الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد روى مسلم عن أبي الهياج الأسدي أن علياً رضي الله عنه قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا صورة إلا طمستها"1.
ولو لم تقم الدعوة الوهابية بهدم القبور المشرفة وتسويتها تطبيقاً لهذه المبادئ الإسلامية، بعد أن مكن الله لها في أرض الحجاز، لكانت لا قدر الله –خائنة لهذه المبادئ، ولكانت دعوة نظر وكلام فقط.
ومن العجيب أنه في الوقت الذي يشجب فيه الدكتور ومن وراءه من القبوريين، الحركة الوهابية، وينعتونها بالتشدد، يلومها أنصار التوحيد الحق على الإسراف في التسامح، حين يرون بعض البدع الشركية لا تزل ترتكب عند الحرمين الشريفين، ومن جانب هؤلاء الذين عايشوا هذه البدع قروناً طويلة قبل أن يظلل الحكم السعودي على الحجاز براية التوحيد المباركة، ولكن الدعوة دائماً تؤثر جانب اللين وتدعو إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى تقطع الطريق على خصومها الذين يرمونها بالتزمت والجفاء.
1 انظر مشكوراً: صحيح مسلم ح "969".
الحيطة الواجبة لأعظم أصل في الإسلام:
ثم يقول سعادته: "وهنا في هذا المبالغة يكمن عامل الفرقة بينهم وبين بقية المسلمين، فبينما هم يرون أنفسهم موحدين وأهل توحيد، ويرون غيرهم ممن لا يسلك سبيلهم في المبالغة مشركين، إذا بغيرهم ينظرون إليهم على أنهم أهل تشدد وتزمت، وأصحاب ضيق في الأفق والفهم لهذا الأصل الإسلامي وهو أصل التوحيد"1.
1 انظر مشكوراً: الفكر الإسلامي في تطوره ص 81.
والكلام هنا مع الدكتور في تحديد المبالغة التي يكمن فيها عامل الفرقة بين الوهابيين وغيرهم من المسلمين، فهل إذا قامت الوهابية بتنفيذ ما أمر به الشرع من هدم القبور وتسويتها صيانة لجانب التوحيد، ودفاعاً عن حماه المقدس، يعتبر ذلك مبالغة منها تستحق عليها أن ترمى بالتشدد والتزمت، وتعد خارجة على بقية المسلمين؟
ألا يذكر الدكتور أنه درس فيما درس من أصول الفقه قاعدة تسمى "سد الذرائع" تقول "إن كل ما يفضي إلى محرم هو محرم مثله".
ومن أجل هذه القاعدة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور1، لما أن ذلك قد يكون ذريعة إلى تعظيمها وعبادتها.
ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها2، لما في ذلك من التشبه بعبادها الذين يتحرون السجود لها في هذه الأوقات.
ونهى كذلك عن شد الرحال إلى مكان من الأمكنة بقصد التعبد والصلاة فيه، لا إلا أحد المساجد الثلاثة الكبار:"المسجد الحرام ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى"3.
ونهى أن يقوم الناس بعضهم لبعض على جهة التعظيم4.
1 انظر مشكور: الحديث السابق عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2 انظر مشكوراً: صحيح البخاري ح "581" وصحيح مسلم ح "827".
3 انظر مشكوراً: صحيح البخاري ح "1197" وصحيح مسلم ح "827".
4 انظر مشكوراً: البخاري في الأدب المفرد ح "977" وأبو داود ح "5229" والترمذي "125/2" وهو حديث صحيح.
ونهى أصحابه عن الغلو فيه والمبالغة في مدحه فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبده فقوله عبد الله ورسوله"1.
ونهى عن اتخاذ قبره عيداً وقال: "صلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"2.
وقال للرجل الذي قال له: "ما شاء الله وشئت": " أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده"3.
ومن أجل سد الذرائع أيضاً، أمر عمر رضي الله عنه بقطع شجرة الرضوان التي بايع الصحابة تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية.
وقال مرة وهو يستلم الحجر الأسود: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"4.
وعزل خالد بن الوليد من قيادة جيش المسلمين في الروم، في وقت كانت الآمال كلها معلقة به ليتمم ما بدأه من الانتصارات على الروم لأنه خشي أن يفتتن الناس به.
فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما فعله من ذلك مبالغاً.
1 انظر مشكوراً: صحيح البخاري ح "3445".
2 انظر مشكوراً: مسند الإمام أحمد "2/367" وسنن أبو داود ح "2042".
3 انظر مشكوراً: مسند الإمام أحمد "1/214" وابن ماجه ح "2117". وهو حديث صحيح.
4 انظر مشكوراً: صحيح البخاري "1/495" وصحيح مسلم "1/925".
وهل كان عمر رضي الله عنه فيما عمد إليه من قطع الشجرة أو عزل مبالغاً؟.
فلماذا تنسب الوهابية وحدها إلى المبالغة، وهذه أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفعال خلفائه الراشدين على ما قدمنا.
وعلى فرض أن الوهابية بالغت في ذلك، فإنها مبالغة محمودة كان من نتيجتها استئصال شأفة الشرك، واجتثاث جذور الوثنية من الجزيرة العربية، في الوقت الذي لا تزال فيه كل بلاد الإسلام تعاني من ذلك ما تتفتت على صخرته كل قواعد التوحيد والإيمان.
وإذاً فليست المسألة يا سعادة الدكتور مسألة ضيق في الأفق والفهم للتوحيد، ولكنها الحيطة الواجبة لأعظم أصل في الإسلام وهو التوحيد.
وأما ما ذكره سعادته من أن تشدد الوهابية في موضوع التوحيد قد تسبب في حصول الفرقة بينها وبين من يسميهم مسلمين فذلك أمر حتم، إذ لا يعقل أن يرضى الباطل عن الحق أبداً.
ولكن وزر هذه الفرقة لا يقع على الوهابية، فإنها تدعو كل المسلمين إلى الدخول في دين الله الحق، كما يصوره القرآن الكريم والسنة المطهرة، بعيداً عن كل شوائب الانحراف والضلال.
ولا يجوز لأحد أن يطلب من الوهابية أن تجامل أو تداهن، لا سيما في موضوع يتعلق بأصل الأصول في الدين وهو التوحيد.
بل هي مستعدة حينئذٍ لأن تكون وحدها في طرف، والدنيا كلها في طرف، حيث لا مجال لمساومة أو مجاملة.