمر ابن عبد العزيز في حوائج له، فدخلت عليه وعنده كاتب يكتب، فقلت: السلام عليكم، فقال: وعليك السلام، ثم انتبهت، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا بن أبي زياد، إننا لسنا ننكر الأولى التي قلت، والكاتب يقرأ عليه مظالم جاءت من البصرة، فقال لي: اجلس، فجلست على أسكفَّة الباب (2)، وهو يقرأ وعمر يتنفس صعداً (3)، فلما فرغ أخرج من كان في البيت حتى وصيفاً كان فيه، ثم قام يمشي إليّ حتى جلس بين يديّ،
(1) السفط: وعاء كالقفة.
(2)
خشبة الباب التي يوطأ عليها.
(3)
صعداً: شديداً.
ووضع يديه على ركبتي ثم قال: يا ابن أبي زياد، استدفأت في مردعتك (1) هذه، قال: وعليّ مدرعة من صوف، واسترحت مما نحن فيه، ثم سألني عن صلحاء أهل المدينة رجالهم ونسائهم، فما ترك منهم أحداً إلا سألني عنه، وسألني عن أمورٍ كان أمر بها بالمدينة فأخبرته، ثم قال لي يا بن زياد ألا ترى ما وقعت فيه؟ قال: قلت: أبشر يا أمير المؤمنين، إني أرجو لك خيراً.
قال: هيهات هيهات، قال: ثم بكى حتى جعلت أرثي له، فقلت: يا أمير المؤمنين بعض ما تصنع، فإني أرجو لك خيراً، قال: هيهات هيهات أشتم ولا أشتم، وأضرب ولا أضرب، وأوذي ولا أؤذى. ثم بكى حتى جعلت أرثي له، فأقمت حتى قضى حوائجي، ثم أخرج من تحت فراشه عشرين ديناراً، فقال: استعن بهذه، فإنه لو كان لك في الفيء حقّ أعطيناك حقك، إنما أنت عبدٌ، فأبيت أن آخذها، فقال: إنما هي من نفقتي، فلم يزل بي حتى أخذتها، وكتب إلى مولاي يسأله أن يبيعني منه فأبى وأعتقني.
م - وعن عمرو بن مهاجر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزَّني، ثم قل: يا عمر ما تصنع؟
ن - وعن عبيد الله بن محمد التميمي، قال: سمعت أبي وغيره يحدث أن عمر بن عبد العزيز لما ولي منع قرابته ما كان يجري عليهم، وأخذ منهم القطائع التي كانت في أيديهم، فشكوا إلى عمته فاطمة بنت مروان أم عمر، فدخلت، فقالت: إن قرابتك يشكونك، ويزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك، قال: ما منعتهم حقاً، ولا أخذت منهم حقاً.
(1) جبة من صوف مشقوقة.
فقالت: إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً، فقال: كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره، قال: ودعا بدينار، وجنب (1) ومجمرة، فألقى الدينار في النار وجعل ينفخ على الدينار حتى إذا احمرّ تناوله بشيء فألقاه على الجنب فنشّ (2)، فقال: أي عمة أما تأوين (3) لابن أخيك من مثل هذا؟ فقامت، فخرجت على قرابته، فقالت: تزوّجون إلى آل عمر، فإذا نزعوا الشُّبه جزعتم؟ اصبروا له.
8 -
خطبة من خطب عمر بن عبد العزيز: عن أبي سليم الهذلي قال: وخطب عمر بن عبد العزيز فقال:
"أما بعد: فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً، ولم يدع شيئاً من أمركم سدىً، وإن لكم معاداً، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، واشترى قليلاً بكثير، وفانياً بباقٍ، وخوفاً بأمن، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون؟ كذلك حتى تردّ إلى خير الوارثين، في كل يوم وليلة تشيّعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيّبوه في صدع من الأرض في بطن صدع، ثم تدعونه غير ممهد، ولا موسَّد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدّم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب ما أعلم عندي، وما يبلغني عن أحد منكم ما يسعه ما عندي
(1) القطعة من الشيء، يريد هنا جنب شاة، أي: قطعة من اللحم.
(2)
نشك صوت.
(3)
أوى له: رحمه ورق له.
إلا وددت أنه يمكنني تغييره حتى يستوي عيشنا وعيشه، وايم الله لو أردت غير ذلك من الغضارة والعيش لكان اللسان مني به ذلولاً عالماً بأسبابه، ولكن سبق من الله عز وجل، كتاب ناطق وسنّة عادلة دلَّ فيها على طاعته ونهى فيها عن معصيته".
ثم وضع طرف ردائه على وجهه، فبكى وشهق وبكى الناس، وكانت آخر خطبة خطبها.
9 -
أبيات كان عمر يتمثل بها، قال سعيد بن محمد الثقفي: سمعت القاسم بن عزوان، قال: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات:
أيقطان أنت اليوم أم أنت نائم
…
وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لحرَّقت
…
مدامع عينيك الدموع السّواجم
بل أصبحت في النوم الطويل وقد
…
إليك أمورٌ مفظعات عظائم
نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلةٌ
…
وليلك نومٌ والردى لك لازم
يغرُّك ما يفني وتشغل بالمنى
…
كما غرَّ باللذات في النوم حالم
وتشغل فيما سوف تكره غبَّه (1)
…
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
وعن القاسم بن غزوان، قال: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات.
10 -
موقف عمر ممن بكَّته بأنه أفقر ولده من بعده: عن هاشم قال: لما كانت الصَّرعة التي هلك فيها عمر، دخل عليه مسلمة بن عبد الملك، فقال: يا
(1) غب الشيء: عاقبته وفي نسخة: عيبه. ولعلها: غيبه، أو عينه. وعين الشيء: ذاته ونفسه. والعين أيضاً: العيب.
أمير المؤمنين إنك أفقرت أفواه ولدك من هذا المال، وتركتهم عيلةً (1) لا شيء لهم، فلو وصّيت بهم إليّ، وإلى نظرائي من أهل بيتك.
قال: فقال: أسندوني، ثم قال: أما قولك إني أفقرت أفواه ولدي من هذا المال، فو الله إني ما منعتهم حقاً هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم، وأما قولك: لو أوصيت بهم، فإن وصيي وولي فيهم الله الذي نزّل الكتاب، وهو يتولى الصالحين، بنيَّ أحد الرجلين، إما رجل يتقي الله، فسيجعل الله له مخرجاً، وإما رجل مكبّ على المعاصي، فإني لم أكن أقوّيه على معاصي الله.
ثم بعث إليهم، وهم بضعة عشر ذكراً، قال: فنظر إليهم فذرفت عيناه، ثم قال: بنفسي الفتية الذين تركتهم عيلةً لا شيء لهم، فإني بحمد الله قد تركتهم بخير، أي بنيّ إن أباكم مثل بين أمرين: بين أن تستغنوا، ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا، ويدخل الجنة أحبَّ إليه من أن تستغنوا ويدخل النار. قوموا عصمكم الله.
11 -
وفاة عمر بن عبد العزيز: وعن ليث بن أبي رقبة، عن عمر: أنه لما كان مرضه الذي قبض فيه، قال: أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه وأحدَّ النظر، فقالوا: له إنك لتنظر نظراً شديداً، فقال: إني لأرى حضرةً ما هم بإنسٍ ولا جانٍ، ثم قبض رضي الله عنه.
اسند عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، وعمر بن أبي سلمة، والسائب بن يزيد، ويوسف بن عبد الله بن سلام.
(1) العيلة: الفقر.