الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
"أيها الناس إنكم لم تُخلَقوا عبثًا ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادًا يحكم الله فيه بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض واعملوا أن الأمان غدًا لمن خاف ربه وباع قليلًا بكثير، وفانيًا بباقٍ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفكم من بعدكم الباقون حتى تردوا إلى خير الوارثين؟ ثم أنتم في كل تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله ثم تغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسر ولا ممهد، قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب. غنيًّا عما ترك، فقيرا إلى ما قدم، وايم الله إني لا أقول لكم هذه المقالة ما أعلم أحدًا منكم من الذنوب مما عندي- فأستغفر الله لي ولكم".
نلاحظ في هذه الخطبة -على قصرها- اشتمالها على مقدمة تشد الانتباه إلى موضوعها بما فيها من تذكير قوي بحقيقة خلق الإنسان، فالناس لم تخلق عبثًا، ولهم موعد سوف يُحاسَبون فيه على كل ما جنته أيديهم ثم يأتي عرض الفكرة وتوضيحها، فالمعاد وهو يوم الحساب يكون بعده جنة ونار، فأما من يعصي ربه فقد حرم الجنة، وأما من خاف ربه ففي رحمة الله، ويستعين الخليفة في تذكير الناس ووعظهم بتجارب الحياة المحسوسة فيقول لهم إن الموت يتخطف أحبابنا من حولنا، فماذا يكون مصيرهم؟ حفرة من الأرض يلقون فيها وقد انقطع ما بينهم وبين كل من في الدنيا وما فيها من أسباب.. ولم يبقَ لهم إلا العمل الصالح ينجيهم من العذاب.
ثم تأتي الخاتمة التي هي بمثابة الغاية التي توخاها الخليفة من خطبته، وتتركز في أن ينظر كل إنسان إلى ذنوبه فيستغفر ربه ويتعظ بما حوله فلا يقع في معصية بعدها1.
وإذا دققت النظر في خصائص أسلوب هذه الخطبة وجدت فيه مصداق تعريف الخطبة بأنها مخاطبة الجمهور، فالخطيب يتوجيه إلى الجمهور وبالحديث من أولها إلى نهايتها، ثم هو يختار ألفاظا مألوفة واضحة قوية الدلالة على معناها ذات إيقاع نابع من الإحساس العاطفي، وتحس جمال هذا الإيقاع وقوته في التأثير من نظمه هذه الألفاظ في عبارات قصيرة متوازنة ويعتمد الأسلوب في جمال إيقاعه وفي دقته البلاغية على التقديم والتأخير أحيانا كما في قوله:"إن لكم معادا"، و"سيخلفكم من بعدكم الباقون". أو على الترادف المعنوي حينا آخر كما في قوله:"لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى"، و"فخاب وخسر"، و"باع قليلا بكثير وفانيا بباقٍ"، و"قد قضى نحبه وبلغ أجله"، أو على السجع المعنوي غير المتكلف في مثل قوله:"غير موسد ولا ممهد". مجردا من كل شيء في دنياه.
وتظهر شخصية الخطيب واضحة قوية في خطبته وقد تآلفت كل هذه العناصر الأسلوبية في وجدانه بعمق إيمانه بموضوعه وإحساسه به، فاستطاع أن ينفذ إلى أسماع جمهوره وقلوبهم -وخاصة أنه لم يجرد نفسه من الذنوب التي يصم بها- وأن يتغلغل إلى عقولهم بكفره المرتب المعتمد على التجارب والمشاهد الحسية المشتركة فبلغ بذلك غاية من التأثير والإقناع.
1 تاريخ الطبري جـ6 ص571.