الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السادسة والسبعون: تفسير سورة الهمزة
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فمن سور القرآن العظيم الذي تتكرر على أسماعنا وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر سورة الهمزة، قال تعالى:{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَه (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه (3) كَلَاّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَة (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَة (9)} [الهمزة].
قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة (1)} ويل كلمة تدل على ثبوت وعيد لمن اتصف بهذه الصفات، قال أهل العلم: الهمز بالفعل كأن يلوي وجهه أو يشير بيده ونحو ذلك لعيب شخص أو تنقصه، واللمز باللسان وهو من الغيبة المحرمة، قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَاّفٍ مَّهِين (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيم (11)} [القلم]. وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُون (58)} [التوبة].
قوله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَه (2)} هذه أيضاً من
أوصافه القبيحة جماع مناع. أي يجمع المال ويمنع العطاء فهو بخيل لا يعطي شيئاً. قال بعض المفسرين: أي إن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس هو جمعه المال وتعديده أي عده مرة بعد أخرى شغفاً به وتلذذاً بإحصائه لأنه لا يرى عزاً ولا شرفاً ولا مجداً في سواه، قال تعالى:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون (55)} [التوبة]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ»
(1)
.
قوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه (3)} أي: أيظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه وبخل بإنفاقه مخلده في الدنيا فمزيل عنه الموت كلا، قال تعالى لنبيه:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون (34)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185].
قوله تعالى: {كَلَاّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَة (4)} ، {كَلَاّ}: أي: فليرتدع عن هذا الحسبان فإن الأمر ليس كما يظن بل لا بد أن يفارق هذه الحياة إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيئ الأعمال، و {لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَة (4)} أي: ليلقين وليقذفن يوم القيامة في النار التي من شأنها أن تكسر كل ما يُلقى فيها وتحطمه
(1)
ص: 555 برقم 2887.
والنبذ تفيد التحقير والتصغير.
قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة (5)} . استفهام عنها لتهويل أمرها كأنها ليست من الأمور التي تدركها العقول ثم فسرها بقوله سبحانه: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة (6)} أي: هي النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه، قال أبوالسعود: وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد أي المشتعلة من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه
(1)
.
قوله تعالى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة (7)} ، قال ابن جرير: أي التي يطلع ألمها ووهجها على القلوب
(2)
، وقال الزمخشري: يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم وهي أوساط القلوب ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ولا أشد تألماً منه بأدنى أذى يمسه، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه؟ ! ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة
(3)
. قال بعض المفسرين: وخص الأفئدة لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه أي أنهم في حال من يموت وهم لا يموتون
(4)
كما قال تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)} [الأعلى]. وقال تعالى: {وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ
(1)
تفسير أبي السعود (9/ 199).
(2)
تفسير الطبري (12/ 689).
(3)
الكشاف (4/ 223).
(4)
زاد المسير في علم التفسير (9/ 229 - 230).
مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَأَىئِهِ عَذَابٌ غَلِيظ (17)} [إبراهيم]. وقال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور (36)} [فاطر].
قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة (8)} ، أي: مغلقة مطبقة لا مخلص لهم منها.
قوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَة (9)} ، قال الزمخشري:«المعنى أنه يؤكد يأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد فتؤصد عليهم الأبواب وتمدد على العمد استيثاقاً في استيثاق»
(1)
وصدق اللَّه إذ يقول: {نَبِّاءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم (50)} [الحجر].
قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِين (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُوم (44)} [الحجر].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: تأمل الآن لو أن إنساناً كان في حجرة أو في سيارة اتقدت النيران فيها وليس له مهرب الأبواب مغلقة ماذا يكون؟ سيصبح في حسرة عظيمة لا تماثلها حسرة وهكذا في النار {عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَة (9)} ، أي: إن النار مؤصدة وعليها أعمدة ممددة أي ممدودة على جميع النواحي والزوايا حتى لا يتمكن أحد من فتحها أو الخروج منها.
وينبغي للمؤمن أن يحذر من هذه الصفات الذميمة، عيب الناس
(1)
الكشاف (4/ 223).
بالقول أو الفعل، والحرص على المال، وجمعه كأن الإنسان خلق للمال ليخلد له، وأن من كانت هذه صفاته فإن جزاءه هذه النار
(1)
.
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
انظر تفسير الشيخ ابن عثيمين لجزء عم ص: 318 - 322.