الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(مذهب الإمام أحمد وأتباعه في الأصول والفروع)
الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى هو الذي أظهر مذهب السلف وناضل عنه، -وإن كانت الأئمة كلهم رحمهم الله على ذلك- فالإمام أحمد وأتباعه تابعون للسلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، لا يؤولون في صفات اللَّه ولا يشبهون اللَّه بخلقه، ولا يكيفون بل يقولون نؤمن بما ورد، فالكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن ذاته المقدسة لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين، فيقولون للَّه علم يليق به، وللمخلوقين علم يليق بهم، وليس علم اللَّه كعلم المخلوق، ولله سمع يليق به، وللمخلوقين سمع يليق بهم، وليس سمع اللَّه كسمع المخلوق وهكذا سائر الصفات.
ومن صفاته الكلام، فيقولون: كلام اللَّه لا يشبه كلام المخلوق وكلام اللَّه غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
ومن المستحسن أن أذكر مذهب الإمام أحمد وأتباعه في الأصول، أعني العقائد باختصار: وذلك أنهم يؤمنون باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فيشهدون أن
الله هو الرب الإله المعبود، المنفرد بكل كمال فيعبدونه وحده مخلصين له الدين.
فيقولون أن اللَّه هو الخالق البارئ المصور الرزاق المعطي المانع المدبر لجميع الأمور.
وأنه المألوه المعبود الموحد المقصود، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء.
وأنه العلي الأعلى بكل معنى واعتبار، علو الذات وعلو القدر، وعلو القهر.
وأنه على العرش استوى استواء يليق بعظمته وجلاله، ومع علوه المطلق وفوقيته، فعلمه محيط بالظواهر والبواطن والعالم العلوي والسفلي، وهو مع العباد بعلمه، يعلم جميع أحوالهم، وهو القريب المجيب.
وأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، والكل إليه مفتقرون في إيجادهم وإيجاد ما يحتاجون إليه في جميع الأوقات، ولا غنى لأحد عنه طرفة عين وهو الرؤوف الرحيم، الذي ما بالعباد من نعمة دينية ولا دنيوية ولا دفع نقمة إلا من الله، فهو الجالب للنعم الدافع للنقم.
ويصفونه بما وصف به نفسه ووصفه به -رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الصفات الذاتية، كالحياة الكاملة والسمع والبصر، وكمال القدرة والعظمة والكبرياء والمجد والجلال والجمال، والحمد المطلق، ومن صفات الأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته كالرحمة والرضا، والسخط، وأنه يتكلم بما يشاء وكيف يشاء، وكلماته لا تنفد ولا تبيد.
وأن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
وأنه لم يزل ولا يزال موصوفًا بأنه يفعل ما يريد، ويتكلم بما شاء، ويحكم على عباده بأحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية، فهو الحاكم المالك، ومن سواه مملوك محكوم عليه، فلا خروج للعباد عن ملكه ولا عن حكمه.
ويؤمنون بما جاء به الكتاب وتواترت به السنة، أن المؤمنين يرون ربهم تعالى عيانًا جهرة، وأن نعيم رؤيته والفوز برضوانه أكبر النعيم واللذة.
وأن من مات على غير الإيمان والتوحيد فهو مخلد في نار جهنم أبدا، وأن أرباب الكبائر إذا ماتوا على غير توبة ولا حصل لهم مكفر لذنوبهم ولا شفاعة، فإنهم وإن دخلوا النار لا يخلدون فيها، ولا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان إلا خرج منها.
وأن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها، وأعمال الجوارح وأقوال اللسان، فمن قام بها على الوجه الأكمل فهو المؤمن حقا، الذي استحق الثواب وسلم من العقاب، ومن انتقص منها شيئا نقص من إيمانه بقدر ذلك، ولذلك كان الإيمان يزيد بالطاعة وفعل الخير، وينقص بالمعصية والشر.
ويشهدون أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله اللَّه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو خاتم النبيين، أرسل إلى الإنس والجن بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى اللَّه بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله بصلاح الدين وصلاح الدنيا، وليقوم الخلق بعبادة اللَّه ويستعينوا برزقه على ذلك.
ويعلمون أنه أعلم الخلق وأصدقهم وأنصحهم وأعظمهم بيانا، فيعظمونه، ويقدمون محبته
على محبة الخلق كلهم، ويتبعونه في أصول دينهم وفروعه.
ويقدمون قوله وهديه على قول كل أحد وهديه.
ويعتقدون أن اللَّه جمع له من الفضائل والخصائص والكمالات ما لم يجمعه لأحد، فهو أعلى الخلق مقاما وأعظمهم جاهًا، وأكملهم في كل فضيلة، لم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرهم عنه.
وكذلك يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، وكل رسول أرسله الله، لا يفرقون بين أحد من رسله ويؤمنون بالملائكة وأنهم عباد اللَّه المكرمون {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .
ويؤمنون بالقدر كله، وأن جميع أعمال العباد خيرها وشرها، قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيهما مشيئته، وتعلقت بها حكمته، حيث خلق للعباد قدرة وإرادة تقع بها أقوالهم وأفعالهم حسب مشيئتهم لم يجبرهم على شيء منها بل جعلهم مختارين لها، وخص المؤمنين بأن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان بعدله وحكمته.
ويؤمنون بيوم البعث وإحياء اللَّه الموتى للحساب والجزاء، ويؤمنون بالشفاعة العظمى للرسول صلى الله عليه وسلم، وسائر الشفاعات الثابتة، وبالصراط والميزان والجنة والنار، كما جاء في القرآن وصحت الأحاديث عن النبي المختار.
ويؤمنون بأن أفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضلهم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خصوصا الخلفاء الراشدين، والعشرة المشهود لهم بالجنة، وأهل بدر، وبيعة الرضوان، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
ويحبون الصحابة ويدينون اللَّه به وينشرون محاسنهم ويسكتون عما شجر بينهم، ويدينون اللَّه باحترام العلماء الهداة وأئمة العدل، ومن لهم المقامات العالية في الدين والفضل المتنوع على المسلمين، ويسألون اللَّه أن يعيذهم من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وأن يثبتهم على دين نبيهم إلى الممات.
هذه الأصول الكلية بها يؤمنون ولها يعتقدون وإليها يدعون. (من القول السديد لعلامة القصيم عبد الرحمن بن ناصر السعدي من
أكابر علماء نجد -رحمه اللَّه تعالى- بحذف في بعض المواضيع وزيادة في بعضها) .
الأصول التي بنيت عليها فتاوى الإمام أحمد
وإذ بينت عقيدة الإمام أحمد وأتباعه، فمن المستحسن جدًا أن أذكر أصول مذهبه في الفروع وفتاويه وهاك أيها القارئ تلك الأصول نقلا عن العلامة ابن القيم رحمه اللَّه تعالى: بنيت على خمس أصول وهي كما يلي:
الأصل الأول:- (النصوص)
النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنًا من كان، كما لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي بن كعب من ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاغتسلا، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين، لصحة حديث سبيعة الأسلمية.
وهذا كثير جدا، ولم يكن يقدم على الحديث عملًا ولا رأيًا ولا قياسًا ولا قول صاحب ولا عدم
علمه بالمخالف، الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع.
ونصوص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص، فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده.
الأصل الثاني: - (فتاوى الصحابة)
الأصل الثاني من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل أن ذلك إجماع، بل من ورعه في العبارة، يقول "لا أعلم شيئا يدفعه" أو نحو هذا، كما قال في رواية أبي طالب لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين منهم عطاء ومجاهد وأهل المدينة على تسري العبد، وهكذا قال أنس بن مالك لا أعلم أحدًا رد شهادة العبد، حكاه عن
الإمام أحمد، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة، لم يقدم عليه عملًا، ولا رأيًا ولا قياسًا.
الأصل الثالث:- (الاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا)
الأصل الثالث من أصوله: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقول.
قال إسحاق بن هانئ في مسائله قيل لأبي عبد الله: يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف، قال يفتي بما وافق الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه، قيل له: أفيجيب عليه؟ قال: لا.
الأصل الرابع: (الحديث المرسل)
الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه، فالعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح
وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرًا يدفعه ولا قول صاحب، ولا إجماعا على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس.
الأصل الخامس: - (القياس للضرورة)
فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول للصحابة أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخامس -وهو القياس- فاستعمله للضرورة، وقد قال في كتاب الخلال: سألت الشافعي عن القياس، فقال: إنما يصار إليه عند الضرورة، أو ما هذا معناه.
فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه، وعليه مدارها، وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده، أو اختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين.
وكان شديد الكراهية والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. ا. هـ
(من إعلام الموقعين - الجزء الأول باختصار من الأصل الأول) .
فهل في هذه الأصول الخمسة لمن تحلى بالإنصاف قول لقائل أو نقد لناقد، ولا شك أن الحنابلة هم أتباع هذا الإمام الجليل الذي قال فيه بعض أهل العلم: تأيد الدين برجلين بأبي بكر يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، يقصد
بذلك يوم أن امتحنه بذلك المأمون والمعتصم والواثق بالسجن والضرب حتى يقول أن القرآن مخلوق فامتنع وصبر على الأذى واحتسب الأجر عند الله.
فهل وقف القارئ على عقيدة الإمام أو أحد من أتباعه وخصوصا فيما يوهم التشبيه والتجسيم كما يقول المفترون، وفي كلام اللَّه ما زعمه الزاعمون من أن الجلد والمداد قديمان، كل ما قالوا أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وسيأتي فيما بعد رد هذه الفرية من كلام شيخ الإسلام والحافظ ابن القيم رحمهما اللَّه وغيرهما.
وها أنا أتحدى هؤلاء الزاعمين المفترين -أن الحنابلة يمثلون اللَّه بخلقه أو يجسمونه أو
يشبهونه أو يقولون في القرآن ما زعموا- أن يأتوا بكلمة واحدة من كتب الإمام أحمد أو كتب أصحابه المحققين يثبت ذلك، وإلا فلينادوا على أنفسهم بالجهل والافتراء.
ويعلم الواقفون على كلامهم أن لا نصيب لكلامهم من الصحة، وأن علومهم هباء في هباء، وقولهم كذب وافتراء، إذ لم يسندوها إلى المصادر المعتبرة من كتب أولئك العلماء فوالله لو استعانوا بالجن والإنس، وصعدوا إلى المريخ ونزلوا إلى أعماق الأرضين، لما أتوا بحرف واحد يدل على زعمهم وافترائهم.
وها أنا ذا أوضح هذا المرام فيما يلي: