المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من أشنع الغلط في هذا الباب الاعتماد على التجربة - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٣

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود

- ‌ عبادة الشياطين

- ‌ عبادة الهوى

- ‌النظر فيما كان يعتقده المشركون في آلهتهم ويعملونه

- ‌تفسير عبادة الأصنام

- ‌عُبَّاد النار

- ‌عجل السامري

- ‌الأناسي الأحياء وأرواح الموتى

- ‌تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام

- ‌تأليه الأحبار والرهبان

- ‌ شرع الدين خاصٌّ بالربِّ

- ‌عبادة القبور والآثار

- ‌عبادة أشخاصٍ لا وجود لها

- ‌المصريُّون

- ‌ في عهد إبراهيم عليه السلام

- ‌ في عهد موسى عليه السلام

- ‌العرب وتأليه الإناث الخياليَّات

- ‌تحرير العبارة في تعريف العبادة

- ‌ فصلٌ في الدعاء

- ‌الدعاء عبادةٌ

- ‌ أحكام الطلب، ومتى يكون دعاءً

- ‌من أشنع الغلط في هذا الباب الاعتمادُ على التجربة

- ‌مَن قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمَن قاس الملائكة على البشر

- ‌ الشبهات ورَدُّها

- ‌شبه عُبَّاد الأصنام

- ‌ شُبَه عُبّاد الأشخاص الأحياء

- ‌شُبَه النصارى في عبادتهم الصليب

- ‌شبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان

- ‌شُبَهُ عَبَدَةِ الملائكة

- ‌تقسيم الكفر إلى ضربين

- ‌الأعذار

- ‌ ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شركوأشكل تطبيقها على الشرك

- ‌تمهيد

- ‌ الطِّيَرة

- ‌ فصل في التِّولة والسحر

- ‌ التأثير على ضربين:

- ‌ حكم السحر وتعليمه وتعلمه

- ‌ طرق تحصيل قوة السحر

- ‌ القسم بغير الله عز وجل

- ‌حقيقة القَسَم

- ‌ تسمية النذر يمينًا وحلفًا والقول بأن كفارته كفارة يمين أمر معروف عن السلف

- ‌ الشرك إذا أُطْلِق في الشريعة في مقام الذَّمِّ كان المراد به الشركَ بالله عز وجل، بأن يُشْرِكَ معه غَيْرَه في العبادة على سبيل العبادة للشريك

- ‌ لم يجئ في الشرع نصٌّ على أنَّ الرئاء شرك بالله، وإنما جاء أنَّه شرك فحسب

- ‌قول ما شاء الله وشئت

- ‌فهرس مصادر التحقيق

الفصل: ‌من أشنع الغلط في هذا الباب الاعتماد على التجربة

و‌

‌من أشنع الغلط في هذا الباب الاعتمادُ على التجربة

، وما يدريك لعلَّ الله عز وجل لا يرضى لك ذلك الدعاء، ولكنَّه علم أن حاجتك التي دعوتَ بِها إذا أُعطيتَها عادت عليك بالضرر، فأعطاك إيَّاها؛ ليكون ما يحصل لك بِها من الضرر عقوبةً لك على ذلك، أو أعطاك إيَّاها من باب الاستدراج ــ والعياذ بالله ــ، وقد قال الله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28].

وجاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لسبطه الحسن بن عليٍّ عليهما السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . صحَّحه الترمذيُّ وابن حِبَّان والحاكم، وقد تقدَّم

(1)

.

وفي مسند أحمد من حديث أنس بن مالكٍ:

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك»

(2)

.

والمقصود أن ثعلبة لو اقتصر على دعائه لنفسه [525] بكثرة المال وترك الخيرة لله عز وجل لما ضرَّه ذلك، بل كان الله عز وجل يثيبه على ذلك الدعاء ما يعلم أنَّ له فيه خيرًا في أمر معاشه ومعاده، ولكنه لما لم يرض بخيرة الله له، وألحَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو له متَّكلًا على خيرته لنفسه جرى ما جرى.

فإن قيل: وكيف يدعو له النبيُّ صلى الله عليه وسلم بما لا خير له فيه؟ ففيه أجوبةٌ:

الأوَّل: أنَّ تكثير المال ليس هو شرًّا بذاته.

(1)

انظر: ملحق ص 22 من نسخة أ، فقد قال هناك:«رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، وقال الترمذي: حديث صحيح» . جامع الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، 4/ 668، ح 2518، مسند أحمد 1/ 200. وانظر ما سبق في ص 330.

(2)

المسند 3/ 153. [المؤلف]

ص: 786

والثاني: أنَّ السائل لما أَلَحَّ استحقَّ العقوبة، فغاية الأمر أن يكون هذا الدعاء كالدعاء عليه، وهو مستحقٌّ لذلك.

والثالث: ما جاء في أحاديث الصدقة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعطي مَن يُلِحُّ عليه وإن كان غير مستحقٍّ، ثم يبيِّن أنه لا خير لهم في ذلك.

ففي حديث معاوية ــ عند مسلمٍ ــ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تُلْحِفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحدٌ منكم شيئًا فتُخرِج له مسألته منِّي شيئًا وأنا له كارهٌ فيُبارَك له فيما أعطيته»

(1)

.

وفي حديث عمر ــ عند مسلمٍ في صحيحه ــ: «إنهم خيَّروني بين أن يسألوني بالفحش وبين [526] أن يبخِّلوني، فلست بباخلٍ»

(2)

.

ومما يتعلَّق بسؤال الدعاء بنفعٍ دنيويٍّ حديث الصحيحين في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنَّة بغير حسابٍ، فإن فيه:«كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيَّرون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون» ، فقام إليه عُكَّاشة بن مِحْصَنٍ، فقال:«ادعُ الله أن يجعلني منهم» ، قال:«اللهمَّ اجعله منهم» ، ثم قام إليه رجلٌ آخر، قال:«ادعُ الله أن يجعلني منهم» ، قال:«سبقك بها عُكَّاشة»

(3)

.

(1)

صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، 3/ 95، ح 1038. [المؤلف]

(2)

صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة، باب إعطاء مَن سأل بفحشٍ وغلظةٍ، 3/ 103، ح 1056. [المؤلف]

(3)

البخاريّ، كتاب الرقاق، بابٌ يدخل الجنَّة سبعون ألفًا بغير حسابٍ، 8/ 112 - 113، ح 6541. مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذابٍ، 1/ 138، ح 218. [المؤلف]

ص: 787

فالحديث يدلُّ على كراهيةٍ مَّا للاسترقاء، وحقيقته: سؤالك من رجلٍ أن يرقيك، وذلك سؤالٌ لنفعٍ دنيويٍّ، فأمَّا أن يجيئك رجلٌ فيرقيك بدون أن تسأله فلا كراهة فيه؛ فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يرقي، وعرضوا عليه رقيةً، فقال:«ما أرى بها بأسًا، مَن استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه»

(1)

.

وفي الصحيحين عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه [527] بالمعوِّذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفِّي فيه طَفِقتُ أَنفُثُ على نفسه بالمعوِّذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عنه

(2)

.

وهذا الفرق شبيهٌ بالفرق بين سؤال المال وقبول العطاء، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه منِّي، فقال:«خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ فخذه، وما لا فلا تتبعْه نفسك»

(3)

.

وكان ابن عمر وأبو هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله تعالى عنهم

(1)

انظر: صحيح مسلمٍ، كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين

، 7/ 19، ح 2199 (63). [المؤلف]

(2)

البخاريّ، كتاب المغازي، باب مرض النبيِّ صلى الله عليه وسلم ووفاته، 6/ 11، ح 4439. مسلم، كتاب السلام، باب رقية المريض بالمعوِّذات والنفث، 7/ 16، 2192. [المؤلف]

(3)

البخاريّ، كتاب الزكاة، باب مَن أعطاه الله شيئًا من غير مسألةٍ ولا إشراف نفسٍ، 2/ 123، ح 1473. مسلم، كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أُعطي من غير مسألةٍ ولا إشرافٍ، 3/ 98، ح 1045. [المؤلف]

ص: 788

لا يسألون أحدًا ولا يردُّون إذا أُعْطُوا

(1)

.

هذا، والظاهر أن كراهية الاسترقاء خاصَّةٌ بما إذا استرقى الإنسان لنفسه، أمَّا استرقاؤه لغيره فلا كراهية، ففي الصحيحين عن أمِّ سلمة رضي الله تعالى عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جاريةً في وجهها سُفْعَةٌ ــ يعني صُفْرَة ــ، فقال:«استرقوا لها؛ فإن بها النظرة»

(2)

.

وعلى هذا يُحمَل حديث الصحيحين عن [528] عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ أو أمر ــ أن يُسترقى من العين

(3)

.

ومن القسم الثالث: سؤال العبد من ربِّه عز وجل، وهو المسمَّى دعاءً. ومنه ــ كما صرَّح به القرآن ــ سؤال الملائكة، وسمَّاه القرآن دعاءً.

وقد تأمَّلنا الفرق بينه وبين سؤال الناس بعضهم بعضًا فوجدنا أن السؤال من الملائكة فيه تذلُّلٌ لهم وتعظيمٌ يُتديَّن به، أي: يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. وقد

(1)

أثر ابن عمر أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أُعطي من غير مسألة ولا إشراف 3/ 98 ح 1045.

وورد عن ثوبان أنه كان لا يسأل أحدًا. أخرجه أحمد 5/ 275 وغيره. وحكى ابن رجب في جامع العلوم والحكم 1/ 479 نحو ذلك عن أبي بكر الصديق وأبي ذر.

(2)

البخاريّ، كتاب الطبِّ، باب رقية العين، 7/ 132، 5739. مسلم، كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين

، 7/ 18، ح 2197. [المؤلف]

(3)

البخاريّ، الموضع السابق، 7/ 132، ح 5738. مسلم، الموضع السابق، 7/ 18، ح 2195 (56)، ولفظه: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرني أن أسترقي من العين». والمراد ــ والله أعلم ــ أن تسترقي لمن كانت تكفله من الصبيان، لا لنفسها. [المؤلف]

ص: 789

قدَّمنا

(1)

أن كلَّ ما كان كذلك فهو عبادةٌ؛ فإن لم يُنزل الله تعالى سلطانًا بالأمر أو الإذن به فهو عبادةٌ لغيره.

وأمَّا سؤال الناس بعضهم من بعضٍ ما جرت العادة بقدرتهم عليه، فمنه ما لا تذلُّل فيه، ومنه ما كان فيه تذلُّلٌ ولكن لا يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ.

وإنما كان السؤال من الملائكة سؤالًا لنفعٍ غيبيٍّ؛ [529] لأنهم غائبون عن حِسِّنا ومشاهدتنا، لا نشاهدهم، ولا نشاهد قدرتهم على النفع ومباشرتهم له كما يشاهد البشر بعضُهم بعضًا، فسواءٌ أكان المسؤول من الملائكة هو النفع بالفعل ــ كإنزال المطر مثلًا ــ أو مجرَّد النفع بالشفاعة؛ لأن البشر لا يدركون بالحسِّ والمشاهدة أنَّ الملائكة يسمعون دعاءهم، ولا أنَّهم يشفعون لمن دعاهم.

وهذا بخلاف سؤال الدعاء من الإنسان الحيِّ الحاضر؛ فإن الدعاء نفسه وإن كان نفعًا فليس غيبيًّا؛ لأننا ندرك بالحسِّ والمشاهدة أنَّ الإنسان الحيَّ الحاضر يسمع طلبنا ويدعو لنا إذا طلبنا منه الدعاء.

وها هنا فروقٌ أخرى بين سؤال الناس بعضهم من بعضٍ ما يدخل تحت قدرتهم وسؤال الملائكة، منها: ما تقدَّم

(2)

في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أن البشر لما كانوا في دور ابتلاءٍ وامتحانٍ منحهم الله تعالى شيئًا من الاختيار، فهم يستطيعون أن يعملوا ما أرادوه مما يدخل تحت قدرتِهم ولو كان معصيةً [530] لله عز وجل، وأما الملائكة فهم في

(1)

انظر ص 732 - 733.

(2)

انظر ص 355.

ص: 790

دور طاعةٍ محضةٍ، فهم كما قال تعالى:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27].

فسؤال البشر بعضهم بعضًا ما جرت العادة بقدرتهم عليه له معنىً؛ لأن لهم اختيارًا، ولا كذلك سؤال الملائكة.

ألا ترى لو أن ملِكًا جعل بيد بعض أتباعه مالًا، وقال له: فرِّقه على بعض المستحقِّين، ثم جعل مالًا بيد تابعٍ آخر، وقال له: لا تصرف منه فلسًا إلا إذا أمرتك، وقد علمنا أن هذا التابع لا يخالف متبوعه، فإن العاقل منَّا قد يسأل الأوَّل؛ لأنه مختارٌ، ولا يسأل الثاني.

وهكذا في الشفاعة، لو أن ملِكًا أذن لبعض أتباعه أن يشفع عنده للمستحقِّين، ومنع آخر أن يشفع لأحدٍ حتى يأمره الملِك أن يشفع له؛ لكان من المعقول أن تسأل الشفاعة من الأوَّل، وأما الثاني فلا؛ لأن الملِك متى أمره بالشفاعة فلا بدَّ أن يمتثل أمْر الملك فيشفع، [531] وأيضًا فإن الملك لن يأمر بالشفاعة إلا وقد أحبَّ قضاء تلك الحاجة، وإذ قد أحبَّ قضاءها فلا بدَّ أن يقضيها ولو لم تقع الشفاعة.

فأمَّا إذا قال الملِك لأحد أتباعه: (لا تشفع حتى آذن لك)، فإن قلنا: إن الإذن هنا بمعنى الأمر فكما تقدَّم، وإن قلنا: بل بمعنى أنه يقول له: (إن شئت فاشفع)، فقد يُقال: لا معنى للسؤال أيضًا؛ لأن الملِك لم يأذن بالشفاعة حتى أراد قضاء تلك الحاجة، وإنما أذن لهذا بالشفاعة إكرامًا له، فإن شفع فذلك قبولٌ للإكرام، وإن لم يشفع لم يمتنع الملِك من قضاء تلك الحاجة، مع أن هذا المأذون له إذا كان طاهر النفس لم يُحتمَل أن يأبى الشفاعة.

ص: 791

فإن قيل: فيُحتمَل أن الملِك يجعل شفاعة ذلك الرجل شرطًا لقضاء الحاجة، فيقول له: لا أقضيها أوْ تشفع فيها، قلت: في إمكان هذا في حقِّ الله عز وجل نظرٌ، وعلى فرض وقوعه فالملائكة طيِّبون طاهرون لا يمتنعون من الشفاعة بعد أن يأذن الله تعالى لهم فيها.

فإن قيل: قد يتوقَّف الإذنُ بالشفاعة [532] على التعرُّض للإذن، فيحتاج إلى سؤال الشفيع أن يتعرَّض، كما في حديث الشفاعة أنَّ الخلق يسألون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فيذهب فيتعرَّض للإذن بالسجود والثناء على الله تعالى، فيأذن له فيشفع.

قلت: هذا صحيحٌ بالنسبة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فأمَّا الملائكة فلا.

أوَّلًا: لأن قوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] يدلُّ أنهم لا يتعرَّضون أيضًا.

ثانيًا: أنه لا سلطان عندنا أن سؤال الشفاعة منهم يحملهم على التعرُّض لها.

ثالثًا: أن البشر في المحشر يُؤْتَوْن ضربًا من الاختيار، فيكون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم اختيارٌ في أن يتعرَّض للشفاعة، فإذا سُئل ذلك فإنما سُئل أمرًا يقدر عليه باختياره. وأظهر من ذلك: أنَّ السؤال في المحشر من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم سؤالٌ من حاضرٍ مشاهَدٍ يُسْأَلُ منه ما يقدر عليه بمقتضى الحسِّ والمشاهدة، وليس كالسؤال من الملائكة في الدنيا؛ لأنهم غيبيُّون، كما مرَّ

(1)

.

ومن الفرق أيضًا: أن الشرائع مبنيَّةٌ على أنَّ [533] للبشر اختيارًا،

(1)

انظر ص 789 - 790.

ص: 792

وسؤال بعضهم من بعضٍ مبنيٌّ على هذا الاختيار، فكما قامت حجَّة الله تعالى على البشر بهذا الاختيار الثابت بالفطرة والبديهة وإن أعيا العقلاء بيانُ عدم مناقضته للقَدَر، فكذلك قَبِلَ سبحانه اعتذارهم بهذا الاختيار عن سؤال بعضهم من بعضٍ ما يدخل تحت قدرتهم العاديَّة، فلم يجعل ذلك كفرًا به وإن حرَّم بعضه. وهذا المعنى لا يأتي في سؤال الملائكة.

ومن الفرق أيضًا: أنَّ الناس بطبيعتهم معتمدون على ما عرفوه وألِفوه من قدرة البشر على نفع بعضهم بعضًا في دائرة قدرتهم، والعادة تُكرههم على هذا الاعتماد، حتى إنك ترى إجابة البشر للسائل أقرب فيما ترى العين من إجابة الله عز وجل لداعيه. وهذا المعنى لا يأتي في الملائكة، بل الأمر بالعكس؛ فإنَّ العاقل إذا أمعن النظر وبحث وتدبَّر عَلِمَ كثرةَ إجابة الله تعالى دعاء مَن يدعوه، ولم ير مثل ذلك في دعاء الملائكة؛ ولهذا كان المشركون أنفسهم يقتصرون في الشدائد على دعاء الله عز وجل.

ومن الفرق أيضًا: [534] أنَّ السؤال من الإنسان الحاضر ما يقدر عليه عادةً ليس فيه ادِّعاء أنَّه يعلم الغيب، ولا يلزمه الخضوع القلبيُّ، ولا يمكن أن يعمَّ جميع الحوائج فيؤدِّي إلى الإعراض عن الله تعالى، ولا يكاد يؤدِّي إلى تعظيمه كتعظيم الله عز وجل، بخلاف السؤال من الملائكة في ذلك كلِّه.

ومن الفرق في خاصَّة سؤال الدعاء: أنَّ سؤال الدعاء من الأنبياء والصالحين قد تحصل به مصلحةٌ، كأن يخبر المسؤولُ السائلَ أنَّ الأمر الذي يطلبه لا يحلُّ له، أو لا خير له فيه، أو نحو ذلك. وهذا أيضًا لا يأتي في الملائكة.

ومنه أيضًا: أن الناس كالمفطورين على الخضوع والتذلُّل لمن يسألون

ص: 793

منه، فإن كان بشرًا غير معتقَدٍ فيه الخير فإنَّ أكثر الناس ينفرون بطباعهم عن الخضوع والتذلُّل له، وإن كان نبيًّا حيًّا حاضرًا فإنه لا يُقِرُّهم على ما لا يجوز، والصالحُ يظَنُّ به نحو ذلك. ونحن نرى الناس يأتون إلى مَن يُظَنُّ به الصلاح [535] فيبادرون إلى تعظيمه بما شاءت لهم أنفسهم، وقد يُصِرُّون على عمل ذلك مع مَنْع ذلك الصالح لهم ونهيه إياهم وتأذِّيه بفعلهم. فأمَّا السؤال من الملائكة لو أُبِيح فليس هناك ما يردع الناس عن التغالي في تعظيمهم حتى يسوُّوهم بالله عز وجل أو يزيدوا.

ومنها: أنَّ سؤال الدعاء من الصالح لا يؤدِّي غالبًا إلى أكثر من زَعْمِ أنه مستجاب الدعوة، وإن كان قد يجرُّ أحيانًا إلى أزيد من ذلك، كما تراه في زعم بعض المريدين أنَّ شيخهم نافذ الحكم فيما أراد، وأنه قد أعطاه الله عز وجل كلمة (كن)؛ فكلُّ ما أراد أن يكون كان، وكلُّ ما أراد ألَّا يكون لا يكون. ولهذا كره السلف سؤال الدعاء من الإنسان الحيِّ أيضًا، كما مرَّ عن عمر وسعدٍ وحذيفة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم

(1)

، ولكنَّ كثيرًا ما يمنع عن هذا الغلوِّ منعُ الشيخ منه أو زجره عنه. فأمَّا السؤال من الملائكة فإنه يسوق إلى اعتقاد أنهم يتصرَّفون في الكون باختيارهم، ولا يتأتَّى منهم النهيُ عن الغلوِّ. وقد وقع قريبٌ من ذلك في شأن أرواح الموتى، والله المستعان.

[536]

فإن قيل: كيف يكون السؤال من الملائكة دعاءً لهم وعبادةً، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يسألون جبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام؟

قلتُ: ليس هذا من ذاك؛ فإن الأنبياء عليهم السلام إنما يسألون جبريل

(1)

انظر ص 778 وما بعدها.

ص: 794

عن بعض المعارف ونحوها سؤالَ استفهامٍ وهو حاضرٌ مُشَاهَدٌ لهم، أرسله الله عز وجل ليعلِّمهم ويخبرهم عما يسألونه عنه، فسؤالهم منه طلب حقٍّ، وهذا السؤال لا خضوع معه للمسؤول، ولا هو غائبٌ، ومع ذلك فعندهم من الله تعالى بذلك سلطانٌ.

فإن قيل: فقد جاء في الأثر أنَّ خُبيب بن عديٍّ رضي الله تعالى عنه لَمَّا أراد المشركون قتله نادى: (يا محمَّد)

(1)

، وهو حينئذٍ بمكَّة، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

وجاء في الأثر أن عمر نادى وهو على منبر المدينة: (يا سارية الجبل)

(2)

! وسارية حينئذٍ بفارس.

وعلَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته أن يقولوا في تشهُّد الصلاة: «السلام عليك أيُّها

(1)

أخرجه أبو نُعَيم في الحلية، ترجمة سعيد بن عامرٍ، 1/ 245 - 246. ومن طريقه ابن عساكر، ترجمة سعيد بن عامر، 21/ 161 - 162.

(2)

أخرجه السلميُّ في الأربعين في التصوُّف، بابٌ في جواز كرامات الأولياء، ص 5، وأبو نُعَيمٍ في الدلائل، الفصل التاسع والعشرون: ما جرى على يدي أصحابه بعده، ما ظهر على يدي عمر

، ص 579، ح 526. والبيهقيُّ في الدلائل، باب ما جاء في إخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمحدَّثين كانوا في الأمم

، 6/ 370. واللالكائيُّ في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة، سياق ما رُوِي في ترتيب خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب

، 7/ 1330، ح 2537. وغيرهم، من طريق ابن وهبٍ، عن يحيى بن أيُّوب، عن ابن عجلان، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن أبيه. وحسَّن إسناده ابن كثيرٍ وابن حجرٍ. انظر: البداية والنهاية 10/ 175، الإصابة 4/ 176 - 177. وله طرقٌ أخرى ضعيفةٌ، وفي بعضها ألفاظٌ منكرةٌ. انظر: السلسلة الصحيحة 3/ 101، ح 1110. وانظر ما سبق ص 273.

ص: 795

النبيُّ ورحمة الله وبركاته»

(1)

، ففعلوا ذلك في حياته وبعد وفاته، ولا يزالون على ذلك، ولن يزالوا إلى يوم القيامة.

[537]

وجاء في حديث الأعمى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم علَّمه أن يقول: «اللهم إني أسألك بنبيِّك نبيِّ الرحمة، يا محمَّد، يا رسول الله، إني أتوجَّه بك إلى ربِّي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهمَّ فشفِّعه فيَّ»

(2)

، وفي بعض رواياته زيادة: «وإن كان

(3)

حاجةٌ فعل مثل ذلك»

(4)

.

وروي عن عثمان بن حُنيفٍ رضي الله عنه أنه علَّم رجلًا يقول ذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه

(5)

، وعن بعض التابعين أنه دعا بنحو هذا الدعاء

(6)

.

(1)

أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب التشهُّد في الآخرة، 1/ 166، ح 831، ومواضع أخرى. ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب التشهُّد في الصلاة، 2/ 13، ح 402.

(2)

أخرجه أحمد 4/ 138. والترمذيُّ في كتاب الدعوات، باب 119، 5/ 569، ح 3578، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ

». والنسائيّ في عمل اليوم والليلة، ما يقول إذا راعه شيءٌ، ص 417 - 418، ح 658 - 660. وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة، 1/ 441، ح 1385. وغيرهم. وقد خرَّج المؤلِّف هذا الحديث وتوسَّع في الكلام عليه في رسالة الاجتهاد.

(3)

كذا في الأصل.

(4)

رواها أبوبكر بن ابي خيثمة في تاريخه من طريق حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، كما في قاعدة جليلة ص 196.

(5)

أخرجه الطبراني في الكبير 9/ 30 ح 8327، والصغير 1/ 183 - 184، وقال: والحديث صحيح، والبيهقي في دلائل النبوَّة باب تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه

، 6/ 167 - 168.

(6)

هو عبد الملك بن سعيد بن أبجر كما رواه ابن ابي الدنيا في كتاب مجابو الدعوة ص 154 ح 127.

ص: 796

فالجواب: أمَّا خبيبٌ فقصَّته في الصحيح

(1)

، وليس فيها أنه نادى:(يا محمَّد)، بل قال الحافظ في فتح الباري:«وفي رواية بريدة بن سفيان: فقال خُبَيبٌ: اللهم إني لا أجد مَن يبلِّغ رسولك مني السلام فبلِّغه»

(2)

.

وفي رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: ثم رفعوه على خشبةٍ، فلمَّا أوثقوه قال:«اللهمَّ إنا قد بلَّغنا رسالة رسولك، فبلِّغه الغداة ما يُصْنَعُ بنا»

(3)

.

وقال ابن إسحاق أيضًا: وحدَّثني بعض أصحابنا، قال: كان عمر بن الخطَّاب استعمل سعيد بن عامر بن حِذْيَمٍ، فذكر قصَّةً، وفيها من كلام سعيدٍ:«والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأسٍ، ولكنِّي كنتُ فيمَن حضر خُبيب [538] بن عديٍّ حين قُتِل وسمعتُ دعوته»

(4)

، ولم يفسِّر الدعوة، ولا ذَكَر أنه نادى:(يا محمَّد).

وهذه القصَّة ــ أعني قصَّة سعيد بن عامرٍ ــ هي التي جاء فيها تلك الكلمة، رواها أبو نُعَيمٍ في الحلية من طريق الهيثم بن عديٍّ، نا ثور بن يزيد،

(1)

انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الجهاد والسير، بابٌ هل يستأسر الرجل؟ 4/ 67، ح 3045. وكتاب المغازي، باب 10، 5/ 78 - 79، ح 3989. وباب غزوة الرجيع

، 5/ 103، ح 4086.

(2)

فتح الباري 7/ 269. [المؤلف]. بريدة بن سفيان ضعيف، ولكن الرواية مخرجة من طريق أخرى عند الطبراني في الكبير 5/ 259، ح 5284.

(3)

سيرة ابن هشام 2/ 62. [المؤلف]

(4)

سيرة ابن هشام 2/ 62. [المؤلف]

ص: 797

نا خالد بن معدان، قال: استعمل علينا عمر بن الخطَّاب بحمص سعيد بن عامرٍ بن حِذْيَمٍ، فذكر قصَّةً فيها محاورةٌ بين عمر وسعيدٍ، ذكر فيها من كلام سعيدٍ: شهدتُّ مصرع خُبيبٍ الأنصاريِّ بمكَّة وقد بَضَعَتْ

(1)

قريشٌ لحمه، ثم حملوه على جذعة، فقالوا: تحبُّ أن محمَّدًا مكانك؟ فقال: (والله ما أحبُّ أني في أهلي وأنَّ محمَّدًا شيك شوكةً)، ثم نادى:(يا محمَّد)

(2)

.

وخالد بن معدان لم يدرك عمر، وثور بن يزيد ناصبيٌّ، والهيثم بن عديٍّ كذَّبه ابن مَعينٍ والبخاريُّ وغيرهما، وهو الذي روى عن هشام بن عروة عن أبيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمَّى ابنيه عبد العُزَّى وعبد منافٍ. قال النسائيُّ:«محالٌ أن يصدر ذلك من النبيِّ صلى الله عليه وسلم»

(3)

. وقال ابن حجرٍ في اللسان: «هذا من افتراء الهيثم على هشامٍ»

(4)

.

والذي ذكره ابن إسحاق [539] عن عاصم بن عمر بن قتادة وذكره الحافظ عن رواية بريدة بن سفيان هو المعروف من صنيع الصحابة.

ففي هذه القصَّة بعينها في البخاريِّ أنَّ عاصم بن ثابتٍ أميرَ السَّريَّة قال: «أمَّا أنا فلا أنزل على ذمَّة كافرٍ، اللهمَّ أخبر عنَّا نبيَّك»

(5)

.

ولو صحَّ أن خُبيبًا قال: (يا محمَّد)، فلم يقصد به الاستغاثة. كيف وهو مستعدٌّ للموت مستبشرٌ بالشهادة، ولم يحصل له الإغاثة من القتل، ولا قصد

(1)

أي: قَطَعَتْه. النهاية 1/ 134.

(2)

حلية الأولياء، ترجمة سعيد بن عامرٍ، 1/ 245 - 246.

(3)

لسان الميزان، ترجمة الهيثم بن عديٍّ الطائيِّ، 6/ 210.

(4)

المصدر السابق.

(5)

البخاريّ، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع

، 5/ 104، ح 4086. [المؤلف]

ص: 798

إسماع النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بدلالة الروايات الأُخَر، وإنما قال ذلك على ما جرت به عادة المحبِّ المشتاق أن يدعو باسم محبوبه إظهارًا لشدَّة شوقه إليه ومحبَّته له حتى كأنه حاضر لديه، وهذا مجازٌ كما لا يخفى، والله أعلم.

وأما أثر: «يا سارية الجبل» [540] فالجواب عنه ما جاء في القصَّة نفسها، فإنَّ فيها:«فقيل لعمر: ما ذاك الكلام؟ فقال: والله ما ألقيت له بالًا، شيءٌ أتى على لساني»

(1)

.

فبين أنه لم يقصد ذلك الكلام أصلًا، ومع ذلك فإنه أمرٌ لا سؤالٌ يصحبه الخضوع والتذلُّل.

ومع ذلك ففي ثبوت هذه القصَّة مقالٌ، وأقوى طرقها رواية حرملة، عن ابن وهبٍ، عن يحيى بن أيُّوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، وفيها:«ثم قدم رسولُ الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هُزِمنا، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتًا ينادي: «يا سارية الجبل» ثلاثًا، فأسندنا ظهرنا إلى الجبل، فهزمهم الله تعالى، قال: قيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك»

(2)

.

وقوله: «قيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك» يوافق ما جاء في الرواية السابقة أنه شيءٌ جرى على لسانه بغير اختياره، والله أعلم.

ومع ذلك فحرملة ويحيى بن أيُّوب ومحمَّد بن عجلان في كلٍّ منهم مقالٌ.

(1)

الخصائص الكبرى 2/ 285. [المؤلف]

(2)

الإصابة 2/ 3. [المؤلف]

ص: 799

وقد عَدَّ أهلُ الأصول من المقطوع بكذبه ما رُوِيَ آحادًا والدواعي متوفِّرةٌ على نقله.

قال المَحَلِّي: «كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة»

(1)

.

وهذه القصَّة أولى بتوفُّر الدواعي على نقلها من سقوط الخطيب عن المنبر، كما هو واضحٌ، والله أعلم.

وبما ذكرناه عُلِم ما في قول الحافظ بن حجرٍ في الإصابة

(2)

: إن إسنادها حسنٌ.

وأمَّا قولنا في التشهد: (السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته)، فقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «فإن قيل: كيف شُرِعَ هذا اللفظُ وهو خطابُ بَشَرٍ مع كونه منهيًّا عنه في الصلاة

؟ فالجواب: أنَّ ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: «عليك أيها النبي» مع أنَّ لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبيِّ، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصَّالحين، أجاب الطيبي بما مُحَصَّلُه: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علّمه الصحابة، ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان: إنَّ المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيَّات أُذِنَ لهم بالدخول في حَرِيم الحيِّ [541] الذي لا يموت، فقرَّتْ أعينُهم بالمناجاة، فنُبِّهُوا على أنَّ ذلك

(1)

شرح المحلِّي على جمع الجوامع 2/ 79. [المؤلف]

(2)

4/ 176 - 177.

ص: 800

بواسطة نبيِّ الرحمة، وبركة متابعته، فالتفتوا فإذا الحبيب في حَرَم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته.

وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب، وأما بعده فيقال بلفظ الغيبة، وهو مما يخدش في وجه الاحتمال المذكور.

ففي الاستئذان من صحيح البخاريِّ من طريق أبي معمر، عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهُّد قال: وهو بين ظهرانينا، فلما قُبِضَ قلنا: السلام يعني على النبيِّ. كذا وقع في البخاري.

وأخرجه أبو عوانة في صحيحه، والسَّرّاج، والجَوْزَقِي، وأبو نعيم الأصبهاني، والبيهقي من طرق متعددة إلى أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: فلما قُبِضَ قلنا: «السلام على النبيِّ» بحذف لفظ «يعني» ، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم.

[542]

قال السبكي في شرح المنهاج بعد أن ذكر هذه الرواية من عند أبي عوانة وحده: «إن صحّ هذا عن الصحابة دلّ على أن الخطاب في السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير واجب، فيقال: السلام على النبيِّ» .

قال الحافظ: قلت: قد صحّ بلا ريب، وقد وجدتُ له متابعًا قويًّا. قال عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء: أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبيُّ، فلما مات قالوا: السلام على النبيِّ. وهذا إسناد صحيح.

وأما ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن

ص: 801

مسعود، عن أبيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم علّمهم التشهُّد فذكره قال: فقال ابن عباس: إنما كنا نقول: السلام عليك أيُّها النبيُّ إذ كان حيًّا، فقال ابن مسعودٍ:«هكذا عُلِّمْنا، وهكذا نُعَلِّم» ، فظاهره أنَّ ابن عبَّاس قاله بحثًا وأنَّ ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصحُّ؛ لأنَّ أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، والإسناد إليه مع ذلك ضعيفٌ»

(1)

.

[543]

والحاصل أنَّ الخطاب فيه ليس على بابه، وإنما هو على التنزيل أي تنزيل الغائب منزلة الحاضر للدَّلالة على استحضاره في الذهن، كأنَّ ذلك تنبيه للمصلِّي على تحرِّي متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله. وهذا التحرِّي يحمل على استحضار النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الذِّهن حتى كأنَّه حاضر يرشد إلى أعمال الصلاة والمصلِّي يتابعه.

وقد كان الصحابة يقولون ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم سرًّا بحضرته أو غائبين عنه، وإنما عدل عنه مَن عدل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لئلا يظنَّ الجهال أنَّه خطاب حقيقي، ورأوا أن تَوَهُّمَ ذلك كان بغاية البعد في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، أمَّا بحضرته فالمصلي يقول: لو كان خطابًا حقيقيًّا لشُرِعَ لي أن أرفع صوتي حتى أُسْمِعَه، كما أنني لو أردتُ أن أسأله عن شيء أو أستأذنه في شيء أو إخبارَه

(2)

بشيء كان عليّ شرعًا وعادة أن أخاطبه بحيث يسمع كما يسمع غيره بحسب العادة.

وأما مَن بَعُدَ عنه فكذلك؛ لأنَّه يقول: لو كان خطابًا حقيقيًّا لكان عليَّ أن لا أقوله إلا بحضرته فأسمعه كما يسمع غيره على ما جرت به العادة، كما لو

(1)

فتح الباري 2/ 212 - 213. [المؤلف]

(2)

كذا عطفًا على المصدر المسبوك من قوله: «أنْ أسأله» .

ص: 802

أردتُ سؤاله أو استئذانه في شيء أو إخباره بشيء كان عليّ أن أذهب إليه فأقرُب منه بحيث يسمع صوتي، ثم أرفع صوتي فأكلِّمه.

وأما بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فإنَّه لم يَبْقَ ممكنًا لأحد أن يقرُب منه فيخاطبه فيُسمعَه على حسب ما هو معروف في العادة، [فإنه يعرف]

(1)

الإنسان من نفسه أني لو أردتُّ استئذانه صلى الله عليه وسلم، أو إخباره بشيء لكان عليَّ أن أذهب إليه وأقرُب منه وأرفع صوتي فأسمعه كما جرت به العادة في غيره.

فما بقي إلا احتمال ما هو على خلاف العادة، وإذا انفتح هذا الاحتمال لم يكن له حدٌّ يُوقَف عنده.

ورأى الآخرون أنَّ توهُّم الجهَّال كونه خطابًا حقيقيًّا بعيدٌ؛ لأنَّ القرائن العقليَّة والعاديَّة والشرعيَّة الصارفة عن الحقيقة واضحة، والناس يقولون إلى الآن: رحمك الله يا فلان، ويكون فلان قد مات منذ زمان، ودُفن بعيدًا عن القائل بمراحل، والقائل لا يشك أنَّ فلانًا لا يسمعه، وإنما أراد: رحم الله فلانًا، وذكر الله فلانًا بخير، ولكنَّه أتى بلفظ الخطاب دلالة على شدَّة استحضاره فلانًا في ذهنه، والقرينة الدالَّة على أنَّ الخطاب هنا مجاز هي ما عرفه الناس من العادة أنَّ [544] الغائبَ والميِّت لا يسمع.

وذِكْرُ الميت بلفظ الخطاب لا تكاد تخلو عنه مرثيَة من مراثي العرب.

وفي شعر مُهَلْهِلٍ كثيرٌ منه، مع أنه القائل

(2)

:

(1)

كُتبت الكلمتان بعضهما فوق بعض، وهذا الذي ظهر لي.

(2)

انظر: الأمالي لأبي علي القالي 1/ 24 والزِّير هو الذي يكثر من زيارة النساء وينشغل باللهو بهنَّ عن طلب المعالي، يقول: لو رأى كليب ما صنعتُ بقومه بموضع الذنائب لعَلِم أني غير زِير.

ص: 803

فلو نُبِشَ المقابرُ عن كليب

فيخبرَ بالذنائب أيُّ زِير

بل كثيرًا ما يخاطبون الجمادات والمعاني.

وفي الحديث: «يا أرض ربي وربك الله»

(1)

.

وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لمكة: «والله إنك لخير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلي الله»

الحديث

(2)

.

وقوله لها: «ما أطيبك من بلد» . الحديث

(3)

.

(1)

سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب ما يقول الرجل إذا نزل المنزل، 1/ 349، ح 2603. [المؤلف]. وأخرجه أحمد (2/ 132 و 3/ 123) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا كان في سفر فأقبل الليل ص 378 ح 563، وابن خزيمة في صحيحه في كتاب المناسك، باب صفة الدعاء بالليل في الأسفار 2/ 1224 - 1225 ح 2572، والحاكم في كتاب المناسك، الدعاء عند بدو الفجر في السفر 1/ 446 - 447 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ولم يتعقبه الذهبي، وحسنه الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار. انظر الفتوحات الربانية 5/ 164. ولكن في إسناده الزبير بن الوليد، وهو مجهول. انظر السلسلة الضعيفة 10/ 392 ح 4837.

(2)

جامع الترمذيّ، كتاب المناقب، بابٌ في فضل مكَّة، 2/ 327، ح 3925، وقال:«حسنٌ غريبٌ صحيحٌ» . سنن ابن ماجه، كتاب المناسك، باب فضل مكَّة، 2/ 138، ح 3108. المستدرك، كتاب الهجرة، تعاقب سراقة رسول الله صلى الله عليه وسلم

، 3/ 7، وقال:«صحيحٌ على شرط الشيخين» ، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف]

(3)

جامع الترمذيّ، الموضع السابق، 2/ 327، ح 3926، وقال:«حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه» . المستدرك، كتاب المناسك، قوله صلى الله عليه وسلم لمكَّة:«ما أطيبك من بلدٍ» ، 1/ 486، وقال:«صحيح الإسناد» ، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف]

ص: 804

وقول عمر للحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع» الحديث

(1)

.

ومثل هذا لم يكن يشتبه على أحد في القرون الأولى، ولكن حالَ الحالُ وترأَّس الجهَّال، وإلى الله المشتكى.

وأمَّا حديث الأعمى ففي صحَّته نظر؛ فإنَّه تفرَّد به أبو جعفر الخطمي، فروي عنه عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، عن عمِّه عثمان بن حُنيف، وروي عنه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حُنيف أنَّ رجلًا ضريرًا أتى النبيَّ صلَّى الله عليه [545] وسلَّم فقال: يا نبيَّ الله، ادع الله أن يعافيني. قال:«إن شئت أخَّرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك» . قال: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضَّأ وأن يصلِّي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء:«اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجَّه بك إلى الله في حاجتي هذه فتقضى لي وتشفِّعني فيه وتشفِّعهُ فيّ» . قال: ففعل الرجل فبرئ. هذا لفظ رواية الإمام أحمد في المسند

(2)

.

وقوله: «وتشفِّعني فيه» أراد: إني أدعوك أن تجيب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي دعا لي فاستجب دعائي هذا، فأطلق على دعائه بإجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له

(1)

البخاريّ، كتاب الحجّ، باب ما ذُكِر في الحجر الأسود، 2/ 149، ح 1597. مسلم، كتاب الحجّ، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، 4/ 67، ح 1270 (250). [المؤلف]

(2)

4/ 138. [المؤلف]

ص: 805

شفاعة، وكأنه من باب المشاكلة كقوله تعالى حكاية عن عيسى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، والله أعلم.

وقوله: «يا محمد» إن كان خطابًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بحضرته فلا حجَّة فيه للمخالف، وإن كان علّمه أن يقول ذلك بعيدًا عنه أي بحيث لا يسمعه عادة فسياق الدعاء ظاهر [546] في أنَّه لا يُراد من ذلك إسماع النبي صلى الله عليه وسلم ولا حقيقة الخطاب، وإنما هو من باب المجاز الذي تقدَّم ذكره، ومن القرينة على ذلك أنه لم يقع في متن الدعاء طلب شيء من النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنَّ أصل المعنى: اللهم إني أتوجَّه إليك بمحمد في حاجتي، وإنما عدل إلى الخطاب إشارة إلى أنه ينبغي للداعي بهذا الدعاء أن يكون مستحضرًا لفضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وكرامته على ربه حتى كأنه صلى الله عليه وسلم حاضر أمامه.

وعلى هذا المجاز يُحمل ما يُروى أن عثمان بن حُنيف علّم رجلًا هذا الدعاء في خلافة عثمان، وما يُرْوَى من دعاء بعض التابعين بنحوه.

وعلى كلِّ حال فليس في الدعاء سؤال شيء من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما السؤال من الله تعالى.

وأما ما فيه من التوسُّل أي سؤال الله عز وجل بنبيِّه صلى الله عليه وسلم فتلك مسألة أخرى ليس فيها سؤال من غير الله عز وجل، ومَنْ مَنع من هذا التوسُّل لم يقل: إنه عبادة لغير الله [547] تعالى، ولا شرك، وغايته أن يقول: هو حرام.

وممن مَنَع هذا التوسُّلَ سلطانُ العلماء عزُّ الدِّين بن عبد السَّلام الشافعي إلَّا أنه استثنى النبي صلى الله عليه وسلم معلِّقًا ذلك بصحة الحديث

(1)

.

(1)

لعله يشير إلى ما في فتاوى العز ص 126 من إجازته الإقسام على النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم معلقًا ذلك بصحة حديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم بعض الناس أن يقول في دعائه: «اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد نبي الرحمة» ، واللفظ الوارد:«أتوسل إليك» .

ص: 806

وقد التزم بعض العلماء صحة الحديث وحمله على أنه توسُّل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا بذاته، واستدلَّ على ذلك بحديث البخاريِّ رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كانوا إذا قُحِطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا» . قال: (فيُسْقَوْن)

(1)

.

قال: فالمراد التوسل بدعائه لِمَا جاء أنَّ عمر كان يقول هذه الكلمات عندما يرفع العباس يديه يدعو، ولأنَّ قوله: إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا إلخ ظاهر في أنَّ المعنى: وإنَّ نبينا قد توفِّي فلا يمكننا التوسُّل به، فلذلك نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا.

ومعلوم أنَّ الذي فات بموت النبيِّ صلى الله عليه وسلم إنما هو أن يدعو لهم في حاجتهم تلك، فثبت بذلك أن التوسُّل به إنما هو التوسُّل بدعائه للمتوسِّل بحاجته تلك. [548] ولو كان التوسُّل بذاته، أو بكرامته على ربه، أو بدعائه لأمَّته في الجملة لما فات ذلك بموته صلى الله عليه وسلم، وهكذا لو جاز سؤال الدعاء والشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته لما فات المقصود بالموت، ولكانوا يسألون منه الدعاء والشفاعة ثم يتوسَّلون.

وكلام أمير المؤمنين عمر ظاهر في أنَّ توسُّلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم قد فات

(1)

البخاريّ، كتاب الجمعة، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، 2/ 27، ح 1010. [المؤلف]

ص: 807

بموته، وكان يقول ذلك على رؤوس الأشهاد في اجتماعهم للاستسقاء، وأصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعون، ولم ينكر ذلك أحد منهم، ومثل هذا إجماعٌ عند جماعة من أهل العلم

(1)

. والله اعلم.

هذا، وقد أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يسلّم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام»

(2)

. وفي سنده حميد بن زياد أبو صخر الخرَّاط، قال أحمد ويحيى: لا بأس به، وقال يحيى مرَّة أخرى: ضعيف، وكذا قال النسائي

(3)

.

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان

(4)

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومَنْ صلَّى [549] عليَّ نائيًا أُبْلِغته»

(5)

.

(1)

انظر: قاعدة جليلة في التوسُّل والوسيلة 82، 210 - 211.

(2)

سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 1/ 278، ح 2041. [المؤلف]

(3)

انظر: العلل ومعرفة الرجال 3/ 52 (4126)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/ 222، الضعفاء والمتروكون للنسائي ص 85.

(4)

انظر: شعب الإيمان، بابٌ في تعظيم النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره، ومنه: الصلاة والتسليم عليه كلَّما جرى ذكره، 4/ 213، ح 1481.

(5)

ذكره في المشكاة ص 87. ثم رأيته في جزء حياة الأنبياء للبيهقيِّ من طريق العلاء بن عمرٍو الحنفيِّ، ثنا أبو عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، فذكره مرفوعًا. ثم قال البيهقي: «أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السُّدِّيُّ فيما أرى، وفيه نظرٌ» . جزء حياة الأنبياء ص 12، [ح 18]. قلت: هو هو. ففي الميزان [4/ 33] في ترجمة العلاء بن عمرٍو الحنفيُّ [كذا في الأصل، والصواب: في ترجمة محمَّد بن مروان السُّدِّيِّ]: «ثنا محمَّد بن مروان، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ» ، فذكر الحديث. ومحمَّد بن مروان السُّدِّيُّ الصغير كذَّابٌ يضع الحديث. [المؤلف]. والعلاء بن عمرٍو الحنفيُّ متروكٌ. والحديث قال فيه الألبانيُّ:«موضوعٌ» . انظر: السلسلة الضعيفة ح 203.

ص: 808

وجاءت آثارٌ أخرى قد يؤخذ منها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقع من الأصوات عند قبره بأبي هو وأمي، ولكن لم أقف على ما هو صحيح صريح في ذلك، ولم يثبت عن السلف مخاطبته عند القبر إلا بالسَّلام، وأنت خبير أنَّ السلام ليس فيه سؤال ولا استعانة ولا استغاثة، وإنما هو دعاء له صلى الله عليه وسلم.

وقد اختلف أهل العلم في سماع الموتى فأنكرتْه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها سلفًا وخلفًا، واحتجُّوا بقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 80 - 81]

(1)

. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 35 - 36]، وقال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 22 - 23].

[550]

ولم تقبل عائشة حديث ابن عمر وغيره في وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى المشركين الذي أُلْقُوا في قليب بدر وندائه إياهم بأسمائهم وقوله: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا» فقيل له: يا رسول الله، أتخاطب أقوامًا قد جَيَّفُوا؟ فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول

(1)

ومثلها في سورة الروم: 52 - 53. [المؤلف]. ووقع في الأصل 25 - 35.

ص: 809

منهم»، فقالت عائشة:«ما قال: إنهم يسمعون ما أقول، إنما قال: إنهم الآن ليعلمون أنَّ ما كنتُ أقول لهم حق»

(1)

. تعني: وأمَّا مخاطبته صلى الله عليه وسلم لهم فلم تكن لكي يسمعوا، وإنما المقصود منها اعتبار مَن يسمعه من الأحياء أو يبلُغه.

وقال جماعة: أمَّا الموتى فلا يسمعون، ولكنَّ الله تعالى أسمع أهل القليب كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى في آية فاطر:{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] فدلَّ أنَّ العادة المستمرَّة عدمُ سماعهم، ولكنَّ الله تعالى إذا شاء أسمعهم.

وفي صحيح البخاريِّ: «قال قتادة: أحياهم الله ــ يعني أهل الطَّوِيِّ

(2)

ــ حتى أسمعهم قولَه صلى الله عليه وسلم توبيخًا وتصغيرًا ونقمةً وحسرةً وندمًا»

(3)

.

وفي فتح الباري: «والجواب عن الآية: أنه لا يُسمعهم وهم موتى ولكنَّ الله أحياهم حتى سمعوا كما قال قتادة

، وقال السهيلي ما محصَّله: إنَّ في نفس الخبر ما يدلُّ على خرق العادة بذلك للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ لقول الصحابة له: أتخاطب أقوامًا قد جَيَّفوا .... ».

ثم قال الحافظ: «وقد اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وكذلك المراد بـ {مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، فحملته

(1)

انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهلٍ، 5/ 76 - 77، ح 3979. [المؤلف]

(2)

أي: البئر. انظر: القاموس المحيط 1687.

(3)

صحيح البخاريِّ، الموضع السابق، 5/ 76، ح 3976. [المؤلف]

ص: 810

عائشة على الحقيقة، وجعلته أصلًا احتاجت معه إلى تأويل قوله:«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وهذا قول الأكثر

»

(1)

.

وقال في الجنائز: «وقال ابن التِّين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية؛ لأن الموتى لا يسمعون بلا شكٍّ، لكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع، كقوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية [الأحزاب: 72]، وقوله:{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} الآية [فصلت: 11]

(2)

.

[551]

وقال آخرون: إن الموتى يسمعون الأصوات التي تقع عند قبورهم.

واحتجُّوا بالحديث المذكور، وبحديث الصحيحين:«إنَّ العبد إذا وُضِع في قبره وتولَّى عنه أصحابه ــ وإنَّه ليسمع قرع نعالهم ــ أتاه ملكان» الحديث

(3)

.

وبما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في شهداء أحد: «أشهد أنَّ هؤلاء شهداء عند الله تعالى فأتُوهم وزوروهم، فوالذي نفسي بيده لا يُسلِّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا رَدّوا عليه»

(4)

.

(1)

فتح الباري 7/ 215. [المؤلف]

(2)

فتح الباري 3/ 152. [المؤلف]

(3)

البخاريّ، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 98 - 99، ح 1374. مسلم، كتاب الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميِّت من الجنَّة أو النار عليه

، 8/ 161، ح 2870. [المؤلف]

(4)

المستدرك، كتاب التفسير، قراءات النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، زيارة قبور الشهداء، 2/ 248. [المؤلف]. وقال ابن رجب بعد كلامه على الحديث: «ولعل المرسل أشبه

وبالجملة فهذا إسناد مضطرب». أهوال القبور ص 142.

ص: 811

وبما أخرج ابن عبد البرِّ ــ وقال عبد الحقِّ: «إسناده صحيحٌ» ــ عن ابن عباس مرفوعًا: «ما من أحد يمرُّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلا عرفه وردّ عليه»

(1)

.

وأجابوا عن الآيات بتأويلات لا تسمن ولا تغني من جوع.

وإذا رجع الأمر إلى التأويل فتأويل ما يصحُّ من تلك الأحاديث توفيقًا بينها وبين الآيات هو المتعيِّن؛ لأن القرآن متواتر بلفظه الموجود، والأحاديث تحتمل خطأ الراوي، أو روايته بالمعنى ونحو ذلك [552]، فأصحّ تلك الأحاديث هو حديث قَلِيب بدر وهو محمول على أنَّ الله تعالى أسمعهم خرقًا للعادة، ويليه حديثُ «وإنه ليسمع قرع نعالهم» وهو محمول على أنَّ المراد الكناية عن قربهم من القبر، أي: بحيث لو كان يَسمَع لسَمِع قرعَ نعالهم، وقد قيل: إنه إنما يسمع حينئذ لأنها تُردُّ روحه في جسده للسؤال، كما جاء في حديث البراء عند أصحاب السنن وصحَّحه أبو عَوانة كما في فتح الباري

(2)

، وفيه نظر.

فأما حديث المستدرك فهو من طريق عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، تعقَّبه الذهبيُّ فقال: كذا قال، وأنا أحسبه موضوعًا. وقطن لم يرو له البخاري، وعبد الأعلى لم يُخرجا له.

(1)

الاستذكار 2/ 165، الأحكام الوسطى 2/ 152 - 153. وتعقبه ابن رجب فقال:«يشير إلى أن رواته كلهم ثقات، وهو كذلك إلّا أنه غريب بل منكر» أهوال القبور ص 141.

(2)

3/ 152. [المؤلف]

ص: 812

أقول: رواه الحاكم عن عبيد الله بن محمد القطيعي، عن أبي إسماعيل الترمذي، عن عبد العزيز الأويسي، عن سليمان بن بلال، عن عبد الأعلى، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة.

وليس فيهم مَن يُنْظَرُ فيه إلا عبد الأعلى، ومع ذلك فقد قال ابن معين: أولاد عبد الله بن أبي فروة كلهم ثقات إلَّا إسحاق، وذكره ابن حبان في الثقات. فأما ذكرُ ابن حبان في الثقات فلا ينافي الجهالة، وأمَّا قول ابن معين فلا يزيل الشبهة؛ لاحتمال أن يكون لم يستحضر عبد الأعلى عند إطلاقه تلك الكلمة العامَّة.

ثمَّ رأيتُ الحاكم أخرج في المغازي من طريق العطّاف بن خالد، عن عبد الأعلى هذا، عن أبيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم زار قبور الشهداء بأحد فقال: «اللهم إنَّ عبدك ونبيَّك يشهد أنَّ هؤلاء شهداء، وأَّنه مَنْ زارهم وسلَّم عليهم إلى يوم القيامة ردّوا عليه

» هذا إسناد مدنيٌّ صحيح، قال الذهبي: مرسل

(1)

.

قلت: وعبد الله بن أبي فروة مجهول، وبالجملة فالظاهر أنَّ هذا الحديث لو كان صحيحًا لاشتهر عند أهل المدينة وتناقلوه، والله أعلم.

فإن صحَّ فليس فيه التصريح بأنهم يسمعون، فيُحْمَل على أنَّ الله تعالى يُبَلِّغُهُمْ سلامَ مَن سلَّم عليهم، وفائدة الوقوف على قبورهم الاعتبار والادِّكار والتأسِّي، والله أعلم.

(1)

المستدرك، كتاب المغازي، ردّ جواب السلام من شهداء أحد وكلامهم، 3/ 29. [المؤلف]

ص: 813

ومما يؤيد ذلك ما في صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله [يعني ابن مسعود]

(1)

عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، قال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل .... »

(2)

.

قلت: والآية نزلت في شهداء أحد اتِّفاقًا، وسياق الآيات ظاهر في ذلك، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية [آل عمران: 166 - 169].

وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لما أُصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهارَ الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلَّقة في ظلِّ العرش» الحديث. وفيه: فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية

(3)

، وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال:«صحيح على شرط مسلم» ، وأقرَّه الذهبي

(4)

. وفيه تدليس أبي الزبير فإنه من طريقه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

(1)

هذه الزيادة من المؤلِّف، والقوسان المعقوفان منه.

(2)

صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنَّة، 6/ 38 - 39، ح 1887. [المؤلف]

(3)

سنن أبي داود، كتاب الجهاد، بابٌ في فضل الشهادة، 1/ 340، ح 2520. [المؤلف]

(4)

المستدرك، كتاب التفسير، سورة آل عمران، «أرواح الشهداء في جوف طيرٍ

»، 2/ 297 - 298. [المؤلف]

ص: 814

وأمَّا حديث ابن عبد البرِّ فنقل صاحبُ روح المعاني عن الحافظ ابن رجب أنَّه قال فيه: [553] ضعيف، بل منكر

(1)

.

قلت: وقد عثرت له على علَّة قادحة بَيَّنْتُهَا في رسالتي «عمارة القبور»

(2)

.

وزيارة القبور والسلام على المدفونين بقول: «السلام عليكم أهل ديار قوم مؤمنين» ثابت، وليس هو بصريح في أنهم يسمعون، فيحمل على أن المراد سؤال الله تعالى أن يُبلِّغَهُم السلام، وإنما أُوْرِدَ الكلام بلفظ الخطاب لحضور ما يذكرِّ بهم وهو قبورهم، كما نرى الناس إذا رأوا جنازة ميت قالوا: رحمك الله، أو غفر الله لك، ولا يريدون بذلك إسماعه، ولا يرون أنه يسمع، وهكذا نرى الناس إذا رأوا صورة يعرفون صاحبها ربما يخاطبون الصورة كأنهم يخاطبون صاحبها فيقولون: ما جاء بك إلى هنا، ونحو ذلك.

والحاصل أنَّ استعمال الخطاب في غير موضعه كثير في اللغة وفي عرف الناس، ومهما يكن في هذا التأويل من خلاف الظاهر فإنَّ [554] ارتكابه أهونُ من ارتكاب تأويل الآيات القرآنية، والله أعلم.

فأمَّا ما تقدَّم من سماع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ففي صحَّة تلك الآثار نظر، وقد لا يبعد أن تكون تلك خصوصية له بأبي هو وأمِّي، ولكنَّ سؤال الموتى على كل حالٍ طلبُ نفع غيبيٍّ؛ لأنَّه لا يُدْرَك بالحسِّ والمشاهدة أنَّ الموتى يسمعون أو يضرُّون وينفعون أو يدعون ويشفعون وإن كنا عند قبورهم، وليس عندنا

(1)

انظر: روح المعاني 6/ 456. [المؤلف]. وقد مرَّ تخريجه ونقل كلام ابن رجب قريبًا ص 812.

(2)

لم أجده في عمارة القبور المطبوع.

ص: 815