المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمن قاس الملائكة على البشر - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٣

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود

- ‌ عبادة الشياطين

- ‌ عبادة الهوى

- ‌النظر فيما كان يعتقده المشركون في آلهتهم ويعملونه

- ‌تفسير عبادة الأصنام

- ‌عُبَّاد النار

- ‌عجل السامري

- ‌الأناسي الأحياء وأرواح الموتى

- ‌تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام

- ‌تأليه الأحبار والرهبان

- ‌ شرع الدين خاصٌّ بالربِّ

- ‌عبادة القبور والآثار

- ‌عبادة أشخاصٍ لا وجود لها

- ‌المصريُّون

- ‌ في عهد إبراهيم عليه السلام

- ‌ في عهد موسى عليه السلام

- ‌العرب وتأليه الإناث الخياليَّات

- ‌تحرير العبارة في تعريف العبادة

- ‌ فصلٌ في الدعاء

- ‌الدعاء عبادةٌ

- ‌ أحكام الطلب، ومتى يكون دعاءً

- ‌من أشنع الغلط في هذا الباب الاعتمادُ على التجربة

- ‌مَن قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمَن قاس الملائكة على البشر

- ‌ الشبهات ورَدُّها

- ‌شبه عُبَّاد الأصنام

- ‌ شُبَه عُبّاد الأشخاص الأحياء

- ‌شُبَه النصارى في عبادتهم الصليب

- ‌شبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان

- ‌شُبَهُ عَبَدَةِ الملائكة

- ‌تقسيم الكفر إلى ضربين

- ‌الأعذار

- ‌ ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شركوأشكل تطبيقها على الشرك

- ‌تمهيد

- ‌ الطِّيَرة

- ‌ فصل في التِّولة والسحر

- ‌ التأثير على ضربين:

- ‌ حكم السحر وتعليمه وتعلمه

- ‌ طرق تحصيل قوة السحر

- ‌ القسم بغير الله عز وجل

- ‌حقيقة القَسَم

- ‌ تسمية النذر يمينًا وحلفًا والقول بأن كفارته كفارة يمين أمر معروف عن السلف

- ‌ الشرك إذا أُطْلِق في الشريعة في مقام الذَّمِّ كان المراد به الشركَ بالله عز وجل، بأن يُشْرِكَ معه غَيْرَه في العبادة على سبيل العبادة للشريك

- ‌ لم يجئ في الشرع نصٌّ على أنَّ الرئاء شرك بالله، وإنما جاء أنَّه شرك فحسب

- ‌قول ما شاء الله وشئت

- ‌فهرس مصادر التحقيق

الفصل: ‌من قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمن قاس الملائكة على البشر

سلطان من الله عز وجل في الإذن بخطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو خطاب غيره من الموتى إلا بالسَّلام ونحوه، فمَن تجاوز ذلك إلى السؤال منه صلى الله عليه وسلم أو من غيره فلا أعلم له سلطانًا، وقد أغنى الله المسلمين عن ذلك بكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

و‌

‌مَن قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمَن قاس الملائكة على البشر

، وقد مَرَّ الكلام على ذلك.

فأمَّا ما شاع بين الناس أنَّ أرواح الأنبياء والصالحين تتصرَّف في الكون، فلو صحَّ ذلك لم يكن مُسَوِّغًا لجواز السؤال منها؛ فإنَّ الملائكة يتصرَّفون في الكون قطعًا، ومع ذلك فالسؤال منهم دعاء وعبادة لهم وشرك بالله عز وجل كما تقدَّم، وسائر ما ذكرناه لتوجيه السؤال منهم يأتي مثلُه في أرواح الموتى.

وحسبك من ذلك قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، فلو كانت أرواح الموتى تتصرَّف بهواها لفسد الكون، بل ولهاجت الفتن بين الأرواح؛ كأن يستغيث أحد الخصمين بروحٍ، والآخر بروحٍ أخرى، فيقوم النزاع بين الروحين، كلٌّ منهما تحاول نفع صاحبها ويتعصَّب لها جماعة من الأرواح، وهكذا، فإذا كان للأرواح ما يزعمه الجهَّال من القدرة العظيمة لزم فسادُ الكون لا محالة.

فالحقُّ المقطوع به أنه إن كان لأرواح الموتى تصرُّف فهو كتصرُّف الملائكة إنما يكون بأمر الله تعالى، قال تعالى فيهم:{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [556] وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]. وعليه فالسؤال من الأرواح كالسؤال من الملائكة سواء، وقد تقدَّم حكمه. والله الموفق، لا إله إلا هو.

ص: 816

فأمَّا الجنُّ فإنهم وإن كانوا يتصرَّفون بهواهم واختيارهم، إلَّا أنَّ تَعَرُّضَهُم للبشر بالإيذاء بغير الإضلال كالنادر، وقاصر على أمور خفيفة، والناس محفوظون منهم، ولكن ربما ترك الله عز وجل حفظ الإنسان منهم لحكمة يعلمها فيستطيعون حينئذ العبث به، وذلك من الابتلاء، فإذا استغاث الإنسان بربِّه أغاثه منهم، وإن خضع للشياطين هلك.

وقد أغنى الله المسلمين عن سؤال الجنّ بدعائه تبارك وتعالى.

وفي الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك»

(1)

، وفي سنن أبي داود وغيره من حديث ابن مسعود سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك»

(2)

، وسيأتي بسط الكلام عليه إن شاء الله تعالى

(3)

.

قال العلماء: كان يقع في رقى أهل الجاهلية سؤال وتعظيم لغير الله عز وجل وخاصة الشياطين، فذلك هو الشرك، وسيأتي تحقيق الكلام في الرقى إن شاء الله تعالى.

نعم؛ لو فرضنا أنَّ إنسانًا ظهر له جنِّيٌّ فشاهده وشاهد تصرُّفه فطلب منه ما عرف قدرته عليه فقد يقال: إنَّ هذا كسؤال الناس بعضهم من بعض. والله أعلم.

(1)

مسلم، كتاب السلام، بابٌ:«لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شركٌ» ، 7/ 19، ح 2200. [المؤلف]

(2)

سنن أبي داود، كتاب الطبِّ، بابٌ في تعليق التمائم، 3/ 186، ح 3883. [المؤلف]

(3)

في الباب الخاصِّ بها ص 955 - 958.

ص: 817

وأمَّا السؤال من الإنسان الحيِّ الحاضر فإن كان لما جرت العادة بقدرته عليه فليس دعاء، وإن كان لما لم تجر العادة بقدرته عليه فذلك دعاء؛ لأنه حينئذ سؤال لنفع غيبيٍّ.

[557]

ثم ظهر لي أنَّ هناك فرقًا بين قدرة الإنسان على الأفعال العادية، وبين قدرته على التأثير بما فيه خرق للعادة، وقدرة الجن على الإضرار بالإنس؛ يتوقف معرفته على العلم بمعنى إذن الله تعالى الذي يتكرَّر في القرآن.

فأقول: قال الراغب: «الإذن بالشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه»

(1)

. وبعد التأمُّل وجدتُ إذن الله تعالى على نوعين:

الأول: إعلامه المكلَّفَ بأنه يجوز له الفعل، ومنه قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].

الثاني: إذنه تعالى للأسباب بأن تؤثِّر، وهذا يتناول الجائز شرعًا وغيره، وهو على ضربين: خاصٍّ وعامٍّ.

فالخاصُّ ما ثبت في القرآن بأنه كان أو يكون بإذن الله تعالى وما كان في معناه. والعامّ ما عداه مما يحدُث في العالم.

وبيان الفرق المعنوي بين الخاصِّ والعامِّ يتعلَّق بمسألة القَدَر، ولا أحبُّ أن أُقْحِم نفسي تلك المزلقة، ولكن سأُشرف عليها من قُرْب، وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق، فأقول: أمَّا على رأي القائلين بأنَّ الحوادث كلَّها إنما تحدث بتعلُّق قدرة الله تعالى بها حين حدوثها، فالاحتراق بالنار إنما يقع

(1)

المفردات: 71.

ص: 818

بخلق الله تعالى إيَّاه حين ملابسة النار، فالفرق على رأيهم صعب، ولكن يمكن أن يُقال على رأيهم: إنَّ الإذن العامَّ ما كان على وَفْق العادة من كلِّ وجه كخروج الثمرة من أكمامها عند [558] حلول وقتها المعتاد، وحمل الأنثى بعد وقوع الذكر عليها في الوقت الذي جرت العادة بأنَّ مثلها تحمل من مثله، ووضعها عند انتهاء مدة الحمل المعتادة، وهذا النوع يُطلق عليه في القرآن بأنَّه يعلمُه الله تعالى، قال تعالى:{وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47].

والخاصُّ ما جرى على خلاف العادة، ولو في وجهٍ. ومن ذلك: الإيمان، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 99 - 100] ، فإنَّ الإيمان يتضمَّن الإيقان بما يرتاب فيه غالب الناس من الغيب، ويقتضي تكليفَ النفوس ما يشقُّ عليها، ومنعها كثيرًا من شهواتها مع كثرة ما يصدُّ عن الإيمان، فمِنْ هذا الوجه كان الاتِّصاف بالإيمان مما يُسْتَغْرَبُ عادة، ففيه مخالفةٌ مَّا للعادة.

ومن ذلك: الموت، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145] ، وسياق الآيات في القتل في الجهاد؛ فإنَّ الموت هو مفارقة الروح للجسد، والناس لا يدركون الروح ولا يحسُّون بها، فمفارقتها الجسد عقب قطع الرأس ــ مثلًا ــ وإن جرت به العادة، فلا يعلم الناس ما وجه ذلك وما سببه، فَمِنْ ثَمَّ كان الموت مخالفًا للعادة.

ص: 819

وأمَّا على رأي القائلين بأن الله عز وجل أودع في المخلوقات قوىً [559] من شأنها التأثير، فهي تؤثر بتلك القوة بدون حاجة إلى أن يخلق الله عز وجل ذلك الأثر عند حدوثه، ولكنه سبحانه إذا شاء أن يمنع من التأثير مَنَع كما مَنَع النار من الإحراق بقوله:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. فالفرق بين الإذن الخاصِّ والعامِّ على طريقة هؤلاء أن يقال: الإذن العامُّ هو ما كان تأثيرًا بمجرد القوَّة المودَعة على ما سمعت، فكون تلك القوة في الأصل مِن خلق الله، وكونه سبحانه لم يمنعها من التأثير مع قدرته على ذلك، إنْ سُمِّيَ إذنًا فهو الإذن العام.

وأما الإذن الخاصُّ فهو بخلاف ذلك، فإما أن يكون بخلقه تعالى الأثر عند حدوثه، وإما أن يكون سبحانه قد نصب موانع تمنع من حدوث الأثر بالقوَّة المودَعة وحدها، ثم يرفع تلك الموانع إذا شاء، فذلك هو الإذن الخاصُّ، والموت والإيمان من الإذن الخاصِّ.

ولا يشكل على رأي المعتزلة؛ لأنه يمكن أن يقال: إنما يعذِّب الله تعالى القاتلَ بقصده القتلَ ومباشرته سببه، وإنما يعذِّب مَنْ لم يؤمن لأنه لم يعمل ما يقدر عليه من الحرص على إصابة الحق وإيثاره على هواه، فلو فعل ذلك لأذِن الله تعالى له بالإيمان حتمًا كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقد مَرَّ تفسيرها.

إذا تقرَّر هذا فاعلم أنَّ كرامات الأولياء وسحر السحرة وتأثير الجن في الإنس بغير الوسوسة كلُّه مما لا يؤثِّر إلا بإذنٍ خاصٍّ من الله تعالى.

أما الكرامات فقد [560] قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد: 38].

ص: 820

وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35].

وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50].

والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة.

وكثيرًا مَّا يقرن الخبر عن الآيات التي وقعت للأنبياء عليهم السلام ببيان أنَّها بإذن الله، من ذلك قوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110].

وإذا كان هذا حال الرسل عليهم السلام فحال الأولياء في شأن الكرامات أولى وأحرى بأن لا يقع إلَّا بإذن الله الإذنَ الخاصَّ.

وأما حال السحر فقال تعالى في السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، وأما حال الجن فقد قال تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10]، [561] وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ

ص: 821

رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12].

ومن الحِكَمِ في التنبيه على أنَّ ما جرى على يد عيسى عليه السلام من الخوارق إنما كان يقع بإذن الله تعالى، أي لا كعمل البشر الأحياء لما يقدرون عليه عادة: قَطْعُ شبهة مَنْ يُشْرِكه.

وكذلك التنبيه على مثل ذلك في السحرة؛ لأنَّ توهُّمَ أنهم يعملون باختيارهم كما يعمل الناس ما يقدرون عليه عادةً يُخْشَى أن يكون ذلك داعيًا إلى الشرك.

وهكذا في شأن الجن؛ فإنَّ تَوَهُّم أنهم يتصرَّفون في الإنس وفيما يحسُّ به الإنس تَصَرُّفَ اختيارٍ كتصرف البشر فيما يقدرون عليه عادةً يدعو إلى دعاء الجنِّ وإشراكهم.

وقد اتَّضح بحمد الله وتوفيقه الفرق بين سؤال الإنسان من إنسان آخر ما يقدر عليه عادة وبين سؤاله مَنْ يظن به الصلاح ما لا يقدر عليه عادة وإنما يقع بإذن الله تعالى، وهكذا سؤاله من السحرة، وعمله مثل عملهم، وسؤاله من الجن.

فاندفعت شبهُة القائلين: كيف يكون سؤالُنا الأحياءَ ما يقدرون عليه عادة غير شرك ويكون السؤال من الجن ونحوه شركًا؟

ولا يخفى أن أرواح الموتى إن كان لها تصرف [562] فهو مما لا يقع إلا بالإذن الخاصِّ سواء أكانت صالحة وكان تصرُّفها كرامة كالصالحين الأحياء، أم كانت طالحة وكان تصرُّفها إهانة كالشياطين.

ولولا خشية الإطالة لَسُقْتُ الآيات التي جاء فيها ذكر إذن الله تعالى

ص: 822

كلها، وبَيَّنتُ أن المراد بذلك كله الإذن الخاص، وأوضحت وجه ذلك، وذكرت كثيرًا من الأمور التي تدخل في هذا المعنى، ولكني قد فتحت لك الباب، فإن أحببت الاستيفاء فعليك بالتدبُّر مع إخلاص النية والاستعانة بالله تبارك وتعالى.

[563]

وليس من السؤال ما كان المقصود به التعجيز، كقول إبراهيم عليه السلام:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] ، ولا ما يشبهه مما ليس بسؤالِ خضوع وتذلُّل.

وأما السؤال من الجمادات كالأصنام والكواكب فدعاء. وليس منه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «اسكن أحد»

(1)

ونحو ذلك مما هو من قبيل الأمر التكويني، ليس فيه تذلُّل ولا خضوع لذلك الجماد، وعند القائل سلطان من الله عز وجل بذلك. ومثله ما رُوي في قصَّة قارون أن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام:«مُرِ الأرض بما شئت» ، فقال:«يا أرض خذيهم»

(2)

، ولا ما لم يكن المقصود منه الطلب وإنما هو تَمَنٍّ أو نحوه كقول المغتمِّ بالليل: أصبحْ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عثمان بن عفان

، 5/ 15، ح 3699، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرج هذه القصَّة ابن أبي شيبة في كتاب الفضائل، ما ذُكِر في موسى صلى الله عليه وسلم من الفضل، 16/ 535 - 536، ح 32504، والطبريُّ 18/ 334 - 335، وابن أبي حاتمٍ 9/ 3018، ح 17156، والحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة القصص، 2/ 408 - 409، وغيرهم، من طريق المنهال بن عمرٍو عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ، وفي بعض الطرق: عن سعيد بن جبير وعن عبد الله بن الحارث عن ابن عباسٍ. وهو إسنادٌ حسنٌ. وقال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه» ، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ.

ص: 823

ليلُ، وقول امرئ القيس:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

(1)

وقول المستعجل للَّيل: اغرُبي يا شمس، ونحو ذلك، فليس من الدعاء في شيء، والله أعلم.

ورأيت في بعض الكتب حكايةً عن أبي بكر بن عيَّاشٍ القارئ المشهور أنه كان يقول: «يا ملائكتي

(2)

قد طالت صحبتي لكما، فإن كان لكما شفاعةٌ عند الله تعالى فاشفعا لي»

(3)

. ولا أرى ذلك يصحُّ عنه، ولو صحَّ لم يكن حجَّة، [564] ولا يلزم من ذلك شناعة عليه، وإنما الشناعة على مَن قامت عليه الحجة فأصرّ، أو وقع في نفسه تردُّدٌ فلم يحتط لنفسه. وأما مَن رأى أنَّ عنده سلطانًا من الله تعالى ولم يقصّر في النظر ولا خطر له أنَّ ترْك ذلك الفعل هو الأحوط فقد قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [آخر البقرة]، وقال:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].

وقد اتَّفق العلماء على تكفير مَنْ أنكر آية من القرآن، أو زاد فيه ما ليس منه، ومع ذلك فقد قال بعضُ الصحابة رضي الله عنهم: إنَّ المعوذتين ليستا من القرآن

(4)

، فلم يكفِّره غيره من الصحابة بأنه أنكر آية من القرآن، ولا كَفَّرَ

(1)

انظر: ديوانه 18.

(2)

في الحلية: «يا ملَكيَّ» على الجادَّة.

(3)

هذه الحكاية أوردها ابن الجوزيِّ في صفة الصفوة (3/ 165). وروى أبو نُعَيمٍ في الحلية (8/ 303) معناها باختصارٍ، وفي إسنادها: عمر بن بحرٍ الأسديُّ، ترجم له ابن عساكر (43/ 545)، ولم يذكر ما يفيد توثيقه.

(4)

ورد ذلك عن ابن مسعود؛ فقد أخرج البخاري من طريق عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب، قلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا

ولابن حبان من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر، قال: لقيت أبي بن كعب فقلت له: إن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من المصاحف، ويقول: إنهما ليستا من القرآن فلا تجعلوا فيه ما ليس منه. انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة (قل أعوذ برب الناس) ، 6/ 181، ح 4977. صحيح ابن حبان (الإحسان) ، كتاب الحدود، باب الزنى وحدّه، ذكر الأمر بالرجم للمحصنَين إذا زنيا

، 10/ 274، ح 4429.

ص: 824

هو غيرَه لأنهم زادوا في القرآن ما ليس منه. وزعم رجل منهم من أهل بدر أنَّ الخمر حلال محتجًّا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] فردُّوا عليه خطأه

(1)

ولم يكفِّروه، مع قول العلماء: إنَّ مستحلَّ الخمر يكفر.

وهكذا اختلفت الأمة في البسملة، فقال بعضهم: هي آية من القرآن، وقال بعضهم: ليست آية من القرآن

(2)

، ولم يكفِّر أحد من الفريقين الآخر مع قولهم بكفر من أنكر آية من القران أو زاد فيه ما ليس منه، [565] وإنَّما حملهم على عدم التكفير في الأمثلة السابقة ونحوها أنَّ المخطئ فيها معذور، فأمَّا الاختلاف في العقائد فحَدِّث عن البحر ولا حرج، وقد استقرَّ عند أهل السنة ألَّا يُكفَّر أحد من المسلمين بخطأ في عقيدة وإن لزم منها ما هو كفر.

(1)

هذه القصة وقعت لقدامة بن مظعون، وقد أنكر عليه عمر وأقام عليه الحد. وسيأتي تخريجها في ص 930.

(2)

أي منفردة مستقلة، وإلا فكونها جزء من آية في سورة النمل ليس محل خلاف بين المسلمين. وانظر أقوال العلماء في المسألة في جمال القراء للسخاوي 2/ 483 - 484، ومجموع الفتاوى 22/ 433 - 435.

ص: 825

وهكذا اتَّفق أهل العلم على أنَّ ما أُحْدِثَ في الدين وليس منه فهو بدعةٌ، وأنَّ إنكار السنة الثابتة بطريقٍ ظنيّ ضلالٌ، ثم اختلف الصحابة فمَن بعدهم في أشياء لا تُحصى، فقال بعضهم: هي من الدين، وقال بعضهم: ليست منه، ومع ذلك لم يحكم أحد منهم على مخالفه بأنه مبتدع أو ضالٌّ، وما ذلك إلَّا لأنَّ كلًّا منهم يرى مخالفه معذورًا.

فهكذا نقول في مسألة الدعاء وأمثالها، فنحن وإن قلنا في صورة من صور السؤال ونحوها: إنَّ هذا دعاءٌ لغير الله تعالى وعبادة وشرك، فليس مقصودُنا أن كلَّ من فعل ذلك يكون مشركًا، وإنما يكون مشركًا مَنْ فَعَلَ ذلك غيرَ معذور، فأما من فعلها معذورًا فلعلَّه يكون من خيار عباد الله تعالى وأفضلهم وأتقاهم، ولعلَّه يكون مأجورًا على ذلك الفعل نفسِه

(1)

.

وقد وقع الناس في هذا الباب على طرفي نقيض؛ فمنهم من يأخذ قول بعض الأمة وصالحيها كأنه وحي منزل، ويَرجعُ قولُهُ إلى دعوى أن ذلك العالم أو الصالح معصومٌ كعصمة الأنبياء أو أعظم، فلا يهون عليه أن يسمع قائلًا يقول: لعلَّ هذا العالم أو الصالح أخطأ، وإذا حدَّثته نفسه بأنَّ ذلك

ص: 826

العالم أو الصالح أخطأ رأيته يتعوَّذ بالله تعالى، ويجتهد في طرد ذلك الخاطر عن نفسه.

ومنهم مَن إذا ظهر له في شيء من الأعمال أنه شركٌ أو لم يظهر له ولكنه سَمِع شيخه يقول ذلك بادر إلى الحكم على كلِّ مَنْ فعل ذلك من السلف والخلف بأنهم مشركون، لا فرق بينهم وبين عُبَّاد الأوثان.

والحق التوسُّط بين هذين.

وأُعيذُك بالله عز وجل أن يحملك هذا الكلامُ على [566] التهاون بمسألة التوحيد فتهجُم على شيء من الأعمال التي قد قيل إنها شرك قائلًا: إن كان في نفس الأمر شركًا فأنا معذور؛ فإنَّ الخطر عظيم، ولعلَّ عُذْرَكَ لا يكون من القوَّة بحيث يقبله الله تعالى منك، فانظر لنفسك، فإنْ شَكَكْت في شيء فدعه، فلعلَّ الله تعالى يقول لك: لِم صَنَعْتَ كذا وكذا وقد قيل لك: إنه شرك، وليس عندك يقين بأنه ليس بشرك، وأنت تعلم أنك لو تركتَه لما كان عليك إثم ولا حرج؟

وما مَثَلُكَ إلا مَثَلُ رجل وجد امرأة نائمة على سريره وشكَّ أزوجته هي أم أمُّه، فقال لنفسه: لأضطجِعنَّ معها؛ فإنَّ الاضطجاع مع الزوجة مستحبٌّ في الشرع، فإن كان

(1)

أمي فلم أتعمَّدْها، وقد وقع فلان على أمه معتقدًا أنها زوجته فأفتاه العلماء بأنه لا إثم عليه، بل هو مأجور!

واعلم أنه لو لم يكن في اجتناب ما قيل إنه شرك إلا سدّ باب الاختلاف بين الأمة في هذا الأمر لكان من أعظم القربات عند الله عز وجل.

(1)

كذا في الأصل.

ص: 827

واعلم أن مَنْ ترك عملًا من الأعمال خوفًا أن يكون شركًا أو معصية فهو مأجور على تركه، وعلى فرض أن ذلك الفعل طاعة في نفس الأمر فإن أجره يُكْتب لهذا التارك؛ لأن الله عز وجل يعلم أنه إنما تركه خوفًا من الله [567] تعالى. ومَن أقدم على فعل يخاف أن يكون معصية فعليه إثمه وإن كان ذلك الأمر في نفس الأمر طاعة.

ولعلَّ لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى

(1)

.

* * * *

(1)

عقد المؤلِّف فصلًا في الأعذار في ص 914.

ص: 828