المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٣

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود

- ‌ عبادة الشياطين

- ‌ عبادة الهوى

- ‌النظر فيما كان يعتقده المشركون في آلهتهم ويعملونه

- ‌تفسير عبادة الأصنام

- ‌عُبَّاد النار

- ‌عجل السامري

- ‌الأناسي الأحياء وأرواح الموتى

- ‌تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام

- ‌تأليه الأحبار والرهبان

- ‌ شرع الدين خاصٌّ بالربِّ

- ‌عبادة القبور والآثار

- ‌عبادة أشخاصٍ لا وجود لها

- ‌المصريُّون

- ‌ في عهد إبراهيم عليه السلام

- ‌ في عهد موسى عليه السلام

- ‌العرب وتأليه الإناث الخياليَّات

- ‌تحرير العبارة في تعريف العبادة

- ‌ فصلٌ في الدعاء

- ‌الدعاء عبادةٌ

- ‌ أحكام الطلب، ومتى يكون دعاءً

- ‌من أشنع الغلط في هذا الباب الاعتمادُ على التجربة

- ‌مَن قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمَن قاس الملائكة على البشر

- ‌ الشبهات ورَدُّها

- ‌شبه عُبَّاد الأصنام

- ‌ شُبَه عُبّاد الأشخاص الأحياء

- ‌شُبَه النصارى في عبادتهم الصليب

- ‌شبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان

- ‌شُبَهُ عَبَدَةِ الملائكة

- ‌تقسيم الكفر إلى ضربين

- ‌الأعذار

- ‌ ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شركوأشكل تطبيقها على الشرك

- ‌تمهيد

- ‌ الطِّيَرة

- ‌ فصل في التِّولة والسحر

- ‌ التأثير على ضربين:

- ‌ حكم السحر وتعليمه وتعلمه

- ‌ طرق تحصيل قوة السحر

- ‌ القسم بغير الله عز وجل

- ‌حقيقة القَسَم

- ‌ تسمية النذر يمينًا وحلفًا والقول بأن كفارته كفارة يمين أمر معروف عن السلف

- ‌ الشرك إذا أُطْلِق في الشريعة في مقام الذَّمِّ كان المراد به الشركَ بالله عز وجل، بأن يُشْرِكَ معه غَيْرَه في العبادة على سبيل العبادة للشريك

- ‌ لم يجئ في الشرع نصٌّ على أنَّ الرئاء شرك بالله، وإنما جاء أنَّه شرك فحسب

- ‌قول ما شاء الله وشئت

- ‌فهرس مصادر التحقيق

الفصل: ‌تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام

تكذيب الطاغية في زعمه أنه هو الذي يطلق من أراد إطلاقه ويقتل مَن أراد قتله، والله تبارك وتعالى أعلم.

وعلى ما تقدَّم فلم يدَّع الطاغية الربوبية العظمى وإنما ادَّعى أن أمر رعيَّته مفوَّض إليه يصنع فيهم ما يشاء، لا يمنعه الله عز وجل عما يريده بهم، فيرجع النزاع إلى ضرب من النزاع في القدر، والله أعلم.

‌تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام

رأيُ النصارى في المسيح عليه السلام مضطرب، ويظهر بالتأمُّل أن أول ما تخيَّله العامَّة أن عيسى هو ابن الله حقيقة، حملهم على ذلك أمور:

منها: أنهم سمعوا أنه وُلد من غير أبٍ.

ومنها: أنه كان يقال له: ابن الله، وقد كان هذا المجاز شائعًا في بني إسرائيل، وقد ورد في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب الآن في داود أنه ابن الله البكر، وورد فيها نحوه في مواضع كثيرة. وقد قال تبارك وتعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].

[379]

ومنها: أنهم سمعوا كثيرًا من الأمم يدَّعون في رجال منهم أنهم أبناء الله لأنهم وُلدوا من عذارى، وقد نبَّه الله عز وجل على هذا بقوله:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].

وفي كتاب "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية" للتَّنِّير

(1)

بيان مَن قال

(1)

ص 151 فما بعدها، والتَّنِّير هو: محمد طاهر بن عبد الوهاب بن سليم التَّنِّير البيروتي. توفِّي في دمَّر من ضواحي دمشق، عام 1352 هـ انظر: الأعلام للزركلي 6/ 173.

ص: 642

هذه المقالة من الأمم قبل النصارى، وكأن بعض رؤوس الضلال أشاعوا في عامَّة النصارى تلك العقيدة مروِّجين إفكهم بالأمور السابقة، وبما كان يجري على يد المسيح عليه السلام من الخوارق.

ولعلَّ الذي تولَّى كِبر ذلك بولس

(1)

، وكان من مكره أن أعلن بالإباحة ورفع الأحكام التكليفية، فعل ذلك إفسادًا للدين وتقرُّبًا إلى العامة واجتذابًا لهم، وكان مَن بقي من أهل الحق يخافون على أنفسهم، ولا يكاد الناس يسمعون قولهم؛ لأنهم إذا جهروا بشيء قال الناس: هؤلاء يبغضون المسيح ويحقرونه ويجحدون فضائله ويطعنون على من يحبه ويعظمه، ورؤوس الضلال يصوِّبون قول العامَّة ويوجِّهون أقوالهم، وإذا حوققوا قالوا: إن العامة إنما يقولون في المسيح ما [380] يقولون على سبيل التجوُّز والاستعارة، وأيُّ عاقل يخفى عليه أن الله عز وجل لا يكون له ابن حقيقة؟

وكان بعض بقايا أهل الحق يجْبُن أن يصرِّح به خوفًا من أن يُفهم من كلامه تحقير للمسيح، ثم نشأ في القوم مَن أخذ بنصيب من الفلسفة وأحبَّ

(1)

وُلد في طرسوس الواقعة الآن في تركيا عام 10 ميلادي، كان يهوديًّا

من أشدِّ المعادين للنصارى، ثم دخل دينهم، وهو الذي سمح لغير اليهود أن يدخلوا في الديانة النصرانية بعد أن كانت مقصورة على اليهود، وهو الذي ألغى الختان، ويُنسب إليه في رسائله مشاركته في تحليل الخمر والخنزير والربا، قيل: إنه فعل ذلك لتقريب الوثنيِّين من النصرانية. انظر: الموسوعة البريطانية، مادة: Paul، the Apostle. وانظر: محاضرات في النصرانية، لمحمد أبو زهرة ص 70 - 75، 118 - 119.

ص: 643

أن يطبِّق تلك العقيدة على العقل فاستشنع ما كان يعتقده العامَّة من أنَّ الله تعالى وقع على مريم فأحبلها، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًّا.

فمنهم مَن زعم أن الله تعالى هو نفسه حلَّ في مريم لأنهم يجدون كثيرًا من الأمم قد تورَّطت في اعتقاد الحلول.

ومنهم مَن زعم أن الذي حلَّ في بطن مريم بعضٌ من الله.

والعاقل يعلم أن ما استشنعه المتفلسفون من قول العامة ليس بأشنع مما قالوه هم أعني المتفلسفين.

والمقصود هنا إنما هو بيان معنى تأليههم المسيح وأمه عليهما السلام فأقول:

قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [381] وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 73 - 76].

ليس المراد بالثلاثة هنا ما اشتهر عن النصارى من أن الله تعالى ثلاثة أقانيم، وإنما المراد بالثلاثة: الله تعالى وعيسى وأمه.

ويدلُّ على ذلك أمران:

ص: 644

الأوَّل: أنه قال: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} فدلَّ أن الاثنين الآخرين غيره، والنصارى لا يقولون ذلك في مسألة الأقانيم، بل يقولون: إن مجموع الثلاثة الأقانيم هو الله تعالى.

الأمر الثاني: أنه ذكر في الرد عليهم حقيقة المسيح وحقيقة أمه، وليس لأمه دخل في الأقانيم، وإنما الأقانيم عندهم عبارة عن الأب والابن وروح القدس، فالأب هو الذات، والابن هو الصفة التي فارقته، ودخلت في بطن مريم فكانت المسيح، وروح القدس صفة ثانية نزلت على المسيح في صورة حمامة.

وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ [382] لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116].

فعُلم بهاتين الآيتين أن النصارى يؤلِّهون مريم ويعبدونها كما يؤلِّهون عيسى ويعبدونه، وقد عُلم أنهم لم يقولوا في مريم إنها واجبة الوجود ولا قديمة ولا أنها جزء من الله تعالى، ولا أنها تخلق وترزق وتنفع وتضرُّ وتغفر الذنوب، فثبت بذلك أنَّ التأليه والعبادة لا يتوقَّفان على اعتقاد شيء من هذه الصفات في المعبود، وأنَّ اعتقادهم هذه الصفات في عيسى أمر زائد على التأليه والعبادة.

(1)

فأما قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا

(1)

من هنا بداية ملحقٍ يزيد عن صفحتين قليلًا.

ص: 645

لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171]، فأكثر المفسرين وغيرهم حمل قوله:{ثَلَاثَةٌ} على قولهم: الله وعيسى وأمُّه ثلاثة آلهة.

قال السعد التفتازاني في المطوَّل: "أي: لا تقولوا: لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة، فحُذِف الخبر ثم الموصوف أو المميَّز، أو لا تقولوا: الله والمسيح وأمه ثلاثة، أي: مستوون في استحقاق العبادة والتربية"

(1)

.

وقال المحقِّق عبد الحكيم في حواشيه على حواشي الخيالي على شرح العقائد النسفية في الكلمة

(2)

على تكفير النصارى: "فالعمدة في تكفيرهم ما ذكره بقوله: على أن قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} يعني أنهم إنما كفروا لإثبات الآلهة الثلاثة لا لأنهم أثبتوا القدماء الثلاثة. ومعنى إثباتهم الآلهة الثلاثة أنهم سوَّوا الثلاثة في الرتبة واستحقاق العبادة على ماصرَّح به الشارح في بحث حذف المسند من شرح التلخيص، لا أنهم يثبتون وجوب وجودٍ لكلٍّ من الثلاثة، كيف وقد صرَّح في إلهيَّات المواقف أنه لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا الثنويَّة دون الوثنية ــ أي النصارى (؟ )

(3)

فما ذكره المحشِّي: "كانوا يقولون بآلهة وذواتٍ ثلاثة"

(4)

محلُّ بحث؛ إذ الاشتراك في الألوهيَّة بمعنى استحقاق العبادة لا يدلُّ على كونها ذواتٍ مع أنه لا حاجة إليه؛ إذ القول بتعدُّد المعبود كافٍ في تكفيرهم،

(1)

3/ 14. [المؤلف]. وفي طبعة دار السعادة التركية ص 143: "في استحقاق العبادة والرتبة".

(2)

كذا.

(3)

علامة الاستفهام مِن وضع المؤلف.

(4)

حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية ص 59 - 60.

ص: 646

فالصواب ترك قوله: "وذوات". نقل عنه.

قال الإمام الرازي: "فسر المتكلمون قول النصارى: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} بأنهم يقولون بأقنوم الأب وهو الذات، وأقنوم الابن وهو العلم، وأقنوم الروح القدس وهو الحياة. وهذا الجواب مبني على هذا التفسير". انتهى كلامه. يعني الجواب لقوله

(1)

: "وجوابه إلخ مبنيٌّ على هذا التفسير".

وأمَّا لو فسر قول النصارى: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} بأنَّ الله ثالث الآلهة الثلاثة: الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه قوله تعالى:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فوجه تكفيرهم ظاهر لا سترة عليه"

(2)

.

أقول: وقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ظاهرٌ في أن المراد بقوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} أي: ولا تقولوا: الله ثلاثة أقانيم، كما هو ظاهر لمن تأمَّله. والله أعلم

(3)

.

وقال عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].

دلَّت الآية على أنَّ القوم اتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا وآلهة وعبدوهم وأشركوهم كما قالوا ذلك في المسيح، فعُلم منها زيادة على ما مرَّ

(1)

في مصدر النقل: "الجواب المذكور بقوله".

(2)

3/ 10 [المؤلف]. و 2/ 241 من طبعة فرج الله زكي الكردي

(3)

هنا انتهى الملحق.

ص: 647

أن تأليههم لمريم وعبادتهم لها أمرٌ زائدٌ على قولهم: هي أمُّ ابنِ الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

[383]

فمن عبادتهم لعيسى عليه السلام إشراكُهم إياه في كلِّ عبادة تكون لله تعالى لزعمهم أنه جزء منه، وتعظيمهم لصورته ولصورة الصليب لمشابهتها للصليب الذي صُلِب عليه فيما زعموا.

ومن تعظيمهم لأمِّه تعظيمُ صورتها والاستغاثة بها.

وأما اتِّخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا وآلهة وعبادتهم لهم وإشراكهم فسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

الكلام على قوله تعالى:

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}

قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ [384] تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ

ص: 648

بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [385] وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ

أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64 - 80].

[386]

قال ابن جرير: "حدثنا أبو كريب قال، ثنا يونس بن بكير قال، ثنا محمد بن إسحاق قال، ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي، فذكر نحوه" يعني نحو الحديث الذي تقدَّم قبله، ولفظه: "قال أبو رافع حين

ص: 649

اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام=: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرِّبِّيس

(1)

: أوَ ذاك تريد منا يا محمد؟

(2)

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: معاذَ الله أن نَعبُد غيرَ الله، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني، أو كما قال، فأنزل الله عز وجل في ذلك

: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الآية إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} "

(3)

.

أقول: ابن إسحاق هو إمام أهل المغازي، وقد ذكر هذا الحديث في سيرته، وهو ثقة على الصحيح، وإنما يُخشى تدليسه، وقد صرَّح بالسماع، وشيخه ذكره ابن حبان في الثقات

(4)

، لكن قال الذهبي:[387] لا يُعرف

(5)

.

وفي أسباب النزول للسيوطي

(6)

: وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن قال: بلغني أن رجلًا قال: يا رسول الله! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا، ولكن أكرموا نبيَّكم، واعرفوا الحق

(1)

في الأصل: الرئيس، والتصحيح من طبعة محمود شاكر لتفسير ابن جرير.

(2)

وضع النقاط مني، وإنما وضع خطًا طويلا، ولعله يشير إلى سقم نسخته من تفسير الطبري، والذي تُرك هو:"وإليه تدعونا، أو كما قال".

(3)

3/ 211. [المؤلف]. وأخرجه ابن المنذر 1/ 266، ح 642. وابن أبي حاتمٍ 2/ 693، ح 3756. والبيهقيُّ في الدلائل، باب وفد نجران

، 5/ 384. كلُّهم من طريق ابن إسحاق. وانظر: سيرة ابن هشام 2/ 145.

(4)

7/ 392.

(5)

ميزان الاعتدال 4/ 26.

(6)

لباب النقول ص 51.

ص: 650

لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، فأنزل الله تعالى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} إلى قوله:{بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

(1)

.

أقول: الآية عامَّة تتناول هذا وتتناول ــ كما يدلُّ عليه السياق ــ عيسى عليه السلام بالنظر إلى زعم النصارى أنَّه أمرهم باتِّخاذه ربًّا، وإبراهيم عليه السلام بالنظر إلى زعمهم أيضًا أنه كان نصرانيًّا يأمر باتِّخاذ عيسى ربًّا، وبالنظر إلى زعم المشركين من العرب أنهم على ملَّة إبراهيم عليه السلام مع عبادتهم للملائكة.

وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان ناس من اليهود يتعبَّدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله [388] عن موضعه فقال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآيتين

(2)

= ففيه نظر؛ لأنَّ أولئك الأناس من اليهود لم يُؤْتَوا النبوة، اللَّهمَّ إلَّا أن يُرتكب المجاز فيقال: معنى كونهم أُوتوا النبوة أنهم من قومِ مَنْ أُوتي النبوة، أو نحو هذا، وهذا خروجٌ عن الظاهر بلا موجب.

وقوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ} قُرئ بالنصب والرفع؛ فأما النصب فبالعطف إما:

(1)

لم أجده في تفسير عبد الرزاق. وقد نقله الواحدي في أسباب النزول ص 113. وعزاه في الدرّ المنثور (2/ 250) إلى عبد بن حميدٍ. قال الزيلعيُّ: (غريبٌ). وقال ابن حجرٍ: (لم أجد له إسنادًا). انظر: تخريج أحاديث الكشَّاف 1/ 192، ح 199. الكافي الشاف (الملحق بالكشَّاف) ص 26، ح 221.

(2)

تفسير ابن جرير 3/ 212، [المؤلف]. وتفسير ابن أبي حاتم 2/ 691، ح 3745.

ص: 651

- على {يَقُولَ} بالنظر إلى أن المعنى: ما كان لنبي أن يقول.

- وإما على محذوف بعد قوله: {تَدْرُسُونَ} تقديره: ما كان له أن يقول.

وعلى كلا الوجهين فالمعنى كما نص عليه ابن جرير: "ما كان له أن يقول .... ولا أن يأمركم" فكلمة (لا) صلة لتأكيد معنى النفي، وذلك شائع في الاستعمال، ولا سيما إذا طال الفصل كما هنا.

وقيل: كلمة (لا) أصلية، والمعنى:"ما كان له أن يقول ولا يأمر" أي ما كان له أن يجمع بين القول وعدم الأمر، وهذا بعيد من حيث المعنى؛ إذ يصير النفي فيه منصبًّا على الجمع بين القول وعدم الأمر فيكون مفهومه أن له أن يقول ويأمر، وهو كما ترى.

ويؤيِّد الأول قوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فإنه يدلُّ على توجُّه النفي إلى كلٍّ من القول والأمر على حِدته، ويؤيِّده أيضًا الفصل [389] بقوله:{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} ومثل هذا الفصل لا يحسن بين الأمرين اللَّذَين يُراد توجيه الحكم إلى اجتماعهما، والله أعلم.

وفي الآية احتمالات أُخر ذكرها ابن هشام في المغني في فصل (لا)

(1)

.

والنفي في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} نفيٌ ــ والله أعلم ــ للإمكان، كما في

(1)

مغني اللبيب 3/ 351 - 353.

ص: 652

قوله تعالى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60]، وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145]، أي: لا يمكن أن يجتمع في بشر الأمران:

الأول: {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} .

الثاني: أن يأمرهم باتِّخاذه وغيره من الأنبياء والملائكة أربابًا.

فحاصل المعنى: أنَّ مَن علم الله تعالى منه الأمر بالشرك لم يؤته النبوة، ومَن آتاه النبوة عصمه عن الأمر بالشرك.

وإنما قلت: إن النفي نفيٌ للإمكان لا للجواز بمعنى الحِلِّ؛ لأمرين:

الأول: أن قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتِيَهُ} مما لا يدخل تحت قدرة العبد حتى يصحَّ أن يوصف بعدم الحلِّ.

فإن قلت: الحكم في الآية [390] منصبٌّ على المجموع كما قدَّمتَ.

قلت: صدقتَ، ولكن حُسْن التعبير في مثل هذا يستدعي إذا كان المنفيُّ الحلَّ أن يُفرَّق بين ما يكون الأمران من عمل مَن لا يحلُّ له المجموع وما يكون أحدهما من غير عمله، ففي الأول يوجَّه المنعُ إلى كلٍّ منهما في الصورة مع التنبيه على أنه موجَّه إلى الجمع، كأن يُقال: ما كان للمسلم أن يتزوَّج المرأة ثم يتزوَّج أمَّها، وفي الثاني يوجَّه المنع إلى ما هو من فعله مقيَّدًا بوجود الأمر الآخر، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

[391]

الأمر الثاني: أن نفي الإمكان أقطع للَجاج المفترين على إبراهيم

ص: 653