الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ال
مقدمة
الحمد لله العلي الكبير، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن مناهج الدعوة إلى الله تعالى موضوع واسع الأرجاء متعدد الجوانب، وهو موضوع إيماني تربوي عصري لا يستغني عن معرفته المسلم لا سيما الداعي إلى الله عز وجل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فالداعي كي يكون صائبا رشيدا لا بد له من بصيرة تنير له الطريق وتوقفه على مناهج الدعوة ومعالم الرشد كما قال تعالى:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] أي على يقين وحق1.
وأساليب دعوة العصاة محور أساس من محاور مناهج الدعوة، ولقد قيض الله تعالى من عباده العلماء العاملين والدعاة الناصحين على اختلاف الأمصار وتعاقب الأجيال من دعوا إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة وردوا الشاردين من العصاة والغواة إلى حياض الإيمان، سيدهم وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وأصحابه المكْرمون ومن جاء بعدهم من التابعين، وكذلك الأئمة المهديين على تعاقب الأجيال ومنهم ابن تيمية رحمه الله ومدرسته السلفية في القرن السابع الهجري بعد أن مست الحاجة في عصره إلى إقامة السنة وقمع البدعة ورد العدوان عن بلاد المسلمين من قبل التتار وغيرهم وما صاحب ذلك الغزو العسكري من غزو فكري واكبه وسبقه وتلاه، ثم ما تلى عصره من عصور أخرى منها عصر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكانت عامة المعاصي في عصره تنصب في الاعتقادات الشركية وما يتعلق بها كانتشار
1 تفسير القرطبي 9/274.
الخرافات والبدع.
وهذا البحث هو قبسات من منهج السلف في دعوة العصاة من المسلمين، والعصاة في الواقع شريحة كبيرة من سواد المسلمين في جل الأعصار والأمصار، وكما هو معروف فالخطأ والمعصية طبيعة بشرية جبل عليها بنو آدم إلا من رحم الله قال تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَليْهِ وَهَدَى} [طه:122] فالإنسان يعصي لجهله، والله عز وجل يوفق برحمته من يشاء للتوبة، وكما قال في موضع آخر:{يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلوْلا فَضْلُ اللهِ عَليْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21]
وكما ورد في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” 1.
فوقوع المعصية ثم إحداث التوبة أمران ينبغي أن يتلازما، فإذا تخلفت التوبة عن المعصية آذن بالخطر الكبير والشرر المستطير، لأن المعصية إن خفيت لم تضر إلا المتلبس بها أما إذا أعلنت ولم تنكر ولم تغير كانت بلاءً وبيلا.
ولقد تركز الحديث في هذا البحث الوجيز على محورين رئيسين وهما:
- تعريف العصاة وبيان أسباب المعصية وأنواعها ودركاتها.
- أساليب دعوة العصاة وآثارها.
أهمية الموضوع والحاجة إليه:
تنبع أهمية البحث في أساليب دعوة العصاة من أن الاستقامة مطلب
1ت: صفة القيامة (2499) ، وقال هذا حديث غريب، ماجة: الزهد (4251)، أحمد: المكثرين (12576)، دارمي: الرقاق (2611) .
شرعي بدونه لا تتحقق السعادة في الدنيا ولا النعيم المقيم في الآخرة، والتورط في المعاصي داء يستشري فيردي إذا لم تحسم مادته من أول الطريق وبالأسلوب الحكيم!
إن الاستقامة على أمر الله، غاية تهدف إليها الدعوة قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] والاستقامة مدعاة للاستقرار النفسي والاستقرار الاجتماعي، قال تعالى:{إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَليْهِمْ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ التِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]{إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13] .
كما أن المعاصي انحراف عن النهج السوي والانحراف مدعاة للاضطراب السلوكي والاضطراب النفسي والاجتماعي، ويظل العاصي في دوامة الشقاء إن لم تتداركه رحمة الله قال تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَليْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] ومن ثم فإن الابتعاد عن المعاصي وعن أسبابها من بداية الطريق بالحزم مطلب شرعي وهذا كثيرا ما نراه في آيات التنزيل الحكيم مثل قوله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الاسراء:32] ولم يقل ولا تزنوا فهو نهي عن مجرد القرب منه بتجنب أسبابه ودواعيه كالنظر والسمع
…
الخ وهذا ـ أيضا ـ مطلب اجتماعي هام به يتحقق الاستقرار في المجتمع، ولقد كان من بنود البيعة يوم العقبة كما رواها عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن لا يرتكب المسلمون متعمدين المعاصي في معروف، إذ قال عليه الصلاة والسلام يومئذ وحوله عصابة من أصحابه: “ بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين
أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف “1.
والمعروف كما قال ابن حجر: ما عُرف من الشارع حُسنه نهيا وأمرا2.
فطاعة الله في كل ما أمر به وتجنب معصيته في كل ما نهى عنه هو التقوى وهو أمر أساس لا ينهض المجتمع الأمثل إلا عليه، وبقدر تحقيق هذه الغاية السنية يكون المجتمع موفقا مسددا.
لمحة في منهج البحث:
وموضوع البحث في طريقة عرضه وأسلوب جمعه غلبت فيه الجانب الإصلاحي الذي هو هدف الدعوة ومقصودها، ثم إن البحث من حيث المحور الموضوعي ليس ببعيد عما كتبه كثير من أهل العلم في موضوعات (الحسبة) مثلما نجده في كتاب الحسبة لابن تيمية، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أيضا، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتب السياسة الشرعية، فإن المادة العلمية التي نجدها في هذه الكتب تحت تصنيف (مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو مراتب تغيير المنكر) ضافية تروي ظمأ الباحثين، وتحل استشكالاتهم وتنير الطريق أمام المحتسبين والدعاة والمربين.
ولقد تتبعت في بحثي هذا الدليل وعدت عليه بعد التأمل والدراسة بالاستنباط على ضوء ما قاله علماء السلف رحمهم الله تعالى. وعلى العموم فلقد أكثرت من إيراد النصوص الشرعية (الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة) تأصيلا للبحث العلمي، وتوفيرا للزاد القريب الذي يرجع إليه الدعاة والمحتسبون وهم يدعون العصاة إلى الله.
وعلاوة على قواعد مناهج البحث المعروفة من التوثيق والتحليل، عنيت
1متفق عليه: خ: الإيمان (18) واللفظ له، م: الحدود (1709)
2الفتح 1/ 65.
بالتبويب والعنونة عناية فائقة إذ تبرز هذه الطريقة مكامن الموضوع وتحدد أطره العامة وتجعل المادة العلمية ميسورة سهلة، وفي لغة البحث توخيت كذلك سهولة اللفظ مع إجادة السبك حتى تتسنى الاستفادة من هذا البحث لكل قارئ يريد معالجة مشكلة المعصية في النفس البشرية.
وفي التوثيق رمزت في الحواشي في عزو الأحاديث إلى الصحاح الستة ومعها مسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وسنن الدارمي بالرموز الآتية: (خ) صحيح البخاري طبعة فتح الباري المطبعة السلفية، (م) صحيح مسلم ترقيم محمد عبد الباقي، (د) سنن أبي داود الموسوعة الإلكترونية صخر، (ت) سنن الترمذي ترقيم أحمد شاكر، (س) سنن النسائي، (ما) سنن ابن ماجة ترقيم محمد عبد الباقي، (ط) موطأ الإمام مالك ترقيم الموسوعة الإلكترونية صخر، (أحمد) مسند الإمام أحمد ترقيم الموسوعة الإلكترونية صخر، (دارمي) مسند الإمام الدارمي. وأما غيرها من كتب السنة فإني أذكرها باسمها دون رمز لأن ذكرها قليل في هذا البحث وعامة الأحاديث المستشهد بها تدور على الكتب التسعة الآنفة.
وذكرت إثر كل رمز اسم الكتاب من المرجع الحديثي ورقم الحديث وذلك للاختصار وتحرير الحواشي من ثقل الإطالة والتكرار، وعلى سبيل المثال:[ (خ) الصلاة (350) ] معناه: رواه البخاري في كتاب الصلاة حديث رقم (350) وهكذا في بقية الكتب الحديثية الأخرى.. والتزمت بطبعة واحدة في كل المراجع التي أحلت إليها.
التعريف بمفردات البحث:
(أساليب دعوة العصاة) عنوانٌ له دلالاته وخصائصه، وهو في مجموعه يمثل وحدة قيّمة في مناهج الدعوة، إذ تتوجه تلك المناهج إلى المخاطبين على تنوع أجناسهم وتفاوت ثقافاتهم وتعدد مشاربهم، وتتوخى في عمومها الإصلاح والتوجيه نحو الخير والرشد. وأساليب دعوة العصاة أو منهج دعوة العصاة
اصطلاحان متقاربان يتجلى مضمونهما في هذا البحث الموجز، ولنقف باقتضاب على أهم المدلولات التي تتضمنها مفردات البحث:
فـ (الأساليب) جمع أسلوب، وهو كما قال اللغويون: الطريق والوجه والمذهب، قال ابن منظور: “ يقال للسَّطْر من النخيل أُسْلوبٌ وكل طريقٍ ممتدّ فهو أُسلوبٌ قال: والأُسْلوبُ الطريق والوجهُ والمَذْهَبُ يقال أَنتم في أُسْلُوب سُوءٍ ويُجمَعُ أَسالِيبَ، الأُسْلُوبُ: الطريقُ تأُخذ فيه الأُسْلوبُ بالضم الفَنُّ، يقال أَخَذَ فلانٌ في أَساليبَ من القول أَي أَفانِينَ منه “1.
وقد ورد التعبير بـ (الأساليب) عند السلف ويقصد به فنون القول كما عند ابن تيمية؛ قال: “ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس”2.
فهو هنا عبر بالأساليب في معنى الأنماط البيانية الكلامية. فالأشبه في الأساليب أنها تختص بالبيان والكلام، يقال أساليب الدعوة أي الطرائق البيانية التي يوصل بها الداعية دعوته إلى المدعوين، وأما الوسائل فهي الأعم مدلولا تشمل الطرائق البيانية وغيرها، إذ هي القنوات التي من خلالها يوصل الداعية كلمته إلى الآخرين كالمذياع والراي والكتاب والجريدة والشريط ومنبر الخطابة ودار الأيتام والمستشفى الخيري
…
الخ وهذا هو الفرق بين أساليب الدعوة ووسائلها.
وقد يتداخل الاصطلاحان في مدلولهما كما سيأتي في غضون هذا البحث، لكن يبقى المعنى الأصلي والأغلب لـ (الأساليب) منصبا نحو الأدوات البيانية الخطابية.
1 لسان العرب 1 / 473 مادة سلب.
2 مجموع الفتاوى 31 / 114.
وأما (مناهج الدعوة) فهو أعم وأشمل ينتظم الأساليب والوسائل والخطط والأهداف والغايات يقال مناهج الدعوة ومناهج التربية ومناهج المؤرخين ومناهج المفسرين
…
ويقصد بذلك جملة الخطط والطرائق والأساليب التي سلكوها.
(والدعوة) هي النداء والصيحة والطلب والاستمالة والحث والحض في اللغة: قال ابن منظور: “ دَعَا: يَدْعُو دَعْوَةً ودُعاءً وادَّعَى يَدَّعي ادِّعاءً ودَعَوى. وفي نسبه دَعْوة أَي دَعْوَى. والدِّعْوَة بكسر الدال ادِّعاءُ الوَلدِ الدَّعِيّ غير أَبيه. “1.
ومن مرادفات الدعوة أيضا الحلف قال: “الدَّعْوة: الحِلفُ، وفي التهذيب: الدَّعوةُ الحِلف، يقال: دَعوة بني فلان في بني فلان. وتَدَاعَى البناءُ والحائط للخَراب إِذا تَكَسَّر وآذنَ بانْهِدامٍ. وداعيناها عليهم من جَوانِبِها: هَدَمْنَاها عليهم. وتَدَاعَى الكثيب من الرمل إِذا هِيل فانْهال”2.
وفي الحديث: “كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذا اشْتَكَى بعضُه تَدَاعَى سائرُه بالسَّهَرِ والحُمَّى” 3.
كأَنّ بعضه دعا بعضاً من قولهم تَدَاعَت الحيطان أَي تساقطت أَو كادت، وتَدَاعَى عليه العدوّ من كل جانب: أَقْبَل، من ذلك. وتَدَاعَت القبائلُ على بني فلان إِذا تأَلبوا ودَعا بعضهم بعضاً إِلى التَّناصُر عليهم. وفي الحديث: “تَدَاعَتْ عليكم الأُمَمُ “ أَي اجتمعوا ودعا بعضهم بعضاً. وفي حديث ثَوْبانَ: “ يُوشكُ أَن تَداعَى عليكم الأُمَمُ كما تَدَاعَى الأَكَلةُ على قَصْعَتِها “ 4.
1 لسان العرب 14 / 261 – 262.
2 المرجع السابق.
3 متفق عليه: خ: الأدب (6011)، م: البر والصلة (2586) .
4 د: الملاحم (3745)، أحمد: الأنصار (21363) .
فالدعوة على ما تقدم من الألفاظ التي تطلق ويراد منها معان كثيرة ومرادفات متعددة.
والدعوة في الاصطلاح هي: “ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “ وفي تعريف آخر: “قيام من له علم ودراية بدعوة الناس إلى الخير ودلالتهم إلى مسالك الرشد في أمور الدين والدنيا”.
وعند ابن تيمية: “ الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله “1
والدعوة في استصلاح المنحرفين عن جادة الاستقامة هي: “ استمالة العصاة إلى جانب الاستقامة والرشد وإخراجهم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة ومن أوحال الطغيان والغي والظلم إلى رحاب التقوى والرشد والعدل، ليكونوا صالحين في ذوات أنفسهم مصلحين ـ بعد ذلك ـ لغيرهم” ويراعى في هذا جانب التقويم والتهذيب والإرشاد نحو الخير والفضيلة.
(والعصاة) هم المتساهلون في جانب التقوى المجافون لجناب الطاعة المتجانفون للإثم. وسيأتي التعريف بهم على وجه التفصيل قريبا إن شاء الله.
المشكلة البحثية:
المعاصي تنوعت وتكاثرت في زماننا هذا على نحو لم يسبق له مثيل، وذلك لتنوع وتكاثر الملهيات والصوارف عن طاعة الله عز وجل من جهة، ولضعف الوازع الديني والأخلاقي من جهة أخرى، ثم لتشابك المصالح بالمفاسد في كثير من الأحيان مما لا تنفك عنه الحياة اليومية من جهة ثالثة.
1 مجموع الفتاوى 15/ 175.
لقد تعرضت كثير من المجتمعات الإسلامية للغزو الفكري المنظم والحرب الثقافية المقننة منذ عقود كثيرة، وكان ذلك الغزو بديلا عن الحرب القتالية التي أريقت فيها دماء واستبسل فيها المسلمون دفاعا عن العرض والأرض وقبل ذلك حماية للعقيدة والدين.
خاض أعداء المسلمين حروبا شعواء لمحو الإسلام والقضاء على المسلمين كان من أبرزها الحروب الصليبية التي امتدت زهاء قرنين (488-684?/ 1095-1292م) وأدرك أعداء الإسلام أن القتال لن يزعزع المسلم عن دينه بل يزيده تمسكا ودفاعا واستبسالا ويؤجج فيه روح الجهاد والفداء.. فغيروا الإستراتيجية وأتوا بالغزو الفكري وكان الهدف الأول منه إقصاء الدين من حياة المسلم ليكون مخلوقا لا تحركه غير الشهوات والملذات فلا يهتم بالجهاد ولا بقضايا المسلمين ولا بمعالي الأمور. ونتجت إثر ذلك جملة من المشكلات التي يعاني منها الكثير من المسلمين حين بعد الكثيرون منهم عن هدي ربهم، ومن ثم تنامت في عقول الأكثرين من المسلمين مشكلات عديدة فيما يتعلق بالمعاصي منها:
- الاستهانة بالمعصية، بل الاستخفاف بالدين وأثره في الحياة والتقليل من أهميته.
- ومنها التسويف في التوبة.
- ومنها الجهل بالمعصية ذاتها.
- ومنها الجهل بعواقب المعاصي وتبعاتها.
- ومنها ذلك الانحراف العقدي الذي ظهر مبكرا في تاريخ المسلمين وهو المبالغة والغلو في مرتكبي المعاصي لا سيما الكبائر، غلوا أخرج به الغلاةُ العصاةَ من مسمى الإيمان وظهرت إثر ذلك نعرة التكفير وهو ما عُرف بنزعة الخوارج، وفي المقابل التهاون بالمعاصي وزعم أنه لا تنفع مع الإيمان طاعة كما لا تضر معه معصية، وهو ما عُرف بنزعة المرجئة وغيرهم. وهو فكر متنامي في كثير من
المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
وهذا البحث ليس مرتبطا كليا بالغزو الفكري الذي تعرض له المسلمون في هذا العصر خاصة وإن كان ذلك الغزو له تأثيره العميق في مختلف مجالات الحياة في المجتمعات الإسلامية، بل البحث جمع وتحليل لمادة الدعوة من حيثياتها المتنوعة: “الموضوع، والأساليب، والوسائل، والمراتب، والمقاصد والغايات” فيما يخص المعصية والعصاة، المشكلة وطرائق العلاج، من أجل أن تزكو نفس المسلم ويجلو قلبه وتبيضّ صفحته ويخرج من حمأة المعصية وظلماتها إلى نور الإيمان والطاعة كان لا بد له من توبة وإنابة إلى الله ولزوم الاستقامة، وفي هذا البحث جمعٌ لأهم الأساليب المحققة لذلك والمعينة عليه والمقربة له.
تساؤلات البحث:
تنبثق من موضوع البحث عدة تساؤلات مهمة، تثري المحاور الأساسية فيه وتوقف القارئ الكريم على المعالم الكبرى لموضوع العصاة وكيف يمكن استصلاحهم، لا سيما وهم يمثلون الفئة الأكبر عددا في جميع المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، على حد قوله تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116] وهذه الفئة هي الأكثر حاجة إلى التقويم المستمر والتوجيه المتنامي، وتتلخص التساؤلات في الفقرات التالية:
- ما هي المعاصي وما حدودها؟
- لماذا يقدم الإنسان على معصية خالقه وبارئه؟
- وهل للمعاصي آثار في واقع العصاة واستقرار المجتمع؟
- وكيف يمكن إخراج العصاة من ضيق المعصية إلى سعة الطاعة؟
- وكيف يمكن إبقاؤهم على الطاعة، ودرء النكوص إلى المعصية؟
تلكم أبرز التساؤلات التي تجئ الإجابات عنها مستوفاة إن شاء الله تعالى في غضون هذا البحث.
وبعد: فإن يكن في بحثي ما هو مشمول في رياض الخير والصواب فهو من الله جل ذكره، فله سبحانه الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وما جانبت فيه الصواب فإني أستغفر الله منه وأتقدم بالاعتذار وأجنح إلى الحق وأطلبه حيث كان ولا أستنكف عن قبوله إن شاء الله.
وأسأل الله التوفيق والعون والسداد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،