المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأولالنُّصوص المتعلَّقة بالصيام (من القرآن العظيم)

- ‌الفصل الثانيتعريف الصيام، وتأريخ تشريعه

- ‌الصيام لغةً:

- ‌الصيام شرعاً:

- ‌مراحل تشريع الصيام:

- ‌ تأريخ تشريع فريضة الصوم

- ‌الفصل الثالثفضائل الصيام وأسراره، وخصائص رمضان

- ‌الفصل الرابعأنواع الصيام

- ‌الصوم المفروض - من حيث كيفية الأداء

- ‌ الصوم المكروه

- ‌ الصوم المُحرَّم

- ‌الفصل الخامسأحكام الصيام، ومسائل مهمة متعلقة به

- ‌1- كيفية ثبوت الشهر الكريم

- ‌2- اختلاف المطالع، وأثر ذلك في تحقق الثبوت والانقضاء

- ‌3- كيفية ثبوت انقضاء شهر رمضان:

- ‌4 - ركن الصوم:

- ‌5 - شروط وجوب الصوم:

- ‌6 - شروط صحة الصوم:

- ‌7 - الصوم الواجب (المفروض) :

- ‌8- مفسدات الصوم:

- ‌أ) ما يُفسِد الصوم عامة

- ‌ب) ما يُفسِد الصوم ويُوجِب القضاء فقط

- ‌جـ) ما يُفسِد الصوم ويُوجِب القضاء والكفارة معاً

- ‌9- ما لا يفسد الصومَ أصلاً:

- ‌10- مبيحات الإفطار وما يلحق بها

- ‌(1) المرض:

- ‌(2) السفر:

- ‌(3) (4) الحَمْل والرَّضاع:

- ‌5- الكِبَر (الشيخوخة

- ‌6- الإرهاق الشديد بجوع أو عطش:

- ‌7- الإكراه:

- ‌11- مندوبات الصوم

- ‌12- مكروهات الصوم:

- ‌13 - الاعتكاف

- ‌16- زكاة الفطر، أو صدقة الفطر

- ‌خاتمة(وفيها بيان حقيقة الصوم ومصالحه،…وكمال هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه)

الفصل: ‌13 - الاعتكاف

‌13 - الاعتكاف

(159)

وهو لغة: اللبث وملازمة الشيء أو الدوام عليه؛ خيراً كان أو شراً، ومنه قوله تعالى:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبيَاء: 52]، وقوله سبحانه:{قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى *} [طه: 91]، وقوله عز وجل:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البَقَرَة: 187] .

ومعنى الاعتكاف شرعاً: لزوم مسجدٍ طاعةً لله تعالى، على صفة مخصوصة، من مسلم عاقل - ولو مميِّز - طاهرٍ مما يوجب غُسْلاً (160) .

ودليله من الكتاب قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البَقَرَة: 187] .

ومن السُّنَّة: «أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده» (161) .

وحكمه: سنة - أي مستحب - في كل وقت، وهو

(159) قد سبق ذكر للاعتكاف في ختام جملة المندوبات ص (158) ، لكني أختصّه هنا - لأهميته - بمزيد تفصيلٍ لأحكامه.

(160)

انظر: كشاف القناع للبهوتي (1/168) .

(161)

تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (148) .

ص: 123

في العشر الأواخر من رمضان أفضل من أجل طلب ليلة القدر، فإن كان نذراً لزم - أي وجب الوفاء به على الصفة التي نذرها من تتابع أيامٍ، ونحوه. وذلك لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يطيعَ الله فليُطِعْه» (162) ، ولأمره صلى الله عليه وسلم عمرَ رضي الله عنه، حين أخبره بنذرٍ له في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، بقوله عليه الصلاة والسلام:«أوفِ بنذرك» (163) .

وقد اتفق العلماء على مشروطية المسجد - أي كونه شرطاً - لصحة الاعتكاف، فلا يجوز الاعتكاف في غير المسجد، لأن المسجد تميّز عن سائر البقاع بفضلِ أنه بُنِي لإقامة الطاعات والعبادات فيه. ثم إن الاعتكاف جائز في كل مسجد، إلا أنه في المسجد الجامع أفضل، حتى لا يحتاج المعتكف إلى الخروج من معتكفه لصلاة الجمعة، كما أن الاعتكاف لا يختص بالمساجد الثلاثة (المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس = المسجد

(162) جزء من حديث أخرجه البخاري؛ كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر في الطاعة، برقم (6696)، عن عائشة رضي الله عنها. وتمام الحديث:«وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِه» .

(163)

متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أخرجه البخاري؛ كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف ليلاً، برقم (2032) . ومسلم؛ كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الإصرار على اليمين، برقم (1656) ، واللفظ للبخاري رحمه الله.

ص: 124

الأقصى) وذلك لعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البَقَرَة:187](164) .

ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن اعتكاف المرأة في بيتها جائز، حيث إن اعتكافها فيه أدعى للستر لها، بخلاف تعرُّضِها في المسجد لكثرة من يراها، [وقد أطلق الإمام الشافعيُّ رحمه الله كراهة الاعتكاف للنساء في المسجد (*) ، وشَرَط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن يكون في مسجد بيتها](165) .

وقته: يكون الاعتكاف في أي وقت من أيام السنة، فقد اعتكف النبيُّ صلى الله عليه وسلم مرةً عشراً من شوال (166) ، لكنه يستحب في رمضانَ جميعه، وفي العشر الأوسط منه، ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر منه، وذلك لمواظبته صلى الله عليه وسلم وأزواجه من بعده - على فعل ذلك (167) ، كما يستحب أن يدخل المُعتِكف مُعتكَفه إذا صلّى الصبح، وذلك لمداومته صلى الله عليه وسلم عليه (168) ، كذلك يُنهِي اعتكافه إذا صلّى الصبح،

(164) قال ابن حجر رحمه الله: (ووجه الدلالة من الآية: أنه لو صحّ - أي: الاعتكاف - في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به، لأن الجماع منافٍ للاعتكاف بالإجماع، فعُلِم من ذِكْر المساجد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها) . اهـ. انظر الفتح [4/319] . هذا، وقد عنون الإمام البخاري -بما فَقِه من الآية - بقوله: (باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلِّها لقوله تعالى:[البَقَرَة: 187]{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .

(165)

انظر: فتح الباري (4/323) .

(*) يُشار هنا إلى أن مذهب الإمام الشافعي رحمه الله قد استقرّ - في الجديد - على أن اعتكاف المرأة لا يصح في مسجد بيتها، وهو المُعتزَل المهيأ للصلاة. انظر: منهاج الطالبين للنووي ص (44) .

(166)

جزء من حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه، أخرجه البخاري؛ كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف النساء، برقم (2033)، ومسلم؛ كتاب: الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه، برقم (1173) . والمقصود بـ (عشراً من شوال) : العَشْر الأوَّل منه. كما جاء مبيَّناً عند مسلم رحمه الله. ولا يَرِد على ذلك لفظ البخاري عن عائشة أيضاً «حتى اعتكف في آخر العشر من شوال» ، [ويجمع بينهما بأن المراد بقوله: «آخر العشر من شوال: انتهاء اعتكافه صلى الله عليه وسلم] . اهـ. انظر الفتح لابن حجر (4/325) .

(167)

تقدم دليل ذلك مرارًا من حديث عائشة المتفق عليه. انظر تخريجه بالهامش ذي الرقم (148) .

(168)

جزء من حديث تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (166)، بلفظ:«فيصلِّي الصبح، ثم يدخُلُه» .

ص: 125

فيخرج بعده، وذلك لخروج النبيِّ صلى الله عليه وسلم صبيحة عشرين (169)، وقد قال أبو سعيد رضي الله عنه:(اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العَشْرَ الأوسط، فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا)(170) .

مسألة:

هل ما ذكر آنفًا من استحباب دخول المُعتكِف مُعتكَفَه صبحاً وخروجِه منه كذلك، هو على إطلاقه؟

[إن من أراد اعتكاف الليالي دون الأيام، فإنه يدخل قبيل غروب الشمس ويخرج بعد طلوع الفجر، فإن أراد اعتكاف الأيام خاصة، فيدخل مع طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس، فإن أراد اعتكاف الأيام والليالي معاً، فإنه يدخل قبل غروب الشمس ويخرج بعد غروب الشمس أيضاً](171) .

شروطه: يتبين من التعريف الاصطلاحي للاعتكاف مشروطية خمسة أمور لصحته هي:

(169) وذلك كما عنون البخاري رحمه الله من كتاب الاعتكاف - (باب: الاعتكاف، وخروج النبيِّ صلى الله عليه وسلم صبيحةَ عشرين) . اهـ.

(170)

أخرجه البخاري؛ كتاب: الاعتكاف، باب: من خرج من اعتكافه عند الصبح، برقم (2040)، ومسلم - بنحوه -؛ كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم (1167) .

(171)

الكلام لابن حجر رحمه الله. انظر: الفتح (4/332) .

هذا، وإن ما أرشدت إليه السنَّة المطهَّرة من دخول المُعتكِف مُعتكفَه صبحاً وخروجه منه كذلك، يَصْدُق فيه - بحمد لله - إدراكُ كلِّ معتكف لوقت اعتكافه، فإن أراد أياماً أدرك ذلك بدخوله بعد الصبح، وإن أراد ليالي أدركها بخروجه بعد الصبح، كذلك لو أراد أياماً وليالي، فإن دخوله صبحاً وخروجه صبحاً، يجعله مستوفياً لما أراد، مقتدياً بخير العباد، عاملاً بسُنَّته صلى الله عليه وسلم.

ص: 126

1-

الإسلام. 2- العقل. 3- النية. 4- الطهارة (النقاء من الحيض والجنابة) . 5- وقوع الاعتكاف في مسجد.

مسألة:

هل الصوم شرط في صحة الاعتكاف؟

[قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البَقَرَة: 187] . وقد سأل عمرُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: (كنت نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف ليلة (172) في المسجد الحرام، قال عليه الصلاة والسلام:«فَأَوْفِ بنذرك» (173) . إن الناظر في هذين النصين الكريمين قد يجد في ظاهرهما تعارضًا؛ حيث إن الآية الكريمة ذكرت الاعتكاف إثر الصوم، فكأنه لا اعتكاف بغير صوم، بيد أن الحديث أرشد إلى مشروعية الاعتكاف ليلاً، ومعلوم أن الليل ليس مَحَلاً للصوم، فكيف يُعتكَف فيه؟ الحق أنه لا تعارض بين النصين، فليس في الآية ما يدل على تلازم الاعتكاف

(172) أما ما صح عند مسلم «يوماً» بدل «ليلة» ، فقد جمع ابن حِبّان وغيره بين الروايتين بأن عمر رضي الله عنه قد نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد: بيومها، ومن أطلق يوماً أراد: بليلته. اهـ. انظر: الفتح (4/322) .

(173)

تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (163) .

ص: 127

والصوم، وإلا لزم ألا يصح صوم بغير اعتكاف، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم. لذا، فإن المختار في ذلك أن الاعتكاف ليس من شرطه الصيام، وإن كان غالب اعتكاف النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان بصوم، إلا أنه عليه الصلاة والسلام اعتكف في شوال - كما مرّ - واعتكف عمرُ رضي الله عنه ليلة كما صرح به البخاري رحمه الله، بقوله:«فاعتكف ليلة» (174) ، فدل ذلك على أنه لم يزد على نذره شيئاً، وأن الاعتكاف لا يشترط فيه الصوم، كما أنه لا يشترط له حدٌّ معين] (175) .

مسألة:

هل للاعتكاف حدٌّ في أقلِّ زمنِه أو أكثره؟

المختار في ذلك أن أقلَّ الاعتكاف يوم أو ليلة، ذلك أن معنى الاعتكاف مشتق من لزوم الشيء وحبس النفس عليه، وما كان دون يوم أو ليلة يَبْعُد أن يسمى اعتكافاً لقِصَر مدته وعدم انضباطه بزمن معين، فلا بدّ للمعتكف أن يلبث في المسجد قَدْراً يسمى عكوفاً،

(174) أخرجه البخاري؛ كتاب: الاعتكاف، باب: من لم ير عليه صوماً إذا اعتكف، برقم (2042) .

(175)

الإجابة مستفادة من كلام الإمام ابن حجر رحمه الله. انظر: الفتح (4/322 وما بعدها) ؛ مبحثَيْ: باب الاعتكاف ليلاً، وباب: من لم ير عليه - إذا اعتكف - صوماً. وتفصيل جواز الاعتكاف بصوم أو بغيره مشتهر في كتب الفروع، وخلاصته: أنه لا اعتكاف إلا بصوم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد. والثاني: صحة الاعتكاف بغير صوم، وهو مذهب الشافعية، والله أعلم.

ص: 128

وقد مرّ آنفاً حديثُ أَمْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمرَ رضي الله عنه بوجوب إيفائه لنذره باعتكافه يوماً أو ليلة. أما أكثر وقت الاعتكاف فلا حدَّ له، لكن غالب اعتكاف النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد كان في العشر الأواخر من رمضان، كما اعتكف عليه الصلاة والسلام عشراً من شوال، «فلما كان العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين» (176)، [وقد قيل: إن السبب في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم علم بانقضاء أجله فأراد أن يستكثر من أعمال الخير، ليبين لأمته استحباب الاجتهاد في العمل إذا بلغوا أقصاه، وذلك ليلقَوا الله على خير أحوالهم، وقيل: السبب فيه أن جبريل _ج كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين، فلذلك اعتكف صلى الله عليه وسلم قَدْر ما كان يعتكف مرتين، أو قد يكون ذلك بسبب سفره عاماً فلم يعتكف، وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام أنه إذا عمل عملاً أَثْبَتَه، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين] (177) ، ومهما يكن من

(176) جزء من حديث أخرجه البخاري؛ كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان برقم (2044) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(177)

انظر: الفتح لابن حجر (4/334) .

ص: 129

سبب لإطالة الاعتكاف، فقد دل ذلك على مشروعيته للاستزادة من فعل الخيرات، [لكن لو أطاله مسلم عن ذلك الحد، فقد يحصل بذلك إضاعة العبد لأهله وانشغاله عنهم، أو تَرْك طلب معاش أو تكليف غيره بالإنفاق عليه، لذا فمع كون الاعتكاف لا حدَّ لأكثره، لكنه يُستحسن فيه ألاّ يزيدَ عن حدِّ ما وردت به السُّنَّة، وبخاصة أنه قد يكون فيه مَظِنَّة حصول تفريط في أمور المعاش، والله أعلم](178) .

ما يحرم على المعتكف فيُبطِل اعتكافه، أو يقطعه:

قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البَقَرَة: 187] .

[يحرم على المعتكف النساءُ ما دام معتكفاً في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بدّ له منها فلا يَحِلُّ له أن يتلبَّثَ فيه إلا بمقدار ما يَفْرغ من حاجته تلك من نحو قضاء الغائط أو أكلٍ (179) ، وليس له أن يقبِّلَ امرأته، ولا يضمَّها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى

(178) مستفاد من نص إجابة لفضيلة العلامة ابن جبرين حفظه الله. انظر: حوار في الاعتكاف، إعداد سالم الجهني، ص (11) .

(179)

كما لا يخفى، فإنه قد تيسر سبيل تلك الحاجة وأمثالها للمعتكف، وهو في المسجد.

ص: 130

اعتكافه، ولا يعود المعتكف المريضَ، ولكن يسأل عنه وهو مارٌّ في طريقه] (180) . وعن عائشةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت:«وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيُدخِل عليَّ رأسَه - وهو في المسجد - فأرجِّلُه، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً» (181) والحاصل فيه أن المعتكف يحرم عليه الجماع فيُبطِل اعتكافَه، كما يحرم عليه الخروج من المسجد - عمداً - لغير حاجة الإنسان (182) ، فإن فعل انقطع اعتكافه، لكن لا يضر إخراج بعض الأعضاء كالرأس للترجُّل أو للغَسْل (183) ، وكذلك له أن يخرج لحوائجه إلى باب المسجد، وكذلك فإن لزوجته زيارته في معتكفه (184) .

آدابه: شُرِع الاعتكاف للتبتُّل والانقطاع إلى الله سبحانه، بالتقرُّب إليه عز وجل بسائر أنواع القُرَب، والتزهُّد في أمر الدنيا وانقطاع انشغال القلب بها، لذا فقد كان الاعتكاف عبادة جليلة تُهذِّب النفس، وتسمو بالروح، وتَصقُل القلب، وتقوِّي الإرادة، بما يهيِّئ

(180) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص196، ط - بيت الأفكار الدولية.

(181)

أخرجه البخاري؛ كتاب: الاعتكاف، باب: لا يدخل البيت إلا لحاجة، برقم (2029) . ومسلم؛ كتاب: الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها، برقم (297) .

(182)

المقصود بحاجة الإنسان: قضاء الحاجة من بول أو غائط، ومنه قول عائشة:«كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأُرَجِّلُه، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» كما في مسلم، برقم (297) .

(183)

كما صحّ من فعله صلى الله عليه وسلم. انظر: البخاري برقم (2029) ، ومسلم برقم (297) .

(184)

كما في الصحيحين من فعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم وزوجه صفية رضي الله عنها ولفظ البخاري: (جاءت صفيةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعةً، ثم قامت تَنْقَلِبُ، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة

) الحديث. انظر البخاري برقم (2035) ، ومسلم برقم (2175) .

ص: 131

المؤمنَ لمواجهة حرمان ملذات الحياة بقوة لا تعدلها قوة، وعزيمة لا تعرف خَوَراً ولا هزيمة. كل ذلك مترافق بروح التطوُّع والإقبال على الله تعالى، محبة لجلاله، وطمعاً في ثوابه، وخوفاً من عذابه؛ ومِنْ رَحِم هذه المعاني ومن صُلْبها تتولد آداب الاعتكاف، وهي عديدة تكاد ألاّ تحصى، فلينهلِ المعتكف منها ما شاء:

1-

عِمارة الوقت، بصنوف الطاعات، من أداء الصلاة جماعة، أو قراءة القرآن، وحفظه، والاشتغال بالعلم ومدارسته، والإكثار من الأذكار المشروعة؛ المقيَّدِ منها والمطلق.

2-

الإكثار من الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبخاصة في ليلة الجمعة ونهارها، لقوله عليه الصلاة والسلام:«من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ» (185) .

(185) أخرجه أحمد في مسنده (4/8) من حديث أوس ابن أوس الثقفي رضي الله عنه، وأبو داود؛ باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، برقم (1047) ، من حديثه أيضاً.

ص: 132

3-

الإكثار من دعاء الله عز وجل، مع التزام شروط الدعاء وآدابه، وتحرّي أوقات الإجابة، ومنها: حال السجود، وحال الصيام، وليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان، وبين الأذان والإقامة، وساعة الإجابة من يوم الجمعة وهي من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، أو آخر ساعة بعد عصر الجمعة، فكلاهما ساعة إجابة (186) .

كذلك الدعاء في وقت السَّحَر؛ وهو ثلث الليل الآخِر، ويخص في دعائه إخواناً له عَلِم فاقتهم أو ضراً نزل بهم، كما يكثر من الدعاء لأُمَّة سيِّدِنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فيناله مثل الأجر الذي ينالهم.

4-

التعوُّد على الإكثار من الصمت، وتجنب الفُضول من الكلام، كالجدال وإن كان مُحِقّاً، وألاّ يتكلم المعتكف إلا بخير، ممتثلاً قوله صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (187) .

(186) كما حقق ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (1/131) .

(187)

جزء من حديث متفقٍ عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: الرِّقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6475) . ومسلم؛ كتاب: الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار، برقم (47) .

ص: 133

5-

التعوُّد على الاختلاء بالنفس، ليكون ذلك داعياً للتفكُّر والتأمُّل فيما سبق من حياة المعتكف، هل كانت فيما يرضي الله تعالى أم فيما سوى ذلك؟ ليبادر بعدها إلى توبة نصوح تكون بداية لتغير مسار حياته، وحسن ثواب آخرته.

6-

اعتياد قيام الليل، وقسر النفس على ذلك، ليجد حلاوة ذلك، فإذا أدركها بقي أثرها بعد اعتكافه ذكرى متجددة تسري في حنايا قلبه، تدعوه بإلحاح للوقوف بين يدي الله في ساعة مناجاة في جوف الليل.

7-

استحضار معنى اتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتحقيق محبته المقتضية لحسن الاقتداء به، فالمعتكف يشعر بتغلغل محبة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قلبه، وذلك بحُسن اتباعه، مما يحدوه - بعد انقضاء اعتكافه - إلى المحافظة على هذه الصلة الروحية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 134

14-

قيام رمضان (ومنه صلاة التراويح)(188) .

يقول الله تعالى في وصف عباده المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *} [السَّجدَة: 16]، ويقول نبيُّه الكريم صلى الله عليه وسلم:«من قام رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» (189) . ويقول عليه الصلاة والسلام: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلّى ركعة واحدة توتر له ما قد صلّى» (190) . وكان من هَدْيه صلى الله عليه وسلم الترغيب بقيام الليل في رمضان وغيره، قال صلى الله عليه وسلم:«أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة، الصلاةُ في جوف الليل» (191)، وقد وصفت عائشة رضي الله عنها صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقولها:«ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلّي أربعاً، فلا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطولِهِنَّ، ثم يصلّي أربعاً فلا تسل عن حُسْنِهِنَّ وطولِهِنَّ، ثم يصلِّي ثلاثاً» . قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي» (192) . ومن هَدْيه

(188)[التراويح جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، كتسليمة من السلام. سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان: التراويح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين] . انظر: الفتح (4/294) .

(189)

تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (27) . ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إِيْمَاناً» ، أي: تصديقًا بوعد الله بالثواب عليه، و «احْتِسَابًا» ، أي: طلبًا للأجر، لا لقصدٍ آخر من رياء أو نحوه. انظر: الفتح (4/296) .

(190)

متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه البخاري؛ كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر، برقم (990) . ومسلم؛ كتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، برقم (749) .

(191)

جزء من حديث أخرجه مسلم؛ كتاب: الصيام، باب: فضل صوم المُحرَّم، برقم (1163) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(192)

متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: أخرجه البخاري؛ كتاب: التهجد، باب: قيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره برقم (1147)، ومسلم؛ كتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، برقم (738) .

ص: 135

عليه الصلاة والسلام في قيام الليل: (التطويل في القراءة، ما أطاق القائم ذلك، ووجد في نفسه نشاطاً، كذلك المداومة على القيام، وكان أحبَّ الدِّين إليه صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه)(193) .

ستُّ مسائلَ متعلقة بقيام الليل، ومنه التراويح.

قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [السَّجدَة: 16-17] .

وهنا ثلاث مسائل مستنبطة من معنى هاتين الآيتين، سأُتْبِعها بثلاث أخرى متعلقة بفقه القيام من سُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

الأولى: كيف تتجافى الجُنوب عن المضاجع؟

[يعني بذلك: قيام الليل، وتركَ النوم، والاضطجاع على الفُرُش الوطيئة. أو هو الصلاة بين العِشَاءَيْن، أو

(193) كما صحت بذلك السنة المطهّرة. انظر: البخاري برقمي (43) - (1135) ، ومسلم بالأرقام (255) - (785) - (782) .

ص: 136

انتظار صلاة العَتَمة، أي: العِشَاء الآخرة، أو الحرص عليها في جماعة، وكذلك صلاة الغداة، وهي الفجر] (194) .

الثانية: كيف يكون دعاء المصلي بالليل خوفًا وطمعًا؟ وما علاقة الدعاء بالإنفاق، إذ أتبعه الله بذكره؟!

[المعنى: خوفًا من وبال عقاب الله وطمعًا في جزيل ثوابه، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فيجمعون بين فعل القربات اللازمة كأداء الزكاة - والمتعدية تطوعًا - كقيام الليل والدعاء فيه - ومُقدَّم هؤلاء وسيِّدهم وفخرهم في الدنيا والآخرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عبد الله بن رواحةَ رضي الله عنه:

وَفِينَا رَسُولُ اللهِ يَتْلُو كِتَابَهُ

إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ منَ الصُّبْحِ سَاطِعُ

أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا

بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

(194) انظر: تفسير ابن كثير ص 1345، ط - بيت الأفكار الدولية.

ص: 137

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ

إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ] (195)

الثالثة: لِمَ أخفى الله سبحانه ما لقائمي الليل من ثواب؟ وما معنى (قرة أعين) ؟ [أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم، واللذات التي لم يَطَّلع على مثلها أحدٌ، فلمّا أخفَوا هم أعمالهم أخفى الله لهم من الثواب، جزاءً وفاقاً، فإن الجزاء من جنس العمل. فأخفى لهم سبحانه ما لم تره عين ولم يخطر قَطُّ على قلب بشر!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأَتْ، ولا أُذُن سمعَتْ، ولا خطر على قلب بشر» ، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فاقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السَّجدَة: 17](196) .

الرابعة: هل المقصود بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مثنى مثنى» ، بيان صفة قيام الليل، وأنه لا بد من الفصل بين كل ركعتين بالتسليم؟

(195) المرجع السابق بالعزو نفسه.

(196)

انظر كذلك: المرجع الأسبق ص 1346. والحديث من المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: التفسير، سورة تنزيل [السجدة] ، باب: قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ، برقم (4779) . ومسلم؛ كتاب: الجنة وصفةِ نعيمها وأهلها، برقم (2824) .

ص: 138

[إن الراوي للحديث - وهو ابن عمر رضي الله عنهما قد فسّره بقوله: (تسلّم من كل ركعتين) (197) . وراوي الحديث هو أعلم بالمراد به، وما فسّره به هو المتبادر إلى الفهم، لأنه لا يقال في الرباعية مثلاً إنها مثنى، واستُدل بهذا على تعيُّن الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل. فالمختار في صلاة الليل أن تكون مثنى مثنى - كما نصّ عليه ظاهر الحديث - وأن يسلّم من كل ركعتين لكونه صلى الله عليه وسلم أجاب به السائل، ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقاً، لكن قد صح عنه صلى الله عليه وسلم الفصل كما صح عنه الوصل، فيكون الفصل إرشاداً إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الوصل إلى الأربع فما فوقها، لما فيه من الراحة غالباً وقضاء ما يعرض من أمر مهم](198) .

الخامسة: حيث إن التراويح هي من جنس قيام الليل، فهي تصلى مثنى مثنى - كما تقرر -، لكن ما هو الأفضل في أدائها: الانفراد أم الجماعة؟

(197) كما عند مسلم، من طريق عقبة بن حُرَيْثٍ، قال: سمعت ابن عمر يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا رَأَيْتَ أَنَّ الصُّبْحَ يُدْرِكُكَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَة» ، فقيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: (أن تسلّم في كل ركعتين) . انظر: كتاب صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، برقم (749) .

(198)

انظر: الفتح لابن حجر (2/556) .

ص: 139

[خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من جوف الليل، فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثرُ منهم فصلَّوْا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّوْا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عَجَز المسجد عن أهله حتى خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح؛ فلمّا قضى الفجرَ أقبل على الناس فتشهّد، ثم قال:«أما بعدُ؛ فإنه لم يَخْفَ عليّ مكانُكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» . قال ابن شهاب (199) : (فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما (200) .

[وخرج عمر رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون؛ يصلِّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلِّي بصلاته الرَّهْط، فقال عمر: إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثلَ، ثم

(199) قول ابن شهاب - وهو الإمام الزهري رحمه الله أخرجه البخاري؛ كتاب: صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان، بعد رقم (2009)، ومسلم - من غير ذكر القائل - كتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، برقم (759) .

(200)

متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: أخرجه البخاري؛ كتاب: الجمعة، باب: من قال في الخُطبة بعد الثناء: أما بعد. برقم (924) . ومسلم؛ كتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح. برقم (761) .

ص: 140

عزم فجمعهم على أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، ثم خرج ليلة أخرى - والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: نِعْم البدعةُ هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّلَه] (201) .

إن النصوص المذكورة آنفًا يُستَدل بها على أمور، منها (202) :

*

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد أقرّ مَنْ صلّى معه في تلك الليالي الثلاث.

*

أنه عليه الصلاة والسلام ترك ذلك فيما بعد، وكره لهم الدوام على صلاة التراويح جماعة معه، وذلك خشية أن يفرض الله تعالى ذلك عليهم، فيكون أداؤها عندئذٍ جماعةً في المسجد شرطاً في صحتها، فيعجز البعض عن ذلك فيفوته أجر قيام ليالي رمضان.

(201) أخرجه البخاري؛ كتاب: صلاة التروايح، باب: فضل من قام رمضان، برقم (2010) ، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ. ومعنى أَوْزاع، أي: جماعة متفرقون، وقوله في الرواية:(متفرقون) تأكيد لفظي. انظر: الفتح (4/297) .

(202)

انظر فيما يستنبط من الأدلة: الفتح لابن حجر (4/297) . بتصرّف.

ص: 141

*

أنه لما توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حصل الأمن من الافتراض، ورجح عند عمر رضي الله عنه أنّ جَمْع الناس على إمام واحد أمثل؛ لاعتبارات عديدة، منها:

-

التمسك بهَدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صلاة القيام بالناس جماعة.

-

فقهه رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما كره لهم ذلك إلا من أجل أن أداءها جماعة قد يترتب عليه عجزُهم عن أدائها فيما لو فُرِضت جماعة، فكان الترك رأفة بالمسلمين ورحمة بهم، لا لعدم أفضلية أدائها جماعة.

-

حرص عمر رضي الله عنه على منع تخالف قلوب المصلين، لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على إمام واحد - وبخاصة إذا كان أقرأهم لكتاب الله، مع حسن الصوت وتمثُّل الخشوع به - هو أنشط لكثير من المصلين.

ص: 142

أخي القارئ، يتبين مما سبق أن أداء صلاة قيام رمضان جماعة هو الأولى، كما فعله عمر رضي الله عنه، وأقره صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر عمل المسلمين عليه بعدها.

يبقى أن عمر رضي الله عنه قد نبَّه إلى أن الصلاة في آخر الليل، والتي ينام عنها كثير من الناس هي أفضل من القيام في أوَّله - ولو كان القيام في أول الليل جماعة - حثاً منه رضي الله عنه للقائمين في التراويح على الصلاة آخر الليل كذلك، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخِر، يقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألُني فأعطيَه، من يستغفرُني فأغفرَ له» (203) ، والله أعلم.

السادسة: هل لصلاة التراويح عدد محدد يُلتزم به، فلا يُتجاوز، أم أن في الأمر سعة؟

قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة

» (204) ، وقالت رضي الله عنها تصف صلاة

(203) متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: التهجد، باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل، برقم (1145)، ومسلم؛ كتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، برقم (758) .

(204)

جزء من حديث، تقدم ذكره بتمامه وتخريجه بالهامش ذي الرقم (192) .

ص: 143

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبع وتسع وإحدى عشرة، سوى ركعتي الفجر» (205) .

وقالت أيضاً رضي الله عنها: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر» (206) .

قال الإمام ابن حجر رحمه الله: [أشكلت روايات عائشة رضي الله عنها على كثير من أهل العلم حتى نسب بعضهم حديثَها إلى الاضطراب!! وهذا، إنما يتم - أي الاضطراب في الرواية - لو كان الراوي عنها واحداً، أو أخبرت عن وقت واحد، والصواب: أن كل شيء ذكرَتْه من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة، بحسب النشاط وبيان الجواز، والله أعلم، وظهر لي أن الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة: أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل، كما أن فرائض النهار: الظهر وهي أربع، والعصر وهي أربع، والمغرب وهي ثلاث: وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار جملة وتفصيلاً، وأما مناسبة

(205) أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟، برقم (1139) .

(206)

متفق عليه: أخرجه البخاري؛ كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ برقم (1140)، ومسلم؛ كتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: صلاة الليل، برقم (738) .

ص: 144

ثلاث عشرة فيكون بضمّ صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها] (207) .

يتبين من هذا الكلام النفيس أن [أكثر ما كان يصليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الليل في رمضان وغيره هو إحدى عشرة ركعة، فالرواية دلت على الحصر، لكنها لم تتعرض لركعتي الفجر، وتعرضت لها في الرواية الثانية، كذلك في الرواية الثالثة، وبهذا يجمع بين الروايات، والله أعلم](208) فالتراويح مُقيَّدة بالنصِّ - كما ترى - في هيئتها وفي وقتها، أما عدد ركعاتها فمع كون غالب صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلاً إحدى عشرة ركعة، فإن فهم السلف وعملهم دلّ على أن الأمر فيه سعة، وأنه لا حدّ لأكثرها، وذلك عملاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«صلاة الليل مثنى مثنى» (209) ، حيث إنه بيان للكيفية، وأنه يسلّم من كل ثِنْتين كما سبق بيانه.

والحاصل في ذلك: أن المراد بقيام رمضان: صلاة التراويح، فيحصل بها المطلوب من القيام يقيناً، لكن

(207) انظر: الفتح لابن حجر (3/26) ، ينقله عن الإمام القرطبي رحمه الله.

(208)

انظر: الفتح (3/26) أيضاً.

(209)

تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (190) .

ص: 145

ذلك لا يعني أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، أو أنه لا يُزاد فيها عن إحدى عشرة ركعة، فقد يقتصد أحدهم في السُّنة، فلا يصلي إلا ركعتي قيامٍ مثلاً، وهذا مشروع داخل في مسمّى التراويح، كما أنه لو زاد عليها - أي على إحدى عشرة ركعة - فهو معتبر من مطلق التراويح كذلك، والله أعلم.

15 -

قيام ليلة القدر.

قال الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البَقَرَة: 185]، وقال تعالى:{حم *وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ *إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ *فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ *أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ *} [الدّخان: 1-5] .

وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ *تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ *سَلَامٌ هِيَ

ص: 146

حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ *} [القَدر: 1-5] .

ويقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدّم من ذنبه» (210) .

وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل العشرُ شدََّ مِئْزَرَه وأحيا ليله، وأيقظ أهله» (211) .

ويقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «تحرَّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» (212) .

وقد خرج عليه الصلاة والسلام ليخبر صحابته رضي الله عنهم بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال:«خرجت لأخبرَكم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فَرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» (213) .

وقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدةَ عائشة رضي الله عنها دعاءً تقوله إن عَلِمت أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدر، فقال:«قولي: اللهم إنك عفوٌّ كريم تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عني» (214) .

(210) تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (28) .

(211)

تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (150) ، كما تقدم بيان معنى (شد مئزره) ، بالهامش ذي الرقم (149) .

(212)

متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: أخرجه البخاري؛ كتاب: فضل ليلة القدر، باب: تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، برقم (2017) . ومسلم - من غير لفظ «الوتر» - كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها، برقم (1169) .

(213)

أخرجه البخاري؛ كتاب: فضل ليلة القدر، باب: رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس، برقم (2023) ، عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه، ومسلم - مطوّلاً - كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم (1167)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقوله:«فلان وفلان» ، [قيل هما: عبد الله ابن أبي حدرد وكعب ابن مالك، ذكره ابن دحية ولم يذكر له مستنداً] . انظر: الفتح (4/315) .

ومعنى: «فتلاحى رجلان» ، أي: وقعت بينهما ملاحاة، وهي المخاصمة والمنازعة والمشاتمة، وعند مسلم:«يحتقّان» ، أي: يدعي كلٌ منهما أنه محقّ فيما ذهب إليه، وكذلك عنده بلفظ «يختصمان» . وهي مبيِّنة لمعنى التلاحي.

(214)

أخرجه الترمذي؛ كتاب: الدعوات، باب: في فضل سؤال العافية والمعافاة، برقم (3513)، عن عائشة رضي الله عنها. قال أبو عيسى (الترمذي) : هذا حديث حسن صحيح.

ص: 147

أخي القارئ، تلك نصوص كريمة من الكتاب والسُّنَّة، قد حوت في ثناياها ما يُستنبط من أمر ليلة القدر، ومن ذلك أحد عشر مبحثًا، أشرع ببيانها، مستعيناً بالله تعالى:

الأول: من دلالة الآيات الواردة بشأن ليلة القدر.

[إن المتدبر للآيات من سورة البقرة ومن مطلع سورة الدخان، ومن تمام سورة القَدْر، يتبين له أن ليلة القدر هي - جزماً - من ليالي شهر رمضان، حيث [مدح الله تعالى - في الآية من سورة البقرة - شهر الصيام من بين سائر الشهور، بأنِ اختاره لإنزال القرآن العظيم فيه، فقال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البَقَرَة: 185]، وكان ذلك في ليلة مباركة هي التي ذكرها الله في سورة الدخان بقوله تعالى:[الدّخان: 3]{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} . وهي اللية التي فخَّم الله أمرَها، وسمّاها ليلة القدر، كما في قوله سبحانه:

ص: 148

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *} [القَدر: 1] .

هذا، وقد نزل القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، في تلك الليلة، ثم نزل بعدُ مُفَرَّقاً - بحسب الوقائع - على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما روي ذلك - من غير وجهٍ - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وفي ليلة القدر المباركة من ليالي رمضان: يُفصَل من اللوح المحفوظ إلى الكَتَبة - من الملائكة - أمرُ السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وجميع ما يكون فيها إلى آخرها، وهذا الأمر يكون مُحكَماً؛ لا يُبدَّل ولا يُغيَّر، ولهذا قال سبحانه:{أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدّخان: 5] أي: جميع ما يكون ويقدّره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه] (215) .

الثاني: في ذكر سبب نزول سورة القدر:

ذكر أهل التفسير (216) رواياتٍ في سبب نزول السورة، منها ما أُرسِل عن مجاهد رحمه الله: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاحَ في سبيل الله

(215) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ص (188) . ط - بيت الأفكار.

(216)

انظر: تفسير الطبري (30/259) ، وابن كثير ص (1859) ، ط - بيت الأفكار، كذلك انظر: أسباب النزول للواحدي ص (461) ، ولُباب النقول للسيوطي ص (327) .

ص: 149

ألف شهر!، قال: فعجب المسلمون من ذلك، قال: فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ *} [القَدر: 1-3]، قال: خير من التي لبس فيها السلاحَ ذلك الرجلُ) . كذلك روي في سبب النزول، عن مجاهد رحمه الله، قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله هذه الآية:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ *} [القَدر: 3]، أي: قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل) (217) .

الثالث: معنى القَدْر، وسبب تسمية الليلة الشريفة به.

أ - معنى القَدْر:

[القَدْر: مَبْلَغُ كلِّ شيء، يقال: قَدْره كذا، أي: مبلغه، وكذلك القَدَر. والقَدْر: قضاء الله تعالى الأشياء على مَبَالغها ونهاياتها التي أرادها لها، وهو القَدَر أيضاً. وقوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعَام:

(217) أخرجه ابن جرير في تفسيره (30/259) ، بسند ضعيف جداً إلى مجاهد رحمه الله.

ص: 150

91] ، قال المفسرون: ما عظَّموا الله حقَّ عَظَمته، وهذا صحيح، وتلخيصه: أنهم لم يصفوه بصفته التي تنبغي له تعالى] (218) .

[وقَدْر الشيء مقداره، والقَدْر والقَدَر: مقدار من الحكم الإلهي على العبد. فالقدر - بالسكون والحركة - مرادف التقدير](219) . [وقَدْر الشيء - ساكن الدال، والفتح لغة - مَبْلَغُه، يقال: هذا قَدْر هذا وقَدَره، أي: مُماثِلُه، ويقال: ما له عندي قَدْر ولا قَدَر، أي: حرمة ووقار. والقَدَر بالفتح لا غير: القضاء الذي يُقدِّره الله تعالى](220) .

والحاصل مما ذُكِر آنفًا أن القَدْر بإسكان الدال، تتعدد معانيه، فقد يرادف معنى القَدَر وهو قضاء الله الأشياء، وقد يكون بمعنى مبلغ الشيء ومقداره والحرمة والوقار ونحوها. أما القدَر بفتح الدال فهو مختص بما يُقدِّره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأمور.

(218) انظر: معجم المقاييس لابن فارس مادة (قدر)(2/388) .

(219)

انظر: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي، مصطلح [القَدْر](2/1301) .

(220)

انظر: المصباح المنير للفيّومي، مادة: قدر، ص (187) .

ص: 151

ب - سبب تسمية الليلة: (ليلة القدر)(221) .

اختلف أهل العلم في معنى (القَدْر) ، الذي أضيفت إليه تلك الليلة على أقوال، يمكن ردُّها بمجملها إلى ثلاثة، هي:

1-

أن القَدْر بمعنى القَدَر - بفتح الدال - الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى: أنه يُقدَّر فيها أحكامُ تلك السنة، فيظهر للملائكة في تلك الليلة ما سيكون في السنة من الأقدار والأرزاق والآجال، مما أثبت في اللوح المحفوظ، وسبق علم الله تعالى به وتقديره له. وهذا معنى قوله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ *} ، وقوله سبحانه:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ *} [القَدر: 4] .

2-

أن المراد بالقَدْر: التعظيم، فسُمِّيت الليلة بذلك لعظم قَدْرها وشرفها، كقوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعَام: 91]، أي: ما عظموه تعظيماً يليق بجلاله. وإنما اكتسبت تلك الليلة هذا التعظيم لأمور

(221) انظر في هذا المطلب الفتح لابن حجر (4/300) ، والمنهاج للنووي (8/298) ، وتفسير القرطبي (20/130) ، والبحر المحيط لأبي حيّان (8/92) .

ص: 152

عديدة، منها: نزول القرآن فيها، ولعِظَم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أُنزِل عليه هذا القرآن، وشرف الأمة التي اختُصَّت بها، ولتنزُّل الملائكة فيها، وتنزُّل البركة فيها والرحمة والمغفرة، ولعظم أجر من أحياها، وعظيم قَدْره عند الله تعالى.

3-

أن معنى القَدْر هنا التضييق، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطّلَاق: 7] أي: ضُيِّق، ومعنى التضييق في الليلة: إخفاؤها عن العلم بتعيينها بليلة محددة، أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة لكثرة تنزُّلِهم في تلك الليلة المشرَّفة.

فائدة: [إنما جاء القَدْر بسكون الدال، وإن كان الشائع في القَدَر الذي هو مؤاخي القضاء فتحَ الدال، وذلك ليُعلم أنه لم يُرَد به ذلك - أي القضاء - إنما أريد بالقَدْر: تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة لتحصيل ما يُلقى إليهم - أي إلى الملائكة - فيها مقداراً بمقدار](222) .

(222) الكلام للتوربشتي، ينقله الإمام ابن حجر عنه في الفتح:(4/301) .

ص: 153

الرابع: فضل ليلة القَدْر، وشرفها (223) .

قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *} .

لقد عظَّم الله سبحانه شأن ليلة القدر، حتى إنه أعلم نبيَّه صلى الله عليه وسلم، بأن درايته - مع عِظَم سعتها ومبلغ شأوها - لم تبلغ غاية فضل هذه الليلة وفخامة أمرها. ثم بيَّن له عز وجل شأنها، ومن ذلك:

أ-

أن العبادة فيها هي أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وهذا الزمن يقارب ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، فانظر - رحمك الله - إلى مزيد رحمة الله بهذه الأمة.

ب-

أنها ليلة يكثر فيها تنزُّل الملائكة، لكثرة بركتها، والملائكة يتنزَّلون مع تنزُّل البركة والرحمة، كما يتنزَّلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم - بإخلاص نيَّةٍ - تعظيماً له. وممن يتنزَّل من الملائكة عليهم السلام في تلك الليلة أمين الوحي الروحُ جبريلُ عليه

(223) انظر في هذا المبحث: تفسير ابن كثير ص1858 ط - بيت الأفكار، وتفسير البحر المحيط لأبي حيان (8/492) .

ص: 154

السلام، ما يرفع شأن هذه الليلة ويُعظِم قدرها.

جـ-

أن الملائكة عليهم السلام تحيِّي أهل المساجد من المصلِّين، بالسلام عليهم في تلك الليلة، وتدعو لهم، حتى يطلع الفجر.

د-

ليلة القدر ليلة سالمة من الآفات والبلايا، ولا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى، فهي خير كلها، ليس فيها شر إلى مطلع الفجر.

هـ-

هي ليلة - كما ذُكِر آنفًا - يُقدِّر الله فيها مقادير الأرزاق والآجال وحوادث العالم كلها التي تكون في ذلك العام، فيفرق ذلك على المُدبِّرات من الملائكة عليهم السلام.

و

في ليلة القدر، أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصَّلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 155

هذا، وإن فضائل هذه الليلة تكاد ألا تنحصر، اللهم بلِّغناها وشرِّفنا بقيامها إيماناً واحتساباً، ووفِّقنا لموافقتها عطاءً وكرامة، وضاعف لنا أجر قيامها مِنّة وكرماً، ولا تحرمنا من خيرها فضلاً ورحمةً، آمين.

الخامس: مِنْحةُ مضاعفةِ الأجرِ في ليلة القدر، أمر مختص بالأمة الإسلامية.

من آلاء الله سبحانه على الأمة أنِ اختصها بمزيد فضل على سائر الأمم السالفة، ومن ذلك أنْ جعل لها تعالى أجراً جزيلاً مضاعفاً لعمل قليل، وإن تفضيل العمل في ليلة القدر على عمل ألف شهر خير شاهد على ذلك.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبشِّرًا أُمَّته بما اختصَّها الله به -: «إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس؛ أوتي أهل التوراةِ التوراةَ، فعملوا حتى إذا انتصف النهارُ عَجَزوا،

ص: 156

فأُعطُوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيلِ الإنجيلَ، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأُعطُوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآنَ، فعمِلْنا إلى غروب الشمس، فأُعطِينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابَيْن: أيْ ربَّنا، أعطيتَ هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً، ونحن أكثر عملاً؟ قال: قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء» (224) . اللهم إنا نسألك من فضلك العظيم.

هذا، وإن جمعاً من أهل العلم قد رجَّح كونَ ليلة القدر مما اختصت به هذه الأمة، منهم الأئمة مالك، وابن حجر، والنووي والسيوطي، رحم الله الجميع (225) . وقد أشار الإمام ابن كثير إلى عدم اختصاصها بهذه الأمة، فقال:(والذي عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا)(226) . اهـ. والمختار هو الأول، والله أعلم.

(224) أخرجه البخاري، في مواضع من صحيحه، منها: كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، برقم (557) ، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(225)

انظر الموطأ (1/218) ، والفتح (4/304) ، والخصائص الكبرى للسيوطي (1/208) .

(226)

انظر: تفسير القرآن العظيم ص1860، ط - بيت الأفكار.

ص: 157

السادس: التماس ليلة القدر، والتحقيق في تعيين أرجى أوقات طلبها.

قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «تحرَّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» (227) .

هذا الحديث الشريف هو عمدة في بيان مَحَلِّ هذه الليلة، وأرجى أوقات طلبها، والأحاديث الصحيحة الدالة على التماسها عديدة، أمكن العلماء أن يستنبطوا منها ما يربو على أربعين قولاً في تعيين مَحَلِّها، ليس المقام يتسع لذكرها فضلاً عن بسطها، لكن سأعمد إلى ذكر نُقول من كلام أهل العلم فيما رجح لديهم في ذلك:

1-

ترجم الإمام البخاريُّ رحمه الله باباً في (تحرِّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر)، قال الإمام ابن حجر رحمه الله: [في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأواخر منه، ثم في أوتاره لا في ليلة بعينها، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار

(227) تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (212) .

ص: 158

الواردة فيها] (228) . وقال أيضاً عند إيراده القول الخامس والعشرين في تعيين الليلة: [إنها في أوتار العشر الأخير، وعليه يدل حديث عائشة وغيرها في هذا الباب، وهو أرجح الأقوال وصار إليه أبو ثور والمُزَني وابن خزيمة (229) ، وجماعة من علماء المذاهب](230) . وقال رحمه الله بعد أن ساق ثمانية وأربعين قولاً في المسألة: [وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل كما يُفهم من أحاديث هذا الباب](231) .

2-

وقال الإمام النوويُّ رحمه الله: [إنما تنتقل ليلة القدر في العشر الأواخر، وبهذا يجمع بين الأحاديث الصحيحة المختلفة فيها](232) .

3-

وقال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله: (ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، هكذا صح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي في العشر الأواخر من رمضان وتكون في الوتر منها» ) . اهـ. (233) .

(228) انظر الفتح: (4/306) .

(229)

انظر: صحيح ابن خزيمة (3/323) .

(230)

انظر: الفتح (4/312) .

(231)

المرجع السابق (4/313) .

(232)

انظر: المجموع - شرح المهذَّب - (6/449) .

(233)

انظر مجموع الفتاوى (25/284) .، والحديث الذي أورده شيخ الإسلام، متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: الأذان، باب: السجود على الأنف والسجود على الطين، برقم (813)، ومسلم؛ كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم (1167) .

ص: 159

4-

(قال طائفة من السلف - وهو الجادّة من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنها ليلة سبع وعشرين)(234)، واستُدِلّ لذلك بقول أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه:(واللهِ الذي لا إله إلا هو - يحلف ما يستثني - ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها)(235) . [هذا، وقد حكي عن بعض السلف أنه حاول استخراج كونها ليلة سبع وعشرين من القرآن، من قوله تعالى: (هي) لأنها الكلمة السابعة والعشرون من السورة، والله أعلم](236) .

5 -

وقال العلاّمَة الشَّنْقيطي بعد أن سرد أقوال أهل العلم في المسألة: (إذا علمتَ ما ذكر مما دلّ على طلب ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر من رمضان فاعلم أن أرجى الأوتار هو ليلة سبع وعشرين حسبما عليه أكثر العلماء، وهو الذي

(234) انظر: تفسير ابن كثير ص1861، ط - بيت الأفكار.

(235)

أخرجه مسلم؛ بكتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، برقم (762) ، وقد أجاب أبي بن كعب رضي الله عنه، حين سئل عن سبب تعيينه لها بليلة سبع وعشرين، بقوله:(بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الشمس تطلع يومئذٍ لا شعاع لها) . كما في مسلم بعد الرقم (1169) . [ومعنى (يحلف ما يستثني) يعني حَلَف حَلِفاً قاطعاً، حتى إنه لم يقل معه: إن شاء الله. وقول أبيّ رضي الله عنه في تعيين الليلة لم يكن مستنده في ذلك حديثاً يعيّن هذه الليلة بعينها أنها ليلة القدر، بل مستنده في ذلك وجود أمارة، أي: علامة ذكر في الحديث أنها توجد في صبيحة ليلة القدر، وهي أن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها، وقد طلعت كذلك في صبيحة سبع وعشرين تلك السنة، وهذا لا يستلزم وقوعها في هذه الليلة في كل سنة، لأنها تنتقل من ليلة إلى أخرى في وتر من ليالي العشر الأواخر، وقد ثبت وجود علامة هذه الليلة صبيحة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبهذا يُعلم أن مستند أبيّ بن كعب رضي الله عنه ليس من القوة بحيث يُبنى عليه هذا التعيين] انظر: منة المنعم في شرح صحيح مسلم للمباركفوري (1/480) .

(236)

والمقصود ببعض السلف هنا ابن عباس رضي الله عنها، [ولا يصح مثل هذا عن ابن عباس، وإنما هذا من باب اللّغز المنزّه عنه كلام الله تعالى] . انظر: البحر المحيط لأبي حيّان (8/493) .

ص: 160

تشهد له الأدلة، وبه قال جماهير أصحاب أحمد ابن حنبل، قال القسطلاني (237) : قال في الإنصاف - أي الإمام المرداوي -: وهذا المذهبُ، وعليه جماهير الأصحاب، وهو من المفردات. اهـ. وبه جزم أبيّ بن كعب وحلف عليه كما في صحيح مسلم، وفي حديث ابن عمر - عند أحمد - مرفوعاً:«ليلة القدر ليلة سبع وعشرين» ، وحكاه الشاشي من الشافعية في الحِلْية عن أكثر العلماء. اهـ) (238) .

هذا، وإن مما يستدل به على كونها ليلة سبع وعشرين، ما رواه ابن عباس: أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيَّ الله، إني شيخ كبير عليلٌ يَشُقُّ عليَّ القيام، فَأْمُرْني بليلةٍ، لعلّ الله يوفقني فيها لليلة القَدْر، قال عليه الصلاة والسلام:«عليك بالسابعة» (239) .

أخي القارئ، يتحصل مما سبق أن أرجى أوقات طلب تلك الليلة، هو فيما يتنقل من أوتار العشر

(237) انظر: إرشاد الساري (4/595) .

(238)

انظر: زاد المسلم للعلاّمة محمد بن أحمد الشنقيطي رحمه الله (3/305) .

(239)

أخرجه أحمد في مسنده (1/240) ، من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما.

ص: 161

الأواخر، ولا يُجزم بكونها ليلة منها بعينها (240) ، وذلك عملاً بمجموع صحيح الأحاديث الواردة في ذلك، مع كون ليلة السابع والعشرين هي أرجى أوتار العشر، والله أعلم.

السابع: علامات ليلة القدر.

إن من عظيم رحمة الله تعالى بهذه الأمة، أن اختصها بهذه الليلة المباركة، ثم جعل لها أمارات تعرفها بها، وتكون علامة على صدق نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وسبيلَ استبشارٍ لهم بمضاعفة الأجر بما يبلغ - بحمد الله - عبادة عُمُرٍ بأكمله. هذه العلامات قد تكون عامة يدركها عموم الأمة، أو مختصّة بخُلَّص العباد المُوفَّقين لرؤيتها، وسأعرض في هذا المبحث للعلامات العامة، ثم أستدل لها، وأدّخر ما يكون من علامات مختصة - بمن وُفّقت له ليلة القدر فرأى من الخوارق ما شاء الله له أن يرى - إلى مبحث رؤية الليلة إن شاء الله. ويشار هنا إلى أن من علاماتها

(240) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (وقد حكي عن مالك رحمه الله أن جميع ليالي العشر في تَطَلُّب ليلة القدر على السواء، لا يترجح منها ليلة على أخرى، رأيتُه في شرح الرافعي رحمه الله. اهـ) . انظر: تفسير القرآن العظيم ص 1862.

وشرح الرافعي هو (الشرح الكبير) شَرَح به كتابَ «الوجيز» للإمام الغزالي، و «الوجيز» هو مختصر لكتاب شيخ العزالي الإمام الجويني:(نهاية المطلب)، حيث اختصره الإمام الغزاليُّ ثلاثةً: سمى الأول «البسيط» ، والثاني:«الوسيط» ، ثم:«الوجيز» ، ويذكر - للفائدة - أن مسمى كتاب الرافعي هو:(فتح العزيز في شرح الوجيز) ، المشتهر بالشرح الكبير، أو شرح الرافعي.

ص: 162

العامة ما يكون وصفاً لها، أو وصفاً لما يكون بها، أو لما يكون في صبيحتها. ومن هذه العلامات:

1-

طلوع الشمس صبيحتها واضحة الاستدارة، لا يخالط استدارتَها شعاع، يمكن النظر إليها كما يُنظَر إلى القمر البدر الساطع، لا يخرج معها شيطان يومئذٍ.

2-

ظهور القمر فيها على هيئة شِقِّ جَفْنَةٍ، أي: يشبه هيئة نصف قَصْعة الطعام.

3-

تكون الليلة هادئة للغاية، لا يعكر صفوَها شهابٌ يُرمى به مارد مسترق للسمع. وتكون الليلة صافية منورة كأن القمر بدر ساطع فيها، ليس فيها حرٌّ مزعج ولا برد مؤلم.

أخي القارئ، ما سبق كان وصفاً مفصَّلاً لأمارات تلك الليلة الجليلة - مقتصراً منها على ما صح دليله - وهاك أدلتها، مرتبةً بترتيب إيرادها:

ص: 163

1-

سأل زِرُّ بنُ حبيش أبيَّ بنَ كعب رضي الله عنهما، فقال: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ - أي أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين -، قال: بالعلامة، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع - أي الشمس - يومئذٍ لا شعاع لها (241) .

2-

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يَحِلُّ للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ» (242) .

3-

وقد تذاكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة القدر عنده، فقال عليه الصلاة والسلام «أيّكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شِقِّ جَفْنَةٍ؟» (243) .

4-

وقال عليه الصلاة والسلام: «إن أمارة ليلة القدر، أنها صافية بَلَجة، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية، لا بردَ فيها ولا حرَّ، لا يَحِلُّ لكوكب أن يُرمى به فيها حتى تصبح» (244) .

(241) تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (235) . [والشُّعاع: هو ما يُرى من ضوئها عند بروزها مثل الحبال والقضبان مقبلةً إليك إذا نظرت إليها. ومعنى «لَا شُعَاعَ لَهَا» ، قال القاضي عياض: قيل إنها علامة جعلها الله تعالى لها، أي من غير سبب ظاهر لذلك - قال: وقيل بل لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها إلى الأرض، وصعودها بما تنزّل به، سُتِرت الشمس بأجنحتها وأجسامها اللطيفة] . انظر: المنهاج للنووي (8/306) .

(242)

جزء من حديث أخرجه أحمد (5/324)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قال العراقي عنه في (شرح الصدر بذكر ليلة القدر) ص51: إسناده جيد. اهـ. وقال الهيثمي في «المجمع» (3/175) : رجاله ثقات.

(243)

أخرجه مسلم؛ كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم (1170)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النووي رحمه الله. [وفي قوله صلى الله عليه وسلم:«مِثْلُ شِقِّ جَفْنَة» إشارة إلى أن ليلة القدر إنما تكون في أواخر الشهر، لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه إلا في أواخر الشهر، والله أعلم] . انظر المنهاج (8/306) . و «شِقّ جَفْنَةٍ» ، الشق: النصف كما في المُفْهِم شرح صحيح مسلم، للقرطبي (4/1962)، وجفنة: قصعة الطعام، ج/ جِفان وجِفَن وجَفَنات. انظر: المعجم الوسيط (جَفَن) ، والقاموس المحيط (الجَفْن) .

(244)

جزء من حديث، تقدم إيراد جزء منه، وتخريجه من مسند أحمد رحمه الله، بالهامش ذي الرقم (242) .

ص: 164

الثامن: عِلم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بوقتها.

قال الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *} .

في تفسير ذلك [قال ابن عيينة رحمه الله: ما كان في القرآن (ما أدراك) فقد أَعْلَمَه؛ وما قال: (وما يدريك) فإنه لم يُعْلِمْهُ](245) . اهـ. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: [ومقصود ابن عيينة أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف تعيين ليلة القدر] . اهـ (246) .

وقد خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليخبر الصحابة رضي الله عنهم بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين. فقال:«خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفِعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» (247) .

وقال عليه الصلاة والسلام: «أُرِيت ليلةَ القدر، ثم أيقظني بعض أهلي، فنُسِّيتها (248) ، فالتمسوها في العشر الغوابر» (249) .

(245) نقل القولَ البخاريُّ في صحيحه؛ كتاب: فضل ليلة القدر، في ترجمة باب فضل ليلة القدر، قبل الرقم (2014) .

(246)

انظر: الفتح لابن حجر (4/300) .

(247)

تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (213) .

(248)

هكذا بتشديد السين، والبناء للمفعول، وقال مسلم: قال حَرْملة: «فنَسِيتُها» .

(249)

انفرد به مسلم؛ كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحثّ على طلبها، برقم (1166)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومعنى:«الغَوَابِر» ، البواقي وهي الأواخر. انظر: المنهاج للنووي (8/299) .

ص: 165

يستدل من مجموع الأدلة السابقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم يقيناً تعيين ليلة القدر، وقد أراد عليه الصلاة والسلام الإخبار بها، لكنه نُسِّي ذلك، مرة بسبب اختصام رجلين، يدعي كل منهما أنه محقّ فيما ذهب إليه، وأخرى بسبب إيقاظ أهله له، فلم يذكر بسبب ذلك رؤيا عيَّنَتْ له مَحَلَّ ليلة القدر، والله أعلم (250) .

فائدة:

سبق أن سبب نسيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان تنازع رجلين، ومما يستفاد من ذلك [شؤم التنازع، وأن المخاصمة والمنازعة مذمومة، وأنها سبب للعقوبة المعنوية، وأن المماراة تقطع الفائدة والعلمَ النافع](251) بخلاف ما يظنه كثير من الناس، من أن مدارسة العلم تقتضي المراء في بعض مسائله، والحرص على جَدْل الخصم عن رأيه، انتصاراً للنفس لا إظهارًا للحق وطلباً له.

هذا، ومما يستفاد من الحديث بجملته: الإرشاد إلى ترك المخاصمة في شأن العلم، وكذلك توقير أهل

(250) القول بتعدد سبب نسيانه صلى الله عليه وسلم قوّاه ابن حجر في الفتح (4/315) ، والقسطلاني في الإرشاد (4/594) .

(251)

انظر: المُفهم للقرطبي (4/1953) ، وتفسير ابن كثير ص (1862)، كذلك: المنهاج للنووي (8/304) .

ص: 166

العلم؛ كأن لا يُوقَظ أحدُهم إلا لإدراك أداء فريضة ونحوه، ولا يُطرق باب مسكنهم حتى يخرجوا إلى صلاتهم مثلاً، مما فيه مزيد تأدُّبٍ في حضرتهم، كذلك يستفاد منه المبادرة إلى فضِّ الخصومة بين المتنازعين من المؤمنين، والله أعلم.

التاسع: تلمُّس الحكمة في رفع معرفة وقتها.

قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وعسى أن يكون خيراً لكم» (252)، يعني: عدم تعيين ليلة القدر، [وإن وجه الخيرية في ذلك أن خفاءها يستدعي قيام كل الشهر أو العشر، بخلاف ما لو بقيت معرفة تعيينها](253) ، [فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طُلَاّبُها في ابتغائها في جميع محالِّ رجائها، فكان أكثر للعبادة، فلو علموا عينَها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط، وإنما اقتضت الحكمة إبهامَها لتعمَّ العبادة جميع الشهر في ابتغائها، ويكون الاجتهاد في العشر الأواخر أكثر، ولهذا «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده» (254) ،

(252) جزء من حديث تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (213) .

(253)

انظر الفتح لابن حجر (4/314) .

(254)

متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (148) .

ص: 167

و «كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» (255) ] (256) .

العاشر: بقاء ليلة القدر، وعدم رفعها.

بوّب الإمام البخاريُّ رحمه الله (باب: رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس) . [وقيد الإمام الرفع بمعرفة الليلة إشارة منه إلى أنها لم تُرفع أصلاً ورأساً](257) ، وهذا من عظيم فقهه للحديث الذي صدّر به الباب، وفيه:«فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» (258) ، فبعد أن أخبر عليه الصلاة والسلام بأنها رفعت، أمرهم بتحرِّيها في تلك الليالي، وهذا يدل على أن [الصحيح من جهة النظر أنها لم ترفع لحديث الصحيحين:«تحرَّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» (259) ، فلوا ارتفعت لما أمر عليه الصلاة والسلام بتحرّيها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان، إذ لا فائدة في تحرّي ما رُفِع كما هو واضح] (260) . وأن المراد هو [رفع علم وقتها عيناً، لا

(255) متفق عليه من حديث عائشة أيضاً رضي الله عنها، وتقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (150) .

(256)

انظر تفسير ابن كثير ص (1862) ، وقد ذكرت كلامه، مع كونه يطابق في معناه ما سبقه من كلام ابن حجر رحمهما الله، لتضمنه مزيد تفصيلٍ مع استدلال.

(257)

انظر الفتح لابن حجر (4/314) .

(258)

جزء من حديث تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (213) .

(259)

تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (212) .

(260)

انظر: زاد المسلم للعلامة الشنقيطي رحمه الله (3/202) .

ص: 168

رفعها بالكلية من الوجود] (261) ، [فلو أريد رفع وجودها لم يأمر صلى الله عليه وسلم بالتماسها، وأجمع من يُعتدّ به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر لتضافر الأحاديث وكثرة رؤية الصالحين لها](262) .

والحاصل في ذلك أن مضاعفة الأجر في ليلة القدر هي منحة ربانية للأمة المحمّدية، وأن الليلة باقية - بفضل الله - إلى يوم القيامة.

الحادي عشر: رؤية ليلة القدر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وقد رأيتُني أسجد في ماء وطين، قال أبو سعيد رضي الله عنه راوي الحديث -: (فاستهلَّتِ السماءُ (263) في تلك الليلة فأمطرت، فوَكَفَ المسجد (264) في مصلّى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين، فبصُرَتْ عَيْنِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ونظرتُ إليه انصرفَ من الصبح ووجهُه ممتلئ طيناً وماءً» (265) .

وقال عليه الصلاة والسلام: «أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها» (266) . وفي الصحيح

(261) انظر: تفسير ابن كثير ص (1860) ط - بيت الأفكار.

(262)

انظر: المُفهم للقرطبي (4/1952) .

(263)

المعنى: (وجاءت سحابة فمطرت) ، كما بيَّنه أبو سعيد، بمرويِّ البخاري، برقم (2016) . كذلك بيَّنه عند مسلم (فمطرنا) ، برقم (2761) .

(264)

المعنى: (سال سقف المسجد) كما في مسلم أيضاً برقم (2761)، قال النووي - في المنهاج (8/301) -:(فوكف المسجد)، أي: قطر ماء المطر من سقفه. اهـ. وكان سقف المسجد من جريد النخل. كما في البخاري برقم (2016) .

(265)

متفق عليه من حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: فضل ليلة القدر، باب: تحرّي ليلة القدر، برقم (2018)، ومسلم - بنحوه - كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم (1167) .

(266)

متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أخرجه البخاري؛ كتاب: أبواب التهجد، باب: فضل من تعارّ من الليل، برقم (1158) . ومسلم - بلفظه -؛ كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم (1165) .

ص: 169

أيضاً: أن رجالاً من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرِّيَها فَلْيتحرَّها في السبع الأواخر» (267) . ويكون الجمع بين طلب التماسها في العشر أو في السبع قوله صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الأواخر (يعني: ليلة القدر) فإن ضَعُف أحدكم أو عَجَز، فلا يُغْلَبَنَّ على السبع البواقي» (268) .

أخي القارئ، يُستنبط مما ذكر آنفًا - في شأن إثبات رؤية الليلة - أمور منها:

1 -

أن رؤية ليلة القدر، قد تكون رؤيا منام، ثم تحقق الرؤيا فتأتي مثل فَلَق الصبح، حيث أري عليه الصلاة والسلام أنه يسجد صبيحتها في طين وماء، فكان ذلك واقعاً كما أُرِيَه صلى الله عليه وسلم.

2 -

[أن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث الاستدلال بها على أمر وجودي غيرِ مخالف

(267) متفق عليه؛ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه البخاري؛ كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، برقم (2015)، ومسلم؛ كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم (1165) .

(268)

انفرد به مسلم؛ كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم (1165) ، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 170

لقاعدة شرعية، فقد أرجح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حكم طلب الليلة في الوتر من العشر، بتوافق رؤية رجال من أصحابه رؤىً في تلك الليالي، وليس أنه أثبت بها حكماً في أنها لا تطلب في تلك العشر إلا لكونهم رأَوْا ذلك، بل هي موجودة، سواء رَأَوْا تلك الرؤى أم لا. وغاية الأمر أنه صلى الله عليه وسلم أقرّهم على رجحان ذلك، ومثل ذلك تكرر في أمور مشروعة كالأذان ونحوه] (269) .

3 -

أن رؤية بعض الصالحين لها على صورة رؤيا منام هو أمر واقع مقرر شرعاً، وقد ثبت حصوله مع رجال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مسألة:

[هل لليلة القدر علامة - في اليقظة - تظهر لمن وُفِّقت له (270) ، أم لا؟

اختلف أهل العلم في ذلك، فقيل: يرى كلَّ شيء ساجداً، وقيل: يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى

(269) انظر: المُفهم للقرطبي (4/1955) .

(270)

معنى الموافقة: أن يعلم العبد أنها ليلة القدر، لعلامة من العلامات التي ورد أنها تعرف بها، أو لرجحان الدليل كليلة سبع وعشرين، أو يُلهَم العبد أن هذه الليلة ليلة القدر - كما ألهم ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه البيهقي في الدلائل (7/33) - ونحو ذلك مما يُعلِم العبدَ بكونها ليلة القدر. أو قد يكون معنى الموافقة: أن لا يعلم العبد شيئاً من ذلك لكنها تكون في الواقع هي ليلة القدر. انظر: زاد المسلم للعلامة الشنقيطي (3/206) .

ص: 171

في المواضع المظلمة، وقيل: يسمع سلاماً أو خطاباً من الملائكة عليهم السلام، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وُفِّقت له، واختار الطبري رحمه الله أن جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه] (271) . واختار النوويُّ رحمه الله:[أنها موجودة، تُرى ويتحققها من شاء الله تعالى من بني ءآدم كل سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث، وأخبار الصالحين بها، وأن رؤيتهم لها أكثر من أن تحصر](272) .

والمختار هو إمكان رؤيتها يقظة بخوارق يشهدها من شاء الله من الصالحين، لكن ذلك ليس شرطاً لحصولها، فهي حاصلة سواء كُشِفت يقظة أو مناماً أم لا، والله أعلم.

مسألة:

ما الدعاء المستحب الإكثار منه لمن علم تلك الليلة المباركة؟ وما السرُّ في الإرشاد إليه؟

[المستحبّ: الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات، وفي شهر رمضان أكثر، وفي ليالي العشر الأخير منه،

(271) كما نقله ابن حجر عنه. انظر: الفتح (4/313) .

(272)

انظر: المنهاج للنووي (8/306) .

ص: 172

ثم في أوتارها خاصة، ومنها ليلة القدر، والمستحبّ أن يكثر فيها الدعاء بقوله:«اللهم إنك عَفُوٌّ تحبّ العفوَ فاعف عني» ، وذلك لقول أم المؤمنين عائشة: يا رسول الله، إن وافقتُ ليلة القدر فبِمَ أدعو؟ قال:«قولي: اللهم إنك عَفُوٌّ تحبّ العفوَ فاعف عني» ] (273) .

[وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر إيثاراً للمقام الأعظم الأكمل، والعمل الأسنى الأرفع، وهو بذل الوسع في العمل مع عدم رؤيته والاعتداد به والتعويل عليه](274) .

مسألة:

هل يحصل الثواب - المعيَّن الموعود به - في قيام ليلة القدر، لكل من قامها، أم يشترط في ذلك أن يعلمها وتُوفَّق له؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباًً، غُفِر له ما تقدّم من ذنبه» (275) ، وقال عليه

(273) انظر: تفسير ابن كثير (ص1862) . والحديث أخرجه: أحمد في مواضع من مسنده، منها (6/182)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والترمذي - بلفظ «عفوٌّ كريم» ؛ كتاب: الدعوات، باب: في فضل سؤال العافية والمعافاة، برقم (3513)، عنها أيضاً. وقال: هذا حديث حسن صحيح. اهـ.

(274)

انظر: سطوع البدر بفضائل ليلة القدر، لإبراهيم الحازمي، ص (179) ، ينقله عن ابن رجب رحمه الله، في لطائف المعارف ص (219) .

(275)

جزء من حديث تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (28) .

ص: 173

الصلاة والسلام: «من يقم ليلة القدر فيوافقها إيماناً واحتساباً غفر له» (276) . وقال صلوات ربي وسلامه عليه: «فمن قامها ابتغاءها إيماناً واحتساباً، ثم وُفِّقَتْ له، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (277) .

هذا التقييد في قوله صلى الله عليه وسلم «فيوافقها» ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:«ثم وُفِّقَتْ له» ، هل هو بمعنى أنها تُكشف له يقظةً فيرى خوارق؟ أم أنه يعلمها لعلامة تُعرف بها؟ أو لرجحان دليل كليلة سبع وعشرين ونحوه؟ أو أنه يوافقها فتكون ليلة القدر ولو لم يعلم هو بذلك؟ [المختار في ذلك ما ترجّح في نظر الإمامين النوويِّ وابنِ حجر رحمهما الله، من أن الموافقة هي العلم بأنها ليلة القدر، فيقومها فيحصل له ذلك الأجر الجزيل الموعود به، فلا يكون شرطاً لحصوله أن يُختص برؤية الخوارق، وذلك مع عدم إنكار حصول الثواب لمن قام لابتغاء ليلة القدر - جزمًا - وإن لم يعلم بها ولم تُوفَّق له، وإنما الكلام على حصول

(276) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: الإيمان، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان، برقم (35)، ومسلم؛ كتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: الترغيب في قيام رمضان هو التراويح، برقم (760) . واللفظ لمسلم رحمه الله.

(277)

أخرجه أحمد في مسنده (5/318) ، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

ص: 174

الثواب المعين الموعود به، وهو المغفرة التامة لما تقدم من الذنب وما تأخّر، فيكون ذلك يقيناً لمن قامها ابتغاءها ثم كشفت له على سبيل الكرامة، لكن لا يكون التعويل في حصول الأجر الموعود به على ذلك الكشف، بل العبرة بالاستقامة بإحيائها، فإن الاستقامة تستحيل إلا أن تكون كرامة، بخلاف الخارق فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة، وإن فضل الله واسع، ورُبَّ قائم في تلك الليلة لم يحصل منها إلا على العبادة من غير رؤية خارق، وآخر رأى الخارق من غير عبادة، والذي حصل على العبادة أفضل، والله أعلم] (278) .

يُفهم مما ذكر آنفًا أن القائمين المبتغين لتلك الليلة يكونون على ثلاث مراتب: قائم بالعبادة فيها من غير أن يعلمَها فذلك يؤجر أجراً جزيلاً، وآخر قامها وقد علمها من غير كشف بخارق، فهذا ينال الأجر الموعود به بمغفرة عامة ذنبه، وثالث قامها، إيماناً واحتساباً، وطلبها فعرفها، ثم كشفت له، فهذا قد أُجِر أجرًا

(278) نقلت - بتصرف - خلاصة معنى مبحثٍ أورده ابن حجر رحمه الله في الفتح (4/313) ، ورجّح فيه ما اختاره الإمام النووي رحمه الله في المنهاج (6/283) . هذا، وقد ذكر القرطبي في المفهم (3/1306)، أن معنى «يُوَافِقُهَا» : يصادفها، ومن صلّى فيها فقد صادفها، فكأنه اختار رحمه الله أن من أحيا الليلة بالعبادة فإنه ينال الأجر الموعود، وإن لم يعلمها، والله أعلم.

ص: 175