المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أسلوب الاستتابة: - أساليب دعوة العصاة

[عبد الرب نواب الدين]

الفصل: ‌ أسلوب الاستتابة:

فقال لا تجلسوا معهم قيل له أيهجرون فقال لا يبلغ بهم هذا كله فبين أنه بدعة لم يفعلها القرون الفاضلة لا فى الحجاز ولا فى الشام ولا فى اليمن ولا فى مصر ولا فى العراق ولا خراسان ولو كان للمسلمين به منفعة فى دينهم لفعله السلف “1

إن إثارة الشعور الإسلامي وحث الغيرة على الدين والمحارم لأسلوب تربوي مثمر، لأن المسلم مهما أوغل في حمأة المعصية تراه أبدا معتزا بأنه مسلم وإن كان جاهلا بحقيقة الإسلام على ما درج عليه الكثيرون من أبناء المسلمين اليوم.

1 مجموع الفتاوى11 / 592.

ص: 203

6-

‌ أسلوب الاستتابة:

المعاصي مهما تعاظمت فإنها تغفر، حتى الشرك إذا تاب العبد منه قبل الموت فإنه يغفر، هذه الحقيقة ثابتة في عقيدة أهل السنة ثبوت الجبال، ولا يكفِّر بالكبائر إلا أصحاب الأهواء كالخوارج ونحوهم ومن هذا المنطلق العقدي يأتي أسلوب الاستتابة:

ويقصد (بالاستتابة) في الأصل حمل العصاة على التوبة بالقهر والقوة والغلبة وعليه فهو من مراتب تغيير المنكر، ولا مانع أن يقصد به الترغيب في التوبة والانابة بإيجاد القناعة الذاتية لدى العصاة بأن يتوبوا ويقلعوا عما هم فيه من المعصية والاثم والعدوان، لتكون توبتهم ذاتية بدافع من ذات أنفسهم، لأن السين والتاء للطلب يقال استغفر أي طلب المغفرة، واستتاب طلب منه أن يتوب وينيب.

وفيما يلي بعض ما ورد في التوبة وفضلها ثم نورد بعد ذلك ما يتعلق بالاستتابة التي هي بمعنى القهر والقوة:

ثمة نصوص كثيرة في التوبة والإنابة إلى الله لا يسع المسلم ردها منها قول الله تعالى: {وَالذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلمُونَ أُوْلئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ

ص: 203

وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ} [آل عمران: 136]

وقوله: {وَمَنْ يَعْمَل سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللهَ يَجِدْ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]

وقوله: {قُل يَا عِبَادِي الذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُول نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُول لوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لكُنْتُ مِنْ المُتَّقِينَ أَوْ تَقُول حِينَ تَرَى العَذَابَ لوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ المُحْسِنِينَ بَلى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الكَافِرِينَ} [الزمر:53-59] .

ومن السنة النبوية الشريفة:

- حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” 1.

- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم “ 2.

- وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: “ التائب من الذنب كمن لا ذنب له “ 3.

1 ت: صفة القيامة (2499) وقال حسن غريب، ماجة: الزهد (4251)، دارمي: الرقاق (2611) .

2 م: التوبة (2749)، أحمد: المكثرين (7700) .

3 ماجة: الزهد (4250) .

ص: 204

- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ كان في بني اسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة؟ قال لا. فقتله! فجعل يسأل فقال له رجل إئت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله الى هذه أن تباعدي، وقال قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له “ 1.

- حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فاذا راحلته عنده” 2.

- حديث “ما يصيب المسلم من نصب ولاوصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله بها من خطاياه “ 3.

ومن هذه الأحاديث الشريفة وغيرها يتبين أن الذنوب تستوجب العقوبة، وأن التوبة النصوح إلى الله تعالى ترفع العقوبة، كما أن هناك أسبابا أخرى تزول بها عقوبة الذنب وهي نحو عشرة كما يقول ابن تيمية رحمه الله، ملخصها:

1-

التوبة باتفاق المسلمين كما تقدم،

2-

الاستغفار،

3-

الحسنات الماحية،

4-

دعاء المؤمن للمؤمن كصلاة الجنازة،

5-

ما يعمل للميت من أعمال البر،

6-

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره يوم القيامة،

7-

المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا،

8-

ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة،

9-

أهوال يوم القيامة

1 متفق عليه: خ: الأنبياء (3470)، م: التوبة (2766) .

2 متفق عليه: خ: الدعوات (6308) واللفظ له، م: التوبة (2744) .

3 متفق عليه: خ: المرضى (5642)، م: البر والصلة (2573) .

ص: 205

وكربها وشدائدها، 10- رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد1.

هذا وينبغي أن لا يغيب عن بال الدعاة أن رحمة الله واسعة وأنه يغفر الذنوب جميعا، قال الإمام النووي رحمه الله:"مذهب أهل السنة بأجمعهم من السلف الصالح وأهل الحديث والفقهاء والمتكلمين على مذهبهم من الاشعريين أن أهل الذنوب فى مشيئة الله تعالى وأن كل من مات على الايمان وتشهد مخلصا من قلبه بالشهادتين فانه يدخل الجنة فان كان تائبا أو سليما من المعاصى دخل الجنة برحمة ربه وحرم على النار بالجملة فان حملنا اللفظين الواردين على هذا فيمن هذه صفته كان بينا وهذا معنى تأويلى الحسن والبخارى وإن كان هذا من المخلطين بتضييع ما أوجب الله تعالى عليه أو بفعل ما حرم عليه فهو فى المشيئة لا يقطع فى أمره بتحريمه على النار ولا باستحقاقه الجنة لاول وهلة بل يقطع بأنه لابد من دخوله الجنة آخرا وحاله قبل ذلك فى خطر المشيئة إن شاء الله تعالى عذبه بذنبه وإن شاء عفا عنه بفضله ويمكن أن تستقل الاحاديث بنفسها ويجمع بينها فيكون المراد باستقاق الجنة ما قدمناه من اجماع أهل السنة أنه لا بد من دخولها لكل موحد أما معجلا معافى وأما مؤخرا بعد عقابه والمراد بتحريم النار تحريم الخلود خلافا للخوارج والمعتزلة فى المسألتين"2.

وللتوبة شروط معروفة وهي:1- الإقلاع عن الذنب. إذ لا معنى للتوبة حال تلبس العاصي بمعصيته!، 2- الندم القلبي وهو أمارة الصدق في التوبة والرغبة فيها والتأسف على ما مضى، 3- العزم على عدم العود ومنه المسارعة إلى التوبة والمبادرة إليها من غير تسويف.

وهذا مستنبط من قول الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلى اللهِ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

1 انظر مجموع الفتاوى 7 / 487 – 501 وأيضا 4 / 432.

2 المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 1 / 220.

ص: 206

بِجَهَالةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَليْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَليْسَتْ التَّوْبَةُ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ المَوْتُ قَال إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلئِكَ أَعْتَدْنَا لهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18] وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِل مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54] وللعزم أمارات يعرف بها منها: الاستغفار باللسان وملازمة الذكر والدعاء قال تعالى {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] ومجانبة خلطاء السوء.

4-

رد المظلمة والتحلل من صاحبها سواء كانت عينا أو عرضا أو غير ذلك لأن الوزن يومئذ الحق، وكل إنسان يتعامل في المقاصة بحسناته يوم لا دينار ولا درهم، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شئ فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"1.

ولابد للتائب من صلاح حاله بعد التوبة النصوح ويكون ذلك أمارة قبول التوبة كما في قوله تعالى: {وَالذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لغَفُورٌ رَحِيم} [الأعراف:153] وما سبق مثله قريبا في آية سورة الأنعام.

هذا وقد ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أدعية فيها التوبة والإنابة، وعلى المؤمن الأخذ بها والنهل من معينها، مثل قول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِل عَليْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلتَهُ عَلى الذِينَ مِنْ قَبْلِنَا

1 خ: المظالم (2449)، أحمد: الصحابة (9242)

ص: 207

رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلنَا مَا لا طَاقَةَ لنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة:286] .

ومن الأذكار الشرعية سيد الاستغفار كما في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا اله الا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب الا أنت” قال: “ومن قالها من النهار مؤمنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة “ 1.

وينبغي أن يعلم الداعية وأن يبصر به المدعوين أن التوبة تقبل من جميع الذنوب والمعاصي حتى أعظمها وهو الشرك بالله تعالى إذا تاب منه العبد قبل الموت وحسن حاله على التوحيد لقوله تعالى: {قُل يَاعِبَادِي الذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] لعموم قوله صلى الله عليه وسلم “ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله “ 2.

قال النووي رحمه الله: وفيه أن الإيمان شرط الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما واعتقاد جميع ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله “ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به “ وفيه ترك تخطئة المجتهدين المختلفين في الفروع بعضهم بعضا، وفيه قبول توبة الزنديق3.

فهذه النصوص ونظائرها ترغب في التوبة وتدعو إليها وتحض عليها وتأمر

1 خ: الدعوات (6306)، ت: الدعوات (3393)، ن: الاستعاذة (5532)، أحمد: الشاميين (16488) .

2 متفق عليه: خ: استتابة المرتدين (6924)، م: الإيمان (20) .

3 المنهاج 1 / 212.

ص: 208

بها. وهذا هو المعنى الأول للإستتابة وهوالمنصب نحو الترغيب فيها.

وأما المعنى الثاني فهو المنصب نحو حمل العصاة على التوبة حملا بالقوة والغلبة والقهر كما في الحدود الشرعية، وهو باب عظيم في الدعوة إلى الله تعالى يتوخى فيه الاصلاح والأخذ بأيدي السفهاء من المعصية إلى الطاعة، وفيها ـ أيضا ـ حماية لجانب الشريعة من تهاون المفرطين وغلو الغالين، فبالإستتابة تقوى سطوة الدين ومهابته في النفوس وتضمحل شوكة العصاة والعتاة والمجرمين.

وقد عقد علماء الإسلام أبوابا في كتبهم في بيان هذا الباب وفضله وأثره وعواقبه الحميدة من مثل قول الإمام البخاري في الصحيح كتاب إستتابة المرتدين والمعاندين. وقد سبقت الاشارة إلى بعضها.

وللإستتابة في كل حد من الحدود الشرعية تفصيل ذكره أهل العلم، ولنسق من ذلك مثالا لحد الردة، ولنختر في ذلك قبسات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: “ الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب ومذهب مالك وأحمد أنه يستتاب ويؤجل بعد الإستتابه ثلاثة أيام وهل ذلك واجب أو مستحب على روايتين عنهما أشهرهما عنهما أن الاستتابة واجبة وهو قول إسحاق بن راهويه، وكذلك مذهب الشافعي هل الاستتابه واجبة أو مستحبة على قولين لكن عنده في أحد القولين يستتاب فإن تاب في الحال والا قتل وهو قول ابن المنذر والمزني، وفي القول الآخر يستتاب ثلاثا كمذهب مالك وأحمد وقال الزهري وابن القاسم في رواية يستتاب ثلاث مرات.

ومذهب أبي حنيفة أنه يستتاب أيضا فإن لم يتب وإلا قتل والمشهور عندهم أن الاستتابة مستحبة وذكر الطحاوي عنهم لايقتل المرتد حتى يستتاب وعندهم يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإنه يؤجل ثلاثة أيام. وقال الثوري يؤجل ما رجيت توبته وكذلك معنى قول النخعي.

وذهب عبيد بن عمير وطاوس إلى أنه يقتل ولا يستتاب لأنه أمر بقتل

ص: 209

المبدل دينه والتارك لدينه المفارق للجماعة ولم يأمر باستتابتة كما أمر الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع أنهم لو تابوا لكففنا عنهم، يؤيد ذلك أن المرتد أغلظ كفرا من الكافر الأصلي فإذا جاز قتل الأسير الحربي من غير استتابة فقتل المرتد أولى.

وسر ذلك أنا لا نجيز قتل كافر حتى نستتيبه بأن يكون قد بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فإن قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز والمرتد قد بلغته الدعوة فجاز قتله كالكافر الأصلي الذي بلغته وهذا هو عله من رأى الإستتابة مستحبة فإن الكفار يستحب أن ندعوهم إلى الاسلام عند كل حرب وإن كانت الدعوة قد بلغتهم فكذلك المرتد ولايجب ذلك فيهما. نعم لو فرض المرتد من يخفى عليه جواز الرجوع إلى الإسلام فإن الإستتابة هنا لابد منها. ويدل على ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر يوم الفتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ودم مقيس بن صبابه ودم عبد الله بن خطل وكانوا مرتدين ولم يستتبهم بل قتل ذانك الرجلان وتوقف صلى الله عليه وسلم عن مبايعة بن أبي سرح لعل بعض المسلمين يقتله فعلم أن قتل المرتد جائز ما لم يسلم وأنه لا يستتاب، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب العرنيين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن الإسلام بما أوجب موتهم ولم يستتبهم ولأنه فعل شيئا من الأسباب المبيحة للدم فقتل قبل استتابتة كالكافر الأصلي وكالزاني وكقاطع الطريق ونحوهم فإن كل هؤلاء من قبلت توبته ومن لم تقبل يقتل قبل الإستتابة ولأن المرتد لو امتنع بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام فإنه يقتل قبل الإستتابة بلا تردد فكذلك إذا كان في أيدينا.

وحجة من رأى الاستتابة إما واجبة أو مستحبة قوله سبحانه وتعالى: {قُل لِلذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لهُمْ مَا قَدْ سَلفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38] أمر الله رسوله أن يخبر جميع الذين كفروا أنهم إن انتهوا غفر لهم ما

ص: 210

سلف وهذا معنى الاستتابة، والمرتد من الذين كفروا والأمر للوجوب فعلم أن استتابة المرتد واجبة ولا يقال فقد بلغهم عموم الدعوة إلى الإسلام لأن هذا الكفر أخص من ذلك الكفر فإنه يوجب قتل كل من فعله ولا يجوز استبقاؤه وهو لم يستتب من هذا الكفر. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالتوبة إلى الحارث بن سويد ومن كان قد ارتد معه إلى مكة كما قدمناه بعد أن كانت قد نزلت فيهم آية التوبة فتكون استتابته مشروعة، ثم إن هذا الفعل منه خرج امتثالا للأمر بالدعوة إلى الإسلام والابلاغ لدينه فيكون واجبا، وعن جابر رضي الله عنه: “ أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت “ 1، وعن عائشة رضى الله عنها قالت: “ ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت" رواهما الدارقطني2.

وهذا إن صح أمر بالاستتابة والأمر للوجوب، والعمدة فيه إجماع الصحابة عن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فاخبره ثم قال هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، قال فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال عمر: “ فهلا حبستموه ثلاثا وطعمتوه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟! اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني “. رواه مالك والشافعي واحمد. قال: اذهب إلى حديث عمر، وهذا يدل على أن الاستتابة واجبة وإلا لم يقل عمر: “ لم أرض إذ بلغني “ وعن أنس بن مالك قال لما افتتحنا تستر بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال ما فعل البكريون جحينة وأصحابه؟ قال: فأخذت به في حديث آخر! قال فقال:

1 الدّارقطنيّ 3 / 118 (122) .

2 البيهقيّ 8 / 203 (16642) ، دار قطني 3 / 118 (121) .

ص: 211

ما فعل النفر البكريون؟ قال: فلما رأيته لا يقطع قلت: يا أمير المؤمنين، ما فعلوا أنهم قتلوا ولحقوا بالمشركين ارتدوا عن الإسلام وقاتلوا مع المشركين حتى قتلوا، قال فقال لأن أكون أخذتهم سلما كان أحب إلي مما على وجه الارض من صفراء أو بيضاء. قال فقلت: وما كان سبيلهم لو أخذتهم سلما؟ قال: “ كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه فإن أبوا استودعتهم السجن” وعن عبد الله بن عتبة قال: أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، قال فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فكتب إليه: “ أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوا فخل عنهم، وإن لم يقبلوا فاقتلهم) فقبلها بعضهم فتركه ولم يقبلها بعضهم فقتله. رواهما الإمام أحمد بسند صحيح

1.

وذكر أيضا ما يتعلق باستتابة ساب الله تعالى فقال رحمه الله: “ فصل: في من سب الله تعالى: إن كان مسلما وجب قتله بالإجماع لأنه بذلك كافر مرتد وأسوأ من الكافر فإن الكافر يعظم الرب ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له، ثم اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته بمعنى أنه هل يستتاب كالمرتد ويسقط عنه القتل إذا أظهر التوبة من ذلك بعد رفعه إلى السلطان وثبوت الحد عليه على قولين:

أحدهما أنه بمنزلة ساب الرسول فيه الروايتان كالروايتين في ساب الرسول هذه طريقة أبي الخطاب وأكثر من احتذى حذوه من المتأخرين وهو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد حيث قال: “كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا “ وهذا مذهب أهل المدينة، فاطلق وجوب القتل عليه ولم يذكر استتابته وذكر أنه قول أهل المدينة ومن وجب عليه القتل لم يسقط بالتوبة وقول أهل المدينة المشهور أنه لا يسقط القتل بتوبته

1 الصارم المسلول 3 / 596 – 606.

ص: 212

ولو لم يرد هذا لم يخصه بأهل المدينة فإن الناس مجمعون على أن من سب الله تعالى من المسلمين يقتل وإنما اختلفوا في توبته فلما أخذ بقول أهل المدينة في المسلم كما أخذ بقولهم في الذمي علم أنه قصد محل الخلاف بين المدنيين والكوفيين في المسألتين وعلى هذه الطريقة فظاهر المذهب أنه لا يسقط القتل باظهار التوبة بعد القدرة عليه كما ذكرناه في ساب الرسول. وأما الرواية الثانية فإن عبد الله قال: سئل أبي عن رجل قال يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك. قال أبي: هذا مرتد عن الإسلام. قلت لأبي: تضرب عنقه؟ قال: نعم نضرب عنقه، فجعله من المرتدين. والرواية الأولى قول الليث بن سعد وقول مالك روى ابن القاسم عنه قال من سب الله تعالى من المسلمين قتل ولم يستتب إلا أن يكون افترى على الله بارتداده إلى دين دان به وأظهره فيستتاب وإن لم يظهره لم يستتب وهذا قول ابن القاسم ومطرف وعبد الملك وجماهير المالكية. والثاني: أنه يستتاب وتقبل توبته بمنزلة المرتد المحض وهذا قول القاضي أبي يعلى والشريف أبي جعفر وأبي علي بن البناء وابن عقيل مع قولهم أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستتاب وهذا قول طائفة من المدنيين منهم محمد بن مسلمة والمخزومي وابن أبي حازم قالوا لا يقتل المسلم بالسب حتى يستتاب وكذلك اليهودي والنصراني فإن تابوا قبل منهم وإن لم يتوبوا قتلوا ولا بد من الاستتابة وذلك كله كالردة وهو الذي ذكره العراقيون من المالكية “1

وللوقوف على المزيد مما يتعلق باستتابة المرتد وقد كثرت وتنوعت صور الردة في عصرنا أنقل أيضا عن شيخ الإسلام قوله: “ الردة على قسمين مجردة ومغلظة وتقبل توبة المرتد المجرد عند عامة أهل العلم وروي عن الحسن البصري أنه يقتل ولو أسلم، وأشهر الروايتين عن الإمام مالك والإمام أحمد أن استتابة

1 الصارم المسلول 3 / 1017 وما يليها.

ص: 213