المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌حرف القاف 5975 - " قابلو النعال". ابن سعد والبغوي والبارودي، - التنوير شرح الجامع الصغير - جـ ٧

[الصنعاني]

الفصل: ‌ ‌حرف القاف 5975 - " قابلو النعال". ابن سعد والبغوي والبارودي،

‌حرف القاف

5975 -

" قابلو النعال". ابن سعد والبغوي والبارودي، (طب) وأبو نعيم عن إبراهيم الطائفي وما له غيره".

(قابلو) بالباء الموحدة. (النعال) جمع نعل، قيل: أي اجعلوا لها قبالاً وهو السير الذي يكون بين الأصبعين، وقيل: المراد يضع إحدى نعليه على الأخرى في المسجد والأول أقرب وهو إرشاد إلى مصلحة الإنسان ودلالة على مرافقة. (ابن سعد والبغوي والبارودي، (طب) وأبو نعيم (1) عن إبراهيم الطائفي) الثقفي قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يكلم الناس يقول: "قابلوا

" إلخ، وفيه عبد الله بن هرمز: ضعيف. (وما له) أي إبراهيم. (غيره) ونقل الذهبي (2) عن ابن عبد البر أنه لا يصح ذكره في الصحابة، قال ابن حجر: لفظ ابن عبد البر إسناد حديثه ليس بالقائم، ولا يصح صحبته عندي وحديثه مرسل انتهى.

5976 -

"قاتل الله اليهود، إن الله عز وجل لما حرم عليهم الشحوم جمَّلوها ثم باعوها فأكلوا أثمانها". (حم ق 4) عن جابر (ق) عن أبي هريرة (حم ق ن هـ) عن عمر (صح) ".

(قاتل الله) في رواية لعن الله. (اليهود) قيل: قاتلهم لعنهم أو عاداهم أخرج في صورة المفاعلة، وعبر عنه بما هو سبب عنها فإنهم بما اخترعوا من الحيلة انتصبوا لمحاربة الله ومقاتلته ومن قاتله قتله، ذكره الطيبي، والحديث يحتمل

(1) أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 333)(997)، وأبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (1604)، والروياني (1506)، وانظر الإصابة (1/ 20)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4035)، والضعيفة (4030).

(2)

انظر: تجريد أسماء الصحابة للذهبي (1/ 2 رقم 16).

ص: 569

الإخبار ويحتمل الدعاء. (إن الله عز وجل لما حرم عليهم الشحوم) أي أكلها. (جمَّلوها) بالجيم وتخفيف الميم: أذابوها. (ثم باعوها) مذابة. (فأكلوا أثمانها) وفي بعض الروايات "وأن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه"، قيل: والنهي عن الإذابة للبيع لا للاستصباح، والحديث مسوق لتحريم الحيل، ومنه يعلم تحريم ثمن الخمر وبيعه وغيرها من الحيل لأن الحديث لم يسق لمجرد ذم اليهود بل ولتحذير الأمة من إتيان مثل ما أتوه وقد وسع الكلام فيه في محله، وجملة: إن الله إلى آخرها مسوقة لبيان علة المقاتلة. (حم ق 4) عن جابر (ق) عن أبي هريرة (حم ق ن هـ (1) عن ابن عمر وسببه كما في سنن أبي داود عن ابن عباس أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً خلف المقام فرفع رأسه إلى السماء فنظر ساعة ثم ضحك ثم ذكره.

5977 -

"قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". (ق د) عن أبي هريرة (صح) ".

(قاتل الله اليهود) أبعدهم من رحمته. (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) هي جملة تعليلية لبيان المقاتلة وذلك أنهم اتخذوا قبور الأنبياء جهة لقبلتهم، قال القاضي: لما كانت اليهود يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم [3/ 169] ويجعلونها قبلة ويتوجهون في الصلاة ونحوها فاتخذوها أوثاناً، لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه، وأما القول بأن قبر إسماعيل عليه السلام في المسجد الحرام عند الحطيم وأنه يعارض هذا فهو مردود بأن النهي وقع عن

(1) أخرجه أحمد (3/ 324)، والبخاري (2121)، ومسلم (1581)، وأبو داود (3486)، والترمذي (1297)، والنسائي (4/ 54)، وابن ماجة (2167) عن جا بر، وأخرجه البخاري (437)، ومسلم (530) عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد (2/ 213)، والبخاري (2110)، ومسلم (1582)، والنسائي (7/ 309)، وابن ماجة (2171) عن ابن عمر، وأخرجه أبو داود (3488) عن ابن عباس.

ص: 570

اتخاذه قبلة يسجد إليها، وقبر إسماعيل لا يعرف محله ولا يقصده أحد بالصلاة إليه، وهذا الحديث إعلام للأمة بأن يتجنبوا اتخاذ القبور مساجد لما في ذلك من الذريعة إلى عبادتها والاعتقاد فيها، وقد وقع من ذلك في جميع الأقطار ما لا ينكره أحد. (ق د (1) عن أبي هريرة) وفي الباب جابر وابن عمر وغيرهما.

5978 -

"قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". الطيالسي والضياء عن أسامة (صح) ".

(قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون) قاله صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ورأى فيها تصاوير فمحاها، واصل اتخاذ الصور أن الأوائل فعلوها على شكل أسلافهم ليتأسوا برؤية صورهم ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم في الطاعة، ثم خلف من بعدهم خلف سول لهم الشيطان أنَّ أسلافهم كانوا يعبدونها فعبدوها. والحديث دليل على تحريم التصوير على الجدارات ونحوها وتحريمه بجسم مستقل أولى، وزعم من لا علم عنده أنه إنما تحرم في تلك الأزمنة لقرب عهدهم بالأوثان وقد رده العلماء عليه وتأتي أحاديث في التصوير. (الطيالسي والضياء (2) عن أسامة) رمز المصنف لصحته.

5979 -

"قاتل دون مالك، حتى تحوز مالك، أو تقتل فتكون من شهداء الآخرة". (حم طب) عن مخارق (ح) ".

(قاتل) أمر إرشاد وإيجاب إلا أنه لم يقله أحد. (دون مالك) أي قاتل من تصدى لأخذه. (حتى تحوز مالك) يشمل كل ما سمي مالا وإن قل، (أو تقتل فتكون من شهداء الآخرة) ظاهره أنه لا يكون له في الدنيا حكم الشهداء بل

(1) أخرجه البخاري (437)، ومسلم (530)، وأبو داود (3227).

(2)

أخرجه الطيالسي (623)، والضياء في المختارة (1336)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4292)، والصحيحة (996).

ص: 571

يغسل ويصلى عليه وفيه خلاف، ويحتمل أن قتله في الآخرة لإفادة أنه من ذي الدرجات فيها مع الشهداء الذين قتلوا لإعلاء كلمة الله (حم طب (1) عن مخارق) بضم الميم فالخاء المعجمة والراء والقاف، رمز المصنف لحسنه.

5980 -

"قاتل عمار وسالبه في النار". (طب) عن عمرو بن العاص وعن ابنه" (صح).

(قاتل عمار) اسم فاعل أضيف إلى مفعوله وهو ابن ياسر قتيل صفين. (وسالبه في النار) عطفه عليه؛ لأن الغالب أنَّ القاتل هو السالب، وإلا فلو قتله ولم يسلبه لكان في النار، وشرح قتله في كتب الأخبار، وحديث:"تقتلك الفئة الباغية"(2) حكم بتواتره أئمة، وفيه دليل على فضيلة عمار وأن أمير المؤمنين علي عليه السلام كان مصيباً في حربه لأهل صفين، وفيه علم من أعلام النبوة (3). (طب (4) عن عمرو بن العاص وعن ابنه) عبد الله، ورواه عنه أحمد، قال الهيثمي بعد ما عزاه لهما: رجال أحمد ثقات، فافهم أنَّ رجال الطبراني ليسوا كذلك، والمصنف رمز على الطبراني بالصحة فلو عزاه لأحمد لكان أحمد.

5981 -

"قارئ سورة الكهف، تدعى في التوراة الحائلة، تحول بين قارئها وبين النار". (هب فر) عن ابن عباس".

(قارئ سورة الكهف) في جمعة أو غيرها وإن كان لها في الجمعة زيادة أجر.

(1) أخرجه أحمد (5/ 294)، والطبراني في الكبير (20/ 313)(746)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4293).

(2)

أخرجه البخاري (436)، ومسلم (2916).

(3)

سبق التعليق عليه في هذه المسألة وبيان موقف علماء أهل السنة والجماعة منها، راجع: العواصم من القواصم لابن العربي، ورفع الإعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية.

(4)

أخرجه الطبراني في الأوسط (9252)، وأحمد (4/ 198)، وانظر قول الهيثمي في المجمع (9/ 297)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4294)، والصحيحة (2008).

ص: 572

(تدعى) أي السورة وتسمى. (في التوراة الحائلة) بالحاء المهملة: فاعله، من حال يحول وليس المراد أن السورة بنفسها في التوراة، بل المراد أنه ذكر في التوراة أنَّ الله يعطي محمدا سورة يذكر فيها كذا تسمى الحائلة؛ وجملة تدعى خبر قارئ سورة واكتفى بالعابد إلى المضاف إليه لأنه كالجزء من المبتدأ وإن كان الأكثر خلافه. (تحول بين قارئها وبين النار) بيان لوجه التسمية وإشارة إلى ملاحظته المعاني في الأسماء. (هب فر (1) عن ابن عباس) سكت المصنف عليه، وقد قال البيهقي بعد تخريجه: تفرد به محمد بن عبد الرحمن الجدعاني وهو منكر الحديث انتهى. وفيه أيضاً سليمان بن مرقاع (2)، قال الذهبي في الضعفاء: قال العقيلي: إنه منكر الحديث، وإسماعيل ابن أبي أويس (3) قال النسائي: ضعيف.

5982 -

"قارئ "اقتربت" تدعى في التوراة المبيضة، تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه"، (هب فر) عن ابن عباس (ض) ".

(قارئ "اقتربت") يريد بها الصغرى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر: 1]، لأن الكبرى تسمى سورة الأنبياء. (تدعى في التوراة المبيضة) اسم فاعل من بيض مشدداً. (تبيض وجه صاحبها) حافظها أو قارئها في المصحف. (يوم تسود الوجوه) والإسناد إليها مجاز لأنها سبب التبييض. (هب فر (4) عن

(1) أخرجه البيهقي في الشعب (2448)، والديلمي في الفردوس (4619)، والرافعي في التدوين (1/ 300)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4039)، وقال في الضعيفة (3259): ضعيف جداً.

(2)

انظر المغني (1/ 283).

(3)

انظر المغني (1/ 79).

(4)

أخرجه البيهقي في الشعب (2495)، والديلمي في الفردوس (4618)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4036).

ص: 573

ابن عباس)، فيه ما في الذي قبله فالرواة متحدون وقد رمز المصنف لضعفه.

5983 -

"قارئ الحديد و"إذا وقعت" و"الرحمن" يدعى في ملكوت السماوات والأرض ساكن الفردوس". (هب فر) عن فاطمة".

(قارئ الحديد) سورة الحديد. (و"إذا وقعت" و"الرحمن") سيقت على عكس ترتيب المصحف وكأنه غير ملاحظ هذا الترتيب في قراءتها. (يدعى في ملكوت) في النهاية (1): اسم مبني من الملك كالجبروت والرهبوت من الجبر والرهبة، وفي التعريفات للشريف [3/ 170] الملكوت عالم الغيب بالأرواح والنفوس والملك عالم الشهادة من المحسوسات الطبيعية كالعرش والكرسي وكل جسم يتجسد متصرف الخيال المنفصل من مجموع الحرارة والرطوبة واليبوسة. (السماوات والأرض) أي تدعوه الملائكة:(ساكن الفردوس) لأنه قد استحق سكناها بما تلاه فيحتمل أنه بمجرد التلاوة ولو مرة في العمر ويحتمل أنه بالمواظبة عليها وتدبر معانيها وتفهم ما فيها والعمل بما أرشدت إليه. (هب فر (2) عن فاطمة) سكت عليه المصنف وقد قال البيهقي: تفرَّد به محمد بن عبد الرحمن عن سليمان وكلاهما منكر.

5984 -

"قارئ "ألهاكم التكاثر" يدعى في الملكوت مؤدي الشكر". (فر) عن أسماء بنت عميس".

(قارئ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}) أي إلى آخرها وأنه اسم للسورة بتمامها وهو الأقرب. (يدعى في الملكوت) يحتمل أن المراد ما أربد بالأول من عمومه للسماوات والأرض ويحتمل أنه لأحدهما. (مؤدي) اسم فاعل من أداه.

(1) النهاية (1/ 671).

(2)

أخرجه البيهقي في الشعب (2496)، والديلمي في الفردوس (4621)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4037).

ص: 574

(الشكر) كأنه لما فيها من الإقرار بالسؤال عن النعيم ومن أقر بالسؤال عنه فقد أقر بالإنعام وأنه لا بد من الجزاء عليه وهذا شكره ولأن معاني السورة كلها دالة على شكر النعمة. (فر (1) عن أسماء بنت عميس) سكت المصنف عليه وفيه إسماعيل بن أبي أويس قال الذهبي في الذيل: صدوق صاحب مناكير وقال النسائي: ضعيف.

5985 -

"قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها". (حم م ت) عن أبي هريرة (صح) ".

(قاربوا) اقصدوا أقرب الأمور فيما تعبدتم به ولا تغلو فيه ولا تقصروا، وقيل: إنه من قولهم قاربت الرجل لاطفته بكلام حسن. (وسددوا) اقصدوا السداد في كل أمر وهو قريب من معنى قاربوا. (ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة) لذنوبه. (حتى النكبة ينكبها) هو ما يصيب الإنسان من الحوادث كما في النهاية. (أو الشوكة يشاكها) تصيبه بحدها فإنها كفارة لذنوبه وفيه تسلية بالغة وإعلام بأنه لا ينال العبد شيء إلا كفر الله عنه من خطاياه وسبب الحديث أنها لما نزلت الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مخبراً أن الجزاء منه ما يكون في دار الدنيا. (حم م ت (2) عن أبي هريرة) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

5986 -

"قاضيان في النار، وقاض في الجنة: قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق فجار متعمدا"، أو قضى بغير علم فهما في النار". (ك) عن بريدة (صح) ".

(1) أخرجه الديلمي كما في الكنز (2652)، وأخرجه البيهقي في الشعب (2518) بلفظ "أن يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} . انظر فيض القدير (4/ 468)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4038).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 248)، ومسلم (2574)، والترمذي (3038).

ص: 575

(قاضيان في النار) إخبار عن أحوال الذين يقضون بين الناس في أي أمر عظيم أو حقير قال ابن تيمية (1): حتى من يحكم ويفاضل بين الصبيان في الحظوظ. (وقاض في الجنة) فقسمهم إلى ثلاثة وبين صفة كل واحد وحكمه بقوله: (قاضٍ عرف الحق) بالأدلة إذ المقلد لا يسمى عارفاً. (فقضى به فهو في الجنة) لإيقاعه القضاء على مطابقة ما عرفه من الحق. (وقاض عرف الحق فجار) مال عن الحكم به. (متعمداً) للميل. (أو قضى بغير علم فهما) العالم الجائر المتعمد والقاضي الجاهل. (في النار) تمام الحديث عند مخرجه قالوا: فما ذنب هذا الذي يجهل؟ قال: "ذنبه لا يكون قاضيا حتى يعلم" قال الذهبي: كل من قضى بغير علم ولا بينة من الله ورسوله على ما يقضي به فهو داخل في هذا الوعيد المفيد أن ذلك كبيرة. (ك (2) عن بريدة)، رمز المصنف لصحته؛ لأنه قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وتعقبه الذهبي بأن ابن أبي بكير الغنوي أحد رجاله منكر الحديث وقال في الكبائر: إسناده قوي.

5987 -

"قاطع السدر يصوب الله رأسه في النار". (هق) عن معاوية بن حيدة (ح) ".

(قاطع السدر) الشجر المعروف (يصوب الله رأسه في النار) أي ينكسه جزاءً وفاقاً؛ لأنه نكس رأسها، سئل أبو داود السجستاني عن هذا الحديث فقال: هو حديث مختصر ومعناه: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار أي نكسه فيها، وقيل: أراد به سدر مكة؛ لأنها حرم، وقيل: سدر المدينة نهى عن قطعه ليكون أنساً وظلاً

(1) مجموع الفتاوى (18/ 170).

(2)

أخرجه الحاكم (4/ 101، 102)، وكتاب الكبائر للذهبي (ص: 129)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4298).

ص: 576

لمن يهاجر إليها. وسئل المزني عن هذا فقال: وجهه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن هجم على قطع سدر لقوم، أو ليتيم، أو لمن حرم الله أن يقطع عليه فتحامل عليه فقطعه فاستحق ما قاله فتكون المسئلة سيقت السامع فيسمع الجواب ولم يسمع المسألة واحتج المزني على جواز قطعه بما احتج به الشافعي من إجازة النبي الله صلى الله عليه وسلم أن يغسل الميت بماء وسدر ولو كان حراماً لم يجز الانتفاع به قال: والورق من السدر كالغصن وقد سوى النبي صلى الله عليه وسلم فيما حرم قطعه من شجر الحرم بين الورق وغيره فلما لم يمنع من ورق السدر دل على جواز قطع [3/ 171] السدر انتهى من مرقاة الصعود. (هق (1) عن معاوية بن حيدة) رمز المصنف لحسنه.

5988 -

"قال الله تعالى: يا ابن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره". (حم د) عن نعيم بن همار (صح)(طب) عن النواس".

(قال الله تعالى) قالوا: هذا الحديث وأمثاله كلام قدسي وهو ما أخبر الله به بنبيه صلى الله عليه وسلم بإلهام أو منام فأخبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك المعنى بعبارة من نفسه بخلاف القرآن فإنه اللفظ المنزل عليه صلى الله عليه وسلم للإعجاز عن الإتيان بسورة من مثله، قال الطيبي: الحديث القدسي نص إلهي، في الدرجة الثانية وان كان عن غير واسطة ملك غالبا لأن المنظور فيه المعني دون اللفظ وفي القرآن اللفظ والمعنى منظوران، وقال الحافظ ابن حجر: هذا من الأحاديث الإلهية وهي يحتمل أن تكون للمصطفي صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله بلا واسطة أو بواساطة. (يا ابن آدم، لا تعجز) بفتح الجيم وكسرها. (عن أربع ركعات في أول النهار) قال ابن تيمية (2): هذه الأربع

(1) أخرجه البيهقي في السنن (6/ 141)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4299)، وحسنه في الصحيحة (615).

(2)

ذكره ابن القيم في الزاد (1/ 330).

ص: 577

عندي هي الفجر وسنتها، وقيل: المراد بها الضحى. (أكفك آخره) بالإعانة على الطاعات والقربات وكفاية أمور الدنيا. (حم د عن نعيم بن همار) بتشديد الميم آخره زاي (1) رمز المصنف لصحته، (طب (2) عن النواسر بن سمعان).

5989 -

"قال الله تعالى: يا ابن آدم، صل لي أربع ركعات من أول النهار أكفك إلى آخره". (حم) عن أبي مرة الطائفي (ت) عن أبي الدرداء".

(قال الله تعالى: يا ابن آدم، صلِّ لي أربع ركعات من أول النهار أكفك إلى آخره)(حم عن أبي مرة الطائفي) قال في التقريب: وأصله شيخ لمكحول يقال: أن له صحبة، وقيل: الصواب أنه كثير بن مرة المتقدم، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

(ت (3) عن أبي الدرداء) قال في الميزان: حسن قوي الإسناد وفي الكبير أنه قال الترمذي: حسن غريب.

5990 -

"قال الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري؟!! ". الحكيم (هب) عن أبي الدرداء (ض) ".

(قال الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم) في خبر له شأن عجيب باعتبار مخالفته للمفعول والمشروع وباعتبار عظيم العقاب عليه بينه بقوله: (أخلق ويعبد غيري) ومن قضية العقل أن من خلق فهو الذي تفرد بالعبادة ولا يعبد سواه. (وأرزق ويشكر غيري؟!) ممن أجريت الرزق علي يديه أو بسبه

(1) انظر: الإصابة (6/ 462).

(2)

أخرجه أحمد (5/ 286)، وأبو داود (1289) والدارمي (1/ 145) عن نعيم بن همار، وأخرجه الطبراني في الكبير (8/ 179)(7746) عن أبي أمامة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4342).

(3)

أخرجه أحمد (5/ 287)، وانظر قول الهيثمي في المجمع (2/ 236)، وأخرجه الترمذي (475)، وانظر الميزان (1/ 402)، والتقريب (8354)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4339).

ص: 578

وذلك من أقبح ما يفعله العباد وأمقته وفيه دلالة على أن العقل يقضي بأن من خلق استحق التذلل له والانقياد لما يرد من جهته ومن رزق فلا يوجه الشكر إلى غيره ولا يشكر من أجراه الله تعالى بيده إلا بواسطة أنه سخره ربه لذلك لا لأن الرزق من جهته. (الحكيم (هب)(1) عن أبي الدرداء) رمز المصنف لضعفه على البيهقي؛ لأن فيه عنده مهنى بن يحيى مجهول وبقية بن الوليد وشريح بن عبيد ثقة إلا أنه مرسل، وأما الحكيم فذكره من غير إسناد فما كان للمصنف عزوه إليه.

5991 -

"قال الله تعالى: من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، فليلتمس ربا سواي". (طب) عن أبي هند الداري (ض) ".

(قال الله تعالى: من لم يرض بقضائي) لما أقضيه وأقدره. (ولم يصبر على بلائي) على ما أبتلي به العباد. (فليلتمس ربا سواي) هذا تعليق بالمحال فيتعين الرضا والصبر لأنه لا رب سواه تعالى، قال الغزالي: الله تعالى يقول: هذا لا يرضانا رباً حتى سخط فليتخذ رباً آخر يرضاه وهذا غاية الوعيد والتهديد لمن عقل، قالوا والقضاء أربع أنواع: نعمة وشدة وخير وشر، فالنعمة يجب الرضا فيها بالقاضي والمقضي، والقضاء ويجب الشكر عليها، والشدة يجب الرضا فيها بالقاضي والقضاء والمقضي ويجب الصبر عليها، والخير يجب فيه الرضا فيه بالقاضي والقضاء والمقضي ويجب عليه ذكر المنة من حيث أنه وفقه له، والشر يجب فيه الرضا فيه بالقاضي والقضاء والمقضي من حيث أنه مقضي لا من حيث أنه شر. (طب (2) عن أبي هند الداري) نسبة إلى الدارين هانئ وأبو هند

(1) أخرجه الحكيم في نوادر الأصول (2/ 301)، والبيهقي في الشعب (4563)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4048)، والضعيفة (2371).

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 320)(807)، وانظر المجروحين (1/ 327)، والمجمع =

ص: 579

اسمه يزيد بن عبد الله وهو أخو تميم الداري رمز المصنف لضعفه؛ لأنه قال الحافظ العراقي: إسناده ضعيف جدًّا، قال تلميذه الهيثمي: فيه سعد بن زياد قال الذهبي: متروك، وأورده في اللسان في ترجمة سعيد من حديثه عن أبي هند وقال: قال الأزدي: متروك، وساق ابن حبان له هذا وقال: لا أدري أي الثلاثة منه أو من ابنه أو من جده.

5992 -

"قال الله تعالى: من لم يرض بقضائي، وقدري فليلتمس ربا غيري". (هب) عن أنس" (ض).

(قال الله تعالى: من لم يرض بقضائي، وقدري) وجاء في الدعاء المرفوع: "وأسألك الرضا بعد القضاء" لأنه رتبة لا يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. (فليلتمس ربا غيري) أي ولا رب إلا الله فعلى العبد الرضا [3/ 172] بما قضاه عالماً بأن الخير كله فيما قضاه مولاه وساقه الله من خير أو شر. (هب (1) عن أنس) رمز المصنف لضعفه.

5993 -

"قال الله تعالى: الصيام جنة يستجن بها العبد من النار، وهو لي، وأنا أجزي به". (حم هب) عن جابر (صح) ".

(قال الله تعالى: الصيام) فرضه ونفله (جنة) ترس حقيقة بأن يجعل تعالى يوم القيامة المعاني أعياناً. (يستجن) يجتني ويستتر ويتقي. (بها العبد من النار) فلا تصيبه وإن جارها ووردها. (وهو لي) لم يعبد به غيري كما أسلفناه. (وأنا) لا غيري. (أجزي به) أتولى الجزاء به لفاعله من غير واسطة أحد من ملك وغيره.

= (7/ 207)، ولسان الميزان (4/ 167)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4054)، وقال في الضعيفة (505): ضعيف جداً.

(1)

أخرجه البيهقي في الشعب (200)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4053)، وقال في الضعيفة (747): ضعيف جداً.

ص: 580

(حم هب (1) عن جابر) رمز المصنف عليه بالصحة، قال الهيثمي: إسناد أحمد حسن.

5994 -

"قال الله تعالى: كل عمك ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو قاتله فليقل: "إني امرؤ صائم" والذي نفس مُحمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه"(ق ن) عن أبي هريرة (صح) ".

(قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم) أي الصالح بدليل قوله: (له) إذ السيئ عليه لا له والمراد له منه حظ لاطلاع الناس عليه. (إلا الصيام فإنه لي) لا يطلع عليه غيري ولا يعلم ما يستحقه الصائم من الإثابة، أو معناه أن الأعمال يقتص منها يوم القيامة في المظالم إلا الصوم فإنه لله ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئاً واختاره الغزالي وقد جمع الطالقاني في معناه جزءا جمع فيه نحو خمسين قولاً (وأنا أجزي به) صاحبه جزاء كبيراً وأتولّى الجزاء عليه بنفسي. (والصيام جنة) ترس للعبد يصونه عن العذاب. (وإذا كان) وجد (يوم صوم أحدكم) لنفله أو فرضه. (فلا يرفث) بضم الفاء وتكسر، لا يتكلم بقبيح. (ولا يصخب) بالصاد المهملة والخاء المعجمة لا يصيح. (وإن سابه أحد) شاتمه وتعرض لشتمه. (أو قاتله) أراد مقاتلته. (فليقل) بقلبه أو بلسانه سرًّا أو بهما. (إني امرؤ صائم) زجراً لنفسه وردا لها عن الخوض في الباطل. (والذي نفس مُحمد بيده) بقدرته وتصرفه. (لخلوف) بضم المعجمة. (فم الصائم) تغير ريحه، وفيه رد على من قال: لا تثبت الميم عند الإضافة إلا في الضرورة. (أطيب

(1) أخرجه أحمد (3/ 396)، والبيهقي في الشعب (3582)، وانظر قول الهيثمي في المجمع (3/ 180)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4308).

ص: 581

عند الله من ريح المسك) المراد أنه تعالى يثيب على هذه الرائحة ثواباً أكبر مما يثيب على استعمال المسك فيما يرضيه في الجمع والأعياد ونحوها، ويحتمل أنَّ المراد طيبه عند الملائكة، وقيل يجازيه الله في الآخرة بأن يجعل ريحه ونكهته أطيب من ريح المسك كما في دم الشهداء. (وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره) بإتمام صومه وسلامته عن المفسدات بخروجه عن عهدة المأمور به أو بالأكل والشرب بعد الجوع، أو بما يعتقده من وجوه الثواب، أو بما ورد في الخبر "أنَّ للصائم عند فطره دعوة لا ترد". (وإذا لقي ربه فرح بصومه) بنيل ثوابه وعظم المنزلة عند ربه. (ق ن (1) عن أبي هريرة) بألفاظ متقاربة.

5995 -

"قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره". (حم خ) عن أبي هريرة (صح) ".

(قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم) زاد ابن خزيمة: "ومن كنت خصمه خصمته" والخصم مصدر خصمته نعت به للمبالغة كصوم وعدل. (يوم القيامة: رجل أعطى بي) أي عاهد باسمي وعهدي وذمتي. (ثم غدر) في عهده. (ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه) انتفع به بأكل أو غيره إلا أنه خص الأكل لأنه أعظم المنافع. (ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه) ما استأجره لأجله. (ولم يعطه أجره) فهو لا يتولى الله تعالى المخاصمة لمن ظلمهم عنهم. (حم خ (2) عن أبي هريرة) ورواه أبو يعلى وغيره.

5996 -

"قال الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، وكذبني وما ينبغي له أن يكذبني، أما شتمه إياي فقوله: إن لي ولداً وأنا الله الأحد الصمد

(1) أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151)، والنسائي (4/ 162).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 358)، والبخاري (2114)، وأبو يعلى (6571).

ص: 582

لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: ليس يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته". (حم خ ن) عن أبي هريرة (صح) ".

(قال الله تعالى: شتمني ابن آدم) المراد الجنس الصادق بالبعض أي سبني. (وما ينبغي له أن يشتمني) أي لا يجوز له ذلك. (وكذبني وما ينبغي له أن يكذبني) أي ليس له ذلك فإنه ينافي ما يجب للسيد على عبده. (أما شتمه إياي فقوله: إن لي ولداً) لاستلزامه الإمكان المستدعي للحدوث وذلك غاية الشتم في حق الله تعالى؛ لأن الشتم توصيف الشيء بما هو نقص وازدراء وإثبات الولد لله تعالى غاية في الذم لأنه يستلزم صفات نقص عدة من إتيان الصاحبة وإتيان الشهوة الداعية إلى النكاح والله تعالى منزه عن كل نقص، ولأن الولد لا يتخذه إلا من يفتقر إلى الأعوان ولأن كل من في السماوات والأرض عبيده ونسبة الولد إليه تشريك وجعل نظير له وجزاءً منه وقد أشار تعالى في قوله:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ [3/ 173] وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 90 - 93] إلا أن اتخاذ الولد ينافي الألوهية كما أفاد ذلك قوله: (وأنا الله الأحد) لا شريك له في صفاته ولا ملكه ولا ذاته. (الصمد) المصمود إليه في الحوائج يقصده كل من في السماوات والأرض ولو كان له ولد لكان جزءاً له ونظيره. (لم ألد) قدمه على: (ولم أولد) مع أن المولودية متقدمة على الوالدية أي كونه مولوداً أسبق طبعاً على كونه والداً لأنه إنما ساق كونه مولوداً استطراداً وإلا فالمراد الرد على من زعم أنه ذو ولد فإنه لم يقل أحد بأنه تعالى مولود بل استطرده إعلاما بأن كل ذي ولد لا يكون إلا موجودا عن غيره بالخلق عن غير أبوين كآدم أو عنهما كأولاده أو عن أحدهما كما في عيسى

ص: 583

- عليه السلام، وهو تعالى موجود بذاته لم يوجده أحد فلا يكون له ولد وهذه هي النكتة في الآية في تقديم لم يلد على ولم يولد. (ولم يكن لي كفوا أحد) الكفو النظير ولو كان له تعالى ولد لكان كفواً له ونظيراً، قال الطيبي: هذه أوصاف مشعرة بغلبة الحكم فالأحد ينفي ما يذكر معه من العدد فلو فرض له ولد يكون مثله فلا يكون أحداً، والصمد الذي يصمد إليه في الحوائج، فلو كان له ولد لشركه فيه فيلزم فساد السماوات والأرض. وقوله كفوا أي صاحبة ولا ينبغي له ذلك ولزم منه الاحتياج إلى قضاء الشهوة وكل ذلك وصف له بما فيه نقص وهو معنى الشتم انتهى. إن قيل مثبت الولد منكر لأحديته وصمديته وغيرها فكيف يقوم ما ذكر عليه دليلاً؟

قلت: أما أولا فلأن أدلة وحدته تعالى وصمديته قد قامت عليها الأدلة القطعية في الآفاق والمعجزات نافيها مكابر: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] وهذا جار في كل ما ورد من الاستدلال على الكفار في كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

(وأما تكذيبه إياي) يرد ما أخبرت به غير رسلي. (فقوله: ليس يعيدني كما بدأني) فإنه أقر بأنه تعالى بدأه وأنكر إعادته إياه ووقع في الكشاف (1) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

} هو الآية. [الأحزاب: 57] رواية هذا الحديث بلفظ: "بعد أن أبدأني" وهو وهم وليس له معنى على روايته وجميع رواياته في كتب الحديث على هذا اللفظ الذي في الجامع. (وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته) بل هما مثلان ومن قدر على أحد المثلين قدر على الآخر أو الإعادة أهون كما أفاده قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ

(1) الكشاف (ص 1008).

ص: 584

أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] فعبارة الحديث قابلة للحمل على معنى الآية والتحقيق أنَّ الكل من البداية والإعادة هين عليه تعالى وأهون مجرد عن معنى الزيادة، وهذا الدليل كرره تعالى في كتابه في غير موضع أعني الاستدلال ببدايته الخلق الذي لا ينكرونه:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)} [الزخرف: 9] على ما ينكرونه من الإعادة وهو أقوى الأدلة على الإعادة وقد بسط في محله.

فإن قلت: قوله إن لله ولدا تكذيب أيضا لأنه تعالى أخبر أنه لا ولد له، وقوله ليس يعيدني شتم أيضا لأنه نسبة له تعالى إلى العجز فلم خص أحدهما بالشتم والآخر بالتكذيب؟

قلت: نفي الإعادة نفي صفة كمال واتخاذ الولد إثبات صفة نقصان له والشتم أفحش من التكذيب له ولذلك نفى الله عن ذاته ذلك بأبلغ عبارة حيث قال: (والله الأحد)، كذا قيل. (حم خ ن (1) عن أبي هريرة).

5997 -

"قال الله تعالى: كذبني ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً". (خ) عن ابن عباس (صح) ".

(قال الله تعالى: كذبني) ابن آدم عبر بهذا هنا وفيما سلف تذكيراً للإنسان بنعمة الاتخاذ له ولايته وإرشاداً إلى تذكيره بإسجاد الله لآدم ملائكته وإكرامه له فكأنه يقول: كذبني الذي أنعمت عليه وعلى أبيه الأول وآبائه من بعده بنعمة الاتخاذ والإمداد والمراد جنس ابن آدم وفيه أن من كذب رسله فقد كذبه تعالى؛ لأن الإخبار بالإعادة جاء على لسان رسله. (ولم يكن له ذلك) أراد به نفي الكون

(1) أخرجه أحمد (2/ 317)، والبخاري (3193)، والنسائي (4/ 112).

ص: 585

والمراد ألا ينفى كقوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا [3/ 174] شَجَرَهَا} [النمل: 60]، في {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} [آل عمران: 161] ما صح له ذلك لأن النبوة تنافي الغلول وكذلك كونه ابن آدم الذي أوجد من العدم وغذاه مولاه بالدقيق والجليل من النعم ما يصح له في عقل عاقل أن يكذب مولاه من أوجده وأوجد من قبله آباءه: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)} [يس: 77]. (وشتمني ولم يكن له ذلك) إنما يجب عليه تبرئة باريه وخالقه ومدحه والثناء عليه وتأمل لطف هذه العبارات، وقوله: ابن آدم ولم يقل الفاجر والكافر ونحوها من الصفات التي يستحقها بتكذيبه لمولاه وشتمه له وقوله: ولم يكن له ذلك ولم يقل: يحرم أو نحوها. (فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان) وقد صح إخبار كل رسول عنه تعالى بإعادة خلقه وقضي العقل بذلك كما بين في محله.

(وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد) يشمل من نسب إليه الذكر أو الأنثى كما قالوا: الملائكة بنات الله. (فسبحاني أن أتخذ صاحبة) ذكرها وإن لم يشتهر ذكر الصاحبة في كلام المشركين إليه تعالى لكنه يلزم من إثبات الولد إتيانها لأنهم لا يعرفون ولدا إلا من والده قال ابن القيم في بدائع الفوائد: إنه لما فهم عوام النصارى القائلين بأن عيسى ابن الله تعالى كما يقولونه إن الابن يستلزم الصاحبة ولم يستنكفوا من دعوى كون مريم إلهه وأنها والدة الإله عيسى فيقول عوامهم: يا والدة الإله اغفري لي ويصرح بعضهم بأنها زوجة الرب تعالى ولا ريب أن القول بالإيلاد يستلزم ذلك أو إثبات إيلاد لا يعقل ولا يتوهم إلا عن صاحبة وصاحب فخواص النصارى في حيرة وضلال وعوامهم لا يستنكفون عن القول بالزوجة والإيلاد المعقول تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، والقول في هذا المذهب الخبيث أضل خلق الله فهم كما وصفهم الله: {وقَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ

ص: 586

وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. (أو ولداً) كما قالوه وقد ذكر تعالى الرد على من زعم أنه اتخذ ولدا في كتابه في مواضع كقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [سورة البقرة: 116، 117]، فذكر أربع حجج في نفي الولد عنه وقد جود الكلام على الآية ابن القيم (1) في آخر كتابه بدائع الفوائد بما يشفى ويكفي. (خ (2) عن ابن عباس).

5998 -

"قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. (حم ق ت هـ عن أبي هريرة) "(صح).

(قال الله تعالى) خطابا وإخبارًا لأنبيائه عليهم السلام فيبلغوا عباده.

(أعددت) من الإعداد وهو تأهيب الشيء لمن بعد له وفيه دليل على خلق الجنة وتكرر في القرآن: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133](لعبادي الصالحين) القائمين بما أمروا به. (ما لا عين رأت) بتنوينها وتنوين إذن وروى بفتحهما من دونه وكلاهما صحيح إذ هما من باب لا حول ولا قوة إلا بالله وكلمة ما موصولة أو موصوفة وحذف العائد من رأت أي رأته والنكرة في سياق النفي للعموم أي لم تره عين من العيون كلها. (ولا أذن سمعت) أي سمعت وصف ما أعد حقيقة وأن وصفه تعالى في كتابه ووصفت الرسل فهو عند الحقيقة فوق ذلك، ويحتمل أن المراد ما لا عين رأت من المبصرات ولا أذن سمعت من الأصوات والنغمات الطيبات وخص الرؤية والسمع لأن أكثر المحسوسات تدرك بهما والإدراك ببقية الحواس أقل فإذا لم يدرك بأعم الحواس إدراكا لم يدرك بأخصها. (ولا خطر على قلب بشر) أي لم يتصوره قلب بخطوره عليه إذ لا

(1) بدائع الفوائد (4/ 960).

(2)

أخرجه البخاري (4482).

ص: 587

يخطر عليه إلا ما يعرفه أو يقيسه على ما يعرفه والتخصيص بالبشر هنا يحتمل أنه يدل على أنه أريد بالعين والأذن من عيون البشر وأذانهم فيخرج الملك فإن جبريل عليه السلام قد رأى الجنة كما في أحاديث وقول الطيبي: خص البشر لأنهم الذين ينتفعون بما أعد لهم ويهتمون بشأنه بخلاف الملائكة ظاهر في إنه أراد أن تخصيص البشر لهذه النكته وإلا فإن الملائكة مثلهم لا يعرفون ذلك النعيم وهو ظاهر كلامه فما قيل الشارح إنه يعارض كلامه [3/ 175] بما زاده ابن أبي حاتم من قوله: ولا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل مبني على أنه أراد بأن الملائكة تعلمه وهو خلاف ما أفهمه كلامه إذ كلامه يفهم أي الملائكة مثل البشر لا يعلمون نعيم الآخرة إلا أنه خص البشر بالذكر لتلك النكته.

إن قيل: قد دخل صلى الله عليه وسلم الجنة ورآها ورأى قصورها كما تقدم في عدة من الأحاديث.

أجيب: بأن المراد معرفة حقيقة النعيم وذوقه ومباشرفه لا يعرف إلا لمن دخلها في الآخرة وتمام الحديث في مسلم: "ثم قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ} " أي لا تعلم النفوس كلهن ولا نفس واحدة منهن ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل، والحديث مسوق لبيان عظيم ما أعده الله لعباده. (حم ق ت هـ)(1) عن أبي هريرة.

5999 -

"قال الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيئة واحدة". (ق ت) عن أبي هريرة (صح) ".

(1) أخرجه أحمد (2/ 313، 438)، والبخاري (3244)، ومسلم (2824)، والترمذي (3197)، وابن ماجة (4328).

ص: 588

(قال الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة) أرادها مصمما عليها عازما على فعلها. (ولم يعملها) لأمر عاقه عنها. (كتبتها له حسنة) لأنه بالهم بها استحق من كرم ربه أن لا يهمل همه لأنه خير، إذ الهم بالخير خير، والحديث ظاهر أنه لو تركها اختيارا لا لعائق عاقه عنها. (فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف) أي أضعفها له تضعيفا ينتهي لمن أشاء إلى سبعمائة وإنما قيدناه بذلك لأنه قد ثبت بإخباره أن الحسنة بعشر أمثالها حتمًا من فضله تعالى فالتضعيف إلى أكثر منها فضل من الله لمن أراده تعالى. (وإذا هم بسيئة ولم يعملها) قيل أي تركها خوفا منه تعالى ومراقبة له لأجل زيادة مسلم إنما تركها من أجلي فإن تركها لأمر آخر منعه منها فلا.

قلت: بل يكتب عليه إثم الإصرار لا غير. (لم أكتبها عليه) لطفاً منه بعباده حيث لم يعاقبهم على الهم بالسيئات وإثابتهم على الهم بالحسنات. (فإن عملها كتبتها عليه سيئة واحدة) فضلاً منه تعالى وجودا ولم يقيد ذلك بعلته كما قيده في حديث الحسنة بلفظ له لعدم الاعتناء بالشر ومحبة الخير للعبد وقيدها بواحدة تحقيرا لها، والحديث سيق لبيان فضل الله لما على عباده وعدله لهم. (ق ت)(1) عن أبي هريرة).

6000 -

"قال الله تعالى: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقائه". مالك (خ ن) عن أبي هريرة (صح) ".

(قال الله تعالى: إذا أحب عبدي) الحقيق بالإضافة إلى وتشريفه بها وهو المؤمن. (لقائي) قيل الموت، وقال ابن الأثير (2): المصير إلى الآخرة وطلب ما عند الله وليس المراد الموت لأن كلا يكرهه، فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله، ومن آثرها كره لقاءه. (أحببت لقاءه) أي أردت له الخير، ويحتمل إذا أحب الجنة ونعيمها وجوز عليها رغب في الأعمال الصالحات فاشتاقت الجنة

(1) أخرجه البخاري (7062)، ومسلم (128)، والترمذي (3073).

(2)

انظر النهاية (4/ 266).

ص: 589

وما فيها إليه وأحبت لقاءه. (وإذا كره لقائي كرهت لقائه) لأنه لا يكره لقاءه تعالى إلا من سوء ما بينه وبينه بالأوزار كما قيل:

أسأت إلي فاستوحشت مني

ولو أحسنت آنسك الجميل

وقيل لأبي حازم: ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم والإنسان يكره الانتقال من العمران إلى الخراب، وقال الزمخشري (1): مثل حاله بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتى ويذر فإما أن يلقاه ببشر وترحيب بما رضي من أفعاله أو بصد ذلك بما سخط منها. مالك (خ ت)(2)(3) عن أبي هريرة).

6001 -

"قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}، قال الله: "حمدني عبدي"، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}، قال الله: "أثنى علي عبدي"، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}، قال الله: "مجدني عبدي"، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}، قال الله: "هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل"، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}، قال: "هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". (حم م 4) عن أَبي هريرة (صح) ".

(قال الله تعالى: قسمت الصلاة) أي قراءتها كما دل له آخره، والمراد الفاتحة، سميت صلاة لأنها لا تصح الصلاة إلا بها نحو:"الحج عرفة" أشار إليه المنذري.

قلت: ونكتة الإتيان بالمجاز أنه لو أتى بالحقيقة وقال: قسمت الفاتحة

(1) الكشاف (1/ 946).

(2)

هكذا ورد في المخطوط.

(3)

أخرجه مالك في الموطأ (569)، والبخاري (7504)، والنسائي (4/ 10).

ص: 590

لتوهم أنه في الصلاة وغيرها وأنه يقول الرب عند قراءتها مجدني عبدي إلى آخره، والظاهر أنه تعالى لا يقول ذلك إلا عند قرائتها في الصلاة، وقيل الصلاة من أسماء الفاتحة. (بيني وبين عبدي نصفين) أي جعلت بعضها دعاء له وبعضها مجرد ثناء عليه، وإنما قلنا مجرد لأن الثناء عليه تعالى يعرض لطلب وسؤال منه:

إذا أثنى عليك العبد يومًا

كفاه من تعرضه الثناء

وقيل: والنصف قد يراد به جزء الشيء وإن لم يكن نصفاً حقيقة كما هنا فإن الدعاء أكثر من الثناء. (ولعبدي ما سأل) أي له [3/ 176] ما طلب إشارة إلى أنه لا حجر على العبد في أن يدعوا بما أراد فلا يتوهم أنه لا يتجاوز في الدعاء ما عني له، (فإذا قال العبد:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} ) تفصيل لما أجمل أولا وتمسك به من يرى أن البسملة ليست من الفاتحة وهو قوي فإنها ثناء عليه تعالى فما أهملت إلا لأنها ليست من الفاتحة ولك أن تقول لم يعدها لأن صفتي الثناء منها قد ذكرت في نفس السورة أي "الرحمن الرحيم" فاكتفى به عن ذكرهما في البسملة، (قال الله: حمدني عبدي) والإخبار بذلك دليل قبوله تعالى لتحميد عبده إياه والظاهر أنه يقول هذا لملائكته تنويها بشأن العبد. (فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}، قال الله تعالى:"أثنى علي عبدي) الثناء المدح والأول فيه حمده تعالى، وإثبات الحمد وحصره عليه. (فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}، قال: "مجدني عبدي") من المجد وهو الشرف الواسع وهو أبلغ من الحمد والثناء لأنهما من مفهومه. (فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}، قال: "هذا بيني وبين عبدي") أي هذا اللفظ بصفات للرب منه "إياك نعبد" وللعبد منه "إياك نستعين" ومن عكس هذا فقد وهم. (ولعبدي ما سأل) كرره لما سلف (فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}) أي الدين الحق. ({صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ

ص: 591

عَلَيْهِمْ}) بكل نعمة، ولذا أطلقه عن القيد ليعم. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ) وهم اليهود. ({وَلَا الضَّالِّينَ}) وهم النصارى، خص اليهود بالغضب لأنه تعالى غضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير والنصارى بالضالين؛ لأنه تعالى وصفهم بأنهم ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. (قال:"هذا لعبدي) أي هذا سؤال يطلب به العبد من ربه الهداية والنجاة من صراط المغضوب عليهم والضالين. (ولعبدي ما سأل) فيه إشارة إلى أن الصلاة محل الدعاء بكل ما يراد من خير الدنيا والآخرة من حقير الأشياء وعظيمها. وهذا حديث شريف فيه إبانة فضل الفاتحة وكرم الرب تعالى، وأخذ من الحديث تعين الفاتحة في الصلاة لأنها سميت صلاة. (حم م 4) (1) عن أبي هريرة) سببه أنه حدث أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام" فقيل له: إنا نكون وراء الإِمام، قال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قسمت الصلاة .. الحديث".

6002 -

"قال الله تعالى: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرما بينكم، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر

(1) أخرجه أحمد (2/ 241، 285)، ومسلم (395)، وأبو داود (821)، والترمذي (2953)، والنسائي (2/ 135)، وابن ماجة (3784).

ص: 592

قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها: فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". (م) عن أبي ذر (صح) ".

(قال الله تعالى: يا عبادي) جمع عبد هو لغة الإنسان والمراد هنا الثقلان بدليل قوله: "لو أن إنسكم وجنكم" والملائكة غير داخلين فيه لأن المراد بالعباد من يتصف بالتقوى والفجور لا غير. (إني حرمت الظلم) وهو وضع الشيء في غير موضعه. (على نفسي) تقدست وتعاليت عنه وامتنعت بعدلي وحكمتي عنه كما يمتنع من حرم عليه أمر عنه فيحتمل أنه استعارة مصرحة ويحتمل أنه مشاكلة لقوله. (وجعلته بينكم محرماً) على لسان رسلي وعلى ما جعلته في العقول من إنكارها لذلك. (فلا تظالموا) أي لا يظلم بعضكم بعضا فإنه لا بد من القصاص بينكم في جزاء الدنيا والآخرة وقدم الإخبار بأنه تعالى حرم الظلم على نفسه مع قهره وقدرته وكون الكل عباده وتحت ملكه فكيف يظلم العبد عبدًا مثله وهما مملوكان لمالك واحد ينتصف من الظالم للمظلوم، ولذا قال في صدر الحديث.

(يا عبادي يا عبادي كلكم ضال) غافل عن الشرائع قبل بعثة الرسل أو عن كل أمر ينفع صاحبه فإن الله هو الذي خلق فهدى. (إلا من هديته) إلى مناهج الرشاد والسداد، وهذا الإخبار بضلالهم لا يناقضه حديث:"كل مولود يولد على الفطرة"(1) لأن هذا ضلال طارئ قلت: ويحتمل أن المراد بالفطرة نفس

(1) أخرجه البخاري (1319)، ومسلم (2366).

ص: 593

معرفة الرب تعالى لا غير. (فاستهدوني) اطلبوا منه الهداية الدلالة على طرق الخير والإيصال إليها. (أهدكم) فإنه من يهد الله فهو المهتدى، والمراد: طلب الهداية منه تعالى لفظا وفعلًا فإن الذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم، ولما كانت الهداية إذا نالها العبد شاملة لما ينفعه في معاده ومعاشه اقتصر عليها في الحديث كما اقتصر على طلبها في الفاتحة التي تقرأ في كل صلاة وأثنى على رسوله بها في قوله:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى: 7] وكذلك اقتصر في الإخبار عن المنهيات عن الظلم لأنه من انتهى عنه انتهى عن كل شر، ولما فرغ من الامتنان بأمور الدين شرع في ذكر الامتنان بأمور الدنيا فقال:[3/ 177](يا عبادي، كلكم جائع) بدأ به لأنه أعظم حاجات الإنسان وبه قوام ذاته وتمام حياته، ولذا قال في صفة الجنة:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118] فخص الأمرين لأنهما أعظم حاجات الإنسان. (إلا من أطعمته) فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. (فاستطعموني) اطلبوا الإطعام مني فإن خزائن الدنيا والآخرة بيدي. (أطعمكم) فإن قيل ما وجه الاستثناء والكل من العباد قد أطعمه تعالى وغذاه برزقه قال الشارح: لأنه أريد بالإطعام ومثله الكسوة النفع التام والبسط في الرزق وعدمهما التقتير والتضيق.

قلت: فيلزم أنه أريد بجائع وعار عدم السعة في الأمرين وهو خلاف الظاهر إلا أنه التجأ إليه لأنه لو لم يقل بذلك لزم الاستثناء المستغرق وقد منعه الأصوليون، وجعل ابن الحاجب وشراح كتابه في الأصول، الحديث من أدلة القائلين بجواز استثناء الأكثر ولا يتم إلا إذا أريد ما قيل إنه أريد التوسعة وأن الموسع عليهم الأكثر.

(يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم) اطلبوني وافتقروا إلى وفيه رد على من زعم أن من الأدب مع الرب عدم الطلاب منه. (يا عبادي،

ص: 594

إنكم تخطئون) بضم أوله وكسر ثالثه يفعلون الخطيئة من خطأ يخطئ إذا فعل عن غير قصد. (بالليل والنهار) قيل: فيه مقابلة لاستحالة وقوع الخطأ من كل منهم ليلا ونهاراً.

قلت: كأنه يريد أن البعض يخطئ في الليل والبعض في النهار. (وأنا أغفر الذنوب جميعاً) قال الشارح: غفر الشرك وما لا يشاء يغفر إن الله لا يغفر أن يشرك به، قلت: قوله: (فاستغفروني أغفر لكم) يقتضي أن المراد كل ذنب حتى الشرك لأن المراد توبوا إلى من ذنوبكم أغفرها جميعا، وأما آية:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فهي في غير التائبين والحديث إنما يناسبه آية: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] وهي في التائبين وفي الإتيان بجملة وأنا أغفر إلى آخرها أتم دعاء للعباد إلى التوبة وأكمل باعث عليها ولم يأت بنظيرها فيما سلف.

(يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) حذفت نون إعرابه لأنه في سياق النفي أي لا يستقيم ولا يصح ولا يتصور أن تضروني، (ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) فما أطلب منكم أن تسألوني وأن تستغفرونى لحاجة لي منكم ولا لدفع ضرر أخافه.

(يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم) الإنس منكم والجن منكم أيها العباد. (كانوا على أتقى) بالمثناة الفوقية من التقوى. (قلب رجل منكم) أي على تقوي أتقي قلب قاله القاضي، قال الطيبي: لا بد منه ليستقيم أن يقع أتقي خبرًا لكان ثم إضافة أفعل إلى نكرة مفردة تدل على أنك لو تقصيت قلب رجل رجل بل كل الخلائق ولن يجد أتقى من قلب هذا الرجل. (ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) فإنه لا تزيده طاعة المطيع ولا تنقصنه معاصي العاصي.

(يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم) أولهم من أول أب لهم وآخرهم إلى ما ليس بعده شيء وقد دخل المخاطبون بالأولى لأنه إذا كان الطرفان وهما أكثر

ص: 595

منهم لا يزيدون في ملكه تعالى ولا ينقصون فأولى هم ولأن علة العبودية بالله للكل على سواء. (وإنسكم وجنكم) هو عطف التفاصيل على الجمل فإن الكل عباده تعالى. (كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم) خصه وإلا فالمراد رجل أو جني لأنه يعلم بالمقايسة فإن الخطاب مع الثقلين. (ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) قال الطيبي: يجوز كونه مفعولا إن قلنا نقص متعد ومفعولا مطلقا إن قلنا إنه لازم قلت: ويجري مثله فيما قبله قيل لأنه مرتبي بقدرته وإرادته وهما دائمان لا انقطاع لهما فكذا ما ربط بهما.

(يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا) انتصبوا وتصدوا لا القيام حقيقة. (في صعيد واحد) أي أرض واحدة قال القاضي: قيد السؤال بالاجتماع في مكان واحد لأن تزاحم السؤال مما يذهل المسئول ويسيمه ويعسر عليه إنجاح مآربهم والإسعاف لمطالبهم، (فسألوني) أطلقه ليشمل أي شيء يسألونه، (فأعطيت كل إنسان مسألته) الخاصة به كما يقتضيه إضافتها إليه خص الصعيد الواحد وأتي بالفاء في السؤال والإعطاء إشارة إلى أنه لو اجتمع الخلائق كلهم في مقام واحد في خبر واحد وعقب الاجتماع بسؤالهم له تعالى لأي مطلوب [3/ 178] كان وعقبه الإعطاء لكل ما سئل وفي قوله مسألته إشارة إلى أنها مسألة خاصة لكل سائل وأنهم لم يجتمعوا على مطلوب واحد، (ما نقص) ذلك الإعطاء، (مما عندي) في خزائن ملكي، (إلا كما ينقص المخيط) بكسر فسكون ففتح: الإبرة (إذا دخل البحر) وهو لا ينقص منه شيئاً وإنما ضرب الله تعالى ذلك مثلاً بما هو في غاية القلة ونهاية ما يشاهدونه فإن البحر من أعظم المرئيات والإبرة صغيرة صقيلة لا يعلق بها شيء وإن فرض لكنه لا يظهر حساً ولا يعتد به عقلاً

(يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) أضبطها وأحفظها بعلمي

ص: 596

والحفظة من ملائكتي. (ثم أوفيكم إياها) أعطيكم جزائها وافياً تاماً إن خيراً فخير وإن شراً فشر والتوفية إعطاء الحق على التمام ذكره القاضي فما تجدونه من خير وشر فهو منكم فلا نفع لي فيه ولا ضرر علي منه (فمن وجد خيراً) يناله ويلتذّ به. (فليحمد الله) على توفيقه لطاعته التي ترتب عليها ذلك الخير والثواب فضلاً منه ونعمة. (ومن وجد غير ذلك) شراً ولم يذكره بلفظه تعليماً لخلقه كيفية آداب النطق بالكتابة مما يؤذى ذكره أو يستحي من لفظه أو إشارة إلى أنه إذا اجتنب لفظه فأولى اجتناب فعله. (فلا يلومن إلا نفسه) فإخها آثرت شهواتها على رضا بارئها ورازقها فكفرت إنعامه ولم تتبع أحكامه وهذا حديث جليل المقدار غزير الفوائد يحتمل مجلداً في الكلام عليه وكان أبو إدريس راويه عن أبي ذر إذا حدث به جثى على ركبته تعظيماً له. (م)(1) عن أبي ذر) وأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه ورواته موثقون قال أحمد: ليس لأهل الشام حديث أشرف منه.

6003 -

"قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني وصبر على ما ابتليته فإنه يقول من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر، وهو صحيح". (حم ع طب حل) عن شداد بن أوس (ح) ".

(قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمناً) الابتلاء يكون بالخير والشر وهو في الآخر هنا أوضح (فحمدني وصبر على ما ابتليته) والحديث ظاهر أنه أريد بالبليّة المرض. (فإنه) العبد. (يقوم من مضجعه) الذي أوجبه له الابتلاء. (ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا) لا ذنب عليه فإنه يغفر له بحمده وصبره على بلائه وهو عام لكبائر الذنوب وصغائرها وخصه الجمهور كما

(1) أخرجه مسلم (2577)، وأحمد (5/ 160)، والترمذي (2495)، وابن ماجة (4257).

ص: 597

عرف بالصغائر وقوله كيوم ولدته أمه يأباه. (ويقول الرب للحفظة) الموكلين بأعماله الصالحة. (إني) أنا تأكيد للإعلام بأنه تعالى هو الذي قيده بلا سبب من العبد. (قيدت عبدي) أضافه هنا تشريفاً له بعد أن جرده عن خطاياه ونكره في الأول لأنه قبل تجريده عن الذنوب. (هذا) أي حبسته عن طاعته. (وابتليته) لحكمة جرى بها علمي. (فأجروا له) من الطاعات. (ما كنتم تجرون له قبل ذلك) قبل الابتلاء.

(من الأجر) بيان لما أتى من الطاعة التي هي سبب الأجر عبر عن السبب بالمسبب إشارة إلى أن طاعاته قد قبلت وقد سارت أجورًا وإلا فإن الأجر في دار الجزاء وإنما توفون أجوركم يوم القيامة. (وهو صحيح) وتقدم حديث "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً" فينبغي من العبد أن يستكثر من الطاعات أيام صحته وإقامته فإنها جارية له إذا عاقه عنها عائق المرض والسفر. (حم ع طب حل)(1) عن شداد بن أوس) رمز المصنف لحسنه وقال الهيثمي: خرجه الكل من رواية إسماعيل بن عياش عن راشد الصنعاني وهو ضعيف في غير الشاميين.

6004 -

"قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما ذكرتني وشكرتني، وإذا ما نسيتني كفرتني". (طس) عن أبي هريرة (ض) ".

(قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما ذكرتني) ما شرطية ويحتمل أنها مدية والذكر المراد به ذكر القلب أو اللسان معه أي ذكرت إنعامي وإحساني. (شكرتني) فإن شكر الله بذكره أو ما ذكرت إنعامي وإحساني لزم أن تشكرني إذ من لازم شكر الإنعام شكر المنعم. (وإذا ما نسيتني كفرتني) كلمة ما زائدة ومن نسي الله تعالى

(1) أخرجه أحمد (4/ 123)، والطبراني في الكبير (7/ 279)(7136)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 310)، وحسنه الألباني في ضعيف الجامع (4300)، والصحيحة (2009).

ص: 598

فقد كفر به إذ نسيانه يشعر بأنه لا يعتقده منعماً عليه وهو عين الكفران.

(طس)(1) عن أبي هريرة) رمز المصنف لضعفه قال الهيثمي: فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف انتهى وأورده ابن الجوزي في الواهيات وقال: لا يصح.

6005 -

"قال الله عز وجل: أَنْفِق أُنْفِق عليك". (حم ق) عن أبي هريرة (صح) ".

(قال الله تعالى) خطاباً لكل أحد. (أَنْفِقْ) على عباد الله وهو بفتح الهمزة وكسر الفاء. (أُنْفِق عليك) بضم فسكون أي أعطك خلفه والحديث مشتق من قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]، قال الطيبي: هذا مشاكلة لأن إنفاق الله تعالى لا ينقص من خزائنه شيئًا وهذا ظاهر؛ لأنه إذا أنفق ظهر بصورة الفقر والعبودية والسخاء فاستحق نظر الحق إليه من [3/ 178] جهة فقره الذي لا بد من خيره ومن جهة مقابلة وصفه بوصف ربه وظهور أسمائه.

قلت: أما المشاكلة المعروفة في البديع فما يصح هنا لأن الإنفاق يسند إليه تعالى حقيقة وليس فيه استلزام نقص ما ينفق منه فكأنه أراد أنه شاكل العبد بإنفاقه صفات ربه من كرمه وجوده. (حم ق)(2) عن أبي هريرة).

6006 -

"قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر: بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار". (حم ق د) عن أبي هريرة (صح) ".

(قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم) قال الطيبي: الإيذاء إيصال المكروه إلى الغير وإن لم يؤثر فيه وإيذائه تعالى عبارة عن فعل ما لا يرضاه قلت: أو قوله كما هنا. (يسب الدهر) يروى بالباء الجارة وبالمثناة من تحت حرف المضارعة والدهر

(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (7265)، وابن بشران في أماليه (229)، وانظر قول الهيثمي في المجمع (10/ 79)، والعلل المتناهية (2/ 830)، وقال الألباني في ضعيف الجامع (4057): ضعيف جداً.

(2)

أخرجه أحمد (2/ 464)، والبخاري (4684)، ومسلم (993).

ص: 599

اسم لمدة العالم من ابتداء تكوينه إلى انقراضه ويعبر به عن المدة الطويلة. (وأنا الدهر) أي مقلبه ومدبره فأقيم المضاف مقام المضاف إليه أو بتأويل مدبر أي المدبر بما يحدث ولذا عقبه بقوله. (بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار) أي أجدهما وأُبليهما وأذهب بالملوك كما في رواية أحمد قال الراغب (1): المعنى أنا فاعل ما يضاف إلى الدهر من الحوادث فإذا سب الآدمي الدهر يعتقد أنه فاعل ذلك فقد سبني وقال القاضي: من عادة الناس إسناد الحوادث والنوازل إلى الأيام والأعوام وسبهما لا من حيث أنها أيام وأعوام فهم في الحقيقة سبوا فاعلها وعبروا عنه بالدهر في سبهم وهو معنى قوله: وأنا الدهر لا أن حقيقته حقيقة الدهر ولإزاحة هذا الوهم الزائع أردفه بقوله: أقلب الليل والنهار فإن مقلب الشيء ومغيره لا يكون نفسه وقد زعم البعض أن من أسمائه تعالى لفظ الدهر. (حم ق د)(2) عن أبي هريرة) ورواه أيضاً عنه النسائي في التفسير.

6007 -

"قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يقول: "يا خيبة الدهر" فلا يقولن أحدكم: "يا خيبة الدهر" فإني أنا الدهر: أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما". (م) عن أبي هريرة (صح) ".

(قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يقول: "يا خيبة الدهر") أي يقول ذلك إذا أصابه مكروه في القاموس (3): خاب يخيب خيبة حرم أي يا حرمان الدهر في ما أطلبه أو من خيبه الله خسر وكفر ولم ينل ما طلب. (فلا يقولن أحدكم: "يا خيبة الدهر" فإني أنا الدهر) قيل: التقدير وأنا مقلب الدهر والمتصرف فيه والمعنى أن الزمان يذعن لأمري لا اختيار له فمن ذمه على ما يظهر فيه صادراً عني فقد

(1) مفردات القرآن (ص 1629).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 238)، والبخاري (4826)، ومسلم (2246)، وأبو داود (5274)، والنسائي في الكبرى (6/ 457).

(3)

انظر القاموس (1/ 64).

ص: 600

ذمني فأنا الضار والنافع والدهر ظرف لا أثرله. (أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما) عند قيام القيامة وخراب هذه الدار وسب الدهر والتحرم منه باب فتحه الشعراء ودخله الناس كافة ولا يعلم أنه جاء في كلام النبوة والسلف الصالح سبه أو نسبة شيء إليه فعلى البشر أن يزم لسانه بزمام التقوى عن ذلك. (م)(1) عن أبي هريرة.

6008 -

"قال الله تعالى: سبقت رحمتي غضبي"(م) عن أبي هريرة (صح) ".

(قال الله تعالى) مخبراً عن سعة رحمته إيناساً لعباده "ظهاراً لكمال فضله. (سبقت رحمتي غضبي) وفي لفظ للبخاري "غلبت رحمتي" أي آثار رحمتي آثار غضبي قال الدماميني: الرحمة إرادة الثواب والغضب إرادة العقاب ولا توصف الصفات بغلبة ولا يسبق بعضها بعضاً لكن ورد هذا على الاستعارة ولا منع من جعل الرحمة والغضب من صفات الفعل لا الذات فالرحمة هي الثواب والإحسان والغضب الانتقام والعطب فتكون الغلبة على بابها.

قلت: ويحتمل أن المراد بالسبق سبقها وجوداً فإن الله برحمته أوجد العباد وتفضل عليهم بنعمة الإيجاد والإمداد ولم يغضب عليهم إلا بعد وقوع الذنوب منهم والحديث بيان لسعة رحمته تعالى وشمولها ووصولها إلى الخلائق قبل الغضب والسبق مقتضى الغلبة والغالب له الحكم أخرى. ولذا كانت رحمة الله في الآخرة تسعة وتسعين رحمة فتضاف إلى الرحمة التي أوجدها لعباده في الدنيا. (م)(2) عن أبي هريرة) ورواه أبو يعلى عنه والديلمي.

6009 -

"قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا ذَرَّةً، أو ليخلقوا شعيرةً". (حم ق) عن أبي هريرة" (صح).

(1) أخرجه مسلم (2246).

(2)

أخرجه البخاري (7114)، ومسلم (2751)، وأبو يعلى (6281)، والديلمي (4474).

ص: 601

(قال الله تعالى: ومن أظلم) لا أحد أظلم. (ممن ذهب) قصد. (يخلق خلقاً) مخلوقاً. (كخلقي) كمخلوقي مشابها له من بعض الوجوه، والمراد لا أظلم في المشبهين من ذلك فلا يرد أن الكافر أظلم، وإذا كانوا في زعمهم يخلقون. (فليخلقوا حبَّة) بفتح المهملة أي قمحة بدليل ذكر الشعير، أو المراد الأعم، وذكر الشعير ذكر لبعض أفراد العام، والأمر للتعجيز فيه وفي قوله:(وليخلقوا ذَرَّةً) بفتح المعجمة [3/ 180] وتشديد الراء: غلة صغيرة، ذكر أصغر الحيوانات وأصغر الجمادات. (وليخلقوا شعيرةً) أخذ منه مجاهد حرمة تصوير الجمادات وما لا روح فيه حيث ذكر الشعيرة وهي جماد، وخالفه الجمهور مستدلين بقوله في حديث آخر "أحيوا ما خلقتم".

قلت: وليس بناهض فإنه لا ينافي الصفات على ما لا حياة فيه، قال الشارح: حكي أنه وقع السؤال عن حكمة الترقي من الذرة إلى الحبة إلى الشعيرة فأجاب المتقي الشمني: بديهة بأن صنع الأشياء الدقيقة فيه صعوبة والأمر بمعنى التعجيز فناسب الترقي من الأعلى إلى الأدنى فاستحسنه الحافظ ابن حجر وزاد في إكرام الشيخ واشتهار فضله (1) انتهى.

قلت: بناء على أن الحديث بتقديم الذرة على الحبَّة والشعيرة، وبناء على أن الترقي يجري في الانتقال من الأعلى إلى الأدنى والمعروف منه عكسه، والذي في نسخ الجامع فيما وقفنا عليه تقديم الحبة وتوسيط الذرة على أنه لا ريب في أن خلق الحيوان أصعب الأشياء لما فيه من الباطن والظاهر، وما في كل منهما من عجائب والحواس ولو لم يكن إلا نفخ الروح، فلو أخر الحيوان لكان قد سلك بالحديث مسلك الترقي، فكأنه أراد بالترقي التنزل معهم من أعلى الأشياء إلى

(1) ذكره السخاوي عن شيخه الحافظ ابن حجر في الضوء اللامع (1/ 372)، وراجع فيض القدير (4/ 632).

ص: 602

أدناها كما أفاده قوله من الأعلى إلى الأدنى وهذا على الترتيب الذي ذكره، أما على ما في نسخ الجامع التي رأيناها فلا يتم، بل لك أن تقول إنه ترق على الحقيقة من الأدنى إلى الأعلى فعجزوا؛ أولاً بحبة ما من أي الحبوب، ثم ترقي إلى التعجيز بالأعظم صيغة وهو الحيوان، وأما ذكر الشعيرة فما هو إلا كالتكرار لحبة لأنها بعض أفرادها. (حم ق)(1) عن أبي هريرة).

6010 -

"قال الله تعالى: لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قد قدرته ولكن يلقيه النذر إلى القدر، وقد قدرته له، أستخرجه به من البخيل، فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني من قبل". (حم خ ن) عن أبي هريرة" (صح).

(قال الله تعالى لا يأتي ابن آدم) بالنصب مفعول يأتي وفاعله. (النذر) بفتح النون وبالمعجمة وسكون الراء معروف. (بشيء لم أكن قد قدرته) فإنه لا يرد قدراً إنما ورد في الدعاء أنه يرد القضاء. (ولكن يلقيه النذر إلى القدر) مبالغة في أن النذر لا ينفع بل هو يتنزل منزلة من يلقى أي يوقع الناذر في النذر الذي أراد بالنذر الفرار منه، إن قلت: ما المراد بالنذر؟

قلت: هو ما أخرج مخرج الصدقة وجعل للفقراء أو لمصالح المسلمين أما نذور العامة على المشاهد والقباب فإنه معصية لأنها محرمة وينهى عنها، إن قيل: النذر نوع من الصدقة وقد ثبت أنها تدفع غضب الرب وتقي مصارع السوء وتجلب الرزق وتدفع البلاء.

قلت: كأن المراد أن النذر في دفع أمر معين هو المراد هنا أو لاستجلابه والصدقة لا تكون كذلك بل تكون بنية أنه تعالى يكافئ عبده عليها بدفع البلاء مثلا أو المراد اعتقاد الناذر أن السبب الدافع للبلاء أو الجالب للرخاء هو النذر

(1) أخرجه أحمد (2/ 232)، والبخاري (5609)، ومسلم (2111).

ص: 603

فهذا مع هذه النية لا أثر له ويخرج عن كونه كالصدقة والمحل يعد محل بحث للناظر، وقال النووي (1): معناه أنه لا يأتي بهذه القربة مبتدئا تطوعا، بل في مقابلة نحو شفاء مريض مما علق النذر عليه. (وقد قدرته له) أي للناذر أي قدرت ما يحاول بالنذر جلبه أو دفعه، ويحتمل أن المراد قدرت النذر وأنه من المقدرات أيضاً فإن كل كائنة بقدر. (أستخرج به) أي بالنذر أو بالقدر على التفسير الثاني. (من البخيل) أي مالاً لأن البخيل غالبا إنما يستعمل في المال كما قاله الزين العراقي، ويحتمل أن المراد كل عبادة كما في حديث "أبخل الناس من بخل بالسلام" قال الخطابي وفي قوله "أستخرج به" إشارة بوجه الوفاء. (فيؤتيني عليه) أي علي ببذل لي على ما قد قدرته. (ما لم يكن يؤتيني) عليه. (من قبل) أي ما لم يكن ببذله لي من قبل إرادته للمطلوب الذي قدرته، وفيه ذم النذر، وهل يفيد كراهته؟ الظاهر ذلك لا سيما وقد سماه بخيلا وهو اسم يكرهه الله تعالى، فالحديث أفاد أن النذر لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضرر قد قدره الله تعالى. (حم خ ن (2) عن أبي هريرة).

6011 -

"قال الله تعالى: إذا تقرب إليَّ العبد شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلى ذراعا تقربت منه باعا وإذا أتاني مشيا أتيته هرولة". (خ) عن أنس، وعن أبي هريرة (هب) عن سلمان (صح) ".

(قال الله تعالى: إذا تقرب إليّ عبدي) بالطاعات التي تطلب بها قربه مني. (شبرا) أي قدرا قليلاً ضربه مثلاً. (تقربت إليه ذراعاً) أي وصلت رحمتي إليه أكثر من دنوهِ بطاعاته أو المراد بـ "تقربت إليه" زدته بقربه وطاعاته قربا

(1) شرح مسلم للنووي (11/ 99).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 314)، والبخاري (6609)، ومسلم (1640)، والنسائي (7/ 16)، وأبو داود (3288).

ص: 604

وطاعات بتوفيقه لها من باب: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]. (وإذا تقرب إلي ذراعاً) وهو من طرف المرفق إلى طرف الإِصبع [3/ 181] الوسطى والساعد كما في القاموس (1). (تقربت إليه باعاً) هو قدر قامة البدن، كما فيه أيضا والمعنى: كلما ازداد طاعات ازددت منه قربا كما سلف. (وإذا أتاني مشيا) يمشي مشياً (أتيته هرولة) هي الإسراع في المشي، قال النووي (2): معناه: من تقرب إلى بطاعاتي تقربت إليه برحمتي وإن زاد زدته، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود. (خ)(3) عن أنس، وعن أبي هريرة (طب)(4) عن سلمان).

(1) القاموس (1/ 925).

(2)

الكامل (11/ 121).

(3)

أخرجه البخاري (7536) عن أنس، وأخرجه البخاري (7537)، ومسلم (2675) عن أبي هريرة وأخرجه الطبراني في الكبير (6/ 254)(6141) عن سلمان.

(4)

عزاه الشارح للطبراني في الكبير، وعزاه المصنف للبيهقي في الشعب.

ص: 605