الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: سؤر الكلب
ش: أي هذا باب في بيان أحكام سؤر الكلب، والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لاشتمال كل منهما على أحكام السؤر، وتأخير هذا عن باب سؤر الهرّ؛ لكون الكلب أدنى حالا منه وأخس.
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن شعبة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبى عليه السلام قال:"إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات".
ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي.
والأعمش اسمه سليمان.
وذكوان هو أبو صالح الزيات.
وأخرجه الجماعة على ما نذكره.
وأخرجه الدارقطني (1): عن عبد الله بن محمَّد، عن عباس بن الوليد النَرْسي، عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات".
قوله: "إذا ولغ" قد استقصينا تفسير الولوغ في الباب الذي قبله.
واستنبط منه أحكام:
الأول: استدلت به جماعة على وجوب غسل الإناء سبع مرات عند ولوغ الكلب، وسيأتي بيانه مفصلًا.
الثاني: أن ظاهر الأمر بالغسل يدل على نجاسة الإناء والماء، ويؤيد ذلك الرواية الأخرى:"طهور إنائكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب".
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 63 رقم 1).
رواه مسلم (1) وأبو داود (2)؛ وذلك لأن الطهارة تارة تستعمل عن الحدث وتارة عن الخبث، ولا حدث على الإناء فبقي الخبث، وأما مالك فحمله على التعبد؛ لاعتقاده طهارة الماء والإناء، وربما رجحه أصحابه بذكر هذا العدد الخصوص بالسبع؛ لأنه لو كان للنجاسة لاكتفي بما دون السبع؛ فإنه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة وقد اكتفي فيها بما دون السبع، والحمل على الأول وهو التنجس أقوى؛ لأنه شيء دار الحكم بين كونه تعبدا وبين كونه معقول المعنى، فالثاني أولى لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى، وأما كونه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة فممنوع.
الثالث: أن العلة من الحكم المذكور هي النجاسة، وقيل: القذارة لاستعماله النجاسات، وقيل: علته لأنهم نهوا عن اتخاذه فلم ينتهوا؛ فغُلِّظ عليهم بذلك، ومنهم من قال: إنَّ ذلك معلل بما يتقى من كَلِب الكَلْب، والعدد السبع قد جاء في مواضع من الشرع على جهة الطب والتداوي، وفيه نظر؛ لأن الكَلْب الكَلِب لا يقرب الماء؛ على ذلك جماعة من الأطباء.
الرابع: أن ظاهر الأمر فيه يدل على الوجوب، وعن مالك أنه للندب، وقد اتفق أصحابنا وجمهور الشافعية وجماعة من المعتزلة على أن الأمر المطلق -أي المتجرد عن القرائن الدالة على الوجوب أو العدم- أنه للوجوب وأنه حقيقة فيه، مجاز فيما سواه، وذهب بعض فقهاء أهل السنة وجماعة من المعتزلة إلى أنه حقيقة في الندب مجاز فيما سواه، وذهب طائفة إلى أنه حقيقة للطلب المشترك بين الوجوب والندب، وهو ترجيح الفعل على الترك فتكون من الاشتراك المعنوي، وقيل: مشترك بينهما باشتراك لفظي، وقيل: مشترك بين الوجوب والندب والإباحة بالاشتراك اللفظي.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 234 رقم 279) من حديث أبي هريرة.
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 19 رقم 71) من حديث أبي هريرة أيضًا، ووقع فيهما:"طهور إناء أحدكم".
الخامس: أن لفظ الإناء أعم من أن يكون إناء ماء، أو إناء مائع آخر، أو إناء طعام، وعن مالك: لا يغسل إلَّا إناء الطعام -وهو نص المدونة- لأنه مصون.
السادس: أن ظاهر الحديث عام في جميع الكلاب، وفي مذهب مالك أربعة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره، والرابع لابن الماجشون: يفرق بين البدوي والحضري.
ثم اختلف أصحابنا في الكلب هل هو نجس العين كالخنزير أم لا؟ والأصح أنه ليس بنجس العين كذا في "البدائع" وفي "الإيضاح": فأما عين الكلب فقد روي عن محمَّد أنه نجس، وكذا عن أبي يوسف، وبعضهم قالوا: هو طاهر؛ بدلالة طهارة جلده بالدباغ.
وقال في فصل مسائل البئر: فأما الحيوان النجس كالكلب والخنزيز والسباع ينزح كله؛ لأنه نجس في عينه، ولهذا قالوا في كلب إذا ابتل وانتضح منه على ثوب أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه، وذكر في "قنية المنية" (1): الذي صح عندي من الروايات في "النوادر والأمالي" أن الكلب نجس العين عندهما، وعند أبي حنيفة ليس بنجس العين، وفائدته تظهر في كلب وقع في بئر وخرج حيّا فأصاب ثوب إنسان، ينجس الماء والثوب عندهما؛ خلافا لأبي حنيفة رحمه الله.
السابع: أن الظاهرية تعلقوا بظاهر ألفاظ الحديث وحكموا بأشياء مخالفة للإجماع، فقال ابن حزم: فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء ولا يهراق ما فيه البتة، وهو طاهر حلال كله كما كان، وكذا لَوْ وَلغَ الكلب في بقعة في الأرض أو في يد إنسان أو فيما لا يسمى إناء فلا يلزم غسل شيء من ذلك ولا يهراق ما فيه.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: ثنا أبو صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
(1) انظر "كشف الظنون"(2/ 1886).
ش: هذا طريق آخر ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهذا.
والأعمش سليمان، وأبو صالح ذكوان.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المُقدَّميّ، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله، وزاد:"أولاهن بالتراب".
ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن أبي داود البُرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم أبي عبد الله الثقفي المقدمي شيخ البخاري، عن المعتمر بن سليمان بن طرخان، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة.
وكلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا أبان، قال: نا قتادة، أن محمَّد بن سيرين حدثه، عن أبي هريرة، أن نبي الله عليه السلام قال:"إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرار (2) السابعة بالتراب".
وأخرجه الترمذي (3): ثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: نا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب يحدث، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن [أو أُخراهن] (4) بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة".
قوله: "وزاد أولاهن بالتراب" أي زاد ابن أبي داود في روايته: "أولاهن بالتراب".
وهكذا وقع في رواية مسلم (5): عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب".
(1)"سنن أبي داود"(1/ 19 رقم 73).
(2)
في "سنن أبي داود": "مرات".
(3)
"جامع الترمذي"(1/ 151 رقم 91).
(4)
ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "جامع الترمذي".
(5)
"صحيح مسلم"(1/ 234 رقم 279).
ووقع في إحدى روايات ابي داود (1): "السابعة بالتراب" كما ذكرنا.
وروى أيضًا (2): من حديث مطرف، عن عبد الله بن مغفل، أن رسول الله عليه السلام قال:"إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرار والثامنة عفروه بالتراب" وكذا رواه ابن ماجه (3) ومسلم (4).
وروى الدارقطني (5): من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالبطحاء".
ورواه الطبراني أيضًا في "الأوسط"(6)، وروى البزار أيضًا من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات- أحسبه قال: إحداهن بالتراب".
وروى البيهقي (7): من حديث أيوب [عن ابن سيرين](8) عن أبي هريرة: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن -أو أُخراهن- بالتراب".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، عن قرة، قال: ثنا محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذا طريق آخر بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن قرة بن خالد السَّدُوسي.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 19 رقم 73).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 19 رقم 74).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 130 رقم 365).
(4)
"صحيح مسلم"(1/ 235 رقم 280).
(5)
"سنن الدارقطني"(1/ 65 رقم 12).
(6)
"المعجم الأوسط"(8/ 42 رقم 7899).
(7)
"سنن البيهقي"(1/ 241 رقم 1079).
(8)
سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي".
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: سئل سعيد عن الكلب يلغ في الإناء، فأخبرنا عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام
…
مثله، غير أنه قال:"أولها -أو السابعة- بالتراب" شك سعيد.
ش: هذا طريق آخر إسناده جيد.
وسعيد هو ابن أبي عروبة مهران البصري، من رجال الصحيحين.
ص: فذهب قوم إلى هذا الأثر، فقالوا: لا يطهر الإناء إذا ولغ فيه الكلب حتى يغسل سبع مرات أولاهن بالتراب كما قال النبي عليه السلام.
ش: أراد بالقوم: الأوزاعي والشافعي ومالكا وأحمد وإسحاق وأبا ثور وأبا عبيد وداود؛ فإنهم ذهبوا إلى العمل بهذا الحديث، وقال ابن قدامة: يجب غسل الإناء سبعا إحداهن بالتراب من ولوغ الكلب، وهو قول الشافعي، وعن أحمد: أنه يجب ثمانيا إحداهن بالتراب، وروي ذلك عن الحسن، والرواية الأولى أصح، ويحمل الحديث الذي فيه الثامنة على أنه عد التراب ثامنة؛ لأنه وإنْ وجد مع إحدى السبع فهو جنس آخر، فيجمع بين الخبرين. انتهى.
وعن الشافعي: يغسل سبعا أولاهن وأخراهن بالتراب.
وفي "المغني": فإن جعل مكان التراب غيره من الأشنان والصابون والنخالة ونحو ذلك أو غسله ثامنة، قال أبو بكر: فيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه، والثاني: يجزئه، وأظهر الوجهين في الغسلة الثامنة أنَّهَا لا تقوم مقام التراب، وقال غير أبي بكر: إنما كان جواز العدول إلى غير التراب عند عدم التراب أو كونه يفسد المحل المغسول، فأما لغير ذلك فلا. وقال أبو عبد الله بن حامد: إنْ كان التراب يفسد التور يعدل إلى غيره، وقال: والمستحب أن يكون التراب في الغسلة الأولى لموافقته لفظ الخبر، وليأتي عليه الماء فينظفه.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: يغسل الإناء من ذلك كما يغسل من سائر النجاسات.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد ومن تبعهم.
ص: واحتجوا في ذلك بما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال حدثني الأوزاعي.
وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريايى، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني ابن شهاب، قال: حدثني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أحدكم فيم باتت يده".
ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بما قد روي عن النبي عليه السلام من الأحاديث.
قوله: "فمن ذلك" أي فمن ما روي من الأحاديث ما حدثنا، فقوله:"ما حدثنا" مبتدأ، قلت:"فمن ذلك" خبره و"الفاء" تفصيلية.
وقد روي هذا الحديث من طريقين صحيحين:
الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمَّد بن يوسف الفريابي -شيخ البخاري- عن الأوزاعي
…
إلي آخره.
وأخرج مثله ابن ماجه (1): ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، نا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي، حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أنهما حدثاه أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من الليل
…
" إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء، غير أن في روايته: "إذا قام" موضع "إذا استيقظ".
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 138 رقم 393).
قوله: "من الليل" كلمة "من" ها هنا يجوز أن تكون على أصل معناها بمعنى إذا كان غاية قيام أحدكم من الليل، ويجوز أن تكون بمعنى "في" للظرف كما في قوله: تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (1) أي فيها.
قوله: "فلا يدخل" بجزم اللام لأنه نهي.
قوله: "حتى يفرغ" من أفرغت الإناء إفراغا: قلبت ما فيه، وكذا أفرغت تفريغا، والمعنى حتى يصب على يديه مرتين أو ثلاثا، وفي سنن الكجي الكبير:"حتى يصب عليها صبة أو صبتين" وفي جامع عبد الله بن وهب المصري صاحب مالك: "حتى يغسل يده أو يفرغ فيها فإنه لا يدري حيث باتت يده".
وفي علل ابن أبي حاتم الرازي (2): "فليغرف على يده ثلاث غرفات" وفي لفظ (3)"ثم ليغترف بيمينه من إنائه"(4).
وعند ابن عدي (5): من رواية الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا:"فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فليُرِق ذلك الماء".
قلت: أنكر ابن عدي على معلي بن الفضل الذي روى هذا الحديث عن الربيع ابن صبيح، عن الحسن، عن أبي هريرة زيادة:"فليرق ذلك الماء".
والحديث منقطع أيضًا عند الأكثرين.
قوله: "فيمَ باتت يده"(ما) استفهامية أي في أي شيء باتت يده، ويجب حذف ألف (ما) الاستفهامية إذا جُرَّت ابقاء الفتحة دليلًا عليها نحو: فيم، وإلامَ،
(1) سورة الجمعة، آية:[9].
(2)
"علل ابن أبي حاتم"(1/ 62 رقم 162) من حديث عائشة.
(3)
"علل ابن أبي حاتم"(1/ 65 رقم 170) من حديث أبي هريرة.
(4)
وقال أبو حاتم: ينبغي أن يكون "ثم ليغترف بيمينه
…
" إلى آخر الحديث من كلام إبراهيم بن طهمان، فإنه كان يصل كلامه بالحديث، لا يميزه المستمع.
(5)
"الكامل" لابن عُدي (6/ 374 رقم 1857).
وعلام، وعلة الحذف الفرق بين الاستهفام والخبر، فلذلك حذفت نحو {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (1) وثبتت في {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} (2).
واستنبط منه أحكام:
الأول: استدل به أصحابنا أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاثًا على ما يجيء محررا عن قريب.
الثاني: أن غسل اليدين قبل الشروع في الوضوء سنة.
فإن قلت: كان ينبغي ألَّا تبقى هذه السُّنة؛ لأنهم كانوا يتوضئون من الأتوار، فلذلك أمرهم عليه السلام به، وأما في هذا الزمان فقد تغير ذلك.
قلت: السُنّة لما وقعت سُنة في الابتداء بقيت ودامت وإنْ لم يبق ذلك المعنى، كالرمل في الحج.
الثالث: أن قيد الليل باعتبار الغالب، وإلَّا فالحكم ليس مخصوصًا بالقيام من النوم بالليل بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتي شك كُرِهَ له إدخالها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل، أو من نوم النهار، أو شك في نجاستها في غير نوم، هذا مذهب الجمهور، وعن أحمد: إنْ قام من نوم الليل كُرِهَ كراهة تحريم، وإنْ قام من نوم نهار كُرِهَ كراهة تنزيه، ووافقه داود الظاهري؛ اعتمادا على لفظ المبيت.
الرابع: أن هذا النهي نهي تنزيه لا تحريم، حتى لو غمس يده لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس، وعن الحسن البصري وإسحاق ومحمد بن جرير الطبري أنه ينجس إنْ قام من نوم الليل، وهذا ضعيف، وفي "التلويح": قال الشعبي: النائم والمستيقظ سواء، لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها.
وذهب عامّة أهل العلم إلى أن ذلك على الاستحباب، وله أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها وأن الماء طاهر ما لم يتيقين نجاسة يده وممن روي عنه
(1) سورة النازعات، آية:[43].
(2)
سورة الأنفال، آية:[68].
ذلك: عَبيدة وابن سيرين وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وسالم والبراء بن عازب والأعمش فيما ذكره المصنف.
وقال ابن المنذر: قال أحمد: إذا انتبه من النوم فأدخل يده في الماء قبل الغسل أعجب إلىّ أن يريق ذلك الماء إذا كان من نوم الليل. ولا يهُراق في قول عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأبي عُبيد.
واختلفوا في المستيقظ من النوم بالنهار، فقال الحسن البصري: نوم النهار ونوم الليل واحد في غمس اليد.
وسهّل أحمد في نوم النهار ونهى عن ذلك إذا قام من نوم الليل، وقال أبو بكر: وغسل اليد في ابتداء الوضوء ليس بفرض. وذهب داود وابن جرير الطبري إلى إيجاب ذلك وأن الماء ينجس إنْ لم تكن اليد مغسولة، وقال ابن القاسم: غسلهما عبادة.
الخامس: أن قوله: "في الإناء" محمول على ما كانت الآنية صغيرة كالكوز، أو كبيرة كالحُبّ ومعه آنية صغيرة، أما إذا كانت الآنية كبيرة وليس معه آنية صغيرة فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة حتى لو أدخل أصابع يده اليسري مضمومة في الإناء دون الكف ويرفع الماء من الحبّ ويصب على يده اليمنى ويدلك الأصابع بعضها ببعض، يفعل كذلك ثلاث مرات، ثم يدخل يده اليمنى بالغا ما بلغ في الإناء إنْ شاء، هذا الذي ذكره أصحابنا.
وقال النووي: وإذا كان الماء في إناء كبير بحيث لا يمكن الصب منه وليس معه إناء صغير يغترف به، فطريقه أن يأخذ الماء بفمه ثم يغسل به كفيه، أو يأخذه بطرف ثوبه النظيف أو يستعين بغيره.
قلت: لو فرضنا أنه عجز عن أخذه بفمه ولم يعتمد على طهارة ثوبه، ولم يجد من يستعين به ماذا يفعل؟ وما قاله أصحابنا أحسن وأوسع.
السادس: أن الفاء في قوله: "فإنه لا يدري" للتعليل وذلك لأنهم كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن أن يطوف بيده على ذلك الموضع النجس أو على بَثْرة أو قذر غير ذلك.
قلت: "فيم باتت يده" كناية عن وقوعها على دبره أو ذكره أو نجاسة، وإنما ذكر بطريق الكناية تحاشيا من التصريح به، وذلك من آداب النبي عليه السلام ونظائر ذلك كثيرة في القرآن والحديث.
السابع: يُستفاد منه أن الماء القليل تؤثر فيه النجاسة وإنْ لم تغيره، وهذا حجة قوية لأصحابنا في نجاسة القلتين بوقوع النجاسة فيها وإنْ لم تغيره، وإلَّا لا يكون للنهي فائدة.
الثامن: يُستفاد منه استحباب غسل النجاسات ثلاثًا لأنه إذا أمر به في المتوهمة ففي المحققة أولى، ولم يرد شيء فوق الثلاث إلَّا في ولوغ الكلب، وسيجيء أنه عليه السلام أوجب فيه الثلاث وخيَّرَ فيما زاد.
التاسع: أن موضع الاستنجاء لا يطهر بالمسح بالأحجار بل يبقي نجسا معفوّا عنه في حق الصلاة، حتى إذا أصاب موضع المسح بلل وابتلّ به سراويله أو قميصه ينجسه.
العاشر: أن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل ولا يؤثر فيها الرش؛ فإنه عليه السلام قال: "حتى يفرغ عليها" وفي لفظ: "حتى يغسلها" ولم يقل: "حتى يرشها".
الحادي عشر: استحباب الأخذ بالاحتياط في باب العبادات.
الثاني عشر: أن الماء يتنجس بورود النجاسة عليه، وهذا بالإجماع، وفي العكس كذلك عندنا خلافا للشافعي، وقال النووي: وفيه دلالة أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة نجسته، وإنْ قلت ولم تغيره فإنها تنجسه؛ لأن الذي يعلق باليد ولا يرى قليل جدّا، وكانت عادتهم استعمال الأواني الصغيرة التي تقصر عن القلتين بل لا تقاربها، قال القشيري: وفيه نظر عندي؛ لأن مقتضى الحديث أن
ورود النجاسة على الماء يؤثر فيه، ومطلق التأثر أعم من التأثير بالتنجيس، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين، فإذا سَلَّم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها فقد ثبت مطلق التأثر، ولا يلزم ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس.
[الثالث](1) عشر: استحباب استعمال الكنايات في المواضع التي فيها استهجان، ولهذا قال عليه السلام:"فإنه لا يدري أين باتت يده" ولم يقل: فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو نجاسة أو نحو ذلك، وإنْ كان هذا معني قوله عليه السلام؛ وهذا إذا علم أن السامع يفهم بالكناية المقصود، فإن لم يكن كذلك فلا بد من التصريح ليزى اللبس والوقوع في الخلاف في المطلوب، وعلي هذا يحمل ما جاء مصرحًا به.
[الرابع](2) عشر: أن قوله: "في الإناء" وإنْ كان عامّا لكن القرينة دلّت على أنه إناء الماء، بدليل قوله في الرواية الأخرى:"في وَضُوئه" وهو الماء الذي يتوضأ به، ولكن الحكم لا يختلف بينه وبين غيره من الأشياء الرطبة، فافهم.
ص: حدثنا ابن أبي داود وفهد قالا: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، قال: حدثني ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
ش: هذا طريق آخر إسناده صحيح نصفه مصري ونصفه مدني.
وأبو صالح اسمه عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال أبو حاتم: صدوق أمين.
وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري.
وسعيد هو ابن المسيب. وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الرحمن.
(1) في "الأصل": "الثاني"، وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(2)
في "الأصل": "الثالث"، وهو سبق قلم أيضًا.
وأخرجه الترمذي (1): من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده".
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا زائدة بن قدامة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: هذا طريق آخر إسناده صحيح. والأعمش سليمان. وأبو صالح ذكوان.
وأخرجه أبو داود (2): ثنا مسدد، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، ثنا أبو شهاب، عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام مثله، غير أنه قال:"فليغسل يديه مرتين أو ثلاثا".
ش: هذا طريق آخر رجاله رجال الصحيح.
وأبو شهاب اسمه موسى بن نافع.
وأبو صالح ذكوان.
وأبو رزين اسمه مسعود بن مالك.
قوله: "مرتين أو ثلاثا" يفيد أنه إذا اكتفي بالغسل مرتين يجوز؛ لأنه مستحب إذا قلنا: إن هذا شك في نجاسة اليد، أما إذا تحقق فإنه يجب عليه الغسل إلى أن تطهير، سواء كان بالثلاث أو أكثر، وهذا مذهب الجمهور؛ لأنه عليه السلام نبَّه على
(1)"جامع الترمذي"(1/ 36 رقم 24).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 25 رقم 103).
العلة وهي الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة، ولو كان النهى عامّا لقال: إذا أراد أحدكم استعمال الماء فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها.
وعند بعض الشافعية: حكمه حكم الشك لكن أسباب النجاسة قد تخفى في حق معظم الناس فَيَسُدُّ الباب لئلَّا يتساهل فيه من لا يعرف.
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
ش: هذا طريق آخر بإسناد صحيح.
وحجاج هو [ابن](1) المنهال.
وحماد هو ابن سلمة.
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا ابن وهب، عن جابر بن إسماعيل، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من النوم فرغ على يديه ثلاثا".
ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي.
وعُقيل بضم العين.
وابن شهاب محمَّد بن مسلم الزهري.
ورواه الدارقطني (2): من حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده منه -أو أين طافت يده- فقال له رجل: أرأيت إنْ كان حوضا؟ فحصبه ابن عمر، وقال: أخبرك عن رسول الله عليه السلام وتقول: أرأيت إنْ كان حوضا؟ ".
(1) ليست في "الأصل، ك".
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 49 رقم 3).
ويُستفاد منه: أن المستحب ألَّا ينقص عن الثلاث، فإن اقتصر على مرتين جاز وليس عليه بأس؛ لما ورد في الحديث السابق:"فليغسل يديه مرتين أو ثلاثًا".
فإن قيل: فإن اقتصر على مرة ماذا يكون حكمه؟
قلت: ظاهر ما رواه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه (ماء) (2) ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من (منامه) (3) فليغسل يديه قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" يشعر بجواز الاكتفاء على واحدة ولكن المستحب ألَّا ينقصها عن الثلاث؛ لما تقرر من القواعد: أن المطلق يحمل على المقيد عند اتحاد الحكم.
ص: قالوا: فلما روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطهارة من البول لأنهم كانوا يتغوطون ويبولون ولا يستنجون بالماء، فأمرهم بذلك إذا قاموا من نومهم؛ لأنهم لا يدرون أين باتت يدهم من أبدانهم فقد يجوز أن تكون كانت في موضع قد مسحوه من البول (أو)(4) الغائط فيعرقون [فتتنجس](5) بذلك أيديهم فأمر النبي عليه السلام بغسلها ثلاثًا، وكان ذلك طهارتها من الغائط أو البول إنْ كان أصابها، فلما كان ذلك يُطهّر من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات؛ كان أحرى أن يطهر مما هو دون ذلك من النجاسات.
ش: أي قال أهل المقالة الثانية: "فلما روي هذا" أي حديث المستيقظ من النوم.
قوله: "وهما أغلظ النجاسات" جملة وقعت حالا.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 72 رقم 160).
(2)
ليست في "صحيح البخاري"، وأشار الحافظ في "الفتح" إلى أنها مذكورة في رواية أبي ذر فقط.
(3)
في "صحيح البخاري": "نومه".
(4)
تكررت من الناسخ في "الأصل".
(5)
في "الأصل، ك": يتنجس أوله "ياء" آخر الحروف.
قوله: "كان أحرى" أي كان الثلاث أولى أن يطهر مما دون البول والغائط من النجاسات.
ص: وقد دلّ على ما ذكرنا من هذا ما قد روي عن أبي هريرة من قوله بعد رسول الله عليه السلام كما قد حدثنا إسماعيل بن إسحاق تُرُنْجَه قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة:"في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهرّ، قال: يُغسل ثلاث مرات" فلما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاث تطهر الأناء من ولوغ الكلب فيه، وقد روي عن النبي عليه السلام ما ذكرنا، ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به ولا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي عليه السلام إلَّا إلي مثله، وإلَّا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته.
ش: أي قد دل على ما ذكرنا من قولهم: "قالوا: فلما روي
…
" إلى آخره "ما قد روي عن أبي هريرة" و"ما" في محل الرفع على أنه فاعل "دلّ". تحرير ذلك: أن أبا هريرة أفتي بغسل الثلاث من ولوغ الكلب، والحال أنه روى عن النبي عليه السلام الغسل بالسبع فدل ذلك أن الأمر بالسبع قد نُسخ وأن النسخ قد ثبت عنده، وإنما قلنا ذلك لأن الراوي إذا ظهرت منه المخالفة فيما رواه قولًا أو فعلا فإن كان ذلك تنازع قبل الرواية فإنه لا يقدح في الخبر، ويحمل على أنه كان ذلك مذهبه قبل أن يسمع الحديث فلما سمع الحديث رجع إليه، وكذلك إنْ لم يُعلم التاريخ؛ لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه، وهو أن يكون ذلك منه قبل أن يبلغه الحديث ثم رجع إلى الحديث، وأما إذا عُلم ذلك منه بتاريخ بعد الحديث فإن الحديث يخرج به من أن يكون حجة؛ لأن فتواه بخلاف الحديث أو عمله من أبين الدلائل على الانقطاع وأنه لا أصل للحديث، فإن الحال لا يخلو إما أن [تكون](1) الرواية تقوّلا منه لا عن سماع، فيكون واجب الرد، أو تكون فتواه وعمله بخلاف الحديث على وجه قلّة المبالاة والتهاون بالحديث؛ فيصير به فاسقا لا تقبل روايته أصلا، أو يكون
(1) في "الأصل، ك": كانت.
ذلك عن غفلة ونسيان وشهادة المغفل لا تكون حجة، فكذلك خبره، أو يكون ذلك منه على أنه علم انتساخ حكم الحديث، وهذا أحسن الوجوه، فيجب الحمل عليه تحسينا للظن بروايته وعمله؛ فإنه روى على طريق إبقاء الإسناد وعلم أنه منسوخ فأفتي بخلافه، فبهذا الطريق حكمنا في حديث أبي هريرة لأنا نحسن الظن به، فحملنا ما رواه من السبع على أنه كان قد علم انتساخ هذا الحكم فأفتي بالثلاث، أو علم بدلالة الحال أن مراد رسول الله عليه السلام التقرب فيما وراء الثلاث، وهذا كما في قول عمر رضي الله عنه "متعتان كانتا على عهد رسول الله عليه السلام -وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج" (1) فإنما يحمل هذا على علمه بالانتساخ، ولهذا قال ابن سيرين: هم الذين رووا الرخصة في المتعة وهم الذين نهوا وليس في رأيهم ما يرغب عنه ولا في نصيحتهم ما يوجب التهمة.
وقال صاحب "البدائع": وما رواه الشافعي -أراد به الأمر بالسبع في ولوغ الكلب [في](2) الإناء- كان في ابتداء الإِسلام لقطع عادة الناس في الألف بالكلاب، كما أمر بكسر الدِّنان، ونهى عن الشرب في ظروف الخمر حتى حرمت الخمر، فلما تركوا العادة أزال ذلك كما في الخمر، دلّ عليه ما روي في بعض الروايات:"فليغسله سبعا أولاهن -أو أخراهن- بالتراب" وفي بعضها: "وعفروا الثامنة بالتراب" وذلك غير واجب بالإجماع.
قوله: "وقد روي عن النبي عليه السلام" جملة وقعت حالا.
قوله: "ثبت بذلك" جواب لـ"ما".
ثم إسناد الحديث المذكور صحيح؛ لأن إسماعيل بن إسحاق المعروف بتُرنجه قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه وهو صدوق. وترُونْجَه -بضم التاء المثناة من فوق والراء وسكون النون وفتح الجيم- ووقع صفة له ها هنا.
(1) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 146).
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 325 رقم 14519) بنحوه من حديث جابر بن عبد الله عن عمر.
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.
وأبو نعيم الفضل بن دكين.
وعبد السلام بن حرب روي له الجماعة
وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي أبو عبد الله الكوفي روي له مسلم.
وعطاء بن أبي رباح، روى له الجماعة.
فإن قلت: قال البيهقي: تفرّد به عبد الملك من بين أصحاب أبي هريرة والحفاظ الثقات، ولمخالفته أهل الحفظ والثقة في زمانه تركه شعبة ولم يحتج به البخاري في صحيحه وقد اختلف عليه في هذا الحديث فمنهم من يرويه عنه مرفوعا، ومنهم من يرويه عنه موقوفا على أبي هريرة من قوله، ومنهم من يرويه عنه من فعله، وقد اعتمد الطحاوي على الرواية الموقوفة في نسخ حديث السبع، وأن أبا هريرة لا يخالف النبي عليه السلام فيما يرويه عنه، وكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الإثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطا، برواية واحد قد عرف بمخالفة الحفاظ في بعض أحاديثه.
قلت: هذا تحامل منه؛ لأن الحديث رواه الطحاوي بسند صحيح، ثم الدارقطني كذلك بسند قال في "الإمام": هذا سند صحيح، ثم ابن عدي أيضًا عن عمر بن شبة، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك إلى آخره.
وعبد الملك قد أخرج له مسلم في "صحيحه"، وقال ابن حنبل والثوري: هو من الحفاظ. وعن الثوري: هو ثقة متقن فقيه. وقال أحمد بن عبد الله: ثقة ثبت في الحديث. ويقال: كان الثوري يسميه الميزان.
ولا يلزم من ترك احتجاج البخاري به أن يترك قوله، وتشنيعه على الطحاوي بأنه اعتمد على الرواية الموقوفة في نسخ حديث السبع باطل؛ لأنه لما صح عنده هذه الرواية حمل رواية السبع على النسخ توفيقا بين الكلامين وتحسينا للظن في حق أبي هريرة، ولا سيما وقد تأيدت الرواية الموقوفة بالرواية المرفوعة على ما أخرجه
ابن عدي (1): عن الكرابيسي، عن إسحاق الازرق، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات". ثم قال لم يرفعه غير حسين بن علي الكرابيسي ولم أجد له حديثا منكرا غير هذا، وإنما حمل عليه أحمد بن حنبل من جهة اللفظ بالقرآن، فأما في الحديث فلم أر به بأسا.
وبما روى عبد الرزاق (2): عن معمر قال: "سألت الزهري عن الكلب يلغ في الإناء، قال: يغسل ثلاث مرات" فهذا الزهري لو لم يثبت عنده نسخ السبع لما أفتي بما أفتي به أبو هريرة.
وروى عبد الرزاق (3): أيضًا عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء كم يغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب؟ قال: كل ذلك سمعت: سبعا وخمسًا وثلاث مرات".
فإن قلت: قد قال البيهقي: وقد روى حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة فتواه بالسبع كما رواه، وفي ذلك دلالة على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة في الثلاث.
قلت: يحتمل أن تكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده، أو يكون ذلك بطريق الندب، ومُخطِّئ عبد الملك مُخْطئ.
وقد روي عن أبي هريرة مرة واحدة أيضًا، قال عبد الرزاق (4): أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة "في الهرّ يلغ في الإناء قال: اغسله مرة واحدة".
(1)"الكامل" لابن عُدي (2/ 366).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 97 رقم 366).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 97 رقم 333).
(4)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 99 رقم 344).
وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح، فهذا أدلّ دليل على ثبوت انتساخ السبع عنده، وأن مراده من رواية الثلاث هو أن يكون على الندب والاستحباب.
ص: ولو وجب أن يعمل بما روينا في السبع ولا يجعل منسوخا لكان ما روى عبد الله بن المغفل في ذلك عن النبي عليه السلام أولى مما روى أبو هريرة؛ لأنه زاد عليه.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر ووهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن أبي التيّاح، عن مُطَرِّف بن عبد الله، عن عبد الله بن مُغفّل رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام أمر بقتل الكلاب، ثم قال: ما لي وللكلاب؛ ثم قال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات وعَفِّروا الثامنة بالتراب".
ش: تحريره أن حديث السبع إذا لم يجعل منسوخا يكون العمل بحديث عبد الله بن مغفل أولى؛ لأنه زاد عليه -أي على حديث أبي هريرة- للاحتياط ولهذا ذهب إليه الحسن وأحمد -في رواية-.
ورجال الحديث رجال الصحيح ما خلا بكَّارا.
وأبو التَيَّاح اسمه يزيد بن حميد وهو بفتح التاء المثناة من فوق ثم الياء آخر الحروف المشددة وفي آخره حاء مهملة.
ومُطَرِّف بضم الميم وتشديد الراء المكسورة.
وأخرجه مسلم (1): عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة إلى آخره، ولفظه "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب! ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في [إناء أحدكم] (2) فاغسلوه سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب".
(1)"صحيح مسلم": (1/ 235 رقم 280).
(2)
في"صحيح مسلم": "الإناء".
وأبو داود (1): عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة
…
إلى آخره نحوه.
والنسائي (2): عن محمَّد بن عبد الأعلي، عن خالد، عن شعبة
…
إلى آخره نحوه، وليس فيه "ما لي وللكلاب".
وابن ماجه (3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شبابة، عن شعبة
…
إلى آخره مقتصرا على قوله: "إذا ولغ الكلب
…
" إلى آخره.
قوله: "ما لي وللكلاب" أراد بهذا التنبيه على النهي عن قتلها.
قوله: "وعفروا" قال صاحب "المطالع": معناه اغسلوه بالتراب، وهو من العَفَر -بالتحريك- وهو التراب، يقال: عفره في التراب يعفره عفرا، وعفره تعفيرا أي مرّغه، وشيء معفور ومعفّر مُترّب.
قوله: "الثامنه بالنصب على الظرفية وموصوفها محذوف، والتقدير: عفروه في المرة الثامنة بالتراب.
ويُستفاد من هذه الروايات: أن قتل الكلاب كان جائزا ثم نُسخ.
وروى الطبراني (4): من طريق الجارود عن إسرائيل، بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم، ومن اقتني كلبا لغير صيد ولا زرع ولا غنم؛ أوى إليه كل (يوم) (5) قيراط من الإثم مثل أحد".
(1)"سنن أبي داود"(1/ 9 رقم 74).
(2)
"المجتبى"(1/ 54 رقم 67)، (1/ 177 رقم 336).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 130 رقم 363).
(4)
"المعجم الأوسط"(8/ 41، 42 رقم 7899).
(5)
في "المعجم الأوسط": "ليلة". وزاد في آخره: "وإذا ولغ الكلب في إناء فليغسله سبع مرات إحداهن بالبطحاء".
وأخرج البخاري (1) ومسلم (2): "من اقتني كلبا إلَّا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان" رواه ابن عمر.
فإن كان الكلب عقورا جاز قتله؛ لحديث عائشة رواه مسلم (3): "خمس (من الفواسق)(4) يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحُديَّا.
ويُستفاد منه أيضًا: حرمة اقتنائه لغير الحاجة، نحو أن يقتني إعجابا بصورته أو للمفاخرة به، فهذا حرام بلا خلاف، وأما للحاجة نحو: الصيد وحراسة الزرع والغنم فجائز بلا خلاف، وفي معناه لحراسة الدروب والدور، واختلف في اقتناء كلب صيد ولا يصيد.
ص: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب، عن شعبة فذكر بإسناده مثله.
ش: هذا طريق آخر إسناده صحيح.
ص: فهذا عبد الله بن مغفل قد روى عن النبي عليه السلام أنه يغسل سبعا ويعفّر الثامنة بالتراب، وزاد على أبي هريرة، والزائد أولي من الناقص، فكان ينبغي لهذا المخالف لنا أن يقول: لا يطهر الإناء حتى يغسل ثمان مرات السابعة بالتراب والثامنة كذلك، ليأخذ بالحديثين جميعًا، فإن ترك حديث عبد الله بن مغفل فقد لزمه ما ألزمه خصمه في ترك السبع التي قد ذكرنا، وإلَّا فقد بينَّا أن أغلظ النجاسات يُطهِّر منها الإناء غسلُ ثلاث مرات، فما دونها أحرى أن يُطهّره ذلك أيضًا.
ش: هذا موضح لقوله: "ولو وجب أن يعمل بما رويناه في السبع
…
" إلى آخره، وأراد بالمخالف الشافعي وكل من ذهب إلى مذهبه في هذا.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2088 رقم 5163).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1201 رقم 1574).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 856 رقم 1198).
(4)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح مسلم":"فواسق".
قوله: "والثامنة كذلك" يعني بالتراب فيكون استعمال التراب مرتين؛ لأن في حديث أبي هريرة: "سبع أخراهن بالتراب" وفي حديث ابن مغفل: "الثامنة بالتراب" فإن لم يعمل كذا لا يكون عملا بالحديثين، وقد أوَّل ذلك النووي وغيره حيث قالوا: المراد اغسلوه سبعا واحدة منهن تراب مع الماء، فكان التراب قائم مقام غسله فسميت ثامنة لهذا.
قلت: هذا مخالف لصريح الحديثين، فإن صريح حديث أبي هريرة يدل على أن يكون التراب واحدة من السبعة، وحديث ابن مغفل صريح بأن تكون الثامنة هو التراب، ولهذا روي عن الحسن أنه قال:"يفتقر إلى دفعة ثامنة".
قوله: "فقد لزمه" أي المخالف المذكور.
قوله: "وإلَّا" أي وإنْ لم يترك حديث ابن مغفل.
"فقد بينّا" يعني فيما مضى.
قوله: "يُطَهِّر منها الإناء" على صيغة المعلوم.
و"غسلُ ثلاث" كلام إضافي فاعله.
و"الإناءَ" بالنصب مفعوله، وفي بعض النسخ:"يَطْهُر منها الإناء بعد غسل ثلاث مرات" فعلى هذا يكون يطهر لازما بخلاف الأول فإنه متعد؛ لأنه من التطهير.
ص: ولقد قال الحسن في ذلك بما روى عبد الله بن مغفل.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن قال:"إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات والثامنة بالتراب".
ش: ذكر هذا تأييدا لقوله: "والزائد أولى، من الناقص" أي لقد قال الحسن البصري في غسل الإناء من ولوغ الكلب فيه.
وأبو داود هو سليمان الطيالسي.
وأبو حرة اسمه واصل بن عبد الرحمن.
ص: وأما النظر في ذلك فقد كفانا الكلام فيه ما بيّنا من حكم اللحمان في باب سؤر الهر.
ش: أي في حكم ولوغ الكلب في الإناء فكان قد بيّن في باب سؤر الهرّ أن ما كان سؤره نجسا كان حكمه حكم سائر النجاسات، وحكم النجاسات أن تُطهر بالغسل ثلاث مرات، فكذلك الإناء الذي ولغ فيه الكلب يطهر بالغسل ثلاث مرات، والتقدير بالثلاث في إزالة النجاسات غير لازم عندنا، بل هو مفوض إلى غالب رأيه وأكثر ظنه، وإنما ورد النص بالثلاث بناء على غالب العادة، فإن الغالب أنَّها تزول بالثلاث، ولأن الثلاث هو الحد المضروب لإبلاع الأعذار كما في قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام حيث قال له موسى في المرة الثالثة:{قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} (1).
ص: وقد ذهب قوم في الكلب يلغ في الإناء أن الماء طاهر ويغسل الإناء سبعا وقالوا: إنما ذلك تعبد تُعبدنا به في الآنية خاصة.
فكان من الحجة عليهم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحياض التي تردها السباع قال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا" فقد دلّ ذلك أنه إذا كان دون القلتين حمل الخبث، ولولا ذلك لما كان لذكر القلتين معنى، ولكان ما هو أقل منهما وما هو أكثر سواء، فلما جرى الذكر على القلتين ثبت أن حكمهما خلاف حكم ما هو دونهما، فثبت بهذا من قول رسول الله عليه السلام أن ولوغ الكلب في الماء ينجس الماء، وجميع ما بيّنا في هذا الباب هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أراد بالقوم: الأوزاعي ومالكا وأصحابه وبعض الظاهرية فإنهم قالوا: إنَّ الإناء إذا ولغ فيه الكلب لا ينجس الماء ولا الإناء، إنما يغسل سبعا تعبدا.
(1) سورة الكهف، آية:[76].
وقال عياض في "شرح مسلم": مذهبنا في غسل الإناء من ولوغ الكلب تعبد مستحق العدد وهو مذهب أهل الظاهر، لكن يتنزه عنه عندنا مع وجود غيره وهو قول الأوزاعي، وقال الثوري: من لم يجد غيره توضأ به ثم تيمم.
ووافقنا الشافعي في العدد وخالف في نجاسة الكلب فقال: هو نجس. وقد حُكي هذا عن سحنون.
فإن قيل: ما حكم الخنزير إذا ولغ في الإناء؟.
قلت: يقُاس على الكلب لنجاسته، وهو أحد قولي الشافعي، وعند مالك لا يغسل؛ لأنه لا يقتني فلا يوجد فيه علة الكَلِب من أذى الناس، وهو قول للشافعي، وعنه يغسل لتقذره وأكله الأنجاس.
وقال الإِمام: احتج أصحابنا بتحديد غسل الإناء سبع مرات أنه لو كانت العلة النجاسة لكان المطلوب الإنقاء وقد يحصل في مرة واحدة.
واختلف عندنا هل يغسل الإناء من ولوغ الكلب المأذون في اتخاذه؟ فيصح أن يبنى الخلاف على الخلاف في الألف واللام في قوله: "إذا ولغ الكلب" هل هي للعهد أو للجنس؟ فإن كانت للعهد اختص ذلك بالمنهي عن اتخاذه، وهل يغسل الإناء من ولوغه في الطعام؛ أيضًا خلاف، ويصح أن يبنى على خلاف أهل الأصول في تخصيص العموم بالعادة، إذ الغالب عندهم وجود الماء لا الطعام. انتهى.
والجواب عن ذلك: إنَّا لا نسلم أن يدل تحديد الغسل بالسبع على الطهارة، بل يدل على قوة النجاسة، ولهذا أمر بالتراب في السابعة مبالغة في قصد التنظيف، ولا نسلم أيضًا أن يحصل الإنقاء في مرة واحدة؛ لأن ذلك يعرف عقلًا ويلزمهم في قولهم بالتعبد أن يقولوا بغسل جميع الإناء ما لاقى الولوغ وما لم يلقه، عملًا بحقيقة لفظ الإناء، وأما الألف واللام في "الكلب" فلتعريف الحقيقة وتفيد الاستغراق، بيان ذلك أن المعرف باللام قد يكون نفس الحقيقة من غير نظر إلى الأفراد، مثل: الرجل خير من المرأة، وقد يكون حصة معينة منها واحدًا أو أكثر مثل جاءني رجل،
فقال الرجل كذا، وقد يكون حصة غير معينة منها لكن باعتبار عهدتها في الذهن نحو: ادخل السوق. وقد يكون جميع أفرادها نحو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (1) فإذا لم توجد قرينة البعضية كيف يحمل على العهد، بل يحمل على الاستغراق؛ حتى لا تترجح بعض المتساويات، ولا يفهم من الإطلاق إلَّا الاستغراق، والعهد الذهني موقوف على وجود قرينة البعضية كما قلنا، وأما تخصيص العام بالعادة إنما يكون في موضع يستبعد حمل الكلام على عمومه، نحو ما إذا قال: لا نأكل رأسًا، فإنه يستبعد أن يتناول كلامه رأس العصفور ونحوه، بخلاف الإناء فإنه لا يستبعد -لا عقلًا ولا عادة- أن يتناول الماء والطعام، على أن البعض لم يجوز هذا التخصيص.
قوله: "فإنه" أي التعبد "في الآنية خاصة" احترز به عن الأمر بالغسل في غيرها فإنه للنجاسة.
قوله: "فكان من الحجة عليهم" أي على القوم الذين قالوا بالتعبد.
قوله: "فثبت بهذا" أي بما ذكرنا من قول رسول الله عليه السلام أن ولوغ الكلب في الماء ينجس الماء، فحينئذٍ تجب إراقته، وعلي قول الشافعي إذا كان الماء في الإناء مقدار القلتين لم تجب إراقته لأنه طاهر، وأما إذا كان غير الماء فإنه يراق وإنْ كان قلتين أو أكثر، وعن الأوزاعي إذا ولغ الكلب في إناء فيه عشرة أقساط لبن يهرق كله ويغسل الإناء سبع مرات إحداهن بالتراب، وعن المالكية قولان في غير الماء:
أحدهما: أنه طاهر لا يهرق ولكن يغسل الإناء سبعا تعبدا.
والآخر: أنه يهرق ويغسل الإناء سبعا، وقد شنع ابن حزم ها هنا على أبي حنيفة وأساء الأدب وقال: قال أبو حنيفة: لا يغسل الإناء من ولوغ الكلب إلَّا مرة واحدة، وأن كل ما في الإناء يهرق -أي شيء كان- وهذا قول لا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من التابعين؛ إلَّا ما روي عن إبراهيم أنه قال فيما ولغ الكلب:
(1) سورة العصر، آية:[2].
اغسله، وعنه: اغسله حتى تنقيه. ولم يذكر تحديدا وهو قول مخالف لسُنّة رسول الله عليه السلام واحتج له بعض مقلديه بأن أبا هريرة قد روي عنه أنه خالفه، وهو باطل؛ لأنه إنما روى ذلك الخبر الساقط عبد السلام بن حرب وهو ضعيف وعلي نحس روايته شَرَطَ الثلاث، فلم يحصلوا إلَّا على خلاف السُّنة وخلاف ما اعترضوا به عن أبي هريرة، فلا النبي عليه السلام اتبعوا، ولا أبا هريرة الذي احتجوا به قلدوا.
قلت: هذا كلام في غاية السخافة والتفاهة؛ لأن أبا حنيفة لم يقل فيه بالمرة، ولا أحد من أصحابه، بل مذهبه أن يغسل ثلاث مرات كما أفتي به أبو هريرة، وحفظ هذا عن أبي هريرة، وكيف يقول وهذا قول لا يحفظ عن الصحابة ولما ثبت نجاسة الإناء بالولوغ، ثبت نجاسة ما يجاوره، سواء كان ماء أو غيره، وهو أيضًا محفوظ عن بعض الصحابة والتابعين.
وقد روى عبد الرزاق (1): عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أنه كان يكره سؤر الكلب".
وروى (2): عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: ولغ الكلب في جفنة قوم فيها لبن فأدركوه عند ذلك، فغرفوا حول ما ولغ، قال لا تشربوه".
وحكمه على حديث عبد السلام بالسقوط ساقط باطل؛ لأن الخبر صحيح صححه جماعة من المحدثين كما ذكرناه، وعبد السلام بن حرب ثقة مأمون حافظ، أخرج له الجماعة.
وغمز أيضًا ابن قدامة في "المغني" علينا حيث قال: قال أبو حنيفة: لا يجب العدد في شيء من النجاسات إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة؛ لأنه روي عن النبي عليه السلام أنه قال في الكلب يلغ في الإناء: "يغسل ثلاثًا أو خمسًا أو
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 98 رقم 338).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 97 رقم 337).
سبعا"، فلم يعين عددا وحديثهم يرويه عبد الوهاب بن الضحاك وهو ضعيف، وقد روى غيره من الثقات: "فليغسله سبعا".
قلت: كان أبو هريرة يغسل ثلاثًا والراوي إذا روى شيئًا ثم فعل بخلافه فالعبرة عندنا لما رأى لا لما روى وقد بسطنا الكلام فيه، وأيضًا روي من طريق أبي هريرة مرفوعًا التخيير المذكور، فلو كان السبع واجبا لم يخير بينه وبين الباقي، وأيضًا هذا الأمر كان حين أمر بقتل الكلاب فلما نهي عن قتلها نسخ ذلك، وأيضًا الأمر بالسبع محمول على من غلب على ظنه أن نجاسة الولوغ لا تزول بأقل منها، وكون عبد الوهاب ضعيفًا لا يضرنا.
لأن الدارقطني (1): أخرج عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة قال:"إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه، ثم اغسله ثلاث مرات".
وهذا إسناد صحيح، وقد مر الكلام فيه مستقصى.
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 66 رقم 16).
وقال الدارقطني: هذا موقوف، ولم يروه هكذا غير عبد الملك، عن عطاء، والله أعلم.