الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّهِ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّهِ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد:
فقد منَّ اللَّه سبحانه بإرسال رسله إلى العباد، يهدونهم سبيل الفوز والنجاة؛ ويدعونهم إلى الهدى والرشاد. {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهِ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] وأرسل سبحانه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة والشريعة الكاملة، وأنزل عليه كتابه الكريم {بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
وتكفل اللَّهِ سبحانه بحفظه فقالَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فما زال محفوظا {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].
ولما كانت السنة وحيا من اللَّهِ سبحانه وبلاغا لرسالته، إذ قال سبحانه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] فقد أوجب اللَّهِ سبحانه على الناس طاعة رسوله فيما أمر ونهى، فقال سبحانه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، وحذر سبحانه من مخالفته وعصيان أمره، فقال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. فجعل سبحانه وتعالى السنة حجة شرعية، وتعبدنا باعتقاد مضمونها والعمل بمقتضاها، وهي شقيقة القرآن ومثيلته في الحجية والاعتبار؛ إذ هما جميعًا من عند اللَّهِ.
فأصل الدين ومصدره هو الوحي من اللَّهِ لنبيه صلى الله عليه وسلم، وله قسمان هما: القرآن والسنة، وقد بين اللَّهِ سبحانه ذلك اتم بيان فقال سبحانه:{وَأَنْزَلَ اللَّهِ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وإن الأمة ما زالت متفقة على أن السنة النبوية لها مقام معلوم في بيان
الأحكام، وأنها حجة قائمة بنفسها، وأنه يجب الرجوع إليها إذا ثبتت، ولا يجوز الحكم بالاجتهاد والرأى مع ثبوتها، وأنه قد ثبتت بها أحكام لم يرِد بها الكتاب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإثها بيان للقرآن، وتفسير له، ومفصّلة لما أجمل فيه، وهذه المعانى كلها محل إجماع عند من يعتد بأقوالهم، ولا نعلم أحدًا خالف في هذا إلا الزنادقة وأمثالهم من الفرق الضالة الذين لا يتأثر الإجماع بمخالفتهم.
وإن الدارس لكتاب اللَّهِ والسنة النبوية، ولا سيما آيات الأحكام وأحاديثها، ليدرك تمام الإدراك أن للسنة أثرًا مهما في بيان الأحكام المجملة في القرآن الكريم، وهي التي تقيد المطلق، وتخصص العام، وتبين الناسخ والمنسوخ.
وإذا أردنا أن نسوق أمثلة للأحكام التي أجملت في القرآن وبينتها السنة وفصلتها، وأمثلة أخرى للأحكام التي جاءت في السنة ولم ينزل بها قرآن، لوجدنا الشيء الكثير في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والحدود وغيرها.
فمن أين نعرف حد شارب الخمر ورجم الزاني المحصن وقطع يد السارق إذا لم نرجع إلى السنة المطهرة، وغير ذلك من المسائل الكثيرة التي يتوقف الإيمان بالقرآن والعمل به على الإيمان بالسنة والتزامها واتباعها.
وقد حرمت السنة نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وحرمت الحمر الأهلية، وكل ذى ناب من السباع وذى مخلب من الطير، وأوجبت رجم
الزاني المحصن، إلى غير ذلك بما ملئت به مدونات فقه الحديث والكتب الجامعة لأحاديث الأحكام. وقد قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقد أدركت الأمة الإِسلامية عظمة السنة ومكانتها، فحفظتها بعد حفظها للقرآن، ودوَّن العلماء فيها الدواوين من الجوامع والمسانيد والمعاجم والأجزاء والمصنفات، وبحثوا في أحوال الرجال والأسانيد، وألفوا في ذلك العدد الكثير من الكتب، وألفوا في الصحاح والسنن والموضوعات والعلل. وفي سبيل القيام بهذا الجهد الكبير جندوا أنفسهم لخدمتها وكابدوا في سبيلها المشاق والسهر والرحلات الطويلة إلى أقطار الأرض من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.
وهذه مكتبات الدنيا تزخر بما خلفوا من الكنوز، حتى مكتبات أوروبا وأمريكا والهند، حيث استحوذت على إعجابهم وأدركوا أنها أعظم كنز يتباهون به في مكتباتهم.
ولم تكن السنة في القرن الأول -عصر الصحابة وكبار التابعين- مدونة في بطون الكتب، وإنما كانت مسطورة على صفحات القلوب، فكانت صدور الرجال مهد التشريع النبوى ومصدر الفتيا ومنبعث الحكم والأخلاق.
وقد روى مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال
رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تكتُبوا عنِّي، ومَن كتبَ عنِّي غيرَ القرآنِ فليَمْحُهُ"
(1)
. قال أبو العباس القرطبى: كان هذا النهى متقدما، وكان ذلك لئلا يختلط بالقرآن ما ليس منه ثم لما أمن من ذلك أبيحت الكتابة، كما أباحها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي شاه في حجَّة الوداع حين قال:"اكتُبُوا لأبي شاه" فرأى علماؤنا هذا ناسخا لذلك
(2)
.
قال القاضي عياض: بين السلف اختلاف كبير في كتابة العلم من الصحابة والتابعين، فكرهه كثير منهم، وأجازه الأكثر، ثم وقع بَعْدُ الاتفاقُ على جوازه لِمَا جاء عنه عليه السلام من إذنه لعبد اللَّهِ بن عمرو في الكتاب
(3)
.
وكما امتن اللَّهِ علينا بالسنة فقد امتن علينا بحفظها إذ سخر لها من أفذاذ الرجال من قام بحفظها وتدوينها، ونقصد بالتدوين كتابة الأحاديث وجمعها في ديوان واحد، وقد كان ذلك يتم في البداية في شكل مجهود فردي، حيث يقوم الراوى بكتابة مسموعاته في كتاب لنفسه، فلما انتشر الإِسلام في أرض اللَّهِ، واتسعت البلاد، وتفرق الصحابة في الأقطار، ومات كثير منهم، وقيل الضبط، دعت الحاجة إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، فلما أن أفضت الخلافة إلى الإِمام العادل عمر بن عبد العزيز كتب على رأس المائة إلى أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عامله وقاضيه على المدينة: انظر ما كان من حديث رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء
(4)
.
(1)
مسلم (3004)، وأحمد (11536) بلفظ:"شيئًا غير القرآن".
(2)
المفهم 6/ 703.
(3)
إكمال المعلم 8/ 553.
(4)
البخاري (99).
وكذلك كتب إلى عماله في أمهات المدن الإِسلامية بجمع الحديث، فكان أول من استجاب له ابن شهاب الزهرى فدون في ذلك كتابًا، ثم فشا أمر التدوين في الطبقة التي تلته، وكان على رأس من دون ابن جريج في مكة وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة في البصرة، وسفيان الثوري في الكوفة، وابن إسحاق والإمام مالك في المدينة وغيرهم، والتف حولهم طلبة العلم وأخذوا عنهم الحديث وحفظوه دراية ورواية، وشددوا في ضبطه ودققوا في مروياته.
وقد اختلفت مناهج المصنفين في الحديث كما يقول ابن الأثير: رأيت هذا العلم على شرفه وعلو منزلته وعظم قدره علمًا عزيزًا، مشكل اللفظ والمعنى، والناس في تصانيفهم التي جمعوها وألفوها مختلفو الأغراض متنوعو المقاصد. ثم ذكر أغراضهم كما يلي:
1 -
منهم من قصر همته على تدوين الحديث ليحفقالفظه ويستنبط منه الحكم.
2 -
ومنهم من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها، فيضع لكل مجموعة من الأحاديث المتشابهة بابًا يختص بها.
3 -
ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظًا لغوية، ومعانى مشكلة، فوضع لها كتابًا، قصره على ذكر متونها، وشرح غريبها وإعرابه وتوضيح معانيه دون تعرض منه لذكر أحكامها.
4 -
ومنهم من أضاف إلى الاختيار السابق ذكر الأحكام واراء الفقهاء.
5 -
ومنهم من اقتصر على ذكر الغريب دون متنه، فجمع الكلمات الغريبة ودونها ورتبها وشرحها.
6 -
ومنهم من قصد إلى استخراج أحاديث تضمنت ترغيبًا وترهيبًا وأحاديث تتضمن أحكامًا فدونها معًا
(1)
.
ويعقب ابن الأثير على هذه الأغراض قائلًا: "وغير هؤلاء المذكورين من أئمة الحديث لو أردنا أن نستقصى ذكرهم واختلاف أغراضهم ومقاصدهم لطال الكتاب، ولم ننته إلى حد، فاختلاف الأغراض هو الداعى إلى اختلاف التصانيف"
(2)
.
ولا شك أن الإِمام البيهقي كان من هؤلاء الأفذاذ الذين اختارهم اللَّهِ لحفظ السنة، وحباهم بشرف التصنيف فيها وخدمتها، يظهر ذلك في جُل مصنفاته التي يعمد فيها إلى سياقة الحديث في موضعه من الاستشهاد أو الموضوع أو الفكرة بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي أو التابعى أو غيره ممن يروى عنه، بحيث إنه لا يكاد يذكر رواية أو قولًا إلا ويسوق معه إسناده لهذا القول أو تلك الرواية" ويتجلى ذلك بوضوح في كتابه "السنن الكبير" الذي نحن بصدده، حيث ذكر المباحث الفقهية وأدلة المسائل الشافعية مستنبطة من الأحاديث والآثار المسندة، موردا كل حديث برواياته المتعددة وطرقه المختلفة، متكلما في الأسانيد والمتون بمقتضى الطرق الانتقادية، ومستشهدا بكتب الحديث الصحيحة.
(1)
جامع الأصول 1/ 16 - 18.
(2)
السابق 1/ 18.
ولمّا كان هذا الكتاب "السنن الكبير" بحاجة إلى مزيد اهتمام وعناية -لِما له من أهمية في المكتبة الإِسلامية حيث عده الذهبي أحد أربعة كتب عدها كتب الإِسلام- ونظرًا لما للمصنف من مكانة علمية، فقد وقع اختيارنا عليه لنوليه الاهتمام والعناية، وذلك بإعادة تحقيقه ونشره وإخراجه في صورة علمية، نرجو من اللَّهِ أن تكون مرضية للَّه عز وجل ونافعة لطلاب العلم وسائر المسلمين.
وما كان لهذا السفر العظيم أن يخرج في هذه الصورة إلا بحبل من اللَّهِ وعون منه، وتسخيره لمجموعة من العمل مخلصة محبة للعلم حريصة على إخراجه على النحو الذي يرضى اللَّهِ عز وجل، ويكون نافعا للإسلام وأهله. والحمد للَّه حق حمده.