الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السادسة والستون: الإيمان بالبعث بعد الموت
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالبعث بعد الموت، قال الطحاوي رحمه الله: الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة فأخبر اللَّه سبحانه عنه في كتابه العزيز وأقام الدليل عليه، ورد على منكرية في غالب سور القرآن.
قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (7)} [التغابن]. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَاّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُور (7)} [الحج]. وقال تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51)} [الإسراء]
(1)
.
ففي الآية الكريمة الأخيرة يقول تعالى مخبراً عن الكفار المستبعدين المعاد القائلين على وجه الإنكار: إذا كنا عظاماً
(1)
العقيدة الطحاوية ص: 456.
ورفاتاً أي تراباً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً، ثم أمر اللَّه رسوله أن يُجيبهم فيقول:{قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات {أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} يعني السماء والأرض والجبال {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً أو خلقاً آخر شديداً؟ {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً مذكوراً كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)} [الإنسان]. ثم صرتم بشراً تنتشرون فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]
(1)
.
روى الترمذي في سننه من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ، وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ»
(2)
.
وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُون (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَاّقُ
(1)
تفسير ابن كثير (9/ 27 - 25).
(2)
ص: 357 برقم 2145، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 227) برقم 1744.
الْعَلِيم (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون (83)} [يس].
قال بعضهم: لو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيحاز ووضع الأدلة وصحة البرهان ما قدر
(1)
.
قال الطحاوي رحمه الله: والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: إن الأجسام تتقلب من حال إلى حال فتسحيل تراباً ثم ينشئها اللَّه نشأة أخرى كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة ثم صار عظاماً ولحماً ثم أنشأه خلقاً سويًّا كذلك الإعادة يُعيده اللَّه بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب وهو عظم لطيف في أصل الصلب وهو رأس العصعص
(2)
.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَاكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ»
(3)
.
قد يقول قائل: ربما يُؤكل الإنسان من قبل السباع أو الحيتان في البحر أو يحترق تماماً فلا يبقى من جسده شيء فما الجواب عن ذلك؟ فيقال: إن الأمر هين على اللَّه يقول: كن فيكون
(1)
العقيدة الطحاوية ص: 460.
(2)
العقيدة الطحاوية ص: 463.
(3)
صحيح مسلم ص: 1186 برقم 2955 واللفظ له، وصحيح البخاري ص: 976 برقم 4935.
وقدرة اللَّه فوق ما نتصوره واللَّه على كل شيء قدير، روى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا، وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي، وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَامْتُحِشَتْ فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا، ثُمَّ انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا فَاذْرُوهُ فِي الْيَمِّ فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ»
(1)
.
قال عبد اللَّه الأندلسي:
والبعثُ بعدَ الموتِ وَعْدٌ صادقٌ
…
بإعادةِ الأرواحِ فِي الأبدانِ
وقال أبو تمام:
فَيَا لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ مَوْتِي وَمَبْعَثِي
…
أَكوُن رُفاتاً لا عَلَيَّ وَلَا لِيَا
فإذا آمن المؤمن وصدق بالبعث بعد الموت وهو ركن من أركان الإيمان الستة وأن اللَّه على كل شيء قدير، كما قال تعالى:{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير (28)} [لقمان]. حاسب نفسه على كل صغيرة وكبيرة واستعد للقاء اللَّه، قال تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون (93)} [الحجر]. وقال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون (24)} [الصافات].
روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزه الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ
(1)
ص: 665 رقم 3452.
فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟ »
(1)
. قال عمر رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوها قبل أن تُوزنوا وتهيؤوا للعرض الأكبر على اللَّه» .
قال الشاعر:
وَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا
…
لَكَاَن الموتُ راحةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا
…
ونُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيءٍ
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
ص: 396 برقم 2417، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.