الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثانية والتسعون: تأملات في قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا}
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:
بعد أن ذكر تعالى حال الأشقياء ذكر حال المتقين السعداء ليكون المرء على بصيرة من أمره وبيّنة في دينه، فإن استقامة العبد في عبادته لربه لا تتم حتى يكون راجياً لرحمة ربه خائفاً من عذابه. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء.
قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)} قال ابن عباس والضحاك متنزهاً، وقال مجاهد وقتادة: فازوا فنجوا من النار
(1)
. والمتقون
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 234).
هم الذين اتقوا عقاب اللَّه وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وقد أخبر اللَّه عز وجل عن هذا الفوز بأنه عظيم، فقال تعالى:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)} [الفتح].
وأخبر سبحانه أن هذا الفوز كبير فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِير (11)} [البروج].
قوله تعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)} : حدائق جمع حديقة، أي: بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة، وأعناباً: جمع عنب وهي من جملة الحدائق لكنه خصصها بالذكر لشرفها.
قوله تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)} : جمع
(1)
كاعب وهي الناهد، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: كواعب أي: أن [ثُدُيَّهن نواهد] ليست متدلية إلى أسفل لأنهن أبكار عُرُب أتراب
(2)
.
و{أَتْرَابًا (33)} أي: في سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كما في نساء الدنيا.
كما في قوله تعالى «في سورة الواقعة» : {إِنَّا أَنشَانَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة].
قوله تعالى: {وَكَاسًا دِهَاقًا (34)} : أي: كأساً ممتلئة والمراد هنا الخمر.
قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ
(1)
تفسير ابن عثيمين لجزء عم ص: 34.
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 234).
مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [محمد: 15].
وخمر الآخرة ليست كخمر الدنيا يصيب الإنسان الصداع والقيء منها، فقد نفى اللَّه تعالى عنها ذلك، قال تعالى:{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُون (19)} [الواقعة].
قوله تعالى: {لَاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)} [النبأ]: أي لا يسمعون لغواً أي كلاماً باطلاً لا خير فيه ولا كذابًا: أي ولا كذباً فلا يكذبون ولا يُكذب بعضهم بعضاً، قال تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَاثِيمًا (25) إِلَاّ قِيلاً سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة]. وقال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين (47)} [الحجر].
قوله تعالى: {جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا (36)} : أي أنهم يُجزون بهذا جزاء من اللَّه سبحانه وتعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا، قال تعالى:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم]. وحساباً: أي كافياً وافراً شاملاً، تقول العرب: أعطاني فأحسبني أي كفاني ومنه حسبي اللَّه أي أن اللَّه كافيني.
قوله تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)} . يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وأنه رب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وأنه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)} أي: لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه كقوله: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وكقوله: {يَوْمَ يَأْتِ
لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105].
قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَاّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} أي: لا أحد يتكلم لا الملائكة ولا غيرهم كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَاّ هَمْسًا (108)} [طه]. وقد اختلف المفسرون بالمراد بالروح فقيل: إنهم بنو آدم، وقيل: جبريل كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين (194)} [الشعراء]. وقيل: القرآن وقيل: ملك من الملائكة يقدر بجميع المخلوقات، وقيل غير ذلك ورجح جمع من المفسّرين أنه جبريل عليه السلام. {إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ}: أي بالكلام وقال قولاً صواباً وذلك بالشفاعة إذا أذن اللَّه لأحد أن يشفع شفع فيما أُذن له فيه على حسب ما أذن له.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ»
(1)
.
قوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)} . أي الكائن المتحقق لا محالة، فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً. قال القرطبي: أي مرجعاً بالعمل الصالح كأنه إذا عمل خيراً رده إلى اللَّه عز وجل وإذا عمل شراً عده منه وننظر إلى هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ
(1)
ص: 1417 رقم 7437، وصحيح مسلم ص: 99 رقم 182.
فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» تأدباً مع اللَّه
(1)
(2)
.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} [النبأ]. أي تعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرها قديمها وحديثها كقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف]. وكقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّر (13)} [القيامة]. وجاء في وصف هذا العذاب بأنه قريب فكل ما هو آت فهو قريب، قال بعض المفسّرين: إنه يشمل عذاب الآخرة والموت والقيامة لأن من مات فقد قامت قيامته فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة وإن كان من أهل النار رأى مقعده من النار
(3)
.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} : أي: يود الكافر يومئذ أنه كان في الدنيا تراباً ولم يكن خُلق ولا خرج إلى الوجود وذلك حين عاين عذاب اللَّه ونظر إلى أعماله الفاسدة. قد سطرت عليه بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة، وقيل: إنما يود ذلك حين يحكم اللَّه بين الحيوانات التي كانت في الدنيا فيفصل بينها بحكمه العادل الذي لا يجور حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها: كوني تراباً فتصير تراباً فعند ذلك يقول الكافر: {يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)}
(4)
، وذكر ابن جرير في تفسيره آثاراً عن الصحابة
(1)
تفسير القرطبي (22/ 33).
(2)
صحيح مسلم ص: 305 برقم 771.
(3)
تفسير القرطبي (22/ 33).
(4)
تفسير ابن كثير (14/ 237).
منهم عبد اللَّه بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنه: أن اللَّه تعالى يقتص بين هذه البهائم يوم القيامة ثم يقول لها بعد ذلك: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر:{يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)}
(1)
.
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
انظر تفسير ابن جرير (12/ 418 - 419).