الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: التسمية علي الوضوء
ش: أي هذا باب في بيان التسمية عند الوضوء، ولما فرغ عن بيان المياه التي هي آكد لتحصيل الطهارة، شرع في بيان أحكام الوضوء، وقدم بيان التسمية لاحتياج كل أمر ذي بال إليها في الابتداء به.
ص: حدثنا محمَّد بن علي بن داود البغدادي، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا وهب، قال: ثنا عبد الرحمن بن حرملة، أنه سمع أبا ثِفال المُريّ يقول: سمعت رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب يقول: حدثتني جدتي أنَّهَا سمعت أباها يقول: سمعت رسول الله يقول: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".
ش: شيخ الطحاوي وثقه ابن يونس، وعفان بن مسلم روى له الجماعة، ووهيب بن خالد روى له الجماعة، وعبد الرحمن بن حرملة المري روى له مسلم، وأبو ثفال -بكسر الثاء المثلثة بعدها الفاء وضبطه الدارقطني بضم الثاء- واسمه ثمامة بن وائل المري الشاعر، قال البخاري: في حديثه نظر، روى له الترمذي وابن ماجه، والمُرِّي -بضم الميم وتشديد الراء- نسبه إلى مرة بن غطفان.
ورباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب بن عبد العزيز القرشي العامري المدني قاضيها، روى له الترمذي وابن ماجه هذا الحديث.
وجدة رباح اسمها: أسماء بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ذكرها ابن حبان في الثقات، وقال: لا أدري ما اسمها.
وأبو جدة رباح هو: سعيد بن زيد، أحد العشرة المبشرة.
وأخرجه الترمذي (1) عن نصر بن علي وبشر، كلاهما عن بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن حرملة
…
إلى آخره نحوه من غير ذكر: "لا صلاة لمن لا وضوء له".
(1)"جامع الترمذي"(1/ 37 - 38 رقم 25).
وابن ماجه (1): عن الحسن بن علي الخلال، عن يزيد بن هارون، عن يزيد بن عياض، عن أبي ثفال
…
إلى آخره، ولفظه: "لا صلاة لمن لا وضوء له
…
" إلى آخره.
وأخرجه الدارقطني (2): وزاد: "ولا يؤمن بالله من لم يؤمن بي ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار".
وكذا رواه البيهقي (3).
وقال ابن قطان في كتاب "الوهم والإيهام": فيه ثلاثة مجاهيل الأحوال؛ جدة رباح لا يعرف لها اسم ولا حال، ورباح أيضًا مجهول الحال، وأبو ثفال كذلك مع أنه أشهرهم.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل"(4) هذا الحديث عندنا ليس بذلك الصحيح، وأبو ثفال مجهول، ورباح مجهول.
وقال أحمد: لا أعلم في هذا الباب حديثا له إسناد جيد.
وعن الترمذي: أبو ثفال ليس بالمعروف جدّا.
قلت: قوله: أبو ثفال ليس بالمعروف جدّا. غير مُسَلَّم؛ لأن البزار ذكر أنه مشهور.
وعن البخاري: ليس في هذا الباب حديث أحسن عندي من حديث رباح بن عبد الرحمن.
قوله: "لا صلاة" كلمة "لا" لنفي الجنس، وخبرها محذوف، أي لا صلاة حاصلة لمن لا وضوء له، أيّ صلاة كانت، وهذا بإجماع المسلمين من السلف والخلف، أن الصلاة لا تصح إلَّا بالوضوء.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 140 رقم 398).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 72 رقم 5).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 43 رقم 193).
(4)
"علل ابن أبي حاتم"(1/ 52 رقم 129).
فإن قلت: قوله: "صلاة". مفرد مقابل المثنى والمجموع، وهو يدل على الوحدة، والاستغراق يدل على الكثرة، فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين.
قلت: لا تنافي بين الاستغراق وإفراد الاسم؛ لأن "لا" التي لنفي الجنس إنما تدخل على الاسم المفرد حال كونه مجردا عن إرادة معنى الوحدة والكثرة؛ لأن دلالة اللفظ على المعنى منوطة بالإرادة الجارية على قانون الوضع، وإنما يلزم التنافي لو لم تجرد عن معنى الوحدة وأدخل عليه "لا" وكذلك الجواب في "لام" الاستغراق، ولأن معنى قولنا:"لا صلاة" كل فرد من أفراد الصلاة، لا مجموع الصلاة من حيث هو مجموع، والذي ينافي الإفراد والوحدة هو الثاني، كما في قولك: لا رجل في الدار. كل فرد من أفراد الرجال لا مجموع الرجال.
وقوله: "لا وضوء له" يتناول الوضوء الضمني أيضًا، أعني الوضوء الذي يوجد في الاغتسال، بأن اغتسل ولم يتوضأ، ويتناول خلفه الذي هو التيمم؛ لأنه طهارة في حق عادم الماء.
قوله: "ولا وضوء" عطف على قوله: "لا صلاة".
فإن قيل: إذا كان "ولا وضوء" عطف على "لا صلاة" كان ينبغي ألَّا يجوز الوضوء بدون ذكر الله كما لا تجوز الصلاة بدون الوضوء.
قلت: نعم، ظاهر الكلام يقتضي ذلك، كما ذهب إليه جماعة، ولكن خرج هذا عن ذلك الحكم بدليل آخر سنذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.
واستنبط منه أحكام:
الأول: احتجت به جماعة على فرضية التسمية في الوضوء على ما يجيء مفصلا.
والثاني: قوله: "اسم الله" يتناوله كل اسم -يعني من أسماء الذات والصفات- فظاهره يدل على أنه إذا ذكر الله على الوضوء مطلقا يكون أتي بالوجوب عند من يرى الوجوب، وبالسُّنة عند من يرى التسمية سُنة.
وقال ابن قدامة في "المغني"(1): وصفتها أن يقول: بسم الله، لا يقوم غيرها من الذكر مقامها، لأن التسمية عند الإطلاق تنصرف إلى قول:"بسم الله" بدليل التسمية المشروعة على الذبيحة والطعام وشرب الشراب.
قلت: لفظ الحديث بعمومه ينافي هذا؛ لأنه لم يقل: لمن لم يذكر لفظة الله؛ وإنما قال: لمن لم يذكر اسم الله، وأسماء الله كثيرة بخلاف الذبيحة؛ لأنهم كانوا يسمون آلهتهم عند الذبح، فيجب أن يأتي بلفظة اسم الله؛ ليكون إظهارا لمخالفيهم في ذلك.
والثالث: لفظ الحديث يدل على أن يكون ذكر اسم الله واقعا على الوضوء لقوله: "عليه" أي على الوضوء، ومعنى وقوعه عليه: أن يكون الوضوء مشمولا به، ولا يكون مشمولا به إلَّا بتقديم التسمية عليه، ولهذا قال بعضهم يسمي قبل الاستنجاء، لما أن الاستنجاء سُنَّه من سنن الوضوء، فيسمي قبله لتقع جميع أفعال الوضوء، فرضها وسننها بالتسمية.
وقال بعضهم: يسمي بعده؛ لأن قبله حال انكشاف العورة، وذكر الله تعالى حال كشف العورة غير مستحب؛ تعظيما لاسم الله تعالى كذا في مبسوط شيخ الإِسلام. وذكر في "فتاوى قاضي خان": والأصح أنه يسمي مرتين، فلو سمى في أثناء الوضوء ينبغي أن يجزئ؛ لأنه ذكر اسم الله عليه، ولو سمى بعد فراغه منه لا يجزئ ولا يكون مقيما للتسمية.
ص: حدثنا عبد الرحمن بن الجارود البغداديُّ، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عُفير، قال: حدثني سليمان بن بلال، عن أبي ثفال المري، قال: سمعت رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان يقول: حدثتني جدتي، أنها سمعت رسول الله عليه السلام يقول ذلك.
ش: هذا طريق آخر، وفيه أن جَدَّة رباح هي التي سمعت رسول الله عليه السلام.
(1) المغني (1/ 74).
وقال الدارقطني في "علله": اختلف فيه عن عبد الرحمن بن حرملة، فروى عنه وهيب، وبشر بن المفضل، وابن أبي فديك، وسليمان بن بلال، عن أبي ثفال، عن رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب، عن جدته، عن أبيها، عن النبي عليه السلام وخالفهم حفص بن ميسرة، وأبو معشر نجيح، وإسحاق بن حازم، فرووه عن ابن حرملة، عن أبي ثفال، عن رباح بن عبد الرحمن، عن جدته، أنها سمعت النبي عليه السلام، ولم يذكروا أباها في الإسناد.
قلت: في رواية الطحاوي سليمان بن بلال من جملة من خالف وهيبا وبشر بن المفضل وابن أبي فديك، وهذه الرواية تدل على أن جدة رباح صحابية، وقد ذكرنا أن ابن حبان ذكرها في التابعيات.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: أنا الدراوردي، عن ابن حرملة، عن أبي ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن العامري، عن ابن ثوبان، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: محمَّد بن سعيد بن سليمان الملقب: حمدان، وثقه ابن حبان، وروى له الترمذي.
والدراوردي هو عبد العزيز بن محمَّد، روى له الجماعة؛ البخاري مقرونا بغيره، نسبة إلى دراورد، قرية بخراسان.
وابن حرملة عبد الرحمن.
وأبو ثفال ثمامة.
وابن ثوبان هو محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي المدني، روى له المجماعة.
وأخرج أبو داود (1): عن قتيبة بن سعيد، عن محمَّد بن موسى، عن يعقوب بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر [اسم] (2) الله عليه".
(1)"سنن أبي داود"(1/ 25 رقم 101).
(2)
ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "سنن أبي داود".
ورواه أحمد (1) بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه (2): عن أبي كريب وعبد الرحمن بن إبراهيم، كلاهما عن ابن أبي فديك، عن محمَّد بن موسى
…
إلي آخره نحوه.
فهذا أبو جعفر الطحاوي قد أخرج حديث التسمية عن صحابيين: سعيد بن زيد، وأبي هريرة.
وفي الباب عن عائشة، وأبي سعيد، وسهل بن سعد، وأنس، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي سبرة.
أما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه البزار في "مسنده"(3) وقال: ثنا إبراهيم بن زياد الصائغ، نا أبو داود الحفري، نا سفيان، عن حارثة بن محمَّد، عن عمرة، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان إذا بدأ الوضوء سمى".
وأخرجه الدارقطني (4)، ولفظه:"كان رسول الله عليه السلام إذا مَسَّ طهورا سمى الله".
وأما حديث أن سعيد، فرواه ابن ماجه (5): من ثلاث طرق عن كثير بن زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، أن النبي عليه السلام قال:"لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".
وأما حديث سهل بن سعد فرواه ابن ماجه أيضًا (6): وقال: نا عبد الرحمن بن إبراهيم، ثنا ابن أبي فديك، عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له،
(1)"مسند أحمد"(2/ 418 رقم 19408).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 140 رقم 399).
(3)
ذكره الحافظ ابن حجر في "زوائد مسند البزار"(1/ 159 رقم 159) ونقل عن البزار أنه قال بعده: حارثة ليِّن الحديث.
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 72 رقم 4) من طريق آخر.
(5)
"سنن ابن ماجه"(1/ 139 رقم 397).
(6)
"سنن ابن ماجه"(1/ 140 رقم 400).
ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لا يصلي على النبي عليه السلام ولا صلاة لمن لا يحب الأنصار".
وأما حديث أنس رضي الله عنه فرواه النسائي (1): وقال: أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أبنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن ثابت وقتادة، عن أنس قال:"طلب بعض أصحاب النبي عليه السلام وَضُوءا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل مع أحد منكم ماء؟ فوضع يده في الماء ويقول توضئوا بسم الله، فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه، حتى توضئوا من عند آخرهم" قال: [ثابت](2): قلت لانس: كم تراهم؟ قال: نحوًا من سبعين.
وأما حديث ابن عمر- رضي الله عنهما فرواه الدارقطني (3)، وقال: نا أحمد بن محمَّد بن زياد، ثنا محمد بن غالب، ثنا هشام بن بهرام، ثنا عبد الله بن حكيم، عن عاصم بن محمَّد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فذكر اسم الله على وضوءه كان طهورا لجسده، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوءه كان طهورا لأعضائه".
وأخرجه البيهقي (4): بهذا الإسناد ثم قال: هذا ضعيف، وأبو بكر الداهري غير ثقة عند أهل العلم بالحديث.
قلت: أراد بأبي بكر الداهري عبد الله بن حُكيم -بضم الحاء وفتح الكاف، وذكره المزي بفتح الحاء-. قال يحيى بن معين: عبد الله بن حكيم أبو بكر الداهري ليس بشيء، وقال السعدي: كذاب مُصَرِّح. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فرواه الدارقطني (5) أيضًا وقال: نا عثمان بن أحمد
(1)"المجتبى"(1/ 61 رقم 78).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن النسائي".
(3)
"سنن الدارقطني"(1/ 74 رقم 13).
(4)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 44 رقم 200).
(5)
"سنن الدارقطني"(1/ 73 رقم 11).
الدقاق، نا إسحاق بن إبراهيم بن [سنين](1)، قال: ثنا يحيى بن هاشم، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تطهر أحدكم فليذكر اسم الله؛ فإنه يطهر جسده كله، وإنْ لم يذكر اسم الله على طهوره لم يطهر منه إلَّا ما مَرَّ عليه الماء، فإذا فرغ من طهوره فليَشْهَدْ أن لا إله إلَّا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا قال ذلك؛ فتحت له أبواب السماء".
ورواه البيهقي (2) مثله: وزادَ بعدَ قوله: "وأن محمدا عبده ورسوله": "ثم ليصل عليَّ، فإذا قال ذلك فتحت له أبواب الرحمة"، ثم قال: وهذا ضعيف لا أعلمه رواه عن الأعمش غير يحيى بن هاشم وهو متروك الحديث.
وأما حديث أبي سبرة فرواه الطبراني في "الكبير"(3): بإسناده إليه مرفوعًا قال: "لا صلاة" لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لم يعرف حق الأنصار".
ص: فذهب قوم إلى أن من لم يسم على وضوء الصلاة فلا يجزئه وضوءه، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
ش: أراد بالقوم: الحسن البصري، وإسحاق، وأحمد -في رواية- وبعض الظاهرية.
وقال صاحب "البدائع": وقال مالك: إنَّ التسمية فرض إلَّا إذا كان ناسيا؛ فتقام التسمية بالقلب مقام التسمية باللسان دفعا للحرج، واحتج له بالحديث المذكور.
وهذا غير صحيح؛ لأن مذهب مالك أن التسمية سُنة، وقد قال صاحب "الجواهر في مذهب مالك": وأما فضائله أي الوضوء فأربع: التسمية.
(1) في "الأصل، ك": سفيان، وهو تحريف، وما أثبتناه هو الصواب كما في "سنن الدارقطني"، وإسحاق بن إبراهيم بن سنين هو الختلى الحافظ. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء"(13/ 342).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 44 رقم 199).
(3)
"المعجم الكبير"(22/ 296 رقم 755) ولفظه: "لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء
…
" إلخ.
فهذا عدّها من الفضائل، وبين الفضيلة والفريضة فرق كثير.
وروي عن الواقدي: ليس ذلك مما يؤمر به؛ من شاء قال ذلك ومن شاء لم يقله، وروي عن علي بن زياد إنكارها.
وفي "المغني": ظاهر مذهب أحمد أن التسمية مسنونة في طهارات الحدث كلها، رواه جماعة من أصحابه عنه، وقال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به -يعني إذا ترك التسمية- وهذا قول الثوري، ومالك، والشافعي، وأبي عُبيد، وابن المنذر، وأصحاب الرأي.
وعن أحمد رواية أخرى: أن التسمية واجبة في جميع طهارات الحدث: الوضوء، والغسل، والتيمم، وهو اختيار أبي بكر، ومذهب الحسن، وإسحاق.
ثم إذا قلنا بوجوبها فتركها عمدا لم تصح طهارته، فإن تركها سهوا صحت -وهو قول إسحاق- وإنْ ذكرها في اثناء الطهارة أتى بها، وقال أبو الفرج: إذا سمى في أثناء الوضوء أجزأ يعني على كل حال؛ لأنه قد ذكر اسم الله على الوضوء، وقال بعض أصحابنا: لا تسقط بالسهو لظاهر الحديث، وقياسا لها على سائر الواجبات، والأول أولى.
قال أبو داود: قلت لأحمد: إذا نسى التسمية في الوضوء؟ قال: أرجو ألَّا يكون عليه شيء (1).
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: من لم يسم على وضوئه فقد أساء، وقد طهّره وضوئه ذلك.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدا، ومالك، والشافعي، وأحمد -في أصح روايتيه- فإنهم قالوا: من لم يُسم على وضوئه جاز وضوئه، ولكنه يكون مُسيئا لتركه السُّنة.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن
(1)"المغني"(1/ 72 - 73) بتصرف وتقديم وتأخير.
المهاجر بن قنفذ: "أنه سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه، فلما فرغ من وضوئه قال: إنَّه لم يمنعني أن أرد عليك إلَّا أني كرهت أن أذكر الله إلَّا على طهارة".
ففي هذا الحديث: أن رسول الله كره أن يذكر الله إلَّا على طهارة، وردّ السلام بعد الوضوء الذي صار به متطهرا، ففي ذلك دليل أنه قد توضأ قبل أن يذكر اسم الله تعالى.
ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بما قد حدثنا
…
إلي آخره.
وسعيد هو ابن أبي عروبة أبو النضر البصري، روى له الجماعة.
وحُضَين -بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وسكون الياء وفي آخره نون- روى له مسلم وهذا الإسناد صحيح.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا محمَّد بن المثني، ثنا عبد الأعلي، ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر، عن المهاجر بن قنفذ "أنه أتى النبي عليه السلام وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد [عليه] حتى توضأ، ثم اعتذر إليه قال: إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلَّا على طهر أو [قال] (2) على طهارة".
وأخرجه النسائي (3)، وابن ماجه (4) أيضًا.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(5)، عن محمَّد بن جعفر، عن سعيد
…
إلي آخره نحو رواية الطحاوي.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 5 رقم 17).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".
(3)
"المجتبى"(1/ 37 رقم 38).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 26 رقم 350).
(5)
"مسند أحمد"(4/ 345 رقم 19056).
وكذلك البيهقي في "سننه"(1)، ورواه ابن حبان في "صحيحه"(2)، والحكم في "مستدركه"(3)، وقال: إنَّه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال ابن دقيق العيد في "الإمام": هذا الحديث معلول، ومعارض؛ أما كونه معلولا فلأن سعيد بن أبي عروبة كان قد اختلط في آخر عمره، فيراعى فيه سماع من سمع منه قبل الاختلاط.
وقد رواه النسائي (4): من حديث شعبة عن قتادة به وليس فيه: "أنه لم يمنعني
…
" إلى آخره، ورواه حماد بن سلمة عن حميد وغيره، عن الحسن، عن مهاجر منقطعا، فصار فيه ثلاث علل.
وأما كونه مُعَارَضا فبما رواه البخاري (5) ومسلم (6): من حديث كريب عن ابن عباس قال: "بتّ عند خالتي ميمونة
…
" الحديث. ففي هذا ما يدل على جواز ذكر اسم الله تعالى وقراءة القرآن مع الحدث.
قوله: "ففي هذا الحديث" أي حديث مهاجر، أراد أن هذا الحديث دلّ أنه عليه السلام توضأ قبل أن يذكر اسم الله؛ فدل ذلك على عدم اشتراط التسمية.
وفي "المبسوط": عَلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي الوضوء ولم يذكر التسمية. فتبيَّن بهذا أن المراد من قوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" نفي الكمال لا نفي الجواز، وفي الحديث المعروف:"كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله أقطع" أي ناقص غير كامل، وقد قيل: إنَّ الأحاديث التي وردت في هذا الباب كلها ليست بصحيحة ولا أسانيدها مستقيمة، ولهذا قال أحمد: لا أعلم في هذا الباب حديثا له إسناد جيّد.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 90 رقم 430).
(2)
"صحيح ابن حبان"(3/ 82 رقم 803، 806).
(3)
"مستدرك الحاكم"(1/ 272 رقم 592).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
"صحيح البخاري"(4/ 1665 رقم 4293).
(6)
"صحيح مسلم"(1/ 526 رقم 763).
قلت: قد ذكرنا عن جماعة أنهم صححوا حديث المهاجر، والأولى أن يقال الحديث محمول على نفي الفضيلة، حتى لا يلزم الزيادة على مطلق الكتاب بخبر الواحد، وذلك نحو قوله عليه السلام:"لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد".
فإن قيل: قوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" نظير قوله عليه السلام: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب" في كونه خبر الواحد، فكيف اختلف حكمهما من السُّنة والوجوب؟
قلت: قد قال بعضهم: لا نسلم أنهما نظيران في كونهما خبر الواحد، بل خبر الفاتحة أشهر من خبر التسمية فقدر مرتبة الحكم على حسب مرتبة العلة، وفيه نظر؛ لأن لقائل أن يقول: إذا كان خبر الفاتحة مشهورا لكان تعيين الفاتحة فرضا؛ لجواز الزيادة على النص بالخبر المشهور، والأحسن أن يقال: قارن خبر الفاتحة مواظبة النبي عليه السلام عليها من غير ترك، فهذا دليل الوجوب، بخلاف التسمية حيث لم تثبت فيها مواظبة.
فإن قلت: حديث عائشة رضي الله عنها الذي أخرجه البزّار الذي ذكرناه عن قريب يدل على أنه عليه السلام كان يسمّي في الوضوء دائما.
قلت: نعم، لكن لا نسلّم أنَّهَا كانت باعتبار أنَّهَا سُنّة الوضوء بل باعتبار أنَّهَا مستحبة في ابتداء جميع الأفعال.
ص: وكان قوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يُسمّ" يحتمل أيضًا ما قال أهل المقالة الأولي، ويحتمل لا وضوء له أي لا وضوء له متكاملا في الثواب كما قال: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، فلم يُرد بذلك أنه ليس بمسكين خارج من حدّ المسكنة كلها حتى تحرم عليه الصدقة، وإنما أراد بذلك أنه ليس بالمسكين المتكامل المسكنة الذي ليس بعد درجته في المسكنة درجة.
ش: ملخص كلامه أن الحديث له احتمالان، فلا تقوم به الحجة.
فإن قلت: ما وجه ترجيح احتمال نفي الكمال مع أنه لا دليل يقُطعُ به لأحد الاحتمالين؟
قلت: طلب الموافقة لمعنى حديث المهاجر حتى لا يقع التضاد بينهما، على ما يذكره الطحاوي عن قريب.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عُمر الحوضى، قال: ثنا خالد بن عبد اللهَ، عن إبراهيم الهَجَريّ، عن أبي الأحوص، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام قال:"ليس المسكينَ بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان. قالوا: فما المسكين؟ قال: الذي يستحي أن يسأل، ولا يجدُ ما يُغنيه، ولا يفُطنُ له فيعطَى".
ش: لما نَظَّرَ بهذا في معنى نفي الكمال ذكره مسندا وإلَّا فليس له مدخل في هذا الباب.
وأبو عُمر الحوضي اسمه حفص بن عمر، شيخ البخاري وأبي داود، والحوضي نسبة إلى حَوْض داود، مَحلَّه كانت ببغداد.
وخالد بن عبد الله الطحان، روى له الجماعة، وإبراهيم بن مسلم الهجري قال الأزدي: صدوق، وفي "الميزان": ضعّفه ابن معين، والنسائي.
وأبو الأحوص اسمُه عوف بن مالك، روى له مسلم.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1) قال: ثنا أبو معاوية، ثنا إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطواف ولا بالذي تردّه التمرة ولا التمرتان ولا اللقمة ولا اللقمتان، ولكن المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا، ولا يُفْطَنُ له فَيُتصَدَّق عليه" وأخرجه الجماعة غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة كما يأتي إنْ شاء الله تعالي.
قوله: "ليس المسكين" هو مِفْعِيل من صيغ المبالغة كمنطيق، واشتقاقه من السكون، ويستوي في هذه الصيغة المذكر والمؤنث، يقال: رجل مسكين، وامرأة مسكين،
(1)"مسند أحمد"(1/ 384 رقم 3636)
ويقال: مسكينة أيضًا، وجمعه مساكين ومسكينون، وقال الجوهري: المسكين الفقير، وقد يكون مع الذلة والضعف، يقال: تسكن الرجل وتَمسكن، كما قالوا: تمدرع من المدرعة، وتمندل من المنديل على تمفعل وهو شاذ، والقياس: تسكن وتدرع وتندل مثل: تسمع وتَحَلَّم، وكان يونس يقول: المسكين أشد حالًا من الفقير، قال: وقلت لأعرابي: أنت أفقير أنت؟ فقال: لا والله، بل مسكين. وقال الخطابي: وقد اختلف الناس في المسكين والفقير، والفرق بينهما. فروي عن ابن عباس أنه قال: المساكين هم الطوافون، والفقراء فقراء المسلمين، وعن مجاهد، وعكرمة، والزهري: أن المسكين الذي يسأل، والفقير الذي لا يسأل. وعن قتادة أن الفقير هو الذي به زمانة، والمسكين الصحيح المحتاج، وقال الشافعي: الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا، زَمِنا كان أو غير زمن، والمسكين من له مال أو حرفة ولا يقع منه موقعا ولا يغنيه، سائلا كان أو غير سائل. وقال بعض أهل اللغة: المسكين الذي لا شيء له، والفقير من له البلغة من العيش، واحتج بقى الراعي: أما الفقيرُ الذي كانت حَلُوبَتَه وَفْقَ العِيال فلم يُتركْ له سَبَدُ.
قال: فجعل للفقير حلوبته. وقيل: المسكين أحسن حالًا من الفقير لقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (1) فأثبت لهم مع المسكنة ملكا وكسبا، وهما: السفينة، والعمل بها في البحر، وقيل: إنما سماهم مساكين مجازا، على سبيل الترحم والشفقة عليهم إِذْ كانوا مطلوبين.
وقال صاحب الهداية: الفقير من له أدنى شيء، والمسكين من لا شيء له وهذا مروي عن أبي حنيفة، وقد قيل على العكس والأول أصح، ووجهه {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (2) أي: لاصقا بالتراب من الجوع والعري، ووجه الثاني أن الفقير مشتق من انكسار فقار الظهر فيكون أسوأ حالًا من المسكين، فإن قلت: فائدة هذا الخلاف ماذا؟
قلت: في الوصايا والأوقاف وفي الزكاة لا يظهر الخلاف عندنا.
(1) سورة الكهف، آية:[79].
(2)
سورة البلد، آية:[6].
قوله: "بالطَوَّاف" خبر ليس، و "الذي ترده التمرة" جملة وقعت صفة للمسكين، يعني ليس المسكين بالدوران على الناس، والطواف: اسم من الطوف، يقال: طاف حول البيت يطوف طوفا، وطوَفانا، وتَطَوَّف، واستطاف كله بمعنى.
قوله: "ما يغنيه" من الإغناء.
قوله: "ولا يُعطى له" على صيغة المجهول، أي لا يُعلم له فقر حتى يُعطي له شيء، من فَطَن يفطِنُ، من باب ضَرَبَ يَضْربُ.
ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم، فذكر مثله بإسناده.
ش: هذا طريق آخر، وقبيصة روى له الجماعة، وسفيان هو: الثوري، وإبراهيم هو: ابن مسلم الهجري.
ص: حدثنا يونس قال: ثنا ابنُ وهب، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن أبي الوليد، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام نحوه.
ش: يونس هو: ابن عبد الأعلي، شيخ مسلم، وابن وهب هو: عبد الله بن وهب المصري، روى له الجماعة، وابن أبي ذئب هو: محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني روى له الجماعة، وأبو الوليد اسمه: عبد الله بن الحارث الأنصاري البصري، نسيب محمَّد بن سيرين، ختن ابن سيرين على أخته، قال: أبو زرعة ثقة. وقال: أبو حاتم يكتب حديثه.
ص: حدثنا أبو أميّة محمَّد بن إبراهيم بن مسلم، قال: ثنا عليّ بن عياش الحِمْصي، عن ابن ثوبان، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
ش: أبو أميّة وثقه ابن حبان، وروي عنه النسائي، وعلي بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- أبو الحسن الحمصي أحد مشايخ البخاري، وروى له الأربعة، وابن ثوبان هو: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنسي أبو عبد الله
الدمشقي الزاهد، روى له الأربعة، وعن يحيى ضعيف، وعنه صالح، وعنه لا شيء، وعن النسائي ليس بثقة، وعن دحيم ثقة يُرمى بالقدر.
وأخرجه مسلم (1): عن قتيبة بن سعيد، عن المغيرة -يعني: الحزامي- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمةُ واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: وما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غناء يُغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا".
ص: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
ش: هذا طريق آخر على شرط مسلم، عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله ابن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن الأعرج.
وأخرجه أبو داود (2): عن عثمان بن أبي شيبة، وزهير بن حرب كلاهما عن جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا، ولا يفطنون به فيعُطونه".
وأخرجه النسائي (3): عن علي بن حجر، عن إسماعيل، عن شريك، عن عطاء ابن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله عليه السلام قال:"ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان؛ إن المسكين المتعفف، واقرأوا إنْ شئتم {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (4) ".
(1)"صحيح مسلم"(2/ 719 رقم 1039).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 118 رقم 1631).
(3)
"المجتبى"(5/ 84 رقم 12571).
(4)
سورة البقرة، آية:[273].
ص: وكما قال: "ليس المؤمن الذي يبيتُ شبعان وجارُه جائع".
حدثنا بذلك أبو بكرة قال: ثنا مؤمل قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عبد الله بن المُساور -أو ابن أبي المُساور- قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يُعاتبُ ابن الزبير في البخل ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن الذي يبيت شبعان، وجارُه إلى جَنبه جائع".
ش: هذا عطف على قوله: كما قال: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان" أي وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "حدثنا بذلك" أي بقوله: "ليس المؤمن "
…
إلى آخره.
وأبو بكرة بكَّار القاضي، ومؤمل بن إسماعيل القرشي البصريّ وثقه يحيى وابن حبان، وسفيان هو: الثوري، وعبد الملك بن أبي بشيرالبصري، وثقه يحيى، وعبد الله بن المساور وثقه ابن حبان.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عبد الله بن المساور، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يؤمن مَن باتَ شبعان وجارُه طاوٍ إلى جَنْبه".
وأخرجه البخاري في كتاب "الأدب"(2) من حديث عبد الله بن مساور.
قوله: "شبعان" نصب على أنه خبر لقوله: "يبيت" الواو في "وجاره" للحال، وكلمة "إلى" في "إلى جنبه" بمعنى عند، كما في قول الشاعر:
أم لا سبيل إلي الشباب وذكره .... أشهى إلىَّ من الرحيق السَلْسل
أي: أشهى عندي.
ص: فلم يُرد بذلك أنه ليس بمؤمن إيمانا خرج بتركه إياه إلى الكفر، ولكنه أراد به أنه ليْس في أعلي مراتب الإيمان، في أشباه لهذا كثيرة يطول الكتابُ بذكرها،
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 164) رقم 30359).
(2)
"الأدب المفرد" للبخاري (1/ 52 رقم 112).
فكذلك قوله:" لا وضوءَ لِمَنْ لم يُسمّ" لم يُرد بذلك أنه ليس بمتوضيء وضوءا لم يخرج به من الحدث، ولكنه أراد أنه ليس بمتوضئ وضوءا كاملا في أسباب الوضوء الذي يُوجبُ الثواب، فلما احتمل هذا الحديث من المعاني ما وصفنا، ولم تكن هناك دلالة يُقطع بها لأحد التأويلين على الآخر، وجبَ أن يُجعل معناه موافقا لمعاني حديث المهاجر حتى لا يتَضادان، فثبت بذلك أن الوضوء بلا تسمية يخرجُ به المتوضيء من الحدث إلى الطهارة.
ش: أي لم يرد النبي عليه السلام بذلك أي بقوله: "ليس المؤمن الذي يبيت شبعان، وجاره جائع"، أنه خرج بتركه ذلك عن الإيمان إلى الكفر؛ لأن حقيقة الإيمان موجودة فيه لعدم ما يضادِده، ولكنه عليه السلام أراد بذلك أنه ليس المؤمن الكامل في مراتب الإيمان، والإيمان له مراتب، وشُعب كما قال عليه السلام:"الإيمان بضع وسبعون شعبة" فبتركه شعبة منها لا يخرج عن حقيقة الإيمان، ولكن عن تلك الشعبة التي هي من فضائل الإيمان.
قوله: "في أشباه لهذا كثيرة" يتعلق بمحذوف، أي كما أراد عليه السلام هذا المعني في أشباه، أي أمثال ونظائر لهذا، أي للحديث المذكور.
قوله: "كثيرة" بالجرّ صفة لأشباه.
منها ما رواه البخاري (1): عن مسدّد، عن يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي عليه السلام قال:"لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه".
ومنها ما رواه (2) أيضًا عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام -قال:"والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده، وولده" وهذا من إفراد البخاريّ.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 14 رقم 13).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 14 رقم 14).
ومنها ما رواه (1): عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: مَنْ يا رسول الله؟، قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه"، وأمثال هذا كثيرة، وكل ما ورد من ذلك فهو محمول على المعنى الذي ذكره.
قوله: "حتى لا يتضادان" أي حديث التسمية وحديث المهاجر، ولأن حديث التسمية يقتضي عدم جواز الوضوء بدونها، وحديث المهاجر يقتضي [جوازه](2) بدونها، فإذا أُوّلَ معنى حديث التسمية، بالتأويل المذكور يتوافق مع حديث الهاجر، ويرتفع التضاد، والعمل بالحديثين أولى من العمل بأحدهما وإهمال الآخر.
ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا أشياء لا يُدْخَلُ فيها إلَّا بكلام، منها العقدة التى يعْقدها الناس لبعض من البياعات والإجارات والمناكحات والخلع، وما أشبه ذلك فكانت تلك الأشياء لا تجب إلَّا بأقوال، وكانت الأقوال منها إيجاب؛ لأنه يَقولُ: قد بعتك، قد زوجتك، قد خلعتك، فتلك أقوال فيها ذكر العقود، وأشياء يُدْخَلُ فيها بأقوال وهي: الصلاة، والحج، فَيدخَلُ في الصلاة بالتكبير، وفي الحج بالتلبية، فكان التكبير في الصلاة والتليية في الحج ركنا من أركانهما، ثم رجعنا إلى التسمية في الوضوء، هل تشبه شيئًا من ذلك؟ فرأيناها غير مذكور فيها إيجابُ شيء كما كان في النكاح والبيوع؛ فخرجت التسمية لذلك من حكم ما وصفنا، ولم تكن التسمية أيضًا ركنا من أركان الوضوء كما كان التكبر ركنا من أركان الصلاة، وكما كانت التلبية ركنا من أركان الحج؛ فخرج بذلك أيضًا حكمها من حكم التكبير والتلبية، فبطل بذلك قولُ مَنْ قال: إنَّه لا بد منها في الوضوء كما لا بد من تلك الأشياء فيما يُعمل فيه.
ش: ملخّصه أن ثمة أشياء لا يمكن تحصيلها إلَّا بالقول كما في البيع مثلا، فإنه لا يمكن تحصيله إلَّا بالقول، وهو الإيجاب، وكما في الصلاة لا يصح الشروع فيها إلَّا بالقول وهو التكبير، وكما في الحج لا يصح الشروع فيه إلَّا بالقى وهو التلبية،
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2240 رقم 5670).
(2)
في "الأصل، ك": جوازها، وما أثبتناه هو الصواب.
فنظرنا في التسمية في الوضوء هل لها شبه لشيء من تلك الأشياء؟ فلم نجد فيها إيجاب شيء كما في البيع ونحوه، فخرجت من حكم ذلك، ولم تكن هي ركنا من أركان الوضوء كالتكبير في الصلاة، والتلبية في الحج، فخرجت بذلك أيضًا من حكم ذلك، فحينئذ بطل القول بأنه لا بد منها في الوضوء كما لا بد من الإيجاب في المعاملات، والقول المخصوص في العبادات، فافهم.
قوله: "من البِياعات" بكسر الباء، وتخفيف الياء، جمع بياعه، مصدر كالبيع.
ص: فإن قيل: فإنا قد رأينا الذبيحة لا بدّ من التسمية عندها، ومَنْ ترك ذلك متعمدًا لم تؤكل ذبيحته، فالتسمية أيضًا على الوضوء كذلك، قيل له: ما ثبتَ في حكم النظر أن مَنْ ترك التسميةَ متعمدًا على الذبيحة أنَّهَا لا تُؤكلُ؛ فقد تنازع الناسُ في ذلك، فقال بعضهم: تؤكل، وقال بعضهم: لا تؤكل، فأما من قال: تؤكل فقد كُفِينا البيانَ لقوله، وأما من قال لا تؤكل فإنه يقول: إن تركها ناسيا أكل، وسواءٌ عنده كان الذابح مسلما أو كافرا بعد أن يكون كتابيّا، فجعلت التسمية ها هنا في قول من أوجبها في الذبيحة إنما هي لبيان الملَّة، فإذا سَمى الذابح صارت ذبيحته من ذبائح الملّة المأكولة ذبيحتها، وإذا لم يُسم جُعلت من ذبائح الملل التي لا تؤكل ذبيحتها، والتسمية للوضوء ليست للملّة إنما هى مجعولة لذكر على سبب من أسباب الصلاة، فرأينا من أسباب الصلاة: الوضوء، وستر العورة، فكان مَنْ ستر عورته لا بتسمية لم يضره ذلك، فالنظر على ذلك أن يكون مَنْ تطهير أيضًا لا بتسمية لم يضره ذلك، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ش: هذا السؤال وارد على وجه النظر المذكور، تقريره أن يقال: إنا وجدنا شيئا يحتاج في الدخول له إلى التسمية ليصح ذلك الشيء كالذبيحة، قال: من أراد أن يذبح لا بد من التسمية عنده حتى تحل ذبيحته حتى إذا تركها عمدًا لم تؤكل ذبيحته؛ لفوات شرطه، فكان ينبغي أن تكون التسمية على الوضوء كذلك، والجامع أن كلَّا منهما فِعْل تدخل فيه.
وتقرير الجواب أن نقول: لا نسلم ثبوت عدم أكل الذبيحة بترك التسمية عمدًا فيما يقتضيه النظر والقياس، فهذا باب تنازع فيه العلماء، فقال بعضهم: تؤكل، وهو قول الشا فعي، ومالك -في قول- وأحمد -في رواية- وقال بعضهم: لا تؤكل، وهو قول الحنفية، فعلى القول الأول لا يرد السؤال، فلا يحتاج إلى الجواب، وهو معنى قوله: فأما من قال تؤكل فقد كفينا البيان، فنحتاج إلى الجواب على القول الثاني، وهو أن يقال: وجوب التسمية على الذبيحة لبيان الملَّة، أي الدين، حتى إذا سمى تصير ذبيحته من ذبائح أهل الدين، وإذا لم يسمّ لم تؤكل؛ لأنَّا إنما أُمرنا بها إظهارا لمخالفة المشركين؛ لأنهم كانوا يسمّون آلهتهم عند الذبح، فكان الترك عمدًا مفسدا، والتسمية على الوضوء ليست لأجل ذلك المعنى، وإنما هي مجعولة لذكر على شرط من شروط الصلاة، وشروط الصلاة كثيرة وهي: الوضوء، وستر العورة، واستقبال القبلة، وغيرها، فلم يقل أحد: إنَّ ستر العورة يحتاج إلى التسمية، أو استقبال القبلة، وأن تركها يضر ذلك، فالنظر على ذلك إذا توضأ ولم يسمّ لا يضره ذلك.
قوله: "من أسباب الصلاة" أراد بها الشروط، وأطلق عليها أسبابا باعتبار اللغة، فإن السبب هو الذي يتوصل به إلى المقصود، ومنه سمى الحبل سببا؛ فكذلك الشروط يتوصل بها إليه.
وفي الاصطلاح: السبب ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به، والشرط ما يوجد الحكم عند وجوده، وينعدم عند عدمه.
قوله: "وهذا قول أبي حنيفة" وهو قول الشافعي ومالك أيضًا كما ذكرناه.