المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: سؤر الهر - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: سؤر الهر

‌ص: باب: سؤر الهرّ

ش: أي هذا باب في بيان أحكام سؤر الهرّ، وهو السنّور، والجمع هِرَرة، مثل قرد وقردة، والأنثى هرة وجمعها هرر مثل قربة وقرب، ومن أسمائها: القط والجمع قطاط، قال الأخطل:

أكلت القطاط فأفنيتها ...... فهل في الخنانيص من مغمز

والقطة السنّورة، وجمع السنّور سنانير.

و"السؤر" بقية الماء التي يبقيها الشارب، وفي المطالع: كل بقيّة من ماء أو طعام فهو سؤر.

قلت: أصله سُؤر بضم السين وسكون الهمزة وقد يخفف بالحذف، والفاعل منه مُسئِّرٌ على القياس ولكن السماع سَأرٌ.

ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، أن مالكا حدثه، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة:"أن أبا قتادة دخل عليها، فسكبت له وضوءا، فجاءت هرّة فشربت منه، فأصغى لها أبو قتادة الأناء حتى شربت، قالت كبشة: فجعلت انظر إليه، فقال: أتعجيين يا بنت أخي؟ قالت: قلت: نعم. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات".

ش: يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، شيخ مسلم والنسائي.

وعبد الله بن وهب المصري، روى له الجماعة.

ومالك هو ابن أنس الإِمام المشهور.

وإسحاق بن عبد الله هو ابن أخي أنس بن مالك، روى له الجماعة.

ص: 143

وحميدة -بضم الحاء وعن مالك بفتحها- بنت عبيد بن رفاعة الأنصارية زوجة إسحاق المذكور، روى لها الأربعة.

وكبشة بنت كعب بن مالك الأنصارية زوجة ابن أبي قتادة، روى لها الأربعة، ووثقها ابن حبان.

وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي الخزرجي الأنصاري، واسم أبيه عبد الله.

وأخرجه الأربعة، فأبو داود (1): عن القعنبي، عن مالك

إلى آخره، مثله، غير أن قوله:"من الطوافين عليكم والطوافات" من غير شك.

والترمذي (2): عن إسحاق بن موسى (3)، عن معن، عن مالك،

إلى آخره نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

والنسائي (4): عن قتيبة، عن مالك

إلى آخره نحوه.

وابن ماجه (5): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن حباب، عن مالك

إلى آخره.

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(6) والحاكم في "مستدركه"(7) وقال: وقد صحح مالك هذا الحديث واحتج به في "موطئه" وقد شهد البخاري ومسلم لمالك أنه الحَكَم في حديث المدنيين، فوجب الرجوع إلى هذا الحديث في طهارة الهرّ، ورواه

(1)"سنن أبي داود"(1/ 19 رقم 75).

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 153 رقم 92).

(3)

في "الأصل، ك": إسحاق بن منصور، وهو تحريف، والمثبت من "جامع الترمذي"، وإسحاق ابن منصور لم يذكروا له رواية عن معن بن عيسى، وذكره المزي في "تحفة الأشراف"(9/ 272 رقم 12141) من طريق إسحاق بن موسى الأنصاري به.

(4)

"المجتبى"(1/ 55 رقم 68).

(5)

"سنن ابن ماجه"(/ 131 رقم 367).

(6)

"صحيح ابن حبان"(4/ 114 رقم 1299).

(7)

"مستدرك الحاكم"(1/ 263 رقم 567).

ص: 144

ابن خزيمة (1) وابن منده في صحيحيهما.

فإن قلت: قد قال ابن منده: وحميدة وخالتها كبشة لا تعرف لهما رواية إلَّا في هذا الحديث ومحلهما محل الجهالة، ولا يثبت هذا الخبر بوجه من الوجوه.

قلت: لعل طريق من صححه أن يكون اعتمد على إخراج مالك لروايتهما مع شهرته بالتثبت وقال البيهقي (2): قال البخاري: جوّده مالك وروايته أصح من غيره.

قوله: "فسكبت له وضوءا" بفتح الواو، وهو الماء الذي يتوضأ به.

قوله: "فأصغى لها" أي أماله ليسهل عليها الشرب، قال الجوهري: صغي يصغو ويصغِي صُغوّا أي مال، وكذلك صَغِيَ -بالكسر- يَصغِي صَغا وصُغِيّا، وصَغَت النجوم: مالت للغروب، وأَصغيتُ أنا: أملتُ.

قوله: "نَعم" بفتح النون، وكنانة تكسرها، وبها قرأ الكسائي وهي حرف تصديق ووعد وإعلام، فالأول بعد الخبر، والثاني بعد افعل ولا تفعل، والثالث بعد الاستفهام، وها هنا للإعلام.

قوله: "إنها ليست بنَجَس" بفتح النون والجيم، ويقال لكل شيء مستقذر: نجس؛ قال الله تعالى: {الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا} (3) وهذا تعليل لإصغائه الإناء إليها.

قوله: "إنها من الطوافين عليكم" تعليل لقوله: "إنها ليست بنجس" والطوافون هم بنو آدم ويدخل بعضهم على بعض بالتكرار، والطوافات هي المواشي التي يكثر وجودها عند الناس مثل الغنم والبقر والإبل، وجعل النبي عليه السلام الهرّ من القبيلين لكثرة طوافه واختلاطه بالناس، وأشار إلى الكثرة بصيغة التفعيل؛ لأنه للتكثير

(1)"صحيح ابن خزيمة"(1/ 55 رقم 104).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 245) ونقله عن الترمذي عن البخاري.

(3)

سورة التوبة، آية:[28].

ص: 145

والمبالغة، وموصوف كل واحد من الطوافين والطوافات محذوف أقيمت الصفة مقامه، ويقَدَّر ذلك بحسب ما يليق له، مثل ما يقال: خدم طوافون، وحيوانات طوافات، وقال تعالى:{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (1) يعني المماليك والخدم الذين لا يقُدَرُ على التحفّظ منهم غالبا، ثم إنَّه وقع "أو الطوافات" بحرف الشك في رواية الطحاوي، وكذا في رواية ابن ماجه، ووقع عند غيرهما بواو العطف، وقد روي الوجهان عن مالك رحمه الله.

ص: حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن كعب بن عبد الرحمن، عن جده أبي قتادة قال:"رأيته يتوضأ، فجاء الهر، فأصغى له حتى شرب من الإناء، فقلت: يا أبتاه، لم تفعل هذا؟ فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله -أو قال: هي من الطوافين عليكم".

ش: إسناده معلول بقيس بن الربيع؛ لأن فيه كلاما كثيرا.

قوله: "يا أبتاه" منادى مضاف إلى تاء المتكلم، والتاء والألف عوضان عن يائه، والهاء للسكت.

قوله: "أو قال" شك من الراوي.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، قال: ثنا أبو الرجال، عن أمه عمرة، عن عائشة رضي الله عنه أنَّهَا قالت:"كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من الإناء الواحد وقد أصاب الهرّ منه قبل ذلك".

ش: أبو بكرة بكَّار القاضي.

ومؤمل بن إسماعيل القرشي أبو عبد الرحمن البصري، وثقه ابن حبان، واستشهد به البخاري، وروى له الأربعة.

وأبو الرجال -بالجيم، جمع رجل- اسمه محمَّد بن عبد الرحمن الأنصاري، من رجال الصحيحين.

(1) سورة النور، آية:[58].

ص: 146

وأمه عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، روي لها الجماعة.

وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا [عمرو](2) بن رافع إسماعيل بن توبة، قالا: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حارثة، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كنت أتوضأ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد قد أصابت منه الهرة قبل ذلك".

وأخرجه الدارقطني (3): عن الحسين بن إسماعيل، عن زياد بن أيوب، عن ابن أبي زائدة

إلى آخره نحو رواية ابن ماجه.

وحارثة هذا وثقه الدارقطني (4)، وضعفه البخاري والنسائي وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم.

ويستفاد منه: طهارة سؤر الهرة، وجواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد، وروي فيه أحاديث كثيرة تأتي إنْ شاء الله تعالى في باب سؤر بني آدم.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا سفيان الثوري، عن حارثة ابن أبي الرجال.

ونا أبو بشر عبد الملك بن مروان الرقي، ثنا شجاع بن الوليد، عن حارثة بن محمَّد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.

ش: هذان طريقان آخران:

أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري،

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 131 رقم 368).

(2)

في "الأصل، ك": أبو عمرو، وهو تحريف، والمثبت من "سنن ابن ماجه"، وعمرو بن رافع هو ابن الفرات بن رافع أبو حجر القزويني شيخ ابن ماجه، مترجم في "تهذيب الكمال"(22/ 19).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 69 رقم 17).

(4)

لم أجد هذا التوثيق عن الدارقطني، ولم ينقله عنه أحد إلا المصنف وأظنه وهم فيه، وفي علل الدارقطني (5/ ق 97): قال الدارقطني: ليس بالقوي، فعلى كل فحارثة متفق على تضعيفه، وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال"(5/ 313 - 316)، وميزان الاعتدال (1/ 446).

ص: 147

عن حارثة بن أبي الرجال -بالجيم- عن عمرة، عن عائشة.

والآخر: عن عبد الملك، عن شجاع بن الوليد

إلى آخره.

وحارثة هذا مختلف فيه (1) وقد ذكرناه الآن.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا خالد بن عمرو الخراساني، قال: ثنا صالح ابن حسان، قال: ثنا عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصغي الأناء للهر ويتوضأ بفضله".

ش: صالح بن حسان النضري أبو الحارث المدني، ضعيف متروك، روى له أبو داود في "المراسيل" والترمذي وابن ماجه.

وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(2): ثنا موسى، ثنا محمَّد بن المبارك، ثنا عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن داود بن صالح، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام يصغي لها لإناء لتشرب ثم يتوضأ بفضلها- يعني الهرة".

قلت: رجاله موثقون.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذه الآثار فلم يروا بسؤر الهرِّ بأسا.

ش: أراد بالقوم: الشافعي ومالكا وأحمد والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبا عُبيد.

وفي "المغني" لابن قدامة: السنور وما دونها في الخلقة كالفأرة وابن عرس ونحوهما من حشرات الأرض سؤرها طاهر يجوز شربه والوضوء به ولا يكره، وهذا قول كثير أهل العلم من الصحابة والتابعين من أهل المدينة والشام وأهل الكوفة وأصحاب الرأي إلَّا النعمان، فإنه كره الوضوء بسؤر الهرّ فإن فعل أجزأه. وروي عن ابن عمر أنه كرهه، وكذلك يحيى الأنصاري وابن أبي ليلى، وقال

(1) انظر التعليق السابق، فهو متفق على تضعيفه.

(2)

"المعجم الأوسط"(8/ 55 رقم 7949).

ص: 148

أبو هريرة: يغسل مرة أو مرتين، وبه قال ابن المسيب، وقال الحسن وابن سيرين: يغسل مرة. وقال طاوس: يغسل سبعا كالكلب؛ ولأنها سبع فكره سؤرها كبقية السباع.

ص: وممن ذهب بلى ذلك أبو يوسف ومحمد.

ش: أي ومن الذين ذهبوا إلي طهارة سؤر الهر من غير كراهة الإِمام أبو يوسف ومحمد، وقد ذكر أكثر أصحابنا قول محمَّد مع أبي حنيفة.

وقال صاحب "الإيضاح": والنوع الثاني من الأسئار الطاهرة المكروهة هو سؤر الهرة في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يكره.

وقال صاحب "الهداية": وسؤر الهرة طاهر مكروه. وعن أبي يوسف أنه غير مكروه.

وكذا أثبت الخلاف صاحب المنطوق وغيره، والذي ذكره الطحاوي أن محمدًا مع أبي يوسف هو الأصح، ألا ترى أنه روى حديث مالك المذكور في "موطئه" ثم قال: قال محمَّد: لا بأس بأن تتوضأ بفضل سؤر الهرة، وغيره أحب إلينا منه. وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوه.

ش: أي خالف القوم المذكورين في سؤر الهر جماعة آخرون، وأراد بهم: طاوسًا وابن سيرين وابن أبي ليلى ويحيى الأنصاري وأبا حنيفة؛ فإنهم كرهوا سؤر الهرة وهو المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما.

فإن قلت: أهي كراهة تحريم أم تنزيه؟ قلت: كان الطحاوي يقول: كراهة سؤرها كحرمة لحمها.

وهذا يدل على أنه إلى التحريم أقرب، وقال الكرخي: كراهة سؤرها لأنها تتناول الجيف فلا يخلو فمها عن نجاسة عادة.

وهذا يدل على أنه كراهة تنزيه وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الآثار.

ص: 149

ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى أن حديث مالك عن إسحاق ابن عبد الله لا حجة لهم فيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات" لأن ذلك قد يجوز أن يكون أريد به كونها في البيوت ومماسّتها الثياب، فأمّا ولوغها في الماء فليس في ذلك دليل على أن ذلك يوجب النجاسة أم لا، وإنما الذي في الحديث من ذلك من فعل أبي قتادة، فلا ينبغي أن يحتج من قول رسول الله عليه السلام بما قد يحتمل المعنى الذي احتج به فيه ويحتمل خلافه، وقد رأينا الكلاب كونها في المنازل، للصيد والحراسة والزرع غير مكروه وسؤرها مكروه، فقد يجوز أيضًا أن يكون ما روي عن رسول الله عليه السلام مما في حديث أبي قتادة أريد به الكون في المنازل وليس في ذلك دليل على حكم سؤرها هل هو مكروه أم لا؟.

ش: أي كان من الحجة للآخرين على أهل المقالة الأولى وهم أبو يوسف والشافعي ومالك وأحمد ومن تبعهم، تحرير هذا الكلام: أن احتجاج هؤلاء في مدعاهم بحديث مالك غير تام؛ لأنه قد يجوز أن يكون الرسول عليه السلام أراد من قوله: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين والطوافات" باعتبار كون الهرّ في البيوت وملاصقتها ثيابهم ونومها معهم في فرشهم، وبالاحتمال لا تقوم الحجة، وأما ولوغها في الماء فليس في الحديث دليل أن ذلك يوجب نجاسة سؤرها أم لا، وإنما الذي في الحديث من ذلك وهو إصغاء الإناء للهرّ للشرب، فِعْلُ أبي قتادة وليس بفعل الرسول عليه السلام ولا حكاية عن فعله، فلا يحتج من قول رسول الله عليه السلام بما ذكرنا من الاحتمال.

قوله: "ويحتمل خلافه" جملة وقعت حالًا أي بما قد يحتمل المعنى الذي احتج به الخصم فيه حال كونه محتملا لغيره، وهو الذي ذكره من قوله: "قد يجوز أن يكون أريد به

" إلى آخره.

قوله: "وقد رأينا الكلاب

" إلى آخره ذكره تأييدا وأيضًاحا لما ذكره من الاحتمال بقوله: "لأن ذلك قد يجوز أن يكون أريد به كونها في البيوت ومماستها

ص: 150

الثياب" تحريره أن يقال: إنَّ الكلاب تكون في البيوت للصيد أو الحراسة أو الزرع وهو غير مكروه مع أن سؤرها مكروه فيجوز أن يكون ما روي في حديث أبي قتادة من هذا القبيل وليس فيه دليل على حكم سؤرها. على أنَّا نقول: قد خالف أبا قتادة رجلان من أصحاب النبي عليه السلام أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهم فذهبا إلى نجاسة سؤرها، فلم يكن مذهب أبي قتادة أولى من مذهبهما، على أنه قد وافقهما جماعة من التابعين.

ص: ولكن الآثار الآخرى، عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إباحة سؤرها؛ فنريد أن ننظر هل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالفها؟ فنظرنا في ذلك فإذا: أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، قال: ثنا محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"طهور الإناء إذا ولغ فيه الهرّ أن يغسل مرة أو مرتين" قرة بن خالد شك.

وهذا حديث متصل الإسناد فيه خلاف ما في الآثار الأول، وقد فَضَلهَا هذا الحديث بصحة إسناده، فإن كان هذا الأمر يؤخذ من جهة الإسناد فإن القول بهذا أولي من القول بما خالفه.

ش: لما بيّن أن حديث أبي قتادة لا يتم به الاحتجاج للاحتمال الذي ذكره، استدرك وقال: لكن أحاديث عائشة رضي الله عنها -المذكورة صريحة بإباحة سؤرها فيُحتاج إلى النظر هل ورد عن النبي عليه السلام ما يخالف أحاديث عائشة، فنظرنا فإذا عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام ما يخالفها، ففي مثل هذا لا يؤخذ إلَّا بالأصح والأقوي، وهذا معنى قوله:"فإن كان هذا الأمر يؤخذ من جهة الإسناد فإن القول بهذا" أي بحديث أبي هريرة "أولى"؛ لأن سنده صحيح ورجاله رجال الصحيحين ما خلا أبا بكرة بكَّار القاضي.

وأبو عاصم اسمه الضحاك بن مخلد.

ص: 151

وأخرجه الدارقطني (1): ثنا أبو بكر النيسابوري، قال: ثنا حماد بن الحسن وبكار بن قتيبة، قالا: ثنا أبو عاصم

إلى آخره نحوه.

قوله: "طُهور الإناء" بضم الطاء، بمعنى طهارة الإناء.

قوله: "إذا ولَغ" من الولوغ، يقال: ولَغ الكلب في الإناء يلَغ -بفتح اللام فيهما- ولوغا، إذا شرب بأطراف لسانه، وعن ثعلبة أنه يقال: وَلِغَ -بكسر اللام- ولكنها غير فصيحة، وتبعه في ذلك أبو علي القالي وابن سيده وابن القطاع وأبو حاتم السجستاني، وزاد: وسكَّن بعضهم اللام فقال: وَلْغَ.

وقال ابن جني: مستقبله يَلغ بفتح اللام وكسرها، وفي مستقبل وَلِغَ -بالكسر- يلَغ بالفتح.

زاد ابن القطاع: ويلَغ بفتح اللام كما في الماضي.

وقال ابن خالويه: ولَغَ يَلَغُ وُلُوغا وولْغَانا، وولِغ وُلُوغا وَوَلَغا وولُوغا ووَلَغَانا.

قال أبو زيد: يقال: ولغ الكلب بشرابنا وفي شرابنا ومن شرابنا.

وقال ابن الأثير: وأكثر ما يكون الولوغ في السباع.

وقال ابن قرقول: كل ولوغ شرب وليس كل شرب بولوغ، والشرب أعم، ولا يكون الولوغ إلَّا للسباع، وكل من يتناول الماء بلسانه دون شفتيه.

فإذًا الولوغ صفة من صفات الشرب يختص بها اللسان، والشرب عبارة عن توصيل المشروب إلى محله من داخل الجسم، ألا ترى أنه يقال: شربت الثمار، والشجر والأرض؟ والمصدر من وَلَغ الكلب: الوُلُوغ -بالضم- قال الخطابي: فإذا كثر فهم الوَلُوغ- بالفتح.

وقال المُطرزّ: الولْغ من الكلاب والسباع كلها: هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع يحركه تحريكًا قليلًا أو كثيرًا.

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 67 رقم 8).

ص: 152

وقال مكي في شرحه: فإن كان غير مائع يقال: لعِقه وَلَحِسَه.

قال المطرز: فإن كان الإناء فارغا يقال: لَحِسَ، وإنْ كان فيه شيء يقال: ولغ.

وقال ابن درستويه: معني ولغ لَطِعه بلسانه، شرب منه أو لم يشرب، كان فيه ماء أو لم يكن، ولا يقال: ولغ في شيء من جوارحه سوى لسانه.

ص: فإن قال قائل: فإن هشام بن حسان قد روى هذا الحديث عن محمَّد بن سيرين فلم يرفعه، وذكر في ذلك ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: أخبرني وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن حسان، عن محمَّد، عن أبي هريرة قال:"سؤر الهرّ يُهراقُ ويغسل الإناء مرة أو مرتين".

قيل له: ليس في هذا ما يجب به فساد حديث قرة؛ لأن محمَّد بن سيرين قد كان يفعل هذا في أحاديث أبي هريرة يقفها عليه، فإذا سئل عنها هل هي عن النبى عليه السلام؟ رفعها.

ش: تقرير السؤال أن حديث عائشة المذكور مرفوع لم يَقِفَهُ أحد، وحديث أبي هريرة وقفه هشام بن حسان، فكيف يرجح على حديث عائشة؟! والجواب ظاهر، و [قال](1) المحدثون في خبر يروى موقوفا على بعض الصحابة بطريق ومرفوعا إلى رسول الله عليه السلام بطريق فإن كان يرويه عن رسول الله عليه السلام من هو في الطبقة العليا فإنه يثبت مرفوعا، وإنْ كان إنما يرويه عن رسول الله عليه السلام من ليس في الطبقة العليا ويرويه موقوفا من هو في الطبقة العليا فإنه يثبت موقوفا، وكذلك قالوا في المرسل والمسند، ولكن الفقهاء لم يأخذوا بهذا القول؛ لأن الترجيح عند أهل الفقه يكون بالحجة لا بأعيان الرجال (2).

(1) في "الأصل، ك": وقالت.

(2)

قلت: مدار الأمر عند الاختلاف على الضبط لا على المعاني، فالحجة عند الاختلاف تكون مع الأضبط والأتقن والأكثر.

ص: 153

وأخرجه الدارقطني (1) أيضًا موقوفًا في إحدى رواياته: عن النيسابوري، عن أحمد بن يوسف وإبراهيم بن هانئ كلاهما، عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة "في الهر يلغ في الإناء قال: اغسله مرة أو مرتين" وكذلك عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة موقوفًا.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة "في الهر يلغ في الإناء قال: اغسله مرة وأهرقه".

ص: والدليل على ذلك ما حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يحيى بن عتيق، عن محمَّد بن سيرين:"أنه كان إذا حدث عن أبي هريرة فقيل له: عن النبي عليه السلام؟ فقال: كل حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام". وإنما كان يفعل ذلك؛ لأن أبا هريرة لم يكن يحدثهم إلَّا عن النبي عليه السلام؛ فأغناه ما أعلمهم من ذلك في حديث ابن أبي داود أن يرفع كل حديث يرويه لهم محمَّد عنه، فثبت بذلك أيضًا اتصال حديث أبي هريرة هذا مع ثبت قرة وضبطه وإتقانه.

ش: أي الدليل على أن محمد بن سيرين قد كان يقف أحاديث أبي هريرة عليه فإذا سئل هل هي عن النبي عليه السلام رفعها و"هو" مبتدأ قلت: "ما حدثنا" خبره.

وإبراهيم بن عبد الله بن حاتم الهروي شيخ الترمذي وابن ماجه، وثقه الدارقطني، وضعفه أبو داود.

وإسماعيل بن إبراهيم بن مقسم البصري المعروف بابن عُلية، روى له الجماعة.

ويحيي بن عتيق الطفاوي البصري، استشهد به البخاري، وروى له مسلم.

قوله: "فأغناه" أي أغني محمَّد بن سيرين.

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 68 رقم 9).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 99 رقم 344).

ص: 154

"ما أعلمهم من ذلك" أي ما أعلم الناس من أن أبا هريرة لم يكن يحدثهم إلَّا عن النبي عليه السلام.

قوله: "محمَّد عنه" أي عن أبي هريرة.

قوله: "مع ثبت قرة" أشار به إلى أن قرة بن خالد الذي رفع الحديث أثبت من هشام بن حسان الذي وقفه، قال يحيى بن سعيد: قرة بن خالد عندنا من أثبت شيوخنا. وروى له الجماعة.

ص: ثم قد روي ذلك أيضًا عن أبي هريرة موقوفًا من غير هذا الطريق: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال:"يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب".

ش: أي ثم قد روي حديث غسل الإناء من الهر عن أبي هريرة موقوفًا عليه من غير طريق قرة بن خالد.

وسعيد بن كثير -بفتح الكاف- بن عُفَير -بضم العين وفتح الفاء- الأنصاري، المصري أحد مشايخ البخاري وروى له مسلم.

ويحيي بن أيوب الغافقي المصري، روى له الجماعة.

وابن جريج اسمه عبد الملك، أبو خالد المكي، روى له الجماعة.

وعمرو بن دينار المكي، روى له الجماعة.

وأبو صالح اسمه ذكوان المدني، روى له الشيخان.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث سعيد بن عفير، عن يحيى بن أيوب، إلى

آخره نحو رواية الطحاوي.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 248 رقم 1107).

ص: 155

ورواه الدارقطني (1): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا غيلان بن المغيرة، ثنا ابن أبي مريم، ثنا يحيى أيوب، أخبرني خير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:"يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب".

ورواه أيضًا مرفوعا (2) قال: ثنا علي بن محمَّد المصري، ثنا روح بن الفرج، ثنا سعيد بن عفير، ثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغسل الإناء من الهرة كما يغسل من الكلب".

وقال عبد الحق: قال الدارقطني لا يثبت هذا مرفوعًا، والمحفوظ من قول أبي هريرة، واختلف عنه (3).

فإن قلت: هذا يقتضي أن يكون سؤر الهرّ نجسا كسؤر الكلب لأنهما تساويا في هذا الحكم.

قلت: لا نسلم ذلك، فإن التشبيه لا عموم له، ولئن سلمنا ولكن تنجيسه قد سقط بعلة الطوف، ولا يلزم من سقوط النجاسة سقوط الكراهة، فافهم.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن خير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثله.

ش: هذا طريق آخر بإسناد صحيح، وأخرجه بهذا الطريق الدارقطني وقد ذكرناه الآن (4).

وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم بن سالم المعروف بابن أبي مريم أبو محمَّد المصري، أحد مشايخ البخاري.

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 68 رقم 10) وقال الدارقطني عقبه: هذا موقوف، ولا يثبت عن أبي هريرة، ويحيى بن أيوب في بعض أحاديثه اضطراب.

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 68 رقم 11).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 68 رقم 10).

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 156

وخير بن نعيم قاضي مصر، روى له مسلم.

وأبو الزبير اسمه محمَّد بن مسلم.

وأبو صالح ذكوان.

ص: وقد روي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم.

ش: أي قد روي غسل الإناء من ولوغ الهر عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم روى أبو جعفر من ذلك ما روي عن ابن عمر من الصحابة فقط، وروى النسائي (1) من رواية أبي الزبير عن جابر بن عبد الله:"أنه عليه السلام نهى عن ثمن الكلب والسنور" وإنما نهى عن ذلك لنجاستهما، فصار الهر كالكلب، إلَّا أن تنجيسه سقط بعلة الطوف فبقيت الكراهة، وروي من التابعين عن سعيد والحسن فقط على ما يجيء.

وروى عبد الرزاق (2): عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: الهر. قال: هو بمنزلة الكلب أو أشر منه".

وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب، عن محمَّد "في الإناء (تلغ فيه الهرة) (4) قال: يغسل مرة".

ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: أخبرنا أبو بكر الحنفي، قال: حدثنا عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنه:"أنه كان لا يتوضأ بفضل الكلب والهرّ، وما سوى ذلك فليس به بأس".

ش: أبو بكر الحنفي اسمه عبد الكبير بن عبد المجيد البصري، من جملة أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة.

وعبد الله بن نافع ضعيف متروك الحديث، روى له ابن ماجه.

(1)"المجتبى"(7/ 309 رقم 4668) ورواه أحمد في "مسنده"(3/ 386 رقم 15176).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 98 رقم 342).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 37 رقم 340).

(4)

في "المصنف": يلغ فيه الهّر. بالتذكير.

ص: 157

وأبوه نافع مولى ابن عمر، روي له الجماعة.

وروى عبد الرزاق (1): عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يكره سؤر السنور".

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الربيع بن يحيى الأشناني، قال: ثنا شعبة، عن واقد بن محمَّد، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال:"لا تتوضئوا من سؤر الحمار ولا الكلب ولا السنور".

ش: إسناده صحيح. والأشناني نسبة إلى بيع الأشنان.

وأخرجه عبد الرزاق (2): عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يكره سؤر الحمار والكلب والهرّ أن يتوضأ بفضلهم".

عبد الرزاق (3): عن الثوري، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مثله.

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن أبي عُبيد الله، عن قتادة، عن سعيد قال:"إذا ولغ السنّور في الإناء فاغسله مرتين أو ثلاثًا".

ش: إسناده صحيح. وسعيد هو ابن المسيب.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): عن هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال:"يغسل مرتين أو ثلاثًا -يعني إذا ولغ السنور في الإناء".

(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 98 رقم 340).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 105 رقم 373).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 105 رقم 374).

(4)

الذي في "مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 37 رقم 344) من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب ولفظه:"يغسل مرتين".

ورواه (1/ 38 رقم 345) من طريق هشام، عن قتادة من قوله:"يغسل مرتين أو ثلاثًا".

ص: 158

ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج -يعني ابن المنهال- قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب:"في السنّور يلغ في الإناء، قال أحدهما: يغسله مرة. وقال الآخر: يغسله مرتين".

ش: إسناد صحيح، وحماد هو ابن سلمة.

والحسن هو البصري.

قوله: "قال أحدهما" أراد به الحسن على ما روى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) عن معمر، عن يونس، عن الحسن:"أنه سئل عن الإناء يلغ فيه السنور قال: يغسل (مرة) (2) ".

وأراد بقوله: "وقال الآخر" سعيد بن المسيب على ما رواه إبراهيم بن مرزوق في الخبر السابق.

وروى عبد الرزاق (3): عن معمر عن قتادة قال: "سألت ابن المسيب عن الهرّ يلغ في الإناء قال: يغسل مرة أو مرتين. قال: وكان الحسن يقول: مرة أو ثلاثًا".

ص: حدثنا سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا همام، عن قتادة، قال: كان سعيد بن المسيب والحسن يقولان: "اغسل الإناء ثلاثًا -يعني من سؤر الهرّ".

ش: سليمان بن شعيب هذا من أصحاب محمَّد بن الحسن، قال في التهذيب: فقيه.

والخَصيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح القرشي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان.

وهمام هو ابن يحيى بن دينار العوذي البصري، روى له الجماعة.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 37 رقم 341).

(2)

ليست في "المصنف".

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 99 رقم 345).

ص: 159

ص: ثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرّة، عن الحسن:"في هرّ ولغ في الإناء وشرب منه، قال: يُصب ويغسل الإناء مرة".

ش: أبو بكرة بكَّار القاضي.

وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي صاحب المسند.

وأبو حرّة -بضم الحاء المهملة وتشديد الراء- اسمه واصل بن عبد الرحمن البصري، روى له مسلم.

وقد ذكرنا الفرق بين الولوغ والشرب في هذا الباب.

ص: حدثنا روح بن الفرج القطان، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عُفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب: "أنه سأل يحيى بن سعيد عما لا يتوضأ بفضله من الدواب، فقال: الخنزير والكلب والهرّ".

ش: روح وثقه الخطيب، وروى عنه الطبراني.

ويحيي بن أيوب الغافقي المصري.

ويحيى بن سعيد الأنصاري المدني قاضيها، روى له الجماعة.

قوله: "بفضله" أي سؤره، وقد سوى يحيى بن سعيد بين الكلب والخنزير والهر فيكون سؤر الثلاثة سواء، وقول عطاء بن أبي رباح مثله، وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1): ثنا وكيع، عن الحسن بن علي، قال: سمعت عطاء يقول في الهر يلغ في الإناء: "يغسله سبع مرات".

وقد ورد في الحديث "الهِر سبعٌ" رواه أحمد في "مسنده"(2): بهذا اللفظ، وكذا رواه إسحاق بن راهوية (3) وابن أبي شيبة (4) في "مسنديهما" بهذا اللفظ،

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 37 رقم 342).

(2)

"مسند أحمد"(12/ 442 رقم 9706) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

"مسند إسحاق بن راهوية"(1/ 222 رقم 178).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 37 رقم 343).

ص: 160

كلهم عن وكيع (1).

ورواه الحكم في "مستدركه"(2): من حديث عيسى بن المسيب، ثنا أبو زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "السنور سبع".

قال الحكم: حديث صحيح ولم يخرجاه، وعيسى هذا تفرد عن أبي زرعة إلَّا أنه صدوق ولم يجرح قط. انتهي.

وتعقبه الذهبي في مختصره وقال: ضعفه أبو داود وأبو حاتم. انتهى.

وقال ابن أبي حاتم في "علله"(3): قال أبو زرعة: لم يرفعه أبو نعيم وهو أصح، وعيسى ليس بالقوي. انتهى.

ورواه الدارقطني في "سننه"(4): بقصة فيه عن أبي النضر، عن عيسى بن المسيب، قال: حدثني أبو زرعة، عن أبي هريرة قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دار فشق ذلك عليهم، فقالوا: يا رسول الله، تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا! فقال عليه السلام: لأن في داركم كلبا. قالوا: فإن في دارهم سنورا. فقال عليه السلام: السنور سبع".

ثم أخرجه مختصرا (5): من جهة وكيع ومحمد بن ربيعة، كلاهما عن [عيسي](6) بن المسيب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "السنور سبع". وقال وكيع: "الهر سبع".

ص: وقد شدَّ هذا القولَ النظرُ الصحيحُ؛ وذلك أنا رأينا اللُّحْمَان على أربعة أوجه:

(1) أي كلهم عن وكيع عن عيسى بن المسيب عن أبي زرعة عن أبي هريرة به.

(2)

"مستدرك الحاكم"(1/ 292 رقم 649).

(3)

"علل ابن أبي حاتم"(1/ 44 رقم 98).

(4)

سنن الدارقطني (1/ 63 رقم 5).

(5)

"سنن الدارقطني"(1/ 63 رقم 6).

(6)

في "في الأصل": سعيد وهو سبق قلم، والمثبت من "سنن الدارقطني" ويدل عليه ما تقدم من الروايات.

ص: 161

فمنها لحم طاهر مأكول، وهو لحم الإبل والبقر والغنم فسؤر كل ذلك طاهر؛ لأنه ماسَّ لحما طاهرا.

ومنها لحم طاهر غير مأكول، وهو لحم بني آدم وسؤرهم طاهر؛ لأنه ماسَّ لحما طاهرا.

ومنها لحم حرام، وهو لحم الخنزير والكلب فسؤر ذلك حرام؛ لأنه ماسَّ لحما حراما.

فكان حكم ما ماسَّ هذه اللحمان الثلاثة كما ذكرنا يكون حكمه حكمها في الطهارة والتحريم.

ومن اللحمان أيضًا لحم قد نُهي عن كله، وهو لحم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السِّباع، فمن ذلك السنور وما أشبهه فكان ذلك منهيّا عنه ممنوعا من أكل لحمه بالسُّنة، فكان في النظر أيضًا سؤر ذلك حكمه حكم لحمه؛ لأنه ماسَّ لحما مكروها فصار حكمُه حكمَه، كما صار حكم ما ماسَّ اللحمان الثلاثة الأول حكمها، فثبت بذلك كراهة سؤر السنور.

ش: "شدَّ" بالدال المهملة أي قوّى، وأيّد هذا القول أشار به إلى قول من ذهب إلى كراهة سؤر الهرّ.

قوله: "النظر الصحيحُ" فاعله و "هذا القولَ" بالنصب مفعوله.

قوله: "وذلك" إشارة إلى النظر الصحيح في محل الرفع على الابتداء، وقوله:"أَنَّا رأينا" خبره ولهذا فتحت "أنّ" وأراد بالنظر الصحيح: القياس، وهو ظاهر.

قوله: "فسؤر كل ذلك طاهر" فإن قلت: ليس هذا على عمومه؛ لأن الإبل الجلالة والبقر الجلالة سؤرهما مكروه.

قلت: كراهة سؤرهما ليست مبنية على ما ذكر، وإنما هي لكونها تأكل النجاسات حتى لو حبست ومنعت من ذلك صار سؤرهما طاهرا على ما كان.

ص: 162

قوله: "وسؤرهم" أي سؤر بني آدم طاهر، وهذا عام في كل آدمي سواء كان مسلما أو كافرا صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى طاهرا أو نجسا حائضا أو جُنبا إلَّا في حال شرب الخمر لنجاسة فمه حينئذ، وقيل: هذا إذا شرب الماء من ساعته، فأما إذا شرب بعد ساعة [

] (1) يبلع بصاقه فيها ثلاث مرات يكون طاهرا عند أبي حنيفة، خلافا لهما بناء علي مسألتين:

إحداهما: إزالة النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن بما سوى الماء من المائعات الطاهرة.

والثانية: إزالة النجاسة الحقيقية بالغسل في الأواني ثلاث مرات، وأبو يوسف مع أبي حنيفة في المسألة الأولى ومحمد في الثانية، لكن اتفق جوابهما في هذه المسألة لأصلين مختلفين:

أحدهما: أن الصب شرط عند أبي يوسف فلم يوجد.

والثاني: أن ما سوى الماء من المائعات ليس بطهور عند محمَّد.

قوله: "فسؤر ذلك حرام" فإن قلت: لا يلزم من كون سؤرهما حراما كونه نجسا.

قلت: القصد ها هنا بيان أقسام اللحمان وإثبات النجاسة في هذا القسم يحصل ضمنا؛ وذلك لأنه لم يحرم إلَّا لقذارته ونجاسته، وقد قال بعض أصحابنا: نجاسة سؤر الكلب حكم ثابت بدلالة الإجماع؛ لأن الإجماع لما انعقد على وجوب غسل الإناء بولوغه كان لهذا الإجماع دلالة على نجاسة الماء؛ لأن لسان الكلب لم يلاق الإناء وإنما لاقى الماء، ولما ورد الشرع بتنجس الإناء مع أن لسانه لم يلاق الإناء فلأن يَرِد بتنجيس الماء ولسان الكلب لاقاه كان أولى.

فإن قيل: يمكن أن يكون المراد من الأمر بالغسل من الولوغ لكونه قد نجس الإناء فحينئذ كان لسانه ملاقيا للإناء فلم يتم الاستدلال بالأولوية.

(1) كلمة غير واضحة في "الأصل، ك".

ص: 163

قلت: الحقيقة لا تترك ما لم يقم الدليل على المجاز، فحقيقة الولوغ شرب الكلب المائعات بأطراف لسانه كما ثبت ذلك في كتب اللغة.

قوله: "لحم قد نهي عن أكله وهو لحم الحمر الأهلية" لما روى مسلم في "صحيحه"(1): من حديث علي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية".

وكذلك لحم كل ذي ناب من السباع؛ لما روى مسلم (2): من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير".

قوله: "فمن ذلك السنور" أي من كل ذي ناب من السباع السنور.

"وما أشبهه" كابن عرس ودَلَق ونمس ونحوها؛ لقوله: عليه السلام "السنور سبع" فظهر من هذا الكلام أن كراهة سؤر الهرة عند الطحاوي لحرمة لحمها يدل أنه إلى التحريم أقرب، وعند الكرخي: لتناولها الجيف فلا يخلو فمها عن نجاسة عادة، فهذا يدل على أن كراهته تنزيه، وقد ذكرناه مرة.

فإن قيل: كان ينبغي على ما ذكره أن يكون سؤره نجسا؛ لأن لحمه منهي عنه فيكون حراما؛ فإذا كان حراما يكون كالكلب والخنزير.

قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن الحرمة عارضة عليه لأنه ما حرّم إلَّا حين حرم السباع، فتكون نجاسته عنده عارضة لتناول اسم السبع عليه، فلم يؤثر ذلك في نجاسة سؤره، على أن حديث الطوف يدل على طهارة سؤره، فصار لسؤره شبهان: إنْ نظرنا إلى أنه سبع يقتضي أن يكون سؤره نجسا، وإنْ نظرنا إلى قوله عليه السلام:"إنها ليست بنجس" يقتضي أن يكون طاهرا، لكن لما انتفى التنجيس بعلة الطواف، بقيت الكراهة، وهذا هو التحقيق في هذا المقام.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1027 رقم 1407).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1534 رقم 1934).

ص: 164

قوله: "فصار حكمُه حكمَه" برفع الأول ونصب الثاني أي صار حكم سؤر الهر كحكم لحمه.

قوله: "فثبت بذلك" جواب شرط محذوف، أي إذا تقرر هذا ثبت بذلك.

ص: فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة.

ش: أي بهذا القول وهو كراهة سؤر الهر نأخذ، أشار بهذا إلى أن هذا القول هو اختياره، ومما ورد في الباب مما يوافق مذهب أبي يوسف ومن تبعه.

ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن معمر، عن أبي إسحاق قال:"ولغ هرّ في لبن لآل أبي قيس فأراد أهله أن يهريقوا اللبن، فنهاهم عن ذلك وأمرهم أن يشربوه".

عبد الرزاق (2): عن الثوري، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، عن حسين بن علي رضي الله عنه:"أن امرأة سألت عن السنور يلغ في شرابي، فقال: الهرّ؟ قالت: نعم. قال: فلا تهريقي شرابك ولا طهورك، فإنه لا ينجس شيئا".

عن عبد الرزاق (3): عن معمر، عن قتادة وأيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"الهرّ من متاع البيت".

عبد الرزاق (4): عن الثوري، عن الحسن بن عُبيد الله، عن إبراهيم قال:"السنور من أهل البيت".

عبد الرزاق (5): عن إبراهيم بن محمَّد، قال: أخبرني صالح مولى التوأمة، قال: سمعت أبا قتادة يقول: "لا بأس بالوضوء من فضل الهرّ، إنما هي من عيالي".

(1)"مصنف عبد الرزاق" 1/ 101 رقم 354).

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 1/ 102 رقم 357).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 102 رقم 358).

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 103 رقم 36).

(5)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 100 رقم 350).

ص: 165

وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن أبي إسحاق قال:"ولغ هرّ في لبن لآل علقمة، فأرادوا أن يهريقوه، فقال علقمة: إنَّه ليتفاحش في صدري أن أهريقه".

ثنا (2) روح بن عبادة، عن محمَّد بن عبد الرحمن العرني، قال: سمعت محمَّد بن علي يقول: "لا بأس أن يتوضأ بفضل الهرّ. ويقول: هي من متاع البيت".

ثنا (3) عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن عكرمة قال:"كان العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه يوضع له الوضوء فيشغله الشيء، فيجيء الهرّ فيشرب منه، فيتوضأ منه ويصلي".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 37 رقم 338).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 37 رقم 331).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 37 رقم 334).

ص: 166