الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما
تأريخ تشريع فريضة الصوم
فقد كان ذلك في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة الشريفة، على الكيفية التي استقر عليها، وقد صامه النبيُّ صلى الله عليه وسلم تسعَ سنين.
أما كيفيته التي استقر عليها، فهي: الامتناع عن المُفطِّرات من طلوع الفجر الصادق من يوم الصيام إلى غروب شمس ذلك اليوم.
ومما يجدر ذكره هنا أن الصيام لم تكن كيفيته كذلك في بداية تشريعه!! فقد كان الأكل والشرب والجماع مباحًا ليلة الصيام، بشرط ألاّ ينام المبيِّت لنية الصيام - في تلك الليلة - قبل أن يُفطِر، كذلك ألاّ يصلِّيَ العِشاء الآخرة، فإن نام ثم قام من نومه، أو صلّى العشاء لم يُبَح له أكل أو شرب أو جماع، بقية ليله، حتى يُفطِر عند غروب شمس اليوم التالي!!
-
…
أما عدم حِلّ الطعام له ليلة الصيام إذا نام قبل أن يُفطِر، فيدلّ عليه قول البراء ابن عازب رضي الله عنه:
(كان أصحابُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطارُ فنام قبل أن يُفطِر، لم يأكلْ ليلته ولا يومَه حتى يُمسِي
…
) . (13)
-
…
وكذلك يدل عليه حوادثُ متعددة، كان حدوثُها من بعض الصحابة رضي الله عنهم رحمةً للصائمين إلى يوم الدين؛ حيث كانت سبباً لنزول وحي يُتلى، كان فيه ترخيصٌ بالجماع وبالأكل والشرب ليلة الصوم، سواء نام - من بَيَّت نية الصوم - قبل أن يُفطِر، أو صلَّى العشاء الآخرة، أم لم يفعل أيًّا من الأمرين، ومن تلك الحوادث:
*
…
ما حدّث به عبدُالله بن كعب بن مالك رضي الله عنه، عن أبيه: كان الناس في رمضانَ إذا صام الرجل فأمسى فنام حَرُم عليه الطعامُ والشراب والنساء حتى يُفطِر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلةٍ وقد سَهِر عنده - فوجد امرأتَه قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد
(13) أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم، باب: قول الله جلّ ذِكره: [البَقَرَة: 187] {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
…
} . برقم (1915) ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
نمتُ، قال: ما نمتِ! ثم وقع بها، فغدا عمرُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تبارك وتعالى قولَه:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البَقَرَة: 187](14) . وقد حدث مثل ذلك مع كعب بن مالك نفسه رضي الله عنه.
*
…
وقال البراءُ بن عازبٍ رضي الله عنه: (كان أصحاب محمّدٍ صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يُفطِر، لم يأكل ليلته ولا يومَه حتى يُمسِي، وإن قيسَ بنَ صِرْمَةَ الأنصاريَّ رضي الله عنه كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكنْ أنطلقُ فأطلبُ لك، وكان يومَه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غُشِي عليه،
(14) أخرجه أبو داود؛ كتاب: الصلاة، باب: كيف الأذان، برقم (506) ، وأحمد في مسنده (3/460) ، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
فذُكِر ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ
…
} [البَقَرَة: 187] ، ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البَقَرَة: 187](15) .
*
…
وأما تحريم الطعام والشراب والنساءِ إذا صلّى العشاء الآخرة؛ فمما يُستدل به على ذلك: ما ورد من قول ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ
…
} [البَقَرَة: 187]-: إنّ المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صَلَّوا العِشاء حَرُم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناساً من المسلمين أصابوا من الطعام والنساء في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشكَوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ
(15) تقدم تخريجه - آنفاً - بالهامش ذي الرقم (13) .
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ
…
} . [البَقَرَة: 187]
-
…
وكذلك يُستدل له بقول القاسم بن محمد رحمه الله: إن بدء الصوم كان يصوم الرجل من عِشاء إلى عِشاء، فإذا نام لم يَصِل إلى أهله بعد ذلك، ولم يأكل ولم يشرب، حتى جاء عمر إلى امرأته، فقالت: إني قد نمت، فوقع بها، وأمسى قيسُ بنُ صِرْمة صائماً فنام قبل أن يُفطِر، وكانوا إذا ناموا لم يأكلوا ولم يشربوا، فأصبح صائماً وكاد الصوم يقتله، فأنزل الله عز وجل الرخصة، قال سبحانه:{فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البَقَرَة: 187](16) .
وبذا استقرّ الأمر على حرمة المُفطِّرات من طعام وشراب وجماع، وذلك من تبيُّنِ الفجر الصادق إلى الليل، مع إباحتها طوال الليل، بعد أن كانت هذه الإباحة مُقيَّدة بعدم النوم، أو عدم صلاة العشاء، والله أعلم.
فائدة:
كلمة {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} . [البَقَرَة: 187] هذه الكلمة هي أبلغ من كلمة تخونون التي تُفسَّر بها، وذلك لزيادة البناء، فزيادة المبنى دالَّة على زيادة المعنى، وتدل كلمة {تَخْتَانُونَ} ، على زيادة الخيانة، من حيث كثرة مقدمات الجماع، والله أعلم (17) .
(16) قول ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه الطبري في تفسيره للآية (187) من سورة البقرة، من طريق علي بن أبي طلحة عنه. أما القاسم بن محمد - وهو من فقهاء المدينة المشهورين؛ روى عن عائشة رضي الله عنها، وممن روى عنه الإمام الزُّهْري رحمه الله فقد أخرج قولَه الواحديُّ في أسباب النزول ص (52) .
(17)
انظر: نور الإيمان في تفسير القرآن (1/267) للشيخ محمد مصطفى أبي العلا رحمه الله.
مسألة:
ما المقصود بتبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ
…
} ؟ [البَقَرَة: 187]
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنما هو سواد الليل وبياض النهار» (18) .
وقال عليه والصلاة والسلام: «إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه صلى الله عليه وسلم ثم نَكَسها إلى الأرض-، ولكن الذي يقول هكذا، ووضع المُسبِّحة على المُسبِّّحة، ومدَّ يديه صلى الله عليه وسلم (19) .
(18) جزء من حديث متفقِ عليه من حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم، باب: قول الله تعالى: [البَقَرَة: 187] {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
…
} ، برقم (1916) . ومسلم؛ كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1090) .
(19)
متفقٍ عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: الأذان، باب: الأذان قبل الفجر برقم (621) . ومسلم؛ كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بدخول الفجر، برقم (1093) . واللفظ لمسلم رحمه الله.
يتبيَّن مما ذُكر آنفًا أن تبيُّنَ الفجر الثاني الصادق، إنما يكون بتميّز بياض النهار من سواد الليل؛ لأن الفجر الأول الكاذب يبدو في الأفق، ثم يرتفع مستطيلاً، ثم يضمحلّ ويتلاشى، ثم يبدو بعده الفجر الثاني الصادق منتشراً معترضاًً في الأفق مستطيراً، ويتميز فيه البياض والسواد في الأفق باستمرارهما وانتشارهما معترضَيْن، فيَحْرُم على الصائم عندها المُفطِّرات حتى دخول الليل، وذلك بغياب قرص الشمس بكماله في الأفق
هذا، ولما نزلت:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} ، [البَقَرَة: 187]
ولم ينزل قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} ، [البَقَرَة: 187] فتبيَّن بذلك أن المقصود بالخيطين: خيط النهار وخيط الليل عند الفجر إذا اعترضا في الأفق - كما ذُكِر آنفًا - من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «إنما هو سواد الليل وبياض النهار» ، ومن تمثيله صلى الله عليه وسلم لصورة الفجر الصادق بأصابعه الشريفة، وبإحالة المسلمين إلى سماع أذان عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه، فهو المُعْلِم بدخول الفجر الصادق، وليس أذان بلال بن رباح رضي الله عنه، وقد كان يؤذِّن بليل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن بلالاً يؤذِّن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم» (20) .
ومما يجدر ذِكره - في ختام هذا المبحث - أن صيام يوم عاشوراء، لم يزل مشروعاً مأموراً به على سبيل الندب، بعد أن خيَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بصيامه بعد افتراض رمضان، ومما يدلُّ عليه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتبِ الله عليكم صيامَه، وأنا
(20) أخرجه البخاري؛ كتاب: الأذان، باب: الأذان قبل الفجر، برقم (623) ، عن عائشة رضي الله عنها، وفي كتاب الصوم أيضاً بمعناه. ومسلم؛ كتاب الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1092) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقال البخاري رحمه الله: قال القاسم - يعني ابن محمد الراوي عن عائشة رضي الله عنها: ولم يكن بين أذانهما إلاّ أن يرقى ذا وينزل ذا. اهـ.
…
ومعنى (إلا أن يرقى ذا وينزل ذا)، أي: إلاّ أن يعلو ابن أم مكتوم المكان الذي يؤذن عنده، وينزل بلال من المكان نفسه، فالوقت بين الأذانين - على ذلك - ليس متسعاً، كما لا يخفى.
صائم، فمن شاء فليَصُم، ومن شاء فليُفطِر» (21)، وقوله عليه الصلاة والسلام:«إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه» (22) . بل إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد رغّب في صوم هذا اليوم وأكّد استحباب ذلك حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم، وعزم عليه الصلاة والسلام على المداومة على صيامه ويومٍ قبله، مخالفة لاقتصار اليهود - من أهل خيبر - على تعظيم اليوم العاشر وتخصيصه بالصوم، فقال صلوات ربي وسلامه عليه:«فإذا كان العامُ المُقبِل، إن شاء الله، صُمنا اليومَ التاسع» (23)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فلم يأت العامُ المُقبِل حتى توفيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (24) .
****
(21) متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه: أخرجه البخاري بلفظه، كتاب الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، برقم (2003) . ومسلم؛ كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (1129) .
(22)
تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (11) .
(23)
أخرجه مسلم؛ كتاب الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء، برقم (1134) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(24)
قول ابن عباس رضي الله عنهما مُدْرَج في آخر الحديث السابق.