المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض الأدلة على قبول خبر الآحاد - نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين

[أحمد بن حجر آل بوطامي]

الفصل: ‌بعض الأدلة على قبول خبر الآحاد

‌بعض الأدلة على قبول خبر الآحاد

الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل الرسل إلى ملوك العرب وغيرهم، يدعوهم إلى الإسلام، ومعلوم أن المرسل من الرسول كان رجلًا واحدًا أو اثنين ومعه كتاب، ولم تكن تلك الرسالة بدرجة التواتر، ومع ذلك أسلم من أسلم ورأى أن الحجة قد قامت على من أبى بواسطة إرسال ذلك الرسول، ولو لم تقم الحجة على المرسل إليهم بإرسال الرسول أو المرسولين، ويجب عليهم أن يقبلوا خبر رسول الرسول ويسلموا. لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى كسرى وقيصر، وملك اليمامة وابني الجلندي ملك عمان وغيرهم.

كما أنه أرسل معاذا إلى اليمن وقال: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، -وفي رواية-: إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» الحديث أخرجه البخاري ومسلم.

الثاني: أن المسلمين لما أخبرهم العدل الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح، أن القبلة قد

ص: 137

حولت إلى الكعبة قبلوا خبره، وتركوا الجهة التي كانوا عليها، واستداروا إلى القبلة، ولم ينكر عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ بل شكروا على ذلك، وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى.

فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به، المعلوم لخبر لا يفيد العلم، وغاية ما يقال فيه أنه خبر اقترن به قرينة، وكثير منهم يقول:"لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها، وهذا في غاية المكابرة".

ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة له بالقبول وروايته قرنا بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها، فبأي قرينة فرضتها، كانت أقوى منها.

والثالث: قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الإسراء- 36- أي لا تتبعه ولا تعمل به، ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها، ويثبتون للَّه تعالى بها الصفات، فلو كانت لا تفيد علمًا لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم.

الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}

ص: 138

وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«بلغوا عني ولو آية» وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: «أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت» .

ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ، ويحصل به العلم، ولو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة اللَّه على العباد، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم.

وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه، فتقوم الحجة على من بلغه.

وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسنته، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل.

ص: 139

فيلزم من قال أن أخبار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم أحد أمرين:

إما أن يقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ غير القرآن، وما رواه عنه عدد التواتر وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ.

وإما أن يقول: "أن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علمًا، ولا يقتضي عملًا، وإذا بطل هذان الأمران بطل القول بأن أخباره صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علمًا، وهذا أمر ظاهر لا خفاء به.

الخامس: قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علمًا، وهو سبحانه لم يقل سلوا عدد التواتر، بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقًا، فلو كان واحدًا لكان سؤاله وجوابه كافيًا.

السادس: أن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم العلم، يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم

ص: 140

وأقوالهم أنهم قالوا، ولو قيل لهم أنها لم تصح عنهم لأنكروا ذلك غاية الإنكار وتعجبوا من جهل قائله، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد أو الاثنان والثلاثة ونحوهم لم يروها عنهم عدد التواتر، وهذا معلوم يقينًا.

فكيف حصل لهم العلم الضروري أو المقارب للضروري بأن أئمتهم ومن قلدوهم دينهم أفتوا بكذا وذهبوا إلى كذا، ولم يحصل لهم العلم بما أخبر به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا بما رواه عنهم التابعون وشاع في الأمة وذاع، وتعددت طرقه وتنوعت، وكان حرصه عليه أعظم بكثير من حرص أولئك على متبوعيهم. إن هذا لهو العجب العجاب.

وهذا وإن لم يكن نفسه دليلًا لكنه يلزمهم أحد أمرين:

إما أن يقولوا أخبار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفتاواه وأقضيته تفيد العلم.

وإما أن يقولوا أنهم لا علم لهم بصحة شيء مما نقل عن أئمتهم، وأن النقول عنهم لا تفيد علما.

وإما أن يكون ذلك مفيدًا للعلم بصحته عن أئمتهم دون المنقول عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو من أبين الباطل.

السابع: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

ص: 141

وهذا يعم كل مخالف بلغه أمره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة بمخالفة ما لا يفيد علمًا للفتنة والعذاب الأليم، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر.

الثامن: أن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية وإيجاب الأخذ بحديث الآحاد في هذه دون تلك، إنما بني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام العملية لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل.

قال بعض المحققين: المطلوب في المسائل العملية أمران: العلم والعمل، والمطلوب في العمليات العلم والعمل أيضًا، وهو حب القلب وبغضه، وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته، وبغضه للباطل الذي يخالفها فليس العمل مقصورًا على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع، فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه، وذلك عمل بل هو أصل العمل،

ص: 142

وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان؛ حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال، وهذا من أقبح الغلط وأعظمه. فإن كثيرًا من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم غير شاكين فيه، غير أنه لم يقترن بذلك التصديق، عمل القلب من حب ما جاء به والرضا به وإرادته، والموالاة له والمعاداة عليه.

فلا تهمل هذا الموضوع فإنه مهم جدًا، به تعرف حقيقة الإيمان، فالمسائل العلمية عملية، والمسائل العملية علمية، فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العمليات بمجرد العلم دون العمل.

ومما يوضح لك أنه لا بد من اقتران العقيدة في العمليات أيضًا أو الأحكام أنه لو افترض أن رجلًا يغتسل أو يتوضأ للنظافة أو يصلي تريضًا أو يصوم تطبيبًا، أو يحج سياحة، لا يفعل ذلك معتقدًا أن اللَّه تبارك وتعالى أوجبه عليه وتعبده به لما أفاده ذلك شيئا، كما لا يفيده معرفة القلب إذا لم تقترن بعمل القلب الذي هو التصديق كما تقدم.

فإذن كل حكم شرعي عملي يقترن به عقيدة لا بد وأن يرجع إلى الإيمان بأمر غيبي لا يعلمه

ص: 143

إلا اللَّه تعالى، ولولا أنه أخبرنا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لما وجب التصديق به والعمل به؛ ولذلك لم يجز لأحد أن يحرم أو يحلل بدون حجة من كتاب أو سنة، قال اللَّه تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} فأفادت هذه الآية الكريمة أن التحريم والتحليل بدون إذن منه كذب على اللَّه تعالى وافتراء عليه، فإذا كنا متفقين على جواز التحليل والتحريم بحديث الآحاد، وأننا به ننجوا من التقول على الله، فكذلك يجوز إيجاب العقيدة بحديث الآحاد، ولا فرق، ومن ادعى الفرق فعليه البرهان من كتاب اللَّه وسنة رسوله، ودون ذلك خرط القتاد.

التاسع: أن القائلين بهذه العقيدة الباطلة لو قيل لهم أن العكس هو الصواب، لما استطاعوا رده، فإنه من الممكن أن يقال: لما كان كل من العقيدة والعمل يتضمن أحدهما الآخر، فالعقيدة يقترن معها عمل، والعمل يقترن معه عقيدة على ما سبق بيانه آنفًا، ولكن بينهما فرقًا واضحًا من حيث إن الأول إنما هو متعلق بشخص المؤمن ولا ارتباط له بالمجتمع، بخلاف العمل فإنه

ص: 144

مرتبط بالمجتمع الذي يحيا فيه المؤمن ارتباطًا وثيقًا، فيه تستحل الفروج المحرمة في الأصل، وتستباح الأموال والنفوس، فالأمور العملية من هذه الوجهة أخطر من الأمور الاعتقادية، ولنضرب على ذلك مثلًا موضحًا:

رجل يعتقد بأن سؤال الملكين في القبر أو ضغطة القبر حق بناء على حديث آحاد، ومات على ذلك، وآخر يعتقد استباحة شرب قليل من النبيذ المسكر كثيره، أو يستحل التحليل، ويقول بإباحته بعض المذاهب لدليل بدا لهم طبعًا، ولكنه ظني طبعًا ومات على هذا، والواقع أن كلًا من الرجلين كان مخطئا بشهادة السنة الصحيحة، فأيهما كان حاله أخطر على المجتمع؟ الذي كان واهمًا في اعتقاده أم الآخر الذي كان واهمًا في استباحة الفروج والشرب المحرمين؟. ولذلك فلو قال قائل: إن الحرام والحلال لا يثبتان بخبر الآحاد، بل لا بد فيهما من آية قطعية الدلالة، أو حديث متواتر قطعي الدلالة أيضًا، لم يجد المتكلمون وأتباعهم عن ذلك جوابًا.

أما نحن فلو كان لنا أن نحكم عقولنا في مثل هذا الأمر ونشرع لها ما لم يأذن به الله، كما فعل المتكلمون حين قالوا بهذا القول الباطل- لقلنا بنقيضه تمامًا، لأنه أقرب إلى المنطق السليم من

ص: 145

قولهم، ولكن حاشا أن نقول به أو بنقيضه، إذا لكل شرع، فلا نفرق بين ما سوى اللَّه تبارك وتعالى، ولا نسوي بين ما فرق، بل نؤمن بكل ما جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصح الخبر عنه آحادًا أو تواترًا، اعتقادًا أو عملًا، والحمد للَّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

العاشر: أن خبر العدل الواحد المتلقى بالقبول لو لم يفد العلم لم يجز الشهادة على اللَّه ورسوله بمضمونه، ومن المعلوم المتيقن أن الأمة من عهد الصحابة إلى الآن لم تزل تشهد على اللَّه وعلى رسوله بمضمون هذه الأخبار جازمين بالشهادة في تصانيفهم وخطابهم، فيقولون شرع اللَّه كذا وكذا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكونوا عالمين بصدق تلك الأخبار جازمين بها لكانوا قد شهدوا بغير علم، وكانت شهادة زور، وقولًا على اللَّه ورسوله بغير علم، ولعمر اللَّه هذا حقيقة قولهم، وهم أولى بشهادة الزور من سادات الأمة وعلمائها.

ص: 146

والحمد للَّه على ما من علينا من إكمال هذا الجواب المتضمن لإجابة السائل، وزيادة مسائل مفيدة تهم القارئين والباحثين، وأحسب أنه أروى الغليل وأشفى العليل.

وقد تم تحريره وتسطيره في اليوم الثامن من شهر جمادى الآخرة عام أربعمائة وألف من الهجرة.

المؤلف

أحمد بن حجر آل بوطامي آل بن علي

قاضي المحكمة الشرعية الأولى

بدولة قطر

شوال 1400هـ الموافق أغسطس 1980م

ص: 147