الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قولهم لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} .
وعلى هذا المعنى الثاني فالمعنى في قولهم في العجل: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88]: فنسي موسى أن يتخذه لكم لمَّا طلبتم منه ذلك بقولكم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} . وقولهم: {إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ربما يؤيد الثاني؛ إذ لم يقولوا: ربكم ورب موسى. وكذا قول هارون في نصحهم: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} يأبى احتمال اعتقادهم الحلول؛ إذ لو اعتقدوه لما كان في ذلك ردٌّ عليهم؛ لأنهم يقولون: نعم، ربنا الرحمن، وهو حلَّ في هذا العجل. وكذلك قول موسى في توبيخهم:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} فإنه قصر للألوهية على الله تعالى، أي: إن إلهكم الله لا غيره، فتدبَّرْ وتأمَّلْ.
الأناسي الأحياء وأرواح الموتى
قد تقدَّم الكلام على قوم نوح وأنهم كانوا يعبدون تماثيل أولئك الأشخاص الصالحين وأرواحهم، ولعلهم كانوا يعتقدون في أرواحهم قريبًا مما يعتقده عُبَّاد الملائكة في الملائكة على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. ولكن استبعاد قوم نوح أن يكون البشر رسلًا، وقولهم:{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]. يدلُّ على أنَّ القوم لم يكونوا يرفعون أرواح الموتى إلى درجة الملائكة. وعلى كل حال فالظاهر أنهم كانوا يزعمون أنَّ أولئك الموتى يشفعون لمن يعبدهم، أو أنَّ الله عز وجل يثيب مَنْ يعبد أولئك الموتى لما كانوا عليه من الصلاح، والله أعلم.
[372]
فأما فرعون فأخَّرنا البحث في شأنه إلى البحث في شرك أسلافه من المصريِّين، وسيرد ذلك في الكلام على تأليه الأشخاص المتخيَّلة إن شاء الله تعالى.
وأما الذي حاجَّ إبراهيم في ربه فالمشهور أنه من قومه، وأنه كان ملِكَهم، وقوم إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب والروحانيين ويعترفون بوجود الله تعالى وربوبيته على ما مرَّ، وسيأتي بسطه في الكلام على عبادة الكواكب إن شاء الله.
ومن البعيد أن يكون الملك يدَّعي الربوبية العظمى، أو أنه لا إله لرعيته إلا هو، ويكون رعيته كما سمعت.
فأما قوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فليس بنصٍّ في دعوى الإحياء والإماتة مطلقًا، بل يحتمل أنه إنما ادَّعى الإحياء الذي هو تخلية مَن يستحقُّ القتل والإماتة التي هي القتل، ويعيِّن هذا الاحتمال أمور:
الأول: ما سمعت من ديانة قومه.
الثاني: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} ، فقوله:{أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} بيان لعلَّة محاجته لإبراهيم، والمُلْك إنما يكون علَّةً [373] لدعوى القدرة على تركه قتلَ مَن استحقَّ القتل وقتلِه مَن أراد قتلَه.
الثالث: ما ورد في الآثار أنه برهن على دعواه بأنْ دعا رجلًا فقتله، ودعا آخر يستحقُّ القتل فأطلقه
(1)
، ولو كان إنما فعل هذا لإثبات أنه الذي يحيي
(1)
رُوِي هذا المعنى عن ابن عبَّاسٍ، وقتادة، والربيع بن أنسٍ، وابن جريجٍ. انظر: تفسير ابن جرير 4/ 571 - 576. الدرّ المنثور 2/ 25.
ويميت مطلقًا لأجابه إبراهيم عليه السلام بما يثبت أنَّ ما صنعه لا يدلُّ على دعواه، كأن يقول له: إن الإحياء يكون بالتوليد، والإماتة تكون بغير القتل، فإن كنت أنت فاعلَ ذلك فامنع رعيَّتك أنْ يُولد فيهم مولود وأن يموت منهم ميت شهرًا مثلًا، أو: أخبِرْنا كَمْ مولودًا وُلد وكَمْ ميتًا مات في مدينتك اليوم، وسمِّهم بأسمائهم ومواضعهم؛ فإنه لا يجوز أن تكون أنت فاعل ذلك وأنت تجهله، فكيف ترك إبراهيم عليه السلام هذا القبيل وانتقل إلى الشمس؟
فالذي يظهر لي أنَّ هذا الطاغية كلَّم الخليل عليه السلام في أن يطيعه، وقال له: إن أطعتني فأنا أطلقك، وإن أبيتَ قتلتُك، فأجابه الخليل عليه السلام بقوله:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، أي: إنك لا تقدر على قتلي ما لم يسلِّطك الله عليَّ، ولا على تركي حيًّا ما لم يكن الله عز وجل [374] يريد ذلك، فجحد الطاغية ذلك، كأنه يقول: إني طيلة ملكي أقتل من أريد وأطلق من أريد، ولا مانع يمنعني عما أريد من ذلك، وها أنا الآن أدعو هذا المستحق للقتل فأطلقه، وأدعو هذا الآخر فأقتله.
وليس هذا بدليل على إنكار الطاغية ربوبية الله عز وجل، بل يجوز أن يكون يزعم أن الله عز وجل فوض أمر الرعيَّة إلى مَلِكهم يصنع فيهم ما أراد، فلم يكن للخليل عليه السلام في الجواب إلا طريقان:
الأولى: أن يدعو الله عز وجل فيميت الذي أطلقه الطاغية فورًا ويحول بينه وبين الذي أراد قتله.
الطريق الثانية: أن يعدل إلى أمر لا تتناوله قدرة الخلق، ولعله إنما عدل عن الأولى لوجوه:
الأول: أنه يحتاج إلى إظهار خارق، وإنما يلجأ الأنبياء عليهم السلام إلى الخارق فيما لا يتيسر الاحتجاج عليه ببرهان عاديٍّ، كإثبات رسالتهم.
ومن الحكمة في ذلك: بُعد البراهين العادَّية عن الشبهة.
ومنها: أن استنباط الحجة أعظم أجرًا للأنبياء من حدوث الخارق.
ومنها: أن في المحاجة بالحجج العادية إرشادًا لأتباع [375] الأنبياء ممن لا يظهر على يده الخارق، وغير ذلك.
الوجه الثاني: أن الغالب أن الله عز وجل إذا أظهر الخارق لقومٍ فلم يؤمنوا عقَّبه بالعذاب، ولم يكن الخليل عليه السلام يريد تعجيل العذاب رجاء أن تفيد المطاولة في القوم أو بعضهم أو يخرج من أصلابهم من يؤمن.
الوجه الثالث: لعلَّ الخليل عليه السلام لم يكن حينئذ قد نُبِّئ، وإنما محاجته مع قومه ومع طاغيتهم بإيمانه الذي هداه له الله تعالى من طريق عقله ونظره، ويشهد لهذا قول قومه:{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ، والفتى: الشاب
(1)
، وقد اشتهر أن الله عز وجل لم يبعث نبيًّا إلا بعد أربعين سنةً من عمره
(2)
.
بقي علينا أن نبين وجه دلالة عجزه عن الإتيان بالشمس من مغربها على أنه إنما يقتل ويطلق بإذن الله عز وجل، وأن الله عز وجل قد يأذن له وقد يمنعه، فأستعين الله عز وجل وأستهديه، ثم أقول:
(1)
انظر: المصباح المنير 462.
(2)
مرَّ ذكره في ص 467، ولا أصل له.
[376]
إن العاقل إذا تفكر في خلق الله تعالى الشمسَ جارية بمصالح عباده وأنشأ بها التغيرات الجوية والأرضية التي لها دخل عظيم في حياة الحيوان وطعامه وشرابه وتنفُّسه وغير ذلك مما لا يحصى، وبعضه يعرفه الناس جميعًا، ومن كان له إلمام بعلم الطبيعة كان علمه بذلك أوسع.
وقد كان لقوم إبراهيم عليه السلام معرفة بأحوال الشمس وغيرها من الكواكب؛ لأنهم كانوا يعبدونها، وعبادتها تدعو إلى تعرف شؤونها، وكذلك كانوا يستدلون بأحوالها على الحوادث الأرضية كما يدل عليه قوله عز وجل في إبراهيم:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} ، أي: أوهمهم بأنه استدلَّ بأحوال النجوم على أنه سيسقم، وإنما يعني عليه السلام بهذا الخبر أنَّ كلَّ إنسان لا بدَّ أن يعتريَه السَّقَم، والله أعلم.
أقول: إذا تفكَّر العاقل في ذلك عَلم شدَّة عناية الله تعالى بالخلق، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يدَعُهم مع ذلك هملًا يعمل فيهم بعضُهم ما يشاء في غير مصلحة يعلمها الله عز وجل ويُقدِّرها؟ وأبعدُ من ذلك أن يدَع مَن يوحِّده [377] فريسة لمن يشرك به بدون قضاء منه عز وجل لحكمة يعلمها.
فالإنسان الذي يزعم أنه يفعل في الخلق ما يشاء بدون قدَرٍ من الله تعالى ولا قضاء كأنه ينكر وجود الشمس وجَرْيَها في مصالح العباد، أو يزعم أنه هو الذي يجريها.
ومما يشبه هذا الاستدلال قولُ الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].
قال أبو السعود: "فإنَّ مَن تدبَّرها حقَّ التدبُّر أيقن
…
، وأنَّ لهذه
التدبيرات المتينة عواقبَ وغاياتٍ لا بدَّ من وصولها .... "
(1)
.
أقول: وإيضاحه والله أعلم: أنكم إذا تدبرتم هذه الآيات علمتم أنَّ الخالق الذي دبَّر العالم هذا التدبير لم يكن ليخلقكم عبثًا ولا ليدَعَكم سُدى. وإذا كان الأمر كذلك فلا بدَّ من البعث، كما قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. قال أبو السعود: "فإنَّ خلقكم بغير بعثٍ من قَبيل العبث"
(2)
. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
…
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40].
وعلى هذا فإنما بُهت الذي كفر لقيام الحجة على عجزه عن قتل أحد أو استحيائه بغير قضاء الله تعالى وقدَره، فأما الإتيان بالشمس من مغربها فإنه لم يدَّع القدرة عليه أصلًا، ولو كان يدَّعيه لأمكنه أن يعاند فيقول: لا أريد الإتيان بالشمس من المغرب؛ فإن ذلك منافٍ لحكمتي ومصالح رعيتي، وقد أقمت أنا الحجة على قدرتي على الإحياء والإماتة وأنت الجاحد لذلك، فأنت المطالَب بما يدفع حجتي، أو نحو ذلك، والله أعلم.
وهناك معانٍ أخر حُملت عليها القصَّة ليس فيها أقرب مما مرَّ.
وقد رُوي أن المحاجَّة كانت قبل
(3)
إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار
(4)
؛ فإن صحَّ فيكون الله عز وجل جعل في ذلك برهانًا حسِّيًّا [378] على
(1)
تفسير أبي السعود 1/ 742. [المؤلف]
(2)
تفسيره 2/ 207. [المؤلف]
(3)
سبق في ص 469: قُبيل.
(4)
نُقِل هذا المعنى عن مقاتل. انظر غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري 2/ 22.