الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطب من العصر الحديث
خطبة الجمعة: أسلوب الدعوة إلى الله
…
خطب من العصر الحديث:
لفضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرباصي
خطبة الجمعة: أسلوب الدعوة إلى الله 1
الحمد لله عز وجل وهب أصفياءه الحكمة، وكتب على نفسه الرحمة:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 2، أشهد أن إله إلا الله، وهو وحده العليم بالسرائر، المطلع على خفيات الضمائر:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 3 وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، منحة الرحمن، وصفوة الإنسان، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} 4، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه، {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 5.
يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم:
لعل أهل صفة من صفات رسول الله أنه داعية إلى الله، ولذلك خاطبه ربه في محكم تنزيله بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} 6.
1 مجلة الأزهر جـ12 - فبراير 2003م.
2 الأعراف: 56.
3 الملك: 14.
4 القلم: 4.
5 فاطر: 18.
6 الأحزاب: 45-46.
هو يشهد بالحق ويحث عليه، وهو يبشر بالخير ويحبب فيه، وهو يحذر من الشر ويباعد عنه. وهو حين يدعو إلى الله بإذن الله، ينير الطريق ويضيء المسالك، ويفتح أمام المهتدين المحسنين أبواب الفضل الإلهي الكبير:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.
ومعنى هذا أن الدعوة إلى الله ليست لعبة يتلهى بها الغر والجاهل، وليست أمرا يحسنه القاصر والغافل، وليست شهوة يندفع إليها كل من عرف قشورًا من الدين، أو أراد تظاهرًا بين الناس، وإنما الدعوة إلى الله كالحرم الرباني الزكي، يدخله من تطهر وتدثر بالعقل والعلم والإخلاص والاعتدال على الصراط المستقيم بلا انحراف ولا اعتساف ولا إسراف، ولذلك وكَّل الله تبارك وتعالى هذه المهمة الجليلة في نطاقها العام إلى أنبيائه ورسله ومن ورثَتِهم والأخيار من أتباعهم الراسخين في العلم، البصراء بالحق، الخبراء بطرق الهداية في حذق ورفق، ولذلك قال الله -تعالى- لحبيبه2 ومصطفاه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.
ولجلال الدعوة إلى الله ودقتها رسم الرحمن الرحيم لرسوله الكريم أصولها وقواعدها حتى تكون هديا ونورًا، وخيرًا وبرًّا، تجمع ولا تفرق، وتوحد ولا تمزق، وتبني ولا تهدم، وتعمر ولا تحطم، فقال له: {ادْعُ إِلَى سَبِيل
1 المائدة: 15، 16.
2 أولى لخليله.
3 يوسف: 108.
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1.
وفي هذا النص الإلهي المجيد حدَّد الخالق سبحانه ثلاثة وسائل للدعوة؛ هي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن؛ وكأنه أراد أن يكون كل منها لمستوى من المستويات، أو لحالة من الحالات، فالحكمة هي القول العلمي الدقيق البليغ، المشتمل على الحجة المقنعة والبرهان الساطع والدليل الواضح، وكأنه وسيلة الإقناع بالحكمة تناسب الذين يطيقونها ذهنيًّا وفكريًّا من المتعلمين والمثقفين، والموعظة الحسنة هي الكلام الرقيق اللطيف، الذي يقوي حوافز الخير وعواطف البر ومشاعر الإنسانية الرفيعة التي تعمر دنياها بالمحبة والمودة وحسن المعاملة، وكأن هذه الوسيلة تناسب جمهور الناس الذين إذا جاءتهم الموعظة الحسنة اللينة أحيت مَوَات قلوبهم، وذكرتهم بربهم، وحملتهم برقة ولطف على سواء السبيل، ثم تأتي المجادلة بالتي هي أحسن، وهي المحاورة الهادئة الرزينة التي تصور أحسن الطرق للمناقشة، بلا عنف ولا تعنت ولا شطط، وهذه الوسيلة تكون مع المخالف في الاتجاه أو الاعتقاد، وهكذا أراد الله جل جلاله بمن يصلح للدعوة ويقتدر عليها أن يعرف حدودها وقيودها، وأن يلتزم وسائلها الرشيدة من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فلا ينحرف عنها ولا يجور فيها، ولا يجاوزها إلى ادعاء ما ليس له من جموح أو تطاول، بل هو يبين ويوضح ويدلل بأرق الوسائل وألطف الأساليب، دون لَجاجة أو مهاترة أو عدوان، والله بعد ذلك هو المتصرف في عباده، المسئول عن
1 النحل: 125.
هدايتهم، العليم بالطوايا والنوايا، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} 1، وهو وحده صاحب الحق في محاسبة الخلق على أعمالهم يوم لقائه، وهو وحده مالك الثواب والعقاب، ولذلك قال:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 2.
وإذا كان الله جل جلاله قد حدد وسائل الدعوة هنا بهذه الأمور التي جعلها بعيدة عن معاني الإكراه والإرغام والعدوان، فقد ذكر لنا في موطن آخر صورة من صور التطبيق للدعوة المسالمة، فإذا هذه الصورة تبدو وفيها اللين والرفق والرحمة، وذلك حينما أرسل الله موسى، وهارون إلى فرعون وقال لهما:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} 3.
وهكذا بدأت المحاورة مع فرعون -وهو فرعون وكفى- بالقول الهادي اللين: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} ، واختتمت بالسلام والأمان:{وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} ، ولقد روى التاريخ أن جاهلًا يدَّعي العلم أراد أن يتظاهر بالدعوة؛ ليرضي غروره أو يستر نقصه، فقال لأحد الحاكمين: أيها الأمير، إني سأسمعك كلاما شديدا فاحتمله مني، فأجابه قائلا: لن أحتمله منك فلا تقله، فقال الدعي في باب الدعوة: ولم؟ فأجابه: لأن الله تعالى أرسل من هو
1 الأنفال: 43.
2 القلم: 7.
3 طه: 43: 47.
خير منك إلى من هو أسوأ مني، ومع ذلك أمره باللين والتلطف، لقد بعث الله موسى وهارون وهما خير منك بلا نزاع، إلى فرعون وهو أسوأ مني بلا جدال، ومع ذلك أمرهما بقوله:{فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} .
ومن بعد موسى وهارون وغيرهما يقبل شيخ الأنبياء وإمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فإذا هو القدوة الطيبة والأسوة الحسنة في هذا الباب، فهو الذي قال:"بشروا ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا"1، وحينما طلب منه بعض أصحابه أن يلعن المشركين أبي وقال:"إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت هاديا ورحمة" 2، ولما طلب منه أن يدعو على المشركين؛ ليهكوا أبي وقال:"بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا" 3، وترجم القرآن عن هذه المثالية الرائعة في لين الدعوة ورحمة الداعية فقال للرسول صلى الله عليه وسلم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 4.
وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 6.
1 البخاري كتاب الجهاد ج6 ص188 حديث 3038 مسلم كتاب الجهاد ص1732.
2 مسلم كتاب البر والصلة والآداب حديث 2599.
3 البخاري كتاب بدء الخلق حديث 3231 مسلم 3/ 1420 كتاب الجهاد والسير حديث 1795 جزء من حديث طويل.
4 آل عمران: 159.
5 التوبة: 128.
6 الأنبياء: 107.
يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم:
يقول سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه: "أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة" 1، أي الشريعة المعتدلة السهلة الميسورة، وعماد هذا الدين الكريم هو الطهارة والصفاء، والمحبة والإخاء، والتناصح بالرفق والرحمة، والدعوة إلى الخير بالحكمة:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.
وسبحان من لو شاء لهدى الناس جميعا إلى سواء السبيل واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.
1 البخاري ج1 ص116 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم.
2 يونس: 25.