الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السابعة والخمسون: المفهوم الخاطئ للدِّين
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن الدين الإسلامي دين عام وشامل يشمل جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها من أمور الدنيا وأمور الآخرة وهذا المفهوم لا يأخذ به ولا يمتثل له إلا المؤمنون الذين خاطبهم اللَّه تعالى بذلك بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين (208)} [البقرة]. قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك»
(1)
. اهـ. ولهذا فإن أهل الكتابين اليهود والنصارى لما أخذوا بكتابهم ودينهم وشرعهم في بعض الجوانب ولم يأخذوا بذلك في جميع نواحي الحياة لم يكونوا مؤمنين وسماهم اللَّه كفاراً وحكم عليهم بذلك فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 273).
الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (85)} [البقرة].
ولنضرب أمثلة ثلاثة توضح لنا المفهوم الصحيح للدين الإسلامي والأخذ به ومن يستحق أن ينتسب ويؤجر عليه ومن لا يستحق.
المثال الأول: كفار قريش الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وأُمر بقتالهم وخاطبهم بقوله: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ
…
»
(1)
كانوا يراهنون على أن ما عندهم من الدين هو الحق ويكفي لقربهم من ربهم فقد كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وأن اللَّه هو الخالق الرزاق قال تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون (87)} [الزخرف].
وكانوا يستغفرون، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون (33)} [الأنفال: 33].
وكانوا يصلون، قال تعالى:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: الحُمْس هم الذين أنزل اللَّه فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 119] قالت: كان الناس يفيضون من عرفات وكان الحُمس
(2)
يفيضون من مزدلفة ويقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
(1)
قطعة من حديث في مسند الإمام أحمد (11/ 610 - 611) برقم 7036، وقال محققوه: إسناده حسن.
(2)
نعت قريش وكنانه وجذيلة ومن تابعهم في الجاهلية.
النَّاسُ} [البقرة: 119]، رجعوا
(1)
إلى عرفات.
وكانوا يقيمون الحج للناس يفعلون كل ذلك للَّه بل إن الورع بلغ بهم أن يطوفوا بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا اللَّه فيها حتى إن تلبيتهم كانت لبيك اللَّهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ثم يزيدون إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.
روى البخاري ومسلم من حديث عروة قال: كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحُمس، (والحمس قريش وما ولدت)، وكانت الحُمس يحتسبون على الناس، يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها، فمن لم يعطه الحُمس طاف بالبيت عرياناً
(2)
، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يطوف بالبيت عريان»
(3)
. حتى دعائهم كانوا يخلصون للَّه أحياناً فيه، قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون (65)} [العنكبوت: 65]. فهل نفعهم ذلك؟ أو عصم دمائهم وأموالهم، كلا. لأنهم إن أخلصوا للَّه أحياناً، أشركوا به أحياناً، وإن أطاعوا أحياناً عصوه أخرى، قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُون (106)} [يوسف]. قال عمر رضي الله عنه: يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية؛ فإذا كان الإنسان يجهل أمور الجاهلية
(1)
ص: 486 برقم 1219، وصحيح البخاري ص: 855 برقم 4520.
(2)
ص: 320 رقم 1665، وصحيح مسلم ص: 486 برقم 1219.
(3)
ص: 533 برقم 1347.
فإنه حري أن يقع فيها لأن الشيطان ما نسيها ولا نام عنها بل يدعو إليها، قال الشاعر:
عَرَفَتُ الشَّرَّ لَا للشرِّ ولَكِنْ لِتَوقِّيهِ
وَمَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ مِنَ الخَيرِ يَقَعُ فِيهِ
وقال آخر:
الضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ
وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشياءُ
المثال الثاني: إبليس لعنه اللَّه فقد كان يقر بثلاث كلها من أصول عقيدة أهل الإسلام: الإقرار بالرب، والإيمان بالبعث، ودعاء اللَّه من غير واسطة وذلك بقوله سبحانه عنه:{قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون (14)} [الأعراف]. فهل نفعه ذلك.
الجواب معلوم لأن الإسلام هو الاستسلام للَّه بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. ليس الإسلام هوى متبعاً، أو رأياً ضعيفاً بل هو طريق مستقيم لا اعوجاج فيه فالدين الذي يقبله اللَّه والإيمان الذي ينفع صاحبه، هو الذي لا يخالطه شرك ولا يناقضه كفر وأن يستمر عليه صاحبه حتى يلقى اللَّه، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. ولم يقل: كما أردت ثم أمر بالوقوف عند حدوده ورسومه. فقال: {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (112)} [هود].
المثال الثالث: طائفة من الناس يشهدون أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه يصلون ويصومون ويزكون ويحجون مع المسلمين ويجاهدون معهم، ومع كل هذا فقد حكم اللَّه عليهم بالخلود في نار
جهنم بل في أسفل السافلين، فمن هؤلاء الذين هم أشد عذاباً من الكفار؟ ! بل الكفار المخلدون في النار أحسن حالاً منهم.
إنهم المنافقون الذين أظهروا صورة الإسلام والإيمان وأبطنوا حقيقة الكفر، قال تعالى:{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون (1)} [المنافقون]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَأَىؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَاّ قَلِيلا (142)} [النساء: 142].
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 139].
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء].
فمما تقدم يتبين لنا الأمور التالية:
أولاً: إن الدين الحق الذي لا يقبل اللَّه تعالى من العباد غيره هو دين الإسلام، قال تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85].
ثانياً: إن الشرك لا تنفع معه طاعة ولا يقبل اللَّه من صاحبه صرفاً ولا عدلاً ولا فرضاً ولا نفلاً بل هو محبط لجميع الأعمال الصالحة كبيرها وصغيرها هذا حكم اللَّه في كتابه وعلى لسان رسوله، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)} [الفرقان]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين (65)} [الزمر].
ثالثاً: إن صورة الإيمان الظاهرة لا تكفي لنجاة العبد من عذاب ربه بل لا بد من صلاح القلوب، قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون (88) إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم (89)} [الشعراء]. روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
(1)
.
رابعاً: إن الإسلام هو الاستسلام للَّه بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
خامساً: إن الملة الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام هي ملة نبينا وملتنا وقدوته وقدوتنا وهي مبنية على أصلين: إخلاص العبادة للَّه تعالى، والبراءة من الشرك وأهله.
سادساً: إن موالاة المؤمنين ونصرتهم، وبغض الكافرين ومعاداتهم، أصل من أصول الملة الحنيفية.
سابعاً: إن من أخذ بعض هذا الدين وترك بعضه كان كاليهود والنصارى الذين قال اللَّه فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
(1)
ص: 34 رقم 52، وصحيح مسلم ص: 651 برقم 1599.
ومن هذا يتبين أن من يأخذون الدين بالتشهي فيأخذون منه ما يوافق أهواءهم ويدعون ما يخالفها ليسوا مؤمنين وهم كالمنافقين الذين تقدم ذكرهم، ولهم في هذا العصر أسماء متنوعة كالعلمانيين والاشتراكيين والبعثيين والقوميين وغيرهم.
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.