الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثامنة والستون: سيرة أبي عبيدة بن الجراح
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة وبطل من أبطالها صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر هذا الصحابي شهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشهد بدراً وأُحداً والخندق وغيرها من معارك المسلمين الفاصلة، وكان من السابقين إلى الإسلام، فقد هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة، وقد أبلى في معركة أحد بلاء عظيماً، فقد نزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأسنانه حتى انتزعت ثنيتاه، وهو أمين هذه الأمة، وهو أحد الرجلين اللذين عينهما أبو بكر للخلافة يوم السقيفة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو على قيد الحياة.
إنه فارس الإسلام أبو عبيدة عامر بن عبد اللَّه بن الجراح القرشي الفهري المكي وصفه أهل السير بأنه كان رجلاً طويلاً نحيفاً معروق الوجه، خفيف اللحية، أثرم الثنيتين، وقد اشتهر بحسن خلقه وتواضعه وحلمه.
وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على فضله ومكانته منها، ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ»
(1)
.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام قال فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ»
(2)
.
وكان أول مشهد شهده أبو عبيدة بن الجراح مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معركة بدر وقاتل في هذه المعركة قتالاً شديداً.
وقال عمر يوماً لجلسائه: تمنوا فتمنوا فقال عمر: ولكني أتمنى بيتاً ممتلئاً رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح
(3)
.
ولما طُعن عمر وأشرف على الموت قيل له: أوص يا أمير المؤمنين قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته
(4)
.
ومن مواقفه العظيمة التي تدل على شجاعته ونصرته لهذا الدين ما حصل منه من دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد فقد كان من النفر القلة الذين ثبتوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة، ولما دخلت حلقات المغفر في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نزعها بأسنانه فسقطت ثنيتاه فما رُئِيَ هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة.
(1)
ص: 714 برقم 3744، وصحيح مسلم ص: 985 برقم 2419.
(2)
ص: 985 برقم 2418
(3)
حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 102).
(4)
مسند الإمام احمد (1/ 263) برقم (108)، وقال محققوه: حسن لغيره.
وقد عينه عمر بن الخطاب أخيراً على الجند في الشام.
وذكر ابن المبارك في الزهد أن عمر قدم الشام، فتلقاه الأمراء والعظماء فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ قالوا: يأتيك الآن قال: فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه، ثم قال للناس: انصرفوا عنا ثم قال لأبي عبيدة: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي، قال: فدخل فلم ير شيئاً قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لبداً
(1)
وصحفة
(2)
وشناً
(3)
وأنت أمير، أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قد قلت: إنك ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين يكفيك ما يبلغك المقيل، قال عمر: غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة
(4)
.
قال الذهبي: هذا واللَّه هو الزهد الخالص، لا زهد من كان فقيراً معدماً
(5)
.
ولما حصل طاعون عمواس بالشام مات منه الآلاف من المسلمين، وكان أبو عبيدة معه ستة وثلاثون ألف فلم يبق معه إلا ستة آلاف رجل، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك أن
(1)
اللبد هي: الخرق.
(2)
الصحفة: هي إناء مبسوط مثل القصعة.
(3)
الشن: هي قربة خرقة وهي التي تستخدم في السقايا.
(4)
أبو داود في الزهد ص: 126 برقم 123، والبيهقي في شعب الإيمان (15/ 140 - 141)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 101)، وقال محقق كتاب الزهد لأبي داود: أخرجها عبد الرزاق في مصنفه (11/ 311) بإسناد صحيح.
(5)
سير أعلام النبلاء (1/ 17).
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسلِمٍ»
(1)
.
روى الحاكم من طريق طارق بن شهاب أن عمر كتب إلى أبي عبيدة لما انتشر الطاعون: إنه قد عرضت لي حاجة، ولا غنى بي عنك فيها، فعجل إلي فلما قرأ الكتاب، قال: عرفت حاجة المؤمنين أنه يريد أن يستبقي من ليس بباق، فكتب: إني قد عرفت حاجتك، فحللني من عزيمتك، فإني في جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد
(2)
. وقد حصلت لأبي عبيدة كرامة له ولجيشه، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر أنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاث مئة وأنا فيهم فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظَّرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فَنُصبا ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتهما فلم تصبهما
(3)
.
وكانت وفاته سنة ثماني عشرة من الهجرة وله ثمان وخمسون
(1)
ص: 546 برقم (2830)، وصحيح مسلم ص: 794 برقم 1916.
(2)
(3/ 294) برقم 5146، قال الذهبي: هو على شرط البخاري ومسلم.
(3)
ص: 470 برقم 2483، صحيح مسلم ص: 802 برقم 1935.
سنة. رضي اللَّه عن أبي عبيدة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.