الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطابة في صدر الإسلام:
إن الإسلام نهضة عامة شاملة، لم يعهد لها من قبل في العالم مثيل، وكانت الخطابة عماد هذه النهضة وأداة فعالة من أدواتها، وكانت هذه النهضة دينية في روحها وأساسها، والدين فيض من النور الإلهي والرحمة الربانية، يمتد من السماء إلى الأرض، يضيء ظلماتها، ويبدد غياهب الجهالة فيها، ويؤدي رسالته الأولى في إصلاح المجتمع البشري، وتحقيق أسباب السعادة له في حياته، وليس الإسلام دين جمود، فيقف عند المطالب الأخروية، بل جاوزها إلى تحقيق المصالح الدنيوية فكان لا بد له من أن يتعرض لكل ما به صلاح أمور البشرية، في العقيدة والتشريع والمعاملات والحكم والسياسة والاجتماع والأخلاق والفكر، ولم يدع مجتمعا إلا حض عليه، وأقام من شأنه، وطلب فيه من القول ما هو ضروري له، كخطبة الجمعة والعيدين وموقف عرفات وغيرها، ولذلك كان صاحب هذه الدعوة يمثل الإمام الهادي، والفيلسوف المشرع، والحاكم العادل، والزعيم السياسي، والقائد الحربي، والمصلح الاجتماعي، والرائد الفكري، وكذلك كان خلفاؤه من بعده.
وقد جالت خطابة هذا العصر في هذه الميادين جميعا، وإن كانت وجهتها الرئيسية وجهة دينية، وكان غرضها الأساس إقامة عمود الدين، ورفع منار الإسلام، فكانت هناك خطب دينية، شملت العقائد والدعوة إلى الإسلام، والتشريع بما فيه من تبين الحدود وإقامة معالم الحلال والحرام، والوعظ والإرشاد بما فيه من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحث على مكارم الأخلاق، وتبشير وإنذار
الطابع العام للخطابة في صدر الإسلام:
1-
ظهور الطابع الديني: من دعوة إلى الإسلام، ودفاع عنه، وبيان للعقائد، كوجود الله ووحدانيته وقدرته وخلقه الكائنات، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وسائر الغيبيات، وسن الشرائع والأحكام المفيدة للناس، المنظمة للحياة الشخصية وللمعاملات بين الناس، المبينة للفرائض، الموضحة للحلال والحرام، ووعظ للعامة، وحث لهم على التزام حدود الشرع الحنيف، وقصص فيه عبرة وزجر.
2-
اختيار خطب ذات أهداف إنسانية عامة، وغايات كريمة سامية، من تحرير النفوس والعقول والأرواح من قيود الشرك والضلالة، وإخراجها من ظلمات الوثنية والجهالة.
3-
اتساع مجال الخطابة الاجتماعية، فقد أخذت دائرتها تتسع، وتتجه في نواحي الحياة العامة وجهات مختلفة نافعة، وتعرضت من التعاليم والآداب والشئون العامة إلى ما لا غنى عنه للناس في مجتمع يتحضر.
4-
اتساع دائرة الخطابة، والخروج بها إلى مجال التعبير عن الأغراض السامية والفكر الراقي، في الكون وقيامه، والوجود ونظامه، والمجتمع وعوامل بقائه وارتقائه، وما ينبغي أن يقوم عليه من أسباب، ويسوده من آداب، والبعد بها عن الإسفاف بالانحصار في مطالب العيش الرخيصة، فكان انقلابا كبيرا أن ترتفع الخطابة لتعبر عن الحياة الإنسانية في صراعها الأدبي والعقلي والعاطفي المحتدم حول المبادئ والمعتقدات والآراء، ولا تسف لتصور الحياة الحيوانية، في صراعها الدموي حول لقمة العيش وتنازع البقاء، وإن تسعى سعيها؛ ليقوم الحق والخير والبر والفضيلة مقام الباطل والشر والإثم والرذيلة.
خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن محمدا صلى الله عليه وسلم قبل كل شيء جاء؛ ليبلغ رسالات ربه، فمهمته الأولى هي الرسالة والتبليغ، وما هذه المهام الكثيرة التي تولاها إلا فروع لتلك المهمة الكبرى، ومعينة عليها، نبتت على حواشيها، ونشأت في خدمتها، والرسالة والتبليغ لا يتم إلا ببلاغة وبيان؛ لأن البلاغ والتبليغ إيصال الكلام للسامعين على أحسن صورة، وبما به يكون الإفهام وإلإقناع، فلكل كلام وزن، وكل قول بمقدار، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1، وقال سبحانه عن نبيه داود:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} 2، ولهذا قال موسى لربه:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} 3، فإذا كانت الفصاحة والبلاغة مطلوبة في دعوة موسى وغيره من الأنبياء، فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم أولى وأوجب، ودعوته أعم وأرحب، وقومه فرسان البيان، وأئمة القول.
لهذا كان من أبرز صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وأجلى آيات عظمته البلاغة البليغة، وأنه في الذروة العليا من البيان وفصاحة اللسان، وأن التبليغ البليغ كان السمة المشتركة بين أفانين قوله كله، وما كان لنا أن نقول في هذا المقام بعد أن قال تعالى عنه ما قال، وقال هو عن نفسه:"أعطيت جوامع الكلم" نشأ الرسول صلى الله عليه وسلم نشأة قرشية بدوية خالصة، واسترضع من بني سعد بن بكر، فاجتمعت له فصاحة اللسان واللغة، واللهجة الجميلة الوقع، يستريح لها
1 سورة إبراهيم: الآية 4.
2 سورة ص: الآية 20.
3 سورة القصص: الآية 34.
السمع، والمنطق العذب المفصل، تجد النفوس حلاوته. كما اجتمعت له القدرة على تأليف القلوب، وتحصيل الثقة، إلى قوة الإيمان بدعوته، وغيرته البالغة عليها، وحرصه الشديد على نجاحها، فاجتمع له بذلك كل أسباب البلاغ للرسول، والنجاح للخطيب، وثقة القوم بصدق الداعي أو الخطيب أساس إجابته، وشرط لنجاح دعوته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه مثلا للأمانة والصدق، حتى لقبوه فيما بينهم "الصادق الأمين".
هذه هي الخطوط الأساسية العريضة البارزة التي تشير إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وتومئ إلى نزعاته، وقد بقي أن تصل بينها وبين خطابته، وتنظر آثارها فيها.