الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الرابعة والسبعون: سيرة جعفر بن أبي طالب
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة وبطل من أبطالها صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبَر هذا الصحابي كان من السابقين إلى الإسلام، وممن هاجر الهجرتين الأولى للحبشة والثانية للمدينة، وكان أحد قادة المسلمين في معركة مؤتة الشهيرة، وله قرابة من النبي صلى الله عليه وسلم فهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه:«أَشبَهتَ خَلقِي وَخُلُقِي»
(1)
، قال الذهبي: وقد سر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومه من الحبشة، واللَّه حزن كثيراً عند استشهاده
(2)
.
إنه الشهيد البطل علم المجاهدين جعفر بن أبي طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب القرشيّ الهاشمي أبو عبد اللَّه ويلقب بأبي المساكين شقيق علي بن أبي طالب وأكبر منه بعشر سنين، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة موقوفاً عليه أنه قال: ما احتذى النعال، ولا
(1)
ص: 515 برقم 2699.
(2)
سير أعلام النبلاء (1/ 206).
انتعل، ولا ركب المطايا، ولا ركب الكُور
(1)
بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب
(2)
، يعني في الجود والكرم.
وقد كانت لهذا الصحابي مواقف بطولية تدل على شجاعته العظيمة ونصرته لهذا الدين، فمن تلك المواقف العظيمة أنه بعد رجوعه من هجرته من الحبشة التي دامت عشر سنين بعيداً عن أهله ووطنه، كان النبي صلى الله عليه وسلم لِتَوِّهِ قد انتهى من فتح خبير ففرح بقدومه كثيراً، لكن هذه الفرحة لم تستمر طويلاً فالأعمال كثيرة، والوقت قصير، فقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع جيش المسلمين المتجه إلى الشام لقتال الروم، وكان عددهم ثلاثة آلاف مقاتل وأمر عليهم زيد بن حارثه، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد اللَّه بن رواحة وبدأت المعركة، ونظراً لعدم التكافؤ بين جيش المسلمين وعدوهم، فقد أظهر المسلمون بطولات وتضحيات عظيمة، ففي بداية المعركة وبعد قتال شديد قتل زيد بن حارثة فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فعقر جواده، وكان فارساً من فرسان العرب، قال ابن اسحاق: هو أول من عقر في الإسلام
(3)
فجعل ينشد هذه الأبيات.
يا حبّذا الجنّةُ واقترابُها
…
طَيِّبةٌ وباردٌ شرابُها
والرومُ رومٌ قَد دَنا عذابُها
…
عَلَيَّ إذ لاقيتُها ضِرَابُها
وكان يمسك الراية بيده اليمنى فقطعوا يده اليمنى، فأمسك الراية
(1)
والكور الرحل الذي في الناقة.
(2)
ص: 586 برقم 3764 وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3)
السيرة النبوية (3/ 332).
بيده اليسرى فقطعوا يده اليسرى، فضم الراية إلى صدره فتكاثروا عليه فقتلوه
(1)
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مسعود عن هذه الآية {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا} الآية. قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: «أَروَاحُهُم فِي جَوفِ طَيرٍ خُضرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرشِ، تَسرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيثُ شَاءَت، ثُمَّ تَأوِي إِلَى تِلكَ القَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ عَلَيهِم رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَل تَشتَهُونَ شَيئاً؟ قَالُوا: أَيَّ شَيءٍ نَشتَهِي، وَنَحنُ نَسرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيثُ شِئنَا؟ ! »
(2)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال:«أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
(3)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه أنه قال: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين، من طعنة
(1)
السيرة النبوية لابن هشام (3/ 333).
(2)
ص: 785 برقم 1887.
(3)
ص: 716 برقم 3757.
ورمية
(1)
. وفي رواية: ليس منها شيء في دبره
(2)
.
وصدق اللَّه إذ يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)} [الأحزاب].
روى الحاكم في المستدرك والترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَرَّ بِي جَعفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ فِي مَلَأٍ مِنَ المَلَائِكَةِ وَهُوَ مُخَضَّبُ الجَنَاحَينِ بِالدَّمِ، أَبيَضُ الفُؤَادِ»
(3)
.
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جَعفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ يَطِيرُ مَعَ جِبرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ»
(4)
.
فقد عوضه اللَّه عن يديه المقطوعتين في المعركة بأن جعله يطير في الجنة مع الملائكة، وهذه منقبة عظيمة له رضي الله عنه وأرضاه. وفي صحيح البخاري أن ابن عمر كان إذا سلم على عبد اللَّه بن جعفر يقول: السلام عليك يا ابن الجناحين
(5)
.
قال أبو عبد اللَّه: الجناحان: «كل ناحيتين» .
ومن مناقبه العظيمة: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث
(1)
ص: 806 برقم 4261.
(2)
ص: 806 برقم 4260.
(3)
مستدرك الحاكم (4/ 222)، وقال: هذا حديث صحيح على شرح مسلم ولم يخرجاه وحسنه الحافظ في الفتح (7/ 76).
(4)
مستدرك الحاكم (4/ 218) برقم 4988، وسنن الترمذي ص: 586 برقم 3763 وصححه الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 226) برقم 1226.
(5)
ص: 710 برقم 3709.
البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي»
(1)
.
وبعد استشهاد جعفر ورجوع الجيش إلى المدينة دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أسماء بنت عميس زوجة جعفر ودعا بأبناء جعفر فشمهم وقبلهم وذرفت عيناه من الدموع حزناً على أخيه جعفر فقالت أسماء: يا رسول اللَّه هل بلغك عن جعفر شيء؟ قال: «نَعَم، قُتِلَ» فقامت تبكي فقال: «لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ» .
ثم قال: «ادْعُوا لِي ابْنَيْ أَخِي» قال عبد اللَّه بن جعفر: فجيء بنا كأنا أُفْرُخ، فقال:«ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ» فجيء بالحلاق، فحلق رؤوسنا، ثم قال: أما محمد، فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد اللَّه، فشبيه خَلْقي وخُلُقي، ثم أخذ بيدي، فأشالها
(2)
. فقال: «اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَراً فِي أَهْلِهِ وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ» قالها ثلاث مرار، قال: فجاءت أُمُّنا، فذكرَتْ لَهُ يُتمَنَا وجعلَتْ تُفْرِحُ له
(3)
، فقال: «الْعَيْلَةُ
(4)
تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ! »
(5)
.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصنَعُوا لِآلِ جَعفَرَ
(1)
ص: 515 برقم 2699.
(2)
أي: رفعها.
(3)
قال ابن الأثير في النهاية (3/ 424): إن كانت بالحاء فهو من أفرحه إذا غمه وأزال عنه الفرح وأفرحه الدين إذا أثقله، وإن كانت بالجيم فهو من المفرج الذي لا عشيرة له فكأنها أرادت أن أباهم توفي ولا عشيرة له.
(4)
العيلة: الفقر والفاقة والحاجة.
(5)
(3/ 280) برقم 1750 وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم من قوله: لا تبكوا على أخي.
طَعَاماً، فَقَد أَتَاهُم أَمرٌ يَشغَلُهُم أَو أَتَاهُم مَا يَشغَلُهُم»
(1)
.
ومن أخلاقه العظيمة: الكرم والبذل والسخاء ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال: كنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي، كي ينقلب بي فيطمعني، وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العُكَّة
(2)
التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها
(3)
.
وكان قتله رضي الله عنه سنة ثمان من الهجرة، وهو في ريعان شبابه، قال بعض المؤرخين: قتل وعمره بضع وثلاثون سنة، رضي اللَّه عن جعفر وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
(3/ 280) برقم 1751 وقال محققوه: إسناده حسن.
(2)
العكة: وعاء من الجلد مستدير يوضع فيه السمن والعسل.
(3)
ص: 710 برقم 3708.