المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٣

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود

- ‌ عبادة الشياطين

- ‌ عبادة الهوى

- ‌النظر فيما كان يعتقده المشركون في آلهتهم ويعملونه

- ‌تفسير عبادة الأصنام

- ‌عُبَّاد النار

- ‌عجل السامري

- ‌الأناسي الأحياء وأرواح الموتى

- ‌تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام

- ‌تأليه الأحبار والرهبان

- ‌ شرع الدين خاصٌّ بالربِّ

- ‌عبادة القبور والآثار

- ‌عبادة أشخاصٍ لا وجود لها

- ‌المصريُّون

- ‌ في عهد إبراهيم عليه السلام

- ‌ في عهد موسى عليه السلام

- ‌العرب وتأليه الإناث الخياليَّات

- ‌تحرير العبارة في تعريف العبادة

- ‌ فصلٌ في الدعاء

- ‌الدعاء عبادةٌ

- ‌ أحكام الطلب، ومتى يكون دعاءً

- ‌من أشنع الغلط في هذا الباب الاعتمادُ على التجربة

- ‌مَن قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمَن قاس الملائكة على البشر

- ‌ الشبهات ورَدُّها

- ‌شبه عُبَّاد الأصنام

- ‌ شُبَه عُبّاد الأشخاص الأحياء

- ‌شُبَه النصارى في عبادتهم الصليب

- ‌شبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان

- ‌شُبَهُ عَبَدَةِ الملائكة

- ‌تقسيم الكفر إلى ضربين

- ‌الأعذار

- ‌ ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شركوأشكل تطبيقها على الشرك

- ‌تمهيد

- ‌ الطِّيَرة

- ‌ فصل في التِّولة والسحر

- ‌ التأثير على ضربين:

- ‌ حكم السحر وتعليمه وتعلمه

- ‌ طرق تحصيل قوة السحر

- ‌ القسم بغير الله عز وجل

- ‌حقيقة القَسَم

- ‌ تسمية النذر يمينًا وحلفًا والقول بأن كفارته كفارة يمين أمر معروف عن السلف

- ‌ الشرك إذا أُطْلِق في الشريعة في مقام الذَّمِّ كان المراد به الشركَ بالله عز وجل، بأن يُشْرِكَ معه غَيْرَه في العبادة على سبيل العبادة للشريك

- ‌ لم يجئ في الشرع نصٌّ على أنَّ الرئاء شرك بالله، وإنما جاء أنَّه شرك فحسب

- ‌قول ما شاء الله وشئت

- ‌فهرس مصادر التحقيق

الفصل: ‌ وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود

(1)

[289] وأخرج عبد بن حميدٍ

(2)

عن أبي جعفرٍ عليه السلام أنه ذكر ودًّا، فقال: كان رجلًا مسلمًا، وكان محبَّبًا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسانٍ، ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا: نعم، فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم فجعلوا يذكرونه به، فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالًا مثله في بيته فيذكر به؟ فقالوا: نعم، ففعل، فأقبلوا يذكرونه به، وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به، وتناسلوا، ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهًا

(3)

.

أقول: فيعلم من هذا الأثر والذي قبله أنه كان عندهم عدة تماثيل لودٍّ يطلقون على كلٍّ منها اسمَ ودّ، ونظير هذا معروف في وثنيي الهند،‌

‌ وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود

، ويقرب من ذلك صنيع النصارى في صور المسيح وأمه عليهما السلام.

وأخرج ابن جريرٍ عن محمد [290] بن قيسٍ، قال: كانوا قومًا صالحين

(1)

هنا بداية الدفتر الرابع من دفاتر كتاب العبادة، ويبدأ من أثناء المقدمة الثانية من مقدِّمتين قدَّمهما المؤلِّف قبل شروعه في تفسير آيات النجم من فصل اعتقاد المشركين في الملائكة.

(2)

عزاه إليه السيوطيُّ في الدرِّ المنثور 8/ 294 - 295، وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتمٍ 10/ 3375 - 3376، ح 18997.

(3)

تتمَّته: يعبدونه من دون الله.

ص: 558

من بني آدم، وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر، فعبدوهم

(1)

.

وفي دائرة المعارف للبستاني في ترجمة (سروج بن رعو)، وهو جدُّ (تارخ) والد إبراهيم الخليل، وكان عمره 130 سنةً لما وُلِد (ناحور)، وتوفي وله من العمر 230 سنةً: ذكر سويداس وبعض مؤرخين آخرين أنَّ (سروج) واضعُ عبادة الذين ماتوا من المفضَّلين على الجنس البشري، وتأليهَ

(2)

الأصنام وضعت بعد الزمان الذي وُجد فيه. وقال يوحنا الأنطاكي: إنه من نسل (يافث)، علَّم وجوب تكريم الفضلاء من الأموات إما بالصور وإما بالتماثيل وعبادتهم في بعض الأعياد السنوية كما لو كانوا [291] لا يزالون في قيد الحياة، وبحفظ سجلِّ أعمالهم في كتب الكهنة المقدَّسة، وتسميهم

(3)

آلهة لأنهم مفضَّلون على البشر، فتولَّد عن ذلك عبادة البشر

(4)

وديانة المشركين

(5)

.

وقال في ترجمة (طهمورث)

(6)

: ملك من قدماء ملوك الفرس، قالوا

(1)

تفسير ابن جرير 29/ 54. [المؤلف]

(2)

معطوف على (سروج).

(3)

كذا في الأصل، ولعل الصواب: وتسميتهم.

(4)

في دائرة المعارف: الأوثان.

(5)

انظر: دائرة المعارف 9/ 599.

(6)

هو طهمورث بن ويونجهان بن حبايداد بن أوشهنج، وقيل في نسبه غير ذلك، وزعم الفرس أنه ملَك الأقاليم السبعة وعقد على رأسه تاجًا، وكان محمودًا في ملكه مشفقًا على رعيّته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها وتنقل في البلدان. قال ابن الكلبي: أول ملوك الأرض من بابل: طهمورث، وكان لله مطيعًا، وكان ملكه أربعين سنة، وهو أوّل من كتب بالفارسية، وفي أيامه عُبدت الأصنام، وأول ما عرف الصوم في ملكه. انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 1/ 62.

ص: 559

[مؤرخو الفرس]: ولما كثر الموت بسبب المجاعة في أيامه جعل الناس يدفنون موتاهم ويتخذون لهم أمثلة لآبائهم وذوي قرباهم من الحجر والخشب والفضَّة والذهب، فكانت في أوَّل أمرها للذكرى ثم صارت للعبادة

(1)

.

(2)

وقال أبو الريحان البيروني في كتاب الهند:

"معلوم أن الطباع العامي نازع إلى المحسوس نافر عن المعقول الذي لا يعقله إلا العالمون الموصوفون في كل زمان ومكان بالقلة، ولسكونه إلى المثال عدل كثير من أهل الملل إلى التصوير في الكتب والهياكل كاليهود والنصارى ثم المنانية خاصة، وناهيك شاهدًا على ما قلته: أنك لو قدَّمت

(3)

صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو مكة أو الكعبة لعامي أو امرأة لوجدت من نتيجة الاستبشار فيه دواعي التقبيل وتعفير الخدِّ

(4)

والتمرُّغ كأنه شاهد المصوَّر وقضى بذلك مناسك الحج والعمرة.

(1)

دائرة المعارف للبستاني 11/ 344.

(2)

من هنا إلى قوله: " أقول: واسم جدِّ أبي إبراهيم في التوراة

والله أعلم" ص 566، كان ملحقًا عند المؤلف.

(3)

في ط دائرة المعارف: أبديت.

(4)

في ط دائرة المعارف: الخدَّين.

ص: 560

وهذا هو السبب الباعث على اتخاذ الأصنام بأسامي الأشخاص المعظَّمة من الأنبياء والعلماء [والملائكة مذكِّرة أمرهم]

(1)

عند الغيبة والموت مبقية آثار تعظيمهم في القلوب لدى الفوت إلى أن طال العهد بعامليها، ودارت القرون والأحقاب عليها، ونُسيت أسبابها ودواعيها، وصارت رسمًا وسنة مستعملة، ثم داخلهم أصحاب النواميس من بابها؛ إذ كان ذلك أشدَّ انطباعًا فيهم فأوجبوه عليهم، وهكذا وردت الأخبار فيمن تقدَّم عهد الطوفان وفيمن تأخر عنه، وحتى قيل: إن كون الناس قبل بعثة الرسل أمة واحدة هو على عبادة الأوثان

(2)

.

(1)

محله في الأصل بياض واستدرك من طبعة دائرة المعارف.

(2)

النصوص تشهد ببطلان هذا القول، فقد قال تعالى:{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19]. فتوعَّد الله على الاختلاف لا على الاجتماع، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم آمن بعضهم لكان الوعد في ذلك الحال أولى بحكمة الله من الوعيد. ويمتنع أن يتوعَّد الله في حال الإيمان والتوبة دون حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك. انظر: تفسير الطبري 3/ 626 وهذا القول مخالف لما صحَّ عن ابن عباس أنه قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: {كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا} . رواه الحاكم في المستدرك 2/ 546 - 547 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ومخالف أيضًا لحديث عياض بن حمار في الحديث القدسي: "إِنِّى خَلقتُ عبادي حُنَفَاء كُلَّهُم وإِنَّهُم أَتَتهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجتَالَتهُم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا". انظر صحيح مسلم، كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصّفات الّتي يعرف بها في الدّنيا أهل الجنّة وأهل النّار 8/ 158 ح 2865.

ص: 561

فأما أهل التوراة فقد عيَّنوا [أوَّل]

(1)

هذا الزمان بأيام ساروغ

(2)

جد أبي إبراهيم.

وأما الروم فزعموا أن روملس ورومانوس الأخوين من أفرنجة لما مَلَكا بَنَيا رومية ثم قتل روملس أخاه وتواترت الزلازل والحروب بعده حتى تضرَّع روملس فأُرِي في المنام أنَّ ذلك لا يهدأ إلا بأن يُجلس أخاه على السرير فعمل صورته من ذهب وأجلسه معه، وكان يقول: أَمَرْنا بكذا، فجرت عادة الملوك بعده بهذه المخاطبة وسكنت الزلازل فاتخذ عيدًا وملعبًا يُلهي به ذوي الأحقاد من جهة الأخ.

/ونصب للشمس أربعة تماثيل على أربعة أفراس أخضرها للأرض وأسمنجونها

(3)

للماء وأحمرها للنار، وأبيضها للهواء، وبقيت إلى الآن قائمة برومية.

وإذ نحن في حكاية ما الهند عليه فإنا نحكي خرافاتهم في هذا الباب بعد أن نخبر أنَّ ذلك لعوامِّهم، فأمَّا مَن أمَّ نهج الخلاص أو طالع طرق الجدل والكلام ورام التحقيق الذي يسمونه (سار) فإنه يتنزَّه عن عبادة أحد مما دون الله تعالى فضلًا عن صورته المعمولة.

فمن تلك القصص ما حدَّث به شونك الملك بريكش قال: كان فيما مضى من الأزمنة ملك يسمى أنبرش نال من المُلك مُناه فرغب عنه وزهد

(1)

زيادة من ط دائرة المعارف.

(2)

سيأتي للمؤلف أنَّ اسمه في التوراة الموجودة الآن: سروج.

(3)

هو اللون الأزرق الخفيف.

ص: 562

في الدنيا وتخلَّى للعبادة والتسبيح زمانًا طويلًا حتى تجلَّى له المعبود في صورة (إندر) رئيس الملائكة راكبَ فِيل وقال: سل ما بدا لك لأعطيكه فأجابه بأني سُررت برؤيتك وشكرت ما بذلته من النجاح والإسعاف لكني لست أطلب منك بل ممن خلقك. قال (إندر): إنَّ الغرض في العبادة حسن المكافأة عليها فحصِّل الغرض ممن وجدته منه، ولا تنتقد قائلًا: لا منك بل من غيرك. قال الملِك: أما الدنيا فقد حصلت لي وقد رغبت عن جميع ما فيها، وإنما مقصودي من العبادة رؤية الرب وليست إليك فكيف أطلب [حاجتي]

(1)

منك قال (إندر): كل العالم ومَن فيه في طاعتي فمن أنت حتى تخالفني؟ قال الملِك: أنا كذلك سامع مطيع إلا أني أعبد مَن وجدت أنت هذه القوة من لدنه، وهو رب الكلِّ الذي حرسك من غوائل الملكين (بل) و (هرنَّكش) فخلِّني وما آثرته وارجع عني بسلام. قال (أندر): فإذا

(2)

أبيت إلا مخالفتي فإني قاتلُك ومهلكك. قال الملك: قد قيل: إنَّ الخير محسود والشر له ضد، ومَن تخلى عن الدنيا حسدته الملائكة فلم يخلُ من إضلالهم إياه، وأنا من جملة من أعرض عن الدنيا وأقبل على العبادة ولست بتاركها ما دمت حيّا ولا أعرف [لنفسي ذنبًا]

(3)

أستحق به منك قتلًا فإن كنت فاعله بلا جرم مني فشأنك وما تريد، على أنَّ نيتي إن خلصت لله ولم يشب يقيني شوبٌ لم تقدر على الإضرار بي وكفاني ما شغلتني به عن العبادة وقد رجعتُ إليها.

(1)

زيادة من ط دائرة المعارف.

(2)

في طبعة دائرة المعارف: فإذْ.

(3)

ما بين المعقوفين بياض في الأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف.

ص: 563

ولما أخذ فيها تجلَّى له الرب في صورة إنسان على لون النيلوفر الأكهب

(1)

بلباس أصفر راكب الطائر المسمى كَُرد فلما رآه الملك اقشعرَّ جلده من الهيبة وسجد وسبَّح كثيرًا فآنس وحشته وبشَّره بالظفر بمرامه فقال الملِك: كنت نلت ملكًا .... ولم أتمنَّ غير ما نلته الآن، ولست أريد غير التخلص من هذا الرباط. قال الرب: هو بالتخلي عن الدنيا بالوحدة .... فإن غلبك نسيان الإنسيَّة فاتخذ تمثالًا كما رأيتني عليه وتقرَّبْ بالطيب والأنوار إليه واجعله تذكارًا لي لئلا تنساني .... ثم غاب الشخص عن عينه ورجع الملِك إلى مقرِّه وفعل ما أُمر به قالوا: فمِن وقتئذ تُعمل الأصنام .... وأخبروا أيضًا بأنَّ لبراهم ابن

(2)

يسمَّى نارذ [لم تكن له همَّة غير رؤية]

(3)

الرب، وكان من رسمه في تردُّده إمساك عصا معه إذ كان يلقيها فتصير حيَّة ويعمل بها العجائب وكانت لا تفارقه.

وبينما هو في فكره المأ [مول إذ رأى نورًا من بعيد]

(4)

فقصده ونودي منه أنَّ ما تسأله وتتمنَّاه ممتنع الكون فليس يمكنك أن تراني إلا [هكذا، ونظر فإذا شخص نورانيٌّ على مثال أشخاص]

(5)

الناس، ومن حينئذٍ

(1)

النيلوفر: جنس نباتات مائية، فيه أنواع تنبت في الأنهار والمناقع، وأنواع تزرع في الأحواض لورقها وزهرها. والأكهب: هو الذي علته غبرة مشربة سوادًا. المعجم الوسيط 802، 967.

(2)

كذا في الأصل وفي طبعة دائرة المعارف.

(3)

هنا بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف.

(4)

ما بين المعقوفين بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف.

(5)

ما بين المعقوفين بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف.

ص: 564

وُضعت الأصنام والصور

(1)

.

ونحن نذكر جوامع [باب] من كتاب [سنكهت في عمل الأصنام]

(2)

تعين على معرفة ما نحن فيه.

قال براهمر: إن الصورة المعمولة إذا كانت لرام بن دشرت أو ليل بن برو [جن فاجعل] القامة

(3)

مائة وعشرين أصبعا ....

.... وصنم براهم ذو أربعة أوجه في الجهات الأربع .... وفي يد صنم إندر سلاح .... وصنم ريونت ابن الشمس .... وصنم الشمس أحمر الوجه .... فإذا حافظ الصانع عليها ولم يزد ولم ينقص عليها بعُد عن الإثم وأمِن مِن صاحب الصورة أن يصيبه بمكروه

ولذلك قيل في كتاب كَيتا: إن كثيرًا من الناس يتقربون في مباغيهم إليَّ بغيري ويتوسَّلون بالصدقات والتسبيح والصلاة لسواي، فأقوِّيهم عليها وأوفِّقهم لها، وأوصلهم إلى إرادتهم لاستغنائي عنهم.

وقال فيه أيضًا باسديو لأرجن: ألا ترى أن أكثر الطامعين يتصدَّون في القرابين والخدمة أجناس الروحانيين والشمس والقمر وسائر النيِّرين، فإذا لم يخيب الله آمالها لاستغنائه عنهم وزاد على سؤالهم /وآتاهم ذلك من الوجه الذي قصدوه أقبلوا على عبادة مقصوديهم لقصور معرفتهم [عنه، وهو]

(4)

(1)

في ط دائرة المعارف: بالصور، وبعده نحو صفحة وربع الصفحة لم ينقلها المؤلف.

(2)

ما بين المعقوفين بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف.

(3)

في الأصل: والقامة، والتصحيح من ط دائرة المعارف.

(4)

ما بين المعقوفين بياض في الأصل، واستُدرِك من ط دائرة المعارف.

ص: 565

المتمِّم لأمورهم على هذا الوجه من التوسيط ولا دوام لما نيل بالطمع والوسائط؛ إذ هو بحسب الاستحقاق، وإنما الدوام لما نيل بالله.

وقد كان اليونانية في القديم يوسطون الأصنام بينهم وبين العلة الأولى ويعبدونها بأسماء الكواكب والجواهر العالية إذ لم يصفوا العلَّة الأولى بشيء من الإيجاب بل بسلب الأضداد تعظيمًا لها وتنزيهًا فكيف أن يقصدوها للعبادة ....

وتوجد رسالة لأرسطوطالس في الجواب عن مسائل البراهمة

(1)

.... وفيها: "أما قولكم: [إنَّ]

(2)

مِن اليونانية مَن ذكر أنَّ الأصنام تنطق وأنهم يقرِّبون لها القرابين ويدَّعون لها الروحانية فلا علم لنا بشيء منه، ولا يجوز أن نقول فيما لا علم لنا به". فإنه ترفُّع منه عن رتبة الأغبياء والعوامِّ وإظهارٌ من نفسه أنه لا يشتغل بذلك. فقد علم أنَّ السبب الأول في هذه الآفة هو التذكير والتسلية ثم ازدادت إلى أن بلغت الرتبة الفاسدة المفسدة"

(3)

.

أقول: واسم جدِّ أبي إبراهيم في التوراة الموجودة الآن (سَرُوج)

(4)

. وقد تقدَّم خبره فيما نقلناه عن دائرة المعارف. والله أعلم.

وقال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن الحارث التيمي أنَّ أبا صالح حدَّثه أنه سمع أبا هريرة .... يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول

(1)

في ط دائرة المعارف: للبراهمة.

(2)

هنا بياض بالأصل، واستدرك من ط دائرة المعارف.

(3)

كتاب الهند، ص 53 - 59. [المؤلِّف]. وفي طبعة دائرة المعارف العثمانية ص 84 - 96.

(4)

انظر: سفر التكوين، إصحاح 11. [المؤلف]. انظر ص 559.

ص: 566

لأكثم بن الجون الخزاعي

(1)

: يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار .... إنه كان أول من غيَّر دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي

(2)

.

وبعده قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء وهم يومئذ العماليق رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنمًا فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنمًا يقال له: هبل، فقدم به مكة [292] وأمر الناس بعبادته وتعظيمه

(3)

.

وفي روح المعاني في تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40]

(4)

ما لفظه: "وتخصيصهم ــ أي الملائكة ــ بالذكر لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم، والصالحون عادة للخطاب، وعبادتُهم مبدأُ الشرك بناء على ما نقل ابن الوردي في تأريخه

(5)

من أنَّ سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أنَّ

(1)

تقدَّمت ترجمته.

(2)

سيرة ابن هشام 1/ 47، [المؤلف]. والحديث سبق تخريجه في ص 97.

(3)

المصدر السابق.

(4)

هكذا كتب المؤلف الآية بالنون في (نحشرهم) و (نقول) على قراءة الجمهور عدا يعقوب وحفص، فإنهما قرآ بالياء. انظر: النشر 2/ 257. ولعل المؤلف كان يقرأ بقراءة أبي عمرو.

(5)

1/ 65.

ص: 567

عمرو بن لُحَي مرَّ بقومٍ بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا: هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصرها ونستسقي

(1)

، فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسوَّل للعرب فعبدوه"

(2)

.

وقال البيضاوي في تفسير قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]: "وقيل: شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تديَّنوا به، أو صور مَن سنَّه لهم"

(3)

.

قال الشيخ زاده في حواشيه: "فإنهم يزعمون أن الأصنام صُوَر الملائكة أو المسيح أو عزير أو غيرهم من العُبَّاد الصالحين فإنهم يزعمون أنَّ هؤلاء العُبَّاد سوَّلوا لهم ما هم عليه من الدين الباطل ودعوهم إليه"

(4)

.

هذا، وقد وقفت على أشياء كثيرة مما يتعلق بعبادة الأوثان في ديانة اليونان والمصريِّين القدماء ووثنيِّي الهند وغيرهم، فتبيَّن لي أنَّ الأوثان إنما تُعبد تعظيمًا [293] وتكريما للغائبين، وأنَّ منها ما يصوَّر بصورة ذلك الغائب إما متحقِّقة كما مرَّ في قوم نوح، وإما متخيَّلة كما في تماثيل الروحانيِّين. ومنها ما لا يصوَّر بصورة بل يُكتفى بجعله تذكارًا لشخص أو روح معيَّن كأن يقال: هذا الحجر أو هذا البيت أو هذه الشجرة يكون تذكارًا لفلان، إمَّا

(1)

العبارة في تاريخ ابن الوردي: الهياكل العلوية والأشخاص البشريَّة، فنستسقي بها فنُسْقَى، ونستنصر بها فنُنْصَر، ونستشفي بها فنُشْفَى.

(2)

روح المعاني 7/ 150. [المؤلف]

(3)

تفسير البيضاوي 641.

(4)

حواشي الشيخ زاده 3/ 275. [المؤلف]

ص: 568

شخص معين وإما روح معينة بقصد أن يعظَّم هذا الحجر أو البيت أو الشجرة لذلك المعنى، وهو أنه قد صار خاصًّا بذلك الشخص أو تلك الروح. وقد يكون التذكار أثرًا من آثار المعظَّم كخشبة الصليب الأصليَّة عند النصارى، وقد يكون تمثالًا لذلك الأثر كشكل الصليب عندهم أيضا.

ومن الوثنيِّين متفلسفون وسُذَّج، فمن المتفلسفين: الصابئةُ فإنهم يختارون المعدن الذي يُتخذ منه الصنم والكيفية والزمان والمكان وغير ذلك، وقريب منهم الوثنيُّون في الهند. ومن السُّذَّج: العربُ أيام جاهليتهم. والحامل على اتخاذ الأصنام أنهم يرون أنَّ التعظيم لا تظهر صورته ويُعلم اختصاصه بمن يُراد أن يكون له إلا إذا [294] كان المعظَّم مشاهَدًا، فلما كانت أرواح الموتى والروحانيُّون غيرَ مشاهَدين رأوا أن يجعلوا أشياء مجسَّمة فيعملون التمثال أو الشجرة أو الأثر أو صورة الأثر مثلًا قائلين: هذا فلان فينبغي تعظيم هذا الجماد بقصد أنَّ هذا التعظيم له إنما هو لأجل أنه قد صار مختصّا بتلك الروح أو بذلك الروحاني، وكثيرًا ما يسمُّون هذا الجماد باسم ذلك الغائب، كما مرَّ في قوم نوح. والمتفلسفون منهم يصنعون ذلك لتأكيد الاتصال بينهما وتحقيق أن تعظيم هذا المحسوس إنما هو تعظيم لذاك الغائب. والمتفلسفون منهم يحرصون على أن يتخيل القائم أمام الصنم أنه قائم أمام ذلك الغائب، ويُلقون بين العامة أن ذلك الغائب قد يحلُّ في ذلك الجماد الموضوع باسمه في بعض الأوقات، وكأن غرضهم من هذا أن يقوى تخيل الحاضر أمام الصنم ويشتد وهَمه وهمته، لأن للهمَّة عندهم أثرًا عظيمًا في قضاء الحوائج [295].

ولكثير من هذه الأمور مشابهات في هذا العصر، فالأمم المسيحية

ص: 569

تعمل تماثيل لعظماء رجالها وتنصبها في الشوارع العامة كتمثال ملكة الإنجليز (وَكْتُورية)

(1)

المنصوب في (لُندرة)

(2)

. وربما ينصبون تماثيل لأشياء متخيلة كتمثال الحرية

(3)

في أمريكا، ولا يشكُّون أنه لو مرَّ رجل منهم على تمثال من تلك التماثيل فانحنى له مثلًا أنه إنما يعظم الذي جُعل تمثالًا له.

وإطلاق اسم الشخص على صورته وتعظيمه بتعظيم صورته وأشباه ذلك أمر معروف بين الناس، ألا ترى أنها لو عُرضت عليك صور أناس معروفين وأشير لك إلى صورة منها، وقيل لك: مَن هذا؟ لأجبت باسم صاحب الصورة. أوَ لم تسمع أهل المنطق يمثِّلون للمغالطة بأن يُشار إلى صورة فرس على جدار مثلًا ويقال: هذا فرس، وكل فرس صهَّال، فينتج: هذا صهَّال؟

أوَلا ترى المؤلفين وأصحاب الجرائد إذا أثبتوا صورة شخص أو طائر أو حيوان أو شجرة أو مدينة أو غير ذلك كتبوا تحت الصورة اسم صاحبها؟

(1)

هي الملكة? ـكتوريا، ملكة المملكة المتحدة الشهيرة، عاشت في الفترة (1837 - 1901 م)، وازدهرت بلادها في فترة حكمها، وملوك بريطانيا بعدها من نسلها. انظر: دائرة معارف القرن العشرين 1/ 654.

(2)

اسمٌ قديمٌ لمدينة لندن عاصمة بريطانيا، من (londra) بالإيطالية؛ وهي بالفرنسية (londres). معجم الدخيل، للدكتور: ف. عبد الرحيم، ص 192.

(3)

طوله 93 مترًا، وهو عبارة عن امرأة تحمل شعلة في يمنى يديها، وفي يسراها لوحة مكتوب فيها تاريخ إعلان استقلال أمريكا، وهو في 4 يوليو 1776 م، صُنع هذا التمثال في فرنسا تخليدًا لذكرى الصداقة بين فرنسا وأمريكا، وشُحن إلى نيويورك فنصب فيها في 28 أكتوبر 1886 م. انظر الموسوعة البريطانية، النسخة الإلكترونية.

ص: 570

[296]

أوَ لا تعلم أن النصارى إذا عظَّموا صلبانهم لا يعتقدون في الصليب نفسه شيئًا أكثر من أنه تذكار للمسيح، فتعظيمه تعظيم للمسيح، وهكذا إذا عظَّموا صورة المسيح أو صورة مريم عليهما السلام؟

أوَلا ترى لو أن رجلًا رأى صورة رجل من العظماء كصورة الزعيم المصري الشهير سعد زغلول

(1)

فقبَّل الصورة أو وضعها على رأسه أن العامة يعدُّونه إنما يحترم سعد زغلول نفسه؟

أوَ لا ترى لو أن رجلًا رأى صورة نعلي النبي صلى الله عليه وسلم أو صورة البُراق فقبَّلها أو وضعها على عينيه ورأسه أو علَّقها في جدار بيته أو نحو ذلك أن العامة لا يرتابون أنه إنما يحترم النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟

ولعلَّك قد وقفت على الأسطورة الحاكية أنَّ بعض الصحابة ذهب رسولًا من بعض الخلفاء إلى ملك الروم فأراه ملك الروم صور الأنبياء وفيها صورة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما رأى تلك الصورة قبَّلها أو وضعها على رأسه أو نحو ذلك

(2)

.

(1)

هو سعد (باشا) بن إبراهيم زغلول، زعيم نهضة مصر السياسية، وأكبر خطبائها، لازم جمال الدين الأفغاني، واختير رئيس الوفد المصري للمطالبة باستقلال مصر عن الإنجليز، تولَّى عدَّة مناصب قياديَّة في بلاده قبل الاستقلال وبعده، توفِّي سنة 1346 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 3/ 83.

(2)

لم أقف على هذه الأسطورة، ولكن رُوي أنَّ دحية الكلبي وجَّهه الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابٍ إلى ملك الروم، وأنه لما وصل إليه أدخله بيتًا عظيمًا فيه ثلاثمائة وثلاث عشرة صورة، فإذا هي صور الأنبياء المرسلين، قال: انظر أين صاحبكم من هؤلاء؟ قال: فرأيت صورة النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ينظر. وفي حديث أبي بكرٍ: كأنه ينطق. قلت: هذا، قال: صدقت. أسند ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق 17/ 209 - 210، والرافعي في التدوين في تاريخ قزوين 4/ 24 - 25، وليس فيها تقبيل الصورة أو وضعها فوق الرأس، وإنما فيها أنَّ الملِك قبَّل خاتم الرسالة. وقد ضعَّف الشيخ الألباني القصَّة في سلسلة الأحاديث الضعيفة 7/ 310.

ص: 571

وقد شاع في هذا الزمان بين الشيعة اختلاق صور لأمير [297] المؤمنين عليٍّ وابنه الحسين وفرسه وغير ذلك، وعوامُّهم يعظِّمون تلك الصور.

وقد مرَّ في فصل الآثار

(1)

أشياء من هذا القبيل، فلا أراك إذا تأمَّلت ما ذكرته لك في هذه المقدِّمة ترتاب أنَّ أوثان العرب إنما كانت تماثيل أو تذكارات لأشخاص معظَّمين عندهم، وأنهم إنما كانوا يعظِّمونها تعظيمًا لأولئك الأشخاص، وأن المظنون أن أسماءها هي أسماء أولئك الأشخاص.

ولْنزِدْك بيانًا لذلك:

أمّا اللَّات فقال قتادة: كانت لثقيف بالطائف

(2)

، وأنشدوا

(3)

:

وفرَّتْ ثقيف إلى لاتها

بمنقلب الحائن

(4)

الخاسر

وقال أبو عبيدة وغيره: كان بالكعبة

(5)

. وقال ابن زيد: كان بنخلة عند

(1)

هذا مما لم أعثر عليه بعدُ.

(2)

انظر: تفسير عبد الرزاق 2/ 253، تفسير الطبري 22/ 47، وعزاه السيوطيُّ في الدرِّ المنثور (7/ 653) إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر.

(3)

البيت لضرار بن الخطَّاب الفهري. انظر: سيرة ابن هشام 1/ 42، وقد مضى في بحث اعتقاد المشركين في الأصنام.

(4)

كذا رُسمت في الأصل، وهي بمعنى الأحمق. انظر: القاموس المحيط 1192. والرواية المشهورة: "الخائب".

(5)

مجاز القرآن 2/ 236، وانظر: المحرَّر الوجيز 8/ 115 - 116.

ص: 572

سوق عكاظ تعبده قريش

(1)

. وقال أبو حيَّان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصنامًا فأخبر عن كلِّ صنم بمكانه

(2)

.

أقول: وهذا ظاهر وهو نظير ما صنع قوم نوح بوَدٍّ كما مر مع نظائره. وهذا يدلُّ أن اللَّات في الأصل اسم شخص واحد، وتلك الأصنام أو التذكارات كلُّها له، أطلقوا على كلِّ واحد منها اسم ذلك الشخص.

ومن المشاهَد في وثنيِّي الهند أن الأصنام [298] التي تكون لمعبود واحد يكون واحد منها هو الصنم الأعظم، وله مزيَّة على غيره، فكذا يقال في اللَّات، فكان أعظمُها لاتَ ثقيف التي كانت بالطائف كما يُعلم بتتبع الروايات في ذلك.

وأما العُزَّى فالمشهور أنها كانت سَمُراتٍ وبيتًا بنخلة

(3)

، وفي ذلك حديث سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى

(4)

.

وقال ابن زيد: كانت العُزَّى بالطائف

(5)

، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة، وأيَّده أبو حيَّان في البحر بقول أبي سفيان يوم أحدٍ للمسلمين: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم، وذكر فيه أنه صنمٌ، وجمع بمثل ما تقدَّم

(6)

.

(1)

انظر: تفسير الطبري 22/ 47، وتفسير البغوي 7/ 407.

(2)

البحر المحيط 10/ 15.

(3)

انظر: سيرة ابن هشام 1/ 78.

(4)

في ص 575.

(5)

انظر: تفسير ابن جريرٍ 22/ 49.

(6)

في الصفحة السابقة. وتقدم تخريج قصة أبي سفيان في ص 511 و 629.

ص: 573

أقول: والكلام عليها كالكلام على اللات.

وأما مناة، فقيل: صخرةٌ كانت لهذيلٍ وخزاعة

(1)

، وعن ابن عبَّاسٍ: لثقيف

(2)

، وعن قتادة: للأنصار بقديدٍ

(3)

، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة أيضًا

(4)

.

أقول: ويجمع بالتعدُّد أيضًا، والكلام عليها كما مرَّ

(5)

.

فالعرب إنما كانوا يعظمون هذه الأصنام الثلاثة تعظيمًا لأشخاص معظَّمين، وليست هذه الأصنام إلا تماثيل أو [299] تذكارات لأولئك الأشخاص كما هو شأن عَبَدَة الأوثان في كلِّ أمة، وبذلك صرَّح المحققون كما علمت مما تقدَّم وإن لم ينصُّوا على شأن العرب خاصَّة.

ومما يؤيِّد هذا ما ذكره الفخر الرازي في تفسير قول الله عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)

(1)

قاله الضحَّاك. انظر: تفسير البغوي 7/ 408، زاد المسير 8/ 72.

(2)

ذكر ذلك الزمخشري في الكشاف 4/ 39، وأبو حيَّان في البحر المحيط 8/ 152، والآلوسي في روح المعاني 27/ 55.

(3)

انظر: تفسير عبد الرزاق 2/ 253، وزاد المسير 8/ 72، والدرّ المنثور 7/ 653.

وفي تفسير ابن جرير 22/ 50، وتفسير البغوي 7/ 408 عن قتادة: أنها لخزاعة، وكانت بقديدٍ. ويمكن الجمع بينهما بما قاله ابن كثيرٍ:"وأما مناة فكانت بالمُشَلَّل عند قُدَيدٍ بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويُهلُّون منها للحجِّ إلى الكعبة". تفسيره 7/ 431.

(4)

مجاز القرآن 2/ 236.

(5)

قريبًا.

ص: 574

قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43 - 44] فإنه قرر أن المراد بقوله {أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ} الآية: الأصنام، ثم ذكر أن قوله تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} ردٌّ لما يجيبون به وهو أن الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم

(1)

.

ويؤيده أيضًا ما أخرجه النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت ثلاث سمُرات، فقطع السمُرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:"ارجع فإنك لم تصنع شيئًا" فرجع خالدٌ، فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون: يا عزى يا عزى [300] فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرةٌ شعرها تحثو على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: "تلك العزى

".

وفي رواية: فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها. ذكره في روح المعاني

(2)

.

(1)

انظر: روح المعاني 7/ 410. [المؤلف]. وتفسير الرازي 26/ 247 - 248.

(2)

8/ 256 - 257. [المؤلف]. وانظر: الدرّ المنثور 7/ 652. وهو في تفسير النسائي، سورة النجم، قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}، 2/ 357 - 359، ح 567. ومسند أبي يعلى 2/ 196 - 197، ح 902. ودلائل النبوَّة لأبي نُعيمٍ، الفصل الخامس والعشرون، قصَّة هدم بيت العزَّى، ص 535، ح 463، من طريق الطبراني. ودلائل النبوَّة للبيهقي، باب ما جاء في بعثة خالد بن الوليد إلى نخلةٍ كانت بها العزَّى، 5/ 77، من طريق أبي يعلى. والأحاديث المختارة، 8/ 219، من طريق الطبراني أيضًا. قال الهيثميُّ:"وفيه يحيى بن المنذر، وهو ضعيفٌ". مجمع الزوائد 6/ 258 - 259. كذا قال، وإنما هو: عليُّ بن المنذر، وهو ثقةٌ.

ص: 575

ففيه أن السدنة كانوا يدعون العزى بعد أن قُطعت السمُرات وهُدم البيت، فيظهر من ذلك أنهم يرون أن العزى شيءٌ آخر، ويوضحه قوله صلى الله عليه وسلم لخالدٍ:"لم تصنع شيئًا"، وقوله في الشيطانة: "تلك العزى

".

فلننظر الآن مَنْ هم الأشخاص الذين كانت اللات والعُزَّى ومناة تماثيل أو تذكارات لهم.

جاء عن ابن عباس ومجاهد وأبي صالح وغيرهم أنهم قرؤوا: {اللاتّ} بتشديد التاء

(1)

.

وفي روح المعاني: أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس: أنه كان يلتُّ السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سَمِن، فعبدوه

(2)

.

قال: وأخرج الفاكهي

(3)

أنه لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا [301] عليها بيتًا

(4)

.

(1)

انظر: تفسير ابن جرير 22/ 47، شواذّ القرآن ص 147، والمحتسب 2/ 294. وبها قرأ رُوَيسٌ عن يعقوب. انظر: إرشاد المبتدي ص 572، النشر 2/ 379.

(2)

انظر: فتح الباري 8/ 612. وأصله عند البخاريِّ في كتاب التفسير، سورة: "والنجم"، باب: "أفرأيتم اللات والعزَّى"، 6/ 141، ح 4859، بلفظ: "كان اللات رجلًا يلُتُّ سويق الحاجِّ".

(3)

أخبار مكَّة، ذكر اللات وأصل عبادتها ومكانها، 5/ 164، ح 76. وانظر: فتح الباري 8/ 612.

(4)

روح المعاني 8/ 256 [المؤلف]. وانظر: الدرّ المنثور 7/ 653.

ص: 576

وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان يلت السويق للحاج فمات فعكف على قبره.

وأخرج أيضًا عن أبي صالح قال: اللات الذي كان يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق، وكان بالطائف.

وقد أبى ابن جرير هذا القول فقال: "يقول تعالى ذكره: أفرأيتم أيها المشركون اللات وهي من (الله) أُلحقت فيه التاء فأنثت كما قيل: عمرو للذكر وللأنثى عمرة، وكما قيل للذكر عباس ثم قيل للأنثى عباسة، فكذلك سمى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذِكْره وتقدَّست أسماؤه، فقالوا من الله: اللات، ومن العزيز: العزى، وزعموا أنهن بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فقال جل ثناؤه لهم: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة الثالثة بنات الله، ألكم الذكر

".

ثم ذكر اختلاف القراءة والآثار في لَتِّ السويق، ثم قال:"وأولى القراءتين بالصواب عندنا في ذلك قراءة من قرأ بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفت لقارئه كذلك؛ لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه"

(1)

.

[302]

ولم يذكر اشتقاق مناة وقد ذكره غيره، ولكن الأنسب بما تقدَّم أن يقال: أصله من قولهم: مناه الله يمنيه منيًا: قدَّرَهُ، والاسم المَنَى كالفتى.

وفي النهاية

(2)

ما لفظه: وفيه أنَّ منشدًا أنشد النبي صلى الله عليه وسلم:

(1)

27/ 31 - 32. [المؤلف]

(2)

4/ 368. والبيتان ضمن أبيات لسويد بن عامر المصطلقي كما في مصادر تخريج الحديث الآتية.

ص: 577

لا تأمنن وإن أمسيت في حرمٍ

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

فالخير والشر مقرونان في قَرَنٍ

بكل ذلك يأتيك الجديدان

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أدرك هذا الإسلام"

(1)

معناه: حتى تلاقي ما يقدره لك المقدِّرُ وهو الله عز وجل". فكأنهم ــ والله أعلم ــ قدَّروا أن المَنَى كالفتى اسم لله عز وجل من باب إطلاق المصدر بمعنى اسم الفاعل كما قالوا: رجلٌ عدلٌ، ثم زادوا التاء وسمَّوا به معبودَتهم، كما قالوا: عمرٌو وعمرةٌ، و (عَمْر) في الأصل مصدرٌ.

فإن قيل: فإن صاحب القاموس ذكرها في مادة (م ن و)

(2)

. قلت: لم أجد ما يدل على ذلك.

فأما قولهم: منويٌّ في النسبة، فقاعدة النسبة: قلب الألف الثالثة واوًا مطلقًا، وإن كانت منقلبة عن (ياء) كقولهم (رحويٌّ) في النسبة إلى رحًى، وأصل هذه الألف ياء بدليل قولهم في التثنية: رَحَيان.

(1)

أخرجه البزَّار (كشف الأستار)، 3/ 4 - 5، ح 2105. والطبراني 19/ 432، ح 1049. والدولابي في الكنى، (ترجمة أبي مسلمٍ الخزاعي)، 1/ 274، ح 486. والدينوري في المجالسة 2/ 383 - 385، ح 557. والبغوي في معجم الصحابة، (ترجمة مسلمٍ الخزاعيِّ المصطلقيِّ)، 4/ 368 - 369 ح 3104. وأبو نعيمٍ في معرفة الصحابة (كذلك)، 5/ 2484، ح 6043. وغيرهم. قال الهيثميُّ: "رواه الطبرانيُّ والبزَّار عن يعقوب بن محمَّدٍ الزهريِّ عن شيخٍ مجهولٍ، هو مردودٌ بلا خلافٍ". مجمع الزوائد 8/ 232. وقال الألبانيُّ: "منكرٌ". السلسلة الضعيفة 14/ 152، ح 6568.

(2)

ص 1336، ذكرها في (م ن ي) لا (م ن و).

ص: 578

وقد قُرئ: {مناءة} بالمد [303]، ويحتمل على هذا أن يكون مشتقًّا من النَّوْء وهو النهوض، كأنها تنهض بعابدها في زعمهم، والله أعلم.

ثم رأيت ياقوتًا في "معجم البلدان"

(1)

ذكر وجوهًا لاشتقاق مناة، أوَّلها: أنها من المَنَى وهو القدَر، كما قلناه، والحمد لله.

وقد يجوز أن يكون أصل اللات على ما روي عن ابن عباس ثم خُفِّفت التاء، وتُنوسي ذلك الأصل وصار المعروف بين العرب أنَّ اللات اسم لأنثى معظَّمة، وهذا الصنم أو الصخرة تذكار لها، ولعلَّ هذا أولى من غيره.

وعلى كلِّ حالٍ فتأنيثهم أسماء هذه الأصنام يدلُّ مع ما مرَّ أنها عندهم تماثيل أو تذكارات لإناث معظَّمات، وعسى أن تقول: إنَّ الحديث المتقدِّم في شأن العُزَّى يدلُّ أنَّ تلك الإناث من الشياطين، فأقول: سيأتي في بحث عبادة الشياطين ما يوضح لك الحقيقة إن شاء الله تعالى.

وتلخيصه: أنَّ عبادتهم للشياطين كانت من وجهين:

الأول: طاعتهم لهم فيما يسوِّلون لهم متَّخذين ما يسوِّلونه لهم دينًا.

الثاني: أنَّ الشياطين يعترضون العبادات لتكون في الصورة لهم، ومن ذلك قيام الشيطان دون الشمس عندما [304] يسجد لها الكفار ليكون السجود صورةً له، فقضية العُزَّى من هذا، والله أعلم. وانتظر تمام هذا قريبًا إن شاء الله تعالى.

والحقيقة هي أنَّ الأوثان التي كان الكفار يطلقون عليها اسم اللات والعزى ومناة كانت عندهم تماثيل أو تذكارات للإناث المزعومات وهي قولهم: إنَّ لله بناتٍ هي ــ في زعمهم ــ الملائكة، وعبدوها كما تقدَّم بيانه بما

(1)

5/ 204.

ص: 579

لا مزيد عليه.

وقال البيضاوي في قوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41]: "أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، وقيل: كانوا يتمثلون لهم ويخيِّلون إليهم أنهم الملائكة فيعبدونهم"

(1)

.

قال الشيخ زاده في "حواشيه": "جواب عما يقال: إن المشركين كانوا يقصدون بعبادة الأصنام عبادة الملائكة، ولا يخطر الشياطين ببالهم حين عبادتهم الأصنام فضلًا عن أن يعبدوا الشياطين، فما وجه قوله:{كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} ؟ وأجاب عنه بوجهين:

الأول: أن الشياطين زيَّنوا لهم [305] عبادة الملائكة فأطاعوا الشياطين في عبادة الملائكة، فالمراد بقولهم:{يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أنهم يطيعون الجن بعبادة غير الله تعالى، وأن العبادة هي الطاعة، وأنهم لما أطاعوهم فكأنهم عبدوهم.

والثاني: أنهم عبدوا الجن حقيقة بناء على أنَّ الجن مثَّلوا لهم صورة قوم منهم وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها، فلما عبدها المشركون فقد عبدوا الجن حقيقة"

(2)

.

أقول: والأقرب فيما نحن فيه أن المشركين لما كانوا يعبدون إناثًا غيبيَّات، قالت الشياطين: ليس هناك إناث غيبيَّات إلَّا منّا، أما الملائكة فليسوا بإناث، فكلَّما قال المشركون: فلانة بنت الله ــ تعالى الله عما يقولون ــ

(1)

تفسير البيضاوي ص 571.

(2)

حواشي الشيخ زاده 3/ 94. [المؤلف]

ص: 580

وعبدوها، عيَّنت الشياطين واحدة من إناثهم كأنها هي تلك الأنثى التي يعبدها المشركون.

وقد مرَّ قول ابن جرير أنَّ المشركين كانوا يقولون: اللَّات والعُزَّى ومناة بنات الله

(1)

.

وفي "معجم البلدان" في ترجمة العُزَّى عن ابن الكلبي قال: وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: واللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهنَّ الغرانيق العُلى، وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجى؛ وكانوا يقولون: بنات الله عز وجل وهنَّ يشفعن إليه

(2)

.

[306]

وفي أسباب النزول للسيوطيِّ

(3)

: أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أنَّ قريشًا قالت: قيِّضوا لكل رجل من أصحاب محمدٍ رجلًا يأخذه، فقيَّضوا لأبي بكر طلحةَ فأتاه وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلامَ تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى، قال أبو بكر: وما اللات؟ قال: ربنا، قال: وما العُزَّى؟ قال: بنات الله. قال أبو بكر: فمَن أُمُّهم؟ فسكت طلحة، فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجلَ، فسكت القومُ، فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، فأنزل الله تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية

(4)

في سورة الزخرف 36.

(1)

ص 301. [المؤلف] ص 577.

(2)

معجم البلدان 4/ 116، وهو في الأصنام لابن الكلبي 19.

(3)

لباب النقول ص 188، وانظر: الدرّ المنثور 7/ 377.

(4)

تفسير ابن أبي حاتم 10/ 3283، ح 18505.

ص: 581

وفي هذا الأثر ما يخالف ما نُقل أنَّ المشركين كانوا يقولون: أمَّهات الملائكة بنات سَرَوات الجن، وقد فُسِّر به قوله تعالى:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]. وفي صحَّة ذلك نظر، وقد يدفعه قول الله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ [307] وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100 - 101]، فقوله سبحانه:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} احتجاجٌ على مَن زعم أنَّ له ولدًا فيُعلم من ذلك أنَّ كونه لا صاحبة له قضيَّة مسلَّمة عند المشركين؛ إذ لو كانوا يزعمون أنَّ له صاحبة لما احتجَّ عليهم بذلك، والله أعلم.

والذي يظهر لي في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} أنَّ ذلك إلزام منه تعالى للمشركين، فإنهم زعموا أنَّ إناثًا غيبيَّاتٍ هنّ بنات الله تعالى، وليس هناك إناث غيبيَّاتٌ قد كانوا سمعوا بوجودهنَّ وصدَّقوا به

(1)

إلَّا من الجن فلزمهم أنهم جعلوا الجنِّيَّات بناتٍ لله عز وجل، وهذا الإلزام من جنس الإلزام الذي تقدَّم في عبادتهم الإناث من الشياطين، والله أعلم.

ولنشرع الآن في تفسير الآيات.

قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ [308] وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 19 - 22].

(1)

هذا إخراج للحور العين. انتهى [المؤلف].

ص: 582

قال شيخ الإسلام أبو السعود الرومي في "تفسيره": "فالمعنى: أعَقِيبَ ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وقماءتها بناتٍ له تعالى؟ وقيل المعنى: أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء الله تعالى مع ما تقدم من عظمته؟ وقيل: أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وُصف بها رب العزة في الآي السابقة؟ وقيل: المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم؟ وقيل: أظننتم أنها تشفع لكم في الآخرة؟ وقيل: أفرأيتم إلى هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم؟

والأول هو الحق كما يشهد به قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} شهادة بينة؛ فإنه توبيخ مبنيٌّ على التوبيخ الأول. وحيث كان مداره تفضيل جانب [309] أنفسهم على جنابه تعالى بنسبتهم إليه تعالى الإناث مع اختيارهم لأنفسهم الذكور= وجب أن يكون مناط الأول نفس تلك النسبة حتى يتسنَّى بناءُ التوبيخ الثاني عليه.

وظاهرٌ أن ليس في شيء من التقديرات المذكورة من تلك النسبة عينٌ ولا أثر، وأمَّا ما قيل من أنَّ هذه الجملة مفعولٌ ثانٍ للرؤية وخلوِّها عن العائد إلى المفعول الأول لِما أنَّ الأصل: أخبروني عن اللات والعُزَّى ومناة: ألكم الذكر وله هُنَّ أي: تلك الأصنام؟ وضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ، فمع ما فيه من التمحُّلات التي ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثالها يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير على

ص: 583

جناب الله العزيز الجليل من غير تعرُّضٍ للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه"

(1)

.

أقول: أما ردُّه تلك التقديرات فحقٌّ لا غبار عليه، وسياق الآيات يؤيده كل التأييد، وأما اختياره تقدير بنات الله ففيه نظر، والظاهر أنه لا حاجة إلى التقدير أصلًا وأنَّ الكلام من النمط الذي أوضحناه في المقدمة الأولى، والمعنى: أعرفتم اللات والعزى [310] ومناة، وقد عرفت أنَّ الغرض من ذلك أن يُحضروها في أذهانهم ويحصروا أذهانهم فيها، ويترقَّبوا أمرًا مهمًّا يتعلق بها.

ثم قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} وهذه هي الجملة الاستفهامية المتعلقة بمفعول (أرأيت) على ما شرطوه، وإنما لم يقل: ألكم الذكر وهي لله على أن يكون المراد بقوله: " وهي": اللات والعزى ومناة، لركاكة هذا اللفظ، أي: قولنا: ألكم الذكر وهي لله؛ وللتصريح بموضع الشناعة المقصود في هذا الكلام؛ ولأنه ــ والله أعلم ــ أريدَ ما يعمُّ هذه الثلاث وغيرها، فإنهم كانوا يقولون في غيرها مثل مقالتهم فيها؛ ولمقابلة لفظ الذَّكر لمراعاة

(2)

الفواصل.

وقول شيخ الإسلام: "إنَّ فيه تمحُّلات"، إنما ذلك إذا جُعلت هذه الجملة مفعولًا ثانيًا لـ (أرأيت) وأما على ما اخترناه فلا تمحُّل أصلًا. وأما أنه لا يكون بالكلام تعرُّض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه فلا حرج في

(1)

تفسير أبي السعود 2/ 539 - 540. [المؤلف]

(2)

كذا في الأصل، ولعل الصواب:"ولمراعاة" عطفًا على قوله: "لركاكة هذا اللفظ"، فيكون تعليلًا مستقلًا برأسه.

ص: 584

ذلك، مع أنه وارد على ما اختاره شيخ الإسلام أيضًا فإنَّ قوله:" {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ} بنات الله"، لا تصريح فيه بالتوبيخ [311] على نسبة الولد، وإنما فيه التوبيخ على جعل هذه الثلاث بناتٍ له، ولو قال قائل لآخر: أجعلت فلانة وفلانة وفلانة بنات لي؟ لما فُهِم من ذلك أنه ينكر أن يكون له ولد أصلًا، فتدبَّرْ.

دعْ هذا، فإن ما اختاره شيخ الإسلام وتقدَّم عن ابن جرير

(1)

موافقٌ في المعنى لما اخترناه، وحاصله التوبيخ على قولهم: اللَّات والعُزَّى ومناة بنات الله.

والمهمُّ أن نبحث عن وجه هذا التوبيخ: هل كانوا يقولون: إنَّ تلك الأحجار والأشجار والبيوت بنات الله حقيقةً؟ هذا لا يقوله أحد، ولو سقطوا إلى هذا الدرك من الحماقة لَكِدْتُ أقول: يسقط عنهم التكليف أصلًا، ولو كانوا يقولون ذلك لتكرَّر في القرآن توبيخهم عليه أكثر ممَّا تكرَّر توبيخهم على قولهم: الملائكة بنات الله، فما باله تكرَّر كثيرًا توبيخهم على قولهم: الملائكة بنات الله ولم يأت توبيخهم على قولهم: الجمادات بنات الله حقيقةً في موضع من المواضع إلا أن يُفرض ذلك في هذا الموضع مع دلالة [312] السياق على بطلان هذا الفرض كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ولأمرٍ مَّا نجد القرآن مملوءًا بمحاجَّتهم في تأليه الملائكة وقلَّما نجده حاجَّهم في تأليه الجمادات. ولو كانوا يقولون ذلك لما عجزوا أن يجيبوا أبا بكر إذ قال لهم: فمَن أُمُّهم؟ أن يقولوا: الأرض مثلًا، وقوم يتردَّدون في

(1)

ص 301. [المؤلف]. ص 577.

ص: 585

كون البشر رسلًا لله عز وجل كيف يقولون: الجمادات بنات الله حقيقة؟ ولو كانوا يقولون ذلك لما بقي محلٌّ لتوبيخهم بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} فإنَّ قومًا يقولون: الجمادات بنات الله حقيقة لا يَحسُن أن ينكر عليهم جعلهم الإناث لله عز وجل، على أنَّ الأنثوية في الجمادات ليست حقيقة.

فإن قيل: لعلَّ المراد بالأنثى الجماد كما قيل بذلك في قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117]. قلت: يكفي في دفع ذلك أنه خلاف الظاهر مع أنه قوبل بالذَّكَر، وقوله:{إِلَّا إِنَاثًا} على حقيقته، وقد مرَّ أنَّ المراد الإناثُ الخياليَّات.

[313]

وقد علمتَ من المقدمة الثانية أنَّ القوم لم يكونوا يعبدون الجمادات إلَّا على أنها تذكارات للملائكة، وبالجملة فبطلان هذا الاحتمال ــ أعني احتمال أنهم كانوا يقولون في الجمادات إنها بنات الله حقيقة ــ أوضح من أن يحتاج إلى إطالة الكلام في تزييفه.

بقي أن يقال: أرادوا بنات الله تعالى على المجاز أي أنها مقبولة عنده، أو على حذف مضاف كأنهم أرادوا: اللات والعزَّى ومناة تذكارات بناته اللَّاتي هن الملائكة. ويردُّه أنه لا يكون حينئذ موضع لقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} لأنهم لم يجعلوها بنات الله حقيقة، ولا هي إناث حقيقة. وقد حكى الله تعالى عن اليهود قولهم:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ولم يوبِّخهم على قولهم: أبناء الله لأنهم إنما قالوها مجازًا، وإن كان هذا الإطلاق اللَّفظيُّ ممنوعًا سدًّا للذريعة، وها نحن نقول:

ص: 586

عزَّة الله وعظمة الله ونحو ذلك، ومكَّة حَرَم الله، والكعبة بيت الله، مع قولنا: جُود فلان، وحلم فلان، وتسميتنا بلداننا وبيوتنا أسماءً مذكَّرة، فهل يتوجَّه إلينا التوبيخ [314] أننا جعلنا لأنفسنا الذكور ولله تعالى الإناثَ؟

فإن قلت: فإذًا يتعيَّن أحد التقديرات التي ردَّها أبو السعود؟

قلت: هي باطلة أيضًا لأنها تُخرج الآيات عن قانون الكلام فضلًا عن الكلام البليغ، فضلًا عن بلاغة القرآن وبديع نظمه وصحَّة تأليفه وترصيفه.

فإن قلت: فماذا تقول؟

قلت: لو تدبَّرت ما سقناه في المقدمة الثانية حقَّ تدبُّره لاتَّضحتْ لك الحقيقة.

وقد قال ابن جرير: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} قال: جعلوا لله عز وجل بنات، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم، وقرأ:{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية [الزخرف: 16 - 17]، وقرأ:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية [النحل: 57]، وقال: دَعَوْا لله ولدًا، كما دَعَت اليهود والنصارى، وقرأ:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [البقرة: 118] قال: و"الضيزى" في كلام العرب المخالفة، وقرأ {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم: 23] "

(1)

.

[315]

ووردت عدَّة آثار في تفسير قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ

(1)

27/ 33. [المؤلف]

ص: 587

قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54]

(1)

يُعلم من تلك الآثار أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لحرصه على هدى قومه يحرص على عدم تنفيرهم، فلما قرأ:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان: "تلك الغرانيق العلى، وإنَّ شفاعتهن لترتجى" ونحو ذلك، وقد ردّ أكثر العلماء هذه القصة

(2)

، وقبِلها بعضهم

(3)

.

ومما نُقل عن أهل العلم فيها قولُ بعضهم: كان هذا من القرآن، مرادًا بالغرانيق الملائكة، فألقى الشيطان في نفوس المشركين [316] أن يزعموا أنَّ المراد بذلك أصنامهم، فنسخه الله تعالى

(4)

.

(1)

منها ما رُوِي عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبي العالية، والضحَّاك، ومحمَّد بن كعبٍ. انظر: تفسير الطبري 16/ 603 - 608، تفسير ابن كثير 5/ 439 - 440، الدرّ المنثور 6/ 65 - 69.

(2)

قال ابن الجوزي: "قال العلماء المحقِّقون: وهذا لا يصحُّ". زاد المسير 5/ 441. وقال القرطبيُّ: "وليس منها شيءٌ يصحُّ". تفسيره 14/ 424. وقال ابن كثيرٍ: "ولكنها من طرقٍ كلُّها مرسلةٌ، ولم أرها مسندةً من وجهٍ صحيحٍ". تفسيره 5/ 438. وللشيخ الألباني رسالةٌ في تضعيفها، أسماها: "نصب المجانيق لنسف قصَّة الغرانيق".

(3)

قال ابن حجرٍ: "لكن كثرة الطرق تدلُّ على أنَّ للقصَّة أصلًا". فتح الباري 8/ 439.

(4)

انظر: الشفا 2/ 131، المواقف 3/ 443.

ص: 588

قال الحافظ في "الفتح": وقيل: المراد بالغرانيق العلى: الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها، فسبق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله تعالى:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} ، فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع وقالوا: قد عظَّم آلهتنا ورضوا بذلك، فنسخ الله تلك الكلمتين وأحكم آياته

(1)

.

أقول: أمَّا أنَّ تلك الكلمات كانت من القرآن فيُبطله قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فبيَّن أنَّ تلك الكلمات ــ إنْ صحَّت ــ من إلقاء الشيطان، ولكن قد يجوز أن يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال كلماتٍ أثنى بها على الملائكة، وقد أثنى الله تعالى على الملائكة في مواضعَ كقوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات [الأنبياء: 26].

فإن قيل: وكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم كلمات ألقاها الشيطان؟

قلت: قد يكون الشيطان وسوس لبعض الناس أن يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا قرأ آيات النجم ينبغي أن يخبرهم بكلماتٍ يثني بها على الملائكة حتى لا يتوهَّم المشركون أنه يشتم الملائكة فرأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه ليس في ذلك محذور فقاله، واغتنم الشيطان ذلك فوسوس للمشركين أن يحملوا تلك الكلمات على خلاف ما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

[317]

وفي تفسير ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس ذكرا القصة إلى أن قال: فرضُوا بما تكلَّم به وقالوا: قد عرفنا أنَّ الله

(1)

فتح الباري 8/ 307. [المؤلف]

ص: 589

يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذا جعلتَ لها نصيبًا فنحن معك

(1)

.

فالذي يظهر من هذه العبارة أنهم لم يفهموا من تلك الكلمات إلا ما أراده صلى الله عليه وسلم من الثناء على الملائكة، ولكنهم زعموا أن ذلك الثناء يدل على جواز اتِّخاذ الملائكة آلهة.

بقي أن يقال: الآثار المذكورة كلها تصرِّح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تلك الكلمات عقب قراءته: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ، فكيف تحمل تلك الكلمات على أنها ثناء على الملائكة؟

فدونك الحقيقة الآن:

اعلم أنَّ شأن العرب كشأن قوم نوح وغيرهم جعلوا الأوثان تماثيل وتذكارات للأشخاص الغيبيَّة وسمَّوها بأسماء تلك الأشخاص على حسب ما مرّ في المقدمة الثانية، فلما زعموا أنَّ هناك إناثًا غيبيَّاتٍ هنَّ بنات [318] الله اختلقوا لها أسماء هي اللات والعُزَّى ومناة، اشتقُّوها من اسمه وصفاته كما تقدَّم، ثم أطلقوا على التذكار الذي جعلوه للَّات اسمَ اللَّات، وهكذا.

فَلِمُسمَّيات هذه الأسماء ثلاثة وجوه:

الأول: أن يُحكم عليها باعتبار أنها من الملائكة نظرًا إلى أنَّ المشركين إنما قصدوا وضع هذه الأسماء للملائكة وإن أخطؤوا في الصفات، وقد تقدَّمت الآيات الكثيرة في أنهم يعبدون الملائكة مع أنهم إنما كانوا يعبدونهم بصفة أنهم بنات الله.

(1)

17/ 117. [المؤلف]

ص: 590

الثاني: أن يُحكم عليها باعتبار أنها أشخاص متصفة بما يزعمه المشركون، فيُحكم عليها بالعدم؛ إذ ليس في الوجود بنات لله.

الثالث: أن يُحكم عليها باعتبار أنَّ الشياطين اعترضوا هذه الأسماء فسمَّوا بها إناثهم كما تقدَّم، فيُحكم عليها بأنها من الشياطين.

وهذا كما لو كان في قصر من القصور خادم للملك يتصرَّف في القصر بإذن الملك وفيها

(1)

حجَّام له بنت، فقيل لجماعة من الناس: إنَّ الشخص الذي يتصرَّف في هذه الدار هو بنت الملك، فسمُّوها وعظِّموها فقالوا: نسميها عزَّة، وأخذوا يبعثون التحف التي لا تصلح إلا للملوك إلى ذلك القصر قائلين: هذا لعَزَّة بنت الملك، فإذا قيل ذلك للخادم قال: ليست هذه التحف لي لأني لستُ أنثى، وليس الملِك أبي، وإنما أنا رجل من خَدمه ولا يصلُح أن أُسمَّى عَزَّة ولا تليق به

(2)

هذه التحف وإنما كان علىهم أن يبعثوها إلى سيِّدي الملك فلست بقابل لتحفهم ولا ينبغي لي ذلك، فاعترض الحجَّام قائلًا: أنا أُسمي بنتي عَزَّة وآخذ هذه التحف، وألعب بهؤلاء الحمقى ومهما يكن يكن، ثم أخذ يتناول تلك التحف قائلًا: ليس في القصر أنثى يقال لها عزة غير ابنتي، وشمَّر في ترغيب الناس في الإتحاف.

إذا عرفت هذا فيصحُّ أن يقول مَن يعرف الحقيقة: أيها القوم إنَّ عَزَّة لَمقرَّبة عند الملك وإنها لتشفع عنده إذا أذن لها ولكنها ليست أنثى ولا بنت الملك ولا تستحقُّ تحف الملوك، وإنما هي رجل مِن خدم الملك مطيع له، فأطلق هذا الرجل الناصح عَزَّة على ذلك الخادم الذكر وأنَّث الضمائر أوَّلًا،

(1)

كذا في الأصل، وسيعبر عن القصر بالدار بعد قليل.

(2)

كذا في الأصل، والضمير يعود على الخادم.

ص: 591

كلُّ ذلك بناء على ما في أذهان أولئك القوم، ويصحُّ أن يقول لهم: عَزَّة معدومة لا يوجد إلَّا اسمها، أي: لأنها فيما يحسبون بنتُ الملك وليس للملك بنت، ويصحُّ أن يقول لهم: إنما عَزَّة بنت الحجَّام.

إذا تقرَّر هذا فالألفاظ التي رُويت في قصَّة الغرانيق إن صحَّت جارية على الاعتبار الأوَّل، وكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إن كان قال ذلك رأى أنَّ قول الله تعالى:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} الآيات يؤدِّي معنى ما ذكرنا في المثال من قول الناصح: ولكنها ليست أنثى ولا بنت الملك إلخ، ولكنَّ الشيطان لعب بالمشركين فلم يُصغوا إلى هذه الآيات.

وبهذا تنحلُّ جميع المشكلات في تفسير الآيات ويتمُّ الجواب عن قصَّة الغرانيق ويتجلَّى ما في هذه الآيات من حُسن السبك وبَدَاعة النظم كما سيأتي تمامه. ولله الحمد.

قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} هذا بناءً على الاعتبار الثاني، فالنفي على ظاهره لأنه ليس في الوجود بنات لله تعالى ولا يوجد منها إلا الأسماء التي اختلقوها، وهذا كما لو سُئلت عن العنقاء، فقلت: لا يوجد منها إلا اسمها، بخلاف ما لو جُعل الكلام في الأصنام أنفسها فإنها موجودة فلا يصدُق عليها أنها ليست إلَّا أسماء مع بقائه على ظاهره.

وقوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم: 24] قال البيضاوي وغيره

(1)

: (أم) منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار، والمعنى: ليس له [319] كل ما

(1)

تفسير البيضاوي ص 698، وتفسير أبي السعود 8/ 159، وروح المعاني 27/ 58.

ص: 592

يتمناه، والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة.

أقول: وإيضاحه أن المشركين ربما يقولون: إن لم يكن هناك إناث غيبيات هن بنات الله وهن الملائكة فإننا نعبد اللَّات والعُزَّى ومناة قائلين: إنهن هنَّ الملائكة فنحن بعبادتهن عابدون للملائكة، والملائكة مقرَّبون عند الله تعالى اتفاقًا فيشفعون لنا بعبادتنا إياهم، ولا يضرُّنا الخطأ في وصفهم بأنهم إناث وأنهم بنات الله، فردّ الله تعالى عليهم بأنَّ هذا تمنٍّ منهم وليس للإنسان ما يتمنَّى.

وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} جواب والله أعلم عما يمكن أن يقوله المشركون وهو: ليس للإنسان كلُّ ما يتمنَّاه ولكن قد يحصل له بعضُ ما يتمناه، فكأنه قال: ولكن تمنِّيكم الشفاعة من الملائكة لا يحصل لكم منه شيء لأنه ليس للملائكة من الأمر شيء لا في الآخرة ولا في الأولى.

وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} فيه جواب ــ والله أعلم ــ عما يمكن أن يقوله المشركون، كأنهم يقولون: لا ريب أن لله الآخرة والأولى، ولكن الملائكة مقرَّبون عنده، فإذا شفعوا لأحد عنده [320] قبِل شفاعتهم، فكأنه تعالى قال: وكيف تغني شفاعتهم إن شفعوا بدون إذنٍ منه تعالى لهم، ولا رضًا بشفاعتهم؟ أي: وما الذي يضطرُّه عز وجل إلى قَبول شفاعتهم فيما لا يرضى وهم عبيده ومملوكون له، وبفضله ومَنِّه حصل لهم القرب منه، وهو الغنيُّ عنهم وعن غيرهم؟

ص: 593

وفي قوله: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} إشارة إلى أنَّ الشفاعة عند الله تحتاج إلى الإذن، فيُفهم من هذا أنَّ الملائكة لا يشفعون بدون إذنه أصلًا لما عُلم من خوفهم من ربكم

(1)

عز وجل وإجلالهم له، وقد صرَّح بهذا في آية الكرسي وغيرها.

ثمَّ قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)} هذا صريح فيما قدَّمناه أنَّ اللات والعزى ومناة أسماء سمَّى بها المشركون الإناثَ الخياليَّات اللاتي يزعمون أنها الملائكة، وقد تمحَّل المفسِّرون لتأويل هذه الآية فقالوا: يعني قولهم: بنات، وهذا كما تراه. فإنه لو قيل لك: فلان يسمِّي أبناءه تسمية الإناث لما فهمتَ إلَّا أنه يضع لهم الأسماء المختصة بالإناث كأن يُسمِّي أحدهم سُعدى [321] والآخر ليلى، ونحو ذلك.

وكأنه لعلم الله عز وجل ما سيقع في الآيات السابقة من الاشتباه أوضح المراد بهذه الآية، ولله الحمد.

وفيما تقدَّم وبَّخهم بجعْلهم لأنفسهم الذكور وجعْلهم له الأنثى، ثم دفع شبههم في الشفاعة لأنها مقصودهم الأعظم وعليها يبنون شركهم، ثم وبَّخهم على تسمية الملائكة بأسماء الإناث.

ولعله بقي شيء من لطائف هذه الآيات أدعه الآن لغيري. ولكلِّ متدبِّر في القرآن رزق مقسوم، ولا يخيب من اجتناء ثمراته إلا المحروم، نسأل الله ألَّا يحرمنا من فوائده بفضله وكرمه.

(1)

كذا في الأصل.

ص: 594