الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة أَربع عشر وَسَبْعمائة
مستهل الْمحرم: وَافقه حادي عشرى برمودة. فِيهِ اخضر مَاء النّيل، وَتغَير لَونه تغيرا زَائِدا عَن الْعَادة، وَتغَير طعمه وريحه أَيْضا، وَجَرت الْعَادة أَن يكون فِي هَذِه الْأَيَّام فِي غَايَة الصفاء. وَفِي نصف الْمحرم: اتّفق أَنه كَانَ لِلنَّصَارَى مُجْتَمع بالكنيسة الْمُعَلقَة بِمصْر، واستعاروا من قناديل الْجَامِع الْعَتِيق جملَة. فَقَامَ فِي إِنْكَار ذَلِك الشَّيْخ نور الدّين عَليّ بن عبد الْوَارِث الْبكْرِيّ، وَجمع من البكرية وَغَيرهم خلائق، وَتوجه إِلَى الْمُعَلقَة وهجم على النَّصَارَى وهم فِي مجتمعهم وقناديلهم وشموعهم تزهر، فأخرق بهم وأطفأ الشموع وَأنزل الْقَنَادِيل. وَعَاد الْبكْرِيّ إِلَى الْجَامِع، وَقصد القومة، فاحتجوا أَن الْخَطِيب الْقُسْطَلَانِيّ هُوَ الَّذِي أَمر بإرسال الْقَنَادِيل إِلَى الْكَنِيسَة، فَأنْكر عَليّ الْخَطِيب فعله. وَجمع الْبكْرِيّ النَّاس مَعَه على ذَلِك، وَقصد الإخراق بالخطيب، فاختفى مِنْهُ وَتوجه إِلَى الْفَخر نَاظر الْجَيْش وعرفه بِمَا وَقع، وَأَن كريم الدّين أكْرم هُوَ الَّذِي أَشَارَ بعارية الْقَنَادِيل فَلم يَسعهُ إِلَّا مُوَافَقَته. فَلَمَّا كَانَ الْغَد عرف الْفَخر السُّلْطَان بِمَا كَانَ، وَعلم الْبكْرِيّ أَن ذَلِك قد كَانَ بِإِشَارَة كريم الدّين، فَسَار بجمعه إِلَى القلعة وَاجْتمعَ بالنائب وأكابر الْأُمَرَاء، وشنع فِي القَوْل وَبَالغ فِي الْإِنْكَار، وَطلب الِاجْتِمَاع بالسلطان. فأحضر السُّلْطَان الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَطلب الْبكْرِيّ، فَذكر الْبكْرِيّ من الْآيَات وَالْأَحَادِيث الَّتِي تَتَضَمَّن معاداة النَّصَارَى، وَأخذ يحط عَلَيْهِم، ثمَّ أَشَارَ إِلَى السُّلْطَان بِكَلَام فِيهِ جفَاء وغلظة حَتَّى غضب مِنْهُ عِنْد قَوْله:" أفضل الْمَعْرُوف كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر. وَأَنت وليت القبط المسالمة، وحكمتهم فِي دولتك وَفِي الْمُسلمين، وأضعت أَمْوَال الْمُسلمين فِي العمائر والإطلاقات الَّتِي لَا يجوز "، إِلَى غير ذَلِك، فَقَالَ السُّلْطَان لَهُ:" وَيلك {أَنا جَائِر؟ ". فَقَالَ: " نعم} أَنْت سلطت الأقباط على الْمُسلمين، وقويت دينهم ". فَلم يتَمَلَّك السُّلْطَان نَفسه عِنْد ذَلِك، وَأخذ السَّيْف وهم بضربه. فَأمْسك الْأَمِير طغاي يَده، فَالْتَفت السُّلْطَان إِلَى قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين بن مخلوف، وَقَالَ:" هَكَذَا يَا قَاضِي يتجرأ عَليّ؟ إيش يجب أفعل بِهِ؟ قل لي {" وَصَاح بِهِ. فَقَالَ لَهُ ابْن مخلوف: " مَا قَالَ شَيْئا يُنكر عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا يجب عَلَيْهِ شَيْء، فَإِنَّهُ نقل حَدِيثا صَحِيحا ". فَصَرَخَ السُّلْطَان فِيهِ وَقَالَ: " قُم عني} ". فَقَامَ من فوره وَخرج. فَقَالَ صدر الدّين بن المرحل - وَكَانَ حَاضرا - لقَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الشَّافِعِي: " يَا مَوْلَانَا! هَذَا الرجل تجرأ على السُّلْطَان، وَقد
قَالَ الله تَعَالَى أمرا لمُوسَى وَهَارُون حِين بعثهما إِلَى فِرْعَوْن {فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} . فَقَالَ ابْن جمَاعَة للسُّلْطَان: " قد تجرأ وَلم تبْق إِلَّا مراحم مَوْلَانَا السُّلْطَان ". فانزعج السُّلْطَان انزعاجا عَظِيما، ونهض عَن الْكُرْسِيّ، وَقصد ضرب الْبكْرِيّ بِالسَّيْفِ، فَتقدم إِلَيْهِ طغاي وأرغون فِي بَقِيَّة الْأُمَرَاء، وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى أمسك عَنهُ، وَأمر بِقطع لِسَانه، فَأخْرج الْبكْرِيّ إِلَى الرحبة، وَطرح إِلَى الأَرْض، والأمير طغاي يُشِير إِلَيْهِ أَن يستغيث، فَصَرَخَ الْبكْرِيّ وَقَالَ:" أَنا فِي جيرة رَسُول الله "، وكررها مرَارًا حَتَّى رق لَهُ الْأُمَرَاء، فَأَشَارَ إِلَيْهِم طغاي بالشفاعة فِيهِ، فنهضوا بأجمعهم وَمَا زَالُوا بالسلطان حَتَّى رسم بِإِطْلَاقِهِ وَخُرُوجه من مصر. وَأنكر الْأَمِير أيدمر الخطيري كَون الْبكْرِيّ قوى نَفسه أَولا فِي مُخَاطبَة السُّلْطَان، ثمَّ إِنَّه ذل بعد ذَلِك، وَنسب إِلَى أَنه لم يكن قِيَامه خَالِصا لله. وَفِيه قدم الركب من الْحجاز، وَقد كثرت الشكوى من الْأَمِير بلبان الشمسي أَمِير الرَّاكِب، وَأَنه كثير الطمع مفرط فِي أَمر الْحَاج سيء السِّيرَة، فَقبض عَلَيْهِ. وَفِيه أفرج عَن الْأَمِير برلغي صهر المظفر بيبرس. وَفِيه قدم الْبَرِيد من دمشق بِأَنَّهُ قد اجْتمع على النَّاس بواق كَثِيرَة من ضمانات ومقررات على أهل الْبِلَاد، وَقد تضرروا مِنْهَا. فَكتب مِثَال بمسامحة أهل الشَّام بالبواقي لاستقبال سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَإِلَى آخر سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة، وسير إِلَى دمشق فقرئ بهَا على مِنْبَر الْجَامِع فِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر الْمحرم، وتلاه مِثَال آخر بِإِبْطَال الْمُقَرّر على السجون، وإعفاء الفلاحين من السخر، وَإِبْطَال مُقَرر الأقصاب، ومقرر ضَمَان القواسين، ورسوم الشد وَالْولَايَة. فَأبْطل ذَلِك كُله من جَمِيع ممالك الْبِلَاد الشامية بأسرها. وَفِيه كتب لنواب حلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد بِأَن أحدا مِنْهُم لَا يُكَاتب السُّلْطَان، وَإِنَّمَا يُكَاتب الْأَمِير تنكر نَائِب الشَّام، وَيكون هُوَ الْمكَاتب فِي أَمرهم للسُّلْطَان. فشق ذَلِك على النواب، وَأخذ الْأَمِير سيف الدّين بلبان طرنا نَائِب صفد يُنكر ذَلِك، فكاتب فِيهِ تنكز السُّلْطَان حَتَّى عزل فِي صفر، وَاسْتقر عوضه الْأَمِير بلبان البدري، وَحمل طرنا فِي الْقَيْد إِلَى مصر، وسجن بالقلعة. وفيهَا اسْتَقر الْأَمِير عَلَاء الدّين ألطنبعا الْحَاجِب فِي نِيَابَة حلب، بعد وَفَاة الْأَمِير سيف الدّين سودي فِي نصف رَجَب. وَقدم زين الدّين قراجا الخزنداري وَالْخَاص ترك من بِلَاد طقطاي، وأخبرا بِمَوْتِهِ، وَهُوَ طقطاي بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن جوجي
ابْن جنكز خَان ملك التتار بِبِلَاد الشمَال، أَقَامَ فِي الْملك مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة، وَكَانَ يعبد الْأَصْنَام على دين البخشية، وَملك بعده أزبك خَان بن طغرل بن منكوتمر بن طغان. وفيهَا اهتم السُّلْطَان بعمارة جسور نواحي أَرض مصر وترعها وَندب الْأَمِير عز الدّين أيدمر الخطيري إِلَى الشرقية، والأمير عَلَاء الدّين أيدغدي شقير إِلَى البهنساوية، والأمير شرف الدّين حُسَيْن بن حيدر إِلَى أسيوط ومنلفوط والأمير سيف الدّين آقول الْحَاجِب إِلَى الغربية، والأمير سيف الدّين قلي أَمِير سلَاح إِلَى الطحاوية وبلاد الأشمونين، والأمير بدر الدّين جنكلي بن البابا إِلَى القليوبية، والأمير عَلَاء الدّين التليلي إِلَى الْبحيرَة، والأمير بدر الدّين بكتوت الشمسي إِلَى الفيوم، والأمير سيف الدّين بهادر المعزي إِلَى إحميم، والأمير بهاء الدّين أصلم إِلَى قوص. وفيهَا قدم الْأُمَرَاء المجردون إِلَى الْحجاز: وَكَانَ من خبرهم أَنهم لما وصلوا صُحْبَة الْحَاج من السّنة الْمَاضِيَة فر الشريف حميضة نَحْو الْيمن، وَأقَام بلحى بني يَعْقُوب: فَلَمَّا انْقَضى الْمَوْسِم وَخرج الْحَاج أَقَامَ الْأَمِير طقصبا المغربي بالمعسكر حَتَّى رتب الشريف أَبَا الْغَيْث فِي إِمَارَة مَكَّة، وَلم يزل مُقيما مَعَه مُدَّة شَهْرَيْن بعد انْقِضَاء الْحَج. وَلم تمطر تِلْكَ السّنة بِمَكَّة وَقل الجلب، فكثرت كلف العسكرن وَاحْتَاجَ طقصبا إِلَى السّفر. فَأشْهد عَلَيْهِ أَبُو الْغَيْث أَنه أذن لَهُ فِي السّفر، وَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان. فَلم يكن بعد توجه الْعَسْكَر من مَكَّة غير قَلِيل حَتَّى جمع حميضة وَقدم، ففر مِنْهُ أَبُو الْغَيْث إِلَى هُذَيْل بوادي نَخْلَة، وَملك (حميضة) مِنْهُ مَكَّة، وَبعث حميضة إِلَى السُّلْطَان الْقود اثْنَي عشر فرسا وكتابا، وَهُوَ يترفق ويبذل الطَّاعَة وَيعْتَذر؛ فَلم يقبل مِنْهُ الْعذر، وَحبس رَسُوله. وفيهَا توجه الْأَمِير قجلس لقبض مَال سودي نَائِب حلب وكشف أَخْبَار مهنا، فَأَشَارَ تنكز نَائِب الشَّام بِإِخْرَاج مهنا من الْبِلَاد وَأَن عَسْكَر الشَّام يَكْفِيهِ، فَبَطل أَمر التجريدة من مصر. وجرد من الشَّام الْحَاج أرقطاي وكجكن، وَمن حماة ألف فَارس مَعَ عَسْكَر طرابلس وحلب، وَخرج طلب قجليس من الْقَاهِرَة ليَكُون مقدم العساكر، فاجتمعت عِنْده العساكر والعربان بحلب. وَبلغ ذَلِك مهنا فأجمع على الرحيل، وسارت إِلَيْهِ