الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه:
حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
"إن الرائد1 لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا"2.
تعليق:
إن الدين الإسلامي قد احتضن المثل والفضائل كلها وعانق حياة الناس من جميع أطرافها بحيث أصبح الدين والخلق توأمين لا ينفصلان، وإذا كان الدين والخلق على هذا النحو توأمين، فإن التقوى هي العروة الوثقى التي تربط بينهما، وهي الروح التي فيها يشتركان وإذا كان هذا هو جوهر الدين الجديد فإن من الطبيعي أن يؤكد الرسول عليه الصلاة والسلام على هذه المعاني التي تجمع بين الدين والأخلاق. وأن يقرن هذا بأوائل خطبته التي أكد فيها صدق رسالته ووثوق مصدرها ووجود الله سبحانه وتعالى، وحقائق الموت والبعث والثواب والعقاب، ولذلك جاءت هذه الخطبة معبرة عن هذه المعاني، وعن معني الإيمان به رسولا وبرسالته من الله، فكان ذلك نقطة البدء ومنطلقا لكل القيم والمثل في دعوته الجديدة، ولذلك تتفق معاني هذه الخطبة مع معاني السور المكية.
وقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم ألفاظا جزلة، وعبارات قوية، رائعة التقسيم، تسمع فيها صوت البشير النذير، يؤكد قوله بألوان من التأكيد، وصور أخاذة، متنوعة، متتابعة، وتآلف بين اللفظ والمعنى، في إيجاز هو الإعجاز، مع الوضوح والسلاسة، والعذوبة والطبيعة في اتخاذ الحلية اللفظية، فأنت تتأثر
1 المرسَل في طلب الكلا.
2 السيرة الحلبية 1: 272، والكامل لابن الأثير 2:27.
بها، ولا تكاد تلحظها؛ لأنها الحلية التي تليق بالإنسان العظيم، فالجمل متساوية، والمقابلة فيها متعددة، ولكنها غير مصنوعة ولا متعمدة، وفيها السجع والازدواج اقتضاهما المقام، فازدان بهما الكلام، ثم هو يتكئ في استمالتهم إلى أسباب من المودة والثقة، قامت من قبل بينه وبينهم، وألوان من التحبب العاطفي أثرت عنه، يفتح بها مغاليق قلوبهم.
فهذه الصفات الكلامية ليست إلا للملامح البارزة في شخصية الرسول، القادر على تبليغ رسالته، قوية واضحة مؤثرة طبيعية، في إطار من الرفق بقومه، والمودة لهم، والثقة التى وجبت بينهم، وقد قدم لهذه الخطبة الوجيزة بكلمات كأحسن ما تكون المقدمات، صلة بالموضوع، وضمانا لقبوله، وإن شئت فقل: إنه وضع أساس الاقتناع بدعوته تلك الكلمات القلائل.
ولن تجد قولا كهذا يدل على قائله، وينتسب إلى صاحبه، ولو أنك عرضته على عالم باللسان العربي، وبشيء من تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم فسألته: من تظن قائل هذا؟ لأجابك دون تردد: هذا دون ريب قول خاتم المرسلين.
وعلى يدي هذه المواهب النبوية، وباهر الآيات الكتابية تخرج البلغاء، وعنهما أخذت القوانين والأصول البيانية والبلاغية، وفي مثل هذه الخطبة القصيرة تتمثل بعض الأسس الخطابية الهامة التي ينادي بها المحدثون، ويذكرون غناءها في عالم الخطابة، وأثرها في نجاحها، "ويدخل في نطاق العلاقة بين الخطيب ومستمعيه مدى حكمته في كيف يتسلل إلى العواطف والدوافع التي لها أكبر الأثر فيهم؛ فيصل بذلك إلى نطاق أفكارهم، وأن يقدر مستوياتهم وذكاءهم، وأن يضرب على الوتر الحساس، الذي يمس ما يتعاطفون به، ويستجيبون له".