الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرب وتأليه الإناث الخياليَّات
قد علمت أن العرب كانوا يزعمون أن لله ــ تعالى الله عن قولهم ــ بناتٍ، وأنهنَّ هنَّ الملائكة، ويجعلون لها تماثيل أو تذاكير من الجمادات ويعبدونها، فنجد القرآن ينوِّع محاجَّتهم، فتارةً يُؤَنِّبُهُم على عبادة الأصنام، وتارةً ينعى عليهم نسبة [454] الولد إلى الله عز وجل، وتارةً يوبِّخهم على أنهم لم يكتفوا بنسبة الولد إليه حتى خصُّوا الإناث ــ مع كراهيتهم لأنفسهم البنات ــ، وتارةً يبيِّن لهم أنهم إنما يعبدون العدم، وتارةً يُعلِمهم بأنه على فرض أن تكون موجودةً لا تستحقُّ أن تُعبَد؛ لاعترافهم بأنه ليس لها من الأمر شيءٌ، وتارةً يُعلِمهم بأنهم إنما يعبدون الشياطين ــ على المعنى الذي تقدَّم فيما سبق، وسنوضِّحه إن شاء الله تعالى في الكلام على تفسير عبادة الشياطين
(1)
ــ، وتارةً يفنِّدهم في قولهم: الملائكة إناثٌ، وتارةً يبطل استحقاق الملائكة أن يُعبَدوا، وتارةً يذكر أنهم إنما يعبدون من سوَّل لهم ذلك الفعل من الشياطين أو الرؤساء أو الأهواء.
فأما الأصنام فقد علمتَ أنهم إنما كانوا يعبدونها على أنها تماثيل وتذاكير لتلك الإناث الوهميَّات، ويُحتمَل في بعض أصنامهم غير ذلك مما سبق.
وأما الإناث الوهميَّات فكانوا يزعمونها بناتٍ لله ــ تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ــ، وقد احتجَّ عليهم القرآن بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
(1)
انظر ص 730.
صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101].
وقدَّمنا أن هذا يدلُّ على أنهم لم يكونوا يثبتون لله صاحبةً؛ إذ لو كانوا يزعمون أن له صاحبةً لما كان في هذا حجَّةٌ عليهم، هذا [455] هو الظاهر، وأيَّده ما رُوِي أن الصِّدِّيق لما قال لهم: فمَن أُمُّهم؟ لم يُمْكِنُهم الجواب
(1)
ــ وقد سبق ذلك
(2)
ــ، ولم يَثبُت ما يعارض هذا.
وقدَّمنا أن الظاهر من تعظيمِهم لله عز وجل واعتمادِهم في دينهم على الأقيسة الفاسدة أنهم إنما
(3)
كان مستقرًّا في أذهانهم أن العقم نقصٌ أرادوا أن ينزِّهوا الله عز وجل عنه، فرأوا أنهم إن أثبتوا له ولدًا ذكرًا لزم من ذلك إثبات شريكٍ له في ملكه، وكانوا يتحاشون ذلك.
وقد صحَّ أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك
(4)
إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. ثبت ذلك في صحيح مسلمٍ، ولفظه:«عن ابن عبَّاسٍ، قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ويلكم، قد، قد» ، [فيقولون: ]
(5)
إلَّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت»
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتمٍ كما في الدرِّ المنثور 7/ 377.
(2)
انظر ص 581.
(3)
كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: لَمَّا.
(4)
في الأصل: (له)، وهو سبق قلمٍ.
(5)
ما بين المعقوفتين زيادةٌ من صحيح مسلمٍ.
(6)
صحيح مسلمٍ، كتاب الحجِّ، باب التلبية وصفتها ووقتها، 4/ 8، ح 1185. [المؤلف]
ورُوِي أن أوَّل من قال ذلك عمرو بن لُحَيٍّ. قال السهيليُّ: «وذكر أبو الوليد الأزرقيُّ في أخبار مكَّة أن عمرو بن لُحَيٍّ
…
وكانت التلبية من عهد إبراهيم: لبيك لا شريك لك لبيك، حتى كان عمرو بن لُحَيٍّ، فبينما هو يلبِّي تمثَّل له الشيطان في صورة شيخٍ يلبِّي معه، فقال عمرٌو: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكًا هو لك، فأنكر ذلك عمرٌو، وقال: ما هذا؟ فقال الشيخ: قل: تملكه وما ملك، فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرٌو، فدانت بها العرب»
(1)
.
والمقصود أنهم رأوا أن إثبات الولد الذكر يلزم منه إثبات الشريك في الملك، فأما البنات فلا يلزم هذا فيهنَّ، لما اعتادوه فيما بينهم أن البنات لا يرثن من آبائهنَّ ولا يقاتلن ولا يخاصمن، وإنما هنَّ كَلٌّ على الرجال، وليس لهنَّ من الأمر شيءٌ.
وفي صحيح مسلمٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: « .... قال عمر: والله إن كنَّا في الجاهلية ما نَعُدُّ للنساء أمرًا حتى أنزل الله فيهنَّ ما أنزل وقسم لهنَّ ما قسم، قال: فبينما أنا في أمْرٍ آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، فقلت لها: وما لكِ أنتِ ولما هاهنا، وما تَكَلُّفُكِ في أمرٍ أريده؟ ! فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطَّاب! ما تريد أن تُراجَعَ أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يظلَّ يومه غضبان
…
»
(2)
.
(1)
الروض الأنف 1/ 12. [المؤلف]. وانظر: أخبار مكة للأزرقي 1/ 287.
(2)
صحيح مسلمٍ، كتاب الطلاق، بابٌ في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهنَّ
…
، 4/ 190، ح 1479 (31). وهو في صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة التحريم، باب:«تبتغي مرضات أزواجك» ، 6/ 156، ح 4913. [المؤلف]
فرأوا أنهم إذا أثبتوا لله عز وجل بناتٍ كانوا قد نزَّهوه من ذلك النقص العظيم ــ وهو العقم ــ، ولم يلزمهم إثبات شريكٍ له في ملكه، على أن الظاهر من حالهم أنهم كانوا متحيِّرين في إثبات البنات لله عز وجل، يكادون لولا التقليد والاستكبار [456] يعتذرون بأنهم إنما يريدون بناتٍ مجازًا، أي: محبوباتٍ له مُقَرَّباتٍ عنده، ولهذا ــ والله أعلم ــ كان اعتمادهم على أنهم يعبدون الملائكة، فكأنهم يقولون: سلَّمنا أنه ليس له ولدٌ لا ذكرٌ ولا أنثى، وسلَّمنا أن الملائكة ليسوا بناتٍ لله تعالى ولا إناث
(1)
، ولكنهم عبادٌ مقرَّبون عنده يشفعون لديه، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
ولهذا ــ والله أعلم ــ كان غالب محاجَّة القرآن لهم إنما هو في عبادة الملائكة ــ كما يُعلَم مما تقدَّم ــ، ومن هنا يُعلَم أن شركهم ليس مداره على قولهم: بنات الله، وقولهم: الملائكة إناثٌ، بل شركهم ثابتٌ ولو لم يقولوا ذلك، ويدلُّ على هذا قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 15 - 20].
فوبَّخهم الله عز وجل على قولهم: إن لله ولدًا، ثم على قولهم: إن ذلك الولد إناثٌ، ثم على قولهم: الملائكة إناث، ثم على قولهم: {لَوْ شَاءَ [457]
(1)
كذا في الأصل، والجادَّة: إناثًا.
الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}، فدلَّ أن كلَّ أمرٍ من هذه منكرٌ على حِدَةٍ.
(1)
، يُعلَم منها أن شرك القوم ثابتٌ ولو لم يقولوا: بنات الله، ولا قالوا: الملائكة إناثٌ.
والمقصود من هذا ألَّا يُتوهَّم أن تأليههم للملائكة وعبادتهم إيَّاهم قوامه اعتقادهم فيهم أنهم بنات الله عز وجل.
[458]
وبعدُ، فقد علمتَ أنهم وغيرهم من الأمم ألَّهوا الأصنام وعبدوها، مع أنهم لم يعتقدوا فيها أكثر من أنها تستحقُّ التعظيم؛ لأنها قد جُعِلت تماثيل وتذاكير ورموزًا للملائكة أو للكواكب أو لرجالٍ صالحين، وأن قومًا ألَّهوا الكواكب وعبدوها ولم يعتقدوا فيها أكثر من كونها أجسادًا أو
(1)
انظر ص 437 - 439.
مظاهر للملائكة، إلى غير ذلك مما تقدَّم. فثبت بذلك أن تأليه الشيء وعبادته لا يتوقَّف على زعمهم أنه واجب الوجود أو أنه الخالق أو خالقٌ آخر أو ابن الخالق أو نحو ذلك، والله أعلم.
* * * *
تفسير عبادة الملائكة
قد علمتَ مما سبق أن أصل شرك العرب هو عبادتهم للملائكة، وكذلك قوم هودٍ وصالحٍ وقوم إبراهيم والمصريُّون ــ كما مرَّ
(1)
ــ، ومثلهم اليونان والهند، وقد مرَّ طرفٌ من شرك الهند عند ذكر الكواكب وغيرها
(2)
، ولم أقصد الاستيعاب؛ إذ لا داعي إليه، ولا رأيت لهم ذكرًا خاصًّا في القرآن.
وعامَّة عبَّاد الملائكة ينعتونهم بنعوتٍ كذَّبها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ذلك ما مرَّ عن العرب في قولهم: الملائكة بنات الله
(3)
، وكثيرٌ من الأمم يزعمون أن الملائكة ذكورٌ وإناثٌ، يتناكحون ويتناسلون.
وأتباع أرسطو يزعمون أن [459] الملائكة هم العقول العليا التي توهَّموها وبنوها على أصلهم الباطل أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحدٌ، وبنوا على ذلك فظائع من الكفر والشرك، إلا أن قولهم كان محصورًا في أدمغة أفرادٍ محدودين قد انقرضوا بحمد الله تعالى.
واعلم أن عبَّاد الملائكة ــ ما عدا أتباع أرسطو ــ فريقان:
فريقٌ يزعمون أن الملائكة يتصرَّفون باختيارهم.
وفريقٌ لا يثبتون للملائكة اختيارًا إلا في الشفاعة، مع تردُّدٍ منهم في
(1)
انظر ص 595.
(2)
انظر ص 683، 706 - 707.
(3)
انظر ص 50، 112، 550، 579.
إثبات الاختيار في الشفاعة، كما سيأتي إن شاء الله
(1)
.
فأما الفريق الأوَّل ــ وهم أكثر أمم الشرك، كاليونان والهند والمصريِّين القدماء ــ، فكأنهم قاسوا الملائكة على البشر، فرأوا أنه كما أن البشر يتصرَّفون في الدنيا بالقدرة التي خلقها الله عز وجل لهم باختيارهم وإرادتهم يستطيع كلٌّ منهم نفع غيره وضرَّه في دائرة قدرته المحدودة، فالملائكة كذلك، إلا أن قدرتهم أعظم.
قالوا: وكما أن الإنسان يتذلَّل لإنسانٍ آخر إذا احتاج إليه، ويسأل منه أن ينفعه أو يدفع عنه الضرَّ، وإن كان البشر لا يستطيعون نفع مَن يريد الله تعالى ضرَّه ولا ضرَّ مَن يريد الله عز وجل نفعه، [460] فكذلك نتذلَّل نحن للملائكة وندعوهم؛ لأنا محتاجون إليهم لينفعونا أو يدفعوا عنا الضرَّ، وإن كنا نعلم أن الملائكة لا يستطيعون نفع مَن يريد الله تعالى ضرَّه، ولا ضرَّ مَن يريد الله تعالى نفعه. وإذا جاز الأوَّل فجواز الثاني أولى؛ لأن قُدَر البشر متقاربةٌ، وقدرة الملائكة أعظم من قدرة البشر، فأما إذا كان المقصود من التذلُّل للملائكة ودعائهم أن يعينوا على ما هو خيرٌ وطاعةٌ لله عز وجل فلا شبهة في أن ذلك يكون عبادةً لله عز وجل.
وقد أدحض الله تعالى شبهة هؤلاء وبرهن على بطلان ما زعموه، بقوله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، وقد تقدَّم إيضاح ذلك، فارجع إليه
(2)
.
وأما الفريق الثاني، فمنهم مشركو العرب؛ فإنهم كانوا يعترفون بأن الله
(1)
انظر ص 356 - 361.
(2)
ص 129 - 130 [المؤلف]. ص 349 - 350.
تعالى هو الخالق والرازق والمدبِّر إلى غير ذلك، وفي كتاب الله تعالى الشهادة عليهم بذلك في مواضع كثيرةٍ، منها قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ [461] الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32].
وقال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25].
[462]
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ
أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38].
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9].
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 78].
ففي هذه الآيات أن المشركين كانوا معترفين بوجود الله عز وجل، وأنه الذي يرزقهم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحيَّ من الميِّت ويخرج الميِّت من الحيِّ، والذي يدبِّر الأمر، والذي له السموات والأرض، وأنه ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، وأنه يُجير ولا يُجار عليه، وأنه الذي خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، وأنه الذي ينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم.
[463]
وفي القرآن آياتٌ كثيرةٌ تشهد على المشركين باعترافهم بتفرُّد الله عز وجل بما تقدَّم من الصفات وغيرها، وإن لم يكن ذلك مثل ما تقدَّم في الصراحة، منها قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 59 - 64].
[464]
قال البيضاويُّ في قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} : «إلزامٌ لهم وتهكُّمٌ بهم وتسفيهٌ لرأيهم؛ إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأسًا حتى يوازن بينه وبين ما هو مبدأ كلِّ خيرٍ» .
قال الشيخ زاده في حواشيه: «يعني أن الآية بظاهرها، وإن دلَّت على أن المقصود الموازنة بينه تعالى وبين الأصنام. ولا وجه له، ضرورةَ أن أحدًا من العقلاء لا يزن المخلوق العاجز بالخالق القادر على كلِّ شيءٍ في معنى الخيريَّة، بل المقصود إلزام المشركين
…
»
(1)
.
أقول: الأولى حَمْلُ ما في قوله: {أَمَّا يُشْرِكُونَ} على ما يَعُمُّ جميع معبوديهم من الملائكة وغيرهم.
فإن قيل: لو أُرِيد هذا لكان الظاهر أن يُقال: (أم مَن يشركون)، تغليبًا للعاقل على غيره؛ لأن الغالب أن تكون (مَن) للعقلاء و (ما) لغيرهم.
قلت: غلَّب هنا غير العاقل تنبيهًا على أن معبوديهم من الملائكة وغيرهم إذا وُزِنوا بالله عز وجل لم يكونوا شيئًا، والكلام من باب التنزيل، أي أن المشركين لما جعلوا مع الله عز وجل شركاء نُزِّلُوا منزلة [465] مَن
(1)
حواشي الشيخ زاده 2/ 493. [المؤلف]
يزعم أنهم مثله في الخيريَّة، وإلا فالقوم معترفون بأن الله عز وجل خيرٌ، وهذا مثل قول المؤذِّن:(الصلاة خيرٌ من النوم)، نُزِّل المؤْثِر للنوم على الصلاة منزلة مَن يزعم أن النوم خيرٌ، وإلا فالمسلمون المخاطَبُون بالأذان لا يشكُّون أن الصلاة خيرٌ من النوم.
وقال أبو السعود في قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ....... } : «والهمزة لتقريرهم، أي: حملهم على الإقرار بالحقِّ على وجه الاضطرار، فإنه لا يتمالك أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ ولا يقدر على ألَّا يعترف بخيريَّة مَن خلق جميع المخلوقات
…
»
(1)
.
وقال في قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} : «وقيل: المراد نفي أن يكون معه تعالى إلهٌ آخر فيما ذُكِر من الخلق وما عُطِف عليه، لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط، كيف لا وهم لا ينكرونه حسبما ينطق به قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، [466] بل بإشراكهم به تعالى في العبادة ما يعترفون بعدم مشاركته له تعالى فيما ذُكِر من لوازم الألوهيَّة»
(2)
.
وقال البيضاويُّ في قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} : «والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوجون بالحجج الدالَّة عليها» .
قال الشيخ زاده: «ولما ورد أن يُقال: كيف يمكن إلزام الكفرة تذكُّر نعمة الإعادة وما يترتَّب عليها وهم منكرون للإعادة؟ أجاب عنه: بأنهم وإن
(1)
تفسير أبي السعود 2/ 289. [المؤلف]
(2)
تفسير أبي السعود 2/ 290. [المؤلف]
أنكروا إلَّا أنهم لما لم يكن لهم عذرٌ في إنكارها نُزِّلُوا منزلة مَن أقرَّ بها، فتوجَّه إليهم الإلزام»
(1)
.
أقول: ولِمَ لا يُقال: إن قوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} ليس المراد به الإعادة بعد الموت بل أمرٌ آخر، كما قيل في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: 19]، قال البيضاويُّ:«إخبارٌ بالإعادة بعد الموت، معطوفٌ على {أَوَلَمْ يَرَوْا}، لا على {يُبْدِئُ}؛ فإن الرؤية غير واقعةٍ، ويجوز أن يُؤَوَّل بالإعادة [467] بأن ينشئ في كلِّ سنةٍ مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوهما، ويعطف على {يُبْدِئُ}»
(2)
.
وعلى هذا فلا إشكال؛ لأن المشركين يقرُّون بأن الله تعالى يعيد الخلق بهذا المعنى، والله أعلم.
وقال أبو السعود في قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} : «
…
أي: هاتوا برهانًا عقليًّا أو نقليًّا يدلُّ على أن معه تعالى إلهًا، لا على أن غيره تعالى يقدر على شيءٍ مما ذُكِر من أفعاله تعالى كما قيل، فإنهم لا يدَّعونه صريحًا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهيَّة، وإن كان منها في الحقيقة، فمطالبتهم بالبرهان عليه، لا على صريح دعواهم، مما لا وجه له»
(3)
.
والحاصل: أن الاستفهام في قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ} وما بعدها
(1)
حواشي الشيخ زاده 2/ 494. [المؤلف]
(2)
هامش حواشي الشيخ زاده 3/ 8. [المؤلف]
(3)
تفسير أبي السعود 2/ 291. [المؤلف]
تقريريٌّ، أي: أم الذي خلق السماوات والأرض خيرٌ مما تشركون؟ ولا ريب أن هذا لا يصحُّ إلا إذا كانوا يقرُّون بأن الله تعالى هو وحده الذي خلق السموات والأرض، وأنه لا حَظَّ لشركائهم [468] في ذلك، وهكذا يُقال في الباقي، ولهذا احتاج المفسِّرون إلى تأويل قوله تعالى:{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، وقد علمتَ أن الإعادة إذا حُمِلت على ما يقع من إعادة الخلق مرَّةً بعد مرَّةٍ في الدنيا كان الكلام على ظاهره، والله أعلم.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، فإن كلَّ آيةٍ ذكر الله تعالى بها نفسه بأنه الخالق أو الرازق أو غير ذلك من نعوت الكمال، وكان مساق الكلام على إقامة الحجَّة على المشركين، فهي من هذا القبيل؛ إذ لو لم يكن المشركون يقرُّون بأن الله عز وجل هو وحده فالق الإصباح وجاعل الليل سكنًا إلخ، لكان ذكر ذلك دعوى فقط لا تكون حجَّةً عليهم في إبطال شركهم، والحكيم لا يحتجُّ بما هو دعوى مجردَّةٌ.
ومن هذا القبيل: الفاتحة، فلولا أن المشركين يعترفون بأن الله عز وجل ربُّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لما كان في ذلك حجَّةٌ عليهم، يَثبُت بها ما تضمَّنه قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ [469] وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
فإن قلت: فإنهم لا يؤمنون بيوم الدين، قلت: لكنهم لو قيل لهم: إذا فُرِض أن يوم الدين حقٌّ، فمَن يكون مالكه؟ لقالوا: الله.
فتدبَّر هذا المعنى حقَّ تدبُّره، ثم اقرأ القرآن تجدْه مملوءًا بالحجج على أن المشركين كانوا يعترفون بالله عز وجل وصفاته، وإنما نازعوا في انفراده باستحقاق العبادة، والله أعلم.
وقد مرَّ في أثناء الرسالة ما يتعلَّق بما ذكرناه
(1)
، منه كلام ابن جريرٍ على آية {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، قال: «وأحسب أن الذي دعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطابٌ لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم، الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانيَّة ربِّها وإشراكها معه في العبادة غيره، وإن ذلك لقولٌ؛ ولكن الله جلَّ ثناؤه قد أخبر في كتابه أنها كانت تقرُّ بوحدانيَّته غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جلَّ ثناؤه:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [470] لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقال:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]، فالذي هو أولى بتأويل قوله:{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانيَّة الله عز وجل، وأنه مبتدع الخلق وخالقهم ورازقهم نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين
…
»
(2)
.
ونسبة ابن جريرٍ هذه الغفلة إلى مجاهدٍ مع جلالة مجاهد تهوِّن عليك نسبة مثل هذه الغفلة إلى غيره، حتى إنه قد يقع فيها ابن جريرٍ نفسه في بعض المواضع.
وفي تفسير ابن جريرٍ عند قول الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، قال ابن جريرٍ: «
…
عن ابن عبَّاسٍ {وَمَا
(1)
انظر: ص 680 مثلًا.
(2)
تفسير ابن جريرٍ 1/ 126. [المؤلف]
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} الآية، قال: من إيمانهم إذا قيل لهم: مَن خلق السماء ومَن خلق الأرض ومَن خلق الجبال؟ قالوا: «الله» . وهم مشركون ....
عن عكرمة
…
قال: تسألهم مَن خلقهم ومَن خلق السموات والأرض؟ فيقولون: «الله» . فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره».
ثم ذكر نحوه عن الشعبيِّ ومجاهدٍ. وفي روايةٍ عن مجاهدٍ: «إيمانهم قولهم: «الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا» ، هذا إيمانٌ، مع شرك عبادتهم غيره».
وأخرج عن قتادة قال: «
…
هذا إنك لستَ تلقى أحدًا منهم إلا أنبأك أن الله ربُّه وهو الذي خلقه ورزقه، وهو مشركٌ في عبادته».
(1)
.
وفي تصريح مجاهدٍ بما سمعتَ ــ وهو ثابتٌ عنه من عدَّة طرقٍ ــ ما يبيِّن
(1)
تفسير ابن جريرٍ 13/ 44 - 45. [المؤلف]
بطلان ما اتَّهمه به ابنُ جريرٍ من أنه ظنَّ أن العرب لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها، إلَّا إن كان غفل عن ذلك غفلةً، كما قد تقع الغفلة عن ذلك من غيره كثيرًا ــ كما تقدَّم ــ، والله أعلم.
والحاصل أن شرك العرب انحصر في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
وسيأتي إيضاح شبهتهم وإبطالها إن شاء الله تعالى في فصل شبهات المشركين
(1)
، وقد مرَّ شيءٌ من ذلك في الكلام على قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]
(2)
.
* * * *
(1)
انظر ص 851 - 854.
(2)
ص 138 - 140 [المؤلف]. ص 358 - 361.
[471]
تفسير عبادة الشياطين
قد لوَّحنا فيما تقدَّم
(1)
إلى أنَّ عبادة الشياطين لها وجوه:
الأوَّل: طاعتهم في شرع الدين، وهم في ذلك قريبٌ من الأحبار والرهبان، وقد تقدَّم ما يتعلَّق بهم
(2)
، ولم يعذر الله المشركين بكونهم لا يعلمون أنهم يطيعون الشياطين؛ لأن الحجَّة قد قامت عليهم بأن الشيطان يوسوس للإنسان بالأفعال السيِّئة، فلما كان إذا وقع في أنفسهم تخيُّلُ أن عبادة الأصنام ونحوها دينٌ ينفع عند الله تعالى ونحو ذلك من التخيُّلات، وهم يعلمون أنه ليس على ذلك برهانٌ، ولا أنزل الله به من سلطانٍ، فقد ظهر أن تلك التخيُّلات من وسوسة الشيطان، فغفلتهم عن ذلك تقصيرٌ منهم لا يُعْذَرُون به.
الوجه الثاني: كانوا يعبدون إناثًا غيبيَّاتٍ يزعمون أنهنَّ بنات الله تعالى، وأنهنَّ الملائكة، فرأت الشياطين أنه لا إناث غيبياتٍ إلا منهم، ولذلك عمدت شيطانةٌ فتسمّت بالعزَّى ولزمت الصنم المجعول للعزَّى ــ كما تقدَّم
(3)
ــ، وقس على ذلك.
الوجه الثالث: أن من عادة الشياطين اعتراض العبادات الباطلة [472] حتى تكون في الصورة كأنها لهم، كما ثبت في صحيح مسلمٍ وغيره في حديث المواقيت النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وقال:
(1)
انظر ص 595.
(2)
انظر ص 654.
(3)
انظر ص 596.
«فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطانٍ، وحينئذٍ يسجد لها الكفَّار» ، وكذا قال في غروبها:«فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفَّار»
(1)
.
فالمراد ــ والله أعلم ــ أن الشيطان إذا علم من أهل قُطْرٍ أن منهم مَنْ يعبد الشمس رقب وقت عبادتهم لها، فانتصب بينهم وبينها ليكون سجودهم لها كأنه في الصورة له، فإذا انتهى وقت عبادتهم لها فارق ذلك الموضع، وانتقل إلى القطر الآخر، تدبَّر! !
بل إن الشيطان يحاول أن يعترض العبادات التي يُعبد بها الله عز وجل، ولكنه لا يستطيع الاعتراض ما لم يقصِّر العابد، فمن ذلك أنه يعترض الصلاة ليقوم أو يمرَّ بين المصلِّي وبين القبلة، ولذلك شُرِعَت السترة في الصلاة، أي: أن يصلِّي المصلِّي إلى جدارٍ أو ساريةٍ أو نحو ذلك، حتى يكون ذلك حجابًا بينه وبين الشيطان، فلا يستطيع الشيطان المرور بينه وبين السترة، يمنعه الله عز وجل من ذلك؛ لأن المصلِّي قد احتجب منه بما يقدر عليه، وهذا كما يمنع الشيطان من فتح الباب المغلق [473] وكشف الإناء المغطَّى ولو بعودٍ معروضٍ عليه.
والقانون في هذا أن العبد إذا فعل ما يقدر عليه وتوكَّل على الله عز وجل كفاه الله تعالى ما لا يقدر عليه، فأما إذا قصَّر فيما يقدر عليه فلا حقَّ له أن يُكفَى، فالعبد يستطيع أن يغطِّي إناءه ولو بعَرْض عُودٍ عليه، فيكون بهذا قد فعل ما يقدر عليه مما فيه دفعٌ ما للشيطان، وإن كان بحسب العادة لا يكفي
(1)
صحيح مسلمٍ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب إسلام عمرو بن عَبَسَة، 2/ 209، ح 832. [المؤلف]
للدفع، ولكنه يوفي ما عليه حتى يستحقَّ أن يدفع الله عز وجل عنه ما لا يستطيعه، والله أعلم.
فالشياطين تدخل في الأصنام أو تقف دونها ليكون تعظيم الأصنام كأنه للشيطان، وهكذا تفعل في كلِّ ما يُعبد من دون الله عز وجل.
ورأيت في فتوى للسيِّد العلَّامة الجليل عبد الله بن محمَّد بن إسماعيل الأمير اليمانيِّ، قال فيها: «ذكر شيخنا الإمام عبد الخالق المزجاجيُّ ــ رحمه الله تعالى ــ أنه رأى الشياطين في قبَّة الشيخ أحمد بن موسى بن العجيل
(1)
في بيت الفقيه متخلِّلةً بين الناس، ورأى القبر ليس فيه إلا الشياطين، قال: رأى ذلك يقظةً بشحمة عينه، رحمه الله تعالى».
والإمام عبد الخالق [474] من أجلَّة علماء الحنفيَّة بمدينة زبيد باليمن، وكان من كبار الصالحين رحمه الله.
وقد يُسْتَبْعَد تمكُّن الشياطين من قبور الصالحين، ولا بُعْدَ فيه، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إن عفريتًا من الجنِّ تفلَّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته» الحديث
(2)
.
(1)
أحمدبن موسى بن علي بن عمر بن عجيل اليمني، أبو العباس، عالم مشارك، توفي ببيت الفقيه سنة 690 هـ، له كتاب جمع فيه مشايخه وأسانيده في كل علم. معجم المؤلفين 2/ 189.
(2)
البخاريّ في كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة، 2/ 64 [وفي الأصل: 2/ 162]، ح 1210. مسلم في كتاب الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة
…
، بنحوه، 2/ 72، ح 541. [المؤلف]
وفي صحيح مسلمٍ عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعناه يقول:«أعوذ بالله منك» ، ثم قال:«ألعنك بلعنة الله» ثلاثًا، وبسط يده كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال:«إن عَدُوَّ الله إبليس جاء بشهابٍ من نارٍ ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك، ثلاث مرَّاتٍ، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامَّة، فلم يستأخر، ثلاث مرَّاتٍ، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة»
(1)
. [475] لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي إلَّا إلى سترةٍ، ومَن صلَّى إلى سترةٍ لم يستطع الشيطان أن يقطع عليه صلاته، ولكنه يحتال بأن يسوق إنسانًا أو حيوانًا يمرُّ بين المصلِّي وبين السترة، فإذا قصَّر المصلي في دفع ذلك المارِّ استطاع الشيطان أن يمرَّ معه؛ لأن المصلِّي قد قصَّر فيما يقدر عليه، كما تدلُّ عليه أحاديث السترة، منها: الحديث الصحيح في الأمر بدفع المارِّ، وتعليل ذلك بأنَّ معه القرين
(2)
.
وكذا حديث: «يقطع الصلاةَ المرأةُ والحمارُ والكلبُ الأسودُ» ، فلما سُئِل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ما بال الكلب الأسود من غيره؟ أجاب بقوله: «الكلب الأسود شيطانٌ»
(3)
.
(1)
صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 2/ 73، ح 542. [المؤلف]
(2)
أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب منع المارِّ بين يدي المصلِّي، 2/ 58، ح 506، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلِّي، 2/ 59، ح 510، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وجاء في حديثٍ آخر: «إن المرأة تقبل بصورة شيطانٍ»
(1)
، وفي حديثٍ:«إن الحمار إذا نهق فإنه رأى شيطانًا»
(2)
.
فعلى هذا المعنى تراءى عدو الله بشهابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ علمًا منه أنه إذا تراءى بحيث يراه المصلِّي، وُكِلَ الدَّفْعُ إلى المصلِّي؛ لأنه يقدر على الدفع حينئذٍ، وارتفع المنع الذي توجبه السترة؛ لأنها إنما تكفي للمنع الذي لا يقدر عليه المصلِّي، تدبَّر.
[476]
وأما رؤية الإمام عبد الخالق القبر ليس فيه إلا الشياطين، فوجهه: أن المقبور لا يبقى له تعلُّقٌ بقبره إلا مادام الجسد لم يَبْلَ، فإذا بَلِيَ الجسدُ لم يبق للميِّت علاقة بالقبر؛ لأن الجسد قد بَلِيَ وفَنِيَ، والروح قد طارت إلى مستقرِّها، فليس القبر بعد البلى إلا كالنعش الذي وُضِعَ عليه الميِّت برهةً ثم فارقه، ولهذا نصَّ العلماء على أنه لا تبقى للقبر حرمةٌ بعد البِلَى، وعلى ذلك العملُ بالحرمين وغيرهما من عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، إذا بليَ المقبور حُفِرَ القبرُ ودُفِن فيه غيره، وقد بسطنا الكلام على ذلك في رسالتنا عمارة القبور
(3)
.
فإن قلت: هذه الوجوه التي ذكرتها في تفسير عبادة الشياطين كلُّها إلزاماتٌ وبضربٍ من التأويل، ولاسيَّما الثاني والثالث، للقطع بأن المشركين
(1)
أخرجه مسلمٌ في كتاب النكاح، باب ندب مَن رأى امرأةً فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته، 4/ 129، ح 1403، من حديث جابرٍ رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاريُّ في كتاب بدء الخلق، بابٌ خير مال المسلم غنمٌ
…
، 4/ 128، ح 3303. ومسلمٌ في كتاب الذكر والدعاء
…
، باب استحباب الدعاء عند صياح الديك، 8/ 85، ح 2729، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
لم أجده في القدر المطبوع من عمارة القبور.
إنما كانوا يعبدون إناثًا غيبياتٍ هنَّ عندهم بنات الله والملائكة، وليس الشياطين بنات الله ولا ملائكةً، وللقطع بأن مَن يسجد للشمس مثلًا لا يقصد عبادة الشيطان المنتصب دونها.
قلت: صدقتَ، ولكن قَوِيَ هذان الوجهان بمعاضدة [477] الوجه الأوَّل، فيُقال: إنه ليس في الوجود إناثٌ غيبيَّاتٌ هنَّ بنات الله وملائكته، وإنما في الوجود إناثٌ غيبيَّاتٌ هنَّ من الشياطين، فلما كانت عبادتهم لتلك الإناث باطلةً ــ وهنَّ عدمٌ محضٌ ــ؛ كان أقرب مَن تُحَوَّل له العبادة مَن أَمَرَ بها فأُطِيع ــ وهم الشياطين ــ، وهكذا لمَّا كانت عبادة الشمس باطلةً، وإنما أَمَر بها الشيطان فأُطيع؛ قَوِيَ حقُّه في اعتراضها؛ لأنه يقول: أنا أولى بعبادتهم من الشمس؛ لأني أمرتهم فأطاعوني، والشمس لم تأمرْ ولم تُطَعْ.
* * * *
تفسير عبادة الهوى
عبادة الهوى من قَبِيل عبادة الأحبار والرهبان، والوجه الأوَّل في عبادة الشيطان
(1)
، فهي طاعته فيما لا ينبغي أن يُطاع فيه إلَّا الربُّ.
* * * *
(1)
وهو طاعة الشيطان في شرع الدين.
تنقيح المناط
بعد تدبُّر ما قدَّمناه نستطيع أن نقول: مدار التأليه والعبادة على أمرين:
الأوَّل: الطاعة في شرع الدين، والمراد بالدين: الأقوال والأفعال التي يُطْلَب بها النفع الغيبيُّ، والمراد بالنفع الغيبيِّ: ما كان على خلاف [478] العادة المبنيَّة على الحِسِّ والمشاهدة.
فمن هذا: طاعة الموحِّدين لربِّهم عز وجل في شرع الدين.
ومنه: طاعة قوم فرعون لفرعون فيما شرعه لهم من تعظيمه؛ زاعمًا أن ذلك يفيدهم رضى الملائكة، ورضى الملائكة يفيدهم رضى الله عز وجل، فتحصل لهم بسبب ذلك المنافع الغيبيَّة التي تُرجى من الله عز وجل.
ومنه: طاعة أهل الكتاب للأحبار والرهبان فيما يشرعون لهم؛ فإنهم كانوا يزعمون أن ما شرعه الأحبار والرهبان يكون دينًا يفيد مَن عَمِل به رضوان الله تعالى، فتحصل له المنافع التي تُرجى منه سبحانه.
ومثل ذلك: طاعة العرب لعمرو بن لُحَيٍّ وأضرابه.
ومنه: طاعة المشركين للشيطان والهوى؛ فإنهما يوسوسان لهم بأن فِعْلَ كذا دينٌ يفيد مَن التزمه رضوان الله تعالى وحصولَ النفع الذي يُرْجَى منه سبحانه أو حصولَ النفع الغيبيِّ من غيره.
الأمر الثاني: الخضوع أو التعظيم على وجه التديُّن، أي: على أنه دينٌ يُطْلَب به النفع الغيبيُّ.
فمن هذا: خضوع المسلمين وتعظيمهم لربِّهم عز وجل، ومنه: تعظيم المشركين للأصنام والناس والكواكب وأرواح الموتى والملائكة وغير ذلك.
[479]
ويمكن اندراج الأمر الأوَّل في الثاني؛ لأن الطاعة خضوعٌ وتعظيمٌ.
ثم نقول: الخضوع والتعظيم على سبيل التديُّن، إما أن يكون أنزل الله تعالى به سلطانًا أو لا، فما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادةٌ له عز وجل وحده لا شريك له، وإن كان في الصورة لغيره، كطاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وطاعة المسلمين أولي الأمر منهم فيما يتعلَّق بمصالحهم ولا يخالف الشريعة، وطاعة الأبوين فيما لا يخالف الشريعة.
وكذلك توجُّه المسلمين في صلاتهم إلى جهة القبلة، وحجُّهم البيت والطواف به واستلام الركن، وغير ذلك.
وكذلك إكرامهم نبيَّهم صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي رَضِيَه لهم وأقرَّهم عليه، وإكرام الصالحين والوالدين والعلماء وغيرهم على الوجه الذي ثبت في الشريعة الأمرُ أو الإذنُ به، فكلُّ هذا طاعةٌ وتعظيمٌ لله عز وجل.
ومما أنزل الله تعالى به سلطانًا ما كان مما يقطع به العقلُ الصريحُ، كاعتقاد وجوده [480] عز وجل، واتِّصافه بصفات الكمال، وتنزُّهه عن النقائص، ونحو ذلك؛ فإن العقل الصريح سلطانٌ من الله عز وجل، وإنما الشأن كلُّ الشأن في التمييز بين العقل الصريح وبين التوهُّم المستحوذ على