الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الماء تقع فيه النجاسة
ش: ارتفاع الباب بالابتداء، وخبره قوله:"فمن ذلك"، أي فمن باب الطهارات باب حكم الماء الذي تقع فيه النجاسة، هذا على النسخة التي ترتيبها هكذا فمن ذلك باب الماء تقع فيه النجاسة، وأما على النسخة التي ترتيبها فمن ذلك باب ما تقع فيه النجاسة، باب الماء تقع فيه النجاسة فهو مرفوع إما على أنه بدل من الباب الأول، أو يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب في بيان أحكام الماء الذي تقع فيه النجاسة، فيكون هذا من ذكر الخاص بعد العام؛ لأن قوله: باب ما تقع فيه النجاسة أعم من أن يكون ماءً أو غيره.
وإنما قدم أبواب الطهارات؛ لأنها شروط للصلاة، والشرط يذكر قبل المشروط، وقدم الماء لأنه آلة للتحصيل، وخصّ الماء الذي تقع فيه النجاسة لشدة الاحتياج إلى معرفة أحكامه.
وأصل الماء: مَوَه فلذلك تجمع على أمواه ومياه، فالأول في القِلة، والثاني في الكثرة، والذاهب عنه الهاء لأن تصغيره مُوَيْه، وماهت الركيّةُ تَموه وتَميه وتماه مَوهًا وموؤها إذا طهر ماؤها، ومِهْتُ الرجلَ ومهُته بكسر الميم وضمها إذا سقيته الماء، قال الجوهري: الماء الذي يشرب.
قلت: الماء جوهر سيَّال منبِت مُرْوٍ للعطش.
والنجاسة اسم للنجس من نَجِسَ الشيء -بالكسر- يَنجُس نَجَسًا بفتحتين ونِجْسًا بكسر النون وسكون الجيم، وأَنْجَسَهُ غيره ونَجَّسَه بمعنى.
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة بن راشد البصري، قال: حدثنا الحجاج بن منهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبيد اللهَ بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من بئر بضُاعة، فقيل: يا رسول الله، إنَّه تُلقي فيها الِجيَفُ والمحائضُ. فقال: إنَّ الماء لا ينجس".
ش: محمَّد بن خزيمة وثقه ابن يونس وقال: توفي بالإسكندرية سنة ست وسبعن ومائتين.
والحجاج بن منهال الأنماطي أبو محمَّد البصريّ، روى له الجماعة.
وحماد بن سلمة بن دينار أبو سلمة البصري، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا.
ومحمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المدني، روي له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات.
وعُبيد الله -بتصغير العبد- بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري العدوي، وقيل: عبيد الله بن عبد الله -بتصغير الابن وتكبير الأب- بن رافع بن خَديج، وقيل: عبد الله بن عبد الله بالتكبير فيهما.
وقيل: إنهما اثنان، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي.
وأبو سعيد اسمه سعد بن مالك، مشهور باسمه وكنيته.
والحديث أخرجه الثلاثة، فقال أبو داود (1): حدثنا ابن العلاء والحسن بن علي ومحمد بن سُليمان الأنباري، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج، عن أبي سعيد الخدري:"أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر تُطرح فيها الحِيَض ولحم الكلاب والنَّتْن؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء [1/ق 4 - ب] طهور لا ينجسه شيء".
وقال الترمذي (2): حدثنا هنّاد والحسن بن علي الخلال وغير واحد، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمَّد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله ابن رافع بن خديج، عن أبي سعيد الخدري: "قيل: يا رسول الله، أتتوضأ من بئر
(1)"سنن أبي داود"(1/ 17 رقم 66).
(2)
"جامع الترمذي"(1/ 95 رقم 66).
بضاعة وهي بئر تُلقي فيها الحِيَض ولحوم الكلاب والنَّتْنُ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الماء طهور لا ينجسه شيء".
وقال النسائي (1): أخبرني هارون بن عبد الله، ثنا أبو أسامة، ثنا الوليد بن كثير، ثنا محمَّد بن كعب القُرَظِي، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد الخدري قال:"قيل: يا رسول الله، أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر تطرح فيها لحوم الكلاب والحيض والنتن؟! فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء".
وأخرجه أيضًا أحمد (2) والبزار وأبو يعلى (3) في مسانيدهم، والدارقطني (4) والبيهقي (5) في سننهما، وقال أحمد:"هو صحيح".
وقال التزمدي: هذا حديث حسن.
فإن قلت: قال ابن القطان: هو ضعيف؛ لأن مداره على أبي أسامة عن محمَّد بن كعب، واختلف على أبي أسامة في الواسطة الذي بين محمَّد بن كعب وأبي سعيد على خمسة أقوال: عبد الله بن عبد الله بن رافع، وعبيد الله بن عبد الله بن رافع، وعبد الله ابن عبد الرحمن بن رافع، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، وعبد الرحمن بن رافع، وكيف ما كان لا نعرف له حالًا ولا عينًا.
قلت: القول ما قال أحمد؛ "إذا قالت حَذام فصدِّقوها".
ووثق ابن حبان عبيد الله بن عبد الله وعبيد الله بن عبد الرحمن وعقد لهما ترجمتين، وهما عند البخاري واحد، بل الخمسة المذكورون عند ابن القطان واحد عند البخاري، فعل هذا ما أحَقّه أن يكون صحيحًا، ولما أخرجه ابن منده من رواية
(1)"المجتبى"(1/ 174 رقم 326).
(2)
"مسند أحمد"(3/ 31 رقم 11275).
(3)
"مسند أبي يعلى"(2/ 476 رقم 1304) لكن من طريق خالد بن أبي نوف، عن سليط، عن أبي سعيد الخدري به، بلفظ:"إنَّ الماء لا ينجسه شيء".
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 31 رقم 13).
(5)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 4 رقم 7).
محمَّد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع قال: هذا إسناد مشهور، ولكن تركه البخاري ومسلم لاختلاف في إسناده.
وله طريق حسن من غير رواية أبي سعيد، من رواية سهل بن سعد.
قال قاسم بن أصبغ: ثنا أبوعلي عبد الصمد بن أبي سُكينة الحلبي بحلب، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد:"قالوا: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة وفيها ما يُنْجِي الناس والمحائض والجيف! فقال رسول الله عليه السلام: الماء لا ينجسه شيء". قال قاسم: هذا من أحسن شيء في بئر بضاعة. وقال ابن حزم في كتاب "الإيصال": عبد الصمد بن أبي سُكينة ثقة مشهور.
وقول ابن القطان في تضعيفه مرجوح، وأكثر ما فيه أنه جَهِل من عرفه غيرُه، وإذا صح من طريق لا يضره أن يُروى من طريق أخرى غير صحيحة، فالضعيف لا يُعِلّ الصحيح.
قوله: "تتوضأ" من باب تفعل وثلاثيه "وَضُأ" على وزن فَعُلَ بالضم، قال الجوهري: الوضاءة الحسن والنظافة، تقول منه وَضُؤَ الرجل أي صار وضيئًا، وتوضأت للصلاة، ولا تقل: توضيت، وبعضهم يقوله.
و"البئر" يجمع في القِلة أَبْؤُر وأبآر بهمز بعد الباء، ومن العرب من يقلب الهمزة فيقول: آبار، فإذا كثرت فهي البِئارُ وقد بأرت بئرًا، والبئرة هي الحفرة، وقال أبو زيد:[1/ق 5 - أ]، بَأَرْتُ أَبأَرَ بَأْرًا: حفرتُ بُؤْرَة يطبخ فيها، وهي الإِرةُ والبَئيرةُ على فعيلة: الذخيرة.
و"البُضاعة" بضم الباء هو المشهور، وذكر الجوهري الضم والكسر وبعدها ضاد معجمة وعن مهملة وحُكي أيضًا بالصاد المهملة، وقال المنذري: بئر بضاعة دار لبني ساعدة بالمدينة، وبئرها معلوم، وبها مال من أموال أهل المدينة. وفي بعض شروح الهداية: بئر بضاعة بئر بالمدينة قديمة ماؤها يجري في البساتين.
قوله: "يلقى" من ألقيت الشيء إذا طرحته، يقال: ألقه من يدك، وألق به من يدك، وألقيت إليك المودة، وألقيت عليه أُلْقِيةً كقولك ألقيت عليه أُحْجية.
و"الجيف" جمع جيفة، وقال الجوهري: الجيفة جثة الميت وقد أراح، تقول منه: جيّفَ تجييفًا، والجمع: جيف ثم أجياف.
و"المحائض" جمع مَحِيضة وهي خرقة الحيض، وكذلك الحِيَض -بكسر الحاء وفتح الياء- جمع حِيْضة -بكسر الحاء وسكون الياء- وهي خرقة الحيض وقال ابن الأثير:"وقيل: المحائض جمع محيض وهو مصدر خاص فلما سَمَّى به جمعه، ويقع المحيض على المصدر والزمان والمكان والدم".
و"النتّن" الرائحة الكريهة وتقع أيضًا على كل مستقبح.
و"عَذِرُ النَّاس" -بفتح العين وكسر الذال المعجمة- اسم جنس للعذرة، وضبط أيضًا بكسر العين وفتح الذال كَمَعِد ومِعَد وكلاهما صحيح، وضم العين تصحيف.
قوله: "ما يُنْجي الناس" بضم الياء بعدها نون ساكنة ثم جيم، والناس مرفوع على الفاعلية، يقال: أنجي الرجل إذا أحدث.
قوله: "لا ينجس" من نَجِسَ يَنْجَس مِن باب علم يعلمُ، ونَجِسًا ونَجَسًا ونجاسةً، ويقال: في نجس لغتان ضم الجيم وكسرها فمن كسرها في الماضي فتحها في المضارع، ومن ضمها ضمها في المستقبل أيضًا.
قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" بفتح الهمزة في محل النصب على أنه مفعول "روي"، المقدر؛ لأن التقدير: عن أبي سعيد الخدري روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم و"كان" من الأفعال الناقصة وهي أم الباب لكثرة أقسامها ودلالتها على الكون إذا كانت تامّة وكل شيء داخل تحت الكون.
قوله: "إنّه" الضمير فيه للشأن، ولما كانوا مترددين في حال بئر "بضاعة" بحسب ما يلقي فيها من المحائض ونحوها أكَّدَ رسول الله عليه السلام جوابه بنوع من المؤكد فقال:"إنَّ الماء لا ينجس" وقد عُلِمَ أن "إنَّ" تدخل الكلام للتأكيد ولكن البلاغة أن يراعى
فيه الحال فإن كان المخاطب خالي الذهن يُستغنى عن المؤكِّد، وإنْ كان متصورًا لطرفي الخبر مترددًا فيه حسن تقويته بمؤكد، وإنْ كان منكرًا للحكم وجب توكيده بحسب الإنكار، والألف واللام في "إنَّ الماء" للعهد أي ماء بئر بضاعة ولا يصح أن يكون للاستغراق؛ لأنه يلزم أن يكون كل فرد من أفراد الماء طاهرًا وليس كذلك، ولئن سُلِّم أنه للاستغراق ولكنه مخصوص بوجهين:
الأول: مجمع عليه، وهو المتغير بالنجاسة.
والثاني: مختلف فيه، وهو إذا كان دون القلتين كما قال به الشافعي وأحمد، وسيأتي كيفية استنباط الحكم بهذا الحديث في اختلاف العلماء، ولما أخرج الترمذي [1/ق 5 - ب]، هذا الحديث قال: وفي الباب عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم.
أما حديث ابن عباس فأخرجه أبو يعلى (1) بإسناد صحيح عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء لا ينجسه شيء".
وأما حديث عائشة فأخرجه الطبراني في "الأوسط"(2): حدثنا أحمد، ثنا أبو الربيع عبيد الله بن محمَّد الحارثي، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الماء لا ينجسه شيء" لم يروه عن المقدام إلَّا شريك، ورواه البزار (3): عن عمر بن علي، عن أبي أحمد.
ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود سليمان بن داود الأسدي، قال: حدثنا أحمد بن خالد الوهبى، قال: حدثنا محمَّد بن إسحاق، عن سليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:"قيل: يا رسول الله، إنَّه يُستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر تطرح فيها عذرة الناس ومحائض النساء ولحوم الكلاب. فقال: إنَّ الماء طهور لا ينجسه شيء".
(1)"مسند أبي يعلى"(4/ 301 رقم 2411).
(2)
"المعجم الأوسط"(2/ 318 رقم 2093).
(3)
ورواه أبو يعلى أيضًا (8/ 203 رقم 4765) من طريق الحماني، عن شريك به.
ش: إبراهيم هذا هو: إبراهيم بن سليمان بن داود أبو إسحاق الأسدي المعروف بالبُرُلُّسي، قال ابن عساكر: كان ثقة من حفاظ الحديث.
قوله: "سليمان بن داود" عطف بيان على قوله: "ابن أبي داود" وقد صحّف النساخ هَا هنا تصحيفًا فاحشًا وكتبوا "وسليمان بن داود" بواو العطف، وهذا غلط كبير.
وأحمد بن خالد: روي له الأربعة، ووثقه يحيى بن معين.
و"سَليط" بفتح السين، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي هذا الحديث لا غير.
وأخرجه بهذا الإسناد أبو داود (1) وقال: حدثنا أحمد بن أبي شعيب وعبد العزيز ابن يحيي الحرانيان، قالا: ثنا محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن سَليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري ثم العدوي، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله عليه السلام وهو يقال له: "إنَّه يستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يلقي فيها لحوم الكلاب والمحائض وعَذِرُ الناس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الماء طهور لا ينجسه شيء".
قوله: "إنَّه" أي إن الشأن.
قوله: "طَهُور" بفتح الطاء، وهو الماء الذي يتطهر به، وبالضم: التطهر كالوَضوء، والوُضوء والسَّحور والسُّحور، وقال سيبويه: الطَّهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معًا.
فعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها، والمراد بهما: التطهر، يقال: طَهَرَ يَطْهُر طَهْرًا من باب نَصَرَ يَنْصُرُ، وطَهُر يَطْهُر من باب حَسُنَ يَحْسُن، وتَطَهَّر يَتَطَهَّر تَطَهُّرًا فهو مُتَطَهِّر.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 18 رقم 67).
والماء الطهور في الفقه: هو الذي يُرفع به الحدث، ويُزيل النجس؛ لأن "فعولًا" من أبنية المبالغة فكأنه تناهى في الطهارة، والماء الطاهر غير الطهور: هو الذي لا يَرفع الحدث ولا يزيل النجس، كالمستعمل في الوضوء والغسل؛ قاله ابن الأثير، ولكن هذا على مذهب الشافعي ومحمد بن الحسن على ما عرف في موضعه، ويجوز أن يكون وزن "فعول" على معنى الفاعل يعني مُطّهر كما في قوله: في البحر: "هو الطهور ماؤه"(1) أي المطهر، ووجه ذكر "إنَّ" قد ذكرناه، وأما الجملة الاسمية فلتدل على الشرب والاستبراء، وأما ذكر الخبر بصيغة فعول فلقصد المبالغة في الوصف المذكور.
وقوله: "لا ينجسه شيء" جملة تفسيرية فلذلك ترك العاطف، ويجوز أن تكون [1/ق 6 - أ]، كالمؤكدة للأولى لدفع توهم تجوز أو غلط أو سبق لسان تحمله الجملة السابقة، وهاتان من الجمل التي لا محل لها من الإعراب.
ص: حدثنا إبراهيم، قال: حدثنا عيسى بن إبراهيم البرَكيّ، قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم القَسْملي، قال: حدثنا مُطَرِّف، عن خالد بن أبي نَوف، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال:"انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله، أتتوضأ منها وهي يُلقي فيها ما يُلقي من النتن؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء لا ينجسه شيء".
ش: "إبراهيم" هو البرلسي وقد مر ذكره الآن.
و"عيسى بن إبراهيم" شيخ أبي داود، وثقه ابن حبان وغيره، والبِرَكي -بكسر الباء الموحدة وفتح الراء- نسبة إلي سكة البِرَك بالبصرة؛ قاله البزار.
و"عبد العزيز بن مسلم أبو زيد المروزي ثم البصري"، روى له الجماعة سوى ابن ماجه.
(1) رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وغيرهم، فأخرجه أبو داود (1/ 21 رقم 83)، والترمذي (1/ 100 رقم 69)، والنسائي (1/ 50 رقم 59)، وابن ماجه (1/ 136 رقم 386)، وأحمد (2/ 237 رقم 7232).
و"القَسْملي" -بفتح القاف وسكون السين المهملة- نسبة إلى القساملة قبيلة من الأزد، وقيل: إنَّه نزل القساملة فنسب إليهم.
و"مُطَرِّف" -بضم الميم وفتح الطاء المهملة وتشديد الراء المكسورة وبالفاء- ابن طريف، وقد نسبه النسائي في روايته، روى له الجماعة.
و"خالد بن أبي نوف السجستاني"، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي هذا الحديث فقط.
و"ابن أبي سعيد الخدري" هو عبد الرحمن بن أبي سعيد سعد بن مالك، وقد جاء مصرحًا به في رواية الحافظ أبي الفتح اليعمري من حديث مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، روى له الجماعة.
وأخرجه النسائي (1) أيضًا وقال: أخبرنا العباس بن عبد العظيم، ثنا عبد الملك ابن عمرو، ثنا عبد العزيز بن مسلم -وكان من العابدين- عن مطرف بن طريف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال:"مررت بالنبي عليه السلام وهو يتوضأ من بئر بضاعة فقلت: أتتوضأ منها وهي تطرح فيها ما يكره من النَّتن؟! فقال: الماء لا ينجسه شيء".
وزادت رواية النسائي على رواية الطحاوي بشيئين:
أحدهما نسبة مطرف إلى أبيه.
والآخر إدخال سليط بين خالد وابن أبي سعيد.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): من رواية عبد العزيز، مثل رواية الطحاوي سواء، غير أن في رواية أحمد:"فقلت: يا رسول الله، توضأ منها؟ " بدون همزة
(1)"المجتبى"(1/ 174 رقم 327).
(2)
"مسند أحمد"(3/ 15 رقم 11134).
الاستفهام. وفي رواية الطحاوي، بالهمزة، وفي رواية أحمد "إنَّ الماء" وفي رواية الطحاوي بدون "إنَّ".
وأخرجه أبو يعلى (1) أيضًا من رواية عبد العزيز مثل رواية الطحاوي سواء، غير أن في رواية أبي يعلى:"إنَّ الماء".
قوله: "انتهيت إلى رسول الله عليه السلام" أي بلغت إليه في النهاية، وهي الغاية، ولما ضمِّن معنى بلغت عُدِّي بكلمة "إلى" التي هي للغاية.
قوله: "أتتوضأ" الهمزة للاستفهام وهو بتائين مثناتين من فوق، خطاب للنبي عليه السلام وكذلك وقع مصرحًا به من طريق الشافعي:"قيل: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة" وكذا وقع في رواية النسائي.
قوله: "وهم تُلقى" أبي بئر بضاعة تُطرح فيها ويلقى، على صفة المجهول.
قوله:" ما يُلقى" مسند إلى "تُلقى".
قوله: "من النتن" كلمة من البيان، وموضعها النصب على الحال. [1/ ق 6 - ب].
ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: حدثنا أصبغ بن الفَرَج، قال: ثنا حاتم ابن إسماعيل، عن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي، عن أمّه قالت:"دخلنا على سهل بن سعد في نِسوة، فقال: لو سقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم ذلك؛ وقد سَقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي منها".
ش: أصبغ بن الفرج بن سعيد الفقيه المصري وَرّاق عبد الله بن وهب أحد مشايخ البخاري في "الصحيح"، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي.
وحاتم بن إسماعيل المدني مولى بني عبد المدان، روى له الجماعة.
ومحمد بن أبي يحيى الأسلمي أبو عبد الله المدني، روى له الأربعة، والترمذي في "الشمائل".
(1)"مسند أبي يعلى"(2/ 476 رقم 1304).
قوله: "عن أمّه" أي عن أم محمَّد بن أبي يحيى، ولم أقف على اسمها في الكتب المشهورة ولا عرفت حالها بعد الكشف التام ولا لها ذكر في الكتب الستة.
ووقع في رواية الطبراني (1): "عن أبية" موضع "أمه" وقال: حدثنا موسى بن سهل، عن هشام بن عمار، عن حاتم بن إسماعيل، عن محمَّد بن يحيى الأسلمي، عن أبيه قال:"دخلنا على سهل بن سعد الساعدي في بيته، فقال: لو أني سقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم، وقد -والله- سقيت منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي".
وأخرجه الدارقطني (2) أيضًا هكذا وقال: حدثنا أبو حامد محمَّد بن هارون، ثنا محمَّد بن زياد الزيادي، ثنا فضيل بن سليمان، عن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي، عن أبيه قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: "شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة" وقد وقع في أصل الدارقطني: عن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي، عن أمه مثل رواية الطحاوي، واسم أبيه سمعان بن يحيى، روى له أبو داود والترمذي.
قوله: "في نسوة" كلمة "في" هَا هنا بمعنى المصاحبة كما في قوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} (3) أي معهم، وقوله:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (4) وموقعها النصب على الحال، أي دخلنا مصاحبين نسوة.
قوله: "لو سقيتكم" خطاب لجماعة النساء ولكن ذكره بخطاب المذكر تغليبا للمذكر على المؤنث؛ لأنهن ما خلون عن رجل بينهن.
ويستفاد من هذا جواز استعمال الماء الذي تتغير بعض أوصافه بمخالطة شيء طاهر أو بطول المكث؛ وذلك لأن قوله: "لكرهتم ذلك" يدل على أنه كان متغيرا.
قلت: "وقد سقيت رسول الله عليه السلام" يدل على أن تغييره في ذلك الوقت ما كان إلَّا بشيء طاهر أو بانحباسه وانسداد جريانه، ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في
(1)"المعجم الكبير"(6/ 207 رقم 6026).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 32 رقم 17).
(3)
سورة الأعراف، آية:[38].
(4)
سورة القصص، آية:[79].
"الأوسط"(1) و"الكبير"(2) من حديث أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينُجّس الماء شيء إلَّا ما غَيَّرَ ريحه أو طعمه".
ورواه ابن ماجه (3) ولفظه: "إلَّا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه".
وفي سنده رشدين بن سعد وهو ضعيف.
وروى الطبراني (4) أيضًا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ بالماء ما لم يأْجَن الماء؛ يخضرّ أو يصفرّ".
ص: حدثنا فهد بن سليمان بن يحيي، قال: ثنا محمَّد بن سعد الأصبهاني، قال: أخبرنا شريك بن عبد اللهَ النخعي، عن طريف البصري، [1/ق 7 - أ]، عن أبي نضرة، عن جابر -أو أبي سعيد الخدري- قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانتهينا إلي غدير وفيه جيفة، فكففنا وكفّ الناس، حتى أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لكم لا تستقون؟ فقلنا: يا رسول اللهَ، هذه الجيفة. فقال: استقوا فإن الماء لا ينجسه شيء. فاستقينا وارتوينا".
ش: فهد بن سليمان بن يحيي أبو يحيى الكوفي، وثقه ابن يونس.
ومحمد بن سعيد بن سليمان الأصبهاني أحد مشايخ البخاري في "الصحيح"، وروى له الترمذي والنسائي في "اليوم والليلة".
وشريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، ومسلم في المتابعات.
وطريف -بالطاء المهملة- هو ابن شهاب، وقيل: ابن سعد، وقيل: ابن سفيان، أبو سفيان السعدي البصري الأشل، ضعيف جِدّا، وروى له الترمذي وابن ماجه.
(1)"المعجم الأوسط"(1/ 417 رقم 748).
(2)
"المعجم الكبير"(8/ 104 رقم 7503).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 174 رقم 521).
(4)
"المعجم الكبير"(20/ 99 رقم 193).
وأبو نضرة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي ثم العَوَقي -بفتح العين والواو، وفي آخره قاف- روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدا.
والحديث أخرجه ابن ماجه (1) أيضًا وقال: ثنا أحمد بن [سنان](2) نا يزيد بن هارون، نا شريك، عن طريف بن شهاب، قال: سمعت أبا نضرة يحدّث عن جابر رضي الله عنه قال: "انتهينا إلى غدير فإذا فيه جيفة حمار، قال: فكففنا عنه حتى انتهى إلينا رسول الله عليه السلام فقال: إنَّ الماء لا ينجسه شيء. فاستقينا، وأروينا، وحملنا".
قوله: "فانتهينا إلي غدير" أي بلغنا إليها، والغدير على وزن فعيل بمعنى مفاعل من غادره، أو بمعنى مفعل من أغدره، وقيل: فعيل بمعنى فاعل؛ لأنه يغدر بأهله لانقطاعه عند شدة الحاجة إليه، وهو القطعة من الماء يغادره السيل.
قوله: "وفيه جيفة" جملة اسمية وقعت حالًا عن الغدير.
قوله: "فكففنا" من كفّ إذا امتنع، يتعدى ولا يتعدى.
قوله: "وارتوينا" بمعنى رَوَيْنَا وكذلك تَروّينا، يقال رَوِيت من الماء -بالكسر- أَرْوي رَيّا ورِيّا ورِوي -مثل رضي- وارتويت وتروّيت كله بمعنى.
والمراد من الغدير هَا هنا هو الغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، والمراد من الاستقاء هو الاستقاء من الجانب الذي لا يصل إليه أثر الجيفة وذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر أحدا إلَّا باستعمال ماء طاهر.
ص: فذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: لا ينجسّ الماء شيء وقع فيه إلَّا أن يُغيّر لونه أو طعمه أو ريحه فأي ذلك إذا كان فقد نجس الماء.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والليث بن سعد ومالكا وعبد الله بن وهب وإسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير والحسن بن صالح وداود بن علي ومن
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 173 رقم 520).
(2)
في "الأصل، ك": سليمان، وهو تحريف، والمثبت من "سنن ابن ماجة"، و"تحفة الأشراف".
تبعهم؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار المذكورة وقالوا: لا ينجس الماء شيء وقع فيه، وأرادوا به من النجاسة؛ لأن وقوع الشيء الطاهر لا ينجسه عندنا أيضًا وإنْ غيّر بعض أوصافه، وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران:"أنه سأل القاسم بن محمَّد وسالم بن عبد الله عن الماء الراكد الذي لا يجري تموت فيه الدابة أَيُشْربُ منه ويُغتسل وتُغسل منه الثياب؟ فقالا: انظر بعينك فإن رأيت ماء لا يدنسه ما وقع فيه فنرجو ألَّا يكون به بأس".
قال: وأخبرني يونس، عن ابن شهاب قال:"كل ماء فيه فضل عما يصيبه [1/ق 7 - ب]، من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه ولا لونه ولا ريحه فهو طاهر يتوضأ به".
قال: وأخبرني عبد الجبار بن عمر، عن ربيعة قال:"إذا وقعت الميتة في البئر فلم يتغير طعمها ولا لونها ولا ريحها؛ فلا بأس أن يتوضأ منها، وإنْ رُؤيت فيها الميتة، قال: وإنْ تغيرت نزع منها قدر ما يذهب الرائحة عنها" هذا قول ابن وهب.
وقال القشيري: "وهو الذي شهره العراقيون عن مالك فاشتهر".
وهو قول لأحمد، ورجحه أيضًا من أتباع الشافعي القاضي أبو المحاسن الروياني صاحب "بحر المذهب".
وفي "البدائع" ما ملخصه: أن الظاهرية استدلت بالآثار المذكورة أن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه أصلًا سواء كان جاريا أم راكد، وسواء كان قليلًا أم كثيرا، تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه أو لم يتغير.
وقال ابن حزم في "المحلى"(1): وممن روي عنه القول بمثل قولنا: "إن الماء لا ينجسه شيء": عائشة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله ابن العباس والحسن بن علي بن أبي طالب وميمونة أم المؤمنين وأبو هريرة وحذيفة ابن اليمان رضي الله عنهم والأسود بن يزيد وعبد الرحمن أخوه وعبد الرحمن بن أبي ليلى
(1)"المحلى"(1/ 168).
وسعيد بن جبير ومجاهد وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق والحسن البصري وعكرمة وجابر بن زيد وعثمان البتِّي وغيرهم.
قوله: "فأي ذلك" إشارة إلى كل واحد من اللون والطعم والريح.
قوله: "فقد نجس الماء" بفتح النون وكسر الجميع وضمها.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأصحابه رحمهم الله فإنهم قالوا: الماء لا يخلو إما أن يكون جاريا أو راكدا قليلًا أو كثيرا، فإن كان جاريا فوقعت فيه نجاسة وكانت غير مرئية كالبول والخمر ونحوهما فإنه لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، ويتوضأ منه من أي موضع شاء، من الجوانب التي وقعت فيها النجاسة أو من جانب آخر؛ كذا ذكر محمَّد في كتاب "الأشربة".
وإنْ كانت مرئية كالجيفة ونحوها؛ فإن كان يجري جميع الماء عليها لا يجوز التوضؤ من أسفلها، وإنْ كان يجري أكثره عليها؛ كذلك اعتبارا بالغالب، وإنْ كان أقله يجري عليها يجوز التوضؤ به من أسفلها، وإنْ كان يجري عليها النصف دون النصف فالقياس جواز التوضؤ وفي الاستحسان لا يجوز احتياطا.
وإنْ كان راكدا فقد اختلفوا فيه: فقال الظاهرية: لا ينجس أصلًا.
وقال عامة العلماء: إنْ كان الماء قليلًا ينجس وإنْ كان كثيرا لا ينجس.
لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بينهما، فقال مالك: إنْ تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل؛ وإلَّا فهو كثير.
وقال الشافعي: "إذا بلغ قلتين فهو كثير وما دونهما قليل. وبه قال أحمد".
وقال أصحابنا: إن كان بحال يخلص. بعضه إلى بعض فهو قليل وإلَّا فهو كثير.
ثم اختلفوا في تفسير الخلوص بعد أن اتفقوا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك وهو أن يكون بحال لو حرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص، وإلَّا فهو مما لا يخلص.
واختلفوا في صفة التحريك، فعن أبي يوسف، عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال في غير عنف، وعن محمَّد أنه يعتبر بالوضوء، وروي أنه باليد من غير اغتسال ولا وضوء.
وأما اختلافهم في تفسير الخلوص فعن أبي حفص الكبير أنه اعتبره بالصبغ، وعن ابن أخي محمَّد بن سلام أنه اعتبره بالتكدير، وعن أبي سليمان الجوزجاني أنه اعتبره بالمساحة وقال: إن كان عشرا في عشر فهو مما لا يخلص، وإنْ كان دونه فهو مما يخلص.
وعن ابن المبارك أنه اعتبره بالعشرة أولا ثم بخمسة عشر، وإليه ذهب أبو مطيع البلخي فقال: إن كان خمسة عشر في خمسة عشر أرجو أن يجوز [1/ ق 8 - أ] وإنْ كان عشرين في عشرين لا أجد في قلبي شيئًا. وعن محمَّد أنه قدّره بمسجده وكان ثمانيا في ثمان، وبه أخذ محمَّد بن مسلمة، وقيل: كان مسجده عشرا في عشر، وقيل: كان داخله ثمانيا في ثمان وخارجه عشرا في عشر، وعن الكرخي لا عبرة للتقدير وإنما المعتبر هو التحري، فإن كان أكثر رأيه أن النجاسة خلصت إلى الموضع الذي يتوضأ منه لا يجوز، وإنْ كان أكثر رأيه أنَّهَا لم تصل إليه يجوز. فإن قلت: نصب المقدّرات بالرأي لا يجوز.
قلت: حديث بئر بضاعة يصلح أن يكون مستندا لتقديرهم الماء الكثير بالعشر في العشر وذلك لأن محمدا قدّره بمسجده وكان ثمانيا في ثمان على ما مرّ وكان وسع بئر بضاعة ثمانيا في ثمان على ما قيل، ولكن قال أبو داود: قدّرتُ بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه هل غُيّر بناؤها عما كان عليه؟ فقال: لا. ورأيت الماء فيها متغير اللون. انتهى.
فإذا كان عرضها ستة أذرع يكون طولها أكثر منها إذ لو كانت البئر مدورة لقال أبو داود: فإذا دورها ستة أذرع. فإذا أضيف ما في الطول من الزيادة إلى العرض يكون ثمانية وأكثر فيستقيم قول من قال: كان وسع بئر بضاعة ثمانيا في ثمان لأن مبنى ذلك على التقدير لا على التحرير؛ فأخذ محمَّد من هذا وقال: إنْ كان قدر مسجدي هذا فهو كثير فلما قاسوه وجدوه ثمانيا في ثمان من داخله وعشرا في عشر من خارجه ولكنهم اعتبروا مساحة خارجه، وقالوا: الماء الكثير عشر في عشر. ولم يعتبروا داخله لأجل الاحتياط في باب العبادات، وأما على قول محمَّد بن مسلمة في تقديره بثمان في ثمان فهو على ظاهره؛ لأن مسجد محمَّد ثمان في ثمان كما أن بئر بضاعة ثمان في ثمان فتنبّه على هذا فإن كثيرا منهم لم يحوموا حوله حتى تعرف أن مبنى أقوال أصحابنا على أصل محكم.
وأما من اعتبر الخلوص في تقدير الماء الكثير فله أن يستند على حديث ابن ماجه الذي ذكر عن قريب، واعلم أيضًا أن هذا الحديث يصلح أن يكون مستندا لتقدير بعض أصحابنا عمق الماء الكثير بذراع على ما قال صاحب البدائع، وأما العمق فهل يشترط مع الطول والعرض؟ عن أبي سليمان الجوزجاني أنه قال: إن أصحابنا اعتبروا البسط دون العمق. وعن الفقيه أبي جعفر الهنداوي إنْ كان بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه انحسر أسفله ثم اتصل لا يتوضأ به وإنْ كان بحال لا ينحسر أسفله لا بأس بالوضوء منه.
وقيل: مقدار العمق أن يكون زيادة على عرض الدرهم الكبير المثقال، وقيل: أن يكون قدر شبر، وقيل: قدر ذراع، انتهى.
بيان ذلك: أن أبا داود رحمه الله: قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: سألت قيّم بئر بضاعة عن عمقها قلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة. فهذا عند ازدياده يكون إلى العانة وهذا قدر ذراع وأكثر، وعند انتقاصه يكون دون العورة أراد به ما دون الركبة فهذا وأكثر من شبر، وأيّا ما
كان لا تنجس الأرض لو رفع إنسان ماءه بكفيه، وعلى كل تقدير فيه استناد للأقوال التي ذكرت في مقدار العمق في الماء الكثير، فافهم.
ص: فقالوا: أما ما ذكرتموه من بئر بضاعة فلا حجة لكم فيه؛ لأن بئر بضاعة قد اختلفت فيها ما كانت؟ فقال قوم: كانت طريقا للماء إلى البساتين، فكان الماء لا يستقر فيها، فكان حكم مائها كحكم ماء الأنهار، وهكذا نقول في كل موضع كان على هذه الصفة وقعت في مائه نجاسة؛ فلا ينجس ماؤه إلَّا أن يغلب على طعمه أو لونه أو ريحه [1/ ق 8 - ب]، أو يعلم أنَّهَا في الماء الذي يؤخذ منه؛ فإن علم ذلك كان نجسا، وإنْ كان لم يعلم ذلك كان طاهرا.
ش: أشار بهذا إلى الجواب عن الآثار المذكورة وهو ظاهر.
قوله: "فيه" أي فيما ذكرتموه من الآثار، وأراد بقوله:"فقال قوم" الواقدي ومن تبعه على ما يجيء، وهو قول عائشة رضي الله عنه أيضًا على ما روي عنها أنَّهَا قالت:"إنَّ بئر بضاعة كانت قناة ولها منفذ إلى بساتينهم ويسقى منها خمسة بساتين أو سبعة" وقال صاحب الهداية: والذي رواه مالك ورد في بئر بضاعة وماؤه كان جاريا في البساتين.
وقال الخطابي: قد يتوهم من سمع حديث أبي سعيد أن هذا كان منهم عادة، وأنهم كانوا يأتون هذا الفعل قصدا وتعمدًا، وهذا ما لا يجوز أن يُظَنّ بذمي بل وثني فضلا عن مسلم، ولم تزل عادة الناس قديما وحديثا مسلمهم وكافرهم تنزيه المياه، فكيف يُظن بأعلى طبقات الدين وأفضل جماعة المسلمين والماء ببلادهم أعز والحاجة إليه أمس أن يكون صنيعهم به هكذا وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تغوط في موارد الماء ومشارعه فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه رصدا للأنجاس ومطرحا للأقذار، مثل هذا الظن لا يليق بهم ولا يجوز فيهم، وإنما كان من أجل أن هذه البئر موضعها في حدور من الأرض، وأن السيول كانت تكسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية فتحملها فتلقيها فيها، وكان الماء لكثرته لا يؤثر فيه وقوع هذه الأشياء، ولا تُغيره، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شأنها ليعلموا حكمها من الطهارة والنجاسة، فكان من
جوابه لهم: "إنَّ الماء لا ينجسه شيء" يريد الكثير منه الذي صفته صفة ماء هذه البئر في غزارته؛ لأن السؤال إنما وقع عنها نفسها فخرج الجواب عليها.
قوله: "على هذه الصفة" إشارة إلى قوله: "فكان الماء لا يستقر فيها".
قوله: "أو يعلم أنَّهَا" أي النجاسة.
قوله: "وإنْ كان لم يعلم ذلك" أي وقوع النجاسة في الماء الذي يؤخذ منه، كان الماء طاهرا على حاله؛ لأن الأصل الطهارة فلا يثبت كونه نجسا إلَّا بالعلم، وإنْ شك فيه فكذلك طاهر، على الأصل المعهود: أن اليقين لا يزول بالشك.
ص: وقد حُكي هذا القول الذي ذكرناه في بئر بضاعة عن الواقدي، حدثنيه أبو جعفر أحمد بن أبي عمران، عن أبي عبد الله محمَّد بن شجاع الثَلجي، عن الواقدي: أنَّهَا كانت كذلك.
ش: أشار به إلى القول المحكي عن القوم الذين قالوا: إنها كانت طريقا للماء إلى البساتين.
قوله: "حدثنيه" أي هذا القول.
أبو جعفر أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، وثقه ابن يونس.
ومحمد بن شجاع الثلجي -بالثاء المثلثة وبالجيم في آخره- من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي وقد شنع عليه أصحاب الحديث تشنيعا عظيما، وقال في التهذيب: كان فقيه أهل الرأي في وقته وصاحب التصانيف. ونقل ابن الجوزي عن ابن عدي أنه كان يضع أحاديث في التشبيه ينسبها إلي أصحاب الحديث يثلبهم بها.
قلت: من جملة تصانيفه كتاب "الردّ على المشبهة" فكيف يصح هذا عنه، وكان دَيّنا صالحا عابدا (1).
(1) قال الذهبي رحمه الله في "السير"(12/ 380): "وكان صاحب تعبد وتهجد وتلاوة، مات ساجدًا، له كتاب "المناسك" في نيف وستين جزءًا، إلَّا أنه كان يقف في مسألة القرآن وينال من الكبار. =
واسم الواقدي محمَّد بن عمر بن واقد الأسلمي أبو عبد الله المدني قاضي بغداد أحد مشايخ الشافعي.
فإن قلت: قد قيل: إنَّ المدينة لم يكن بها ماء جارٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأما عين الزرقا وعيون حمزة رضي الله عنه فحدثت بعد ذلك، وبئر بضاعة كان نبعا غير جارٍ وهي باقية إلى اليوم شرقي المدينة بدار بني ساعدة.
قلت: يرد هذا ما رواه الطحاوي عن الوليد بن [1/ ق 9 - أ]، علي أنه يحتمل أن يكون مراد هذا القائل: إن المدينة لم يكن بها ماء جار. الجاري على وجه الأرض مثل النهر، وبئر بضاعة كان ماؤها جاريا تحت الأرض كالقنوات التي تجري تحت الأرض.
فإن قلت: قال البيهقي: "زعم أبو جعفر الطحاوي أن بئر بضاعة كان طريقا للماء إلى البساتين فكان الماء لا يستقر فيها، وحكاه عن الواقدي، ومحمد بن عمر الواقدي لا يحتج بروايته فيما يسنده فكيف فيما يرسله؟! ضعفه يحيى بن معين، وكذبه أحمد بن حنبل، وقال البخاري: محمَّد بن عمر الواقدي متروك الحديث. ثم أسند عن الشافعي أنه قال: كتب الواقدي كذب".
قلت: هذا تحامل من البيهقي على الطحاوي؛ لأنه حكي عنه أن بئر بضاعة كانت كذلك، وهو إنما أخبر عن مشاهدة لأنه من أهل المدينة وهو أخبر بحالها وحال أماكنها من غيره، وليس فيه إسناد حديث ولا إرساله حتى يشنع عليه هذا التشنيع، فما للواقدي لا يحتج بكلامه في مثل هذا وقد طبّق شرق الأرض وغربها ذكره وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم كما ذكره الخطيب، وقال إبراهيم بن جابر الفقيه: سمعت الصاغاني وذكر الواقدي فقال: والله لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه. وحدّث عنه أربعة أئمة كبار: أبو بكر بن أبي شيبة وأبو عُبَيد القاسم بن سلام وأبو خيثمة ورجل
= وقال في "الميزان"(3/ 578) بعد أن ذكر الأقوال في تضعيفه: "وكان مع هناته ذا تلاوة وتعبد، ومات ساجدًا في صلاة العصر، ويرحم إنْ شاء الله".
آخر. ويمكن أن يكون هو الشافعي لأنه روى عنه، وقال مصعب الزبيري: الواقدي ثقة مأمون. وقال أبو عُبَيد: الواقدي ثقة.
ورواية الطحاوي عن الثلجي عن الواقدي دليل على أنهما مرضيان عنده، ولا يلزمه تضعيف غيره إياهما على ما عرف.
ص: وكان من الحجة في ذلك أيضًا أنهم قد أجمعوا إن النجاسة إذا وقعت في البئر فغلبت على طعم مائها إو ريحه أو لونه أن ماءها قد فسد، وليس في حديث بئر بضاعة من هذا شيء إنما فيه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن بئر بضاعة فقيل: إنَّه يلقى فيها الكلاب والمحائض. فقال: إنَّ الماء لا ينجسه شيء" ونحن نعلم أن بئرا لو سقط فيها ما هو أقل من ذلك لكان محالا ألَّا يتغير ريح مائها أو طعمه، هذا مما يعقل ويعلم، فلما كان ذلك كذلك وقد أباح لهم النبي عليه السلام ماءها وأجمعوا أن ذلك لم يكن وقد داخل الماء التغير من جهة من الجهات اللاتي ذكرنا؛ استحال عندنا -والله أعلم- أن يكون سؤالهم النبي عليه السلام عن مائها وجوابه إياهم في ذلك بما أجابهم كان والنجاسة في البئر، ولكنه كان -والله أعلم- بعد إن أخرجت النجاسة من البئر فسألوا النبي عليه السلام عن ذلك هل يطهر بإخراج النجاسة منها فلا ينجس ماؤها الذي يطرأ عليها بعد ذلك؟ وذلك موضع مشكل؛ لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يُخْرَجْ؟ فقال لهم النبي عليه السلام:"إنَّ الماء لا ينجس" يريد بذلك الماء الذي يطرأ عليها بعد إخراج النجاسة منها؛ لا أن الماء لا ينجس إذا خالطته النجاسة، وقد رأينا أنه صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن لا ينجس".
ش: هذا إشارة إلي جواب آخر عن مقالة الخصم وهو ظاهر.
قوله: "أنهم" في محل الرفع على أنه اسم "كان" والتقدير: وكان من الحجة في ذلك اجتماعهم -أعني إجماع كل من الخصم والأصحاب- على أن النجاسة
…
إلى آخره.
فإن قلت: كيف قال: قد أجمعوا، والظاهرية ليسوا بقائلين بهذا الحكم فإن عندهم الماء لا ينجسه شيء أصلًا على ما حكينا عن ابن حزم أن مذهبهم هو مذهب
[1/ ق 9 - ب] جماعة من الصحابة والتابعين، وقد سردنا أسماءهم، ثم قال في آخره: فإن كان التقليد؛ فتقليد من ذكرنا من الصحابة والتابعين أولى من تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي. ثم استدل على مذهبه بحديثين: أحدهما ما رواه سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء لا ينجسه شيء" والآخر ما رواه حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث" فذكر عليه السلام منها "وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء"(1) يعم عليه السلام كل ماء ولم يخص ماء من ماء.
قلت: المراد من الخصم في هذا الفصل مالك ومن تبعه فإنهم قائلون بأن البئر إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت أحد أوصاف الماء فيها فإنه ينجس، ولا اعتبار لمخالفة الظاهرية؛ لأن كلامهم ساقط؛ ألَّا ترى إلى قول ابن حزم: فعمّ عليه السلام كل ماء ولم يخصّ ماء من ماء. كيف هو في غاية السقوط والتفاهة؛ لأن قوله: عليه السلام: "إذا لم نجد الماء" أي الماء الطاهر المطهر، بدليل قوله عليه السلام:"لا ينجس الماء شيء إلَّا ما غيّر ريحه أو طعمه" رواه الطبراني وابن ماجه وقد ذكرناه (2)، قوله عليه السلام "لا يبل أحدكم في الماء الراكد ثم يتوضأ منه" رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3)، ولو كان البول فيه لم ينجسه لم يكن للنهي فائدة.
قوله: "وليس في حديث بئر بضاعة من هذا شيء" يعني من الحكم المجمع عليه وهو فساد ماء البئر بوقوع النجاسة التي غلبت على أحد أوصاف الماء.
قوله: "ألَّا تتغير" في محل الرفع على أنه اسم كان، والتقدير: لكان عدم تغير ريح مائها محالا.
(1) أخرجه مسلم (1/ 371 رقم 522).
(2)
تقدم.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 141) من حديث أبي هريرة، والحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة أيضًا، بلفظ:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه" أخرجه البخاري (1/ 94 رقم 236)، ومسلم (1/ 235 رقم 282).
قوله: "فلما كان ذلك كذلك" أي لما كان الأمر كما ذكرنا.
قوله: "وقد أباح" جملة حالية وكذلك الواو في قوله: "وقد داخل الماء التغير" للحال، والتغير فاعل "داخل".
قوله: "استحال" جواب "لمّا".
قوله: "وجوابه إياهم" أي جواب النبي عليه السلام للصحابة الذين سألوه.
قوله: "والنجاسة في البئر" جملة حالية أيضًا.
قوله: "من البئر" أي بئر بضاعة.
قوله: "يطرأ" أي يعرض ويُجدّد.
"بعد ذلك" أي بعد إخراج النجاسة من البئر.
قوله: "وذلك موضع مشكل" إشارة إلى عدم نجاسة الماء الطارئ عليها، يعني كيف يطهر هذا، وهو مشكل "لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها النجس لم يخرج" لأنه خالطه نجاسة فأجاب عليه السلام بقوله:"إنَّ الماء لا ينجس" يعني الماء الذي يطرأ ويجدّد بعد إخراج النجاسة، لا أن الماء لا ينجس أصلًا إذا خالطته النجاسة، يعني ليس المراد من قوله:"إنَّ الماء لا ينجس" أنه لا ينجس إذا خالطته النجاسة، ثم أيد هذا التأويل بقوله:"وقد رأينا أنه عليه السلام قال: المؤمن لا ينجس" لأن معناه ليس أن بدنه لا ينجس وإنْ أصابته النجاسة؛ لأن نجاسته حينئذ ظاهرة لا يمكن نفيها عنه، بل معناه لا ينجس من حيث الاعتقاد، كما يقال في حق المشرك: إنه نجس من حيث الاعتقاد؛ إذ لو كان نجسا بغير هذا المعنى لكان سؤره نجسا مع أنه طاهر.
ص: حدثناه ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن حميد.
وحدثناه ابن خزيمة، قال: حدثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"لقيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب، فمد يده إليّ فقبضت يدي عنه وقلت: إني جُنُب. فقال: سبحان الله، إنَّ المسلم لا ينجس".
ش: أي حدثنا الحديث المذكور وهو قوله رضي الله عنه: "المؤمن لا ينجس" إبراهيم بن أبي داود البرلسي.
قوله: "حدثنا" بفتح الدال من حدث و"نا" مفعوله "وابن أبي داود" فاعله. و"المقدّمَي" -بضم الميم وفتح القاف [1/ق 10 - أ]، وتشديد الدال المفتوحة وكسر الميم الثانية -نسبة إلى المُقدَّم- على صيغة الفعول -وهو جدّ أبي عبد الله محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم، والذي اشتهر بهذه النسبة منهم جماعة، منهم: محمَّد بن أبي بكر هذا، روى عنه البخاري ومسلم وابن أبي داود البرلسي أيضًا، ومنهم: ابن عمه محمد بن عمر بن علي بن عطاء البصري روى عنه الأربعة- والبرلسي أيضًا وثقه ابن حبان- قيل: هو المراد هَا هنا من المقدمي.
وابن أبي عدي هو محمَّد بن إبراهيم بن أبي عدي السلمي مولاهم أبو عمرو البصري، ويقال: محمَّد بن أبي عدي، واسم أبي عدي إبراهيم، روى له الجماعة.
وحُميد -بضم الحاء- ابن أبي حميد الطويل، أبو عُبيدة الخزاعي البصري، روى له الجماعة.
وابن خزيمة هو محمَّد بن خزيمة بن راشد البصري ثقة مشهور.
والحجاج بن منهال روى له الجماعة.
وحماد بن سلمة بن دينار البصري روى له الجماعة، البخاري مستشهدا.
وبكر هو ابن عبد الله المزني أبو عبد الله البصري روى له الجماعة.
وأبو رافع اسمه نُفيع -بضم النون- الصائغ المدني نزيل البصرة روى له الجماعة.
وهذا الحديث أخرجه الجماعة، فقال البخاري (1): ثنا محمَّد بن المثني، عن
(1) لم أجده في "صحيح البخاري" من طريق محمَّد بن المثني، ولم يذكر المزي رحمه الله هذا الطريق في "تحفة الأشراف"، وإنما أخرجه البخاري في (1/ 109 رقم 279) من طريق علي بن عبد الله، عن يحيى به، ولفظه:"إنَّ المسلم" وأخرجه (1/ 109 رقم 281) من طريق عياش، عن عبد الأعلى به، وانظر "تحفة الأشراف"(9/ 385).
يحيى بن سعيد، عن حميد، قال: ثنا بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب، قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت، ثم جئت فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. قال: سبحان الله، إنَّ المؤمن لا ينجس".
وقال مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا ابن عُلية، عن حميد الطويل، عن أبي رافع، عن أبي هريرة:"أنه لقيه النبي عليه السلام في طريق من طرق المدينة وهو جُنب، فانسلَّ فذهب فاغتسل، فتفقده النبي عليه السلام فلما جاء قال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله، لقيتني وأنا جُنب فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! إنَّ المؤمن لا ينجس".
وقال أبو داود (2): ثنا مسدد، قال: نا يحيى وبشر، عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال:"لقيني رسول الله عليه السلام في طريق من طرق المدينة وأنا جُنب، فاخْتَنَسْتُ منه فذهبت فاغتسلت، ثم جئت فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قلت: إني كنت جُنبا فكرهت أن أجالسك على غير طهارة. فقال: سبحان الله، إنَّ المسلم لا ينجس".
وقال الترمذي (3): نا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد القطان، قال: نا حميد الطويل، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة:"أن النبي عليه السلام لقيه وهو جنب، قال: فانبجَسْتُ فاغتسلتُ ثم جئت، فقال: أين كنت -أو أين ذهبت-؟ قلت: إني كنت جنبا. فقال: إنَّ المسلم لا ينجس".
(1)"صحيح مسلم"(1/ 282 رقم 371).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 59 رقم 231).
(3)
"جامع الترمذي"(1/ 207 رقم 121).
وقال النسائي (1): أخبرنا [حميد بن مسعدة](2) قال: ثنا بشر -وهو ابن المفضل- قال: ثنا حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة:"أن النبي عليه السلام لقيه في طريق من طرق المدينة وهو جنب فانسلَّ عنه فاغتسل ففقده النبي عليه السلام فلما جاء قال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله، إنك لقيتني وأنا جُنُب فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال: سبحان الله إنَّ المؤمن لا ينجس".
وقال ابن ماجه (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة
…
إلي آخر ما رواه مسلم لأنهما كليهما أخرجاه عن ابن أبي شيبة، ولكن عند مسلم منقطع بين حميد وأبي رافع بينهما بكر بن عبد الله المزني (4)، وعند ابن ماجه موصول فافهم.
فإن قلت: قد قال الطحاوي أولًا: وقد رأينا أنه عليه السلام قال: "المؤمن لا ينجس".
ثم روى الحديث وفيه: "إن المسلم لا ينجس".
قلت: كلا اللفظين مروي كما ذكرناه [1/ ق -10 ب] وقال الترمذي: وفي الباب عن حذيفة وابن عباس رضي الله عنهم.
قلت: حديث حذيفة رواه أبو داود (5) عن مسدد، عن يحيي، عن مسعر، عن واصل، عن أبي وائل، عن حذيفة:"أن النبي عليه السلام لقيه فأهوى إليه فقال: إني جُنب. فقال: إنَّ المسلم ليس بنجس"(6).
(1)"المجتبى"(1/ 145 رقم 269).
(2)
في"الأصل، ك": "قتيبة بن سعيد"، وهو تحريف، والمثبت من "المجتبى" و"تحفة الأشراف"، ولم يذكر المزي في "تهذيبه":"قتيبه" فيمن روى عن بشر بن المفضل.
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 178 رقم 534).
(4)
قال الحافظ في "النكت الظراف": "بكر بن عبد الله" في السند عند مسلم في أكثر النسخ من (م) وثبت في بعضها من رواية بعض المغاربة وكذا هي عندي بخط أبي الحسن المرادي الراوي عن الفراوي.
(5)
"سنن أبي داود"(1/ 59 رقم230).
(6)
في "سنن أبي داود": (لا ينجس).
ورواه مسلم (1) أيضًا ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جُنب فحاد عنه فاغتسل ثم جاء فقال: كنت جُنبا. قال: إن المسلم لا ينجس".
وفي رواية الكَسّار عن النسائي: أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: حدثني واصل، عن أبي وائل، عن عبد الله:"أن النبي عليه السلام لقيه وهو جُنب، فأهوي إليّ فقلت: إني جنب. فقال: المسلم لا ينجس" وفي رواية غيره: "عن حذيفة" بدل "عبد الله"(2).
وكذا عند ابن ماجه (3): "عن حذيفة".
وحديث عبد الله بن عباس أخرجه الحكم في "مستدركه"(4): على ما نذكره الآن إنْ شاء الله تعالى.
قوله: "جُنُب" على وزن فُعُل بضمتين صفة مشبّهة، وهو الذي يجب عليه الغسل بالجماع وخروج المني، ويقع على الواحد والإثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد، وقد يجمع على أجناب وجُنُبين، وأَجْنَبَ يُجنِبُ إجنابا، والجنابة الاسم، وهي في الأصل: البعُد، ويسمى الإنسان جنبا؛ لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، وقيل: لمجانبته الناس حتى يتطهر، قال الجوهري: تقول: أجنب الرجل وجُنِبَ أيضًا بالضم.
قوله: "فقبضت يدي عنه" يعني جمعتها عنه؛ لأن القبض في الأصل خلاف البسط.
قوله: "سبحان الله" في موضع التعجب، وسبحان عَلَمٌ للتسبيح. كعثمان علم للرجل، ومعناه أُسبح الله تسبيحا أي أنزّهه عن النقائص.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 282 رقم 372).
(2)
"المجتبى"(1/ 145 رقم 268)، وكذا فيه مسعر بدل سفيان.
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 178 رقم 535).
(4)
"المستدرك"(1/ 542 رقم 1422).
قوله: "فانخنست" أبي تأخرت، ومنه خنس الشيطان وهو بالخاء المعجمة والنون، وكذا معنى "فاختنست" فالأول من باب الانفعال والثاني من باب الافتعال، وفي رواية للبخاري (1) رحمه الله:"فانسللت" من السَّلِّ وهو الجذب.
قوله: "فانبجست" يعني اندفعت ومنه قوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (2) أي جَرْتَ واندفعت.
وروي "فانتجست" أي اعتقدت نفسي نجسا، وروي "فانتجشت" -بالشين المعجمة- من النجش وهو الإسراع، روي "فانبخست" -بالنون والباء الموحدة والخاء المعجمة والسين المهملة- واستبعده بعضهم، وقال بعضهم: البخس النقص فكأنه ظهر له نقصانه عن مُمَاشاةِ رسول الله عليه السلام لما اعتقد في نفسه من النجاسة.
قوله: "أهوى إليه"أي أهوى إليه يده، أي أمالها إليه، يقال: أهوى يده إليه وأهوى بيده إليه، ويترك المفعول كثيرا.
قوله: "فحاد عنه" من حاد عن الشيء أو عدل عنه يحيد حيدا وحيدودة.
ويستفاد منه فوائد:
- كون الجنُب طاهرا وكذا سؤره وعرقه ولعابه ودمعه، وكون المسلم طاهرا حيّا وميتا، وعن الشافعي قولان في الميت أصحهما الطهارة.
- وذكر البخاري في "صحيحه"(3): عن ابن عباس تعليقا "المسلم لا ينجس حيّا ولا ميتا".
- ووصله الحكم في "المستدرك"(4) فقال: أخبرني إبراهيم بن عصمة، قال: ثنا أبو مسلم المسيب بن زهير البغدادي، أنبأ أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، قالا: ثنا
(1)"صحيح البخاري"(1/ 109 رقم 281).
(2)
سورة الأعراف، آية:[160].
(3)
"صحيح البخاري"(1/ 422) في ترجمة الباب.
(4)
"المستدرك"(1/ 542 رقم 1422).
سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المسلم ليس بنجس حيّا ولا ميِّتّا" قال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
فإن قلت: على هذا ينبغي ألَّا يغسل الميت؛ لأنه طاهر.
قلت: اختلف علماؤنا في وجوب غسله، فقيل: إنما وجب لحدثٍ يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسته؛ فإن الآدمي لا ينجس بالموت كرامة، إذ لو تنجس لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات وكان الواجب اقتصار الغسل على أعضاء الوضوء كما في حال الحياة، لكن ذلك إنما كان نفيا للحرج فيما يتكرر كل يوم والحدث بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة لا يكتفي فيها بغسل الأعضاء الأربعة بل يبقى على الأصل وهو وجوب غسل البدن لعدم الحرج فكذا هذا.
وقال العراقيون: يجب غسله لنجاسته بالموت لا بسبب الحدث؛ لأن للآدمي دمًا سائلا فيتنجس بالموت قياسا على غيره، ألا ترى أنه لو مات في البئر نجّسها ولو حمله المصلي لم تجز صلاته، ولو لم يكن نجسا لجازت كما لو حمل محدثا. هذا حكم المسلم، وأما حكم الكافر فحكمه في الطهارة والنجاسة كحكم المسلم عند الجمهور خلافا لقوم.
- ومنها: جواز تأخير الغسل عن الجنابة بمقدار ما لا يفوته الفرض فيه؛ لأنه عليه السلام ما أنكر عليه ذلك حين قال: إني جنب.
- واستحباب احترام أهل الفضل وتوقيرهم ومصاحبتهم على أكمل الهيئات وأحسن الصفات.
- وأن العالم إذا رأى من تابعه في أمر يخافُ عليه فيه خلافَ الصواب، سأله عنه وبيّن له الصواب وحكمه.
ص: وقال صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحديث: "إنَّ الأرض لا تنجس".
ش: ذكر هذا تأييدا لتأويله الثاني في قوله عليه السلام: "إنَّ الماء لا ينجس".
ص: حدثنا بذلك أبو بكرة بكار بن قتيية البكراوي، قال: حدثنا أبو داود، قال: ثنا أبو عقيل الدورقي، قال: حدثنا الحسن: "أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبة في المسجد، فقالوا: يا رسول الله، قوم أنجاس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء، إنما أنجاس الناس على أنفسهم".
ش: أشار بذلك إلى ما ذكره من قوله عليه السلام: "إنَّ الأرض لا تنجس".
وبكَّار بن قتيبة هو القاضي الزاهد المشهور، روى عنه أيضًا أبو عوانة وأبو بكر ابن خزيمة في صحيحيهما، والبكراوي نسبة إلى أبي بكرة نفيع بن الحارث الصحابي؛ لأنه من نسله ونُسِبَ هكذا ليكون فرقا بينه وبن النسبة إلى أبي بكر، فإن فيه يقال: بكريّ. والمراد بأبي داود هو الطيالسي صاحب المسند واسمه سليمان بن داود بن الجارود البصري الحافظ، روى له الجماعة البخاري مستشهدا.
وأبو عقيل -بفتح العين- اسمه بَشير بن عقبة الناجي -بالنون والجيم- السامي البصري من رجال الصحيحين، والدَّوْرَقي -بفتح الدال وسكون الواو وفتح الراء وفي آخره قاف- نسبة إلى دورق من بلاد خوزستان.
والحسن هو البصري الإمام المشهور.
وهذا من مراسيل الحسن، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (1): عن الثوري، عن يونس، عن الحسن قال:"جاء النبي عليه السلام ورهط من ثقيف، فأقيمت الصلاة، فقيل: يا نبي الله، إنَّ هؤلاء مشركون! قال: إنَّ الأرض لا ينجسها شيء".
وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه"(2) نحوه.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 414 رقم 1620).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 260 رقم 8775).
والحديث المسند فيه ما أخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص:"أن وفد ثقيف قدموا على النبي عليه السلام فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على النبي عليه السلام ألَّا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبّوا ولا يستعمل عليهم من غيرهم. فقال: لا تُحشروا ولا تعشروا ولا تُجبّوا ولا يستعمل عليكم من غيركم، ولا خير في دين ليس فيه ركوع".
وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده"(2).
قوله: "إنَّ وفد ثقيف" الوفد جمع وافد كركب جمع راكب وهم القوم يجتمعون ويَرِدُون البلاد، وكذلك يقصدون الأمراء لزيارة أو استرفاد وانتجاع وغير ذلك، تقول: وفد يفد فهو وافد، وأوفدته فوفد، وأوفد على الشيء فهو موفد إذا أشرف، وثقيف أبو قبيلة من هوازن واسمه فَسِيّ، والنسبة إليه ثقفي، وأصله من ثقف الرجل ثقافة أبي صار حاذقا خفيفا فهو ثَقْفٌ مثل ضخم ومنه المثاقفة، والثقاف ما تسوى به الرماح.
قوله: "ضرب لهم قبة" أي نصبها وأقامها على أوتاد، وهذه المادة تستعمل لمعانٍ كثيرة، والقُبة -بضم القاف- بيت صغير مستدير من بيوت العرب قاله ابن الأثير، وقال الجوهري: هي من البناء والجمع قِبَبٌ وقبَاب.
قوله: "قوم أنجاس" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم قوم أنجاس، جمع نَجَس بفتحتين.
قوله: "إنَّه" أي إن الشأن.
ومعنى قوله: "إنَّه ليس من أنجاس الناس على الأرض شيء" أي الأرض لا تنجس بنزول المشركين عليها، وليس المعنى أنَّهَا لا تنجس إذا أصابتها النجاسة.
(1)"السنن الكبرى"(2/ 444 رقم 4131).
(2)
"مسند أحمد"(4/ 218 رقم 17942).
ومعني قوله: "إنما أنجاس الناس على أنفسهم" أي أنجاسهم منحصرة عليهم لا تعدو إلى غيرهم، وكان قدوم وفد ثقيف على رسول الله عليه السلام في رمضان سنة تسع من الهجرة وكانوا بضعة عشر رجلًا منهم كنانة بن عبد ياليل وهو رئيسهم، وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغر الوفد.
قوله: "ألَّا يحشروا ولا يعشروا" أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم بل يأخذها في أماكنهم.
قوله: "ولا يجبّوا" من التجبية -بالجيم- وهو أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم، وقيل: هو السجود، والمراد من قولهم:"لا يجبوا" أنهم لا يصلون، ولفظ الحديث يدل على الركوع لقوله: في جوابهم "لا خير في دين ليس فيه ركوع" فسمى الصلاة ركوعا لأنه بعضها.
ومن فوائده: جواز دخول الكافر المسجد، وهو حجة على مالك في منعه عن ذلك، واستحباب إكرام الوفد والرسل القادمين وتهيئة نزلهم والنظر في أمرهم، وعدم نجاسة الأرض بدون إصابة النجاسة الحقيقية.
ص: فلم يكن معنى قوله عليه السلام: "المسلم لا ينجس" يريد بذلك أن بدنه لا ينجس وإنْ أصابته النجاسة وإنما أراد أنه لا ينجس بمعنى غير ذلك، وكذلك قوله:"الأرض لا تنجس" ليس يعني بذلك أنَّهَا لا تنجس وإنْ أصابتها النجاسة، وكيف يكون ذلك وقد أمر بالمكان الذي بال فيه الأعرابي من المسجد أن يصب عليه ذنوب من ماء!
ش: "ليس يعني" أي ليس يقصد، من عَني يَعْني عَنْيا، وأما عَنَا يَعْنُو عُنوا فمعناه خضع وذل، وعَنِيَ يعني -من باب عَلِمَ يَعْلَمُ- عَنَاءً إذا تعب، والضمير فيه يرجع إلى النبي عليه السلام والواو في "وقد كان" للحال.
والأعرابي: هو الذي يسكن البادية، منسوب إلى الأعراب ساكني البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلَّا لحاجة، والعرب اسم لهذا الجنس من الناس، ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام بالبادية أم المدن، والنسبة إليه عربي.
قوله: "أن يُصَبَّ" في محل النصب و"أن" مصدرية والتقدير بأن يصب أي أمر بصب ذنوب عليه، والذنوب -بفتح الذال المعجمة- الدلو العظيمة، وقيل: لا تسمى ذنوبا إلَّا إذا كان فيها ماء.
ص: حدثنا بذلك أبو بكرة، قال: ثنا عمر بن يونس اليمامي (من اليمامة)(1) قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال: حدثني أنس بن مالك، قال:"بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ! فقال رسول الله عليه السلام "دعوه". فتركوه حتى بال، ثم إنَّ رسول الله عليه السلام دعاه (فقال) (2): "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والعذرة، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن- قال عكرمة: أو كما قال رسول الله عليه السلام فأمر رجلًا (فجاء)(3) بدلو من ماء فسَنَّه عليه".
ش: أي حدثنا بحديث الأعرابي المذكور أبو بكرة بكَّار القاضي.
وعمر بن يونس بن القاسم الحنفي أبو حفص اليمامي، روى له الجماعة.
وعكرمة بن عمار العجلي اليمامي، روي له الجماعة؛ البخاري مستشهدا.
وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري المدني، روى له الجماعة.
(1) ليست في "شرح معاني الآثار".
(2)
في "شرح معاني الآثار": "فقال له".
(3)
في "شرح معاني الآثار": "فجاءه".
وأخرجه البخاري (1) وقال: ثنا خالد بن مخلد، ثنا سليمان، عن يحيى بن سعيد [قال] (2): سمعت أنس بن مالك قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة من المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي عليه السلام، فلما قضى بوله، أمر النبي عليه السلام بذنوبٍ من ماء فأهريق عليه".
ومسلم (3)، وقال: حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا عمر بن يونس الحنفي، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: ثنا إسحاق بن أبي طلحة، قال حدثني أنس بن مالك -وهو عم إسحاق- قال:"بينما نحن في المسجد مع رسول الله عليه السلام إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله عليه السلام: مَهْ مَهْ قال: قال رسول الله عليه السلام: لا تُزْرموه ودعوه. [فتركوه] (4) حتى بال، ثم إنَّ رسول الله عليه السلام دعاه فقال له: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن- أو كما قال رسول الله عليه السلام قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء [بدلومن ماء فشَنَّه] (5) عليه".
والنسائي (6)، وقال: أنا قتيبة، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس:"أن أعرابيّا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم، فقال النبي عليه السلام: دعوه، لا تزرموه، فلما فرغ، دعا [بدلو من ماء فصبه] (7) عليه".
وابن ماجه (8)، وقال: ثنا أحمد بن عبدة، أنا حماد بن زيد، ثنا ثابت، عن أنس:
(1)"صحيح البخاري"(1/ 89 رقم 219).
(2)
من "صحيح البخاري".
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 236 رقم 285).
(4)
في "الأصل، ك": "وتركوه" والمثبت من "صحيح مسلم".
(5)
في "الأصل، ك": "بدلوٍ فسنه". والمثبت من "صحيح مسلم".
(6)
"المجتبى"(1/ 47 رقم 53).
(7)
في "الأصل، ك": "بدلو فصب"، والمثبت من "المجتبى".
(8)
"سنن ابن ماجه"(1/ 176 رقم 528).
"أن أعرابيًّا بال في المسجد، فوثب إليه بعض القوم، فقال رسول الله عليه السلام: لا تُزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه".
قوله: "بينما نحن" اعلم أن "بين" تُشبع فتحة نونه فتصير ألفا فيقال: "بينا"، وتارة تدخل عليه "ما" نحو "بينما" وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ويضافان إلى جملة، قلت:"نحن" مبتدأ و "مع رسول الله" خبره و"بينما" أضيف إلى هذه الجملة، والمعنى بينما أوقات كوننا مع رسول الله عليه السلام جاء أعرابي.
قوله: "جلوسا" نُصبَ على الحال، جمع جالس كالركوع جمع راكع.
قوله: "إذ جاء" إذ هذه للمفاجأة -نص عليه سيبويه- وهو جواب "بينما".
قوله: "مَهْ" كلمة بنيت على السكون وهو اسم سمي به الفعل ومعناه اكفف لأنه زجر، فإن وُصِلَتْ نونت، فقلت: مَهٍ مَهْ، و"مَهْ" الثاني تأكيد كما تقول:"صَهْ صَهْ".
قوله: "فسنه" بالسين المهملة ويروى بالمعجمة، ومعنى السَنّ -بالمهملة- الصب المتصل، ومعنى الشن -بالمعجمة- الصب المنقطع، قاله ابن الأثير.
قوله: "في طائفة من المسجد" أي قطعة منه.
قوله: "فأهريق" أي أريق، والهاء زائدة.
قوله: "لا تزرموه" بتقديم الزاي على الراء المهملة يعني لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم الدمع والدم انقطعا، وأزرمته أنا.
واستنبط منه أحكام:
الأول: استدل به الشافعي على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة تطهر بصب الماء عليها، وقال النووي: ولا يشترط حفرها.
وقال الرافعي: إذا أصاب الأرض نجاسة يصب عليها من الماء ما يغمرها ويستهلك فيه النجاسة طهرت بعد نضوب الماء، وقبله فيه وجهان: إنْ قلنا إنَّ
الغسالة طاهرة والعصر لا يجب فنعم، وإنْ قلنا إنها نجسة والعصر واجب فلا، وعلي هذا فلا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف بل يكفي أن يغاص الماء كالثوب المُعَصَّر ولا يشترط فيه الجفاف والنضوب كالعصر، وفيه وجه أن يكون الماء المصبوب سبعة أضعاف البول، ووجه آخر يجب أن يصُب على بول الواحد ذنوب وعلي بول الإثنين ذنوبان وعلي هذا أَبدا. انتهى.
وقال أصحابنا: إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة، فإن كانت الأرض رخوة صُبَّ عليها الماء حتى يتسفَّل فيها، فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفَّل الماء يحكم بطهارتها، ولا يعتبر فيه العدد، وإنما هو على اجتهاده وما في غالب ظنه أنَّهَا طهرت ويقوم التسفّل في الأرض مقام العصر فيما يحتمل العصر وعلي قياس ظاهر الرواية: يصب الماء عليها ثلاث مرات ويتسفل في كل مرة وإنْ كانت الأرض صلبة، فإن كانت صعودا يحفر في أسفلها حفيرة ويصب الماء عليها ثلاث مرات ويتسفل إلى الحفيرة ثم تكبس الحفيرة، وإنْ كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا يغسل لعدم الفائدة في الغسل بل تحفر، وعن أبي حنيفة: لا تطهير الأرض حتى تحفر إلى الموضع الذي وصلت إليه النداوة وينقل التراب.
ودليلنا على الحفر ما رواه الدارقطني (1) وقال: ثنا عبد الوهاب بن عيسى ابن أبي حيّة، ثنا أبو هشام الرفاعي محمَّد بن يزيد، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال:"جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر رسول الله عليه السلام بمكانه فاحتفر فصب عليه دلو من ماء فقال الأعرابي: يا رسول الله، المرء يحب القوم ولا يعمل بعملهم. فقال رسول الله عليه السلام: المرء مع من أحب".
ورواه أبو يعلى أيضًا (2).
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 131 رقم 2).
(2)
"مسند أبي يعلى"(6/ 310 رقم 3626).
وما رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس قال:"بال أعرابي في المسجد فأرادوا أن يضربوه، فقال النبي عليه السلام: احفروا مكانه واطرحوا عليه دلوا من ماء، علّموا ويسّروا ولا تعسروا".
والقياس أيضًا يقتضي هذا الحكم لأن الغسالة نجسة فلا تطهر الأرض ما لم تحفر وينقل التراب.
فإنيْ قيل: قد استدللتم بالأثرين الأول مرفوع ضعيف؛ لأن سمعان بن مالك ليس بالقوي، وقال ابن خراش:"مجهول". والثاني مرسل وتركتم الحديث الصحيح!
قلت: لا نسلم ذلك فإنا قد عملنا بالكل فعملنا بالصحيح فيما إذا كانت الأرض صلبة، وعملنا بالضعيف على زعمكم فيما إذا كانت الأرض رخوة، والعمل بالكل أولى من العمل بالبعض والإهمال للبعض.
فإن قلت: كيف تحملون الأرض فيه على الصلبة وقد ورد الأمر بالحفر فدل على أنَّهَا كانت رخوة؟!
قلت: محتمل أن تكون قضيتين، في الأولي كانت الأرض صلبة، وفي الأخرى كانت رخوة.
الثاني: استدل به بعض الشافعية على أن الماء متعين في إزالة النجاسة ومنعوا غيره من المائعات المزيلة، وهذا استدلال فاسد؛ لأن ذكر الماء هَا هنا لا يدل على نفي غيره؛ لأن الواجب هو الإزالة، والماء مزيل بطبعه، فيقاس عليه كل ما كان مزيلا؛ لوجود الجامع، على أن هذا الاستدلال يشبه مفهوم مخالفة وهو ليس بحجة.
الثالث: استدلت به جماعة من الشافعية وغيرهم أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة وذلك لأن الماء المصبوب لا بد أن يتدافع عند وقوعه على الأرض ويصل إلى محل لم يصبه البول مما يجاوره، فلولا أن الغسالة طاهرة لكان الصب ناشرا
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 424 رقم 1659).
للنجاسة وذلك خلاف مقصود التطهير وسواء أكانت النجاسة على الأرض أم غيرها لكن الحنابلة فرقوا بين الأرض وغيرها ويقال إنَّه رواية واحدة عند الشافعية إنْ كانت الأرض، وإنْ كان غيرها فوجهان.
قلت: روي عن أبي حنيفة أنَّهَا بعد صب الماء عليها لا تطهر حتى تدلك وتشعر بصوف أوخرقة وفُعِلَ ذلك ثلاث مرات، وإنْ لم يفعل ذلك لكن صب عليها ماء كثيرا حتى عرف أنه أزال النجاسة ولم يوجد فيه لون ولا ريح، ثم ترك حتى نشفت كانت طاهرة.
الرابع: استدل به بعض الشافعية أن العصر في الثوب المغسول من النجاسة لا يجب، وهذا استدلال فاسد وقياس بالفارق؛ لأن الثوب ينعصر بالعصر بخلاف الأرض.
الخامس: استدل به البعض أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء لا تطهر، وهو محكي عن أبي قلابة أيضًا، وهذا أيضًا فاسد؛ لأن ذكر الماء في الحديث لوجوب المبادرة إلي تطهير المسجد، وتركه إلى الجفاف تأخير لهذا الواجب، وإذا تردد الحال بين الأمرين لا يكون دليلًا على أحدهما بعينه.
السادس: فيه دليل على وجوب صيانة المساجد وتنزيهها عن الأقذار والنجاسات، ألا ترى إلى قوله: عليه السلام: "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والعذرة".
السابع: فيه دليل على أن المساجد لا يجوز فيها إلَّا ذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، فقوله:"وإنما هي لذكر الله" من قصر الموصوف على الصفة، ولفظ الذكر عام يتناول قراءة القرآن وقراءة العلم ووعظ الناس، والصلاة أيضًا عام يتناول المكتوبة والنافلة، ولكن النافلة في المنزل أفضل، ثم غير هذه الأشياء ككلام الدنيا والضحك واللبث فيه بغير نية الاعتكاف مشتغلًا بأمر من أمور الدنيا ينبغي ألا يباح، وهو قول بعض الشافعية، والصحيح أن الجلوس فيه لعبادة أو قراءة علم أو درس أو سماع موعظة أو
انتظار صلاة أو نحو ذلك مستحب ويثاب على ذلك، وإنْ لم يكن لشيء من ذلك كان مباحا وتركه أولي، وأما النوم فيه، فقد نص الشافعي في الأم أنه يجوز، وقال ابن المنذر: رخص في النوم في المسجد ابن المسيب والحسن وعطاء والشافعي. وقال ابن عباس: لا تتخذوه مرقدا. وروي عنه أنه قال: إنْ كان ينام فيه لصلاة فلا بأس به. وقال الأوزاعي: يكره النوم في المسجد. وقال مالك: لا بأس بذلك للغرباء ولا أرى ذلك للحاضر. وقال أحمد: إنْ كان مسافرا أو شبهه فلا بأس وإنْ اتخذه مقيلا ومبيتا فلا. وهو قول إسحاق، وقال اليعمري: وحجة من أجازه: نوم علي بن أبي طالب وابن عمر واهل الصفة، والمرأة صاحبة الوشاح، والعرنيين، وثمامة بن أثال، وصفوان بن أمية، وهي أخبار صحاح مشهورة، وأما الوضوء فيه فقال ابن المنذر: أباح كل من يُحفظ عنه العلم الوضوء في المسجد إلَّا أن يتوضأ في مكان يبلّه ويتأذى الناس به فإنه مكروه. وقال ابن بطال: هذا منقول عن ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والنخعي وابن القاسم صاحب مالك، وذكر عن ابن سيرين وسحنون أنهما كرهاه تنزيهًا للمسجد.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن جريج قال: "قال إنسان لعطاء: يخرج إنسان فيبول ثم يأتي زمزم فيتوضأ؟ قال: لا بأس بذلك فليدخل إنْ شاء فليتوضأ في زمزم، الدين سمح سهل. قال له إنسان: إني أرى أناسا يتوضئون في المسجد. قال: أجل ليس بذاك بأس.
قلت: فتوضأ أنت فيه؟ قال: نعم. قلت: تتمضمض وتستنشق؟ قال: نعم، وأسبغ وضوئي في مسجد مكة.
وروى عبد الرزاق (2): أيضًا، عن الثوري، قال: أخبرني أبو هارون العبدى: "أنه رأى ابن عمر رضي الله عنهما يتوضأ في المسجد".
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 418 رقم 1637).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 419 رقم 1641).
وقال بعض أصحابنا: إن كان فيه موضع معد للوضوء فلا بأس وإلَّا فلا.
وفي "شرح الترمذي" لليعمري: إذا افتصد في المسجد فإن كان في غير إناء فحرام وإنْ كان في إناء فمكروه، وإنْ بال في المسجد في إناء فوجهان أصحهما أنه حرام، والثاني أنه مكروه، ويجوز الاستلقاء في المسجد ومدّ الرجل وتشبيك الأصابع للأحاديث الثابتة في ذلك.
الثامن: فيه مبادرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
التاسع: فيه مبادرة الصحابة إلى الإنكار بحضرة النبي عليه السلام من غير مراجعة له.
فإن قلت: أليس هذا من باب التقدّم بين يدي الله ورسوله؟
قلت: لا؛ لأن ذلك تقرر عندهم في الشرع من مقتضى الإنكار فأمر الشارع متقدم على ما وقع منهم في ذلك، وإنْ لم يكن في هذه الواقعة الخاصة إذن فدلّ على أنه لا يشترط الإذن الخاص ويُكتفي بالعام.
العاشر: فيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما فإن البول فيه مفسدة، وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها، فدفع أعظمهما أيسر المفسدتين، وتنزيه المسجد عنه مصلحة وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصلت أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
فإن قيل: ما الحكمة في نهيه عليه السلام إياهم عن الأعرابي حين أسرعوا إليه؟
قلت: مراعاة حق البائل لئلَّا يلحقه الضرر ومراعاة حق المسجد لئلَّا ينتشر البول عند القطع.
الحادي عشر: فيه مراعاة التيسير على الجاهل والتألّف للقلوب.
الثاني عشر: فيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع؛ لأن الأعرابي حين فرغ، أمر بصب الماء.
الثالث عشر: في رواية الترمذي (1): "أهريقوا عليه سجلا من ماء -أو دلوا من
(1)"جامع الترمذي"(1/ 275 رقم 147).
ماء" على ما نذكرها: اعتبار الأداء باللفظ؛ وإنْ كان الجمهور على عدم اشتراطه، وأن المعنى كافٍ وتحمل "أو" هَا هنا على الشك، ولا معني فيه للتنويع، ولا للتخيير، ولا للعطف؛ فلو كان الراوي يرى جواز الرواية بالمعنى لاقتصر على أحدهما فلما تردد في التفرقة بين الدلو والسجل وهما بمعنى؛ عُلم أن ذلك التردد لموافقة اللفظ. قاله الحافظ القشيري.
ولقائل أن يقول: إنما يتم هذا لو اتحد المعني في السجل والدلو لغة، لكنه غير متحد؛ فالسجل الدلو الضخمة المملوءة ولا يقال لها فارغة:"سجل" فافهم.
ص: (وكما)(1) حدثنا بذلك علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى (بن يحيى)(1)، قال: أخبرني عبد العزيز بن محمَّد، عن يحيى بن سعيد أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يَذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه غير أنه لم يذكر قوله: "إنَّ هذه المساجد
…
" إلى آخر الحديث.
ش: أي وكما حدثنا بحديث الأعرابي المذكور علي بن شيبة بن الصلت بن عصفور أبو الحسن البصري؛ وفي بعض النسخ: "وكما أخبرنا بذلك".
ويحيي بن يحيى بن بكر أبو زكريا النيسابوري، شيخ البخاري ومسلم.
وعبد العزيز بن محمَّد بن عبيد الدراوردي أبو محمَّد الجهني مولاهم المدني، روى له الجماعة.
ويحيي بن سعيد بن قيس الأنصاري قاضي المدينة، روى له الجماعة.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(2) من حديث يحيى بن سعيد أنَّه سمع أنسا قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى حاجته قام إلى ناحية فبال، فصاح به الناس فكفَّهم عنه ثم قال: صبّوا عليه دلوا من ماء".
(1) ليست في "شرح معاني الآثار".
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 427 رقم 4033).
قوله: "يَذكر" جملة وقعت حالا عن أنس.
قوله: "نحوه" أي نحو الحديث المذكور.
قوله: "غير أنه" استثناء أي غير أن يحيى بن سعيد لم يذكر عن أنس في هذه الرواية قول النبي رضي الله عنه في الرواية السابقة: "إنَّ هذه المساجد" إلى آخره.
ص: ورَوَى طاوس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمكانه أن يحفر".
ش: طاوس بن كيسان اليماني التابعي الكبير الثقة المأمون، وهذا مرسل.
ص: حدثنا بذلك أبو بكرة بكار بن قتيبة البكراوي، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس بذلك.
ش: أي حدثنا بما رواه طاوس: بكَّار القاضي، والكل رجال الصحيح ما خلا بكّارا.
و"بشّار" على وزن فعال بالتشديد، من البشارة.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس قال:"بال أعرابي في المسجد، فأرادوا أن يضربوه، فقال النبي عليه السلام: احفروا مكانه واطرحوا عليه دلوا من ماء، علّموا ويسّروا ولا تعسّروا".
ص: وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أيضًا.
ش: أي بالحفر كما في رواية طاوس.
ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن سمعان بن مالك الأسدي، عن أبي وائل، عن عبد الله قال:"بال أعرابي في المسجد، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فصُبَّ عليه دلو من ماء ثم أمر به فحفر مكانه".
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 424 رقم 1659).
ش: أي حدثنا بما روي عن ابن مسعود: فهد بن سليمان الكوفي نزيل مصر. ويحيي بن عبد الحميد الكوفي، وثقه بعضهم وكذبه آخرون، والحماني -بكسر الحاء- نسبة إلى حِمّان قبيلة من تميم.
وأبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الحناط -بالنون- مختلف في اسمه فقيل: محمَّد، وقيل: عبد الله، وقيل: اسمه كنيته، وقيل غير ذلك.
وعياش بالياء المشددة آخر الحروف وبالشين المعجمة، وهو من رجال الستة.
وسمعان بن مالك ضعيف.
وأبو وائل اسمه شقيق بن سلمة الأسدي، روى له الجماعة.
وأخرجه الدراقطني بأتم منه، وقد ذكرناه عن قريب (1).
فإن قلت: هذا الحديث ضعيف، فكيف يحتجون به في وجوب الحفر؟
قلت: هو عند الطحاوي غير ضعيف، ولئن سلمنا ذلك فإن الحفر قد روي بطريقين مسندين وطريقين مرسلين.
فأما طريقا الإسناد ففي رواية الدارقطني الأولى (2): عن سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله.
والثانية (3): عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس:"أن أعرابيًا بال في المسجد، فقال عليه السلام: احفروا مكانه ثم صُبّوا عليه ذنوبا من ماء".
وأما طريقا الإرسال: فأحداهما: ما رواه أبو داود (4) من حديث عبد الله بن معقل بن مقُرّن قال: "قام أعرابي إلى زاوية من زوايا المسجد فاكتشف فبال، فقال
(1) تقدم تخريجه.
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 131 رقم 2).
(3)
انظر "تلخيص الحبير"(1/ 59) بتحقيقنا.
(4)
"سنن أبي داود"(1/ 103 رقم 381)، واللفظ للدارقطني (1/ 132).
النبي عليه السلام: خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء" رواه عن موسى بن إسماعيل، نا جرير -يعني ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك بن عمير يحدث، عن عبد الله بن معقل به، وقال أبو داود: روي متصلًا ولا يصح (1).
والثانية: ما رواه عبد الرزاق (2) من حديث عمرو بن دينار، عن طاوس، وقد مرَّ عن قريب.
واعلم أن حديث الأعرابي رواه خمسة من الصحابة وهم أنس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم وقد أخرج الطحاوي حديثي أنس وابن مسعود وقد ذكرناهما مع بيان من أخرجهما أيضًا من الأئمة.
وأما حديث عبدالله بن عباس فرواه الطبراني في "الكبير"(3) وأبو يعلى في "مسنده"(4) والبزار في "مسنده"(5) بإسناد رجاله رجال "الصحيح" إلى ابن عباس أنه قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فبايعه ثم انصرف فقام (ففشخ) (6) فبال فهمَّ الناسُ به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقطعوا على الرجل بوله. ثم دعا به فقال: ألست برجل مسلم؟ قال: بلى. قال: فما حملك على أن بُلتَ في المسجد؟ قال: والذي بعثك بالحق ما ظننت إلَّا أنه صعيد من الصعدات فبلت فيه. فأمر النبي عليه السلام بذنوب من ماء فصب على بوله".
(1) لفظ أبي داود في "السنن": وهو مرسل، ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 424 رقم 1660).
(3)
"معجم الطبراني الكبير"(11/ 20 رقم 11552).
(4)
"مسند أبي يعلى"(4/ 431 رقم 2557).
(5)
في "الأصل، ك": في "سننه"، وقد ذكره الهيثمي في "كشف الأستار"(1/ 207 رقم 409)، والحافظ ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" (1/ 212) وقال: قال الشيخ: -أي الهيثمي- رجاله رجال "الصحيح" ثم تعقبه بقوله: لكن أبو أويس ضعيف؛ إنما أخرج له مسلم وحده متابعة.
(6)
كذا في "الأصل، ك":" ففشخ" آخره خاء معجمة قبلها شين معجمة أيضًا، وعند الطبراني:"ففحج" بحاء مهملة بعدها جيم، وعند أبي يعلى:"ففشج" بشين معجمة بعدها جيم.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الجماعة ما خلا مسلما.
فقال البخاري (1): أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال:"قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي عليه السلام: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء -أو ذنوبا من ماء- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
وقال أبو داود (2): ثنا أحمد بن عمرو بن السرح، وابن عبدة في آخرين -وهذا لفظ ابن عبدة- قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة:"أن أعرابيّا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فقال النبي عليه السلام: لقد تحجّرت واسعا، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع [إليه] (3) الناس، فنهاهم النبي عليه السلام وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين؛ صُبّوا عليه سجلا من ماء- أو قال: ذنوبا من ماء".
وقال الترمذي (4): نا ابن أبي عمر وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قالا: نا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال:"دخل أعرابيّ المسجد والنبي عليه السلام جالس فصلي فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فالتفت إليه النبي عليه السلام فقال: لقد تحجرت واسعا. فلم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع إليه الناسُ، فقال النبي عليه السلام: أهريقوا عليه سجلا من ماء -أو دلوا من ماء- ثم قال: إنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسرين".
وقال النسائي (5): أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم، عن عمر بن عبد الواحد، عن
(1)"صحيح البخاري"(1/ 89 رقم 217).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 103 رقم 380).
(3)
في "الأصل، ك": "عليه"، والمثبت من "سنن أبي داود".
(4)
"جامع الترمذي"(1/ 275 رقم 147).
(5)
"المجتبى"(1/ 48 رقم 56)، و (1/ 175 رقم 330).
الأوزاعي، عن محمَّد بن الوليد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة قال:"قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم رسول الله عليه السلام: دعوه وأهريقوا على بوله دلوا من ماء؛ فإنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسّرين".
وقال ابن ماجه (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا علي بن مسهر، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:"دخل أعرابيّ المسجد ورسول الله عليه السلام جالس، فقال: اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا. فضحك رسول الله عليه السلام وقال: لقد احتظرت واسعا. ثم وليّ حتى إذا كان في ناحية المسجد (فثني) (2) يبول، فقال الأعرابي بعد أن فقه: فقام إليَّ -بأبي وأمي- صلى الله عليه وسلم فلم يؤنب ولم يسبَّ فقال: إنَّ هذا المسجد لا يبُال فيه، وإنما بني لذكر الله وللصلاة، ثم أمر بسجل من ماء فأفرغ على بوله".
وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه ابن ماجه (3) وقال: نا أبو حاتم محمَّد بن عبد الله الأنصاري وهو من حديث أبي بكر بن الأصفهاني، نا محمَّد بن يحيى، نا محمَّد بن عبد الله، عن عبيد الله الهذلي- قال محمَّد بن يحيى: هو عندنا ابن أبي جميلة - أنا أبو المليح الهذلي، عن واثلة بن الأسقع قال:"جاء أعرابي إلى النبي عليه السلام فقال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتك إيانا أحدا. فقال: لقد حظرت واسعا، ويحك -أو ويلك- قال: (فثني) (2) يبول، [فقال أصحاب النبي عليه السلام: مَهْ] (4) فقال رسول الله عليه السلام: دعوه (فدعا) (5) بسجل من ماء فصبه عليه".
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 176 رقم 529).
(2)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن ابن ماجه":"فشج".
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 176 رقم 530).
(4)
كذا في "سنن ابن ماجه"، وفي "الأصل، ك": "فقام أصحاب النبي عليه السلام".
(5)
كذا في "الأصل، ك" وفي "سنن ابن ماجه": "ثم دعا".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فكأن معنى قوله: "إنَّ الأرض لا تنجس" أي أنَّهَا لا تبقى نجسة إذا زالت النجاسة منها؛ لا أنه يريد أنَّهَا غير نجسة في حال كون النجاسة فيها، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في بئر بضاعة:"إنَّ الماء لا ينجس" ليس هو على كون النجاسة فيها إنما هو على حال عدم النجاسة فيها، فهذا وجه قوله صلى الله عليه وسلم في بئر بضاعة:"الماء لا ينجسه شيء".
ش: لما أوّل قوله عليه السلام: "الماء لا ينجسه شيء" بالتأويل المذكور، واستدل عليه بالأحاديث المذكورة؛ أوضحه بقوله:"فكان معنى قوله"أي النبي عليه السلام؛ فلذلك ذكره بالفاء التفصيلية.
ص: وقد رأيناه بَيّن ذلك في غير هذا الحديث.
ش: أي قد رأينا النبي عليه السلام بَيّن ذلك ما ذكرنا من التأويل وأوضحه في غير حديث بئر بضاعة، و"رأي" هَا هنا بمعنى علم؛ فلذلك تعدى إلى مفعولين كما في قوله:
رأيت الله أكبر كل شيء .... محاولة وأكثره جنودا
ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري وعلي بن شيبة بن الصلت البغدادي، قالا: ثنا عبد الله بن يزيد المقرىء، قال: سمعت ابن عون يحدث، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"نَهَى -أو نُهي- أن يبول الرجل في الماء الدائم أو الركد ثم يتوضأ منه أو يغتسل فيه".
ش: رجاله كلهم ثقات، وابن عون هو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري التابعي الثقة الزاهد.
وأخرجه الطبراني (1) بهذا الطريق من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ قال: سمعت ابن عون يحدث، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: "نهى -أو نُهي- أن يبول
(1)"المعجم الأوسط"(3/ 254 رقم 3069).
الرجل
…
" إلى آخره، رواه عن بشر بن موسى، عنه، وقال: لم يجوِّدْه عن ابن عون غير المقرئ.
وأخرجه الجماعة أيضًا، فقال البخاري (1): أنا أبو اليمان، أنا شعيب، أنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله عليه السلام يقول:"نحن الآخرون السابقون".
وبإسناده، قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه".
وقال مسلم (2): حدثني زهير بن حرب، قال: نا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه".
وقال أبو داود (3): ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زائدة في حديث هشام، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه".
وقال الترمذي (4): حدثنا محمود بن غيلان، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه".
وقال النسائي (5): أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عيسى بن يونس، قال: ثنا عوف، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه".
(1)"صحيح البخاري"(1/ 94 رقم 236).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 235 رقم 282).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 18 رقم 69).
(4)
"جامع الترمذي"(1/ 100 رقم 68).
(5)
"المجتبى"(1/ 49 رقم 57).
وقال ابن ماجه (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الراكد".
قوله: "نَهَى" على صيغة المعلوم، وقوله:"أو نُهِي" علي صيغة المجهول، وحرف "أو" يدل على تشكك الراوي، فالمعني في الأول: نهى رسول الله عليه السلام ويكون محل "أن يبول الرجل" نصبا على المفعولية.
وفي الثاني: أتى النهي في بول الرجل في الماء الدائم ويكون محل "أن يبول" رفعا لاستناد "نهي" إليه، و"أن" في الوجهين مصدرية.
قوله: "الدائم" أي الثابت الواقف الذي لا يجري كما جاء في بعض الألفاظ: "في الماء الدائم الذي لا يجري"(2) وهو تفسير للدائم وأيضًاح لمعناه.
قوله: "أو الراكد" شك من الراوي، من ركد إذا ثبت، قال الجوهري: ركد الماء ركودا سكن، وكل ثابت في مكان راكد.
ثم اعلم أن قوله: و"نهى" حكايته النهي كما أن قوله: "أمر" حكاية الأمر، واختلفوا فيما إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو السُّنة كذا، فالمذهب عندنا أنه لا يفهم من هذا المطلق الأخبار بأمر رسول الله عليه السلام أو أنه سُنَّة رسول الله عليه السلام.
وقال الشافعي في القديم: "ينصرف إلى ذلك عند الإطلاق"، وفي الجديد قال:"لا ينصرف إلى ذلك بدون البيان؛ لاحتمال أن يكون المراد سُنّه البلدان أو الرؤساء" حتى قال في كل موضع قال: السُّنة ببلدنا كذا، فإنما أراد سليمان بن بلال وكان عريفا بالمدينة.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 124 رقم 344).
(2)
وهو لفظ رواية البخاري ومسلم السابقتين.
واستنبط من الحديث المذكور أحكام:
الأول: احتج به أصحابنا أن الماء الذي لا يبلغ الغدير العظيم إذا وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به؛ قليلًا كان أو كثيرا.
وعلي أن القلتين تحمل النجاسة لأن الحديث مطلق؛ فبإطلاقه يتناول الماء القليل والكثير والقلتين والأكثر، ولو قلنا: إن القلتين لا تحمل النجاسة لم يكن للنهي فائدة؛ على أن هذا أصح من حديث القلتين لما يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى ومذهب مالك أن الماء القليل لا يتنجس إلَّا بتغير أحد أوصافه، لقوله: عليه السلام: "الماء طهور لا ينجسه شيء"(1) ومذهب الشافعي وأحمد أن الماء إذا كان قلتين لا يتنجس إلَّا بالتغير لحديث القلتين، والجواب أن حديث مالك ورد في بئر بضاعة وماؤها كان جاريا كما قد قررناه، وحديث الشافعي ضعيف من جهة كونه مضطربا سندا ومتنا على ما يجيء بيانه أو مؤُوَّل على ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
فإن قلت: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يجوز تخصيصه ببئر بضاعة.
قلت: قد خُصَّ بدليل يساويه وهو حديث هذا الباب.
وقال ابن قدامة في "المغني"(2): ما دون القلتين إذا لاقته النجاسة فلم يتغير بها فالمشهور في المذهب أنه ينجس، وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو عبيد، ورُوي عن أحمد أن الماء لا ينجس إلَّا بالتغيير قليله وكثيره، وروي مثل ذلك عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم قالوا:"الماء لا ينجس" ورُوي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وابن أبي ليلي ومالك والأوزاعي ويحيي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وابن المنذر، وهو قول للشافعي. ثم قال:
(1) سبق تخريجه.
(2)
"المغني"(1/ 31).
ودليلنا حديث القلتين وحديث بئر بضاعة، ثم قال:"وهذان الحديثان نص في خلاف ما ذهب إليه الحنفية"، وقال أيضًا: بئر بضاعة لا يبلغ إلى الحد الذي يمنع التنجس عندهم.
قلت: لا نسلم أن هذين الحديثين نص في خلاف مذهبنا، أما حديث القلتين فلأنه ضعيف -على ما يأتي- والعمل بالصحيح المتفق عليه أقوى وأقرب، وأما حديث بئر بضاعة فإنا نعمل به لأن ماءها كان جاريا على ما ذكرنا، وقوله: "وبئر بضاعة لا يبلغ
…
" إلى آخره غير صحيح؛ لأن البيهقي روى عن الشافعي أن بئر بضاعة كانت كثير الماء واسعة، وكان يطرح فيها من الأنجاس ما لا يغير لها لونا ولا طعما.
فإن قيل: حديثكم عام في كل ماءٍ وحديثهم خاص فيما بلغ القلتين، وتقديم الخاص على العام متعين؛ كيف وحديثكم لابد من تخصيصه، فإنكم وافقتمونا على تخصيص الماء الكثير الذي يزيد على عشرة أذرع وإذا لم يكن بد من التخصيص فالتخصيص بالحديث أولى من التخصيص بالرأي من غير أصل يرجع إليه ولا دليل يعتمد عليه.
قلت: لا نسلم أن تقديم الخاص على العام متعين، بل الظاهر من مذهب أبي حنيفة ترجيح العام على الخاص في العمل به كما في بئر الناضح، فإنه رجح قوله عليه السلام:"من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا"(1) على الخاص الوارد في بئر الناضح أنه ستون ذراعا (2).
(1) أخرجه ابن ماجه (2/ 831 رقم 2486) من حديث عبد الله بن مغفل، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 85): هذا حديث ضعيف من الطريقين معًا؛ لأن مدار الحديث فيه على إسماعيل بن مسلم المكي، وقد تركه ابن مهدي وابن المبارك ويحيى القطان والنسائي، وضعفه البخاري وابن الجارود والعقيلي وغيرهم.
(2)
ذكره في "الهداية" بلفظ: "حريم العين خمسمائة ذراع، وحريم البئر العطن أربعون ذراعًا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعًا". =
ورجح قوله عليه السلام: "ما أخرجت الأرض ففيه العشر"(1) على الخاص الوارد بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"(2) ونسخ الخاص بالعام أيضًا كما فعله في بول ما يؤكل لحمه فإنه جعل الخاص من حديث العرنيين (3) فيه منسوخا بالعام وهو قوله عليه السلام: "استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه"(4).
قلت: "فالتخصيص بالحديث أولى من التخصيص بالرأي"، إنما يكون إذا كان الحديث المخصّص غير مخالف للإجماع، وحديث القلتيين خبر آحاد ورد مخالفا لإجماع الصحابة فَيُرَدُّ.
بيانه: أن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم أفتيا في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح الماء كله. ولم يظهر أثره في الماء وكان الماء أكثر من قلتين وذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم فكان إجماعا (5)، وخبر الواحد إذا ورد مخالفا للإجماع يُردُّ، يدل عليه أن علي بن المديني قال: لا يثبت هذا الحديث عن النبي عليه السلام وكفى به قدوة في هذا الباب، وقال أبو داود: لا يكاد يصح لواحد من الفريقين حديث عن
= قال الحافظ ابن حجر في "الدراية"(2/ 245): لم أجده هكذا.
وقال الزيلعي في "نصب الراية"(4/ 292): قلت غريب.
وقال ابن حزم في "المحلى"(8/ 239): ولا أعلم لأبي حنيفة سلفًا في قوله في بئر الناضح.
(1)
ذكره الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 384) وقال: غريب بهذا اللفظ، وبمعناه ما أخرجه البخاري، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: قال رسول ال صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر".
(2)
أخرجه البخاري (2/ 529 رقم 1390)، ومسلم (2/ 673 رقم 979) كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (1/ 92 رقم 231)، ومسلم (3/ 1296 رقم 1671) كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4)
أخرجه الدارقطني (1/ 128 رقم 7) من حديث أبي هريرة، وقال: الصواب مرسل، وأخرجه (1/ 127 رقم 2) من حديث أنس، وقال أيضًا: المحفوظ مرسل.
(5)
راجع له "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي (1/ 111)، و"المحلى" لابن حزم (11/ 363)، و"سنن البيهقي الكبري"(1/ 268).
النبي عليه السلام في تقدير الماء. وقال صاحب "البدائع": ولهذا رجع أصحابنا في التقدير إلى الدلائل الحسية دون الدلائل السمعية.
الثاني: استدل به أبو يوسف على نجاسة الماء المستعمل فإنه قرن فيه بين الغسل فيه والبول فيه، أما البول فيه فينجسّه فكذلك الغسل فيه، وفي دلالة القِران بين الشيئن على استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء، فالمذكور عن أبي يوسف والمزني ذلك وخالفهما غيرهما.
الثالث: أن النووي زعم أن النهي المذكور فيه للتحريم في بعض المياه، والكراهة في بعضها، فإن كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث ولكن الأولى اجتنابه، وإنْ كان قليلًا جاريا فقد قال جماعة من أصحابنا: يكره، والمختار أنه يحرم؛ لأنه يقذره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي، وإنْ كان كثيرا راكدا فقال أصحابنا: يكره ولا يحرم، ولو قيل: يحرم لم يكن بعيدا، وأما الماء الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه، والصواب المختار أنه حرام، والتغوط فيه كالبول فيه
وأقبح، وكذا إذا بال في إناء ثم صبّه في الماء.
قلت: زَعْمُ النووي من باب استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، وفيه من الخلاف ما هو معروف عند أهل الأصول.
الرابع: أن هذا الحديث عام فلا بد من تخصيصه اتفاقا بالماء المُستَبْحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر كما قلناه، أو بحديث القلتين كما ذهب إليه الشافعي، أو بالعمومات الدالة على طهورية الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة كما ذهب إليه مالك.
الخامس: أنَّ من تمسك بالعمومات الواردة الدالة على طهورية الماء الذي لم يتغير وصف من أوصافه الثلاثة يحمل النهي هَا هنا على الكراهة فيما لم يتغير، وهو خلاف المشهور في النهي، ومن قال بتنجيس ما دون القلتين من الماء وإنْ لم يتغير -من
أصحاب الشافعي وغيره- فإنما أخذه من مفهوم حديث القلتين، وفي تخصيص العموم بالمفهوم تنازع بين أهل الأصول فبعضهم يقول: لا نعلم خلافا بين القائلين بالمفهوم أنه يجوز تخصيص العموم به، وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أم من قبيل مفهوم المخالفة، وغيره يقول: إذا قلنا: المفهوم حجة فالأشبه أنه يجوز تخصيص العام به؛ لأن المفهوم أضعف دلالة من المنطوق فكان التخصيص تقديما للأضعف على الأقوى وذلك غير جائز.
السادس: أن المذكور فيه البول فيلحق به التغوط قياسا، والمذكور فيه الغسل من الجنابة فيلحق به اغتسال الحائض والنفساء قياسا، وكذلك يلحق به اغتسال الجمعة والاغتسال من غسل الميت عند من يوجبهما.
فإن قلت: هل يلحق به الغسل المسنون أم لا؟ قلت: من اقتصر على اللفظ فلا إلحاق عنده كأهل الظاهر، وأما من يعمل بالقياس ممن زعم أن العلة الاستعمال فالإلحاق صحيح، ومن زعم أن العلة رفع الحدث فلا إلحاق عنده، فاعتبر بالخلاف الذي بين أبي يوسف ومحمد في كون الماء مستعملا.
السابع: فيه دلالة على تنجيس البول.
ص: وحدثنا علي بن معبد بن نوح البغدادي، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه".
ش: هذا طريق آخر، ورجاله ثقات، وأخرج مسلم نحوه (1)، وقد ذكرناه.
قوله: "لا يبولن" نهي مؤكد بالنون الثقيلة وأصله "لا يبل أحدكم" فلما دخلت النون عادت الواو المحذوفة.
قوله: "الذي لا يجري" صفة كاشفة.
(1) سبق تخريجه.
قوله: "ثم يغتسل فيمه برفع اللام؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي ثم هو يغتسل فيه، ويجوز الجزم عطفا على محل لا يبولن؛ لأنه مجزوم، وعدم ظهور الجزم لأجل النون، وقد قيل: يجوز النصب بإضمار "أن" ويعطي لـ"ثم" حكم واو الجمع.
قلت: هذا فاسد؛ لأنه يقتضي أن يكون المنهي عنه هو الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقل به أحد، بل البول فيه منهيّ عنه سواء أراد الاغتسال فيه أم منه أم لا، وقال القرطبي في "المفهم": الصحيح "يغتسلُ" برفع اللام، ولا يجوز نصبها إذ لا تنتصب بإضمار"أن" بعد "ثم". وخالفه في ذلك ابن مالك وأجازه بالوجه الذي ذكرناه، وقال النووي: الرواية "يغتسل" بالرفع. وقال القرطبي: ومثل هذا قوله عليه السلام: "لا يضرب أحدكم امرأته ضربَ الأَمة ثم يُضاجعُها"(1) برفع "يُضاجعُها". ولم يروه أحد بالجزم، والتقدير: ثم هو يضاجعها، وثم هو يغتسل.
ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى أبو موسى الصدفي، قال: أخبرني أنس بن عياض الليثي، عن الحارث بن أبي ذُبَاب -وهو رجل من الأزد- عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب".
ش: هذا طريق آخر أيضًا، ورجاله ثقات.
ويونس بن عبد الأعلي شيخ مسلم أيضًا والنسائي وابن ماجه، وقد شاركهم الطحاوي في الرواية عنه.
وأنس بن عياض شيخ الشافعي وأحمد.
والحارث بن أبي ذباب هو الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد -وقيل: المغيرة- بن أبي ذباب الدوسي المدني.
(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(5/ 2246 رقم 5695)، ومسلم (4/ 2191 رقم 2855) كلاهما من حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه بنحوه.
وأخرج البيهقي نحوه إسنادا ومتنا (1).
قوله: "أو يشرب" أي منه.
ص: حدثنا يونس قال: أخبرني عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكير بن عبد الله الأشج حدثه، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة، حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جُنب. فقال: كيف نفعل يا أبا هريرة؟ فقال: تتناوله تناولا".
ش: رجال هذا كلهم رجال الصحيح، فنصفه مصري، ونصفه مدني.
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(2) عن النيسابوري عن يونس بن عبد الأعلى
…
إلى آخره نحوه سواء بسواء.
وأخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه"(3): عن عبد الله بن مسلم، عن حرملة ابن يحيى، عن عبد الله بن وهب
…
إلى آخره نحوه (4).
قوله: "لا يغتسلْ" نهي؛ فلذلك جزم "اللام"، ويجوز أن يكون نفيا؛ فحينئذ تضم اللام.
قوله: "وهو جنب" جملة حالية.
قوله: "كيف نفعل" بالنون المصدرة للجماعة.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 239 رقم 1072) من طريق ابن وهب عن أنس بن عياض به.
وأخرجه ابن خزيمة (1/ 50 رقم 94)، وعنه ابن حبان في "صحيحه"(4/ 67 رقم 1256) من نفس طريق المصنف، فروياه عن يونس بن عبد الأعلى به.
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 51 رقم 1).
(3)
"صحيح ابن حبان"(4/ 62 رقم 1252).
(4)
فات المصنف أن يعزوه إلى "صحيح مسلم" وهو أولى بالعزو، فقد رواه مسلم من طريق هارون بن سعيد الأيلي، وأبي طاهر، وأحمد بن عيسى، جميعًا عن ابن وهب به سواءً بسواء (1/ 236 رقم 283)، وهو عند ابن خزيمة في "صحيحه"(1/ 49 رقم 93) من طريق يونس به.
قوله: "تتناوله" بتاء الخطاب، و"تناولا" نُصِبَ على المصدرية.
واستدل به أبو يوسف على نجاسة الماء المستعمل؛ لأنه نهي عن الاغتسال في الماء الدائم في حالة الجنابة؛ فلو لم يتنجس الماء بذلك لم يكن للنهي فائدة.
ومن فوائده: جواز إدخال الجنب يده في الماء الدائم ليأخذ منه شيئا للاغتسال، وكذا حكم الإناء؛ لأن في منع هذا حرجا عظيما؛ لأن كل أحد لا يجد إناء يأخذ الماء به، ولو أدخل رجله لفسد الماء لعدم الحاجة إليه، وعن أبي يوسف: لو أدخل رجله في البئر لا يفسد؛ لأنه يحتاج إلى ذلك لطلب الدلو.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال: حدثني أبي، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه.
ش: ابن أبي داود هو إبراهيم، وقد مر غير مرة.
وسعيد بن الحكم المصري، روى له الجماعة.
وعبد الرحمن بن أبي الزناد -بالزاي والنون- أبو محمَّد القرشي المدني، استشهد به البخاري، واحتج به أبو داود والترمذي وابن ماجه. واسم أبي عبد الرحمن: عبد الله بن ذكوان أبو الزناد، روى له الجماعة.
وموسى بن أبي عثمان التبان مولى المغيرة بن شعبة، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
ولم يعرف اسم أبي موسى المذكور، روى له الترمذي والنسائي.
ص: وكما حدثنا حسين بن نصر بن المعارك البغدادي، قال: ثنا محمَّد بن يوسف الفريابي، قال: ثنا سفيان (ح).
وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزناد
…
فذكر بإسناده مثله.
ش: هذان طريقان آخران للطريق السابق، فحصل لحديث أبي الزناد ثلاث طرق.
وحسن بن نصر ذكره ابن يونس فيمن قدم مصر وقال: كان ثقة ثبتا.
ومحمد بن يوسف الفريابي روى له الجماعة، والفِريابي -بكسر الفاء- نسبة إلى فارياب، بليدة بنواحي خراسان.
وسفيان هو الثوري الإمام المشهور.
وفهد هو ابن سليمان.
وأبو نعيم هو الفضل بن دكين شيخ البخاري وغيره.
واعلم أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر يكتب عند الانتقال من إسناد إلى إسناد آخر "حاء" مهملة مفردة؛ دلالة على التحويل والانتقال، ولذلك كَتَبَ "ح" بعد قوله:"ثنا سفيان ح وحدثنا فهد".
ص: حدثنا الربيع بين سليمان المؤذن قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا عبد الله ابن لهيعة، قال: ثنا عبد الرحمن الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه".
ش: هذا طريق آخر.
والربيع بين سليمان بن عبد الجبار المرادي، راوي كتب الأمهات عن الشافعي، وثقه الخطيب.
وأسد بن موسى بن إبراهيم الأموي المصري، وثقه ابن حبان وغيره.
وعبد الله بن لَهِيعة -بفتح اللام وكسر الهاء- قاضي مصر قالوا: فيه مقال. ولكنه كبير، وثقه أحمد ورضي به الطحاوي (1).
(1) راجع ترجمته في "تهذيب الكمال"(15/ 487 - 503) و"ميزان الاعتدال"(2/ 475 - 483).
وقال الذهبي في "السير"(8/ 14): لا ريب أن ابن لهيعة كان عالم الديار المصرية، هو والليث معًا، كما كان الإِمام مالك في ذلك العصر عالم المدينة، والأوزاعي عالم الشام، ومعمر عالم =
وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج القرشي، روي له الجماعة.
ص: وكما حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، قال: أنا حيوة بن شريح، قال: سمعت ابن عجلان يحدث، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ولا يغتسل فيه".
ش: هذا طريق آخر رجاله كلهم ثقات.
والربيع هذا غير الربيع المذكور في الحديث السابق فإن ذاك مرادي وهذا جيزي نسبة إلى جيزة مصر مقابل المقياس وكلاهما من أصحاب الشافعي.
وحيوة بن شريح التميمي المصري.
وهذا الإسناد نصفه مصري ونصفه مدني.
قوله: "ولا يغتسلُ" برفع اللام، عطف جملة على جملة لا عطف فعل على فعل، إذ لو كان ذاك لقيل: ولا يغتسلن -بالنون- وهذه الرواية بحرف "في" والتي قبلها بحرف "من" فافهم.
ص: حدثنا إبراهيم بن منقذ العُصْفري، قال: حدثني إدريس بن يحيى، قال: ثنا عبد الله بن عياش، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبى عليه السلام مثله، غير أنه قال:"ولا يغتسل فيه جنب".
ش: هذا إسناد آخر في الحديث السابق، وفيه زيادة لفظة:"جُنب" بعد قوله: "ولا يغتسل فيه" ورجاله ثقات.
وإبراهيم بن منقذ من أصحاب عبد الله بن وهب.
=اليمن، وشعبة والثوري عالمي العراق، وإبراهيم بن طهمان عالم خراسان، ولكن ابن لهيعة تهاون بالإتقان، وروى مناكير؛ فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم، وبعض الحفاظ يروي حديثه، ويذكره في الشواهد والاعتبارات والزهد والملاحم، لا في الأصول.
وبعضهم يبالغ في وهنه، ولا ينبغي إهداره، وتتجنب تلك المناكير، فإنه عدل في نفسه.
وإدريس بن يحيى بن إدريس بن يحيى الخولاني.
وعبد الله بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- القِتْبَاني أبو حفص المصري، روي له مسلم.
والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
ص: وحدثنا محمَّد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو يوسف، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام:"أنه نهى أن يبال في الماء الركد ثم يتوضأ فيه".
ش: محمَّد بن الحجاج ذكره ابن يونس وقال: محمَّد بن الحجاج بن سليمان الجوهري مولى حضرموت، يكني أبا جعفر، كان صالحا.
وعلي بن معبد بن شداد العبدي أبو الحسن الرَّقي نزيل مصر، وثقه أبو حاتم، وروي له الترمذي والنسائي.
وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، الإِمام المشهور أكبر أصحاب أبي حنيفة، وثقه ابن حبان وغيره.
وابن أبي ليلي هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري قاضي الكوفة، روى له الأربعة، وفيه مقال.
وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، روي له الجماعة.
وأخرجه مسلم (1): عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله عليه السلام:"أنه نهى أن يبال في الماء الراكد".
وابن ماجه (2): عن محمَّد بن رمح، عن الليث
…
إلي آخره نحوه.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 235 رقم 281).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 124 رقم 343).
والطبراني في "الأوسط"(1) بإسناد صحيح إلى جابر قال: "نهي رسول الله عليه السلام أن يبال في الماء الجاري فإذا كان البول في الجاري منهيّا عنه ففي الراكد بالطريق الأولى.
وأخرجه ابن ماجه (2): عن محمَّد بن يحيى، عن محمَّد بن المبارك، عن يحيى بن حمزة؛، عن ابن أبي فروة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا [يبولن] (3) أحدكم في الماء الناقع".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فلما خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء الذي لا يجري دون الماء الجاري مع ما في هذه الآثار؛ علمنا بذلك أنه إنما فصل ذلك لأن النجاسة تداخل الماء الذي لا يجري ولا تداخل الماء الجاري، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا في غسل الإناء من ولوغ الكلب ما سنذكره في غير هذا الموضع من كتابنا هذا إنْ شاء الله تعالى فذلك دليل على نجاسة الإناء ونجاسة مائه وليس ذلك بغالب على ريحه ولا على لونه ولا على طعمه، فتصحيح معاني هذه الآثار يوجب فيما ذكرنا من هذا الباب من معاني حديث بئر بضاعة ما وصفنا لتتفق معاني ذلك ومعاني هذه الآثار ولا تتضادَّ، فهذا حكم الماء الذي لا يجري إذا وقعت فيه النجاسة من طريق تصحيح معاني الآثار، غير أن قوما وقتوا في ذلك شيئًا فقالوا: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا.
ش: لما أوّل فيما مضى معنى قوله عليه السلام في بئر بضاعة: "إنَّ الماء لا ينجس" بأنه لا ينجس في حال عدم النجاسة فيها، وكذلك معنى قوله عليه السلام:"إنَّ الأرض لا تنجس" بأنها لا تبقى نجسة إذا زالت النجاسة منها، وأقام على ذلك شواهد تدل على صحة مدعاه وهي أحاديث بول الأعرابي في المسجد، ثم أوضح ذلك
(1)"المعجم الأوسط"(2/ 208 رقم 1749)، وقال:"لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي إلَّا الحارث". أي الحارث بن عطية.
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 124 رقم 345).
(3)
في "الأصل، ك": "يبول"، والمثبت من "سنن ابن ماجه".
بأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم الذي لا يجري، علم بذلك اتفاق معاني آثار بئر بضاعة مع معاني هذه الآثار وليس بينها تضاد في الحقيقة؛ وإنْ كان يتُوهم ذلك بحسب الظاهر.
قوله: "ما سنذكره" مسند إلى قوله: "وقد روي".
قوله: "فذلك" إشارة إلى حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب.
قوله: "وليس ذلك بغالب" جملة حالية.
قوله: "فتصحيح معاني هذه الآثار" كلام إضافي مبتدأ، وخبره قوله:"يوجب" قلت: "ما وصفنا" مفعوله.
قوله: "ولا تتضاد" بالنصب عطفا على قوله: "لتتفق معاني هذه الآثار" والتضاد بين الشيئين التنافي بينهما وهو أن يقتضي أحدهما ثبوت أمر والآخر انتفاءه في محل واحد بشرط تساويهما في القوة، وكذا التناقض بين الشيئين والتعارض بينهما فالمتضادان لا يجتمعان ولكنهما يرتفعان كالأبيض والأسود، والتناقض عند أهل المعقول: اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب بحيث يقتضي لذاته صدق إحداهما وكذب الأخرى.
قوله: "غير أن قوما" أراد بهم الشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وأبا عبيد ومن تبعهم في توقيت الماء القليل.
قوله: "وقتوا" أي قدروا في الماء الدائم في حكم القليل الذي يتنجس بوقوع النجاسة بما دون القلتين على ما يتحرر عن قريب إنْ شاء الله تعالى.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا بحر بن نصر بن سابق الخولاني، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: أبنا أبو أسامة حماد بن أسامة، عن الوليد بن كثير المخزومي، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السباع، فقال: إذا بلغ الماء قلتين فلم يحمل الخبث".
ش: أي احتج هؤلاء القوم وهو الذي ذكره في قوله: "غير أن قوما وقتوا في ذلك". وقد ذكر أن المراد منهم الشافعي وأحمد وإسحاق ومن تبعهم.
ورجال هذا كلهم رجال الصحيح ما خلا بحر بن نصر فإنه أيضًا ثقة، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: صدوق ثقة. روى عنه النسائي.
وأخرجه الأربعة، فأبو داود (1): عن ابن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي، عن أبي أسامة
…
إلى آخره نحوه.
والترمذي (2): عن هنّاد، عن عبدة، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن جعفر
…
إلى آخره، ولفظه:"سمعت رسول الله عليه السلام وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث".
والئسائي (3): عن هناد بن السري والحسن بن حريث، عن أبي أسامة
…
إلى آخره نحو رواية أبي جعفر، غير أن فيه:"من الدواب والسباع".
وابن ماجه (4): عن أبي بكر بن خلَّاد، عن يزيد بن هارون، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن جعفر
…
إلى آخره نحو رواية الترمذي.
وقد وقع في رواية النسائي وابن ماجه: "عُبيد الله بن عبد الله"(5) مثل ما وقع في رواية الطحاوي بتصغير "العبد" في الابن وتكبيره في الأب، وفي رواية أبي داود والترمذي (6): بالتكبير فيهما، ولما أخرجه الترمذي سكت عنه ولم يحكم عليه بشيء،
(1)"سنن أبي داود"(1/ 17 رقم 63).
(2)
"جامع الترمذي"(1/ 97 رقم 67).
(3)
"المجتبى"(1/ 46 رقم 52).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 172 رقم 517).
(5)
في المطبوع في هذا الموضع: "عبد الله بن عبد الله" بالتكبير فيهما، وأما في (1/ 175 رقم 328) من طريق الحسين بن الحريث فقط من غير ذكر هناد بن السري.
(6)
في المطبوع في "جامع الترمذي" في هذا الموضع و"سنن أبي داود"(1/ 17 رقم 64): "عبيد الله =
وقال اليعمري: وقد صححه ابن حبان وابن منده والطحاوي والخطابيّ والبيهقي، وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1) والحاكم في "مستدركه" (2): وزعم أنه على شرط الشيخين، ووافقه ابن منده في أنه على شرط مسلم، وقال الحكم:"صحيح ولا تقبل دعوى من ادعى اضطرابه".
وقال اليعمري أيضًا: وقد حكم الفقيه أبو جعفر الطحاوي بصحة هذا الحديث لكنه اعتل في ترك العمل به بجهالة مقدار القلتين.
قلت: وضعفه الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ، وقال ابن العربي: مداره على علته أو مضطرب في الرواية أو موقوف، وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد ابن كثير وهو إباضيّ، واختلفت روايته فقيل: قلتين، وقيل: قلتين أو ثلاثًا،
= ابن عبد الله" بالتصغير في الابن والتكبير في الأب، وكلاهما من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر.
وقد ذكر الحافظ المزي في كتابه العظيم "تحفة الأشراف" روايتي أبي داود والنسائي في مسند عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، بالتكبير فيهما (5/ 471 رقم 7272)، وكلاهما من طريق الوليد بن كثير عن محمَّد بن جعفر، وذكر رواية أبي داود والترمذي وابن ماجه في مسند عُبَيد الله بن عبد الله عن أبيه، بالتصغير في الابن والتكبير في الأب، وكلها من طريق ابن إسحاق عن محمد بن جعفر (3/ 6 رقم 7305).
ورواه أبو داود (1/ 17 رقم 65) من طريق عاصم بن المنذر، عن عُبَيد الله بن عبد الله به، بالتصغير في الابن أيضًا، وهي عند ابن ماجه أيضًا (1/ 172 رقم 518)، واختلف على عاصم في رفعه ووقفه كما سيأتي.
والخلاصة: أنه اختلف على محمَّد بن جعفر فيه، فرواه عنه محمَّد بن إسحاق وعاصم بن المنذر عن عبيد الله -بالتصغير- بن عبد الله بن عمر.
ورواه الوليد بن كثير عنه عن عبد الله -بالتكبير- بن عبد الله.
وعُبَيد الله بن عبد الله ثقة، وعبد الله بن عبد الله ضعيف، المصغر مكبر في الرواية، والمكبر مصغر في الرواية.
(1)
"صحيح ابن خزيمة"(1/ 49 رقم 92).
(2)
"مستدرك الحاكم"(1/ 225).
وروي "أربعون قلة" وروي "أربعون غربا" ووقف على أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وقال اليعمري: حكم ابن منده بصحته على شرط مسلم من جهة الرواة، ولكنه أعرض عن جهة الرواية بكثرة الاختلاف فيها والاضطراب ولعل مسلما تركه لذلك.
قلت: اضطرابه لفظي ومعنوي، أما اللفظي فمن جهة الإسناد والمتن، أما إسناده فمن ثلاث روايات:
الأول: رواية الوليد بن كثير كما في رواية الطحاوي وأبي داود والنسائي وكذا في رواية الشافعي عن عبد الله بن الحارث المخزومي عن الوليد بن كثير، وكذا في رواية إسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة.
والثانية: رواية محمَّد بن إسحاق، كما في رواية الترمذي وابن ماجه.
والثالثة: رواية حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر، واختلف في إسنادها ومتنها:
أما الإسناد فما رواه أبو داود (1) وابن ماجه (2): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد عن عاصم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس" وخالف حماد بن سلمة فرواه عن عاصم بن المنذر، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله موقوفا.
وأما المتن فإن يزيد بن هارون رواه عن حماد بن سلمة، فاختلف فيه على يزيد، فقال الحسن بن محمَّد الصباح عنه عن حماد، عن عاصم قال:"دخلت مع عبيد الله ابن عبد الله بن عمر بستانا فيه مقرى ماء فيه جلد بعير ميت، فتوضأ فيه، فقلت له: أتتوضأ منه وفيه جلد بعير ميت؟! فحدثني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغ الماء قلتين أو أكثر لم ينجسه شيء" أخرجه الدارقطني (3).
(1)"سنن أبي داود"(1/ 17 رقم 65).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 172 رقم 518).
(3)
"سنن الدارقطني"(1/ 22 رقم 21)، وفيه:"أو ثلاثًا" موضع "أو أكثر".
وكذلك رواه وكيع عن حماد بن سلمة وقال:"إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثًا لم ينجسه شيء" رواه ابن ماجه (1).
وأما متنه فالاضطراب فيه ما تقدم.
ورروي الدارقطني في "سُننه"(2) وابن عُدي في "الكامل"(3) والعقيلي في كتابه (4) عن القاسم بن [عبد](5) الله العمري، عن محمَّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الماء أربعين قلة فإنه لا يحمل الخبث" وقال الدارقطني: القاسم العمري وهم في إسناده، وكان ضعيفًا كثير الخطأ.
وروى الدارقطني (6) أيضًا: من جهة بشر بن السري عن ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن سليمان بن سنان، عن عبد الرحمن بن أبي هريرة، عن أبيه قال:"إذا كان الماء قدر أربعين قلة لم يحمل خبثا" وخالفه غير واحد رووه عن أبي هريرة فقالوا: "أربعين غربا" ومنهم من قال: "أربعين دلوا".
وأما الاضطراب المعنوي فقيل: إنَّ القلّة اسم مشترك يطلق على الجرّة وعلى القربة وعل رأس الجبل وعلي قامة الرحل، والاسم المشترك لا يراد به إلَّا أحد المعاني الذي دلّ عليه الدليل المرجح، فأي دليل مرجح دلّ على أن المراد من القلّة ما أرادوه من التقدير لا غيره.
فإن قلت: روى الشافعي في "مسنده"(7): أخبرني مسلم بن خالد الزنجي، عن
(1) سبق تخريجه.
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 26 رقم 34).
(3)
"الكامل"(6/ 34).
(4)
"ضعفاء العقيلي"(3/ 374).
(5)
في "الأصل، ك": "عُبَيد، وهو خطأ، والمثبت من "سنن الدارقطني"، و"الكامل" لابن عدي، و"ضعفاء العقيلي"، ومحمد بن المنكدر لم يذكروا في الرواة عنه القاسم بن عبيد الله، إنما يروي عنه القاسم بن عبد الله.
(6)
"سنن الدارقطني"(1/ 27 رقم 40).
(7)
"مسند الشافعي"(1/ 165).
ابن جريج بإسناد لا يحضرني ذكره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان الماء قلتين لم يحمل [خبثا] (1) " وقال في الحديث: "بقلال هجر" قال ابن جريج: وقد رأيت قلال هجر، فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا. وقال الشافعي: فالاحتياط أن تجعل القلّة قربتين ونصفا، فإذا كان الماء خمس قِرب كبار كقرب الحجاز لم يحمل نجسا إلَّا أن يظهر في الماء ريح أو طعم أو لون.
قلت: في هذا ثلاثة أشياء:
أحدها: أن مسلم بن خالد ضعفه جماعة، فالبيهقي أيضًا ضعفه في باب: من زعم أن التراويح بالجماعة أفضل (2).
الثاني: أن الإسناد الذي لم يحضره ذكره مجهول، فهو كالمنقطع، فلا تقوم به حجة.
الثالث: أن قوله: "وقال في الحديث: بقلال هجر" يوهم أنه من لفظ النبي عليه السلام والذي وجد في رواية ابن جريج أنه قول يحيى بن عقيل كما بينه البيهقي، ويحيي هذا ليس بصحابي فلا تقوم بقوله حجة.
فإن قلت: أسند البيهقي (3): عن محمَّد [أن يحيى بن عقيل أخبره](4) عن يحيى ابن يعمر، أنه عليه السلام قال:"إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا ولا بأسا". قال: فقلت ليحيي بن عقيل: قلال هجر؟ [قال: قلال هجر](5) قال: فأظن أن كل قلة تأخذ فرقين" زاد أحمد بن علي في روايته: "والفرق ستة عشر رطلا".
قلت: في هذا أيضًا أشياء:
أحدها: أنه مرسل.
(1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مسند الشافعي":"نجسًا".
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 495).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 263 رقم 1173).
(4)
سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى".
(5)
وكذا صرح باسمه الدارقطني في "سننه"(1/ 24 رقم 28).
الثاني: أن محمَّد المذكور فيه هو ابن يحيى -على ما قال أبو أحمد الحافظ- يحتاج إلى الكشف عن حاله.
الثالث: أنه ظن من غير جزم.
الرابع: أنه إذا كان الفرق ستة عشر رطلا يكون مجموع القلتين أربعة وستين رطلا، وهذا لا يقول به البيهقي وإمامه.
فإن قلت: قد ارتفع الاضطراب برواية إسماعيل بن عُلَيّة، والاضطراب الذي يرجع إلى المتن قد يدفع بما ذكر من طريق ابن إسحاق من عدة أوجه ليس فيها ذكر لغير القلتين، وكذلك طريق الوليد بن كثير ولم يقع من ذلك إلَّا اليسير جِدّا في طريق عاصم بن المنذر من بعض الوجوه وهي كلها لا تساوي واحدا من طريقي ابن إسحاق والوليد ولا يقاربها، فالاضطراب إنما يقدح إذا تساوت الطرق وتعذر الجمع أو الترجيح، وكذا تعليل مرفوعه بموقوفه ليس بمستقيم؛ لأن الرافع إذا كان ثقة لا يضره من لم يرفعه؛ لأنه زيادة من ثقة، وأن من رفعه أكثر وأحفظ ممن وقفه بكثير، فيكون الاعتبار للأكثر وللأحفظ.
قلت: لا نسلم أن ارتفاع الاضطراب برواية ابن عُلية؛ لأنه يروي عن عاصم بن المنذر وهو ليس ممن اتفق عليه، ألا تري أن البخاري استشهد به وما روى له، وقوله:"طريق عاصم لا يساوي طريق ابن إسحاق" غير مسلم؛ لأن كليهما سواء في القوة والضعف، ولهذا استشهد بهما البخاري ولم يخرج لهما شيئًا، وقوله:"إنَّ الرافع إذا كان ثقة" معارَضٌ بما إذا كان الواقف أيضًا ثقة، قلت:"الاعتبار للاكثر" غير مسلم؛ بل الاعتبار للقوة، ولئن سلمنا جميع ذلك وسلمنا صحة الحديث لكنا نأوّله ونحمله على ما ذكره الطحاوي؛ ألَّا ترى أنه وهو إمام في الحديث وفي معرفة طرق معانيه، قد أخرج هذا الحديث بإسناد صحيح ولكنه لم يعمل به لجهالة مقدار القلتين على ما يجيء بيانه مستقصى إنْ شاء الله.
قوله: "وما ينوبه" أي ما يطرقه، وقيل: أي ما يقصده، يقال: نابه ينوبه نوبا وانتابه، إذا قصده مرة بعد أخرى، ويقال: معناه: ما تنزل به الدواب للشرب وهو جمع دابة، وهو ما يدب على وجه الأرض في اللغة، وفي العرف الدابة تطلق على ذوات الأربع مما يركب، وفي الصحاح: الدابة التي تركب.
والسباع جمع سبع وهو كل حيوان عادٍ مفترس ضار ممتنع، وعطف السباع على الدَّواب من عطف الخاص على العام، إنْ اعتبرنا في الدواب المعنى اللغوي، وإلَّا فلا يكون من هذا القبيل.
قوله: "فقال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "إذا كان الماء قلتين" وهي تثنية قلة وهي الحُبّ (1) العظيم والجمع قلال، واختلفوا في تفسير القلة، فقيل: خمس قرب كل قربة خمسون منّا، وقيل: جرة تسع فيها مائة وخمس وعشرون منّا، وقيل: القلتان خمسمائة رطل بالبغدادي، وقيل: القلتان خمسمائة منّ، وقيل: القلة هي الجرّة التي يقُلّها القوي من الرجال أي يحملها، وقال اليعمري: الصحيح أن القلتين خمسمائة رطل، خمس قرب كل قربة مائة رطل بالبغدادي. وقيل: ستمائة، وقيل: ألف، وهما بالمساحة ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا، هكذا قالوا وليس محرّرا؛ فإن الماء تختلف أوزانه، وفي المغني لابن قدامة: القلة هي الجرّة، ويقع هذا الاسم على الصغيرة والكبيرة، والمراد من القلتين هَا هنا من قلال هجر، وهما خمس قرب كل قربة مائة رطل بالعراقي، فتكون القلتان خمسمائة رطل، هذا هو المشهور في المذهب وعليه أكثر الأصحاب. وهو مذهب الشافعي، وروى الأثرم عن أحمد أنَّهما أربع قرب، وحكاه ابن المنذر أيضًا عن إمامه.
قلت: وهجر التي تنسب إليها القلال قرية كانت ببلاد المدينة، ويقال: هجر التي باليمن، والأول أصح.
(1) الحُبُّ -بالحاء المهملة- هو الجرَّة الضخمة، وهو الذي يجعل فيه الماء. انظر "لسان العرب"، (مادة: حبب).
قوله: "لم يحمل الخَبَث" بفتحتين أي لا يحتمل نجسا لضعف قوته، هذا تأويلنا وهم يقولون: معناه لم ينجس بملاصقة النجاسة ووقوعها فيه.
وقال النووي: وأما قول المانعين من العمل بالقلتين: "إن معناه يضعف عن حمله" فخطأ فاحش من أوجه:
أحدها: أن الرواية الأخري مصرحة بلفظه وهي قوله: "فإنه لا ينجس".
الثاني: أن الضعف عن الحمل إنما يكون في الأجسام كقولك فلان لا يحمل الخشبة أبي يعجز عن حملها لثقلها، وأما في المعاني فمعناه لا يقبله.
الثالث: أن سياق الكلام يفسده؛ لأنه لو كان المراد أنه يضعف عن حمله لم يكن للتقييد بالقلتين معني فإن ما دونهما أولى بذلك.
وأجيب بأن تأويل المانعين في الرواية التي لفظها "لم يحمل الخبث" صحيح لأن المعنى لا يحتمل هذا الماء نجسا لعدم قوته كما يقال فلان لا يحمل ألف رطل أي يضعف عنه، وتأويلهم إنما هو في هذه الرواية، وأما الرواية الأخري فالجواب عنها أن العمل متعذّر؛ للاختلاف الشديد في تفسير القلتين.
وقال أبو عمر في "التمهيد": "وما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت في الأثر؛ لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم؛ ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع".
وقال ابن حزم: "وأما حديث القلتين فلا حجة لهم فيه أصلًا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدّ مقدار القلتين، ولا شك في أنه عليه السلام إذا أراد أن يجعلها حدّا بين ما يقبل النجاسة وبين ما لا يقبلها لمَا أهمل أن يحدّها لنا بحد ظاهر، لا يحيل، وليس [هذا] (1) مما يوجب على المرء ويوكل فيه إلى اختياره ولو كان ذلك لكانت كل قلتين -صغرتا أو كبرتا- حدّا في ذلك".
(1) من "المحلى" لابن حزم (1/ 175).
وأما الشافعي فليس حدّه في القلتين بأولى من حدّ غيره ممن فسرهما بغير تفسيره، وكل قول لا برهان له فهو باطل.
والقلتان هو ما وقع عليه في اللغة اسم قلتين صغرتا أم كبُرتا، ولا خلاف في أن القلة التي تَسَعُ عشرة أرطال ماء تسمى عند العرب قلة، وليس [في هذا](1) الخبر ذكر لقلال هجر أصلا، ولا شك في أن بهجر قلالا صغارا وكبارا.
فإن قيل: إنَّه عليه السلام ذكر قلال هجر في حديث الإسراء.
قلئا: نعم وليس ذلك بموجب أن يكون عليه السلام متى ذكر قلة فإنما أراد من قلال هجر، وليس تفسير ابن جريج للقلتين بأولى من تفسير مجاهد الذي قال: هما جرتان. وتفسير الحسن كذلك أيضًا.
ص: وكما حدثنا الحسن بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أبنا محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن جعفر أبي الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه سئل عن الحياض التي بالبادية تصيب منها السباع، قال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجسا".
ش: هذه طريقة أخرى وهي صحيحة أيضًا، وإسنادها بعينه إسناد ابن ماجه الذي ذكرناه؛ لأنه أخرجه (2) عن أبي بكر بن خلاد، عن يزيد بن هارون
…
إلى آخره، غير أن لفظهما مختلف كما ترى.
قوله: "بالبادية" أي في البادية على وزن فاعلة، من بدا إذا ظهر، يقال: بدا القوم بدوًّا أي خرجوا إلى باديتهم، والبدوي نسبة إلى البدو، والبدو البادية.
وقد استدل به بعضهم على نجاسة سؤار السباع، لقوله:"تصيب منها السباع" وأجاب عنه من لا يرى بنجاسة سؤرها بأنها إذا وردت مياه الغدران خاضتها، وإذا خاضت بالت في الأكثر عادة، مع أن قوائمها لا تخلو من النجاسة غالبا، فكان
(1) في "الأصل، ك": "لهذا"، والمثبت من "المحلى" لابن حزم.
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 172 رقم 517)، وقد سبق.
سؤالهم عن ذلك، وكان الجواب عنه عليه السلام عن ذلك تقرير قاعدة عامة في الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، ومياه الغدران بالفلوات لا تنقص عن قلتين غالبا.
قلت: فيه نظر؛ لأنا لا نسلم أنها تخوض في الماء عند الورود إليه، ولئن سلمنا ذلك فلا نسلم أنَّهَا تبول، ولئن سلمنا أنّها تبول فلا نسلم أن يكون تنجيس بولها الماء منافيا عن تنجيسه بسؤرها، فلم لا يجوز أن يكون تنجيسه بهما جميعا عند اجتماعهما وكل واحد منهما عند الإفراد؟!
وقوله: "مع أن قوائمها لا تخلو من النجاسة" معارض بأن أفواهها لا تخلو عن النجاسة بل كون نجاسة فمها أقرب وأكثر من كون قوائمها نجسة؛ لأنها تأكل الجيف والعذرة ونحوهما، فهذا ما فتُح لي من الأنوار الربانية والأسرار الرحمانية ولله الحمد.
ص: حدثنا محمد بن الحجاج، ثنا علي بن معبد، ثنا عباد بن عباد المهلبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عبيد اللهَ بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذه طريقة أخرى وهي أيضًا صحيحة.
وأخرجه البزار في "مسنده" وقال: حدثنا عمرو بن علي، نا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق إلى آخره نحوه.
وأبو معاوية هو عبّاد بن عبّاد بن حبيب بن المهلب البصري، روى له الجماعة.
ص: وكما حدثنا يزيد بن سنان بن يزيد البصري، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
ش: هذه طريقة أخرى، وهي أيضًا صحيحة.
ويزيد بن سنان أبو خالد القزاز البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي.
وموسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود.
ص: حدثنا يزيد، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر أخبرهم قال:"كنا في بستان لنا -أو بستان لعبيد الله بن عبد الله بن عمر- فحضرت صلاة الظهر، فقام إلى بئر البستان فتوضأ منه وفيه جلد بعير ميت، فقلت: أتتوضأ منه وهذا فيه؟ " فقال عبيد الله: أخبرني أبي أن رسول الله عليه السلام قال: إذا كان الماء قلتين لم ينجس".
ش: يزيد هو ابن سنان المذكور. وعاصم بن المنذر وثقه ابن حبان.
وهذا أخرجه الدارقطني (1): وقد ذكرناه ولكن في روايته: "إذا بلغ الماء قلتين أو (أكثر) (2) لم ينجسه شيء".
وأخرجه البيهقي (3) أيضًا: من حديث حماد عن عاصم بن المنذر قال: "دخلت مع عبيد الله بن عبد الله بن عمر بستانا فيه مِقرى ماء فيه جلد بعير ميت، فتوضأ منه، فقلت: أتتوضأ منه وفيه هذا؟! فحدثني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغ الماء قدر قلتين أو ثلاث لم ينجسه شيء".
قوله: "وفيه جلد بعير" جملة حالية، وكذا قوله:"وهذا فيه".
قوله: "مِقرى ماء" بكسر الميم قال ابن الأثير: المقرى والمقراة: الحوض الذي يجتمع فيه الماء.
ص: وكما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا حماد بن سلمة
…
فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأوقفه على ابن عمر رضي الله عنهما.
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 22 رقم 20).
(2)
في "سنن الدارقطني": "ثلاثًا".
(3)
"سنن البيهقي الكبري"(1/ 262 رقم 1169).
ش: هذا موقوف، فقد ظهر لك بهذا اضطراب هذا الحديث -يعني حديث القلتين- لأن في سنده ضعفا وفي متنه اضطرابا، والقلة في نفسها مجهولة.
قلت: "لا يحمل الخبث" يحتمل معنيين مختلفين لا ندري أيهما المراد، والاعتماد على مثل هذا الخبر لا يصلح؛ كيف وقد ظهر العمل من الصحابة بخلافه في ماء البئر، فكان الاعتماد على ما روي من الأحاديث المشهورة.
قلت: والجواب القاطع لحديث القلتين أنه خبر واحد، وخبر الواحد إذا ورد مخالفا للإجماع يُردّ، بيانه: أن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم أفتيا في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح الماء كله. ولم يظهر أثره في الماء، وكان الماء أكثر من قلتين، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليهما أحد منهم، فانعقد الإجماع برد هذا الحديث.
ص: فقال هؤلاء القوم: إذا بلغ الماء هذا المقدار؛ لا يضره ما وقعت فيه من النجاسة إلَّا ما غلب على ريحه أو طعمه ولونه. واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهم هذا.
ش: أشار بهؤلاء القوم إلى قوله: "غير أن قوما وقتوا في ذلك شيئًا" وهم: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ومن تبعهم، وأراد بهذا المقدار القلتين.
وفي "المغني"(1): وإذا كان الماء قلتين وهو خمس قرب فوقعت فيه نجاسة فلم يوجد له طعم ولا لون ولا رائحة فهو طاهر، وأما ما دون القلتين إذا لاقته النجاسة فلم يتغير بها فالمشهور في الذهب أنه ينجس، وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو عُبيد.
وروي عن أحمد رواية أخرى: أن الماء لا ينجس إلَّا بالتغيير؛ قليله وكثيره. وروي ذلك عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس، قالوا: الماء لا ينجس إلَّا بالتغير.
(1)"المغني"(1/ 30).
وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري ويحيي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وابن المنذر، وهو قول الشافعي.
وأما الزائد على القلتين إذا لم يتغير بالنجاسة ولم تكن النجاسة بولا أو عذرة فلا يختلف المذهب في طهارته، روي ذلك عن ابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير والشافعي وإسحاق وأبي عُبيد وأبي ثور.
ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة التي صححناها أن هاتين القلتين لم يبيَّن لنا في هذه الآثار ما مقدارهما، فقد يجوز أن يكون مقدارهما قلتين من قلال هجر كما ذكرتم، ويحتمل أن تكونا قلتين أريد بهما قلّة الرحل وهي قامته فأريد إذا كان الماء قلتين أبي قامتين لم يحمل نجسا لكثرته ولأنه يكون بذلك في معنى الأنهار.
ش: أشار بهذا إلى بيان كيفية ترك العمل بحديث القلتين والجواب عنه.
قوله: "عليهم" أي على هؤلاء القوم وهم الذين ذكرناهم عن قريب، وأراد بأهل المقالة التي صحح لهم أبا حنيفة وأصحابه ومن تبعهم فيما ذهبوا إليه.
قوله: "أن هاتين القلتين" إسم لكان و"أنَّ" مصدرية. وكلمة "من" في قوله: "من الحجة" يجوز أن تكون للتبعيض وأن تكون للبيان والتقدير، فكان عدم بيان هاتين القلتين في هذه الآثار المذكورة من بعض الحجة عليهم، تحريره أن القلة في نفسها مجهولة لأنها وردت لمعاني كثيرة كما ذكرنا، فيبقي محتملا فلا يقوم به الدليل.
فإن قلت: قد تبين ذلك في حديث ابن جريج الذي أسنده البيهقي الذي ذكرناه فيما قبل بورقتين.
قلت: قد أجبت عن هذا هناك، وأيضًا لا يندفع الاحتمال بذلك؛ لأن ابن جريج ممن لا يقُلد، كذا قال شيخ الإِسلام في "المبسوط".
فإن قلت: قد أخرج ابن عدي (1) من جهة المغيرة بن سقلاب، عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء" وذكر أنهما فرقان.
قلت: الحديث معلول بالمغيرة؛ لأن ابن عدي ضعفه، وقال ابن حبان: غلب على حديثه المناكير فاستحق الترك.
فإن قلت: ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه: أنه صالح، وعن أبي زرعة: جزري لا بأس به.
قلت: إنْ سلمنا ذلك فالحديث يقتضي أن تكون القلتان اثنين وثلاثين رطلا، وهذا لا يقول به هؤلاء القوم.
ص: فإن قلتم: إنَّ الخبر عندنا على ظاهره والقلال عندنا هي قلال الحجاز المعروفة، قيل لكم: فإن كان الخبر على ظاهره كما ذكرتم فإنه ينبغي أن يكون الماء إذا بلغ ذلك المقدار لا تضره النجاسة وإنْ غيرت لونه أو طعمه أو ريحه؛ لأن النبي عليه السلام لم يذكر ذلك في هذا الحديث؛ فالحديث على ظاهره.
ش: السؤال ظاهر، وتحرير الجواب أن يقال لهم: إنْ كان الحديث على ظاهره يقتضي ما ذكرتم؛ كان ينبغي أن الماء إذا بلغ القلتين لا تضره النجاسة وإنْ غيرت وصفا من أوصافه، فحين شرطتم عدم التغير دلّ أنكم لم تعملوا بظاهر الحديث؛ لأنه عليه السلام لم يذكر هذا الشرط في الحديث فلم تكونوا عاملين به.
فإن قالوا: عملنا به ولكن شرطنا عدم التغير بحديث أبي أمامة الباهلي عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا ينجس الماء شيء إلَّا ما غيّر ريحه أو طعمه" رواه الطبراني في "الأوسط"(2) و"الكبير"(3).
(1)"الكامل" لابن عدي (6/ 359).
(2)
"المعجم الأوسط"(1/ 226 رقم 744).
(3)
"المعجم الكبير"(8/ 104 رقم 7503).
وفي رواية ابن ماجه (1): "إلَّا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه".
قلنا: يلزمكم حينئذ أن تحكموا بطهارة ما دون القلتين إذا لم يغير وقوع النجاسة فيه وصفا من أوصافه، ومع هذا لا تحكمون بطهارتها، على أن في سند الحديث رشدين بن سعد وهو ضعيف.
ص: فإن قلتم: فإنه وإنْ لم يكن ذكره في هذا الحديث فقد ذكره في غيره، فذكرتم ما حدثنا به محمَّد بن الحجاج قال: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأحوص بن حكيم، عن راشد بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء لا ينجسه شيء إلَّا ما غلب على لونه أو طعمه".
قيل لكم: هذا منقطع وأنتم لا تثبتون المنقطع ولا تحتجون به.
ش: تحرير هذه المعارضة أن النبي عليه السلام وإنْ لم يكن ذكر اشتراط عدم التغير في حديث القلتين، فقد كان ذكره في غيره، وهو الحديث الذي رواه راشد بن سعد المقرائي الحبُراني الحمصي التابعي، والجواب أنه منقطع فلا يقوم حجة.
والمعني أنه مرسل وهم لا يحتجون به، وأطلق على المرسل منقطعا لأنهما سواء عند الطحاوي، وقال ابن الصلاح:"المنقطع مثل المرسل وكلاهما شاملان لكل ما لا يتصل إسناده".
وقال أبو عمر بن عبد البر: "المرسل مخصوص بالتابعين، والمنقطع شامل له ولغيره".
وهو عنده كل ما لا يتصل إسناده سواء كان يعزى إلى النبي عليه السلام أو إلى غيره.
قلت: فظهر من هذا أن المنقطع أعم.
فإن قلت: فهذا وإنْ كان منقطعا من وجه فإنه متصل من وجه آخر على ما رواه الدارقطني (2): حدثنا محمَّد بن موسى البزاز، ثنا علي بن السرَاج، ثنا
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 174 رقم 521).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 28 رقم 1).
أبو شرحبيل، ثنا مروان بن محمَّد، ثنا رشدين بن سعد، ثنا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور إلَّا ما غلب على ريحه أو على طعمه".
قلت: قد اختلف أصحاب الحديث في منقطع من وجه متصل من وجه آخر، فمنهم من قال: سقط اعتبار الاتصال فيه بالانقطاع من وجه، والأكثرون على أنه حجة (1)، ولكن الحديث معلول برشدين بن سعد على ما ذكرناه عن قريب.
ص: فإن كنتم قد جعلتم قوله في القلتين على خاص من القلال، جاز لغيركم أن يجعل الماء على خاص من المياه، فيكون ذلك عنده على ما يوافق معاني الآثار الأول ولا يخالفها، فإذا كانت الآثار الأول التي قد جاءت في البول في الماء الراكد، وفي نجاسة الماء الذي في الإناء من ولوغ الهرّ فيه عامّا لم يذكر مقداره، وجعل على كل ما لا يجري؛ ثبت بذلك أن ما في حديث القلتين هو على الماء الذي لا يجري، ولا نظر في ذلك إلى مقدار الماء، كما لم يُنْظَرْ في شيء مما ذكرنا إلى مقداره؛ حتى لا يتضادّ شيء من الآثار المروية في هذا الباب.
ش: تحريره: أنهم إذا قالوا: نحن نخص القلتين بما هو المعروف عند أهل الحجاز فلا يبقى حينئذ احتمال فتقوم الحجة، فنحن نعارضهم بأن نخص الماء المذكور في حديث القلتين بأن نحمله على الماء الراكد، وهو أعم من أن يكون على الأرض أو في الإناء ليوافق معناه معاني الآثار التي وردت في البول في الماء الراكد، وفي نجاسة الماء الذي في الإناء من ولوغ الكلب أو الهرة، ولم يذكر في هذه الآثار مقدار معين، بل جعل على كل ما لا يجري فكذلك يحمل ما في حديث القلتين على الماء الذي لا يجري من غير نظر إلى مقداره كما في الآثار المذكورة؛ لئلَّا يقع التضاد والتنافي بين حديث القلتين والآثار المذكورة.
(1) والحق أن العبرة بمن روى هذا أو ذاك، فإن كان الذي رواه موصولًا أوثق أو أتقن فالحكم للوصل، وإن كان الذي رواه منقطعًا أوثق أو أتقن كان الحكم للقطع، وكذا يحكم للأكثر إن كان الرواة ثقات وأكثر من واحد.
بيان وقوع التضاد عند عدم التوفيق: أن الآثار المذكورة تدل على نجاسة الماء الراكد مطلقا، سواء كان في قلة أو قربة أو طشَتٍ أو حوض أو نحو ذلك، وسواء كان قليلًا أو كثيرا، وسواء تغيّر أحد أوصافه أو لا، وحديث القلتين يدل بظاهره على أن الماء إذا بلغ قلتين لا يتنجس بوقوع النجاسة، وبينهما منافاة ظاهرة؛ لأن كلا الماءين من الماء الذي لا يجري فالحكم في أحدهما بالنجاسة وفي الآخر بالطهارة والحال أنهما سواء تضاد ومنافاة، فإذا حمل حديث القلتين على ما ذكرنا ارتفع التضاد وتوافقت الآثار واتحدت معانيها.
وهَا هنا جواب آخر تفردت به وهو أنكم إذا حملتم معنى القلة على قلة معينة يعرفها أهل الحجاز الذي هو أحد معاني القلة، فنحن أيضًا نحمله على معنى قامة الرحل؛ لأنه أحد محتملاته، فيكون المعنى إذا بلغ الماء قامتين لا يحمل الخبث وقدر القامتين لا يكون إلَّا في الغدران والحياض الكبيرة فيكون كثيرا، ونحن أيضًا نقول: إنَّ الماء الكثير لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه إلَّا إذا تغيّر أحد أوصافه من الطعم واللون والرائحة.
فإن قلتم: حَمْلكم على معنى القامة ترجيح بلا مرجح.
قلنا: حَمْلكم أيضًا على قلة يعرفها أهل الحجاز ترجيح بلا مرجح.
فإن قلتم: عندنا ما يرجح ذلك وهو رواية ابن جريج أنَّهَا قلال هجر.
قلنا: قد مرَّ الجواب عن هذا أن ابن جريج لا يقلد في ذلك، وقد حمل بعض الناس القلة على قلّة الجبل وهي أعلاه لأن قلة كل شيء أعلاه وهذا بعيد عادة؛ لأن الماء إذا بلغ إلى أعلى الجبلين يكون كالبحر فلا تؤثر فيه النجاسة أصلًا، فلا يبقى لقوله:"إذا بلغ الماء أعلى الجبلين لا يحمل الخبث" زيادة فائدة.
ص: وهذا المعنى الذي صححنا عليه معاني هذه الآثار، هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أراد بهذا المعني: وجه التوفيق الذي ذكره بين الآثار المذكورة وحديث القلتين.
ص: وقد روي في ذلك عمن تقدمهم ما يوافق مذهبهم.
ش: أي قد روي فيما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه عمن تقدمهم من الصحابة والتابعين ما يوافق مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد و"ما يوافق" محله رفع لاستناد روي إليه، و"مذهبهم" مفعول يوافق.
ص: فمما روي في ذلك ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، وقال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن عطاء:"أن حبشيّا وقع في بئر زمزم فمات، فأمر ابن الزبير فنزح ماؤها، فجعل الماء لا ينقطع، فنظر فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود فقال ابن الزبير: حسبكم".
ش: أي فمن الذي روي فيما يوافق مذهبهم ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث.
ورجال هذا رجال الصحيح ما خلا صالحا.
وسعيد بن منصور أحد مشايخ مسلم وأبي داود.
وهُشَيم -بضم الهاء وفتح الشين المعجمة- بن بَشير -بفتح الباء- أبو معاوية الواسطي.
ومنصور بن المعتمر أبو العتاب الكوفي.
وعطاء بن أبي رباح أحد مشايخ أبي حنيفة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في"مصنفه"(1) قال: ثنا هشيم، عن منصور
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "أن حبشيًّا" منسوب إلى الحبش وهم حبش من السودان مشهور، وقال السهيلي: "الحبشة هم بنو حبش بن كرُش بن حام بن نوح عليه الصلاة والسلام.
و"زمزم" اسم بئر بمكة أصلها من ركضة جبريل عليه السلام
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 150 رقم 1721).
قوله: "فجعل الماء" جعل هذه من أفعال المقاربة؛ لأنه بمعني شرع، ولا يكون خبره إلَّا مضارعا مجردا من "أن".
قوله: "فإذا" للمفاجأة.
قوله: "حسبكم" أي يكفيكم نزح الماء الذي فيه، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، وبالعكس.
واستدل به أصحابنا أن البئر إذا مات فيها آدمي وما يقاربه في الجثة لا يطهر إلَّا بنزح جميع مائها، ودل هذا أيضًا أن القلتين يتنجس وإنْ لم يتغير؛ لأن ماء زمزم كان أكثر من قلتين بلا خلاف.
ص: وما قد حدثنا حسين بن نصر، ثنا الفريابي، ثنا سفيان، أخبرني جابر، عن أبي الطفيل قال:"وقع غلام في زمزم فنزفت".
ش: الفريابي هو محمَّد بن يوسف، روى له الجماعة.
وسفيان هو الثوري.
وجابر هو ابن يزيد بن الحارث الجُعفي، فيه مقال.
وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي رضي الله عنه.
ورواه الدارقطني (1) أيضًا وفي روايته: "فنزحت" موضع: "فنزفت".
ورواه البيهقي أيضًا في "سننه"(2) و"المعرفة"(3): ثم تكلم في جابر الجعفي.
قلت: قال ابن عدي: للجعفي حديث صالح، وقد روي الثوري عنه وقد احتمله الناس ورووا عنه. وعن شعبة: هو صدوق في الحديث.
ولئن سلمنا ما قاله البيهقي فإن نزح زمزم قد روي من طريق آخر صحيح وهو الرواية السابقة التي أخرجها الطحاوي وابن أبي شيبة.
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 33 رقم 2).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 266 رقم 1183).
(3)
"معرفة السنن والآثار"(1/ 332 رقم 405).
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن معمر قال: "سقط رجل في زمزم فمات فيها فأمر ابن عباس أن تسد عيونها وتنزح فقيل له: إنَّ فيها عينا قد غلبتنا. قال: إنها من الجنة. فأعطاهم مِطرفا من خَزٍّ فحشوه فيها ثم نزح ماؤها حتى لم يبق فيها نتن".
فإن قلت: حكى البيهقي (2): عن الشافعي أنه قال: لا نعرفه عن ابن عباس وزمزم عندنا، ما سمعنا بهذا. وعن ابن عيينة قال: أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي. وعن أبي عُبيد كذلك؛ لأنه قد جاءت الآثار في نعتها أنَّهَا لا تنزح ولا تذم.
قلت: قد عرف هذا الأمر وأثبته أبو الطفيل، وابن سيرين وقتادة ولو أرسلاه، وعمرو بن دينار وعطاء ومعمر، والمثبت مقدم على النافي خصوصا مثل هؤلاء الأعلام، ولا يلزم من عدم سماع من لم يدرك ذلك الوقت وعدم من يعرفه عدمُ هذا الأمر في نفسه، وليس في حديث ابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قدرا على استئصال الماء بالنزح حتى يكون مخالفا للآثار التي جاءت بأنها لا تنزح ولا تذم بل صَرَّح في رواية ابن أبي شيبة (3): بأن الماء لم ينقطع، وفي رواية البيهقي: بأن العين غلبتهم حتى دسّت بالقباطي والمطارف. وجعل السهيلي حديث الحبشي مؤيدا لما روي في صفتها أنَّهَا لا تنزف.
فإن قلت: قد حكى البيهقي أيضًا عن الشافعي أنه قال لمخالفيه: قد رويتم عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الماء لا ينجسه شيء" أفترى أن ابن عباس يروي عن النبي عليه السلام خبرًا ثم يتركه؟!
قلت: لم يتركه بل خصّصه كما خصصت أنت أيها الشافعي فقلت بنجاسة ما دون القلتين بالنجس ولو لم يتغير، وبنجاسة ما بلغ قلتين فصاعدًا بالتغير.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 82 رقم 275).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 266 - 267).
(3)
سبق تخريجه.
فإن قلت: حكي أيضًا عن الشافعي أنه أوَّل نزح زمزم -إنْ صح- بأنه كان للتنظيف لا للنجاسة.
قلت: هذا ممنوع؛ لأن ابن عباس وابن الزبير أمرا بالنزح، ومطلق الأمر للوجوب، وليس ذلك إلَّا للتنجيس، ويبعد هذا التأويل أيضًا أنهم بالغوا في النزح وسدّ العين، ولو كان للتنظيف لم يبالغوا هذه المبالغة العظيمة.
فإن قلت: حكي أيضًا عنه أنه قال: وقد يكون الدم ظهر على وجه الماء حتى رُئُي فيه.
قلت: الغالب أن من يقع في الماء يموت خنقا ولا يخرج منه دم، ولو خرج كان قليلًا لا يصل إلى أن يظهر على وجه الماء الكثير ويرى فيه.
قوله: "لا تُذمّ" أي لا يوجد ماؤها قليلًا، من قولهم بئر ذِمّة إذا كانت قليلة الماء.
قوله: "نُزِفَت" من نَزَفت ماء البئر نَزْفا إذا نزحته كله، ونَزَفت هي، يتعدى ولا يتعدى، ونُزِفت أيضًا على ما لم يسم فاعله.
ص: وما قد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة:"أن عليّا رضي الله عنه قال في بئر وقعت فيها فأرة فماتت قال: ينزح ماؤها".
ش: رجاله ثقات.
قلت: "ينزح ماؤها" محمول على ما إذا ماتت وانتفخت، وأما إذا لم تنتفخ بل أُخرجت على الفور، فإنه ينزح عشرون دلوا، روي ذلك عن عطاء ذكره ابن حزم، وفي "البدائع" و"الأيضَاح": ينزح في الفأرة وما يقاربها في الجثة عشرون أو ثلاثون، هكذا روي عن علي رضي الله عنه.
وروي عن علي ما يخالف ذلك كله، وهو ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (1): حدثنا إبراهيم بن محمَّد، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، أن عليّا رضي الله عنه قال: "إذا
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 82 رقم 273).
سقطت الفأرة في البئر فتقطعت؛ نزع منها سبعة أدلاء، فإنْ كانت الفأرة كهيئتها لم تقطع؛ نُزع منها دلو أو دلوان، فإن كانت منتنة أعظم من ذلك فلينزع من البئر ما يذهب الريح".
فإن قلت: ما معنى الترديد بين العشرين والثلاثين في مسألة الفأرة وبين الأربعين والخمسين والستين في الدجاجة؟
قلت: لما اختلفت أقوال الصحابة والتابعين في الفأرة من عدم وجوب شيء، ووجوب دلوا ودلوين، ووجوب عشرين دلوا، ووجوب أربعين دلوا، اختار أصحابنا قول من يقول بالعشرين التي هي الوسط بين القليل والكثير ثم زادوا عليه مقدار نصفه بطريق الاستحباب لأجل الاحتياط، بيان ذلك فيما رواه عبد الرزاق (1) عن معمر أخبرني من سمع الحسن يقول:"إذا ماتت الدابة في البئر أخذت منها وإنْ تفسخت فيها نزحت" وما رواه أيضًا من حديث علي المذكور آنفا وما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2) عن ابن عُيينة، عن ليث، عن عطاء قال:"إذا وقع الجُرذ في البئر نزح منها عشرون دلوا".
و"الجُرَذ" -بضم الجيم وفتح الراء وفي آخره ذال معجمة- وهو الذكر الكبير من الفأر فجمعها الجُرذان.
وما رواه أيضًا (3) عن حفص، عن عاصم، عن الحسن:"في الفأرة تقع في البئر قال: يستقي منها أربعون دلوا".
وأما الترديد في الدجاجة فكذلك لاختلاف أقوالهم.
بيان ذلك فيما رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(4) عن معمر قال: "سألت الزهري
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 81 رقم 271).
(2)
ليس هذا الأثر والذي يليه في "مصنف عبد الرزاق" وإنما هو في "مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 149 رقم 1714).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 149 رقم 1712).
(4)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 81 رقم 269).
عن دجاجة وقعت في بئر فماتت، قال: لا بأس أن تتوضأ منها وتشرب إلَّا أن تنتن حتى يوجد ريح نتنها في الماء؛ فينزح".
وما رواه أيضًا (1) عن يعلى بن عبيد، عن عبد الملك، عن عطاء:"في البئر تموت فيها الدجاجة وأشباهها قال: استق منها دلوا وتوضأ منها، فإن هي تفسخت استق منها أربعين دلوا".
وما رواه أيضًا (2) عن المحاربي، عن الشيباني، عن حماد بن أبي سليمان:"في البئر تقع فيها الدجاجة والكلب والسنور فتموت، قال: ينزح منها ثلاثون أو أربعون دلوا".
وما رواه أيضًا عن أسباط بن محمد بن عبد الملك، عن سلمة بن كهيل:"في الدجاجة تقع في البئر قال: يستقي منها أربعون دلوا".
فلما اختلفت هذه الأقوال اختار أصحابنا الأربعين؛ لأن أكثر ما ذكر فيه ثم زادوا عليه على وجه الاستحباب عشرة، وبعضهم زادوا عشرين؛ لأنه نصف الأربعين تأكيدا في طلب الاحتياط، فافهم.
فإن قيل: قد قلتم إنَّ مبنى مسائل الآبار على الآثار دون القياس والرأي، وما ذكرتم لا يخلو عن رأي.
قلت: المقادير بالرأي إنما تمنع في التي تثبت لحق الله تعالى ابتداء دون المقادير التي تتردد بين القليل والكثير والصغير والكبير، فإن المقادير في الحدود والعبادات لا مدخل للرأي فيها أصلا، وكذا ما يكون بتلك الصفة، وأما الذي يكون من باب الفرق بين القليل والكثير فيما يحتاج إليه فللرأي فيه مدخل، ولما عرف بآثار الصحابة حكم طهارة البئر في الفصول كلها مع اختلاف الأقوال عنهم وعن غيرهم من التابعين في القليل والكثير من النزح؛ صار ذلك من باب الفرق
(1) ليس هذا الأثر والذي يليه في "مصنف عبد الرزاق" وإنما هو في "مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 149 رقم 1716).
(2)
"مصنف ابن أبي شييبة"(1/ 149 رقم 1717).
فدخل فيه الرأي لاختيار عدد دون عدد بحسب صفة القضية، ألا ترى أن محمدا حكم في البئر المعين بمائتي دلو إلى ثلاثمائة بناء على كثرة الماء في آبار بغداد، فهذا رأي ولكنه عن دليل، وذلك لأن الشرع لما أمر بإخراج جميع ما فيها صار الواجب نزح ذلك الماء الذي وقعت فيه النجاسة، وغالب مياه الآبار لا تزيد على مائتي دلو، فبنزح هذا المقدار يحصل المطلوب، وأما قوله:"إلى ثلاثمائة" فللاحتياط في باب التطهير.
ص: وما قد حدثنا محمد بن حميد بن هشام الرعيني، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بنعين، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان، أن عليًّا رضي الله عنه قال:"إذا سقطت الفأرة أو الدابة في البئر فانزحها حتى يغلبك الماء".
ش: محمَّد بن حميد وثقه ابن يونس.
وعلي بن معبد بن شداد من أصحاب محمَّد بن الحسن ثقة.
وموسى بن أعين الجزري، روى له الجماعة سوى الترمذي.
وعطاء هو ابن السائب، وثقه أحمد، وعن يحيي:"لا يحتج به".
وميسرة أبو صالح الكوفي.
وزاذان أبو عبد الله الكوفي، روى له الجماعة؛ البخاري في الأدب.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): حدثنا وكيع، عن حمزة الزيات، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي رضي الله عنه:"في الفأرة تقع في البئر، قال: ينزح إلى أن يغلبهم الماء".
واستدل به أبو حنيفة في البئر إذا كانت معينا، تنزح حتى يغلبهم الماء، ولم يقدر الغلبة بشيء لأنها متفاوتة، بل يفوض إلى رأي المبتلي به.
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أبي المهزّم
(1)"مصنف ابن أبي شييبة"(1/ 149 رقم 1711).
قال: "سألنا أبا هريرة عن الرجل يمر بالغدير أيبول فيه؟ قال: لا، فإنه يمر به أخوه المسلم فيشرب منه ويتوضأ، وإنْ كان جاريا فليبُل فيه إنْ شاء".
ش: حجاج هو ابن المنهال.
وحماد هو ابن سلمة.
وأبو المُهزّم اسمه يزيد بن سفيان، وقيل: عبد الرحمن بن سفيان، ضعفه يحيى ابن معين وتركه النسائي.
واستفيد منه:
أن الماء القليل يتنجس بوقوع النجاسة فيه وإنْ كان مقدار القلتين ولم يتغير.
وأن البول في الماء الراكد منهي عنه وفي الجاري لا بأس به، ولكن روى الطبراني في "الأوسط" (1) بإسناد صحيح عن جابر قال:"نهى رسول الله عليه السلام أن يُبال في الماء الجاري" وهذا من أقوى الدليل على تنجس القلتين بوقوع النجاسة وإنْ لم يتغير.
ص: حدثنا محمَّد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة بمثله.
ش: هذاطريق آخر بإسناد صحيح عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عامر العَقَدي، قال: ثنا سفيان، عن زكريا، عن الشعبي:"في الطير والسنّور ونحوهما يقع في البئر؛ ينزح منها أربعون دلوا".
ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة بكَّار القاضي.
وأبو عامر اسمه عبد الملك بن عمرو البصري.
وسفيان هو الثوري.
(1)"المعجم الأوسط"(2/ 208 رقم 1749).
وزكريا هو ابن أبي زائدة الكوفي.
واسم الشعبي عامر بن شراحيل أبو عمرو الكوفي.
واحتج به أبو حنيفة وأصحابه أن الهرة وما يقاربها في الجثة إذا ماتت في البئر وأخرجت على الفور ينزح منها أربعون دلوا.
ص: حدثنا حسين بن نصر، ثنا الفريايى، ثنا سفيان، عن زكريا، عن الشعبي قال:"ينزح منها أربعون دلوا".
ش: هذا أيضًا إسناد صحيح، والفريابي هو محمَّد بن يوسف.
ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن عبد الله بن سبرة الهمداني، عن الشعبي قال:"يُدلي منها سبعون دلوا".
ش: هذا أيضًا إسناد صحيح، وهشيم هو ابن بشير.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) قال: ثنا هشيم، عن عبد الله بن سبرة، عن الشعبي أنه قال:"يُدلى منها سبعون دلوا -يعني في الدجاجة".
قوله: "يُدلي" على صيغة المجهول من دلوت الدلو: نزعتها، والمعنى: ينزع من البئر سبعون دلوا في الدجاجة، ولم يفسر في رواية الطحاوي كون هذا العدد في الدجاجة ولكن هو المراد؛ لتفسير ابن أبي شيبة.
ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا حفص بن غياث النخعي، عن عبد الله بن سبرة الهمداني، عن الشعبي قال:"سألناه عن الدجاجة تقع في البئر فتموت فيها، قال: ينزح منها سبعون دلوا".
ش: هذا أيضًا إسناده صحيح، وفيه إيضاح لما في الخبر الأول من الإبهام في محل العدد المذكور.
ص: حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أبنا
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 149 رقم 1715).
مغيرة، عن إبراهيم،:"في البئر تقع فيها الجُرذ أو السنور فتموت، وقال: ندلو منها أربعين دلوا. قال المغيرة: حتى يتغير الماء".
ش: هذا أيضا إسناد صحيح.
ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، أبو هشام الكوفي الفقيه الأعمي، روى له الجماعة.
وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي الكوفي، روى له الجماعة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) عن هشيم
…
إلى آخره نحوه.
و"الجُرذ" -بضم الجيم وفتح الراء وفي آخره ذال معجمة- وهو الذكر الكبير من الفأر.
قوله: "ندلو" بالنون المصدرة للجماعة، من دلوت الدلو: نزعتها، أي ننزع من البئر أربعين دلوا.
قوله: "حتى يتغير الماء" أي ماء البئر، أراد أنهم يعنفون في إرسال الدلو حتى يتكدر الماء فيخرج الكدر فتطهر بعده.
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم:"في فأرة وقعت في بئر، قال: ينزح منها قدر أربعين دلوا".
ش: هذا أيضًا إسناد صحيح.
وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي البزاز، روى له الجماعة.
ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريايى، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم:"في البئر تقع فيها الفأرة، قال: ينزح منها دلاء".
ش: هذا أيضًا إسناد صحيح. والفريابي محمَّد بن يوسف.
قوله: "دلاء" جمع دلو، وهو جمع كثرة، وجمع القلة أدل.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 149 رقم 1713).
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حماد ابن. أبي سليمان:"أنه قال في دجاجة وقعت في بئر فماتت قال: ينزح منها قدر أربعين دلوا أو خمسين، ثم يتوضأ منها".
ش: هذا أيضًا إسناد صحيح.
ص: فهذا من روينا عنه من أصحاب رسول ال صلى الله عليه وسلم وتابعيهم، قد جعلوا مياه الآبار نجسة بوقوع النجاسات فيها ولم يراعوا كثرتها ولا قلتها، وراعوا دوامها وركودها، وفرقوا بينها وبين ما يجري مما سواهما، فإلي هذه الآثار مع ما تقدمها مما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب أصحابنا في النجاسات التي تقع في الآبار، ولم يجز لهم أن يخالفوها؛ لأنه لم يرو عن أحد خلافها.
ش: أشار بهذا الكلام إلى أن هذه الآثار كلها دالة على أن الماء الدائم الذي لا يجري إذا وقعت فيه نجاسة فإنه يتنجس، سواء بلغ القلتين أو لم يبلغ أو زاد عليهما، ألا ترى أنهم لم يراعوا -لما حَكموا- النظر في كثرة الماء ولا في قلته، بل راعوا دوامه وعدم جريانه؛ فلذلك فرقوا بين الجاري وغيره، فهذا أدل دليل على أن المراد من قوله:"لم يحمل الخبث" في حديث القلتين لا يحتمله لضعفه، إذ لو كان المراد لم ينجس بملاصقة النجاسة -كما فسره الخصم- لكان ينقل عنهم في هذه الآثار ما يدل على هذا المعنى.
فإن قيل: قد جاء مصرحا في رواية أبي داود وغيره (1): "لم ينجس" فهذا ينافي تفسيركم.
قلت: نلتزم هذا المعنى إذا عرفنا معنى القلتين، فلما كان معنى القلتين مشتركا لم يرجح منه معني مقصود صار محتملا، والمحتمل لا يصلح حجة، فتركنا العمل به وعملنا بالأحاديث الصحيحة التي وردت بالنهي عن البول في الماء الدائم، وبالآثار المروية [عن](2) الصحابة والتابعين في هذا الباب
(1) سبق تخريجه.
(2)
في "الأصل، ك": "من".
قوله: "فهذا" معناه: مضى هذا، أو خذ هذا.
قلت: "من روينا عنه" مبتدأ، وخبره قوله:"قد جعلوا".
وأراد بالأصحاب مثل: ابن الزبير وابن عباس وأبي الطفيل وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وبتابعيهم مثل: عطاء والشعبي وميسرة وزاذان وإبراهيم النخعي.
قوله: "فإلى هلمه الآثار" يتعلق بقوله: "ذهب أصحابنا" وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وأصحابهم.
قوله: "أن يخالفوها" في محل الرفع على الفاعلية، و"أن"مصدرية، أي: ولم يجز لهم مخالفتهم تلك الآثار.
"لأنه" أي لأن الشأن لم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين خلاف ما ذكر من الآثار والأخبار، فإذن بطل حكم من يحكم في الآبار أيضًا باعتبار القلتين، ألا ترى أن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم لم يحكما في زمزم حين وقع الحبشي إلَّا بنزح الماء كله ولم يلتفتا إلى القلتين، وكذلك حكم علي رضي الله عنه في الفأرة، فهؤلاء يجب تقليدهم لأن الحق لا يعدو أقاويلهم.
ص: فإن قال قائل: فأنتم قد جعلتم ماء البئر نجسا بوقوع النجاسة فيها فكان ينبغي ألَّا تطهر تلك البئر أبدا. لأن حيطانها قد تشربت ذلك الماء النجس واستكنَّ فيها. فكان ينبغي ألا تطهّر.
قيل له: لم نر العادات جرت على هذا، قد فعل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ما ذكرنا في زمزم بحضرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكروا ذلك عليه ولا أنكره من بعدهم؛ ولا رأى أحد منهم طَمَّها، وقد أمر رسول الله عليه السلام في الإناء الذي قد نجس من ولوغ الكلب فيه أن يغسل ولم يأمر أن يكسر، وقد تشرب من الماء النجس، فكما لم يأمر بكسر ذلك الإناء فكذلك لا يؤمر بطم تلك البئر.
ش: هذا السؤال وارد من جهة القياس، فتحريره: أنكم لما حكمتم بنجاسة ماء البئر بوقوعها فيه من غير اعتبار كثرة الماء وقلته وكثرة النجاسة وقلتها؛ فكان مقتضى القياس ألَّا تطهير نفس البئر أبدا؛ لأن حيطان البئر قد تشربت ذلك
الماء النجس واستقر فيها، وكان الظن يبقي في البئر بعد نزح الماء، وكذا الأحجار؛ فكان ينبغي أن تطم البئر، كما قاله بشر المريسي ومن تبعه، أي يردم ويسوى، يقال: طمّ ماء السيل الركية أبي دفنها وسوَّاها، والجواب ظاهر.
ص: فإن قال قائل: فإنا قد رأينا الإناء يغسل، فلم لا كانت البئر كذلك؟ قيل له: إنَّ البئر لا يستطاع غسلها؛ لأن ما يغسل به يرجع فيها وليست كالإناء الذي يُهراق منه ما يغسل به، فلما كانت البئر مما لا يستطاع غسلها وقد ثبت طهارتها في حال ما، وكان كل من أوجب نجاستها بوقوع النجاسة فيها فقد أوجب طهارتها بنزحها، وإنْ لم ينزح ما فيها من طين، فلما كان بقاء طينها فيها لا يوجب نجاسة ما يطرأ فيها من الماء وإنْ كان يجري على ذلك الطين؛ كان إذا ماسّ حيطانها أحرى ألَّا تنجس، ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر لما طهرت حتى تغسل حيطانها ويُخرج طينها ويُحفر، فلما أجمعوا أن نزح طينها وحفرها غير واجب كان غسل حيطانها أحرى ألَّا يكون واجبا، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: هذا السؤال قد نشأ من وجه قياس عدم وجوب طم البئر النجسة على عدم وجوب كسر الإناء النجس، بيانه أنكم لما أوجبتم غسل الإناء النجس ولم توجبوا كسره حيث قلتم أمر رسول الله عليه السلام بغسله ولم يأمر بكسره والحال أنه قد تشرب من الماء النجس وقستم البئر النجسة عليه حيث حكمتم بطهارتها بالنزح ولم تحكموا بالطم والحال أن حيطانها قد تشربت من الماء النجس، فَلِمَ ما حكمتم بغسل حيطانها قياسا على الإناء؟! والجواب طاهر.
قوله: "وقد ثبت طهارتها في حال ما
…
" إلى آخره جواب عن سؤال مقدّر تقريره أن يقال: سلّمنا أن غسل البئر متعسر غير مستطاع ولكن إخراج الطين غير متعسر فكان ينبغي أن يجب ذلك.
فأجاب بقوله: "وقد ثبت طهارتها" أي طهارة البئر "في حال ما" أي في حال من الأحوال وهي حالة النزح؛ لأن نزح ماء البئر كالجريان في غيرها فكما تثبت الطهارة في الماء الجاري بجريانه وإنْ وقعت فيه نجاسة فكذلك البئر تثبت لها طهارة بالنزح، فحينئذ كل من كان أوجب نجاستها بوقوعها فيها فقد أوجب طهارتها بواسطة ذلك النزح وإنْ لم ينزح ما فيها من طين وحمأة كما في قضية زمزم حيث حكم ابن الزبير وابن عباس بعد نزح مائها كلها بطهارتها ولم يحكما بنزح طينها وحماءتها، ثم لما كان بقاء طينها فيها لا يوجب نجاسة ما ينبع فيها من الماء الجديد بعد النزح وقلع الماء النجس وإنْ كان ذلك الماء الجديد يجري على ذلك الطين كان إذا ماسّ حيطانها أحرى وأولي ألَّا ينجس.
قوله: "إذا ماسّ" بتشديد السين وأصله ماسس لأنه من باب المفاعلة الذي فيه الاشتراكة بين اثنين، وثلاثيه "مسّ" فلما نقل إلى باب المفاعلة لذلك المعنى أدغمت السين في السين ومضارعه يماسّ مماسّة ومساسا كما تقول: مادّ يمادّ مماددة ومدادا.
قوله: "أحرى" بمعنى "أولى" ومنه يقال: هو حَري أن يفعل ذلك -بفتح الراء- أي خليق وجدير، لا يثني ولا يجمع، وإذا قلت: هو حَريّ -بكسر الراء على وزن فعيل- يُثَنَّي، ويجمع ويذكر ويؤنث، تقول: هما حَريّان، وهم حَريّون وأحرياء، وهي حَريّة، وهن حَريّات وحَرَايا.
قوله: "ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر" أي ولو كان الحكم بطهارة البئر النجسة بعد إخراج مائها مأخوذا من طريق القياس
…
إلى آخره.
وعن هذا قال أصحابنا: إذا طهرت البئر يطهر طينها وحماءتها ودلوها ورشاها.