الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيان المذاهب في كلام الله
وإذ ذكرنا مقدمة تطلع القارئ على معلومات جمة عن السلف الصالح، وعلى معتقدهم ومنهم الحنابلة، ونفي ما نسب إلى الحنابلة النجديين من الأمور السابقة وإلى السابقين ومن القول بقدم الجلد والغلاف.
كما تكشف له الافتراءات المنسوبة إليهم، وتبين حقيقة قولهم في الصفات، والكلام صفة من صفاته جل جلاله فلنشرع الآن في بيان المذاهب في كلام البارئ سبحانه وتعالى فنقول وبالله التوفيق:
هذه المسألة قد ضل فيها طوائف عديدة، وحبس الإمام أحمد وغيره من أجل أنه امتنع أن يقول: أن القرآن مخلوق، كما أوذي غيره بسببها من المأمون والمعتصم والواثق أبناء هارون الرشيد الذين تمذهبوا بمذهب المعتزلة، وهذا بيان المذاهب:
الأول -الذي عليه الحنابلة- هو ما عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين- أن كلام اللَّه غير مخلوق
وأنه تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء وكيف شاء ومتى شاء، وأن الكلام صفة له قائمة له بذاته، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته بحرف وصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديمًا.
قال العلامة ابن قدامة رحمه الله وهو من كبار علماء الحنابلة، قال:
(فصل) ومن صفات اللَّه تعالى أنه متكلم بكلام قديم يسمعه منه من شاء من خلقه سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة، وسمعه جبريل عليه السلام، ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه ويأذن لهم فيزورونه، قال اللَّه تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، وقال سبحانه:{يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} ، وقال سبحانه:{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} ، وقال سبحانه:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، وقال سبحانه:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}
وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله.
وقال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه إذا تكلم اللَّه بالوحي سمع صوته أهل السماء. روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عبد اللَّه بن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يحشر اللَّه الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلا بهما فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان» رواه الأئمة، واستشهد به البخاري.
وقال بعد كلام:
(فصل) ومن كلام اللَّه سبحانه القرآن العظيم، وهو كتاب اللَّه المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وهو سور محكمات وآيات بينات، وحروف وكلمات، ومن قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر وأجزاء وأبعاض متلو بالألسنة، محفوظ
في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخاص وعام وأمر ونهي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .
وسبق كلام شيخ الإسلام في منظومته اللامية وكلامه في رسالته الواسطية عن كلام الله.
فهذه عقائد الحنابلة، فمن أين جاء في أقوالهم أن الجلد والغلاف قديمان، وأن أصوات القراء قديمة، ومن هنا يتبين أن ما نسبه المفترون إلى الحنابلة كذب لا أصل له وبهتان عظيم، وسيأتي زيادة بيان من كلام ابن القيم رحمه الله في نونيته.
قال العلامة السفاريني رحمه الله وهو من متأخري الحنابلة في عقيدته:
والعلم والكلام قد تعلقا
…
بكل شيء يا خليلي مطلقا
وأن ما جاء مع جبريل
…
من محكم القرآن والتنزيل
كلامه سبحانه قديم
…
أعيا الورى بالنص يا عليم
وليس في طوق الورى من أصله
…
أن يستطيعوا سورة من مثله
قال الناظم في شرحه ناقلا عن شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية في شرح رسالة الأصفهاني ما نصه:
قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن اللَّه تعالى متكلم بكلام قائم بذاته، وأن كلامه تعالى غير مخلوق، وأنكروا على الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم أن كلامه تعالى مخلوق خلقه في غيره، وأنه كلم موسى بكلام خلقه في الشجرة، وكلم جبريل بكلام خلقه في الهواء، واتفق أئمة السلف على أن كلام اللَّه منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
قال: ومعنى قولهم منه بدأ أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره كما قالت الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم بأنه بدأ من بعض المخلوقات، وأنه سبحانه لم يقم به كلام.
قال: ولم يرد السلف أنه كلام فارق ذاته فإن الكلام وغيره من الصفات لا يفارق الموصوف، بل صفة المخلوق لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فكيف صفة الخالق تفارقه وتنتقل إلى غيره، ولهذا قال سيدنا الإمام أحمد: كلام اللَّه ليس ببائن من خلقه في بعض الأجسام. قال شيخ الإسلام: ومعنى قول السلف "وإليه يعود" ما جاء في
الآثار "أن القرآن يسرى به حتى لا يبقى في المصاحف منه حرف ولا في القلوب منه آية" وما جاءت به الآثار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين كالحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، وكتبه إلى المتوكل في رسالته التي أرسل بها إليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما تقرب العباد إلى اللَّه بمثل ما خرج منه" يعني القرآن، وفي لفظ:"بأحب إليه مما خرج منه".
وقال بعد كلام طويل بعنوان "مذهب السلف في الكلام".
وتحرير مذهب السلف أن اللَّه تعالى متكلم كما مر، وأن كلامه قديم، وأن القرآن كلام اللَّه، وأنه قديم ومعانيه، وقد توعد اللَّه جل شأنه من جعله قول البشر بقوله:{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}
ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر فمن قال إنه قول محمد فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول بشر أو جني أو ملك فمن جعله قولا لأحد من هؤلاء فقد كفر.
وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} فالمراد أن الرسول بلغه عن مرسله لا أنه قوله من تلقاء نفسه، وهو كلام اللَّه الذي أرسله كما قال:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فالذي بلغه الرسول هو كلام اللَّه لا كلامه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في المواسم ويقول:«ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؛ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي» رواه أبو داود وغيره.
والكلام كلام من قاله مبتدئًا به لا كلام من قاله مبلغًا مؤديًا وموسى عليه السلام سمع كلام اللَّه من اللَّه بلا واسطة، والمؤمنون يسمعه بعضهم من بعض، فسماع موسى مطلق بلا واسطة، وسماع الناس مقيد بواسطة كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}
ففرق بين التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى وكلم نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وبين التكليم بواسطة الرسول كما كلم سائر الأنبياء بإرسال رسول إليهم
…
إلى أن قال: "فمن قال عن القرآن الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله أو هو كلام غيره؛ فهو ملحد مبتدع ضال، ومن قال أن أصوات العباد أو المداد الذي يكتب به القرآن قديم أزلي فهو ملحد مبتدع ضال، بل هذا القرآن هو كلام اللَّه، وهو مثبت في المصاحف، وهو كلام اللَّه مبلغًا عنه مسموعًا من القراء ليس هو مسموعًا منه تعالى، فكلام اللَّه قديم وصوت العبد مخلوق. ا. هـ.
كلام الحافظ ابن القيم في النونية في رد هذه الفرية مع كلام شارحها
وقال الحافظ ابن القيم بعد أبيات عديدة من النونية، لزيادة الإيضاح والبيان والتأكيد ورفع الالتباس والشبهة، ولعله كان يقصد الرد على من زعم أن الحنابلة يقولون بقدم صوت القارئ ومداده وكتابته، فقال رحمه الله:
وتلاوة القرآن أفعال لنا
…
وكذا الكتابة فهي خط بنان
لكنما المتلو والمكتوب والمحفوظ
…
قول الواحد الرحمن
والعبد يقرؤه بصوت طيب
…
وبضده، فهما له صوتان
وكذاك يكتبه بخط جيد
…
وبضده فهما له خطان
أصواتنا، ومدادنا وأداؤنا
…
والرق، ثم كتابة القرآن
ولقد أتى في نظمه من قال قول
…
الحق والإنصاف غير جبان
إن الذي هو في المصاحف مثبت
…
بأنامل الأشباح والشبان
هو قول ربي آيه وحروفه
…
ومدادنا والرق مخلوقان
فشفى وفرق بين متلو ومصنوع
…
وذاك حقيقة العرفان
الكل مخلوق وليس كلامه
…
المتلو مخلوقًا، هنا شيئان
فعليك بالتفصيل والتمييز
…
فالإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا
…
الأذهان والآراء كل زمان
وتلاوة القرآن في تعريفها
…
باللام قد يعنى بها شيئان
يعنى بها المتلو فهو كلامه
…
هو غير مخلوق كذي الأكوان
ويراد أفعال العباد كصوتهم
…
وأدائهم، وكلاهما خلقان
فانظر إلى كلامه رحمه الله حيث أكد غير مرة أن المداد والأداة والرق والكتابة كلها
مخلوقة، وأفاد فائدة جديدة حاثا عليها وهي- أنه يجب أن نفرق بين التلاوة والمتلو، وبين الكتابة والمكتوب، وأن لا نحكم حكمًا إجماليًا مطلقًا بغير تفصيل فإنه ما أفسد هذا الوجود، وأوقع هذا الشجار والنزاع بين الطوائف، وأضل العقول والأفكار، إلا عدم التفصيل والبيان، والتحديد لمعاني الألفاظ المجملة التي يقع في معانيها احتمال واشتباه، وبعض هذه المعاني يكون صحيحًا مرادًا، وبعضها يكون فاسدًا غير مراد، فتشبهث طوائف المبتدعة بتلك المعاني الفاسدة، وتفسر الألفاظ بها، فتقع في الضلال؛ ولهذا أوصى بما أوصى شيخه به من قبل، مبينًا أن الفساد كله إنما ينشأ عن الإطلاق والإجمال.
ففي المسألة التي معنا لا يجوز -مثلًا- إطلاق القول بأن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، بل يجب التفصيل:
فإذا كان المراد بالقرآن نفس ألفاظ القارئ وصوته وأداؤه فذلك ولا شك مخلوق، وأما إن كان المراد به المتلو المؤدى، فهذا كلام اللَّه غير
مخلوق، وكذلك لفظ التلاوة، إذا عرف باللام كان محتملًا لمعنيين، أن يراد به المتلو، فيكون غير مخلوق كهذه الأكوان المخلوقة، وقد يراد به أفعال العباد من أدائهم وأصواتهم فهذا مخلوق، وقد اشتبه على كثير من الناس، ولم يهتدوا للفرق بين الأمرين، ومن أجل ذلك لما سئل الإمام أحمد هل لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ فقال: "لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق.. فأنكر عليه من لم يفهم معنى كلامه نفي الضدين، واهتدى أولو المعرفة إلى سر ذاك النفي وحكمته، وذلك أن كلمة اللفظ من الكلمات المجملة التي لا يجوز الحكم عليها بنفي أو إثبات قبل التفصيل ومعرفة المراد منها، فإنها تصلح أن تكون مصدرًا بمعنى التلفظ وهي بهذا المعنى فعل العبد، وهو مخلوق، وتصلح أن يراد بها نفس الملفوظ به وهو القرآن، وهو بهذا المعنى غير مخلوق.
ولأجل احتمال المعنيين، أنكر الإطلاق في الإثبات والنفي قبل التفصيل والبيان الذي
يحصل به التمييز بين المعنيين ومعرفة المراد منهما انتهى.
الثاني: أنه مخلوق، خلقه اللَّه منفصلًا عنه، وهذا قول المعتزلة.
الثالث: أنه معنى واحد قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره.
الرابع: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.
الخامس: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما، وهذا قول الكرامية وغيرها.
السادس: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته.. وهذا يقول صاحب المعتبر ويميل إليه الرازي في المطالب العالية.
السابع: أن كلامه يتضمن معنى قائمًا بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي.
الثامن: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات، وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهذا قول أبي المعالي ومن تبعه.
وبما أن أشهر هذه الأقوال، هو قول السلف وعليه الحنابلة، وقول المعتزلة والجهمية وقول الأشاعرة وهذه الأقوال هي التي شحنت بها الكتب ولها حتى الآن نصراء، ويحصل فيها الجدل والنقاش، نذكر حجج كل فريق، وبيان ما هو الصواب منها بطريق الاختصار؛ إذ بحث الكلام قد دونه العلماء الأعلام، وأطال فيه بعضهم إطالة مسهبة، فلا يمكن استقصاؤه فلذلك نكتفي بما يلي:-