الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتراء على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من الحنابلة النجديين ورد تلك المفتريات
فكما افترى بعض المتكلمين على الحنابلة السابقين، بأن رموا بعضهم بالتمثيل والتشبيه والتجسيم، وبعضهم بهذه الفرية، فقد افترى كثير من معاصري الشيخ المجدد المصلح الشهير محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي عليه وعلى أتباعه، وتناقلها كثير من الناس ممن نسب نفسه إلى العلم ومن العوام، ونسبوا إليه رحمه الله وإلى أتباعه أنهم لا يجعلون للرسول حرمة، بل يقول أحدهم: عصاي خير من الرسول، ولا يرون للعلماء والصالحين مقامًا، وينكرون شفاعة الرسول، ويحرمون زيارة قبره وقبور سائر المؤمنين، ولا يرون الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعتنون بكتب الأئمة، بل يحرقونها ويتلفونها، ولا يرون تقليدهم جائزًا، ويكفرون المسلمين من قرون عديدة، سوى من كان على معتقدهم، ويحرمون قراءة المولد النبوي.. إلى غير ذلك من المزاعم.
والجواب: أن هذه الأشياء المنسوبة إليهم كلها كذب لا نصيب لها من الصحة أبدًا، وهذه كتبهم مطبوعة تباع وتوزع، فمن أراد أن يعرف كذب هذه المزاعم فليقرأ كتبهم.
وكل ما في الأمر أن الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله رأى أكثر أهل نجد وأهل الحجاز وأهل البصرة والعراق، كما سمع بالنقل المتواتر عن سائر الأقطار الأخرى أنهم يؤلهون قبور الأنبياء والأولياء والصالحين، بل وكثيرًا من الكهوف والغيران والأشجار، يعتقدون فيها الضر والنفع، ويطوفون حول قبورهم، وينذرون لتلك القبور وتلك الأشجار، ويقدمون لها القرابين، ويحلفون بالأنبياء والصالحين، ويستغيثون بهم في الشدائد والملمات لدفع الكربات، وكشف البليات وقضاء الحاجات. ورأى تهاون أهل نجد بالصلاة ودفع الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، زيادة على بدعهم وضلالهم، كما رأى علماء الأقطار وسكوتهم على تلك الترهات والمنكرات إلا من قل وندر، فقويت عزيمته وإرادته بتوفيق من الله أن يدعو الناس إلى الطريق المستقيم، فدعاهم إلى توحيد الله، وإفراده بالعبادة، وبين لهم أن اعتقادهم بأن الله، وإفراده بالعبادة، وبين لهم اعتقادهم بأن اللَّه هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، لا
ينجيكم من عذاب اللَّه ما دمتم لا تخلصون لله، ولا تفردونه بالقصد والإرادة في عباداتكم بل تشركون معه نبيا أو صالحا أو شجرًا.
وبين لهم أقسام التوحيد: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، ووضح لهم أن اعتقاد توحيد الربوبية لا يكفي لدخول الإنسان في الإسلام، لأن المشركين السابقين يعتقدون هذا الاعتقاد، ولم يدخلهم في الإسلام، قال الله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} .
بل لا بد من توحيد العبودية، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه اللَّه ويرضاه من الأقوال والأعمال، فالصلاة والصوم والزكاة والحج والطواف والنذر والخشية والرغبة والتوكل والذبح والاستغاثة كلها من أفراد العبادة. فمن نذر لغير اللَّه أو استغاث بغيره أو طاف بالقبور أو اعتقد بواسطتها ينال خيرا ونفعًا، أو أنها تقربهم إلى الله، فإنه بذلك الاعتقاد يكون مشركًا.
واستدل الشيخ على دعوته بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآية، وقوله:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ،
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وكقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} .
فكلمة من دون اللَّه تشمل كل معبود غيره من نبي أو ملك أو ولي أو غيرهم، واستدل الشيخ في نهيه عن عبادة الصالحين والأولياء بقوله تعالى:{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وسيسأل اللَّه المسيح عليه الصلاة والسلام يوم القيامة ليبكت المسيحيين الذين عبدوه وجعلوه إلها من دون الله، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهنا يتبرأ المسيح ويجيب: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ،
فإذا كان اللَّه ينكر على عُباد المسيح وهو من النبيين المرسلين فكيف بمن يعبد غيره.
وبالجملة - حثهم على التمسك بالكتاب والسنة، وترك الشرك والبدع، فقامت عند ذلك قيامة الجهال، وأهل البدع والضلال، وعلماء السوء، وشنعوا على الشيخ ورموه بهذه الافتراءات، وجرى ما جرى مما سجله التاريخ.
وإلى القارئ تفنيد تلك المزاعم:
فنقول: بل يعتقدون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين -فضلا عن سائر المخلوقين - ويؤمنون بشفاعته العظمى وغيرها من سائر الشفاعات.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته التي كتبها لأهل القصيم: وأومن بشفاعته صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من
بعد الإذن والرضا، كما قال اللَّه تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . ا. هـ.
ويرون أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأفضل الطاعات، بل يرون أن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بالصلاة على الرسول، بينما سائر المذاهب يرون أنه سنة في الصلاة فقط.
فمن منهم أكثر محبة وتعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم؟
ولم يكفروا مرتكب الكبائر -كما عليه أهل السنة- ولم يقولوا بكفر جميع الناس، كما زعم الكذابون، بل قالوا: من عبد غير الله كأن يتقرب إلى قبر نبي أو صالح أو شجرة أو كهف، بصلاة أو صدقة أو نذر أو ذبح، أو يعتقد في مخلوق ضرا أو نفعا، فهذا يكون مشركا لقوله تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، وقوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ،
وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .
ولا يشك عاقل مسلم أن الطواف عبادة، والنذر عبادة والصلاة عبادة والذبح عبادة والدعاء عبادة، فإذا صرف منها شيئا لغير اللَّه يكون قد أشرك مع اللَّه إلهًا آخر، ولكن لا يبادرون أحدا بالتكفير، حتى يقيموا عليه الحجة من الكتاب والسنة، ولم يقل أحد منهم أن عصاي خير من الرسول، بل لم يقولوا أن إبراهيم الخليل خير من الرسول، فضلا عن العصا، ولا يحرمون زيارة قبر الرسول، ولا زيارة سائر القبور، بل يقولون مسنونة، إلا النساء فإنهم يمنعونهن من الزيارة، لحديث:«لعن اللَّه زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد» ، ولكن يحرمون شد الرحال إلى قبور الأنبياء وغيرهم، للحديث الوارد:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد»
«الأقصى» ، وينبغي أن يقصد زيارة المسجد لنص الحديث، فإذا ورد هناك فليسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ويزور البقيع.
فإذا كانت زيارة سائر قبور المؤمنين سنة للحديث الوارد: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» فكيف بزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ويرون للعلماء والصالحين مقاما عظيمًا، وينتفعون بكتبهم، ويشترونها بأغلى الأثمان، من سائر المذاهب. لكنهم يقولون: "إن العلماء والصالحين وحتى الأنبياء والمرسلين لا يستحقون
العبادة، لأن العبادة مختصة باللَّه رب العالمين ولأننا إذا عبدناهم جعلناهم آلهة وهم لا يرضون بذلك، ولكن علينا أن نعظمهم ونتبعهم في هديهم الموافق لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وننتفع بعلمهم وكتبهم.
وكيف لا يحبون العلماء وهم ورثة الأنبياء ونجوم أهل الغبراء؟
ولم يحرموا تقليد الأئمة المعتبرين، مع العلم ما في التقليد من الخلاف، فمن العلماء من حرمه مطلقا، ومنهم من أجازه مطلقا من غير تفصيل، ومنهم من قال: يحرم على المجتهد، أو من يكون قادرًا على الاجتهاد، ويجب على غير القادر.
والشيخ محمد عبد الوهاب كان حنبليا وأتباعه حنابلة، فلو كانوا يحرمون التقليد لما كانوا حنابلة، وأكثر كتبهم التي يقرؤونها ويدرسونها وينتفعون بها هي كتب الحنابلة الأقدمين والسابقين خصوصًا، وكتب أتباع المذاهب عمومًا.
نعم كان الشيخ رحمه الله وأتباعه من بعده، على أنه يجب الأخذ بالدليل الذي لا معارض له، ولا مخصص ولا ناسخ، ولو خالف المذهب، وبالفعل يأخذ علماؤهم بالدليل في بعض المسائل، خلاف المذهب، على أنه قل أن
يوجد قول مؤيد بالدليل والحال مخالف للمذهب المعتمد، وليس فيه رواية عن الإمام أحمد، على أننا لو سلمنا تسليمًا جدليًا، أنهم منعوا التقليد فليسوا بالمنفردين لذلك، بل الخلاف موجود وهذه كتب الأصول موجودة في إمكان كل واحد فاهم، أن يقرأ باب الاجتهاد والتقليد، ليعرف ما في التقليد من الخلاف، فأي ذنب إذا للحنابلة النجديين؟
وأما زعمهم أنهم حرموا قراءة المولد الشريف فهذا يدل على جهل عميق من القائلين، كسائر جهالاتهم السابقة، وتعصبهم الفاسد، إذ كل من شم رائحة العلم يعلم أن الاحتفال بالمولد حدث في القرن السابع، والذي أحدثه هو الملك المظفر صاحب إربل، وأقام الولائم الضخمة حتى قيل: كان يذبح في ليلة المولد عشرة آلاف رأس من الأغنام، وسبقه الفاطميون في مصر في القرن الرابع الهجري كما أسسوا المآتم وبنوا ضريحًا سموه قبر الحسين وهو كذب لا أثر له من الصحة.
ومن حين ما حدث اختلف العلماء، فمنهم من قال: إن الاحتفال بالمولد بدعة حسنة، ومن العلماء من قال: إنها بدعة، وكل بدعة ضلالة كما في نص الحديث، والرسول قد وردت عنه عدة أحاديث تحذر عن البدع والمحدثات كقوله:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجز، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» رواه الترمذي وحسنه، ولم يأت ما يخصص هذا العموم حتى يزعموا أنها بدعة حسنة.
وقراءة المولد، باب من أبواب السيرة النبوية، وقراءة الإنسان سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله ومعجزاته، وهجرته وغزواته، لا شك أنها تزيد الإيمان وتقويه، وينبغي للمسلم أن يكون ملمًا بسيرته ومناقبه صلى الله عليه وسلم حتى يعرف حقيقة هذا الرسول العظيم، الذي أرسله اللَّه رحمة للعالمين.
والشيخ محمد رحمه الله ألف مختصر السيرة، وقد طبع عدة مرات، وانتشر في سائر الأقطار، فلو لم يكن محبًا للرسول، لما ألف سيرة له، ومن لا يحب الرسول، لا يكون مسلمًا، بل يكون يهوديًا أو مسيحيًا.
والشيخ وأتباعه يحثون الناس على التمسك بسنة الرسول الصحيحة، ويشددون النكير على من يخالف سنة الرسول، ويعدونه مبتدعًا.
أما هذا دليل على كمال حبهم وتعظيمهم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟؟ ولكن المنحرفين يرون حب الرسول صلى الله عليه وسلم في قراءة الأناشيد والأشعار والاستغاثات بالرسول وقراءة البرزنجي وأمثاله. فمن عمل بهذا فهو محب للرسول - وإن ارتكب الموبقات، وتلطخ بقاذورات المبتدعات ومن لا فلا.
والنقطة الحساسة في هذا المقام: أنه لا خلاف في قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من ولادته وشمائله، ولكن الاحتفال في ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وقراءة كتاب مخصوص، ودق الدفوف، وما يحصل من الاختلاط والأمور المحرمة، فهذا هو المنكر المبتدع.
وإلا فمن أراد أن يقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ويفهم الناس أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة، فلا مانع هنالك، بل يستحب ذلك في أي وقت أراد.
لكن هذه الأكاذيب والافتراءات، افترتها الأشراف والأتراك، وبعض علماء السوء، تنفيرًا عن دعوة الشيخ لما رأوا أن الدولة السعودية في ذلك الوقت قد قويت، ودخلت نجد كلها في طاعتها، وامتد سلطانها إلى عسير والحجاز وعمان، وغزت العراق، فحاربوها بمثل هذه الإشاعات والتهم، كما حاربوها بالسيف والسنان. والتاريخ شاهد بذلك، ولكن أبى اللَّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وللشيخ مؤلفات عديدة أشهرها كتاب التوحيد وشرحه حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن وسماه فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، وللشيخ محمد كتاب الكبائر ونصيحة المسلمين، ورسالة كشف الشبهات ومسائل الجاهلية، كما أن له رسائل عديدة مختصرة كثلاثة الأصول.
وها أنا أنقل للقارئ رسالة من رسائله ليعلم أن ما روجه أعداؤه من أنه كان مخالفا للسلف الصالح أو مذاهب الأئمة الأربعة، أو أنه كان يكفر الناس ولا يحب الرسول ولا الأنبياء ولا الأولياء إلى غير ذلك من الافتراءات التي أملاها
الشيطان على ألسنتهم، وسولت لهم أنفسهم بغية الصد عن دين الله، وتنفير الناس عن اتباع الشيخ وخدمة للدولة العثمانية وحكومة الأشراف بالحجاز، لأنهما رأيا أن في دعوة الشيخ خطرًا على حكومتهم وهاك نص الرسالة:
قال شيخ الإسلام العالم الرباني، مجدد الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية أوحد العلماء وأروع الزهاد، الشيخ محمد عبد الوهاب أجزل اللَّه له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب لما سأله أهل القصيم عن عقيدته:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد اللَّه ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان باللَّه الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن اللَّه سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له ولا كفء له ولا ند له
ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلًا وأحسن حديثًا فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم وسط في باب وعيد اللَّه بين المرجئة والوعيدية، وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج.
وأعتقد أن القرآن كلام اللَّه منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأؤمن بأن اللَّه فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم.
وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى كما قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ،
وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب كما قال تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} .
وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.
وأومن بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته، وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم.
وأتولى أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملًا بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ،
وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات عن كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات إلا
أنهم لا يستحقون من حق اللَّه تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا اللَّه، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضيًا مع كل إمام برا كان أو فاجرًا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم
بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة.
وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها: شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة.
فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال؛ لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل.
ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورًا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي (فمنها) قوله: أني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وأني أقول أن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء أني أدعي الاجتهاد، وأني خارج على التقليد، وأني أقول أن اختلاف العلماء نقمة، وأني أكفر من توسل بالصالحين، وأني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق، وأني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت
ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، وأني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وأني أكفر من حلف بغير الله، وأني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وأني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين.
جوابي عن هذه المسائل أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، وقبله من بهت محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور، قال تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الملائكة وعيسى وعزيرًا في النار.
فأنزل اللَّه ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية.
وأما المسائل الأخر وهي أني أقول: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا اللَّه، وأني أعرف من يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير اللَّه وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير اللَّه كفر، والذبيحة حرام، فهذه المسائل حق وأنا قائل بها، ولي عليها دلائل من كلام اللَّه وكلام رسوله ومن أقوال
العلماء المتبعين كالأئمة الأربعة، وإذا سهل اللَّه تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء اللَّه تعالى.
ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} . الآية اهـ (مجموعة رسائل التوحيد- جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم) .
فهل في هذه الرسالة وفي كتاب التوحيد الذي انتشر في الشرق وفي الغرب يستطيع عالم فضلًا عن جاهل أن يأتي بكلمة يدين بها الشيخ رحمه الله مما زعمه أولئك المغرضون، ومثل هذه الرسالة عدة رسائل كتبها الشيخ رحمه الله إلى كثيرين منها: إلى عبد اللَّه بن محمد عبد اللطيف الإحسائي، وكتب إلى علماء مكة وعالم من علماء المدينة، وكتب إلى من يصل إليه من المسلمين رسالة، وإلى السويدي عالم أهل العراق في زمانه، وإلى أهل المغرب وإلى رئيس بادية الشام، وإلى البكيلي اليماني، وإلى الشيخ إسماعيل الجراعي وإلى غير هؤلاء، وفي كثير منها ينفي ما نسب إليه من عدم محبة الأولياء والصالحين وتكفير الناس أجمعين إلا
من كان على مذهبه ومنع زيارة القبور، ومنها زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم سوى منع شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة، فإنه قد اتبع الحديث، وعدم احترام الأئمة الأربعة وغيرهم وإتلاف كتبهم إلى غير ذلك مما صنعه المفترون، وكل هذا كان جوابه رحمه الله، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .
ومن يشك فيما أقول، فليقرأ كتبهم ليعلم حقيقة الحال، ولا يروج عليه ما يفتريه الجهال، أو فليقرأ التواريخ التي ألفت لنجد كعنوان المجد لابن بشر، وتاريخ ابن غنام الإحسائي، وتاريخ نجد للألوسي وجزيرة العرب في القرن العشرين لحافظ وهبة، وتاريخ نجد القديم والحديث للريحاني المسيحي.
ويقرأ الكتب التي ألفت في تراجم الشيخ، مثل كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأحمد بن عبد الغفور الحجازي، ورسالة مختصرة في ترجمة الشيخ لعلي الطنطاوي، كما أني كتبت في ترجمته كتابًا أسميته (الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عقيدته السلفية، ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه) .
وأما ما ذكره الكتاب والمؤرخون في حقيقة دعوته والثناء عليه، فأكثر من أن يحصر مثل:
حاضر العالم الإسلامي وتعليقات شكيب أرسلان، ومثل ما كتبه الزركلي في الأعلام، كما ترجم له رحمه الله عبد الكريم الخطيب، حتى أن كثيرًا من المستشرقين كتبوا عن دعوة الشيخ وأثنوا عليها، هدانا اللَّه وإخواننا المسلمين إلى سلوك الطريق المستقيم.
وخلاصة ما في الأمر أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -أجزل اللَّه له الأجر والثواب- قال للناس: لا تعبدوا إلا اللَّه، ولا تتبعوا إلا الرسول محمد بن عبد اللَّه وأصحابه. صلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
وذروا عبادة ما سوى المنفرد ولا تتنطعوا بزيارة وتردد بعثت به الرسل الكرام لمن هدى عهد النبي الهاشمي محمد هل قال إلا وحدوا رب السما وتمسكوا بالسنة البيضا هذا الذي جعلوه غشا وهو قد من عهد نوح هكذا تترى إلى وهي دعوة جميع الأنبياء والرسل، فإن كانت
الرسل قد قالوا لأممهم: اعبدوا اللَّه ولا تعبدوا الأوثان والأصنام؛ فقد قال الشيخ: اعبدوا اللَّه وحده وذروا عبادة القبور والأشجار والغيران والكهوف وكل شيء سوى اللَّه؛ لأن عبادة هذه الأشياء هي الوثنية بعينها، وكونهم كانوا يعتقدون بأن اللَّه خالق ورازق ومحيي ومميت، وأن محمدًا رسول، لا يفيدهم شيئا بعد أن أشركوا به غيره، ولكن مع ذلك كله ما كان الشيخ يحكم بتكفير أحد إلا بعد إقامة الحجة عليه.
وأحب أن يفهم القارئ أو السامع الأسباب والبواعث لانتشار تلك المفاهيم المغلوطة عن الشيخ محمد وأتباعه، وتلك الافتراءات المنسوبة إليهم، فتفضل اقرأ باختصار:
لما فشلت علماء الضلال من القبوريين والمتصوفة وأمثالهم في ميدان الحجج، كتب كثير منهم إلى الدولة العثمانية يحرضونها على الشيخ وأتباعه بأنه خارج عن دائرة المذاهب الأربعة، وأنه مبتدع ويكفر الناس، إلى غير ذلك من تلك الأكاذيب الملفقة التي أوحاها إليهم الشيطان وحب الرئاسة والأصفر الرنان، وما زالوا بالعثمانيين يتوسلون إليهم وإلى قواد جيشهم حتى انخدعت الدولة بأولئك المفترين وزاد
الطين بلة ما رأت الدولة من قوة انتشار دعوة الشيخ وتأسيس دولة آل سعود، ورأت أن الدولة السعودية قد بسطت نفوذها على نجد، وامتد إلى عمان، وأخذت تغزو العراق وأطراف الشام، وخافت أن يزول استعمارها من البلدان العربية لاسيما بعدما فتح آل سعود مكة المكرمة سنة 1218 هـ، قام العثمانيون عندئذ بدورهم السياسي، واستعملوا القلم والسنان ضد الشيخ وأتباعه النجديين.
أما القلم فأخذوا يوزعون إلى بعض العلماء ممن قل نصيبه من الدين والعقل والحياء بأن يؤلفوا ضد الشيخ وأتباعه، وينشروا بين الناس تلك الأكاذيب.
وأما السنان فقد أمرت الدولة محمد علي باشا واليها بمصر، أن يجهز الجيوش الجرارة لحرب النجديين وإبادتهم.. وجرى ما جرى.
وقامت أشراف الحجاز بدورهم السياسي قبل الترك، وحاربوا السعوديين والدعوة السلفية، ولكنهم باءوا بالفشل الذريع واندحروا، وتم للسعوديين فتح مكة.
كما حاربوا السعوديين قبل استيلائهم على مكة المكرمة وبعد خروجهم منها بنشر الدعايات
الكاذبة والافتراءات الصريحة، وإيعاذهم إلى بعض علمائهم، بتأليف كتب ضد دعوة الشيخ وأتباعه.
فألف مأجورو الترك والأشراف كتبا شحنوها بالأكاذيب والترهات، وحشوها بالأحاديث الموضوعة والضعيفة والحكايات السمجة ضد الدعوة السلفية، وزعموا أن الشيخ مبتدع خارجي.
حتى أن (زيني دحلان) نزل الأحاديث الواردة في الخوارج على الشيخ وأتباعه، في كتابه (الدرر السنية) وفي (الفتوحات الإسلامية) .
فعلوا كل ذلك تنفيرًا للناس، كيلا يتبعوا الشيخ الجليل، ويعتنقوا مبدأه الصحيح.
ومن دعايات الأتراك والأشراف المنفردة للناس، نبزهم لأتباع الشيخ بالوهابية، وجعلهم هذا اللقب على هذه الفرقة السلفية كعنوان لخروج هذه الفرقة عن المذاهب، وعدم محبة النبي والصالحين، وكذبوا والله في ذلك.
والقصد الوحيد من تلك الدعايات والإشاعات الباطلة صد الناس عن اعتناق الدعوة.
وأمر آخر وهو أن لا تقوى شوكة السعوديين ويتسع نفوذهم، كي تبقى سيطرة الأتراك،
وإمارة الأشراف، ولكن اللَّه رد كيدهم في نحرهم، وعاملهم بنقيض قصدهم، فانتشرت دعوة الشيخ في سائر الأقطار، وعرف كثير من الناس صحتها وحقيقتها، وأنها لا تخرج عن نطاق الكتاب والسنة، فاعتنقها كثيرون، وألف جمع من المعتنقين لها كتبًا في تأييدها والدفاع عنها.
وهاك زيادة على ما قدمناه من رسالة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ما قاله الشيخ سعد بن حمد بن عتيق أحد علماء نجد المتأخرين.
لما ذهب الشيخ إلى الهند وسئل هناك عما يعتقده ويعتقده مشايخه من علماء الدعوة في ثلاث مسائل:
الأولى: في حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم كقول القائل: "أغثني يا رسول الله، اشفع لي، فرج كربي" ونحو ذلك.
والثانية: في شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأقول ومثله سائر الأنبياء.
والثالثة: في التوسل به عليه الصلاة والسلام.
فأجاب في المسائل الثلاث بجواب مفيد، مستدلًا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
قال في جوابه عن المسألة الأولى: "الذي نعتقده وندين للَّه تعالى به في هذه المسائل وغيرها، هو ما دل عليه كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اللَّه تعالى أنزل كتابه وأرسل رسوله ليبين للناس ما يهتدون به، ويخلصهم من ظلمات الجهل والضلال، ويوصلهم إلى ربهم سبحانه وتعالى، كما قال:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وقال تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال تعالى:{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، وقال تعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تكفل اللَّه لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قال:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} .
أما ما يفعله أكثر الناس عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه والتضرع إليه وسؤاله بأنواع السؤال، وكذلك ما يفعله عباد القبور من دعاء الأموات والاستغاثة بهم في الشدائد والمهمات والاستنجاد بهم في تفريج الكربات وإغاثة اللهفات كل ذلك من أعظم المحدثات وأكبر المنكرات؛ لأنه من الدعاء الذي هو مخ العبادة التي هي حق اللَّه تعالى، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقال تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ، وقال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك كما يفيده تقدم المعمول، وهذا معنى قوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ، وقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ؛ فدلت هذه الآيات أوضح دلالة على أن العبادة بجميع أنواعها حق اللَّه تعالى، مختصة به لا يصلح منها شيء لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلًا عن غيرهما من الأولياء والصالحين وغيرهم من الأشجار
والأحجار.
ولما كانت العبادة مختصة به تعالى أمرنا بإخلاصها له كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، وغير ذلك من الآيات الدالة على اختصاصه تعالى بالعبادة بجميع أنواعها.
ومن أعظم أنواعها الدعاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء مخ العبادة» ، فمن دعا أحدًا غير اللَّه فقد عبده، فإن اللَّه تعالى قد سمى الدعاء عبادة في غير موضع من كتابه، كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ؛ فسماه دعاء، ثم سماه عبادة، وقال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} فسماه في أول الآية دعاء، وسماه في آخرها عبادة، وقد أفصح القرآن في مواضع بالنهي عن دعاء غير اللَّه كما قال تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي
المشركين، كما قال تعالى في الآية الأخرى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ، وصرح سبحانه بكفر من دعا غيره، فقال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فدلت هذه الآيات على أنه سبحانه هو الإله الحق المتفرد بالعبادة كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} .
فمن دعا غير اللَّه من نبي أو ملك أو صالح أو غيرهم فقد أتى بالشرك الذي قال اللَّه فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وشرع دينا لم يأذن به اللَّه كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، والله تعالى إنما شرع لعباده توحيده وإخلاص العبادة له كما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} .
والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه اللَّه ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة مثل الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والذبح.
فمن أخلص هذه العبادة بجميع أنواعها للَّه تعالى فهو المسلم وإن فعل الكبائر، ومن أشرك في شيء من أنواعها مخلوقًا نبيًا أو ملكًا أو صالحًا أو شيطانًا أو شجرًا أو حجرًا فقد بدل الدين، وأشرك برب العالمين، وسلك ضد سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ؛ ومما ذكرنا يعرف مراد النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الصلاة عند القبور والبناء عليها واتخاذها مساجد ولعن فاعل ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعنة اللَّه على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وإنما نهى عن ذلك واشتد نكيره على فاعله؛ لأنه ذريعة إلى الشرك في العبادة التي هي حق اللَّه تعالى، وفي الصحيح عن عائشة أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال:«أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنو على قبره مسجدًا وصوروا فيه»
«تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله» ، وفي حديث جندب بن عبد اللَّه مرفوعًا:«ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك» .
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو والإطراء وهو مجاوزة الحد كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد اللَّه ورسوله» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» ، وقال صلى الله عليه وسلم للذي قال قوموا بنا نستغيث برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:«من هذا المنافق إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله» .
وقد وقع ما حذر منه صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو والإطراء، وفشى ذلك في البلاد والعباد حتى عظمت الفتنة، واستحكم الشر، وتفاقم الأمر، واشتدت الفتنة بالقبور وأهلها حتى وقعوا في الغاية التي لأجلها نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو وعن البناء على القبور واتخاذها مساجد، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سنة والسنة بدعة، وباشر أكثر الخلق جهارًا ما جاءهم فيه النهي الصريح من ربهم ونبيهم
صلى اللَّه عليه وسلم، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ» فإنا للَّه وإنا إليه راجعون.
وبما حررنا تعرف أن ما يفعله القبوريون اليوم في مصر والشام والعراق والهند وغيرها من البلاد من عبادة القبور والاستمداد بأهلها وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات كقول بعضهم: يا فلان أغثني، أو يا فلان اشف مريضي ورد غائبي، وأنا في حسبك، ونحو هذه الألفاظ، أن هذا هو الشرك المبين والضلال البعيد كما قال تعالى:{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} وفي الآيتين بالكاف التي هي للبعد وتوسط اللام بينهما وبين اسم الإشارة وإقحام ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر مع تعريفه ووصفه بالبعد ما يقتضي أن هؤلاء قد بلغوا من الضلال والغواية والبعد عن الصراط المستقيم إلى ما لا نهاية له، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} قال المفسرون: معنى قوله من أضل أي لا أحد أضل منه، ولهذا كان هذا الذنب أعظم الذنوب عند اللَّه وأكبر الكبائر، ورتب عليه الخلود في النار
وحرم أهله جنته كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ، وقال:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، وقال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وفي الصحيح عن ابن مسعود مرفوعًا «أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل للَّه ندا وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» فأنزل اللَّه تصديق ذلك: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} .
المسألة الثانية
وأما المسألة الثانية وهي مسألة شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد جوز طائفة من متأخري العلماء شد الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك قبور الصالحين، وخالفهم طوائف من المحققين. والذي نعتقده هو ما دل عليه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» ، وبهذا الحديث الصحيح تعرف بطلان قول المجوزين، فإن كل قول يخالف قول سيد المرسلين مردود على قائله، مضروب به في وجهه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه.
وكل أحد من أفراد الأمة وإن بلغ في العلم ما عسى أن يبلغ فهو أنقص من أن يرد لقوله قول محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم لا سيما إن كان ذلك القائل في القرون المتأخرة المفضولة كما في مسألتنا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر فإذا كان هذا فيمن اختار قول أبي بكر وعمر على قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكيف تكون حال من رد
قوله صلى الله عليه وسلم لقول عالم من العلماء؟.
فمن شد الرحل لزيارة القبر الشريف، أو غيره من قبور الصالحين فهذا ممنوع؛ لما في هذا الحديث من حصر جواز ذلك في المساجد الثلاثة.
والذي يشد الرحل لزيارة القبور أي قبر كان، داخل في هذا النهي، لكن ينبغي لمن يشد الرحل إلى أحد المساجد الثلاثة أن يزور من هناك من الصالحين؛ فإن زيارة القبور من غير شد رحل سنة مرغب فيها كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«زوروا القبور فإنها تذكركم الموت» ، وفيه عن بريدة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:«نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى أهل البقيع فيدعو لهم، كما جاء ذلك في الصحيح، فهذه هي الزيارة الشرعية وهي أن يكون مقصود الزائر تذكر الآخرة والدعاء للميت والاستغفار له.
وأما ما يتوهمه بعض الناس من أن الزيارة إنما شرعت لأجل التبرك بالصالحين، وتحري الإجابة عند قبورهم فهو وهم فاسد مخالف لما شرعه اللَّه ورسوله، قال ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى: ولم يكن أحد من الصحابة يقصد الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا صلى عندها.
وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف، وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب، وقول بعضهم فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ إن كان لك حاجة فاستغث به، أو قال استغث عند قبري ونحو ذلك، فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم، ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون المفضلة، وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا» ، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره؛ ولكن كره أن يتخذ مسجدًا، وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس:«إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» ، وقد علم أن عمر لما أجدبوا استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا فيسقون فلم يذهبوا
إلى القبور، ولا توسلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس، وكان توسلهم به توسلًا بدعائه كالإمام مع المأموم وهذا تعذر بموته. انتهى. قلت: وليت أهل زماننا اقتصروا على البدعة، ودعوا اللَّه عند قبور الصالحين، ولا أشركوهم في خالص حق اللَّه وأنت تراهم يسافرون إلى القبور من مسيرة أشهر، وبعضهم يرى ذلك السفر أفضل من الحج إلى بيت اللَّه، ويفعلون عند تلك القبور وفي تلك المشاهد من الشرك والكفر ما تطير منه أفئدة أهل الإيمان.
اللهم إنا نعوذ بك من الشرك ووسائله، والله أعلم.
المسألة الثالثة
وأما المسألة الثالثة وهي مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فهي مسألة مشهورة، والكلام فيها معروف عند أهل العلم. فطائفة من العلماء منعوا من ذلك سواء توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره، وطائفة جوزوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لا بغيره، واستدل هؤلاء بما روى الترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول:«اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها؛ اللهم فشفعه في» ، فاستدلوا بهذا الحديث على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وقالوا: ليس في التوسل به صلى الله عليه وسلم دعاء للمخلوق والاستغاثة به، وإنما هو دعاء ولكن فيه بجاهه صلى الله عليه وسلم. قالوا: وهذا مثل قوله فيما رواه ابن ماجه في دعاء الخارج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا
بطرًا خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي جميعًا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، هذا حاصل ما استدل به المجوزون للتوسل به صلى الله عليه وسلم.
وأما المانعون من ذلك فيقولون: إن صح الحديث فليس فيه دليل على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد مماته، وإنما فيه جواز ذلك في حياته بحضوره، قالوا: والدليل على صحة ما قلناه أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس رضي الله عنهما فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل بعم نبيك فاسقنا فيسقون.
ولو كان التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد مماته مشروعًا لما عدل عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس هذا ما ذكره العلماء في هذه المسألة.
ونحن وإن قلنا بالمنع من التوسل به صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ أو نحوه لما نعتقده من أصحية المنع فنحن مع ذلك لا نشدد في ذلك على
من فعله مستدلًا بالحديث فضلًا عن أن نكفره كما ينسبه إلينا من لم يعرف حقيقة ما نحن عليه، وكذلك قول بعضهم أنا نكفر الناس بالعموم، ونستبيح دماء الناس وأموالهم من غير حجة، وكقول بعضهم: أنا نمنع من زيارة القبور، ونكفر من فعله ونحو هذه الأقاويل التي برأنا اللَّه منها، وله الحمد.
ونحن لا نكفر إلا من كفره اللَّه ورسوله، ونعوذ باللَّه من أن نقول على اللَّه بلا علم في أسمائه وصفاته وشرعه وأحكامه، فإن ذلك من أعظم الذنوب كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .